الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ
هذه الطبعة الجديدة
الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الرحمة ومعلم الأمة محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الفقه الإسلامي العظيم الذي هو نسيج الإسلام المتين وشرع الله الحكيم، والذي به صاغ المسلمون حياتهم في ضوء النصوص الشرعية، فتوحدوا في العبادة والمعاملة والسلوك، هذا الفقه هو المنطلق الحضاري الرائع للأمة؛ لأنه يبني لها أصول عزتها، وقوام حياتها، ويضع لها مخطط عملها في المستقبل.
ولقد أسهم كتابي هذا ولله الحمد والمنة في أمرين أساسيين، بسبب دقته وتوثيقه وتميزه بالموضوعية والتجرد، وهما:
أولاً - إرشاد المسلمين والمسلمات إلى الأقوم، وتعليم الجيل أحكام دين الله وشرعه، في وقت اختلطت فيه العلوم، وقل فيه التخصص، ولم يعد الإفتاء في الحكم الشرعي دقيقاً، مما زاد في الجهل ومجانبة الصواب، بسبب قلة حلقات العلم ومدارسة الفقه على أيدي العلماء في المساجد والمدارس على وجه سليم أو كاف.(1/1)
وثانياً - كان هذا الكتاب انتصاراً للمذاهب في وقت تعرضت فيه لهجمة شرسة من أناس منتمين في الظاهر للإسلام، وهم بعيدون عنه، أو من آخرين يدّعون الاجتهاد والتجديد، ويتذرعون بأخذ الأحكام الشرعية مباشرة من القرآن والسنة، وهم في الواقع يجهلون أبسط قواعد الاستنباط من الأدلة، بل ربما كانوا غرباء عن العلم وأصول الشريعة واللغة العربية. ولم يدروا أو تجاهلوا أن فقه المذاهب فقه متين جداً، وعميق جداً، وحضاري معاصر مع الأصالة، لايخرج عن الكتاب والسنة، فلكل حكم دليله الواضح إما من نص مباشر خاص، أو من مجموعة نصوص تشريعية، أو إدراك لما قامت عليه النصوص ذاتها من مراعاة المصالح العامة ودرء المضار والمفاسد عن الفرد والجماعة والأمة، ولا أكون مبالغاً إن قلت: لن تخلف الدنيا أمثال أئمة المذاهب في العلم والورع والتقوى والإخلاص لهذه الشريعة والحرص على استنباط الحكم الصائب ضمن مناهج الاجتهاد وأصوله السليمة.
وهذه الطبعة الجديدة هي الطبعة الرابعة المنقحة المعدلة بالنسبة لما سبقها، وهي الطبعة الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة، لأن الدار الناشرة دار الفكر بدمشق لاتعتبر التصوير وحده مسوغاً لتعدد الطبعات ما لم يكن هناك إضافات ملموسة، وعلى كل حال فإن آلاف النسخ السابقة من خلال ماتم تصويره قد أغنى الثقافة الإسلامية، وكان لها انتشار واضح في جميع البلاد العربية والإسلامية، شرقها وغربها، وتميزت هذه الطبعة بما يلي:
- إحداث تغييرات جزئية، وتعديلات كثيرة، وإضافات لبحوث جديدة متعددة، مثل النية والباعث في العقود، ونظرية الفسخ، والتأمين وإعادة التأمين، والدولة الإسلامية، وإعادة صياغة بعض الأبواب الفقهية كالمزارعة والاستصناع مثلاً.
- إغناء الفهرسة وتطويرها بحسب أحدث مناهج الفهرسة والمكانز العربية والأجنبية.
- تخريج الآيات بالإضافة لتخريج الأحاديث النبوية الشريفة الذي كان مرعياً منذ صدور الطبعة الأولى.(1/2)
- إضافة كثير من المسائل الجزئية والموضوعات المعاصرة، الملحقة بالأبواب الفقهية، ليصير الكتاب أكثر معاصرة ومواكبة للحاجة، وتلبية الرغبات المتنوعة لمعرفة حكم كل جديد أو طارئ.
- إلحاق قرارات مجمع الفقه الإسلامي الصادرة عنه في دوراته الثماني السابقة باستثناء الدورة الأولى التي لم يكن فيها توصيات أو قرارات أو فتاوى جماعية، وإضافة وثيقة شرعة حقوق الإنسان في الإسلام.
- أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وفي ميزان حسناتي يوم الدين؛ لأن قصدي هو إغناء المعرفة بعلوم الشريعة وتصحيح الأقوال والأفعال وضبط أصول الالتزام.
................................بسم الله الرحمن الرحيم..................................
.....................................وبه نستعين........................................
........................................تقديم...........................................
- الحمد لله العليم الخبير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البشير النذير، وعلى آله وصحبه أئمة الهدى ومصابيح الحياة، ورضي الله تبارك وتعالى عن أئمة الاجتهاد من السلف الصالح صحباً وتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
- فإن تنظيم شؤون الحياة والعلاقات الاجتماعية بين الناس، لايتم على نحو صحيح في ميزان العدل الإلهي والمنطق البشري، من دون عقيدة سامية، وأخلاق رصينة، ومبادئ وأنظمة شاملة، تضع حداً للفرد في ذاته وفي سره وعلانيته، وللأسرة الخلية الأولى للمجتمع، وللمجتمع الكبير المنتظم تحت سلطان الدولة، ليعيش في أمن واستقرار، ويظل في تقدم إلى الأمام، وليحمي نفسه من الأمراض التي قد يتعرض لها، والتيارات التي تغزوه وتهز كيانه، إما بسبب الضعف والانحلال والفساد، أو بسبب الفقر والجوع، أو بسبب التسلط والظلم والاستعباد، أو بسبب الترف والأهواء، أو بسبب طغيان المادة على كل شيء، كما في عصرنا الحاضر.(1/3)
- ولا عاصم لهذا المجتمع من التردي، والانحدار أو الضياع، إلا بباعث إصلاحي قوي يهز أركان الانحراف، ويقض مضاجع الغافلين السادرين، ليعيد إلى النفس الشعور بالذات والثقة بها، وضرورة إثبات وجودها وحيويتها وفاعليتها، وليس مثل القرآن العظيم، وسيرة نبي الإسلام أصدق لهجة، وأقوم دعوة، وأخلص هدفاً في تصحيح مسيرة الناس، قال الله تعالى: {وبالحق أنزلناهُ وبالحق نَزَلَ، وماأرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} [الإسراء:17/105] {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} [الإسراء:17/9] .
- ولايمكن البقاء لأي دعوة تعتمد على الاعتقاد الداخلي أو العاطفة فقط، بل لابد دائماً من الالتزام العملي ببعض الواجبات، ليكون ذلك دليلاً صادقاً على صحة الاعتقاد؛ لأن الإيمان الصحيح: هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.
- وقد كان الفقه الإسلامي الذي مايزال موضع اعتزاز وفخار وتقدير بين أنواع الفقه العالمي خير صورة عملية للمسلمين، لبَّى مطالب الناس في حكم أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، وتنظيم شؤون حياتهم، وفيه تبلورت بحق أحكام القرآن والسنة النبوية، وبه تحقق المقصد الأسمى والغاية الكبرى لهذا الدين الحنيف؛ لأن ماجاء به الإسلام من مبادئ في العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة والمعاملة المستقيمة، إنما يهدف في الحقيقة إلى تحقيق أغراض تهذيبية، تؤدي إلى تصحيح المعاملات والسلوك الاجتماعي، وكان الفقه الأكبر: وهو معرفة النفس مالها وماعليها، والفقه بالمعنى الضيق وهو الأحكام الشرعية العملية: هو الترجمة الصادقة الدقيقة لشريعة الإسلام، ومنهاج القرآن في الحياة.(1/4)
- ولكن مما لاشك فيه أن الفقه الإسلامي بحاجة ماسة إلى كتابة حديثة فيه، تبسط ألفاظه، وتنظم موضوعاته، وتبين مراميه، وتربط اجتهاداته بالمصادر الأصلية له، وتيسر للباحث طريق الرجوع إليه، للاستفادة منه في مجال التقنين، وتزوده بمعادن الثروة الخصبة الضخمة التي أبدعتها عقول المجتهدين، من غير تقيد باتجاه مذهبي معين؛ لأن فقه مذهب ما لا يمثل فقه الشريعة كله، وقد بدئ ولله الحمد على هذا النحو بمحاولات كتابة موسوعة فقهية في سورية ومصر والكويت، ولما يكتمل شيء منها إلى الآن؛ لأن للعمل الجماعي عيوبه أحياناً، من بطء الإنجاز، وتوزع العلماء، وكثرة المشكلات.
- وكون أحد آراء الفقهاء من دون تعيين هو الحق والصواب ـ باعتبار أن الحق واحد لا يتعدد ـ لايمنع الأخذ بأي رأي فقهي؛ لتعذر معرفة الأصوب بسبب انقطاع الوحي والنبوة، إلا أن يتضح لنا رجحان الرأي بدليله الأقوى. وإذا لم يتبين الأمر أمامنا، فلنأخذ في مجال وضع القوانين المستمدة من الفقه بالرأي الذي يحقق مصلحة الناس، وحاجة التعامل، ويتلاءم مع التطورات الزمنية، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم الشريعة، وتنسجم في أفقها العام وهدفها البعيد، مع مبادئ الإسلام وروح التشريع، ومقاصد الشرائع الكلية، وبه نحقق غاية الشريعة ومصالح الناس معا ً، فلا يتعثر تطبيق الشريعة، ولا يصطدم بأصولها العامة، أو بأحكامها الثابتة المقررة في نصوصها، فإن الأخذ بالنصوص لايكون بتعطيلها، بل بتخصيصها وتأويلها والاجتهاد في فهمها، فكثيراً ماخصص الفقهاء النص الشرعي بالتعامل، وقرروا بناء الأحكام على العرف.(1/5)
- وكل هذا يتم على وفق نظرة إسلامية شاملة متكاملة، لا بمجرد ترقيع الواقع المخالف في أسسه بمظاهر إسلامية، وترك الجوهر والمضمون الحقيقي، ولا بمجرد تطعيم القوانين والأنظمة بنموذج إسلامي مبتور الجذور والأصول عن بقية أحكام شرع الله تعالى، كالبدء بتطبيق العقوبات الشرعية (الحدود مثلاً) في مجتمع ما غريب عن الإسلام في التربية والتعليم، والاجتماع والاقتصاد، والمنهج والحياة، والتنظيم المستورد المفروض قسراً على الأمة.
- وبما أنني ما زلت مؤمناً بأن المستقبل للإسلام وفقهه وتشريعاته، وإن عطل بعض الناس الانتفاع بنظامه، بالقوانين الوضعية المستوردة، فإني حريص على بيان أحكام هذا الفقه؛ لأن ذلك التعطيل ردة موقوتة ليس لها دعائم بقاء أو استقرار أو احترام في أذهان المسلمين، بدليل ظهور صحوة مباركة في بداية هذا القرن الخامس عشر الهجري، وبروز اتجاه قوي نحو العودة بالفعل لتطبيق الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، وقد بدأت فعلاً لجان علمية متخصصة تنفذ قرارات وزراء العدل العرب بوضع قانون موحد مستمد من الشريعة الإسلامية في النطاقين المدني والجنائي بالإضافة إلى مشروع قانون موحد في الأحوال الشخصية وقد أنجز أغلب هذه المشروعات.
- منهج هذا الكتاب:
- يمكن إبراز بعض مزايا هذا الكتاب في الفقه على النحو الجديد في التأليف تحقيقاً واستنباطاً وأسلوباً وتبويباً وتنظيماً وفهرسة واستدلالاً بما يأتي:(1/6)
- 1ً - إنه كتاب فقه الشريعة الإسلامية المعتمد على الدليل الصحيح من القرآن والسنة والمعقول، لا فقه السنة وحدها، ولا فقه الرأي وحده، إذ ليس عمل المجتهد معتبراً بغير الاعتماد على القرآن والسنة. ومعرفة أحكام الشرع الفقهية التي هي مجرد أمر وصفي وبيان مسلَّمات، لاتكوِّن قناعة عقلية ولا متعة نفسية، ولا طمأنينة للعالم والمتعلم إذا جاءت من غير دليل، كما أن العلم بدليل الحكم يخرج من ربقة الجمود على التقليد المذموم في القرآن إلى الاتباع المقرون بالبصيرة الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم عنهم، ثم إن أدلة الأحكام هي روح الفقه، ودراستها رياضة للعقل، وتربية له، وتكوين للملكة الفقهية لدى كل متفقه.
- وبكلمة موجزة: يمتاز هذا الكتاب الشامل فقه المذاهب باعتماده ــ وهو اعتماد المذاهب الإسلامية نفسها ــ على استنباط أحكامه من مختلف مصادر التشريع الإسلامي النقلية والعقلية (الكتاب والسنة والاجتهاد بالرأي المعتمد على روح التشريع الأصلية العامة) فمن قصر الفقه الإسلامي على القرآن وحده فقد بتر أو مسخ الإسلام من جذوره، وكان أقرب لأعداء الدين، ومن حصر الفقه بالسنة وحدها فقد قصَّر وأساء، وعاش قاصر الطرف عن شؤون الحياة، وبعد عن التفاعل أو التجاوب مع متطلبات الناس، وتحقيق مصالحهم، ومن المعروف أنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ودينه، وأن زعماء مدرسة الحديث (مالك والشافعي وأحمد) أخذوا بالمصالح المرسلة والعرف والعادة وسد الذرائع وغيرها من أدلة الاجتهاد بالرأي، كما أن زعماء مدرسة الرأي كالنخعي وربيعة الرأي وأبي حنيفة وأصحابه لم يهملوا بتاتاً سنة أو أثراً أو اجتهاداً عن السلف.(1/7)
- 2ً - وهو ليس كتاباً مذهبياً محدوداً، وإنما هو فقه مقارن بين المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) وبعض المذاهب الأخرى أحياناً، بالاعتماد الدقيق في تحقيق كل مذهب على مؤلفاته الموثوقة لديه، والإحالة على المصادر المعتمدة عند أتباعه؛ لأن نقل حكم في مذهب من كتب المذاهب الأخرى لايخلو من الوقوع في غلط في بيان الرأي الراجح المقرر، وقد عثرت على أمثلة كثيرة من هذا النوع، آثرت عدم الإشارة إليها، حرصاً على الموضوعية والإيجابية فيما يقرر، وبعداً عن تفسيرات فجة، وعصبيات مذهبية ضيقة، وتنزهاً عن المغالاة في تقديس كل جزئيات الكتب الفقهية. وقد لقي هذا النوع من الدراسة والبيان لفقه المذاهب الأربعة إقبالاً شديداً وحرصاً تاماً على المطالعة والاستفادة، وهو يتفق مع الاتجاه العالمي للدراسة المقارنة، ويسهم في البعد عن العصبية المذهبية أو يزيلها من النفس. ومع ذلك فإني أحاول دائماً التنويه بالرأي الموحد بين فقهاء المذاهب، لا في مجرد العناوين لأحكام فقهية، بل في الشروط والتفصيلات أيضاً.
- 3ً - فيه الحرص على بيان صحة الحديث، وتخريج وتحقيق الأحاديث التي استدل بها الفقهاء، حتى يتبين القارئ طريق السلامة، فيأخذ الرأي الذي صح دليله، ويترك من دون أسف كل رأي متكئ على حديث ضعيف. وإذا لم أذكر ضعف الحديث فلأنه مقبول صحيح، عملاً بالأصل العام في الحديث.
- 4ً - إنه كتاب يستوعب مختلف الأحكام الفقهية للمسائل الأصلية، وموازنة القضايا الفقهية في كل مذهب مع المذاهب الأخرى، حتى يتحقق التقابل بين الآراء، ويجد الباحث ضالته المنشودة لمعرفة الحكم المطلوب في المذهب الذي يطمئن إليه، ومقابلة الجزئيات المذهبية مع المذاهب الأخرى والموازنة بين الآراء. وبالرغم من كونه أمراً عسيراً، فإنه يحقق هدف القارئ، ويروي ظمأه.(1/8)
- 5ً - فيه تركيز على الجوانب العملية أو الواقعية، وبعد عن المسائل الفرضية البعيدة الحصول، وإهمال لكل مايتعلق بالرق والعبيد، لعدم الحاجة إليه بعد إنهاء هذه المشكلة وإلغاء الرق من العالم، إلا على سبيل الإلمام التاريخي واستكمال تصور المسائل الفقهية أحياناً.
- 6ً - قد أذكر ترجيحاً بين الآراء بحسب مايبدو لي، وبخاصة في مقابلة الحديث الضعيف، أو لما أرى في مذهب ما من تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة ومضرة.
- وإذا لم أصرح بالترجيح، فالأولى العمل برأي الأكثرين أو الجمهور؛ لأن الكثرة يحصل بها الترجيح، فيقدم رأي الجمهور إلا إذا لم يكن ملائماً لظروف الحياة الشرعية المعاصرة في المعاملات أو لم يترجح لدى مجتهد ما.
- ويجوز تقليد كل مذهب إسلامي معتمد عند الأغلبية، وإن أدى إلى التلفيق (1) ، عند الضرورة أو الحاجة أو العجز والعذر؛ لأن الصحيح جوازه عند المالكية وجماعة من الحنفية، كما يجوز الأخذ بأيسر المذاهب أو تتبع الرخص (2) عند الحاجة أو المصلحة لاعبثاً وتلهياً وهوى؛ لأن دين الله يسر لا عسر، فيكون القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس، قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر، ولايريد بكم العسر} [البقرة:2/185] ، {وما جعل عليكم في الدين من
-
__________
- (1) التلفيق: هو الإتيان بكيفية لايقول بها كل مجتهد على حدة.
- (2) تتبع الرخص: أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون له وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل. حرج} [الحج:22/78] ، {يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء:4/28] .(1/9)
- ولايجوز تتبع الرخص عبثاً أو لهوى ذاتي، بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ماهو الأخف عليه، من غير ضرورة ولا عذر، سداً لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية، ولايجوز التلفيق الذي يؤدي إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى، ولا التلفيق الذي يؤدي إلى الرجوع عما عمل به المرء تقليداً، أو إلى مصادمة أمر مجمع عليه، أو الوقوع في محظور شرعي، كالتزوج بامرأة بلا ولي ولاصداق ولا شهود، مقلداً كل مذهب فيما لايقول به الآخر، أو تحليل المبتوتة بتزويجها من غلام صغير.
- 7ً - سهولة الأسلوب، وتبسيط الكلام، وبيان الأمثال، والتبويب والمنهج الأقرب لفهم أهل العصر ومألوفهم، وتحقيق الرأي الراجح في كل مذهب، ووضع الضوابط الكلية، ليسهل التعرف على الأحكام من غير استطراد ولابعثرة للمسائل، فيصبح الفقه قريب المنال بأسلوبه وتنظيمه وتبويبه، بعد أن كان أحياناً عصي الفهم، غريب الأسلوب، بعيد الإدراك، حتى بالنسبة للمتخصص الذي يلقى صعوبة في التعرف على حكم فقهي معين في ثنايا المسائل الكثيرة المتشابكة، وقد يحتاج لجهد كبير ووقت طويل للاطلاع على باب فقهي برمَّته، أو اللجوء إلى أكثر من كتاب في الموضوع ذاته. وحينئذ لايبقى عذر لأحد في محاولة التهرب من تطبيق أحكام الفقه الإسلامي، بعد أن أزيل غموضه، ورفعت حواجز الوهم والتعقيد والصعوبة في فهمه من بطون الكتب القديمة الغاصة بثروة وكنوز لامثيل لها في التاريخ.
- 8ً - حاولت بحث بعض القضايا الجديدة وبخاصة في هذه الطبعة التاسعة، ليتعايش الناس معها، مستلهماً قواعد الشريعة ومبادئها ومقررات الفقهاء، ويظل الباب مفتوحاً أمام المزيد من البحوث والاجتهادات الجزئية؛ لأن فضل الله لاينقطع، ومواهبه وعطاياه لاتنحصر في زمن دون آخر، ولا على أشخاص دون غيرهم.(1/10)
- ويظل رائدي إلى الأبد قوله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء} [فاطر:35/28] ، وقوله سبحانه: {وقل: رب زدني علماً} [طه:20/114] ، وقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم: «من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين» وما يرويه البخاري: «رب مبلَّغ أوعى من سامع» .
- ومع أن هذا العمل يحتاج إلى جهد كبير وصبر وأناة، وتعاون فئة من العلماء، فقد صممت على الكتابة مستعيناً بالله تعالى، لتقريب الفقه إلى الناس، سواء العالم والمتعلم، من غير تعصب لرأي مذهبي معين؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها، ولأن المساهمة في تقدم العلم بحسب مايرى العالم من الحاجة أمر واجب على العلماء، لأن «العلم يزكو بالإنفاق» كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، خصوصاً مايتطلب البحث والتتبع والاستقصاء، والتحقيق وبيان الراجح دليلاً ومذهباً، راجياً من الله تعالى أن يحقق به النفع، وأن يكون سبيلاً للأجر وادخار الثواب عند الله تعالى بعد الموت وانتهاء الأجل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة: «إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1) وقال ابن عمر رضي الله عنه: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة» وجزى الله والدي رحمه الله الذي حبب إلي هذا العلم، وجزى الله أيضاً أساتذتي في الأزهر وسورية على أفضالهم علي خير الجزاء.
- فإن أصبت الهدف المرجّى، فهو من فضل الله تعالى، ولا أدعي العصمة والكمال والإحاطة بكل شيء في الفقه، فذلك من صفات الله وحده، وأعترف سلفاً بعجزي وقصوري، قال الله سبحانه: {وماأوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء:17/85] ، وإنما هو عمل لايعدو أن يكون محاولة في البيان والترتيب وتقريب الفقه للناس، والموازنة بين أحكامه في المذاهب الأربعة ونحوها، والله ولي التوفيق.
__________
-
(1) لكن رمز له السيوطي بالضعف ويظهر أنه تصحيف مطبعي؛ لأن الحديث صحيح.(1/11)
- {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم} [الشعراء:26/83-84-85] .
- الباعث المباشر على تأليف هذا الكتاب:
- كان المسلم في الصدر الأول وِحْدة متكاملة، يجمع بين شؤون الدين والدنيا والآخرة، في انسجام والتزام دقيق متوازن، سواء في شخصه وأسرته أم في سلوكه وعمله في الحياة، وسواء أكان حاكماً قائداً، أم رعية من آحاد المسلمين العاديين، فكان إذا دعا داعي الجهاد مثلاً هبَّ كالأسد الهصور للدفاع المستميت عن دين الله تعالى وعزة الإسلام وحرمات المسلمين، وإن طرأت قضية تهم الجماعة أو المجتمع في السياسة والحكم أو في القضايا الاجتماعية أو في مجال الإفتاء، بادر إلى تقديم كل مايمكنه من عمل مثمر أو فكر متفتح منتج مستلهماً العون الإلهي، مبتغياً تحقيق مرضاة الله تعالى.
- واليوم تشعبت اتجاهات المسلمين ومسالكهم، فلم يعد التوجه للإسلام في قمة عناية المسلم وعمله، وأصبح العمل البنَّاء من أجل الصالح العام أمراً قليل الأهمية أو عسير التحقيق، وانصرف غالب الناس من ملايين المسلمين الموزعين في زهاء إحدى وخمسين دولة الآن إلى أعمالهم الخاصة، تشغلهم ثروتهم أو تجارتهم أو عملهم الحر أو تثقيفهم أنفسهم بثقافات نظرية أو عملية معاصرة طغت على الثقافة الإسلامية الأصيلة.(1/12)
- وأصبح من الصعب العثور على فهم إيجابي للمسلم لحياة العصر، بسبب ازدواج الثقافة العلمية المادية والشرعية، أو بسبب العمل بالتقنينات الوضعية المستوردة والنظريات الاقتصادية الحديثة. لكن يظل في أعماق الساحة الإسلامية قلَّة من الرجال أو الشباب الذين فهموا ما يتطلبه الإسلام، وحياة المسلم المعاصر، من احتياجات مع زحمة أعباء الحياة، لمعرفة شؤون الحلال والحرام في المعاملات أو أحكام التكاليف الشرعية، فقدروا مايضر وماينفع، وبعدوا عن العيش بالعاطفة وحدها.
- ولقد كان لأصحاب دار الفكر في دمشق، فضل الاقتراح علي بتأليف كتاب فقهي جامع لكل نواحي الفقه الإسلامي، ينسجم مع أسلوب، وحاجات المسلم في الوقت الراهن الذي لم يعد يقبل بديلاً عن التسلح بالقناعة الفكرية، والاطمئنان الذاتي لصحة الحكم الشرعي المؤيد بالدليل، فبادرت إلى تلبية الدعوة وتنفيذ الاقتراح بجهد متواصل وعمل مضن، حتى وفقني الله تعالى لإنجاز المطلوب، بعد أن لمست فائدة هذا المنهج في الإقبال على دراسة واقتناء وتدريس ثلاثة أجزاء من هذا الكتاب عن المعاملات والعقود بعنوان (الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد) في أكثر من ست جامعات عربية.
- فللإخوة أصحاب دار الفكر كل التقدير والشكر الجزيل، ولهم من الله تعالى المثوبة وحسن الجزاء على نشر هذا الكتاب وطبعه وتمويله وإخراجه في أجمل مظهر من الطباعة الأنيقة الحديثة، وجزاهم الله خير الجزاء. مقدمات ضرورية عن الفقه
- لابد قبل البدء في بحث الأحكام الشرعية من بيان معلومات تتناول ما يأتي:
- معنى الفقه وخصائصه، لمحة موجزة عن فقهاء المذاهب، مراتب الفقهاء وكتب الفقه، اصطلاحات الفقه والمؤلفين في المذاهب، أسباب اختلاف الفقهاء، الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب وخطة البحث.(1/13)
- المطلب الأول ـ معنى الفقه وخصائصه:
- الفقه لغة: الفهم (1) ، ومنه قوله تعالى: {قالوا: ياشعيب، ما نفقه كثيراً مما تقول} [هود:11/91] ، وقوله سبحانه: {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً} [النساء:4/78] .
- وفي الاصطلاح الشرعي: عرفه أبو حنيفة رحمه الله تعالى بأنه «معرفة النفس مالها وما عليها» (2) والمعرفة: (هي إدراك الجزئيات عن دليل) . والمراد بها هنا سببها: وهو الملكة الحاصلة من تتبع القواعد مرة بعد أخرى.
- وهذا تعريف عام يشمل أحكام الاعتقاديات، كوجوب الإيمان ونحوه، والوجدانيات أي الأخلاق والتصوف، والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها، وهذا هو الفقه الأكبر. وعموم هذا التعريف كان ملائماً لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية، ثم استقل، فأصبح علم الكلام (التوحيد) يبحث في الاعتقاديات، وعلم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحوها، يبحث في الوجدانيات. وأما الفقه المعروف حالياً فموضوعه أصبح مقصوراً على معرفة ما للنفس وما عليها من الأحكام العملية، وعندئذ زاد الحنفية في التعريف كلمة (عملاً) لتخرج الاعتقاديات والوجدانيات.
- وعرف الشافعي رحمه الله الفقه بالتعريف المشهور بعده عند العلماء بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية (3) .
- والمقصود بالعلم هنا: هو الإدراك مطلقاً الذي يتناول اليقين والظن؛ لأن الأحكام العملية قد تثبت بدليل قطعي يقيني، كما تثبت غالباً بدليل ظني.
__________
-
(1) يقال: فقه يفقه كعلم يعلم، أي فهم مطلقاً، سواء أكان الفهم دقيقاً أم سطحياً، ويقال: فقه يفقه مثل كرم يكرم، أي صار الفقه له سجية. ويقال: تفقه الرجل تفقهاً: أي تعاطى الفقه، ومنه قوله تعالى: {ليتفقهوا في الدين} [التوبة:9/122] .
(2) مرآة الأصول:44/1، التوضيح لمتن التنقيح: 10/1.
(3) شرح جمع الجوامع للمحلي: 32/1 ومابعدها، شرح الإسنوي:24/1، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب: 18/1، مرآة الأصول: 50/1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص58.(1/14)
- والأحكام: جمع حكم، وهو مطلوب الشارع الحكيم، أو هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً. والمراد بالخطاب عند الفقهاء: هو الأثر المترتب عليه، كإيجاب الصلاة، وتحريم القتل، وإباحة الأكل، واشتراط الوضوء للصلاة.
- واحترز بعبارة (العلم بالأحكام) عن العلم بالذوات والصفات والأفعال.
- و (الشرعية) : المأخوذة من الشرع، فيحترز بها عن الأحكام الحسية مثل: الشمس المشرقة، والأحكام العقلية مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأحكام اللغوية أو الوضعية، مثل: الفاعل مرفوع، أو نسبة أمر إلى آخر إيجاباً أو سلباً مثل زيد قائم، أو غير قائم.
- و (العملية) : المتعلقة بالعمل القلبي كالنية، أو غير القلبي مما يمارسه الإنسان مثل القراءة والصلاة ونحوها من عمل الجوارح الباطنة والظاهرة. والمراد أن أكثرها
عملي، إذ منها ماهو نظري، مثل اختلاف الدين مانع من الإرث. واحترز بها عن الأحكام العلمية والاعتقادية، كأصول الفقه، وأصول الدين كالعلم بكون الإله واحداً سميعاً بصيراً. وتسمى العملية أحياناً: (الفرعية) والاعتقادية: (الأصلية) .
- و (المكتسب) صفة للعلم: ومعناه المستنبط بالنظر والاجتهاد، وهو احتراز عن علم الله تعالى، وعلم ملائكته بالأحكام الشرعية، وعلم الرسول صلّى الله عليه وسلم الحاصل بالوحي، لا بالاجتهاد، وعلمنا بالبدهيات أوالضروريات التي لاتحتاج إلى دليل ونظر، كوجوب الصلوات الخمس، فلا تسمى هذه المعلومات فقهاً، لأنها غير مكتسبة.(1/15)
- والمراد بالأدلة التفصيلية: ما جاء في القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. واحترز بها عن علم المقلد لأئمة الاجتهاد، فإن المقلد لم يستدل على كل مسألة يعملها بدليل تفصيلي، بل بدليل واحد يعم جميع أعماله، وهو مطالبته بسؤال أهل الذكر والعلم، فيجب عليه العمل بناء على استفتاء منه. هذا.. وقد أصبح الفقه أخيراً كما في قواعد الزركشي: هو معرفة أحكام الحوادث نصاً واستنباطاً، على مذهب من المذاهب.
- وموضوع الفقه: هو أفعال المكلفين من حيث مطالبتهم بها، إما فعلاً كالصلاة، أو تركاً كالغصب، أو تخييراً كالأكل.
- والمكلفون: هم البالغون العاقلون الذين تعلقت بأفعالهم التكاليف الشرعية.
- خصائص الفقه:
- الفقه: هو الجانب العملي من الشريعة، والشريعة: كل ماشرع الله تعالى لعباده من الأحكام، سواء بالقرآن، أم بالسنة، وسواء ماتعلق منها بكيفية الاعتقاد، ويختص بها علم الكلام أو علم التوحيد، أو بكيفية العمل، ويختص بها علم الفقه.
- وقد بدأت نشأة الفقه تدريجياً في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وفي عصر الصحابة، وكان سبب نشوئه وظهوره المبكر بين الصحابة هو حاجة الناس الماسة إلى معرفة أحكام الوقائع الجديدة، وظلت الحاجة إلى الفقه قائمة في كل زمان لتنظيم علاقات الناس الاجتماعية، ومعرفة الحقوق والواجبات لكل إنسان، وإيفاء المصالح المتجددة، ودرء المضار والمفاسد المتأصلة والطارئة.
- ويمتاز الفقه الإسلامي بعدة مزايا أو خصائص أهمها مايأتي (1) :
__________
-
- (1) راجع فجر الإسلام لأحمد أمين، وتاريخ الفقه الإسلامي للسايس وتاريخ التشريع للخضري، والسياسة الشرعية لشيخ الأزهر سابقاً الدكتور عبد الرحمن تاج، والأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 136-154، المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف/2-4 و090 2 ً(1/16)
- 1 ً - أساسه الوحي الإلهي: يتميز الفقه عن غيره من القوانين الوضعية بأن مصدره وحي الله تعالى المتمثل في القرآن والسنة النبوية، فكل مجتهد مقيد في استنباطه الأحكام الشرعية بنصوص هذين المصدرين، وما يتفرع عنهما مباشرة، وماترشد إليه روح الشريعة، ومقاصدها العامة، وقواعدها ومبادئها الكلية، فكان بذلك كامل النشأة، سوي البنية، وطيد الأركان، لاكتمال مبادئه، وإتمام قواعده، وإرساء أصوله في زمن الرسالة وفترة الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم، قال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة:5/3] ، ولم يبق بعدئذ إلا التطبيق على وفق المصالح البشرية التي تنسجم مع مقاصد الشريعة.
- 2 ً ــ شموله كل متطلبات الحياة: يمتاز الفقه الإسلامي عن القوانين بأنه يتناول علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه، لأنه للدنيا والآخرة، ولأنه دين ودولة، وعام للبشرية وخالد إلى يوم القيامة، فأحكامه كلها تتآزر فيها العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، لتحقق ــ بيقظة الضمير، والشعور بالواجب، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، واحترام الحقوق- غاية الرضا والطمأنينة والإيمان والسعادة والاستقرار، وتنظيم الحياة الخاصة والعامة وإسعاد العالم كله.
- ومن أجل تلك الغاية: كانت الأحكام العملية (الفقه) وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال، وأفعال وعقود، وتصرفات، شاملة نوعين:(1/17)
- الأول: أحكام العبادات: من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة ونذر ويمين، ونحو ذلك مما يقصد به تنظيم علاقة الإنسان بربه. وقد ورد في القرآن عن العبادات بأنواعها نحو (140) آية.
- الثاني: أحكام المعاملات: من عقود وتصرفات وعقوبات، وجنايات، وضمانات، وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات. وهذه الأحكام تتفرع إلى ما يلي:
- أـ الأحكام التي تسمى حديثاً بالأحوال الشخصية: وهي أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها من زواج وطلاق ونسب ونفقة وميراث،،يقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض.
- ب ــ الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية حفظ حق المستحق. وقد ورد في المجموعة المدنية في القرآن نحو سبعين آية.
- جـ ــ الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر من المكلف من جرائم، ومايستحقه عليها من عقوبات، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم، وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة، وضبط الأمن. وقد ورد في المجموعة الجنائية في القرآن نحو ثلاثين آية.
- د ــ أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنية أو الجنائية: وهي التي تتعلق بالقضاء والدعوى وطرق الإثبات بالشهادة واليمين والقرائن وغيرها، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لإقامة العدالة بين الناس. وقد ورد في القضاء والشهادة ومايتعلق بها في القرآن نحو (عشرين) آية.
هـ ــ الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وماعليهم من واجبات.(1/18)
- وـ الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقةِ الدولةِ الإسلاميةِ بغيرها من الدول في السِّلمِ وَالحْرَبِ، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة، وتشمل ُ الجهاد َ والمعاهداتِ. ويقصد بها تحديد نوع العلاقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الدول.
- ز ــ الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحقوق الأفراد المالية والتزاماتهم في نظام المال، وحقوق الدولة وواجباتها المالية، وتنظيم موارد الخزينة ونفقاتها. ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد. وهذه تشمل أموال الدولة العامة والخاصة، كالغنائم والأنفال والعشور (ومنها الجمارك) والخراج (ضريبة الأرض) والمعادن الجامدة والسائلة وموارد الطبيعة المخلوقة، وأموال المجتمع كالزكاة والصدقات والنذور والقروض، وأموال الأسرة كالنفقات والمواريث والوصايا، وأموال الأفراد كأرباح التجارة، والإجارة، والشركات، وكل مرافق الاستغلال المشروع، والإنتاج، والعقوبات المالية، كالكفارات والديات والفدية.
- ح ــ الأخلاق أو الآداب (المحاسن والمساوئ) : وهي التي تحد من جموح الإنسان، وتشيع أجواء الفضيلة والتعاون والتراحم بين الناس.
- وكان سبب اتساع الفقه هو ما جاء في السنة النبوية من الأحاديث الكثيرة في كل باب من هذه الأبواب.
- 3 ً ــ اتصافه بالصفة الدينية حلاً وحرمة: يفترق الفقه عن القانون الوضعي في أن كل فعل أو تصرف مدني في المعاملات يتصف بوجود فكرة الحلال والحرام فيه، مما يؤدي إلى اتصاف أحكام المعاملات بوصفين:
- أحدهما ـ دنيوي يبنى على ظاهر الفعل أو التصرف، ولا علاقة له بالأمر المستتر الباطني، وهو الحكم القضائي؛ لأن القاضي يحكم بما هو مستطاع. وحكمه لايجعل الباطل حقاً، والحق باطلاً في الواقع، ولايحل الحرام ولايحرم الحلال في الواقع. ثم إن القضاء ملزم، بعكس الفتوى.(1/19)
- والثاني ــ حكم أخروي يبنى على حقيقة الشيء والواقع، وإن كان خفياً عن الآخرين، ويعمل به فيما بين الشخص وبين الله تعالى. وهو الحكم الدياني. وهذا مايعتمده المفتي، والفتوى: هي الإخبار عن الحكم الشرعي من غير إلزام. ومنشأ هذه التفرقة: حديث النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن (1) بحجته من بعض، فأقضي له على نحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها» وسبب وجود هذين الوصفين: أن الشريعة وحي الله، لها ثواب وعقاب أخروي، وهي نظام روحي ومدني معاً، لأنها جاءت لخيري الدنيا والآخرة، أو الدين والدنيا.
- وتظهر ثمرة التفرقة مثلاً في الطلاق والأيمان والديون والإبراء والإكراه ونحوها، وبناء عليه، اختلفت وظيفة القاضي عن وظيفة المفتي، فالقاضي يصدر حكمه بناء على الأمر الظاهر فقط، والمفتي يراعي الباطن والظاهر معاً، فإذا اختلفا بني حكمه على الباطن إذا بان له.
- فمن طلق امرأته خطأ غير قاصد الطلاق، يقع منه قضاء ولا يقع ديانة، ومن أبرأ مدينه دون أن يعلمه بذلك، ثم رفع الدعوى على المدين مطالباً بسداد الدين، فالقضاء يقضي له بقبض الدين، والفتوى تمنعه من ذلك لوجود الإبراء.
- وقد أدى وجود هذه النزعة الدينية أو الوازع الديني الداخلي إلى إضفاء صفة الهيبة والاحترام للأنظمة الشرعية، وإلى صيانة الحقوق بجانب النزعة المادية التي تلاحظها فقط القوانين الوضعية؛ لأن الشريعة ترعى الاعتبارين معاً: الاعتبار القضائي والاعتبار الدياني.
- 4 ً ــ ارتباط الفقه بالأخلاق: يختلف الفقه عن القانون في تأثره بقواعد الأخلاق، فليس للقانون الوضعي إلا غاية نفعية وهي العمل على حفظ النظام واستقرار المجتمع، وإن أهدرت بعض مبادئ الدين والأخلاق.
__________
-
(1) ألحن بحجته أي أفطن وأحسن بياناً لها.(1/20)
أما الفقه فيحرص على رعاية الفضيلة والمثل العليا والأخلاق القويمة، فتشريع العبادات من أجل تطهير النفس وتزكيتها وإبعادها عن المنكرات؛ وتحريم الربا بقصد بث روح التعاون والتعاطف بين الناس، وحماية المحتاجين من جشع أصحاب المال؛ والمنع من التغرير والغش في العقود وأكل المال بالباطل، وإفساد العقود بسبب الجهالة ونحوها من عيوب الرضا، من أجل إشاعة المحبة وتوفير الثقة، ومنع المنازعة بين الناس، والسمو عن أدران المادة، واحترام حقوق الآخرين؛ والأمر بتنفيذ العقود قصد به الوفاء بالعهد؛ وتحريم الخمر للحفاظ على مقياس الخير والشر وهو العقل.
- وإذا تآزر الدين والخلق مع التعامل، تحقق صلاح الفرد والمجتمع، وسعادتهما معاً، وتهيأ سبيل الخلود في النعمى في عالم الآخرة، والأمل بالخلود هو مطمح البشرية من قديم الزمان. وبذلك تكون غاية الفقه هي خير الإنسان حقاً في الحال والمآل، وإسعاده في الدنيا والآخرة.
- ثم إن التأثر بالدين والخلق يجعل الفقه أكثر امتثالاً وأشد احتراماً وطاعة، أما القوانين فيكثر الإفلات من سلطانها.(1/21)
- 5 ً ــ الجزاء على المخالفة دنيوي وأخروي: يمتاز الفقه عن القانون الذي يقرر جزاء دنيوياً فقط على المخالفة بأن لديه نوعين من الجزاء على المخالفات: الجزاء الدنيوي من عقوبات مقدرة (الحدود) وغير مقدرة (التعازير) ، على الأعمال الظاهرة للناس، والجزاء الأخروي على أعمال القلو ب غير الظاهرة للناس، كالحقد والحسد وقصد الإضرار بالآخربن إذا اتخذ مظهراً إيجابياً، وعلى الأعمال الظاهرة التي لم يعاقب عليها في الدنيا، إما بسبب إهمال عقوبتها، كتعطيل الحدود اليوم في أغلب الدول، أو لعدم إثباتها في الظاهر، أو لعدم اطلاع السلطة عليها كذلك الجزاء في الفقه إيجابي وسلبي، إيجابي لأن فيه ثواباً على طاعة الأوامر وامتثالها، وسلبي لأنه يقرر ثواباً على اجتناب النواهي والمعاصي والكف عنها. أما القانون فيقتصر على تقرير جزاءات سلبية على مخالفة أحكامه، دون تقرير ثواب على حالة امتثال قواعده.
- 6 ً- النزعة في الفقه جماعية: أي أن فيه مراعاة لمصلحة الفرد والجماعة معاً، دون أن تطغى واحدة على الأخرى، ومع ذلك تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند تعارض المصلحتين، كما أنه عند تعارض مصلحة شخصين: تقدم مصلحة من يصيبه أكبر الضررين، تطبيقاً لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) و (يدفع أكبر الضررين بالأخف منهما) .
- فمن أمثلة رعاية مصلحة الجماعة: تشريع العبادات من صلاة وصوم ونحوهما، وحل البيع وتحريم الربا، وتحريم الاحتكار ثم البيع بثمن المثل، ومشروعية التسعير الجبري، وإقامة الحدود على أخطر المنكرات، وتنظيم الأسرة، ورعاية حقوق الجار، والوفاء بالعقود، والبيع الجبري للمصلحة العامة كبناء المساجد والمدارس والمشافي، وإنشاء المقابر، وتوسيع الطرق ومجاري الأنهار.(1/22)
- ومن أمثلة تقييد حق الفرد عند ضرر الجماعة، أو حدوث ضرر أكبر: عدم إلزام الزوجة بطاعة زوجها إذا أضرَّ بها، لقوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:2/231] ، وعدم إطاعة الحاكم إذا أمر بمعصية، أو تنكر للمصلحة العامة؛ لأن الطاعة في المعروف، ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، مالم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة» .
- ومن أمثلته: تقييد جواز الوصية بثلث المال منعاً من إضرار الورثة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص فيما يرويه البخاري ومسلم: «الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس» أي فقراء يسألون الناس بأكفهم.
- ومن أمثلته: ترك الأراضي المفتوحة بيد أهلها على أن يدفعوا ضريبة الجزية والخراج، توفيراً لمورد عام للخزينة، ورعاية لمصلحة المسلمين العامة، ومنه تشريع الشفعة للشريك أو للجار دفعاً للضرر الذي قد يحدث من المشتري الجديد. ومنه إمرار الماء في أرض الغير لإرواء الأرض البعيدة عن مجرى الماء. ونحو ذلك من الأمثال التي تصدر عن مبدأ واحد في الإسلام، وهو أن مصدر الحق: هو الله الذي لايمنحه لأحد إلا لغرض حكيم هو تحقيق الخير للفرد وللمجتمع معاً.
- 7 ً - الفقه صالح للبقاء والتطبيق الدائم: إن فقه المبادئ الخالدة لايتغير كالتراضي في العقود، وضمان الضرر، وقمع الإجرام وحماية الحقوق، والمسؤولية الشخصية، أما الفقه المبني على القياس ومراعاة المصالح والأعراف، فيقبل التغير والتطور بحسب الحاجات الزمنية، وخير البشرية، والبيئات المختلفة زماناً ومكاناً، مادام الحكم في نطاق مقاصد الشريعة وأصولها الصحيحة، وذلك في دائرة المعاملات لا في العقائد والعبادات، وهذا هو المراد بقاعدة (تتغير الأحكام بتغير الأزمان) .(1/23)
- 8 ً - إن الغاية من توطئة الفقه وتعبيد طرق الوصول إليه هي الإفادة الكاملة منه على الصعيد الفردي، وعلى الصعيد الرسمي باستمداد القوانين في كل بلاد الإسلام منه؛ لأن غايته خير الإنسان وإسعاده في الدارين، أما غاية القوانين الحالية فهي مجرد استقرار المجتمع.
- وقد اشتمل الفقه الإسلامي على فروع القوانين المختلفة كما بينا، ويمكن معرفة حكم مشكلات العصر كالتأمين ونظام المصارف ونظام البورصات وقواعد النقل الجوي والبحري ونحوها بالقواعد الفقهية الكلية، والاجتهاد المستند إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وغيرها، كما يمكن صياغة الفقه على أساس النظريات العامة كما هو الشأن في دراسة القوانين، مثل نظرية الضمان، ونظرية الضرورة، ونظرية العقد، ونظرية الملكية، والمؤيدات الشرعية المدنية والجزائية ونظرية الحق، والتعسف في استعمال الحق، والظروف الطارئة وغيرها. وأجاز بعض الفقهاء خلافا ً للأكثرية تخصيص النصوص بالعرف كعدم إلزام المرأة الشريفة القدر بإرضاع ولدها عند المالكية (1) ، ومثل أخذ أبي يوسف بالعرف في مقياس الأموال الربوية كيلاً أو وزناً لتحقيق المساواة وعدمها، فإذا تبدل عرف التعامل، فأصبح بيع المال الربوي كالقمح والشعير وزنياً بعد أن كان كيلياً، أو العكس، عمل به، وينظر حينئذ للتساوي وزناً أو كيلاً بحسب المتعارف بين الناس.
- كما أجاز بعضهم تغير الحكم لتغير علته كإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم (2) ، واعتماد حساب أوائل الشهور العربية على الحساب، لا على الرؤية (3) .
- وأجاز آخرون تغير الحكم بالضرورة أو الحاجة دفعاً للحرج والضرر عن الناس بشرط توافر معنى الضرورة والحاجة شرعاً، والترخيص بالقدر اللازم فقط لإزالة الضرورة وتحقيق الحاجة، لأن «الضرورة تقدر بقدرها» (4) ، والضرورة: هي التي تهدد المرء بهلاك نفسه أو نسله، أو تلف ماله، أو ذهاب عقله إذا لم يقدم على الشيء الممنوع. والحاجة: ما يترتب على عدم استعمال الشيء الممنوع من حرج ومشقة تصيب الإنسان في نفسه أو ولده أو ماله أو عقله.
__________
-
(1) والتحقيق أن هذا من قبيل تفسير النص الغامض أو المجمل بالعرف، وليس من قبيل التخصيص.
(2) فتح القدير: 14/2 وما بعدها.
(3) رسالة أحمد شاكر في أوائل الشهور العربية.
(4) انظر كتابنا نظرية الضرورة الشرعية.(1/24)
- والعمل بالفقه في الجملة واجب إلزامي؛ لأن المجتهد يجب عليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده، وهو بالنسبة إليه حكم الله تعالى. وعلى غير المجتهد أن يعمل بفتوى المجتهد، إذ ليس أمامه طريق آخر لمعرفة الحكم الشرعي سوى الاستفتاء لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء:21/7] . وإنكار حكم من أحكام الشريعة التي ثبتت بدليل قطعي، أو زعم قسوة حكم ما كالحدود مثلاً، أو ادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، يعتبر كفراً وردة عن الإسلام. أما إنكار الأحكام الثابتة بالاجتهاد المبني على غلبة الظن فهو معصية وفسق وظلم؛ لأن المجتهد بذل أقصى جهده لمعرفة الحق وبيان حكم الله تعالى، بعيداً عن أي هوى شخصي، أو مأرب نفعي، أو طلب سمعة أو شهرة زائفة، وإنما مستنده الدليل الشرعي، ورائده الحق، وشعاره الأمانة والصدق والإخلاص.(1/25)
- وسبيل العودة إلى العمل بالفقه: هو تقنينه (1) أي صياغته في مواد مبسطة تيسيراً لرجوع القضاة إليه، وتوحيداً لأحكام القضاة، وتسهيلاً لأمر المتقاضين بمعرفة الحكم الذي يتقاضى على أساسه. ويتم هذا من طريق لجنة من علماء المذاهب لانتقاء الحكم من أي مذهب حسبما يرون من المصلحة، ويكون عمل اللجنة جاداً وسريعاً، حتى إذا ما انتهت من أعمالها أصدر الحاكم -وهنا العقدة- أمراً باعتماد القانون المستمد من الفقه، تجاوباً مع تطلعات الناس بالرجوع إلى الشريعة وفقه القرآن والسنة، وفي ذلك راحة للنفوس، وطمأنينة للقلوب تزول بها تلك الازدواجية بين الدين والحياة والأنظمة السائدة.
ولعل في مثل هذا المؤلَّف ما ييسر الطريق أمام هؤلاء المقننين، وليس في الأمر صعوبة إذا صدقت النية وتوافرت العزيمة، وكان الحاكم جاداً في تنفيذ هذه الخطوة الجريئة التي لا تتم إلا بصدق الإسلام، والاقتناع الحر، والقدرة على مواجهة التحديات والتخرصات والأضاليل.
- المطلب الثاني ـ لمحة موجزة عن فقهاء المذاهب:
- الفقيه أو المفتي: هو المجتهد، والمجتهد: هو الذي حصلت له ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام من أدلتها. وإطلاق كلمة الفقيه أو المفتي أخيراً على متفقهة المذاهب من باب المجاز والحقيقة العرفية. والفتاوى الصادرة في زماننا هي مجرد نقل كلام المفتي (المجتهد) ليأخذ به المستفتي، وليست هي بفتوى حقيقة.
- والمذهب: لغة: مكان الذهاب وهو الطريق. واصطلاحاً: الأحكام التي اشتملت عليها المسائل. شبهت بمكان الذهاب بجامع أن الطريق يوصل إلى المعاش، وتلك الأحكام توصل إلى المعاد (2) .
__________
-
(1) انظر مزايا التقنين ومناقشة معارضيه في كتابنا «جهود تقنين الفقه الإسلامي» مؤسسة الرسالة، ط 1408هـ ـ 1987م.
(2) بجيرمي الخطيب: 45/1.(1/26)
- ولقد بدأت نواة المذاهب في عصر الصحابة كما أشرنا سابقاً، فكان مثلاً مذهب عائشة، ومذهب عبد الله بن عمر، ومذهب عبد الله بن مسعود وغيرهم، ثم في عصر التابعين اشتهر فقهاء المدينة السبعة (وهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث ابن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) ونافع مولى عبد الله بن عمر. ومن أهل الكوفة: علقمة بن مسعود، وإبراهيم النخعي شيخ حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، ومن أهل البصرة: الحسن البصري.
وهناك بين التابعين فقهاء آخرون: مثل عكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان، ومحمد بن سيرين، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأعرج، وعلقمة النخعي، والشعبي، وشريح، وسعيد بن جبير، ومكحول الدمشقي، وأبو إدريس الخولاني.
- وفي أول القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع الهجري وهو الدور الذهبي للاجتهاد، لمع في الأفق ثلاثة عشر مجتهداً دونت مذاهبهم، وقلدت آراؤهم وهم (1) : سفيان بن عيينة بمكة، ومالك بن أنس بالمدينة، والحسن البصري بالبصرة، وأبو حنيفة وسفيان الثوري (161 هـ) بالكوفة، والأوزاعي (157هـ) بالشام، والشافعي والليث بن سعد بمصر، وإسحاق بن راهويه بنيسابور، وأبو ثور وأحمد، وداود الظاهري، وابن جرير الطبري ببغداد.
- إلا أن أكثر هذه المذاهب لم يبق إلا في بطون الكتب، لانقراض أتباعها، وظل بعضها قائماً مشهوراً إلى يومنا هذا، وسأذكر هنا لمحة موجزة عن أئمة المذاهب الكبرى الثمانية المعروفة عند أهل السنة والشيعة، وبعض الفرق المعتدلة. الذين مايزال أتباعهم موجودين كالإباضية، أو الذين فقدوا الأشياع والأتباع كالظاهرية (2) .
- أولاً ـ أبو حنيفة ـ النعمان بن ثابت (80 -150 هـ) مؤسس المذهب الحنفي:
__________
-
(1) تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ص86.
(2) إن أفضل مايقرأ عن الأئمة المجتهدين ماكتبه عنهم أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة.(1/27)
- هو الإمام الأعظم أبو حنيفة، النعمان بن ثابت بن زُوَطَى الكوفي من أبناء فارس الأحرار، ولد عام (80) ، وتوفي عام (150 هـ) رحمه الله، عاصر أوج الدولتين الأموية والعباسية. وهو من أتباع التابعين، وقيل: من التابعين، لقي أنس ابن مالك، وروى عنه حديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» .
- وهو إمام أهل الرأي، وفقيه أهل العراق، صاحب المذهب الحنفي، قال الشافعي عنه: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة» ، كان تاجر قماش بالكوفة.
- أخذ علمه في الحديث والفقه عن أكثر أعيان العلماء، وتفقه في مدة ثمانية عشر عاماً بصفة خاصة بحمَّاد بن أبي سليمان، الذي أخذ الفقه عن إبراهيم النخعي، تشدد في قبول الحديث، وتوسع في القياس والاستحسان. وأصول مذهبه: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان. له في علم الكلام كتاب الفقه الأكبر، كما له مسند في الحديث، ولم يؤثرعنه كتاب في الفقه.
- وأشهر تلامذته أربعة:
- 1 ًـ أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم الكوفي (113-182هـ) : قاضي القضاة في عهد الرشيد، كان له الفضل الأكبر على مذهب أبي حنيفة في تدوين أصوله، ونشر آرائه في أقطار الأرض، وكان مجتهداً مطلقاً.(1/28)
- 2 ً ــ محمد بن الحسن الشيباني (132-189هـ) : ولد بواسط، وكان والده من أهل حرستا بدمشق، ونشأ بالكوفة، وعاش في بغداد، وتوفي بالري، تفقه أولاً على أبي حنيفة، ثم أتم تعلمه على أبي يوسف، ولازم مالك بن أنس مدة، وانتهت إليه رياسة الفقه بالعراق بعد أبي يوسف، وكان نابغة من أذكياء العلم ومجتهداً مطلقاً، صنف التصانيف الكثيرة التي حفظ بها فقه أبي حنيفة، فهو صاحب الفضل في تدوين المذهب الحنفي، وكتبه (ظاهر الرواية) هي الحجة المعتمدة عند الحنفية. 3 ً ــ أبو الهذيل، زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي (110-158 هـ) : ولد في أصبهان، وتوفي بالبصرة، كان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي، ومهر في القياس، حتى صار أقيس تلامذة أبي حنيفة وأصحابه، وكان مجتهداً مطلقاً.
- 4 ً ــ الحسن بن زياد اللؤلؤي (المتوفى عام 204 هـ) : تتلمذ أولاً لأبي حنيفة، ثم للصاحبين: أبي يوسف ومحمد، اشتهر برواية الحديث، وبرواية آراء أبي حنيفة، لكن روايته دون رواية كتب (ظاهر الرواية) للإمام محمد، ولم يبلغ في الفقه درجة أبي حنيفة وصاحبيه.
- ثانياً ــ مالك بن أنس (93-179 هـ) مؤسس المذهب المالكي:
- هو الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي (1) ، إمام دار الهجرة فقهاً وحديثاً بعد التابعين، ولد في عهد الوليد بن عبد الملك ومات في عهد الرشيد في المدينة رحمه الله، ولم يرحل منها إلى بلد آخر، عاصر كأبي حنيفة الدولتين الأموية والعباسية، لكنه أدرك من الدولة العباسية حظاً أوفر، وقد اتسعت الدولة الإسلامية في عصر هذين الإمامين، فامتدت من المحيط الأطلسي غرباً إلى الصين شرقاً، ووصلت إلى أواسط أوربا بفتح الأندلس.
- طلب العلم على علماء المدينة، ولازم عبد الرحمن بن هرمز مدة طويلة، وأخذ عن نافع مولى ابن عمر وابن شهاب الزهري، وشيخه في الفقه ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي.
- كان إماماً في الحديث وفي الفقه، وكتابه (الموطأ) كتاب جليل في الحديث
__________
-
(1) نسبة إلى ذي أصبح: قبيلة من اليمن.(1/29)
والفقه، قال عنه الشافعي رحمه الله: «مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وهو الحجة بيني وبين الله تعالى، وما أحد أمنّ علي من مالك، وإذا ذكر العلماء، فمالك النجم الثاقب» بنى مذهبه على أدلة عشرين: خمسة من القرآن، وخمسة مماثلة لها مؤ السنة، وهي نص الكتاب، وظاهره وهو العموم، ودليله وهو مفهوم المخالفة، ومفهومه: وهو مفهوم الموافقة، وتنبيهه وهو التنبيه على العلة، كقوله تعالى: {فإنه رجس، أو فسقاً} [الأنعام:6/145] فهذه عشرة.
- والبقية هي: الإجماع، والقياس، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابي، والاستحسان، والحكم بسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، فقد كان يراعيه أحياناً، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا (1) .
- وأهم ما اشتهر به: العمل بالسنة، وعمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وقول الصحابي إذا صح سنده، والاستحسان.
- كان من أشهر تلامذته فريق من المصريين، وفريق آخر من شمال إفريقية والأندلس، منهم سبعة مصريون وهم (2) :
- 1 ً ــ أبو عبد الله، عبد الرحمن بن القاسم (المتوفى بمصر عام 191 هـ) تفقه على مالك مدة عشرين سنة، وتفقه على الليث بن سعد فقيه مصر المتوفى عام (175 هـ) ، كان مجتهداً مطلقاً، قال عنه يحيى بن يحيى: «أعلم الأصحاب بعلم مالك، وآمنهم عليه» ، وهو الذي نظر وصحح (المدوَّنة) في مذهب مالك، وهي من أجل الكتب عند المالكية، وعنه أخذ سحنون المغربي الذي رتب المدونة على ترتيب الفقه.
__________
-
(1) تاريخ الفقه للسايس: ص 105، كتاب مالك لأبي زهرة: ص254 ومابعدها.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص86-89، كتاب مالك: ص233 ومابعدها.(1/30)
2 ً ــ أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم (ولد عام 125 وتوفي سنة 197 هـ) لازم مالكاً عشرين سنة، ونشر فقهه في مصر وكان له أثر في تدوين مذهبه، وكان مالك يكتب إليه: إلى فقيه مصر، وإلى أبي محمد المفتي. وتفقه أيضاً على الليث بن سعد، وكان محدثاً ثقة، وكان يسمى (ديوان العلم) .
- 3 ً ــ أشهب بن عبد العزيز القيسي (ولد في السنة التي ولد فيها الشافعي وهي سنة 150هـ، وتوفي سنة 204 هـ) بعد الشافعي بثمانية عشر يوماً، تفقه على مالك والليث بن سعد، انتهت إليه رياسة الفقه بمصر بعد ابن القاسم، وله مدونة روى فيها فقه مالك تسمى (مدونة أشهب) وهي غير مدونة سحنون. قال عنه الشافعي: ما رأيت أفقه من أشهب.
- 4 ً ــ أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى عام 214 هـ) أعلم أصحاب مالك بمختلف أقواله، وإليه صارت رياسة المالكية بعد أشهب.
- 5 ً ــ أصْبَغ بن الفرج، الأموي ولاءً (المتوفى عام 225هـ) تفقه بابن القاسم وابن وهب وأشهب السابق ذكرهم، كان من أعلم خلق الله بمذهب مالك ومسائله.
- 6 ً ــ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى عام 268هـ) ، أخذ الفقه والعلم عن أبيه، ومن عاصره من الفقهاء المالكيين السابق ذكرهم، كما أخذ عن الشافعي، حتى صار علماً في الفقه، وانتهت إليه الرياسة والفُتيا بمصر، والرحلة من بلاد المغرب والأندلس.
- 7 ً ــ محمد بن إبراهيم الاسكندري بن زياد، المعروف بابن الْمَوَّاز، (والمتوفى عام 269هـ) ، أخذ الفقه عن علماء عصره، حتى صار راسخاً في الفقه والفتيا، وله كتابه المشهور بالموازية، وهو أجل كتاب ألفه المالكيون، وأصحه مسائل، وأبسطه كلاماً وأوعبه، بنى فيه الفروع على الأصول. ومن أشهر تلامذة مالك المغاربة سبعة وهم:(1/31)
- 1 ً - أبو الحسن، علي بن زياد التونسي، (المتوفى عام 183هـ) ، أخذ عن مالك والليث بن سعد، كان فقيه إفريقية.
- 2 ً - أبو عبد الله، زياد بن عبد الرحمن القرطبي (المتوفى عام 193) يلقب بشبْطون، سمع الموطأ عن مالك، وكان أول من أدخله الأندلس.
- 3 ً - عيسى بن دينار، القرطبي الأندلسي، المتوفي عام (212هـ) ، كان فقيه الأندلس.
- 4 ً - أسد بن الفرات بن سنان التونسي، أصله من خراسان من نيسابور (ولد عام 145، وتوفي عام 213هـ) شهيداً بسرقوسة، إذ كان أميرالجيش الذي ذهب لفتح صقلِّية، كان عالماً فقيهاً، مجاهداً يقود الجيوش، وجمع بين فقه المدينة، إذ سمع الموطأ من مالك، وفقه العراق، إذ لقي أبا يوسف ومحمد بن الحسن، وله كتاب (الأسدية) التي هي الأصل لمدونة سحنون.
- 5 ً - يحيى بن يحيى بن كثير الليثي (المتوفى عام 234 هـ) أندلسي قرطبي، نشر مذهب مالك في الأندلس.
- 6 ً - عبد الملك بن حبيب بن سليمان السُّلَمي (المتوفى عام 238هـ) ، انفرد برياسة الفقه المالكي بعد يحيى المذكور آنفاً.
- 7 ً - سَحْنون، عبد السلام بن سعيد التَّنُوخي (المتوفى عام 240هـ) تفقه بعلماء مصر والمدينة، حتى صار فقيه أهل زمانه، وشيخ عصره، وعالم وقته. وهو صاحب (المدونة) في مذهب مالك التي يعتمد عليها المالكية. ومن أشهر تلامذة مالك الذين نشروا مذهبه في الحجاز والعراق ثلاثة وهم:
- 1 ً - أبو مروان، عبد الملك بن أبي سَلَمة الماجِشون (المتوفى عام 212هـ) كان مفتي المدينة زمانه. وقيل: إنه كتب (موطأ) قبل مالك.
- 2 ً - أحمد بن الْمُعَذَّل بن غيلان العبدي، معاصر ابن الماجشون ومن أصحابه، كان أفقه أصحاب مالك في العراق. ولم يعرف تاريخ وفاته.
- 3 ً - أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق، القاضي (المتوفى عام 282هـ) أصله من البصرة، واستوطن بغداد، تفقه على ابن المعذل، السابق الذكر، نشر مذهب مالك في العراق.(1/32)
- ثالثاً - محمد بن إدريس الشافعي (150 ـ 204هـ) مؤسس المذهب الشافعي:
- الإمام أبو عبد الله، محمد بن إدريس القرشي الهاشمي الْمُطَّلبي بن العباس بن عثمان بن شافع رحمه الله، يلتقي نسبه مع الرسول صلّى الله عليه وسلم في جده عبد مناف، ولد في غزة بفلسطين الشام عام (150هـ) ، وهو عام وفاة أبي حنيفة، وتوفي في مصر عام (204هـ) .
- بعد موت أبيه في غزة وبعد سنتين من ميلاده، حملته أمه إلى مكة موطن آبائه، فنشأ بها يتيماً، وحفظ أشعارهم، ونبغ في العربية والأدب، حتى قال الأصمعي عنه: «وصححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له: محمد بن إدريس» ، فكان بذلك إماماً في العربية وواضعاً فيها.
- تتلمذ في مكة على مفتيها مسلم بن خالد الزنجي، حتى أذن له بالإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم ارتحل إلى المدينة، فتفقه على مالك بن أنس، وسمع منه الموطأ، وحفظه في تسع ليال، وروى الحديث أيضاً عن سفيان بن عيينة، والفضيل ابن عياض، وعمه محمد بن شافع وغيرهم.
- وارتحل إلى اليمن، فولي عملاً فيها، ثم ارتحل إلى بغداد عام (183هـ) و (195هـ) ، فأخذ عن محمد بن الحسن كتب فقهاء العراق، وكانت له مناظرات معه، سر منها الرشيد.
- ولقيه أحمد بن حنبل في مكة سنة (187هـ) ، وفي بغداد سنة (195هـ) ، وأخذ عنه فقهه وأصوله، وبيانه ناسخ القرآن ومنسوخه. وفي بغداد صنف كتابه القديم المسمى بالحجة الذي ضمن فيه (مذهبه القديم) ، ثم ارتحل إلى مصر عام (200هـ) حيث أنشأ (مذهبه الجديد) وتوفي بها شهيد العلم (1) في آخر رجب يوم الجمعة سنة (204هـ) ، ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه، رحمه الله.
- ومن مؤلفاته (الرسالة) أول مدون في علم أصول الفقه، وكتاب (الأم) في فقه مذهبه الجديد.
__________
(1) قيل: ضربه أشهب الفقيه المالكي المصري، حين تناظر مع الشافعي، فأفحمه، فضربه بمفتاح في جبهته، فمرض بسبب ذلك أياماً، ثم مات، وكان أشهب يدعو عليه في سجوده، قائلاً: اللهم أمت الشافعي، وإلا ذهب علم مالك. والمشهور أن الضارب له: فتيان المغربي (بجيرمي الخطيب: 49/1 ومابعدها) .(1/33)
- كان مجتهداً مستقلاً مطلقاً، إماماً في الفقه والحديث والأصول، جمع فقه الحجازيين والعراقيين، قال فيه أحمد: «كان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله» وقال عنه أيضاً: «مامن أحد مسَّ بيده محبرة وقلَماً، إلا وللشافعي في عنقه منَّة» وقال عنه طاش كبري زاده في مفتاح السعادة: «اتفق العلماء من أهل الفقه والأصول والحديث، واللغة والنحو وغير ذلك، على أمانته وعدالته وزهده، وورعه وتقواه وجوده، وحسن سيرته، وعلو قدره، فالمطنب في وصفه مقصر، والمسهب في مدحته مقتصر» .
وأصول مذهبه: القرآن والسنة، ثم الإجماع، ثم القياس. ولم يأخذ بأقوال الصحابة، لأنها اجتهادات تحتمل الخطأ، وترك العمل بالاستحسان الذي قال به الحنفية والمالكية، وقال: (من استحسن فقد شرع) ، ورد المصالح المرسلة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وسماه أهل بغداد (ناصر السنة) .
- روى عنه كتابه القديم (الحجة) أربعة من أصحابه العراقيين وهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي، وأنفسهم رواية له: الزعفراني.(1/34)
- وروى عنه مذهبه الجديد في (الأم) في أبواب الفقه كلها أربعة أيضاً من أصحابه المصريين وهم: المزني، والبويطي، والربيع الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي راوي (الأم) وغيرها عن الشافعي. والفتوى على مافي الجديد، دون القديم، فقد رجع الشافعي عنه، وقال: «لاأجعل في حل من رواه عني» إلا في مسائل يسيرة نحو السبع عشرة، يفتى فيها بالقديم إلا إذا اعتضد القديم بحديث صحيح لامعارض له، فإن اعتضد بدليل فهو مذهب الشافعي، فقد صح أنه قال: «إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عُرْض الحائط» .
- وقد كثر تلاميذه وأتباعه في الحجاز والعراق ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية، وأترجم بصفة خاصة لخمسة مصريين منهم أخذوا عنه مذهبه الجديد وهم (1) :
- 1 ً - يوسف بن يحيى البويطي، أبو يعقوب (توفي عام 231هـ) وهو مسجون ببغداد بسبب فتنة القول بخلق القرآن التي أثارها الخليفةالمأمون، استخلفه الشافعي في حلقته، له مختصر مشهور اختصره من كلام الشافعي.
2 ً - أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى المزني (المتوفى عام 264هـ) قال عنه الشافعي: «المزني ناصر مذهبي» ، له في مذهب الشافعي كتب كثيرة، منها المختصر الكبير المسمى المبسوط، والمختصر الصغير. أخذ عنه كثير من علماء خراسان والعراق والشام، وكان عالماً مجتهداً.
- 3 ً - الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي، أبو محمد، راوي الكتب، كان مؤذناً بجامع عمرو بن العاص (جامع الفسطاط) ، توفي عام (270هـ) ، صحب الشافعي طويلاً، حتى صار راوية كتبه، وعن طريقه وصلنا: الرسالة والأم وغيرهما من كتب الإمام. وتقدم روايته على رواية المزني إن تعارضتا.
__________
-
(1) كتاب الشافعي لأستاذنا أبي زهرة: ص149 ومابعدها.(1/35)
- 4 ً - حَرْملة بن يحيى بن حرملة (المتوفى سنة 266هـ) روى عن الشافعي من الكتب مالم يروه الربيع، مثل كتاب الشروط (3 أجزاء) ، وكتاب السنن (عشرة أجزاء) وكتاب النكاح، وكتاب ألوان الإبل والغنم وصفاتها وأسنانها.
- 5 ً - محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى في ذي القعدة سنة 268هـ) كان تلميذ الشافعي وأحد تلامذة مالك، كان أهل مصر لايعدلون به أحداً، وكان الشافعي يُحبه ويوده، ثم ترك مذهبه إلى مذهب مالك؛ لأن الشافعي لم يخلفه في حلقته، ولأنه مذهب أبيه.
- رابعاً ــ أحمد بن حنبل الشيباني (164-241هـ) مؤسس المذهب الحنبلي:
- الإمام أبو عبد الله، أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد الذُّهلي الشيباني، ولد ببغداد، ونشأ بها، وتوفي فيها في ربيع الأول رحمه الله، وكانت له رحلات إلى مدائن العلم، كالكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة. تفقه على الشافعي حين قدم بغداد، ثم أصبح مجتهداً مستقلاً، وتجاوز عدد شيوخه المئة، وأكبَّ على السُّنة يجمعها ويحفظها، حتى صار إمام المحدثين في عصره، بفضل شيخه: هشيم بن بشير بن أبي خازم البخاري الأصل (104-183هـ) .
- كان إماماً في الحديث والسنة والفقه، قال عنه إبراهيم الحَرْبي: «رأيت أحمد، كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين» وقال عنه الشافعي حين ارتحل إلى مصر: «خرجت من بغداد، وماخلَّفت بها أتقى ولاأفقه من ابن حنبل» .
- وقد امتحن أحمد بالضرب والحبس في فتنة خلق القرآن في زمن المأمون والمعتصم والواثق، فصبر صبر الأنبياء، قال عنه ابن المديني: «إن الله أعز الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة، وابن حنبل يوم المحنة» . وقال عنه بشر الحافي: «إن أحمد قام مقام الأنبياء» .
- وأصول مذهبه في الاجتهاد قريبة من أصول الشافعي؛ لأنه تفقه عليه، فهو يأخذ بالقرآن والسنة وفتوى الصحابي والإجماع والقياس، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والذرائع.(1/36)
- لم يؤلف الإمام أحمد في الفقه كتاباً، وإنما أخذ أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك.
- وله كتاب (المسند) في الحديث، حوى نيفاً وأربعين ألف حديث، وكان ذا حافظة قوية جداً. ويعمل بالحديث المرسل (وهو مارواه غير الصحابي مسقطاً منه أحد الرواة) وبالحديث الضعيف الذي يرتفع إلى درجة الحديث الحسن، لاالباطل ولاالمنكر، مرجحاً العمل بالمرسل أو الضعيف على القياس. وكان من أشهر تلامذته الذين نشروا علمه الآتي ذكرهم (1) :
- 1 ً - صالح بن أحمد بن حنبل المتوفى سنة (266هـ) : وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، تلقى الفقه والحديث عن أبيه، وعن غيره من معاصريه، قال فيه أبو بكر الخلال راوي الفقه الحنبلي: «سمع من أبيه مسائل كثيرة، وكان الناس يكتبون إليه من خراسان، يسأل لهم ـ أي أباه ـ عن المسائل» .
- 2 ً - عبد الله بن أحمد بن حنبل (213-290هـ) : اشتغل برواية الحديث عن أبيه. أما أخوه صالح فقد عني بنقل فقه أبيه ومسائله.
- 3 ً - الأثرم، أبو بكر، أحمد بن محمد بن هانئ الخراساني البغدادي (المتوفى سنة 273هـ) روى عن أحمد مسائل في الفقه، وروى عنه حديثاً كثيراً، له كتاب (السنن في الفقه) على مذهب أحمد وشواهده من الحديث، كان من الفقهاء الحفاظ الأعلام.
- 4 ً - عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني (المتوفى سنة 274هـ) صحب أحمد أكثر من عشرين سنة، وكان جليل القدر في أصحاب أحمد، وكان أبو بكر الخلال معجباً بنقله عن أحمد أشد الإعجاب.
- 5 ً - أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المرّوذي (المتوفى عام 274هـ) كان أخص أصحاب أحمد به، وأقربهم إليه، وإماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف. وإذا أطلق الحنابلة كلمة (أبو بكر) يراد به المرّوذي.
- 6 ً - حرب بن إسماعيل الحنظلي الكرماني (المتوفى سنة 280هـ) أخذ عن أحمد فقهاً كثيراً، وكان المروذي، مع عظيم صلته بأحمد، ينقل عنه ماكتب عن أحمد.
__________
-
(1) ابن حنبل لأستاذنا المرحوم أبي زهرة: ص176-188.(1/37)
7 ً - إبراهيم بن إسحاق الحربي، أبو إسحاق، (المتوفى عام 285هـ) ، كان تبحره في الحديث أكثر من الفقه، وكان عالماً باللغة.
- ثم جاء أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال (المتوفى سنة 311هـ) فجمع عن أصحاب أحمد فقهه، حتى عُدَّ أنه (جامع الفقه الحنبلي) أو ناقله أو راويه. وقد صحب الخلال أبا بكر المروذي حتى مات، ويظهر أنه هو الذي حبب إليه رواية فقه أحمد.
- ثم لخص ماجمعه الخلال اثنان شهيران هما:
- أبو القاسم، عمر بن الحسين الخرقي البغدادي (المتوفى عام 334هـ) ودفن في دمشق، له كتب كثيرة في المذهب، منها مختصره المشهور، الذي شرحه ابن قدامة في كتابه (المغني) وكان له أكثر من ثلاث مئة شرح.
- أبو بكر، عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال (المتوفى سنة 363هـ) كان قريناً للخرقي الآنف الذكر، وأشد تلاميذ الخلال اتباعاً له، وقد يرجح روايات وأقوالاً رجح الخلال غيرها.
- خامساً ــ أبو سليمان، داود بن علي الأصفهاني الظاهري (المولود بالكوفة سنة202هـ، المتوفى في بغداد عام 270هـ) مؤسس المذهب الظاهري:
- هو شيخ أهل الظاهر، وواضع أساس هذا المذهب، الذي انتصر له وأشاده من بعده أبو محمد، علي بن سعيد بن حزم الأندلسي (384-456هـ) وذلك بما ألف من كتب، من أهمها (المحلى) في الفقه، و (الإحكام في أصول الأحكام) في أصول الفقه.
- كان داود من حفاظ الحديث، فقيهاً مجتهداً، صاحب مذهب مستقل، بعد أن كان شافعياً في بغداد. وأساس المذهب الظاهري: العمل بظاهر القرآن والسنة، مادام لم يقم دليل على إرادة غير الظاهر، ثم عند عدم النص، يأخذ بالإجماع، بشرط أن يكون إجماع علماء الأمة قاطبة، وقد أخذ الظاهرية بإجماع الصحابة فقط، فإن لم يوجد النص أو الإجماع أخذوا بالاستصحاب: وهو الإباحة الأصلية.(1/38)
- أما القياس والرأي والاستحسان والذرائع وتعليل نصوص الأحكام بالاجتهاد، فمرفوض، ولا يعتبر دليلاً من أدلة الأحكام، كما أنهم يرفضون التقليد.
- من أمثلته الفقهية: قصر تحريم استعمال آنية الذهب والفضة على الشرب منها، وقصر تحريم الربا على الأصناف الستة المذكورة في الحديث، وأن الجمعة تصلى في مسجد العشائر، كقول أبي ثور أحد أصحاب المذاهب المندثرة، وأن الزوجة الغنية تكلف بالإنفاق على زوجها المعسر وعلى نفسها.
- انتشر هذا المذهب في الأندلس، وأخذ في الاضمحلال في القرن الخامس، ثم انقرض تماماً في القرن الثامن.
- سادساً ــ زيد بن علي زين العابدين بن الحسين المتوفى سنة (122هـ) ــ إمام الشيعة الزيدية، الذي يعد مذهباً خامساً بجانب المذاهب الأربعة:
- كان إماماً في عصره وشخصية علمية متعددة النواحي، لمعرفته بعلوم القرآن والقراءات وأبواب الفقه، وكان يسمى (حليف القرآن) وله أقدم كتاب فقهي هو (المجموع) في الفقه، مطبوع في إيطاليا، وشرحه العلامة شرف الدين الحسين بن الحَيْمي اليمني الصنعاني المتوفى (عام 1221هـ) في كتاب (الروض النضير، شرح مجموع الفقه الكبير) في أربعة أجزاء. وأبو خالد الواسطي هو راوي أحاديث المجموع وجامع فقه زيد. ويقال: إن كتبه (15) كتاباً، منها (المجموع) في الحديث. لكن نسبة هذه الكتب إليه مشكوك فيها.
- والزيدية: هم الذين جعلوا الإمامة بعد علي زين العابدين إلى ابنه زيد مؤسس هذا المذهب. وقد بويع لزيد بالكوفة في أيام هشام بن عبد الملك، فقاتله يوسف بن عمر، حتى قتل.(1/39)
- وكان زيد يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، ويتولى أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور، وقد أنكر على من طعن على أبي بكر وعمر من أتباعه، فتفرق عنه الذين بايعوه، فقال لهم: رفضتموني، فسموا (الرافضة) لقول زيد لهم: (رفضتموني) . ثم خرج ابنه يحيى بعده في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فقتل أيضاً.
- ومن أهم المؤلفات المطبوعة حالياً في هذا المذهب (كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار) للإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى عام (840هـ) في أربعة أجزاء، وهو جامع لآراء الفقهاء واختلافاتهم.
- ويميل هذا الفقه إلى فقه أهل العراق مهد التشيع والأئمة، ولايختلف كثيراً في عهد ظهور الزيدية الأولى عن فقه أهل السنة، ويخالفون في مسائل معروفة، منها: عدم مشروعية المسح على الخفين، وتحريم ذبيحة غير المسلم، وتحريم الزواج بالكتابيات، لقوله تعالى: {ولاتمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة:10/60] ، وخالفوا الشيعة الإمامية في إباحة زواج المتعة، فلا يجيزونه، ويزيدون في الأذان: (حي على خير العمل) ويكبرون خمس تكبيرات في الجنازة. والمذهب الفعلي في اليمن هو مذهب الهادوية أتباع الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين. ومايزال هذا المذهب مذهب دولة الزيدية في اليمن منذ (عام 288هـ) . وهم أقرب المذاهب الشيعية إلى مذهب أهل السنة، ومذهبهم في العقيدة هو مذهب المعتزلة. وهم يعتمدون في استنباط الأحكام على القرآن والحديث والاجتهاد بالرأي، والأخذ بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب.
- والخلاصة: أن الزيدية منسوبة لزيد، لقولهم بإمامته، وإن لم يكونوا على مذهبه في الفروع الفقهية، بخلاف الحنفية والشافعية مثلاً، فهم يتابعون الإمام في الفروع.(1/40)
- سابعاً ــ الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق (80-148هـ= 699 - 765م) بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط مؤسس مذهب الإمامية. وأما أبو جعفر، محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار الأعرج القُمِّي المتوفى (سنة 290هـ) ، فهو ناشر مذهب الشيعة الإمامية في الفقه.
- والإمامية يقولون بإمامة اثني عشر إماماً معصوماً، أولهم الإمام أبو الحسن علي المرتضى، وآخرهم محمد المهدي الحجة، الذين زعموا أنه مستور وأنه هو الإمام القائم.
- وابن فرّوخ هو الناشر الفعال لفقه الشيعة الإمامية في فارس في كتابه (بشائر الدرجات في علوم آل محمد، وماخصهم الله به) طبع سنة (1285هـ) .
- وقد تقدمه أول كتاب للإمامية في الفقه وهو رسالة الحلال والحرام لإبراهيم ابن محمد أبي يحيى المدني الأسلمي التي رواها عن الإمام جعفر الصادق.
- ثم كتب ابنه علي الرضا كتاب (فقه الرضا) طبع عام (1274هـ) في طهران.
- ثم جاء بعد ابن فرّوخ الأعرج في القرن الرابع: محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُلَيني الرازي، شيخ الشيعة، المتوفى (سنة 328هـ) ، فألف كتابه «الكافي في علم الدين» وفيه (16099) ستة عشر ألفاً وتسعة وتسعون حديثاً من طرق آل البيت، وهو رقم يزيد على ماجاء في كتب الصحاح الستة (البخاري ومسلم ... ) .
- وبه تكون عمدة مذهب الإمامية: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق القمي، وتهذيب الأحكام للطوسي، والاستبصار للطوسي، وهم كالزيدية لايعتمدون غالباً في الفقه بعد القرآن إلا على الأحاديث التي رواها أئمتهم من آل البيت، كما أنهم يرون فتح باب الاجتهاد، ويرفضون القياس غير المنصوص العلة، وينكرون الإجماع إلا إذا كان الإمام داخلاً فيه. ومرجع الأحكام الشرعية هم الأئمة دائماً لاغيرهم.(1/41)
- وفقه الإمامية وإن كان أقرب إلى المذهب الشافعي، فهو لايختلف في الأمور المشهورة عن فقه أهل السنة إلا في سبع عشرة مسألة تقريباً، من أهمها إباحة نكاح المتعة، فاختلافهم لايزيد عن اختلاف المذاهب الفقهية كالحنفية والشافعية مثلاً. وينتشر هذا المذهب إلى الآن في إيران والعراق. والحقيقة أن اختلافهم مع أهل السنة لايرجع إلى العقيدة أو إلى الفقه، وإنما يرجع لناحية الحكومة والإمامة. ولعل أفضل ماأعلنت عنه ثورة الخميني في إيران عام (1979م) ، هو تجاوز الخلاف مع أهل السنة، واعتبار المسلمين جميعاً أمة واحدة، راجين تحقيق ذلك.
- ومن أهم المسائل الفقهية التي افترقوا بها عن أهل السنة: القول بإباحة الزواج المؤقت أو زواج المتعة، وإيجاب الإشهاد على الطلاق، وتحريمهم كالزيدية ذبيحة الكتابي والزواج بالنصرانية أو اليهودية، وتقديمهم في الميراث ابن العم الشقيق على العم لأب، وعدم مشروعية المسح على الخفين، ومسح الرجلين في الوضوء، وفي أذانهم: (أشهد أن علياً ولي الله) ، (حي على خير العمل) ، وتكرار جملة: (لا إله إلا الله) .(1/42)
- ثامناً ـ أبو الشّعثاء التابعي جابر بن زيد (المتوفى سنة 93هـ / 711م) مؤسس مذهب الإباضية، الذي ينسب عادة إلى عبد الله بن إباض التميمي (المتوفى عام 80 هـ) . كان جابر بن زيد من العلماء التابعين العاملين بالقرآن والسنة، تتلمذ على ابن عباس رضي الله عنهما، وأصول فقه الإباضية كأصول المذاهب الأخرى المعتمدة على القرآن والسنة والإجماع والقياس والاستدلال أو الاستنباط بجميع طرقه من الاستحسان والاستصلاح (المصالح المرسلة) والاستصحاب وقول الصحابي وغيرها. والمعتمد عندهم أن الإلهام من غير النبي صلّى الله عليه وسلم ليس بحجة في الأحكام الشرعية على غير الملهَم، وأما المجتهد الملهم فليس الإلهام في حقه حجة إلا في قضية لايوجد لحكمها دليل متفق عليه، وكأنه الاستحسان المعروف. وهم يتبرؤون من تسميتهم الخوارج أو الخوامس، وكانوا يعرفون بأهل الدعوة، وأهل الاستقامة، وجماعة المسلمين.
- وقد اشتهرت الإباضية بالقول بالمسائل الفقهية التالية (1) :
- 1ً - عدم جواز المسح على الخفين كالشيعة الإمامية.
- 2ً - عدم رفع الأيدي في تكبيرة الإحرام، أما إسبال الأيدي في الصلاة والاقتصار على تسليمة واحدة فهم موافقون المذهب المالكي والزيدي.
- 3ً - القول بإفطار من أصبح جنباً في رمضان عملاً بحديث أبي هريرة ورأي بعض التابعين.
- 4ً - تحريم ذبائح أهل الكتاب الذين لايعطون الجزية أو الحربيين غير المعاهدين، والإمامية لايجيزون أكل هذه الذبائح مطلقاً.
- 5ً - تحريم نكاح الصبي والصبية في قول جابر بن زيد، والعمل في المذهب بخلافه.
- 6ً - كراهة الجمع بين بنات العم خوف القطيعة، وهي كراهة تنزيه.
__________
-
(1) بحث (دور المدرسة الإباضية في الفقه والحضارة الإسلامية) للدكتور إبراهيم عبد العزيز بدوي ص18، مع تعديلات وتصحيحات لنا.(1/43)
- 7ً - الوصية واجبة للأقربين غير الوارثين عملاً بالأحاديث التي تحث على الإيصاء، وتجوز الوصية لأولاد الابن مع وجود الأولاد، لقول الله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربين} [البقرة:180/2] ونسخت الوصية للوالدين بآية المواريث وبحديث (لاوصية لوارث) .
- 8ً - المكاتب حر من وقت الكتابة، والمدبَّر حر بعد موت المدبِّر كبقية المذاهب، أو بعد انقضاء الأجل الذي أجل إليه، ولايجوز بيعه إلا في الدَّيْن عند أكثر علماء المذهب.
- 9ً - تحريم التبغ على أنه من الخبائث.
- ومن كتبهم في العقيدة: (مشارق الأنوار) للشيخ نور الدين السالمي، وفي الأصول (طلعة الشمس) للشيخ نور الدين السالمي، وفي الفقه (شرح النيل وشفاء العليل) للشيخ محمد بن يوسف بن أطَّفَيِّش، (17) جزءا، و (قاموس الشريعة) للسعدي، (90 جزءاً) ، و (المصنَّف) للشيخ أحمد بن عبد الله الكندي، (42 جزءًا) ، و «منهج الطالبين» للشيخ الشقعبي، (20 جزءاً) ، و «الإيضاح» للشيخ الشمَّاخي، (8 أجزاء) ، و (جوهر النظام) للشيخ السالمي، و (الجامع) لابن بركة في جزأين.
- ومايزال مذهبهم قائماً في سلطنة عمان وفي شرق أفريقيا والجزائر وليبيا وتونس.
- وهم في العقائد يقولون بتخليد أصحاب الكبائر في النار إن لم يتوبوا، وبالولاية والبراءة (ولاية الطائع والبراءة من العاصي) وبجواز التَّقيَّة في الأقوال لا في الأفعال، وبأن صفات الله تعالى هي عين الذات، أي أن صفاته قائمة بذاته وليست مغايرة له، فهم يقصدون تعظيم الله وتنزيهه، كما أنهم كالشيعة بنفيهم رؤية الله عز وجل في الآخرة يقصدون التعظيم والتنزيه، ولكنهم لايقولون كالمعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين، ولا بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى (1) .
__________
-
(1) هذا ... وإني أعلن رجوعي عما كتبته عن الإباضية في الطبعة السابقة، لتبين الخطأ فيه.(1/44)
- المطلب الثالث ـ مراتب الفقهاء وكتب الفقه:
- لابد للمفتي أن يعلم حال من يفتى بقوله، فيعرف درجته في الرواية وفي الدراية، وطبقته بين الفقهاء، ليميز بين الآراء المتعارضة، ويرجح أقواها، والفقهاءعلى سبع مراتب (1) :
1 ً - المجتهد المستقل: وهوالذي استقل بوضع قواعده لنفسه، يبني عليها الفقه، كأئمة المذاهب الأربعة. وسمى ابن عابدين هذه الطبقة: (طبقة المجتهدين في الشرع) .
2 ً - المجتهد المطلق غير المستقل: وهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، لكنه لم يبتكر قواعد لنفسه، بل سلك طريق إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مطلق منتسب، لا مستقل، مثل تلامذة الأئمة السابق ذكرهم كأبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم وأشهب وأسد ابن الفرات من المالكية، والبويطي والمزني من الشافعية، وأبي بكر الأثرم، وأبي بكر المروذي من الحنابلة، وسمى ابن عابدين هذه الطبقة: (طبقة المجتهدين في المذهب) : وهم القادرون على استخراج الأحكام من الأدلة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم في الأحكام، وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع، لكن يقلدونه في قواعد الأصول.
- وهاتان المرتبتان قد فقدتا من زمان.
__________
-
(1) الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي: ص39-42، حاشية ابن عابدين: 71/1 ومابعدها، رسالة رسم المفتي: ص11-12، مالك لأبي زهرة: ص438، 440-450، ابن حنبل لأبي زهرة: ص368-372. صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي: ص16، الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية: ص39.(1/45)
3 ً - المجتهد المقيد، أو مجتهد المسائل التي لانص فيها عن صاحب المذهب أومجتهد التخريج، كالخصاف والطحاوي والكرخي والحلواني والسرخسي والبزدوي وقاضي خان من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد القيرواني من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي والمروذي ومحمد بن جرير وأبي نصر وابن خزيمة من الشافعية، والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي علي بن أبي موسى من الحنابلة. وهؤلاء يسمون أصحاب الوجوه؛ لأنهم يخرِّجون مالم ينص عليه على أقوال الإمام، ويسمى ذلك وجهاً في المذهب، أو قولاً فيه، فهي منسوبة للأصحاب، لا لإمام المذهب، وهذا مألوف في المذهبين الشافعي والحنبلي.
4 ً - مجتهد الترجيح: وهو الذي يتمكن من ترجيح قول لإمام المذهب على قول آخر، أو الترجيح بين ماقاله الإمام وماقاله تلاميذه أو غيره من الأئمة، فشأنه تفضيل بعض الروايات على بعض، مثل القدوري والمرغيناني صاحب الهداية من الحنفية، والعلامة خليل من المالكية، والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي علاء الدين المرداوي منقح مذهب الحنابلة، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني البغدادي (510هـ) المجتهد في مذهب الحنابلة.
5 ً - مجتهد الفتيا: وهو أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ويميز بين الأقوى والقوي والضعيف، والراجح والمرجوح، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين، مثل صاحب الكنز، وصاحب الدر المختار، وصاحب الوقاية، وصاحب مجمع الأنهر من الحنفية، والرملي وابن حجر من الشافعية.
6 ً - طبقة المقلدين: الذين لايقدرون على ماذكر من التمييز بين القوي وغيره، ولايفرقون بين الغث والسمين.
- هذا ولم يفرق الجمهور بين المجتهد المقيد، ومجتهد التخريج، وجعل ابن عابدين طبقة مجتهد التخريج مرتبة رابعة بعد المجتهد المقيد، ومثل له بالرازي الجصاص (المتوفى سنة 370هـ) وأمثاله.(1/46)
- مراتب كتب الفقه الحنفي: رتب الحنفية كتب الفقه عندهم، ومسائل علمائهم على طبقات ثلاث (1) :
1 - مسائل الأصول، وتسمى ظاهر الرواية: وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب، وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ويلحق بهم زفر والحسن ابن زياد وغيرهما من تلاميذ الإمام، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة (الإمام وصاحبيه) .
- وكتب ظاهر الرواية للإمام محمد: هي الكتب الستة المعتمدة المروية عن محمد برواية الثقات، بالتواتر أو الشهرة، وهي المبسوط (2) ، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير، والسير الصغير. وسميت بظاهر الرواية؛ لأنها رويت عن محمد برواية الثقات. وقد جمعت هذه الكتب الستة في مختصر الكافي لأبي الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد، المتوفى عام-
2 - مسائل النوادر: وهي المروية عن أصحاب المذهب المذكورين، لافي الكتب المذكورة، بل إما في كتب أخر لمحمد، كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات، والرِّقيات، والمخارج في الحيل، وزيادة الزيادات رواية ابن رستم، وهي أمالي محمد في الفقه، ويقال لها: غير ظاهر الرواية؛ لأنها لم ترو عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى.
- وإما في كتب لغير محمد، كالمحرَّر للحسن بن زياد وغيره، وكتب الأمالي المروية عن أبي يوسف.
- والأمالي جمع إملاء: وهو مايقوله العالم بما فتح الله تعالى عليه من ظهر قلبه، ويكتبه التلامذة، وكان ذلك عادة السلف.
- وإما برواية مفردة كرواية ابن سماعة، والمعلى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة.
------------------------------
(1) حاشية ابن عابدين: 64/1، رسم المفتي: ص 16 ومابعدها.
(2) ويعرف بالأصل، وهو أطول وأهم كتب محمد. 344هـ، ثم شرحه السرخسي في كتاب المبسوط في ثلاثين جزءاً وهو كتاب معتمد في نقل المذهب.(1/47)
- 3 - الواقعات والفتاوى: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهم كثيرون.
- فمن أصحابهما مثل: عصام بن يوسف، وابن رستم، ومحمد بن سماعة، وأبي سليمان الجرجاني، وأبي حفص البخاري.
- وأما من بعدهم فمثل: محمد بن سلمة، ومحمد بن مقاتل، ونصر بن يحيى، وأبي النصر القاسم بن سلام، وقد يخالفون أصل المذهب لدلائل ظهرت لهم. وأول كتاب جمع الفتاوى: كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندي. ثم جمع المشايخ بعده كتباً أُخَر، كمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد ابن مسعود.
- ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة، كما في فتاوى قاضيخان، والخلاصة وغيرهما. وميز بعضهم، كما في المحيط لرضا الدين السرخسي، فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم الفتاوى.
- وأشهر من امتاز بتدوين ورواية الفقه الحنفي بعد محمد وأبي يوسف هم: عيسى بن أبان (المتوفى سنة 220هـ) ، ومحمد بن سماعة (المتوفى سنة 233هـ) وهلال بن يحيى الرأي البصري (المتوفى سنة 245هـ) ، وأحمد بن عمر بن مهير الخصاف (المتوفى سنة 261هـ) ، وأحمد بن محمد بن سلامة، أبو جعفر الطحاوي (المتوفى سنة 321هـ) .
- المطلب الرابع ـ اصطلاحات الفقه والمؤلفين فيه:
- للفقهاء كغيرهم في مختلف العلوم اصطلاحات (1) معينة شائعة، تتردد في كثير من المناسبات الفقهية، كما أن هناك اصطلاحات في كتب المذاهب، تبين طريق الأخذ بالقول الراجح في المذهب، وهي المعروفة بـ:
- رسم المفتي: أي العلامة التي تدل المفتي على مايفتي به، وللعلامة ابن عابدين رسالة باسم (رسم المفتي) وهي الرسالة الثانية من رسائله المشهورة.
__________
-
(1) الاصطلاح: هو إطلاق لفظ على معنى معين بين فئة من العلماء، كإرادة هيئة مخصوصة بأقوال وأفعال معينة من لفظ (الصلاة) مع أنها في اللغة هي الدعاء.(1/48)
أولاً ـ المصطلحات الفقهية العامة:
- هناك مصطلحات فقهية أو أصولية عامة، هي الفرض، الواجب، المندوب، الحرام، المكروه تحريماً، المكروه تنزيهاً، المباح، وهي أنواع الحكم التكليفي (1) عند الأصوليين من الحنفية، ويلحق بالواجب: الأداء والقضاء والإعادة. والركن والشرط، والسبب، والمانع، والصحيح، والفاسد، والعزيمة، والرخصة، وهي أنواع الحكم الوضعي (2) عند الأصوليين.
1 - الفرض: هو ماطلب الشرع فعله طلباً جازماً بدليل قطعي لاشبهة فيه، كأركان الإسلام الخمسة التي ثبتت بالقرآن الكريم، والثابت بالسنة المتواترة أو المشهورة كقراءة القرآن في الصلاة، والثابت بالإجماع كحرمة بيع المطعومات الأربعة (القمح والشعير والتمر والملح) ببعضها نسيئة (3) . وحكمه: لزوم الإتيان به، مع ثواب فاعله، وعقاب تاركه، ويكفر منكره.
2 - الواجب: ماطلب الشرع فعله جازماً، بدليل ظني فيه شبهة، كصدقة الفطر، وصلاة الوتر والعيدين، لثبوت إيجابه بدليل ظني، وهو خبر الواحد عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وحكمه كالفرض، إلا أنه لايكفر منكره.
- والفرض والواجب مترادفان بمعنى واحد عند الجمهور غير الحنفية: وهو ماطلب الشرع فعله طلباً جازماً.
__________
-
(1) الحكم التكليفي: هو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفه عن فعل، أو تخييره بين الفعل والترك. وسمي تكليفياً؛ لأنه يتضمن التكليف (المطالبة) بفعل أو ترك فعل أو تخيير بينهما.
(2) الحكم الوضعي: هو مااقتضى وضع شيء سبباً لشيء أو شرطاً له أو مانعاً منه، أو صحيحاً أو فاسداً أو عزيمة أو رخصة. وسمي وضعياً؛ لأنه يقتضي وضع أمور ترتبط بالأخرى، كالأسباب للمسببات، والشروط للمشروطات.
(3) مراتب الإجماع لابن حزم: ص 85.(1/49)
3 - المندوب أو السنة: هو ماطلب الشرع فعله من المكلف طلباً غير لازم، أو مايحمد فاعله، ولا يذم تاركه، مثل توثيق الدين بالكتابة (سند أو غيره) ، وحكمه: أنه يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، وقد يستحق اللوم والعتاب من الرسول صلّى الله عليه وسلم.
- ويسمى المندوب عند غير الحنفية سنة ونافلة ومستحباً وتطوعاً ومرغباً فيه، وإحساناً وحسناً. وقسم الحنفية المندوب: إلى مندوب مؤكد، كصلاة الجماعة، ومندوب مشروع، كصيام يومي الاثنين والخميس، ومندوب زائد كالاقتداء بأكل الرسول وشربه ومشيه ونومه ولبسه ونحو ذلك.
- واختار صاحب الدر المختار وابن عابدين رأي الجمهور، فقالا: لافرق بين المندوب والمستحب والنفل والتطوع، وتركه خلاف الأولى، وقد يلزم من تركه ثبوت الكراهة (1) .
4 - الحرام: هو ماطلب الشرع تركه على وجه الحتم والإلزام. وقال الحنفية: هو ماثبت طلب تركه بدليل قطعي لاشبهة فيه، مثل تحريم القتل وشرب الخمر والزنا والسرقة. وحكمه: وجوب اجتنابه، وعقوبة فاعله. ويسمى الحرام أيضاً معصية، وذنباً، وقبيحاً، ومزجوراً عنه، ومتوعداً عليه أي من الشرع. ويكفر منكر الحرام.
5 - المكروه تحريماً: وهو عند الحنفية: ماطلب تركه على وجه الحتم والإلزام بدليل ظني، كأخبار الآحاد، كالبيع على بيع الغير، والخطبة على الخطبة، ولبس الحرير والذهب للرجال. وحكمه: الثواب على تركه، والعقاب على فعله.
-
__________
- (1) حاشية ابن عابدين: 115/1. وإذا أطلق المكروه عند الحنفية يراد به المكروه تحريماً. والمكروه التحريمي عندهم إلى الحرام أقرب، ولكن لايكفر منكره.(1/50)
6 - المكروه تنزيهاً: وهو عند الحنفية: ماطلب الشرع تركه، طلباً غير جازم، ولا مشعر بالعقوبة، كأكل لحوم الخيل، للحاجة إليها في الماضي في الجهاد، والوضوء من سؤر الهرة وسباع الطير كالصقر والغراب، وترك السنن المؤكدة عموماً. وحكمه: ثواب تاركه، ولوم فاعله دون عقاب.
- والمكروه عند غير الحنفية نوع واحد: وهو ماطلب الشرع تركه لا على وجه الحتم والإلزام، وحكمه: أنه يمدح ويثاب تاركه، ولا يذم ولا يعاقب فاعله.
7 - المباح: هو ماخير الشرع المكلف بين فعله وتركه، كالأكل والشرب. والأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد حظر أو تحريم. وحكمه: أنه لاثواب ولاعتاب على فعله أو تركه، إلا إذا أدى الترك إلى خطر الهلاك، فيجب الأكل مثلاً ويحرم الترك، حفاظاً على النفس.
8 - السبب عند جمهور الأصوليين: هو ما يوجد عنده الحكم، لا به، سواء أكان مناسباً للحكم، أم لم يكن مناسباً، مثال المناسب: الإسكار سبب لتحريم الخمر؛ لأنه يؤدي إلى ضياع العقول، والسفر سبب لجواز الفطر في رمضان؛ لأنه يودي إلي التيسير ودفع المشقة. ومثال غير المناسب أي بحسب إدراكنا: دلوك (زوال) الشمس سبب لوجوب الظهر، في قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78/17] ، وعقولنا لا تدرك مناسبة ظاهرة بين السبب والحكم.
9 - الشرط والركن: الشرط: هو مايتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجاً عن حقيقته، فالوضوء شرط للصلاة خارج عنها، وحضور الشاهدين في عقد الزواج شرط له خارج عنه، وتعيين المبيع والثمن في عقد البيع شرط لصحته وليس جزءاً من العقد.
- والركن عند الحنفية: هو مايتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءاً من حقيقته أو ماهيته، فالركوع ركن في الصلاة؛ لأنه جزء منها، وكذا القراءة في الصلاة ركن؛ لأنها جزء من حقيقة الصلاة، والإيجاب والقبول في العقد ركن؛ لأنه جزء يتكون به العقد. والركن عند الجمهور: مايتوقف عليه أساساً وجود الشيء، وإن كان خارجاً عن ماهيته.(1/51)
10 - المانع: مايلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب. مثال الأول: الدَّين في باب الزكاة مانع من وجوبها عند الحنفية، ومثال الثاني: الأبوة مانع من القصاص.
11 - الصحة والفساد والبطلان:
- الصحة: موافقة أمر الشرع، والصحيح: هو ما استوفى أركانه وشروطه الشرعية. وصحة العبادة عند الفقهاء: وقوعها مسقطة لطلب الشرع، على وجه يسقط القضاء. وصحةالمعاملات: ترتيب آثارها الشرعية عليها، فالمراد من صحة العقد هو ترتيب أثره عليه، وهو ماشرع له، كحل الانتفاع في البيع، والاستمتاع في الزواج.
- والعبادات باتفاق العلماء: إما صحيحة، أو غير صحيحة، وغير الصحيح منها لافرق فيه بين الباطل والفاسد، فالقسمة ثنائية.
- أما المعاملات المدنية: فلا فرق فيها أيضاً عند غير الحنفية بين الفاسد والباطل، وعند الحنفية تكون القسمة ثلاثية؛ لأن العقد غير الصحيح إما باطل أو فاسد.
- وغير الصحيح: هو مالم يستوف أركانه وشروطه المطلوبة شرعاً.
- والباطل عند الحنفية: هو الذي يشتمل على خلل في أصل العقد أي في أساسه، ركنا ً كان أو غيره، أي في صيغة العقد، أو العاقدين، والمعقود عليه. ولايترتب عليه أي أثر شرعي، كأن يصدر البيع من مجنون أو صبي غير مميز (دون السابعة) .
- والفاسد عند الحنفية: هو ماكان الخلل فيه في وصف من أوصاف العقد، بأن كان في شرط من شروطه، لافي ماهيته أو ركنه. ويترتب عليه في المعاملات بعض الآثار، إذا توافر ركنه وعناصره الأساسية، مثل البيع بثمن مجهول، أو المقترن بشرط فاسد كانتفاع البائع بالمبيع بعد البيع مدة معلومة، والزواج بغير شهود. فيثبت الملك خبيثاً في البيع الفاسد إذا قبض المبيع، ويجب المهر، والعدة بعد الفراق، ويثبت النسب بالدخول في الزواج الفاسد.(1/52)
- وبه يظهر أن البطلان: هو مخالفة أمر الشرع المؤدية إلى عدم ترتب الآثار الشرعية المقصودة عادة من العبادة أو المعاملة. وهو في المعاملات: مخالفة التصرف لنظامه الشرعي في ناحية جوهرية. والناحية الجوهرية: هي الأساسية.
- والفساد: هو اختلال في العقد المخالف لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة يجعله مستحقاً للفسخ. وهو يجعل العقد في مرتبة متوسطة بين الصحة والبطلان، فلا هوبالباطل غير المنعقد لتوافر الناحية الجوهرية أو الأساسية المطلوبة شرعاً فيه، ولاهو بالصحيح التام الاعتبار، لوجود خلل في ناحية فرعية فقط غير جوهرية. وأسباب الفساد أربعة هي: الجهالة، والغرر (الاحتمال) ، والإكراه (1) ، والشرط الممنوع المفسد.
12 - الأداء والقضاء والإعادة:
- هذه الأمور تبحث عادة مع الواجب الموسع: وهو الذي يتسع وقته له ولغيره من جنسه، كأوقات الصلوات المفروضة، فإن كل وقت يسع الفريضة صاحبة الوقت، وأداء صلاة أخرى.
- والأداء: هو فعل الواجب في الوقت المقدر له شرعاً.
- والإعادة: فعل الواجب ثانياً في الوقت، كإعادة الصلاة مع الجماعة.
- والقضاء: فعل الواجب بعد انتهاء الوقت. وقضاء الصلاة المفروضة أمر واجب، لما رواه أنس في الصحيحين أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ويقاس على الناسي والنائم من باب أولى: تارك الصلاة كسلاً، أو عمداً بغير عذر مشروع؛ لاستقرار وجوب الصلاة ديناً في الذمة، ولاتبرأ الذمة إلا بفعل الواجب.
- ثانياً ـ المصطلحات الخاصة بالمذاهب:
- هناك مصطلحات مكررة في كل مذهب، دعا إليها إيثار الاختصار، وملل التكرار، وضرورة معرفة المعتمد الراجح من بين الأقوال وهي مايلي:
__________
-
(1) الجهالة أربعة أنواع: إما في المعقود عليه، أو في العوض، أو في الأجل، أو في وسائل التوثيق المشروطة في العقد، كالرهن والكفالة.
والغرر: أن يعتمد التعاقد على أمر موهوم غير موثوق، وهو نوعان: إما في أصل المعقود عليه، كبيع الحمل في بطن أمه، وإما في أوصاف العقد الفرعية ومقاديره، كادعاء مقدار معين لحليب شاة.
والإكراه: حمل الغير على أن يفعل مالا يرضاه ولايختار مباشرته، لو خلي ونفسه (راجع المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف: 371 - 376) .(1/53)
مصطلحات المذهب الحنفي:
أـ ظاهر الرواية: يراد به في الغالب الشائع ـ كما عرفنا ـ القول الراجح لأئمة الحنفية الثلاثة (أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد) .
ب ـ الإمام: هو أبو حنيفة، والشيخان: هما أبو حنيفة وأبو يوسف، والطرفان: هما أبو حنيفة ومحمد، والصاحبان: هما أبو يوسف ومحمد. والثاني: هو أبو يوسف. والثالث: هو محمد، ولفظ (له) أي لأبي حنيفة، ولفظ (لهما) أو (عندهما) أو (مذهبهما) أي مذهب الصاحبين، وإذا قالوا: أصحابنا، فالمشهور إطلاق ذلك على الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة وصاحبيه، وأما المشايخ: فالمراد بهم في الاصطلاح: من لم يدرك الإمام.
جـ ـ يفتي قطعاً بم ااتفق عليه أبو حنيفة وأصحابه في الروايات الظاهرة، فإن اختلفوا: فإنه يفتى بقول الإمام أبي حنيفة على الإطلاق، وخصوصاً في العبادات، ولا يرجح قول صاحبيه أو أحدهما إلا لموجب: وهو ـ كما قال ابن نجيم ـ إما ضعف دليل الإمام، وإما للضرورة والتعامل، كترجيح قولهما في المزارعة والمساقاة (المعاملة) وإما بسبب اختلاف العصر والزمان.
ويفتى بقول أبي يوسف في القضاء والشهادات والمواريث، لزيادة تجربته. كما يفتى بقول محمد في جميع مسائل ذوي الأرحام، ويفتى بقول زفر في سبع عشرة مسألة (1) .
د ـ إذا لم يوجد رواية للإمام في المسألة: يفتى بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد، ثم بقول زفر، والحسن بن زياد.
__________
(1) انظر رد المحتار لابن عابدين: 65/1 -70، 315/4، رسالة المفتي في مجموع رسائل ابن عابدين: 35/1 - 40.(1/54)
هـ ـ إذا كان في مسألة قياس واستحسان، فالعمل على الاستحسان إلا في مسائل معدودة مشهورة، هي اثنتان وعشرون مسألة (1) .
وإذا لم تذكر المسألة في ظاهر الرواية، وثبتت في رواية أخرى، تعين المصير إليها.
وإذا اختلفت الروايات عن الإمام، أو لم يوجد عنه ولا عن أصحابه رواية أصلاً، يؤخذ في الحالة الأولى بأقواها حجة، ويؤخذ في الحالة الثانية بما اتفق عليه المشايخ المتأخرون، فإن اختلفوا يؤخذ بقول الأكثرين، فإن لم يوجد منهم قول أصلاً، نظر المفتي في المسألة نظرة تأمل وتدبر واجتهاد، ليجد فيها مايقرب من الخروج عن العهدة، ولايتكلم فيها جزافاً، ويخشى الله تعالى ويراقبه، لأن الجرأة على الفتيا بدون دليل أمر عظيم لايتجاسر عليه إلا كل جاهل شقي.
وـ إذا تعارض التصحيح والفتوى، فقيل: الصحيح كذا، والمفتى به كذا، فالأولى العمل بما وافق المتون، فإن لم توجد موافقة لها، فيؤخذ بالمفتى به؛ لأن لفظ الفتوى آكد (أقوى) من لفظ الصحيح والأصح والأشبه وغيرها. وإذا ورد في المسألة قولان مصححان جاز القضاء والإفتاء بأحدهما. ويرجح أحدهما بما هو أوفق للزمن أو العرف أو أنفع للوقف أو للفقراء، أو كان دليله أوضح وأظهر؛ لأن الترجيح بقوة الدليل.
ولفظ: (به يفتى) آكد من لفظ «الفتوى عليه» ؛ لأن الأول يفيد الحصر.
ولفظ (الأصح) آكد من (الصحيح) و (الأحوط) آكد من (الاحتياط) .
ز ـ المراد بكلمة «المتون» : أي متون الحنفية المعتبرة، مثل كتاب مختصر القدوري، والبداية، والنقاية، والمختار، والوقاية، والكنز، والملتقى فإنها وضعت لنقل ظاهر الرواية والأقوال المعتمدة.
__________
(1) رسم المفتي: ص 35،40.(1/55)
ح ـ لايجوز العمل بالضعيف من الرواية، ولو في حق نفسه، بدون فرق بين المفتي والقاضي، إلا أن المفتي مخبر عن الحكم الشرعي، والقاضي ملزم به. وصح عن أبي حنيفة أنه قال: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» ، ونقل مثل ذلك غيره من أئمة المذاهب (1) . لكن يجوز الإفتاء بالقول الضعيف للضرورة تيسيراً على الناس.
ط ـ الحكم الملفق عند الحنفية باطل، كما أن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل، على ماهو المختار في المذهب، فمن صلى ظهراً بمسح الرأس مقلداً للحنفي، فليس له إبطال صلاته باعتقاده لزوم مسح كل الرأس مقلداً للمالكي.
وأجاز بعض الحنفية التقليد بعد العمل، كما إذا صلى ظاناً صحة صلاته على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه، وصحتها على مذهب غيره فله تقليده، ويجتزئ بتلك الصلاة، على ماقال في الفتاوى البزازية: روي عن أبي يوسف أنه صلى الجمعة مغتسلاً من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: «إذا بلغ الماء قُلَّتين (270 ليتراً أو 15 تنكة) ، لم يحمل خبثاً» .
ي ـ أجاز بعض الحنفية: أن المقلد إذا قضى بمذهب غيره، أو برواية ضعيفة، أو بقول ضعيف، نفذ، وليس لغيره نقضه.
ك ـ تعتبر حاشية ابن عابدين (1252هـ) علامة الشام وهي (رد المحتار على الدر المختار) خاتمة التحقيقات والترجيحات في المذهب الحنفي.
__________
(1) انظر الميزان للشعراني: 54/1 - 63، أعلام الموقعين: 260/2 - 274، ط محي الدين عبد الحميد.(1/56)
مصطلحات المذهب المالكي:
المذهب المالكي كغيره من المذاهب يتميز بكثرة الأقوال، مراعاة لمصالح الناس وأعرافهم المختلفة.
والمفتي يفتي بالراجح الذي يكون صالحاً في موضوع المسألة. وغير المفتي الذي لم يستكمل شروط الاجتهاد يأخذ بالمتفق عليه، أو المشهور من المذهب، أو ما رجحه الأقدمون، فإن لم يعرف أرجحية قول، قيل كما ذكر الشيخ عليش (1299هـ) : إنه يأخذ بالقول الأشد؛ لأنه أحوط، وقيل: يختار أخف الأقوال وأيسرها، لأن ذلك أليق بالشرع الإسلامي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جاء بالحنيفية السمحة، وقيل: إنه يتخير، فيأخذ بأيها شاء؛ لأنه لاتكليف إلا بما يطاق (1) .
أـ رتب بعض المالكية الترجيح بين روايات الكتب، والروايات عن المشايخ، فقال: قول مالك في المدونة أولى من قول ابن القاسم فيها، فإنه الإمام الأعظم، وقول ابن القاسم فيها أولى من قول غيره فيها، لأنه أعلم بمذهب مالك، وقول غيره فيها أولى من قول ابن القاسم في غيرها، وذلك لصحتها. وإذا لم يذكر قول في المدونة، فإنه يرجع إلى أقوال المخرجين.
ب ـ إذا قيل: (المذهب) يراد به مذهب مالك، وإذا قيل: (المشهور) فيعني مشهور مذهب مالك، وفي ذلك إشعار بخلاف في المذهب.
والمعتمد أن المراد (بالمشهور) : ماكثر قائله.
جـ ـ إذا قيل: «قيل كذا» أو «اختلف في كذا» أو «في كذا قولان فأكثر» أي أن هناك اختلافاً في المذهب.
د ـ إذا ذكر (روايتان) أي عن مالك. وقد جرى مؤلفو الكتب عند المالكية على أن الفتوى تكون بالقول المشهور، أو الراجح من المذهب. وأما القول الشاذ والمرجوح أي الضعيف فلا يفتى بهما، ولا يجوز العمل به في خاصة النفس، بل يقدم العمل بقول الغير عليه؛ لأن قول الغير، قوي في مذهبه (2) .
هـ ـ في التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع: وهو طريقة المصريين، والجواز: وهو طريق المغاربة، ورجحت، وقال الدسوقي قائلاً عن مشايخه: إن الصحيح جوازه، وهو فسحة (3) .
__________
(1) كتاب مالك لأبي زهرة: ص 457 وما بعدها.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 20/1
(3) المرجع والمكان السابق.(1/57)
وـ يعتبر متن العلامة الشيخ خليل (767هـ) ومدرسته من الشراح الكثيرين الذين شرحوه هو المعتمد عند المالكية، في تحرير الأقوال والروايات، وبيان الراجح منها (1) .
مصطلحات المذهب الشافعي:
نقل عن الشافعي في بضع عشرة مسألة قولان فأكثر، كما في خيار الرؤية الذي ذكر فيه قول بجوازه وقول بمنعه رجع فيه عن الأول، وكما في وجوب الزكاة على المدين بدين مساو لما في يده، وكما في إقرار المفلس بدين له لآخر، هل يدخل المقر له مع الغرماء أم لا، وكما في تغرير الزوج بزوجته، بأن يذكر لها نسباً غير نسبه، هل لها الخيار بفسخ الزواج، أو أن الزواج باطل، ونحو ذلك، مما جعل بعض المغرضين يتخذون من تعدد أقوال الشافعي سبيلاً للنيل منه، والطعن في اجتهاده، وزعم نقص علمه.
__________
(1) تجوز الأجرة على الفتيا عند المالكية إن لم تتعين.(1/58)
والحق أن التردد بين القولين عند تعارض الأقيسة، وتصادم الأدلة، ليس دليل النقص، ولكنه دليل الكمال في العقل، فهو لايهجم باليقين في مقام الظن، ودليل على كمال الإخلاص في طلب الحق والقصد، فهو لايجزم بالحكم إلا إذا توافرت لديه أسباب الترجيح، وإن لم تتوافر الأسباب لذلك، ألقى بتردده (1) .
وعلى المفتي إذا وجد قولين للشافعي أن يختار مارجحه المخرجون السابقون (2) ، وإلا توقف كما يقول النووي. وإذا كانت المسألة ذات أوجه للمجتهدين من أصحاب الشافعي أو طرق نقل مختلفة، فيأخذ المفتي بما رجحه المجتهدون السابقون: وهو ماصححه الأكثر، ثم الأعلم، ثم الأورع، فإن لم يجد ترجيحاً، يقدم مارواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي (3) ويعتبر الشيخ أبو زكريا، يحيى بن شرف النووي (676هـ) بحق مُحرِّر المذهب الشافعي أي منقحه، ومبين الراجح من الأقوال فيه، وذلك في كتابه (منهاج الطالبين، وعمدة المفتين) ، وهو المعتمد لدى الشافعية، حتى بالنسبة لبعض كتب النووي الأخرى كالروضة، وقد اعتمد في تأليفه على مختصر (المحرّر) للإمام أبي القاسم الرافعي (المتوفى سنة 623هـ) ، ثم اختصر الشيخ زكريا الأنصاري المنهاج إلى المنهج. والفتوى على ماقاله النووي في المنهاج وما ذكره الشارح في نهاية المحتاج للرملي، وتحفة المحتاج لا بن حجر، ثم ماذكره الشيخ زكريا.
__________
(1) الشافعي لأبي زهرة: ص (172 - 175) .
(2) ويرجح المجتهدون ما رجحه الشافعي هو، فإن لم يكن له ترجيح رجحوا المتأخر على المتقدم، فإن لم يعرف التأخر، وذلك نادر رجحوا أقربها إلى أصوله.
(3) الشافعي: (ص 368 وما بعدها) .(1/59)
وهذه طريقة النووي في حكاية الأقوال وبيان الأوجه المخرجة للأصحاب، وكيفية الترجيح بينها، علماً بأنه يسمي آراء الشافعي أقوالاً، وآراء أصحابه أوجهاً، واختلاف رواة المذهب في حكاية مذهب الشافعي طرقاً، فالاختلافات ثلاثة: الأقوال: وهي المنسوبة للشافعي، والأوجه: وهي الآراء التي يستنبطها فقهاء الشافعية بناء على قواعده وأصوله، والطرق: وهي اختلاف الرواة في حكاية المذهب (1) .
أـ (الأظهر) : أي من قولين أو أقوال للشافعي رحمه الله تعالى، قوي الخلاف فيهما أو فيها، ومقابله (ظاهر) لقوة مدرك كلٍ (2) .
ب ـ (المشهور) : أي من قولين أو أقوال للشافعي لم يقو الخلاف فيهما أو فيها، ومقابله (غريب) لضعف مدركه.
فكل من الأظهر والمشهور: من قولين للشافعي.
جـ ـ (الأصح) : أي من وجهين أو أوجه استخرجها الأصحاب من كلام الشافعي، بناء على أصوله، أو استنبطوهامن قواعده، وقد قوي الخلاف فيما ذكر، ومقابله صحيح.
د ـ (الصحيح) : أي من وجهين أو أوجه، ولكن لم يقو الخلاف بين الأصحاب، ومقابله ضعيف لفساد مدركه.
فكل من الأصح والصحيح: من وجهين أو أوجه للأصحاب.
__________
(1) الشافعي: ص 361، الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية: ص35 وما بعدها.
(2) انظر في هذا وما يأتي مقدمة كتاب المنهاج للنووي.(1/60)
هـ ـ (المذهب) من الطريقتين أو الطرق: وهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، كأن يحكي بعضهم في المسألة قولين، أو وجهين لمن تقدم، ويقطع بعضهم بأحدهما، وعلى كل قد يكون قول القطع هو الراجح، وقد يكون غيره. ومدلول هذا التعبير (المذهب) : أن المفتى به هو ماعبر عنه بالمذهب.
وـ (النص) أي نص الشافعي، ومقابله وجه ضعيف أو مخرَّج (1) ، وعلى كل قد يكون الإفتاء بغير النص.
ز ـ (الجديد) : هو مقابل المذهب القديم، والجديد: هو ماقاله الشافعي في مصر تصنيفاً أو إفتاء، ورواته: البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى، وعبد الله بن الزبير المكي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيرهم. والثلاثة الأول: هم الذين قاموا بالعبء، والباقون نقلت عنهم أمور محصورة.
ح ـ (القديم) : ماقاله الشافعي في العراق تصنيفاً في كتابه (الحجة) أو أفتى به. ورواته جماعة أشهرهم: الإمام أحمد بن حنبل، والزعفراني والكرابيسي، وأبو ثور. وقد رجع الشافعي عنه، ولم يحل الشافعي الإفتاء به، وأفتى الأصحاب به في نحو سبع عشرة مسألة.
وأما ماوجد بين مصر والعراق، فالمتأخر جديد، والمتقدم قديم.
وإذا كان في المسألة: قديم وجديد، فالجديد هو المعمول به، إلا في مسائل يسيرة نحو السبع عشرة، أفتي فيها بالقديم (2) .
ط ـ (قولا الجديد) : يعمل بآخرهما إن علم، فإن لم يعلم، وعمل الشافعي بأحدهما، كان إبطالاً للآخر أو ترجيحاً لما عمل به.
وكلمة (قيل) تعني وجود وجه ضعيف، والصحيح أو الأصح خلافه.
و (الشيخان) هما الرافعي والنووي.
ي ـ قال ابن حجر: ولايجوز العمل بالضعيف في المذهب، ويمتنع التلفيق في مسألة، كأن قلد مالكاً في طهارة الكلب، والشافعي في مسح بعض الرأس في صلاة واحدة، وأما في مسألة بتمامها بجميع معتبراتها فيجوز، ولو بعد العمل، كأن أدى عبادته صحيحة عند بعض الأربعة دون غيره، فله تقليده فيها، حتى لايلزمه قضاؤها، ويجوز الانتقال من مذهب لغيره، ولو بعد العمل (3) .
__________
(1) التخريج: أن يجيب الشافعي بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين، ولم يظهر مايصلح للفرق بينهما، فينقل الأصحاب جواب الشافعي في كل صورة إلى الأخرى، فيحصل في كل صورة منهما قولان: منصوص ومخرج، المنصوص في مسألة مخرج في الأخرى، والمنصوص في الأخرى مخرج في الأولى، فيقال: فيهما قولان بالنقل والتخريج، والأصح أن القول المخرّج لا ينسب للشافعي؛ لأنه ربما روجع فيه، فذكر فرقاً.
(2) أوصل الشافعية هذه المسائل إلى اثنتين وعشرين مسألة، مثل عدم مضي وقت المغرب بمضي خمس ركعات (انظر بجيرمي الخطيب: 48/1) .
(3) بجيرمي الخطيب: 51/1.(1/61)
مصطلحات المذهب الحنبلي:
كثرت الأقوال والروايات في مذهب أحمد كثرة عظيمة، إما بسبب اطلاعه على الحديث بعد الإفتاء بالرأي، أو بسبب اختلاف الصحابة على رأيين في المسألة، أو لمراعاته الظروف والملابسات في الوقائع المستفتى فيها.
وقد اختلف علماء المذهب في طرق الترجيح بين الأقوال والروايات على فريقين:
أحدهما ـ الاهتمام بنقل الأقوال، لأن ذلك دليل كمال في الدين.
والثاني ـ الميل إلى توحيد رأي الإمام، بالترجيح بالتاريخ إن علم تاريخ القولين، أو بالموازنة بين القولين، والأخذ بأقواهما دليلاً، وأقربهما إلى منطق
الإمام وقواعد مذهبه، فإن تعذر الترجيح كان في المذهب قولان، عند الاضطرار إليه، ويخير المقلد بينهما في الأظهر، لأن الأصل في المجتهد أن يكون له رأي واحد في اجتهاده، وإن لم يكن له رأي واحد في المسألة، لا يكون له اجتهاد فيها (1) .
والقول الواحد الذي يذكره المؤلفون: هو ما رجحه أهل الترجيح من أئمة المذهب، كالقاضي علاء الدين، علي بن سليمان السعدي المرداوي، المجتهد في تصحيح المذهب، في كتبه الإنصاف، وتصحيح الفروع، والتنقيح (2) .
أـ إذا أطلقت كلمة (الشيخ) أو (شيخ الإسلام) عند المتأخرين من علماء الحنابلة: فيراد به أبو العباس، أحمد تقي الدين بن تيمية الحراني (661-728هـ) الذي كان له في رسائله وفتاويه واختياراته فضل في نشر مذهب أحمد، كما كان لتلميذه ابن القيم صاحب إعلام الموقعين (المتوفى عام 751) فضل أيضاً في ذلك.
ب ـ إذا أطلق المتأخرون قبل ابن تيمية كصاحب الفروع والفائق والاختيارات وغيرهم: (الشيخ) أرادوا به الشيخ العلامة موفق الدين أبا محمد عبد الله بن قدامة المقدسي (المتوفى سنة 620هـ) صاحب المغني والمقنع، والكافي والعمدة ومختصر الهداية في الفقه.
جـ ـ وإذا قيل (الشيخان) : فالموفق والمجد أي ابن قدامة الآنف الذكر، ومجد الدين أبو البركات (المتوفى سنة 652هـ) صاحب (المحرر في الفقه) على مذهب الإمام أحمد.
__________
(1) ابن حنبل لأبي زهرة: ص 189- 193، ومقدمة كشاف القناع: 19/1.
(2) كشاف القناع: 17/1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 204.(1/62)
د ـ وإذا قيل: (الشارح) فهو الشيخ شمس الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر المقدسي (682هـ) ، وهو ابن أخ الموفق وتلميذه، ومتى قال الحنابلة: قال في الشرح، كان المراد به هذا الكتاب، وقد استمد من المغني، واسمه: الشرح الكبير، أو (الشافي) شرح (المقنع) في عشر مجلدات أو (12) جزءاً، والكتب المعتمدة عند الحنابلة هي: المغني والشرح الكبير، وكشاف القناع لمنصور البُهُوتي، وشرح منتهى الإرادات للبُهُوتي. والعمل في الفتوى والقضاء في السعودية على كتابي البهوتي، وعلى شرح الزاد وشرح الدليل.
هـ ـ إذا أطلق (القاضي) فالمراد به القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء (المتوفى سنة 458هـ) .
وإذا أطلق (أبو بكر) يراد به المرُّوذي (274هـ) تلميذ الإمام أحمد.
وـ وإذا قيل: (وعنه) أي عن الإمام أحمد رحمه الله. وقولهم: (نصاً) معناه نسبته إلى الإمام أحمد.
وأخيراً أريد في هذا الكتاب بكلمة الجمهور: المذاهب الثلاثة، في مواجهة المذهب الرابع، ويعرف من هم الجمهور من تحديد المذهب المخالف المقابل لهم. وإذا قلت: اتفق الفقهاء، أردت أئمة المذاهب الأربعة دون التفات للآراء الشاذة.(1/63)
المطلب الخامس ـ أسباب اختلاف الفقهاء:
لاحظنا فيما سبق ظاهرة اختلاف المذاهب في تقرير الأحكام الشرعية، ليس فيما بين المذاهب فقط، وإنما في دائرة المذهب الواحد، وقد يستغرب الشخص العادي غير المتخصص في الدراسات الفقهية مثل هذا الاختلاف، لاعتقاده أن الدين واحد، والشرع واحد، والحق واحد لايتعدد، والمصدر واحد وهو الوحي الإلهي، فلماذا التعدد في الأقوال، ولم لايوحد بين المذاهب، فيؤخذ بقول واحد يسير عليه المسلمون، باعتبارهم أمة واحدة؟! وقد يتوهم أن اختلاف المذاهب اختلاف يؤدي إلى تناقض في الشرع، أو المصدر التشريعي، أو أنه اختلاف في العقيدة كاختلاف فرق غير المسلمين من أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، والعياذ بالله!!
وهذا كله وهم باطل، فإن اختلاف المذاهب الإسلامية رحمة ويسر بالأمة، وثروة تشريعية كبرى محل اعتزاز وفخار، واختلاف في مجرد الفروع والاجتهادات العملية المدنية الفقهية، لافي الأصول والمبادئ أو الاعتقاد، ولم نسمع في تاريخ الإسلام أن اختلاف المذاهب الفقهية أدى إلى نزاع أو صدام مسلح هدد وحدة المسلمين، أو ثبط همتهم في لقاء أعدائهم؛ لأنه اختلاف جزئي لايضر، أما الاختلاف في العقيدة فهو الذي يعيبها ويفرق بين أبنائها، ويمزق شملها، ويضعف كيانها، لهذا فإن العودة إلى العمل بالفقه الإسلامي، والاعتماد على تقنين موحد مستمد منه سبيل لتدعيم وحدة الأمة الإسلامية ونبذ خلافاتها.(1/64)
وبه يتبين أن اختلاف الفقهاء محصور فقط بين المأخوذ من مصادر الشريعة، بل هو ضرورة اجتهادية يمليها الاجتهاد نفسه في فهم الحكم من الأدلة الشرعية مباشرة، كما هو الشأن في تفسير نصوص القوانين، واختلاف الشراح فيما بينهم، وذلك إما بسبب طبيعة اللغة العربية المجملة أو المحتملة ألفاظها أحياناً أكثر من معنى واحد محدد، وإما بسبب رواية الحديث وطريق وصوله إلى المجتهد قوة وضعفاً، وإما بسبب التفاوت بين المجتهدين في كثرة أو قلة الاعتماد على مصدر تشريعي، أو لمراعاة المصالح والحاجات والأعراف المتجددة المتطورة. ومنبع الاختلاف: هو تفاوت الأفكار والعقول البشرية في فهم النصوص واستنباط الأحكام، وإدراك أسرار التشريع وعلل الأحكام الشرعية.
وذلك كله لاينافي وحدة المصدر التشريعي، وعدم وجود تناقض في الشرع نفسه، لأن الشرع لاتناقض فيه، وإنما الاختلاف بسبب عجز الإنسان، لكن يجوز العمل بأحد الآراء المختلفة، رفعاً للحرج عن الناس الذين لايجدون سبيلاً آخر بعد انقطاع الوحي إلا الأخذ بما غلب على ظن هذا المجتهد أو ذاك، مما فهمه من الأدلة الظنية، والظن مثار اختلاف الأفهام، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد» (1) .
أما الأدلة القطعية التي تدل على الحكم يقيناً وقطعاً بسبب قطعية ثبوتها وقطعيةدلالتها المستنبطة منها، كالقرآن والسنة المتواترة أو المشهورة (2) ، فلا مجال أصلاً لاختلاف الفقهاء في الأحكام المستفادة منها.
وأهم أسباب اختلاف الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الظنية هو مايأتي (3) :
__________
(1) متفق عليه من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة، ورواه بقية أصحاب الكتب الستة.
(2) السنة عند الحنفية أنواع ثلاثة: متواترة ومشهورة وآحاد، والمتواترة: هي مارواها عن الرسول جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك في العصور الثلاثة الأولى: عصر الصحابة والتابعين. والمشهورة: هي ما كان من الأخبار آحادياً في الأصل ثم انتشر في القرن الثاني بعد الصحابة. وسنة الآحاد: هي مارواها عن الرسول واحد أو اثنان فصاعداً دون المشهور والمتواتر من العصو ر الثلاثة الأولى.
(3) راجع بداية المجتهد لابن رشد الحفيد: 5/1 ومابعدها، حجة الله البالغة للدهلوي:
(115/1) وما بعدها، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، الباب الثالث والسادس، الباب الخامس والعشرون، والسادس والعشرون، الموافقات للشاطبي: (211/4 - 214) ، رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، أسباب اختلاف الفقهاء للشيخ علي الخفيف، مقارنة المذاهب في الفقه للشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد علي السايس، مالا يجوز فيه الخلاف للشيخ عبد الجليل عيسى، الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم لابن السيد البطليوسي.(1/65)
أولاً ـ اختلاف معاني الألفاظ العربية: إما بسبب كون اللفظ مجملاً، أو مشتركاً، أو متردداً بين العموم والخصوص، أو بين الحقيقة والمجاز، أو بين الحقيقة والعرف، أو بسبب إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة. أو بسبب اختلاف الإعراب، أو الاشتراك في الألفاظ إما في اللفظ المفرد: كلفظ القُرْء الذي يطلق على الأطهار وعلى الحيضات، ولفظ الأمر: هل يحمل على الوجوب أو على الندب، ولفظ النهي: هل يحمل على التحريم أو الكراهية؟
وإما في اللفظ المركب: مثل قوله تعالى بعد آية حد القذف: {إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10/35] ، اختلف في الفاعل، هل هو الكلم، أو العمل.
وإما في الأحوال العارضة، نحو: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} [البقرة:2/282] ، فإنه يحتمل لفظ (يضار) وقوع الضرر منهما أو عليهما.
ومثال التردد بين العموم والخصوص: {لا إكراه في الدين} [البقرة:2/256] ، هل هو خبر بمعنى النهي، أو هو خبر حقيقي؟.
والمجاز له أنواع: إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير.(1/66)
والتردد بين الإطلاق والتقييد: نحو إطلاق كلمة الرقبة في العتق في كفارة اليمين، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل الخطأ.
ثانياً - اختلاف الرواية: وله أسباب ثمانية، كأن يصل الحديث إلى أحدهم ولايصل إلى غيره، أو يصل من طريق ضعيف لايحتج به، ويصل إلى آخر من طريق صحيح، أو يصل من طريق واحد، ويرى أحدهم أن في بعض رواته ضعفاً لايعتقده غيره، أو لايراه مانعاً من قبول الرواية، وهذا مبني على الاختلاف في طريق التعديل والترجيح.
أو يصل إليهما من طريق متفق عليه، غير أن أحدهما يشترط في العمل به شروطاً لا يشترطها الآخر، كالحديث المرسل (وهو مارواه غير الصحابي بدون سند إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم) .
ثالثاً ـ اختلاف المصادر: وهناك أدلة اختلفوا في مدى الاعتماد عليها، كالاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي والاستصحاب، والذرائع ونحوها من دعوى البراءة أو الإباحة وعدمها.
رابعاً ـ اختلاف القواعد الأصولية أحياناً: كقاعدة العام المخصوص ليس بحجة، والمفهوم ليس بحجة، والزيادة على النص القرآني نسخ أم لا، ونحو ذلك.
خامساً ـ الاجتهاد بالقياس: هو أوسع الأسباب اختلافاً، فإن له أصلاً وشروطاً وعلة، وللعلة شروطاً ومسالك، وفي كل ذلك مجال للاختلاف، والاتفاق بالذات على أصل القياس ومايجري فيه الاجتهاد ومالايجري أمر يكاد يكون غير متحقق. كما أن تحقيق المناط (وهو التحقق من وجود العلة في الفرع) من أهم أسباب اختلاف الفقهاء.(1/67)
سادساً ـ التعارض والترجيح بين الأدلة: وهو باب واسع اختلفت فيه الأنظار وكثر فيه الجدل. وهويتناول دعوى التأويل والتعليل والجمع والتوفيق والنسخ وعدمه. والتعارض إما بين النصوص أو بين الأقيسة مع بعضها، والتعارض في السنة قد يكون في الأقوال أو في الأفعال، أو في الإقرارات، وقد يكون الاختلاف بسبب وصف تصرف الرسول سياسة أو إفتاء، ويزال التعارض بأسباب من أهمها الاحتكام إلى مقاصد الشريعة، وإن اختلفت النظرة إلى ترتيب المقاصد.
وبهذا يعلم أن اجتهادات أئمة المذاهب جزاهم الله خيراً لايمكن أن تمثل كلها (شرع الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلموإن كان يجوز أو يجب العمل بأحدها، والحق أن أكثرها مسائل اجتهادية وآراء ظنية تحترم وتقدر على السواء، ولايصح أن تكون ذريعة للعصبية والعداوة والفرقة الممقوتة بين المسلمين الموصوفين في قرآنهم بأنهم إخوة، والمأمورين بالاتفاق والاعتصام بحبل الله. وقد كان المجتهد من الصحابة يتحاشى أن يسمى اجتهاده: حكم الله أو شرع الله، وإنما كان يقول: هذا رأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريء. وكان مما يوصي به النبي صلّى الله عليه وسلم أمير الجيش أو السرية قوله: «وإذا حاصرت حصناً فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلاتنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لاتدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا» (1) .
وهو يدل على أن الأصح في قضية الإصابة والخطأ في الاجتهاد في الفروع الفقهية، هو مذهب المخطئة، وهم جمهور المسلمين، منهم الشافعية، والحنفية على التحقيق، الذين يقولون بأن المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين، وغيره مخطئ؛ لأن الحق لايتعدد. ويقولون أيضاً: إن الله تعالى في كل واقعة حكماً معيناً، فمن أصابه فهو المصيب، ومن أخطأه فهو المخطئ. لكن بالنظر إلى العمل بثمرة الاجتهاد، لاشك أن حكم كل مجتهد هو حكم الله، لتعذر معرفته بيقين.
وأخيراً تظل عقدة المسلمين الجاثمة فيهم في عصرنا هي العمل، العمل
بشريعتهم عقيدة وعبادة والتزاماً وتطبيقاً لأحكام الإسلام في العبادات والمعاملات والجنايات والعلاقات الخارجية على حد سواء.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن سليمان بن بريدة عن أبيه.(1/68)
المطلب السادس ـ الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب:
تمهيد:
إن عملية (التخير أو الانتقاء من آراء المذاهب الإسلامية) كانت هي الضوء الأخضر الذي أضاء الطريق أمام العاملين في العصر الحاضر لإنهاض الفكر الإسلامي، والقائمين فعلاً بوضع التشريعات أو التقنينات المستمدة من معين الفقه الإسلامي، تمشياً مع متطلبات التطور، وضغط الحاجات، ومراعاة مصالح الناس في كل زمان ومكان.
وقد استجاب المصلحون المخلصون من العلماء ـ غير المتشائمين والمتزمتين ـ من رجال الأزهر وجامعة الزيتونة في مصر وتونس وغيرهما من البلاد الإسلامية، إلى دواعي النهضة أوالحركة المطلوبة، فقاموا باختيار الحق أو الأفضل والأصلح من الآراء الفقهية المتعددة في المسألة الواحدة، لجعل (الفقه المختار) يتفق مع المصلحة العامة في هذا العصر، ذلك عملاً بالمبادئ أو الأسس التالية:
1 - الحق واحد لايتعدد، ودين الله واحد مستمد من معين واحد: هو الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، وبما أننا لانعرف الحق من آراء المجتهدين فنحن في حل من العمل ببعضها بحسب تقدير المصلحة.
2 - الإخلاص للشريعة والحفاظ على أحكامها وخلودها وبقائها عقيدة كل مسلم.
3 - مبدأ دفع الحرج أو خاصية اليسر والسماحة التي قامت عليها الشريعة من أبرز مقومات شرع الله الخالد.
4 - مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم المتجددة أمر يتفق مع روح الشريعة التي قامت ـ بالاستقراء والتتبع ـ على المصالح، فالمصلحة عماد التشريع، وحيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله ودينه، ولاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.(1/69)
5- لا إلزام في الشريعة بأحد اجتهادات أو أقوال الفقهاء، إذ لاواجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يعمل في دين الله عز وجل بغير كتاب الله وسنة رسوله ومايرجع إليهما.
6- لايجب ـ في الأصح الراجح ـ التزام مذهب فقهي معين، لأن ذلك مجرد تقليد (أي أخذ بقول الغير من غير معرفة دليله) وإيجاب التقليد تشريع شرع جديد، كما قال شارح مسلم الثبوت.
فلا مانع شرعاً من تقليد أئمة المذاهب والمجتهدين المشهورين والمغمورين، كما لامحذور في الشرع من التلفيق بين أقوال المذاهب عملاً بمبدأ اليسر في الدين لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185/2] ، ومن المعلوم أن أغلب الناس لامذهب لهم، وإنما مذهبهم مذهب مفتيهم، وهم حريصون على أن يكون عملهم شرعياً.
لكن في خضم هذا الاتجاه بالانتقاء من المذاهب، لابد من معرفة (الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب) وهو موضوع بحثنا، حتى لاينقلب الأمر فوضى، أو يصبح مجرد عمل بالرغبة المحضة والهوى الشخصي، بدون دليل شرعي، أو مسوغ مقبول، ولأن اختيار الأيسر نوع من الاجتهاد في تقديري.
خطة البحث:
بحث هذا الموضوع يقتضي مايلي:
الفرع الأول ـ ما المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها؟
الفرع الثاني ـ هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصولياً؟
الفرع الثالث ـ هل يجب على السائل المستفتي الترجيح بين العلماء وسؤال الراجح في نظره، أم له الاختيار وسؤال من شاء من المفتين؟
الفرع الرابع ـ ما آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص) وفي التلفيق بين المذاهب الإسلامية؟.
الفرع الخامس ـ ما الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب المستنبطة من جملة أقوال الأصوليين؟(1/70)
ويلاحظ أن الكلام عن المطالب الأربعة السابقة تقديم ضروري لبحث المطلب الأخير، لاعتماده على القواعد التي ذكرها الأصوليون فيها. ولايخفى مالهذا الموضوع من أهمية وفائدة ملموسة، سواء فيما يخص أكثرية المسلمين المستفتين فيما يحتاجونه بالفعل في نطاق العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، أو يهم رجال القانون والقضاء الذين يضعون القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي، أو يحتاج إليه علماء التدريس العام والخاص لاستئصال العصبية المذهبية التي تقوم على التقليد الأعمى، من دون مراعاة لما يوجبه رجحان دليل بعض الأقوال الفقهية من ضرورة الإسراع في اتباعها، وترك القول الآخر المرجوح، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(1/71)
الفرع الأول ـ المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها:
إن الثروة الفقهية الضخمة التي تنتظم كل الأحكام الكفيلة بحل مشكلات الناس، والتي خلفها لنا سلفنا الصالح، لاتقتصر على المذاهب الفقهية الأربعة (المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنبلية) وإنما تشمل كل المذاهب المعروفة، مااشتهر منها وماانقرض كمذهب الليث بن سعد، والأوزاعي وابن جرير الطبري وداود الظاهري والثوري، ومذاهب أهل السنة والشيعة الإمامية والزيدية، والإباضية والظاهرية، وآراء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فقد نجد فيها مايؤدي لنا فائدة كبرى في نهضتنا المرجوة، لأن ذلك أولى من أخذ أحكام غير شرعية ذات مصدر غربي أو شرقي، ودين الله يسر لاعسر، ولاحرج في دين الله. وتحقيق المصالح والحاجات أمر مطلوب شرعاً. وعلى هذا فإن المشرع واضع القوانين لاحرج عليه في الاختيار من كل هذه الآراء والمذاهب الاجتهادية. وأما القاضي فأرى أن يتقيد بما هو مقرر في المذاهب الأربعة عملاً بالعرف العام الشائع، ومن المعلوم أن هذا العرف يخصص النص. وأكاد أجزم أن المشرع حينما أحال إلى المشهور من أيسر المذاهب قصد المذاهب المعمول بها غالباً في الدول الإسلامية. والمذاهب: هي آراء المجتهدين.
ومما يدل على سلامة اتجاه المشرع القانوني أن جمهور المسلمين يرون ترجيح نظرية (المخطئة) القائلين بأن الحق واحد لايتعدد، وأن المجتهد المصيب في اجتهاده هو واحد، وغيره هو المخطئ، ولكن لاإثم عليه في الخطأ، لأنه مكلف بالعمل بما أداه إليه اجتهاده، وبما غلب على ظنه،(1/72)
فقالوا: «الصواب الذي لاصواب غيره أن دين الله واحد، وهو ماأنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله، وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد، وقبلته واحدة، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده، لا على خطئه» (1) وهذا هو الصحيح عند الأئمة الأربعة (2) .
فالواجب أولاً طلب مافيه الحق والصواب أو المصلحة من الأقوال الفقهية الثابتة النسبة لأصحابها، ويترك منها ماهو شاذ مخالف للمصادر والأصول الشرعية، فقد أمر الله مثلاً باتباع الصحابة والتابعين (3) ، فقال الله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، ذلك الفوز العظيم} [التوبة:100/9] ، وقد قال الشافعي في الصحابة: «رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» (4) وقال العز بن عبد السلام: إن المدار على ثبوت المذهب عند المقلِّد (5) ، وغلبة الظن على صحته، فحيث ثبت عنده مذهب من المذاهب صح له أن يقلده، ولو كان صاحب المذهب من غير الأئمة الأربعة. وقال العراقي: انعقد الإجماع على أن من أسلم، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل (6) .
وبهذا يتبين أن لادليل على إلزام الناس بمذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، فهم وغيرهم سواء، ويصح تقليد غير الأربعة إذا صحت نسبته لصاحبه، كما أبان العز بن عبد السلام.
__________
(1) أعلام الموقعين: 211/2، ط عبد الحميد.
(2) مسلم الثبوت: 330/2، ط الكردي بمصر.
(3) أعلام الموقعين: 123/4.
(4) أعلام الموقعين: 186/2.
(5) المقلد: هو من يأخذ بقول الغير من غير معرفة دليله.
(6) مسلم الثبوت: 357/2 حاشية، ط الكردي.(1/73)
الفرع الثاني ـ هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصولياً؟
انقسم الأصوليون في هذه المسألة على آراء ثلاثة:
1 - فقال بعضهم: يجب التزام مذهب إمام معين، لأنه اعتقد أنه حق، فيجب عليه العمل بمقتضى اعتقاده.
2- وقال أكثر العلماء: لايجب تقليد إمام معين في كل المسائل والحوادث التي تعرض، بل يجوز أن يقلد أي مجتهد شاء، فلو التزم مذهباً معيناً كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما، لايلزمه الاستمرار عليه، بل يجوز له الانتقال منه إلى مذهب آخر، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ولا رسوله على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، وإنما أوجب الله تعالى اتباع العلماء من غير تخصيص بواحد دون آخر، فقال عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} [الأنبياء:7/21] ، ولأن المستفتين في عصر الصحابة والتابعين، لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون من تهيأ لهم دون تقيد بواحد دون آخر، فكان هذا إجماعاً منهم على عدم وجوب تقليد إمام، أو اتباع مذهب معين في كل المسائل.
ثم إن القول بالتزام مذهب ما، يؤدي إلى الحرج والضيق، مع أن المذاهب نعمة وفضيلة ورحمة للأمة.
وهذا القول هو الراجح عند علماء الأصول.
3 - وفصل الآمدي والكمال بن الهمام في المسألة فقال: إن عمل الشخص بما التزمه في بعض المسائل بمذهب معين، فلا يجوز له تقليد الغير فيها، وإن لم يعمل في بعضها الآخر جاز له اتباع غيره فيها، إذ إنه لم يوجد في الشرع مايوجب عليه اتباع ماالتزمه، وإنما أوجب الشرع عليه اتباع العلماء دون تخصيص عالم دون آخر (1) .
يتلخص من هذا أن القول الأصح الراجح عند علماء الأصول (2) : هو عدم ضرورة الالتزام بمذهب معين، وجواز مخالفة إمام المذهب، والأخذ بقول غيره، لأن التزام المذهب غير ملزم، كما بينا. وبناء عليه فلا مانع إطلاقاً من حيث المبدأ في العصر الحاضر من اختيار بعض الأحكام الشرعية المقررة لدى علماء المذاهب، دون تقيد بجملة المذهب أو بتفصيلاته.
__________
(1) راجع فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور:402/2، مسلم الثبوت: 355/2، شرح المحلي على جمع الجوامع: 328/2، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 3174، التقرير والتحبير: 344/3، شرح الإسنوي: 266/3، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: ص 193، ارشاد الفحول: ص 240، فتاوى الشيخ عليش: 60/1
(2) قال الشافعية: الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد التشهي، سواء انتقل دواماً أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه مالم يلزم منه التلفيق (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية للسيد علوي بن أحمد السقّاف: ص51، ط البابي الحلبي) .(1/74)
ويضاف لذلك أن الفقهاء قرروا جواز العمل بالقول الضعيف في المذهب عند الضرورة أو الحاجة، وهذه هي نصوصهم:
1 - للقاضي أن يلجأ إلى غير مذهبه للضرورة (فتوى عطاء بن حمزة) .
2 - للقاضي أن يعمل بغير المشهور من مذهبه إذا نص السلطان على ذلك (نص الدر المختار للحصكفي) .
3 - للقاضي أن يقضي بالقول المنصوص على فساده، ولا ينقض قضاؤه، لأنه مجتهد فيه، إلا إذا كان في مقابلة أخذ المال، أو للهوى والغرض (عبارة جامع الفصولين وتعليلها) .
4 - جواز العمل والإفتاء بالقول الضعيف في مواضع الضرورة (عبارة المعراج عن فخر الأئمة) .
5 - جواز العمل بالضعيف للشخص في خاصة نفسه، وللفتوى إذا تحقق المفتي الضرورة (عبارة الدسوقي المالكي) .
6 - منع التخيير إذا كان الغرض من الالتجاء إلى القول الضعيف الشهوة والغرض، اتباعاً للهوى وابتغاء حطام الدنيا (1) .
7 - إن خروج المقلد من العمل بالمشهور إلى العمل بالشاذ الذي فيه رخصة من غير تتبع للرخص صحيح عند كل من قال بعدم لزوم تقليد الأرجح، وهو قول الأكثر من الأصوليين. ويباح للمقلد أن يقلد من شاء من أقوال المجتهدين. وإن نقل الإجماع على منع ذلك غير صحيح (فتاوى الشيخ عليش: 61/1) .
__________
(1) الاجتهاد في الإسلام للشيخ الأستاذ محمد مصطفى المراغي: ص 36 - 39 نقلاً عن هذه الكتب، رسم المفتي لابن عابدين في حاشيته: 69/1.(1/75)
8 - وكذا يجوز الأخذ والعمل لنفسه بالأقوال والطرق والوجوه الضعيفة، إلا بمقابل الصحيح، فإن الغالب فيه أنه فاسد، ويجوز الإفتاء به للغير بمعنى الإرشاد (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية للسقاف: ص51) .
الفرع الثالث ـ هل يجب سؤال الأفضل والأرجح في العلم، أو يصح سؤال من تيسر؟
عبارة الأصوليين المشهورة في هذه المسألة هي: هل يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل؟
للعلماء رأيان في ذلك (1) .
1 - قال جماعة (وهو مذهب أحمد في رواية عنه وابن سريج والقفال الشافعيين، وأبي إسحاق الإسفراييني الملقب بالأستاذ، وأبي الحسن الطبري الملقب بالكِيَا، واختاره الغزالي، وهو المذهب المشهور عند الشيعة) : يجب استفتاء (2) الأفضل في العلم والورع والدين، ويجب على السائل النظر في الأرجح، ثم اتباعه، ويكفيه الاعتماد على الشهرة. قال الغزَّالي في المستصفى (3) :
«والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي» .
__________
(1) انظر التقرير والتحبير: 345/3ومابعدها، فواتح الرحموت: 403/2 ومابعدها، مسلم الثبوت: 354/2، اللمع في أصول الفقه للشيرازي: ص68، الإحكام للآمدي: 173/3، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 194، فتاوى الشيخ عليش: 61/1، 71، حاشية ابن عابدين: 45/1، ط الأميرية، رسالة في أصول الفقه لابن عربي: ص32، المستصفى: 125/2، إرشاد الفحول: ص239.
(2) الاستفتاء: هو السؤال عن الحكم عند المجتهد لأجل العمل بقوله، سواء أكان المسؤول هو المجتهد نفسه، أو من نقل عنه نقلاً صحيحاً ولو بواسطة (تحفة الرأي السديد لأحمد الحسيني: ص 239) .
(3) المستصفى: 125/2.(1/76)
ودليل هؤلاء: هو أن أقوال المجتهدين بالنسبة للناس كالأدلة والأمارات المتعارضة بالنسبة للمجتهد، فيجب على السائل الترجيح، ولاترجيح إلا بالفضل والعلم، لأن الأعلم أقوى، وطريق معرفة الأعلم إما بالاختبار والتجربة، أو بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه.
2 - وقال القاضي أبو بكر بن العربي وأكثرية الفقهاء والأصوليين (1) : يخير السائل في سؤال من شاء من العلماء سواء أتساووا أم تفاضلوا، أي أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل في العلم لعموم قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} [الأنبياء:7/21] ، ولإجماع الصحابة: وهو أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، وكان فيهم العوام، ولم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولو كان التخيير غير جائز لما تطابق الصحابة على عدم إنكاره. قال الآمدي حاكياً هذا الإجماع (2) :
إن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» وقال عليه السلام: «أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لاغير. ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول، والاستفتاء له، مع وجود الأفضل.
__________
(1) قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن التحرير وشرحه: وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية. وفي آخر فتاوى ابن حجر: الأصح لدى أئمة الشافعية إن المقلد يتخير في تقليد أي شاء من العلماء ولو مفضولا ً وإن اعتقده كذلك. وحينئذ فلا يمكن أن يقطع أو يظن أنه ـ أي المجتهد ـ على الصواب، بل على المقلد أن يعتقد أن ما ذهب إليه إمامه يحتمل أنه الحق (حاشية ابن عابدين: 45/1) .
(2) الإحكام للآمدي: 173/3ومابعدها.(1/77)
ولو كان ذلك غير جائز، لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه.
ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم ـ أي أصحاب الرأي الأول ـ أولى (1) .
يتبين من هذا أن القول الثاني هو الأرجح بإجماع الصحابة على جواز التخير بين الأقوال، وسؤال السائل من شاء من العلماء (2) .
الفرع الرابع ـ آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص) ، وفي التلفيق بين المذاهب.
يتفرع على مابيناه من أنه لم يوجد في الشرع مايوجب على الإنسان اتباع ماالتزمه من المذاهب: القول بجواز تتبع الرخص والتلفيق. أما تتبع الرخص أو اختيار الأيسر: فهو أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل.
وقد حكى الأصوليون في هذه المسألة ثمانية أقوال (3) أذكرها بإجمال ثم أبين أقوى النظريات المقولة فيها.
1 - قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والباقلاني والآمدي: يخير الإنسان بأخذ ماشاء من الأقوال، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل.
2 - أهل الظاهر والحنابلة: يأخذ بالأشد الأغلظ.
__________
(1) قال الإمام الرازي هذه العبارة أيضاً.
(2) قال ابن بدران الحنبلي في المدخل: ص 194: الحق أن المقلد لايلزمه استفتاء أفضل المجتهدين مطلقاً فإن هذا يسد باب التقليد، أما إذا قيدنا ذلك بمجتهدي البلد فإنه يلزمه حينئذ تحري الأفضل، لأن الأفضل في كل بلد معروف مشهور.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني: ص 240، فتاوى الشيخ عليش: 71/1 ومابعدها. 3 - يأخذ بالأخف.(1/78)
4 - يبحث عن الأعم من المجتهدين، فيأخذ بقوله.
5 - يأخذ بقول الأول، حكاه الرُّوياني.
6 - يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي.
7 - يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السَّمعاني، ومشى عليه الشاطبي في الموافقات.،وهذا القول قريب من رأي الكعبي.
8 - إن كان الأمر في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور الماتريدي.
ويمكن القول بوجود آراء ثلاثة في الموضوع هي الأشهر وهي التي نعتمدها بحثاً.
1 - قال الحنابلة (1) ، والمالكية في الأصح عندهم (2) ، والغزالي (3) : يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، لأنه ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4] ، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة.
__________
(1) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران الدمشقي: ص 195.
(2) فتاوى الشيخ عليش مع التبصرة لابن فرحون المالكي: 58/1 - 60، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص 79.
(3) المستصفى: 125/2.(1/79)
ونقل عن ابن عبد البر: أنه لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً. وعبارة الحنابلة في ذلك (1) : إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما، لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ماخير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما» وفي لفظ «أرشدهما» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد، والأولى أن يعتبر ـ أي المستفتي ـ القولين ساقطين، لتعارضهما، ويرجع إلى استفتاء آخر.
وعبارة المالكية (2) : الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، بأن يأخذ منها ماهو الأهون فيما يقع من المسائل. وقيل: لايمتنع. وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص. والأولى الاحتياط بالخروج من الخلاف بالتزام الأشد الأقوى، فإن من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبدع.
وعبارة الغزالي (3) : ليس للعامي (4) أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي، فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا.
2 - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت (5) : يجوز تتبع رخص المذاهب، لأنه
__________
(1) المدخل إلى مذهب أحمد، المرجع والمكان السابق.
(2) فتاوى الشيخ عليش، المرجع السابق، وصفحة 76.
(3) المستصفى، المرجع السابق.
(4) العامي في اصطلاح الأصوليين: هو كل من ليس أهلاً للاجتهاد، وإن كان عالماً بفن غير فن استنباط الأحكام من أدلتها.
(5) مسلم الثبوت: 356/2، إرشاد الفحول: ص 240، شرح المحلي على جمع الجوامع 328/2، شرح الإسنوي: 266/3، رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 69/1 ومابعدها، الفوائد المكية للسقاف: ص52.(1/80)
لم يوجد في الشرع مايمنع من ذلك، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بدليل أن سنة الرسول صلّى الله عليه وسلم الفعلية والقولية تقتضي جوازه، فإنه عليه الصلاة والسلام «ماخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثماً» (1) وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يحب ماخفف عن أمته» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» (2) وقال أيضاً: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه» (3) . وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله قد فرض فرائض وسن سننًا وحد حدوداً وأحل حراماً وحرم حلالاً، وشرع الدين فجعله سهلاً سمحاً واسعاً ولم يجعله ضيقاً» (4) .
وقال الشعبي: «ماخير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى» .
وقال القرافي في هذه المسألة: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، أي أن شرط جواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق (5) أي ألا يكون موقعاً في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك
__________
(1) أخرجه البخاري ومالك والترمذي.
(2) أخرجه أحمد في مسنده، والخطيب البغدادي، ورواه الديلمي في مسند الفردوس، وفي آخره عند الخطيب: «ومن خالف سنتي فليس مني» .
(3) أخرجه البخاري والنسائي.
(4) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) التلفيق: هو الإتيان بكيفية لايقول بها المجتهد. كما سأبيِّن. الأعضاء في الوضوء، أو عدم وجوب مسح جميع الرأس، فإن صلاته تكون باطلة عند الإمامين، لعدم صحة الوضوء عند كل منهما.(1/81)
ويلاحظ أن هذا القيد الذي ذكره القرافي وهو: (ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم) لادليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد متأخر، كما قرر الكمال بن الهمام في (التحرير) . فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ماذهب إليه، كما بينا، جازت مخالفته في بعض ماذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير. ثم قال: وليس هناك دليل من نص أو إجماع يدل على أن الفعل إذا كانت له شروط، فإنه يجب على المقلد أن يتبع مجتهداً واحداً في هذه الشروط التي يتوقف عليها هذا الفعل، ومن ادعى دليلاً على ذلك فعليه الإتيان به.
وأما مانقل عن ابن عبد البر، من أنه «لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، فلا نسلم صحة هذا النقل عنه، ولو سلم فلا يسلم صحة الإجماع، إذ في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتان. وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولامقلد. وقال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إنْ قوي الدليل، أو كان عامياً، لايفسق. وفي روضة النووي حكاية عن ابن أبي هريرة: لايفسق. والخلاصة: أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وماجعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيراً ماقال العلماء: «من قلد عالماً فقد برئ مع الله» «اختلاف العلماء رحمة» وربما قال بعضهم: «حجَّرت واسعاً» إذا التزم العمل بالقول المشهور في جميع تصرفاته.(1/82)
3 - رأي الشاطبي:
يرى الشاطبي رأي ابن السمعاني (1) : وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد. ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال. وإلا كان متبعاً غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4] .
ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب مايترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد:
أولها ـ الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة.
ثانيها ـ الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم.
ثالثها ـ اتباع رخص المذاهب اعتماداً على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذاً بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع (أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها) . ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير سيَّالاً لاينضبط، وكترك ماهو معلوم إلى ماليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية (2) بترك انضباط معيار العدالة بين الناس وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها.
__________
(1) الموافقات: 132/4 - 155.
(2) وهي الطرق العادلة التي تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيراً من المظالم. وإهمالها يضيع الحقوق، ويعطل الحدود، ويجرِّئ أهل الفساد. ويندرج فيها كل ماشرع لسياسة الناس وزجر المعتدين.(1/83)
رابعها ـ التخلص من الأحكام الشرعية وإسقاطها جملة، عملاً بمبدأ الأخذ بأخف القولين، لابأثقلهما، مع أن التكاليف كلها شاقة ثقيلة.
ثم رد الشاطبي على القائل بجواز تتبع الرخص في حالات للضرورة أو الحاجة عملاً بالقاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) بأن حاصل فعله هو الأخذ بما يوافق الهوى، أو تجاوز حدود الضرورة أو الحاجة المقررة في الشرع. كما أنه رد على المتمسك بمبدأ (مراعاة الخلاف بين الأقوال) لتسويغ الأخذ بالأيسر بأن مراعاة الخلاف لايترتب عليه الجمع بين قولين متنافيين أو القول بهما معاً، وإنما هما لمسألتين مختلفتين. وفي تقديري أن السبب الذي حمل الشاطبي على منع تتبع الرخص والتلفيق هو غيرته على نظام الأحكام الشرعية حتى لايتخطاها أحد عملاً بمبدأ التيسير على الناس،،ولكنه ـ كما يلاحظ من كلامه ـ متأثر بالعصبية المذهبية، ويخشى ـ رغم تحرره الفكري ـ مخالفة مذهب الإمام مالك، ويحرص على التقليد ومنع الاجتهاد.
ونحن معه في هذه الغيرة على أحكام الشريعة، لكن التقليد أو التلفيق الجائز مجاله محصور فيما لم يتضمن الإعراض عما أنزل الله، أو الذي لم يتضح فيه رجحان الحق والدليل على صحة قول المجتهد المقلَّد (1) ، وحينئذ ينهدم رأي الشاطبي من أساسه، لأنه يطالب بضرورة العمل بالدليل الراجح، والتزام أصول الشريعة، وهذا أمر مفترض في كل تقليد محمود أو أخذ بأيسر المذاهب.
__________
(1) راجع أعلام الموقعين في بيان نوعي التقليد المحمود والمذموم: 168/2، تحفة الرأي السديد للحسيني: ص39.(1/84)
التلفيق:
هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد. ومعناه أن يترتب على العمل بتقليد المذاهب، والأخذ في مسألة واحدة بقولين أو أكثر: الوصول إلى حقيقة مركبة لايقرها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة. ويتحقق ذلك إذا عمل المقلد في قضية واحدة بالقولين معاً، أو بأحدهما مع بقاء أثر الثاني.
فالتلفيق إذاً: هو الجمع بين تقليد إمامين أو أكثر في فعل له أركان أو جزئيات لها ارتباط ببعضها، لكل منها حكم خاص، كان موضع اجتهادهم وتباين آرائهم، فيقلد أحدهم في حكم، ويقلد آخر في حكم آخر، فيتم الفعل ملفقاً من مذهبين أو أكثر.
مثل أن يقلد شخص في الوضوء مذهب الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس، ثم يقلد أبا حنيفة أو مالكاً في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة خالياً عن قصد الشهوة ووجودها، ثم يصلي، فإن هذا الوضوء الذي صلى به لم يقل به كل واحد من هؤلاء الأئمة، فالشافعي يعتبره باطلاً لنقضه باللمس، وأبو حنيفة لايجيزه لعدم مسح ربع الرأس، ومالك لايقره لعدم مسح جميع الرأس أو لعدم دلك أعضاء الوضوء ونحو ذلك. أو أن يقلد مالكاً في عدم نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر، وصلى. فهذه صلاة مجمع منهما على فسادها.
ومثل أن يستأجر شخص مكاناً موقوفاً تسعين سنة فأكثر، من غير أن يراه، مقلداً في المدة الطويلة للشافعي وأحمد، وفي عدم الرؤية لأبي حنيفة، فيجوز (1) .
__________
(1) شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي: 266/3، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني: ص91(1/85)
ومجال التلفيق كمجال التقليد محصور في المسائل الاجتهادية الظنية. أما كل ما علم من الدين بالضرورة ـ أي بالبداهة ـ من متعلَّقات الحكم الشرعي، وهو ماأجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده، فلا يصح فيه التقليد والتلفيق، وعلى هذا فلا يجوز التلفيق المؤدي إلى إباحة المحرمات كالنبيذ والزنا مثلاً. هذا وإن قضية التلفيق بين المذاهب اشترط عدمها لجواز تقليد مذاهب الغير أكثر المتأخرين من العلماء بعد انتهاء القرن العاشر الهجري، ولم يتكلم فيها قبل القرن السابع.
وجواز التلفيق مبني على ما قررناه من أنه لا يجب التزام مذهب معين في جميع المسائل، فمن لم يكن ملتزماً مذهباً معيناً، جاز له التلفيق، وإلا أدى الأمر إلى بطلان عبادات العوام، لأن العامي لا مذهب له ولو تمذهب به، ومذهبه في كل قضية هو مذهب من أفتاه بها. كما أن القول بجواز التلفيق يعتبر من باب التيسير على الناس.
وتقليد إمام في جزئية أو مسألة لايمنع من تقليد إمام آخر في مسألة أخرى، ولايقال: إن المقلد وصل إلى حقيقة لم يقل بها كلا الإمامين، وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين (أي المجتهدين) بعضها في بعض في عمل المستفتي تداخلاً غير مقصود، كتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب. فالمقلد لم يقلد كل إمام في مجموع عمله، وإنما قلد كلا من الإمامين في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره، ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه لا في اجتهاد ولا في تقليد.
وأما اشتراط بعض العلماء لجواز التلفيق ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب، فهو أمر عسير، سواء في العبادات أو في المعاملات، وذلك يتنافى مع سماحة الشريعة ويسرها ومسايرتها لمصالح الناس.(1/86)
وأما ادعاء وجود الإجماع (من قِبَل ابن حجر وغيره من بعض علماء الحنفية) على عدم جواز التلفيق، فيحتاج إلى دليل، وليس أدل على عدم قيام مثل هذا الإجماع من وجود اختلاف واضح بين العلماء في مسألة التلفيق. قال الشفشاوني في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر: «إن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة، والصحيح من جهة النظر جوازه» وحكى الثقات الخلاف أيضاً كالفهامة الأمير والفاضل البيجوري. هذا وإن مثل هذا الإجماع المدعى المنقول بطريق الآحاد لايوجب العمل عند جمهور العلماء، ولعل المراد بهذا الإجماع هو اتفاق الأكثر أو أهل مذهب ما.
وسأذكر هنا بإيجاز أقوال علماء المذاهب في إباحة التلفيق (1) :
1 - الحنفية: قال الكمال بن الهمام وتلميذه ابن أمير الحاج في التحرير وشرحه: إن المقلد له أن يقلد من شاء، وإن أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرائع ذمه عليه، وكان صلّى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته.
__________
(1) رسم المفتي:69/1، التحرير وشرحه: 350/3 ومابعدها، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص250 ومابعدها، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: ص106 ومابعدها، المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي، بحث الأستاذ الشيخ السنهوري: ص83 ومابعدها، وبحث الشيخ عبد الرحمن القلهود: ص 95 ومابعدها.(1/87)
وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين ما يفيد أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب، وأن القاضي الطرسوسي (المتوفى سنة 758 هـ) مشى على الجواز. وأفتى مفتي الروم أبو السعود العمادي (المتوفى سنة 983 هـ) في فتاويه بالجواز. وجزم ابن نجيم المصري (المتوفى سنة 970 هـ) في رسالته (في بيع الوقف بغبن فاحش) بأن المذهب جواز التلفيق، ونقل الجواز عن الفتاوى البزازية. وذهب أمير باد شاه (المتوفى سنة 972 هـ) إلى جواز التلفيق بكل قوته. وألف مفتي نابلس منيب أفندي الهاشمي رسالة في التقليد عام (1307 هـ) أيد فيها التقليد مطلقاً، وقال عنها فقيه عصره الشيخ عبد الرحمن البحراوي: «أن المؤلف قد بين الحق على الوجه الصحيح» . والخلاصة: أن الشائع المشهور أن التلفيق باطل، لكن العلماء خلاف ذلك وأنه جائز بأدلة كثيرة ناطقة على صحته.
2 ـ المالكية: الأصح والمرجح عند المتأخرين من فقهاء المالكية هو جواز التلفيق، فقد صحح الجواز ابن عرفة المالكي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير، وأفتى العلامة العدوي بالجواز، ورجح الدسوقي الجواز، ونقل الأمير الكبير عن شيوخه أن الصحيح جواز التلفيق وهو فسحة.
3 ـ الشافعية: منع بعضهم كل صور التلفيق، واقتصر بعضهم الآخر على حظر حالات التلفيق الممنوع الآتي بيانها، وأجاز آخرون التلفيق إذا جمعت في المسألة شروط المذاهب المقلدة.
4 ـ الحنابلة: نقل الطرسوسي أن القضاة الحنابلة نفذوا الأحكام الصادرة بالتلفيق.
هذا ولم أذكر أقوال المخالفين من علماء هذه المذاهب، سواء في قضية الأخذ بأيسر المذاهب أو في تتبع الرخص، ولأن أقوال المخالفين لا تلزمنا، لعدم وجود دليل شرعي راجح لها.(1/88)
التلفيق الممنوع:
ليس القول بجواز التلفيق مطلقاً، وإنما هو مقيد في حدود معينة، فمنه ما هو باطل لذاته، كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنا ونحوهما. ومنه ما هو محظور لا لذاته، بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع (1) :
أولها ـ تتبع الرخص عمداًً: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه بدون ضرورة ولاعذر. وهذا محظور سداً لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية.
الثاني ـ التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى.
الثالث ـ التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليداً أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده. وهذا الشرط في غير العبادات، أما فيها فيجوز التلفيق ولو استلزم الرجوع عما عمل به أو عن أمر لازم لآخر إجماعاً، مالم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف الشرعية أو إلى الذهاب بالحكمة الشرعية باقتراف الحيل المغايرة للشريعة أو المضيعة لمقاصدها.
مثال الأول أي الرجوع عن العمل: ما نقل عن الفتاوى الهندية: لو أن فقيهاً قال لامرأته: (أنت طالق البتة) وهو يرى أن الطلاق يقع ثلاثاً، فأمضى فيما بينه وبينها، وعزم على أنها حرمت عليه. ثم رأى بعدئذ أنها تطليقة رجعية، أمضى رأيه الأول الذي كان عزم عليه، ولايردها إلى أن تكون زوجته برأي حدث من بعد.
وكذلك لوكان في الابتداء يراها تطليقة رجعية، فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعد أنها ثلاث، لم تحرم عليه. هذا ويلاحظ أن بطلان التلفيق بعد العمل مقيد بقيدين:
__________
(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، المرجع السابق: ص121، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص79، فتاوى الشيخ عليش: 68/1،71.(1/89)
أولهما ـ أن يبقى من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لايقول به كل من المذهبين كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. وكما لو أفتى مفت ببينونة زوجته بطلاقها مكرهاً، ثم نكح أختها مقلداً للحنفي بوقوع طلاق المكره. ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث، فيمتنع عليه أن يطأ الأولى، مقلداً للشافعي والثانية مقلداً للحنفي، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض.
ثانيهما ـ أن يكون ذلك في حادثة واحدة بعينها لا في مثلها، كما لو صلى ظهراً بمسح ربع الرأس مقلداً للحنفي، فليس له إبطال طهارته باعتقاده لزوم مسح الكل مقلداً للمالكي. وأما لوصلى يوماً على مذهب، وأراد أن يصلي يوماً آخر فلا يمنع منه (1) .
مثال الثاني أي الرجوع عن أمر مجمع عليه: لو قلد رجل أبا حنيفة في عقد النكاح بلا ولي، فيستلزم العقد صحة إيقاع الطلاق، لأنها أمر لازم لصحة النكاح إجماعا , فلو طلقها ثلاثا , ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح إجماعاً، فلو طلقها ثلاثاً، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي، فليس له ذلك لكونه رجوعاً عن التقليد في أمر لازم إجماعاً. وهذا أمر معقول حتى لا تصبح العلاقة الزوجية السابقة علاقة محرمة، وأن الأولاد أولاد زنا. فيمنع ذلك كما يمنع كل ما يؤدي إلى العبث بالدين أو الإضرار بالبشر أو الفساد في الأرض.
ومن صور التلفيق الممنوع لمخالفته الإجماع: أن يتزوج رجل امرأة بغير صداق ولا ولي ولا شهود، مقلداً كل مذهب فيما لا يقول به الآخر، فهذا من التلفيق المؤدي إلى محظور، لأنه يخالف الإجماع، فلم يقل به أحد (2) .
__________
(1) رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 69/1 وما بعدها.
(2) شرح التنقيح للقرافي: ص 386.(1/90)
ومن صور التلفيق الممنوع أيضاً: أن يطلق شخص زوجته ثلاثاً، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل، مقلدا ً زوجها في صحة الزواج للشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلداً في صحة الطلاق، وعدم الحاجة إلى العدة للإمام أحمد، فيجوز لزوجها الأول العقد عليها فوراً. فهذا التلفيق ممنوع لأنه يؤدي إلى التلاعب بقضايا الزواج، لذا قال الشيخ الاجهوري من الشافعية: هذا ممنوع في زماننا ولا يجوز ولايصح العمل بهذه المسألة، لأنه يشترط عند الشافعي أن يكون المزوج للصبي أباً له، أو جداً، وأن يكون عدلاً، وأن يكون في تزويجه مصلحة للصبي، وأن يكون المزوج للمرأة وليها العدل بحضرة عدلين، فإذا اختل شرط لم يصح التحليل لفساد النكاح.
حكم التلفيق (1) في التكاليف الشرعية:
تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع (2) :
الأول ـ ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح مع اختلافه باختلاف أحوال المكلفين.
الثاني ـ ما بني على الورع والاحتياط.
الثالث ـ ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم.
أما النوع الأول ـ فهو العبادات المحضة، وهذه يجوز فيها التلفيق، لأن مناطها امتثال أمر الله تعالى والخضوع له مع عدم الحرج، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك.
أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطاً خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ماهو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء.
وأما النوع الثاني ـ فهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع مهما أمكن (3) ، لأن الله تعالى لا ينهى عن شيء إلا لمضرته، فلا يجوز فيها التسامح أو التلفيق إلا عند الضرورات الشرعية، لأن (الضرورات تبيح المحظورات) .
__________
(1) إن التلفيق في التقليد للمذاهب هو تخير أو انتقاء من أحكام المذاهب الفقهية تقليداً لها.
(2) عمدة التحقيق للباني: ص 127 ومابعدها.
(3) والدليل على أنها مبنية على الورع والاحتياط أحاديث نبوية منها: «دع مايريبك إلى مالا يريبك» ومنها «مااجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال» .(1/91)
وعليه لايجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق الله (أو حقوق المجتمع) حفاظاً على النظام العام في الشريعة، واهتماماً برعاية المصالح العامة. كما لا يجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق العباد (حقوق الأشخاص الخاصة) منعاً من الاحتيال على حقوق الناس وإلحاق الضرر بهم والاعتداء عليهم.
وأما النوع الثالث ـ فهو المعاملات المدنية: والعقوبات الشرعية (الحدود والتعزيرات) ، وأداء الأموال الواجبة شرعاً من عشر المزروعات، وخراج الأراضي، وخمس المعادن المكتشفة، والمناكحات (أو الأحوال الشخصية) . فعقود الزواج (المناكحات) وما يتبعها من أنواع الفرقة الزوجية: مبناها سعادة الزوجين وأولادهما. ويتحقق ذلك بالحفاظ على الرابطة الزوجية، وتوفر الحياة الطيبة فيها، كما قرر القرآن الكريم: {فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] . فكل ما يؤيد هذا الأصل يعمل به، ولو أدى في بعض الوقائع إلى التلفيق الجائز، أما إذا اتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية الزواج والطلاق، فيكون تلفيقاً قادحاً ممنوعاً، مراعاة للقاعدة الشرعية: وهي (أن الأصل في الأبضاع (1) التحريم) صيانة لحقوق النساء والأنساب.
__________
(1) الأبضاع جمع بضع بضم الباء: يطلق على الفرج والجماع، ويطلق أيضاً على التزويج (المصباح المنير) .(1/92)
وأما المعاملات، وأداء الأموال، والعقوبات المقررة في الشرع والقصاص لصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب ما هو أقرب لمصلحة الناس وسعادتهم، ولو لزم منه التلفيق، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشرع، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان والعرف وتطور الحضارة والعمران. ومعيار المصلحة أو تحديد المراد منها: هو كل ما يضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة:
وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وصيانة كل مصلحة مقصودة شرعاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع. وهي المصالح المرسلة المقبولة.
قال الشرنبلالي الحنفي في العقد الفريد بعد أن ذكر فروعاً من أصل المذهب صريحة بجواز التلفيق: فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلداً فيه غير إمامه، مستجمعاً شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى. وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. وقال أيضاً: إن له التقليد بعد العمل، كما إذا صلى ظاناً صحة الصلاة على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه، وصحتها على مذهب غيره فله تقليده، ويجتزئ بتلك الصلاة، على ما قال في البزازية: أنه روي عن أبي يوسف: أنه صلى الجمعة مغتسلاً من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً (1) .
__________
(1) رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: 70/1.(1/93)
والخلاصة: إن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وخصوصاً الحيل الشرعية الممنوعة (1) .وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة، وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب.
اختيار الأيسر في التقنين:
لا مانع شرعاً من اختيار الحاكم ولي الأمر أيسر الأقوال في المذاهب الشرعية المختلفة، إذ إن ذلك ليس من قبيل التلفيق الممنوع، لأن الأحكام المختارة من المذاهب هي أحكام كلية لأمور متغايرة لا تجمع بينها رابطة، كما بينا. وإذا حدث فيها تلفيق أثناء التطبيق الفعلي فهو غير مقصود، فلا حرج فيه، كالقول بصحة الزواج بغير ولي وبعبارة النساء، والتفريع عليه بجواز استدامة الزوجية بعد مراجعتها إثر صدور طلاق ثلاث بلفظة واحد اكتفاء بإيقاعه طلقة واحدة رجعية. فهو تلفيق غير ممنوع لأنه لم يقصد إليه.
__________
(1) انظر أمثلة على الحيل المحرمة التي يكفر من أفتى بها في أعلام الموقعين: 255/3 ومابعدها.(1/94)
والقول بجواز التلفيق في الجملة أقوى دليلاً من القول بمنعه، فضلاً عما فيه من تحقيق مصالح الأفراد والجماعات، ولا يترتب عليه أي مفسدة من مفاسد التلفيق المحظور. ولو افترضنا أن التلفيق كله غير جائز فإن تخير الحاكم لرأي وجعله قانوناً نافذاً: يقوي الحكم ولو كان قولاً ضعيفاً، كما قرر العلماء، بل ويوجب الطاعة إذا لم يكن أمراً بمعصية متيقنة شرعاً. وقد بدأ التخير من أحكام المذاهب في مجال التقنين فعلاً منذ أكثر من خمسين عاماً في مطلع هذا القرن، وذلك حينما شعرت الحكومة العثمانية بالحاجة إلى التوسع في حرية التعاقد، والشروط العقدية، وقابلية المحل المعقود عليه، بسبب ازدياد حاجة التعامل التجاري والصناعي، وتطور أساليب التجارة الداخلية والخارجية وظهور أنواع جديدة من الحقوق هي الحقوق الأدبية كحق المؤلف والمخترع، والاحتياج إلى عقود التأمين على البضائع المستوردة، واتساع مجال عقود الاستصناع مع المصانع الكبرى، وعقود التوريد لتقديم اللوازم والمواد الأولية إلى المؤسسات الحكومية والشركات والمعامل والمدارس.
فاستبدلت السلطة العثمانية بالمادةو (64 سنة 1332 هـ/1914م) من قانون أصول المحاكمات مادة أخذت مبادئها من غير المذهب الحنفي كالمذهب الحنبلي ومذهب ابن شبرمة اللذين يوسعان من دائرة حرية الشروط العقدية ويقتربان من مبدأ سلطان الإرادة القانوني أي أن (العقد شريعة المتعاقدين) ويجيزان هذه المبادئ الثلاثة التي تضمنتها المادة الجديدة وهي:
1- توسيع قابلية المحل للتعاقد عليه ليشمل كل ما جرى به العرف، أو سيوجد بعد.
2 - جواز كل اتفاق أو اشتراط لا يخالف النظام العام والآداب والقوانين الخاصة، وقوانين العقارات والأحوال الشخصية والأوقاف. وبذلك تقلصت نظرية الفساد عند الحنفية، وأصبح جائزاً ما يعرف بالشرط الجزائي أي التعهد بالضمان المالي جزاء النكول أو التأخر عن تنفيذ الالتزام، عملاً بمذهب القاضي شريح.(1/95)
3 - اعتبار العقد تاماً بمجرد الاتفاق على النواحي الأساسية فيه، ولو لم تذكر الأمور الفرعية. وبه أصبحت الجهالة غير ضارة في تكوين العقد، فيصح العقد بسعر السوق أو بما سيستقر عليه في يوم ما (1) . هذا وقد أصدرت الحكومة العثمانية سنة (1336 هـ) قرار حقوق العائلة المعمول به اليوم، أخذت فيه بطائفة من أحكام المذاهب الثلاثة غير الحنفية واختارت بعض أقوال ضعيفة في المذهب الحنفي، وصدرت في مصر قوانين متخيرة من أحكام المذاهب بدءاً من سنة (1920 م) إلى سنة (1929) ثم سنة (1936 م) وحتى الآن اتبعت فيها أسلوب قانون العائلة العثماني، وذلك بحضور صفوة مختارة من كبار العلماء ورجال القضاء الشرعي من مختلف المذاهب، مراعاة لتغير الزمان، وتطور الحياة الاجتماعية، وتجدد المصالح والحاجات، وتبدل الأوضاع والتنظيمات.
ومن أبرز الأمثلة على القوانين الملفقة: قانون الوصية الواجبة رقم (71) في المواد (76-79) من قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر عام (1946) ، لمعالجة مشكلة (أولاد المحروم) أي أولاد الابن المتوفى في حال حياة أبيه، وتابعه القانون السوري الصادر عام (1953م) مع وجود فارق بينهما، وهو أن القانون المصري لم يميز بين أولاد الابن وأولاد البنت، وأما القانون السوري فقد اقتصر على أولاد الابن، وأما أولاد البنت فهم من ذوي الأرحام الوارثين. وقد أخذ هذا القانون من مجموع آراء فقهية كرأي ابن حزم الظاهري وأقوال بعض فقهاء التابعين ورواية في مذهب أحمد ومذهب الإباضية، ولم يستند ذلك إلى رأي فقهي معين.
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقا: ف 388-392.(1/96)
ومن الأمثلة الشهيرة على تخطي المذاهب الأربعة أو التلفيق بينها وبين غيرها لحاجة الناس إليها: جواز الوصية لوارث بدون توقف على إجازة الورثة في المادة (37) من قانون الوصية المصري رقم (71) لعام (1946 م) ، أخذا بقول فريق من المفسرين ومنهم أبو مسلم الأصفهاني، وفريق من الفقهاء من غير المذاهب الأربعة كبعض أئمة الشيعة الزيدية، وبعض الشيعةالإمامية الاثني عشرية، والإسماعيلية.
ومن الأمثلة القضائية للتخير: تقييد قبول الشهادات بأن تصحب بدليل قوي كالكتابة والخبرة والتسجيل الرسمي لنفي الشبهة بسبب تغير الزمان وضعف الوازع الديني. والنهي عن سماع الدعوى بعد مضي خمس عشرة سنة إلا في الوقف والإرث فبعد ثلاث وثلاثين سنة في لائحة المحاكم الشرعية المصرية سنة (1880م) . والمنع من سماع دعوى الزوجية والطلاق والإقرار بهما بعد وفاة أحد الزوجين إلا إذا كانت الدعوى مؤيدة بأوراق خالية من شبهة تدل على صحتها في المادة (31) من لائحة سنة (1897 م) المصرية.
الفرع الخامس ـ أنواع الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب:
لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب علماء الأصول والفقه بحثاً مستقلا ًبهذا الموضوع، ويمكن وضع ضوابط شرعية للأخذ بأيسر المذاهب من طريق الاسنتباط أوالاستخلاص مما كتبه الأصوليون والفقهاء في بحث التلفيق وتتبع الرخص والتقليد عموماً.
وهذه الضوابط (1) هي ما يأتي:
الضابط الأول: أن يتقيد الأخذ بالأيسر في مسائل الفروع الشرعية الاجتهادية الظنية أي القضايا العملية التي ثبتت أحكامها بطريق ظني أغلبي كأحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات التي ليس فيها نص قطعي أو إجماع أو قياس جلي (2) .
__________
(1) الضابط: معناه القاعدة الكلية وجمعه ضوابط ويراد بها هنا القيود التي تحدد نطاق الموضوع.
(2) القياس الجلي: هو ماكانت العلة فيه منصوصة، أو غير منصوصة، ولكن قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، كقياس الضرب على التأفيف في الحرمة.(1/97)
وهذا ـ كما بينا ـ هو مجال التقليد والتلفيق. أما غير ذلك فلا يصح الأخذ فيه بالأيسر مثل مسائل العقائد وأصول الإيمان والأخلاق كمعرفة الله تعالى وصفاته وإثبات وجود الله ووحدانيته ودلائل النبوة، ومثل كل ماعلم من الدين بالضرورة ــأي بالبداهة ــ وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده أو منكره، في جميع التكاليف الشرعية: عبادات أو معاملات أو عقوبات أو محرمات، كأركان الإسلام الخمسة وحرمة الربا (الفائدة) ، والزنا، وحل البيع والزواج والقرض ونحوها مما هو ثابت قطعاً بالإجماع، لا يجوز فيها التقليد والتلفيق أو الأخذ بالأيسر. فلا يباح التلفيق المؤدي إلى إباحة المحرمات كالنبيذ المسكر والزنا مثلاً.
كما لا يباح التلفيق المؤدي إلى إهدار حقوق الناس أو إلحاق الأذى والضرر بهم والعدوان عليهم، إذ لاضرر ولا ضرار في الإسلام.
قال القرافي (1) : إن ضابط المذاهب التي يقلد فيها خمسة أشياء لا سادس لها عملاً بالاستقراء:
1 - الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية.
2 - وأسبابها.
3 - وشروطها.
4 - وموانعها.
5 - والحِجاج (2) المثبتة للأسباب والشروط والموانع.
احترز بـ (الشرعية) عن العقلية كالحساب والهندسة وعن الحسيات وغيرها. واحترز بالفروعية عن أصول الدين وأصول الفقه. وبالاجتهادية عن الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة.
وأسباب الأحكام مثل الإتلاف المسبب للضمان. والشروط كاشتراط الولي والشهود في عقد الزواج. والموانع كالجنون والإغماء المانعين من التكليف الشرعي، والدَّين المانع من إيجاب الزكاة.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي: ص195 وما بعدها، طبعة حلب الفروق: 5/4
(2) أي طرق الإثبات أو أدلته مثل الإقرار والشهادة.(1/98)
والحجاج المثبتة للأسباب والشروط والموانع هي ما يعتمد عليه القضاء من البينات والأقارير ونحو ذلك. وهي نوعان:
1 - مجمع عليه كالشاهدين في الأموال والأربعة الشهود في الزنى، والإقرار في جميع ذلك إذا صدر من أهله في محله.
2 - ومختلف فيه: نحو الشاهد واليمين وشهادة الصبيان في القتل والجراح، والإقرار إذا أعقبه رجوع. ونحن كما نقلد العلماء في الأحكام وأسبابها وشروطها وموانعها، فكذلك نقلدهم في الحجاج المثبتة لذلك.
فاختيار الأيسر من المذاهب مقيد إذن في هذا النطاق وهو الأحكام الفرعية الثابتة بغلبة الظن لدى المجتهد مثل وجوب الوتر والنية في الوضوء، وكون الدَّين مانعاً من الزكاة، وإباحة المعاطاة (1) ، وقبول شهادة الصبيان في القتل والجراح، والشاهد واليمين، وشهادة النساء فيما يختص بهن الاطلاع عليه كعيوب الفروج واستهلال المولود، وجواز البيع بشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين. والتطليق بسبب الغيبة أو الإعسار أو الإضرار، وتقويم منافع العقارات، وتضمين الأجراء والصناع، ومنع هدية المديان، ونحو ذلك.
الضابط الثاني ـ ألا يترتب على الأخذ بالأيسر معارضة مصادر الشريعة القطعية، أو أصولها ومبادئها العامة. يفهم هذا الشرط مما ذكره فقهاء المالكية ـ حتى الشاطبي ـ من ضرورة نقض حكم الحاكم أو قضاء القاضي في أمور أربعة ينقض فيها قضاؤه، مما يدل على أنه عند الأخذ بالأيسر لا يجوز الوقوع فيما يخالف هذه الأمور وهي ما يأتي (2) :
الأول ـ أن يحكم القاضي بما يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع، فينقض هو حكم نفسه بذلك،،وينقضه القاضي الوالي بعده. ويلحق بذلك الحكم بالقول الشاذ.
__________
(1) المعاطاة: المبادلة من غير إيجاب ولا قبول، كدفع الثمن وأخذ المبيع فعلاً من غير كلام صادر من العاقدين أو من أحدهما.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي: 294، ط فاس.(1/99)
الثاني ـ أن يحكم بالظن والتخمين من غير معرفة ولا اجتهاد، فينقضه هو ومن يلي بعده.
الثالث ـ أن يحكم بعد الاجتهاد، ثم يتبين له الصواب في خلاف ما حكم به، فلا ينقضه من ولي بعده. واختلف هل ينقضه هو أم لا؟.
الرابع ـ أن يقصد الحكم بمذهب، فيذهل ويحكم بغيره من المذاهب، فيفسخه هو، ولا يفسخه غيره. ويهمنا في بحث الأخذ بالأيسر من هذه الأمور الأمر الأول، فقد عدد القرافي (1) صوراً أربعة ينقض فيها الحكم هي: مخالفة الإجماع، والقواعد، والقياس الجلي، والنص. ومثل لكل حالة وبين سبب النقض، ثم قال: فإن مثل هذا لايقر في الشرع لضعفه، وكما لا يتقرر إذا صدر عن الحكام، كذلك لا يصح التقليد فيه إذا صدر عن المفتي، ويحرم اتباعه فيه (2) . أما سبب نقض الحكم المخالف للإجماع: فهو أن الإجماع معصوم من الخطأ ولا يحكم إلا بحق، فخلافه يكون باطلاً قطعاً.
وأما سبب نقض الحكم لمخالفة القواعد والقياس الجلي والنص إذا لم يكن لها معارض راجح عليها فهو أنها واجبة الاتباع شرعاً ويحرم مخالفتها ولا يقر شرعاً ما يعارضها باجتهاد خطأ، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4] .
فمخالفة النص: مثل لو حكم القاضي بإبطال وقف المنقول، فإنه ينقض حكمه، لمخالفته نصوص الأحاديث الصحيحة بصحة وقف المنقول، منها أن
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص128، تبصرة الحكام: 70/1،71، ط الحلبي البابي.(1/100)
(2) ويؤيده أن عز الدين بن عبد السلام (المتوفى سنة 660هـ) اشترط لجواز التلفيق ألا يكون ماقلد فيه مما ينقض فيه الحكم أي أن تكون المسألة اجتهادية. رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في حق خالد بن الوليد: «قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» (1) . ومثل جواز الوصية للوارث، فإنه مخالف للحديث المتواتر: «ألا لاوصية لوارث» . ومثل إقرار الربا القليل أو الفائدة في حدود (7 %) فإنه مخالف للآيات القرآنية الدالة دلالة قطعية على تحريم الربا: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/2] ، ومثل تسوية المرأة بالرجل في الميراث فإنه معارض صراحة للنص القرآني: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/4] .
ومخالفة الإجماع: مثل الحكم بحرمان الجد من الميراث إذا اجتمع مع الإخوة مع أن الصحابة أجمعوا ضمناً على ضرورة إرث الجد، وإنما اختلفوا في أنه: هل يرث جميع المال ويحجب الإخوة، أم أنه يرث مع الإخوة. ومثل الحكم بعدم ضرورة القسمة بين الزوجات في بعض الأحوال، فإنه مخالف للإجماع على أن العدل في القسمة واجب. ومثل الحكم بالقرائن في إثبات جريمة الزنا، فإنه مخالف للإجماع والنص القرآني القاطع.
ومخالفة القواعد: مثل لها القرافي بالمسألة السُّريجية (نسبة لأحمد بن سريج الشافعي المتوفى سنة 306هـ) وهي أن يقول الزوج: «إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً» فلا يقع الطلاق عند ابن سريج، وتابعه فيه ابن تيمية وابن القيم (2) ، لأن الطلاق الصادر منه لم يصادف محلاً له. فلو حكم حاكم بإقرار الزواج عملاً بهذا الرأي فينقض حكمه - عند المالكية - لمخالفته القواعد، لأن من قواعد الشرع صحة اجتماع الشرط مع المشروط، فإذا لم يجتمع الشرط مع المشروط لايصح أن يكون في الشرع شرطاً (3) .
__________
(1) نيل الأوطار: 25/6.
(2) أعلام الموقعين: 263/3 وما بعدها.
(3) ومن أمثلة مخالفة قواعد الشريعة عند الشافعية: بيع المعاطاة أو المراضاة، فهو مصادم لأصل شرعي ــ في رأيهم ــ وهو كون الرضا المشروط في البيوع والتجارات معبراً عنه بالإيجاب والقبول اللفظيين.(1/101)
هذا والوصية لوارث مخالفة للقواعد أيضاً مثل قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وقاعدة (الحكم يتبع المصلحة الراجحة) والمصلحة الراجحة في الإبقاء على روابط الأسرة على أساس من المحبة والتعاون وصلة الرحم.
ومخالفة القياس الجلي: مثل قبول شهادة النصراني، فإن الحكم بشهادته ينقض، لأن الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أشد منه فسوقاً وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس، فينقض الحكم لذلك، ولقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق:2/65] ، وهو رأي المذاهب الأربعة، إلا الحنابلة فقد أجازوا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، عملاً بقوله تعالى: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/5] .
لكني أرى أن الأسباب المعنوية والاجتماعية والظروف الخاصة والتعصب الذي كان موجوداً في التاريخ بين المسلمين وغيرهم هو الذي أدى إلى رفض قبول شهادة غير المسلمين، أما الآن وقد عاش المسلمون مع غيرهم في صعيد واحد، واتصلوا اتصالاً وثيقاً مع بعضهم، فلا مانع من قبول شهادتهم على المسلمين للضرورة. وقد جرى العمل على ذلك في البلاد الإسلامية.
الضابط الثالث ـ ألا يؤد ي الأخذ بالأيسر إلى التلفيق الممنوع:
قد بينا دائرة التلفيق الممنوع سواء الباطل لذاته كإحلال المحرمات كالخمر والزنا ونحوهما أو الباطل لا لذاته، وإنما لعارض ويشمل أنواعاً ثلاثة:
الأول ـ تتبع الرخص عمداً أي الأخذ بالأيسر بدون ضرورة ولا عذر.
الثاني ـ التلفيق الذي يستلزم نقض حكم القاضي.(1/102)
الثالث ـ التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليداً، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده وذلك في غير العبادات المحضة. فلا يؤخذ بالأيسر إذا أدى الأمر إلى الانحلال من مسؤولية التكاليف الشرعية أو العبث بالدين وقضايا الزواج، أو الإضرار بالبشر، أو الفساد في الأرض، أو الإضرار بالمصلحة الاجتماعية.
فلا يجوز مثلاً التلفيق أو الأخذ بالأيسر للتخلص من فريضة الزكاة، باستخدام الحيل (1) قبيل مضي العام بإعطاء الشخص مدينا ً له من الزكاة بقدر ماعليه، ثم يطالبه بالوفاء، فإذا وفاه برىء وسقطت الزكاة عن الدافع. أو يلجأ المزكي لتصرف صوري بيعاً أو هبة ثم يسترد المال إليه، فهذه حيلة محرمة باطلة لاتسقط فرض الزكاة (2) لأن في ذلك إضراراً بمصلحة الفقراء، وتآمراً على حقوقهم الثابتة شرعاً في أموال الأغنياء. كما لا يصح الإفتاء بأيسر المذاهب في أحكام الزكاة دفعاً لحاجة الفقير، وإنما يفتى بما يحقق المصلحة، فيفتي مثلاً بمذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء بإيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وبإخراج زكاة الأرض الخراجية (التي فتحت عنوة) مع الخراج، فيكون الواجب في تلك الأرض الخراج والعشر معاً، لأن العشر واجب ديني على المسلمين، والخراج واجب اجتهادي ليكون مورداً للجماعة ممثلة بالدولة لسد حاجاتها ونفقاتها العامة.
__________
(1) قال ابن القيم: لايجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة (أعلام الموقعين: 222/4) .
(2) أعلام الموقعين: 258/3،320.(1/103)
ومن الواجب أن تكون الغاية من الأخذ بالأيسر الحفاظ على مقاصد الشريعة، والتزام سياستها وحكمتها التشريعية، ورعاية مصلحة الناس كافة في المعاملات والعقوبات وأداء الأموال والعلاقات الزوجية لا المصلحة الخاصة، وعدم إهدار مصلحة أهم مما دونها، واتقاء المفسدة الكبرى بالدنيا عند الضرورة، وأن يكون الشرع هو معيار تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. ومقاصد الشريعة هي: حفظ الدين (من عقائد وعبادات) ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وينبغي التدرج في الحفاظ عليها بحسب مراتبها وهي الضروريات أولاً، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
أما الضروريات: فهي التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت اختلت الحياة في الدنيا، وضاع النعيم وحل العقاب في الآخرة. أي أنها كل مالا بد منه لحفظ المقاصد الخمسة الأصلية.
وأما الحاجيات: فهي التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم فقط، بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق والحرج دون أن تختل الحياة. فقد تتحقق بدونها المقاصد الخمسة، ولكن مع المشقة والضيق.
وأما التحسينيات: فهي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العبادات ومكارم الأخلاق، كالطهارات وستر العورات. فهي بمثابة السور للحفاظ على المقاصد الخمسة الضرورية.
الضابط الرابع ـ أن تكون هناك ضرورة أو حاجة للأخذ بالأيسر.
الأخذ بالأيسر ينبغي ألا يكون متخذاً للعبث في الدين أو مجاراة أهواء النفوس أو للتشهي وموافقة الأغراض، لأن الشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال الله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون:71/23] ، {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4] ، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس. وهناك آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله سبحانه: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص:28/50] ، {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:5/49] ، {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله} [ص:38/26] .(1/104)
وبناءً عليه ألزم العلماء المفتي في إفتائه ألا يتبع أهواء الناس (1) بل يتبع المصلحة والدليل الراجح، والمصلحة المعتبرة هي مصلحة الكافة كما بينا. قال تعالى لنبيه: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً} [الجاثية:45/18-19] ، قال القرافي في الإحكام والشيخ عليش في فتاويه (2) : «أما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام إجماعاً» .
وقال ابن القيم: لايجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه (3) وهذا المعنى هو الذي حمل الشاطبي ـ كما بينت سابقاً ـ على منع تتبع الرخص، فقد قال: وقد أدى إغفال هذا الأصل (أي اتباع أحد الدليلين أو القولين من غير ترجيح) إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بمالايفتي به غيره من الأقوال، اتباعا ً لغرضه، وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق (4) .
وهذا يدلنا على أن مراعاة المصلحة الخاصة في الأخذ بالأيسر أمر غير مرغوب فقهاً وشرعاً، وإنما ينبغي مراعاة المصلحة العامة أو مصلحة الكافة.
__________
(1) أعلام الموقعين: 74/1، الموافقات: 142/4 ومابعدها، الاعتصام: 176/2.
(2) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك: 68/1، الإحكام للقرافي: ص79.
(3) أعلام الموقعين: 222/4.
(4) الموافقات: 135/4.(1/105)
وإذا كان اتباع الأهواء محرما ً لزم تقييد الأخذ بأيسر المذاهب بوجود حالة الضرورة أو الحاجة، لأن (الضرورات تبيح المحظورات) و (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة) والضرورة: مايترتب على عصيانها خطر. أما الحاجة: فهي مايترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة. والمراد بكون الحاجة عامة: أن تكون شاملة جميع الأمة، والمراد بكونها خاصة أن يكون الاحتياج لطائفة متخصصة من الأمة كأهل بلد أو حرفة، لا أن تكون فردية (1) .
ولست مع الشاطبي في أن العمل بالضرورة أو الحاجة أخذ بما يوافق الهوى (2) ، لأن الضرورات والحاجات تتجدد بحسب التطور. ولابد من مراعاة ضوابط الضرورة الشرعية والحاجة (وهي أن تكون قائمة لامتوقعة، ويقينية أو غالبة الظن، وملجئة أو محرجة ... إلخ) (3) .
الضابط الخامس ـ أن يتقيد الأخذ بالأيسر بمبدأ الترجيح.
أي أن يكون الهدف العام أولاً هو العمل بالرأي الأقوى أو الأرجح بحسب رجحان دليله، لأن الأخذ بالأيسر نوع من الاجتهاد، والمجتهد ملزم باتباع الدليل الراجح المؤدي إلى الصواب، بحسب غلبة ظنه. لذا أوجب الأصوليون على المفتي (أي المجتهد) أن يتبع القول لدليله، فلايختار من المذاهب أضعفها دليلاً، بل يختار أقواها دليلاً؛ لأن الصحابة أجمعوا في اجتهاداتهم على وجوب العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما، ولأن العقل يوجب العمل بالراجح في الحوادث، والأصل اتفاق الشرع مع العقل. قال القرافي: إن الحاكم إن كانمجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحاً عنده، مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا.
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 603.
(2) الموافقات: 145/4.
(3) راجع نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي: ص 66 ومابعدها.(1/106)
وقال أيضاً: أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (1) . لكن ناقش الشيخ عليش هذا الإجماع فقال: ولعل هذا الإجماع ـ على تقدير ثبوته ـ إنما يكون حيث تبع القاضي أو المفتي في تقليد الشاذ هواه، فإن أبغض شخصاً أو كان من ذوي الخمول، شدد عليه، فقضى عليه وأفتاه بالمشهور، وإن أحبه أو كان له عليه منة، وكان من أصدقائه أو أقاربه واستحيا منه، لكونه من ذوي الوجاهة أو أبناء الدنيا، أفتاه، أو قضى له بالشاذ الذي فيه رخصة (2) .
ثم ذكر الشيخ عليش في فتاويه عند الكلام على موضوع التخير بين الأقوال: الصحيح إن كان المقلد أهلاً للنظر في طرق الترجيح وإدراك مدارك التقديم والتصحيح، فإنما الواجب عليه في القولين أو الأقوال إن كانت لشخص واحد ألا يعمل أو يفتي أو يحكم إلا بالراجح عنده (3) .
ثم تعقب الشيخ عليش (4) عبارة القرافي في أنه منع المجتهد من الحكم والفتيا إلا بالراجح عنده، وأجاز للمقلد أن يفتي بمشهور مذهب من قلده حتى ولو كان شاذاً مرجوحاً في نظره. ثم قال عليش: لا دليل فيه على جواز العمل بغير الراجح، لأنه لا يلزم من العمل بالمرجوح عنده الراجح في نظر إمامه أو عكسه العمل بالمرجوح في نظرهما معاً.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 79، 80، تبصرة الحكام: 66/1، فتاوى الشيخ عليش: 64/1،68.
(2) فتح العلي المالك: 62/1.
(3) فتاوى الشيخ عليش: 65/1.
(4) المرجع السابق: 68/1.(1/107)
وخلاصة الكلام المفهوم من كلام القرافي والشيخ عليش: إن المقلد إذا كان أهلاً للترجيح، وكان هناك قولان: راجح ومرجوح، فعليه النظر والترجيح. وإن كان القولان متكافئين لا راجح فيهما في نظره، جاز له الحكم بأحد القولين أو الترجيح بالأعلم أو بالأكثر أو بالأشد والأثقل (1) .
هذا هو الأصل العام عند العلماء في أنه يجب العمل بالراجح في الفتوى والقضاء والعمل إلا لعارض معتبر شرعاً، فإذا وجدت ضرورة أو حاجة أومصلحة عامة للعمل بالقول المرجوح (الضعيف أو الشاذ) (2) أو اعتمد الحاكم قولاً مرجوحاً، جاز الأخذ به، كما بينت سابقاً، ولا إجماع في الحقيقة على منع الأخذ بالمرجوح بدليل وجود الاختلاف بين العلماء فيما يأخذ به المقلد من أقوال العلماء.
قيل: يأخذ بقول أعلمهم. وقيل: يأخذ بقول أكثرهم، وقيل: يأخذ بقول من شاء منهم، يعني وإن لم يكن قائله أعلم ولا أكثر، بل يكون مماثلاً أو أقل عدداً أو أدنى علماً، وهذا هو عين القول الشاذ. وقد قال بعض المفسرين في سر قوله تعالى لداود عليه السلام: {ولا تتبع الهوى} [ص:26/38] ، بعد أمره له أن يحكم بالحق: إن فيه إشارة إلى أن الامتثال لايكون بمجرد الحكم بالحق، حتى يكون الباعث على الحكم به حقيته، لا اتباع الهوى، فيكون معبود من اتصف بهذا هواه، لا مولاه جل وعلا، حتى إذا لم يجد هواه في الحق تركه، واتبع غير الله.
__________
(1) الإحكام للقرافي: ص30، 80، فتاوى عليش: 65/1،69، 79
(2) القول الشاذ: هو الذي ضعف مُدْرَكه جداً.(1/108)
أما من قلد القول الشاذ لأنه حق في حق من قال به، وفي حق من قلده، ولم يحمله عليه مجرد الهوى، بل الحاجة والاستعانة على دفع ضرر ديني أو دنيوي، فهذا ترجى له السلامة في تقييده ذلك (1) .
وقال الشيخ عليش: أما التقليد في الرخصة من غير تتبع، بل عند الحاجة إليها في بعض الأحوال خوف فتنة ونحوها، فله ذلك (2) .
هذه هي ضوابط الأخذ بأيسر المذاهب - قي تقديرنا - فإذا ماالتزمناها نكون قد أخذنا بمبدأ الاعتدال والتوسط الذي قامت عليه شريعة الإسلام، والذي يتفق مع المنهج الذي ارتآه الخليفة أبو جعفر المنصور، حينما لقي الإمام مالك في الحج، فقال له: إنه لم يبق عالم غيري وغيرك. أما أنا فقد اشتغلت بالسياسة. فأما أنت فضع للناس كتاباً في السنة والفقه، تجنب فيه رخص ابن عباس، وتشديدات ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، ووطئه توطيئاً. قال مالك: فعلمني كيفية التأليف. يعني دله على طريقة الاعتدال.
ويمكن اختصار هذه الضوابط في أمرين:
أولهما - أن تكون المسألة اجتهادية ليس فيها دليل راجح.
ثانيهما - أن تكون هناك ضرورة أو حاجة أو مصلحة أو عذر.
هذا وقد أبان ابن حجر وغيره من الشافعية (3) شروط التقليد، وبالتالي تصلح هذه الشروط لبحثنا وهو الأخذ بأيسر المذاهب، من باب أولى فيحسن ذكرها، فقال:
وشروط التقليد ستة:
الأول - أن يكون مذهب المقلَّد مدوناً لتتمكن فيه عواقب الأنظار ويتحصل له العلم اليقيني بكون المسألة المقلد بها من هذه المذاهب.
الثاني - حفظ المقلِّد شروط إمام المذهب في تلك المسألة.
الثالث - أن لايكون التقليد فيما ينقض فيه قضاء القاضي، بأن لايكون خلاف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.
الرابع - أن لايتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل لتنحل رتبة التكليف من عنقه.
قال ابن حجر: ومن ثم كان الأوجه أن يفسق به. وقال الرملي: الأوجه أنه لايفسق وإن أثم به.
وهذا الشرط - كما صرح المتأخرون - ليس شرطاً لصحة التقليد بل هو شرط لدرء الإثم كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة.
الخامس - أن لايعمل بقول في مسألة ثم بضده في عينها.
وهذا الشرط فيه نظر، لأنه مبني على امتناع التقليد بعد العمل، والأصح جوازه - كما قال الشافعية.
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش: 62/1.
(2) المرجع السابق: 60/1.
(3) راجع الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية، ضمن (مجموعة سبعة كتب مفيدة) للسيد علوي بن أحمد السقاف، طبعة البابي الحلبي: ص51.(1/109)
السادس - أن لايلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة، لايقول كل من الإمامين بها، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. قال البلقيني: إن التركيب القادح في التقليد إنما يؤخذ إذا كان في قضية واحدة، كتقليد إمامين في طهارة الحدث. أما إذا كان التركيب من حيث القضيتين كطهارة الحدث وطهارة الخبث، فذلك غير قادح، لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته. وزاد بعض الشافعية شرطاً سابعاً: وهو أنه يلزم المقلِّد اعتقاد أرجحية أو مساواة مقلِّده للغير، لكن المشهور الذي رجحه النووي والرافعي جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل. قال ابن عابدين في رد المحتار: ذكر في التحرير وشرحه أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل. وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية.
وزاد بعضهم شرطاً ثامناً: وهو أنه لابد من صحة التقليد أن يكون صاحب المذهب حياً وقت التقليد. لكن هذا مردود عند العلماء، لأن الشيخين النووي والرافعي اتفقا على جواز تقليد الميت، وقالا: هو الصحيح.
يتبين من نقاش هذه الشروط خلال ماكتبناه أن الشرطين الأولين مفترض تحققهما في كل تقليد أو أخذ بالأيسر. وأن الشرط السابع والثامن لاداعي لهما، وأوافق على الشرط الثالث وأعتمده في بحثي، وأمنع الأخذ بالتلفيق الممنوع فقط وبه يستغنى عن الشرط الخامس. وآخذ بما يخالف الشرط الرابع عند الحاجة.
ويحسن وضع مشاريع قوانين مدنية وتجارية وجزائية مستمدة من الفقه الإسلامي كله (فقه الصحابة والتابعين وفقه المذاهب الأربعة وغيرها من فقه أئمة الاجتهاد الآخرين وعلماء العصر الحديث) .(1/110)
والاجتهاد ممكن كل الإمكان اليوم، ولاصعوبة فيه، بشرط أن ندفن تلك الأوهام والخيالات، ونمزق ذلك الران الذي خيم على عقولنا وقلوبنا من رواسب الماضي وآفات الخمول، والظن الآثم بعدم إمكان الوصول إلى ماوصل إليه الأولون، حتى عد ذلك كأنه ضرب من المستحيل، وهل هناك مستحيل بعد غزو الفضاء واختراع أنواع الآلات الحديثة العجيبة الصنع؟!. إن استكمال شرائط الاجتهاد ليس من العسير في شيء بعد تدوين العلوم المختلفة، وتعدد المصنفات فيها، وتصفية كل دخيل عليها.
وهاهم العلماء في كل عصر يجتهدون، ويرجحون بين أقوال الفقهاء السابقين، حتى انضبطت المذاهب، وحررت الأحكام.
قال ابن عبد السلام من أئمة المالكية في كتابه (شرح مختصر ابن الحاجب) في باب القضاء: «إن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وهي شرط في الفتوى والقضاء، وهي موجودة إلى الزمان الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بانقطاع العلم، ولم نصل إليه إلى الآن، وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ، وذلك باطل» .
قال السيوطي معلقاً على هذه العبارة: «فانظر كيف صرح بأن رتبة الاجتهاد غير متعذرة، وأنها باقية إلى زمانه، وبأنه يلزم من فقدها اجتماع الأمة على الباطل، وهو محال» (1) .
قال الشيخ المراغي في بحثه عن الاجتهاد في الإسلام: وإني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم في رأيهم، وأقول: إن في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيهم شروط الاجتهاد ويحرم عليهم التقليد.
المطلب السابع ـ المصيب في الاجتهاد
اتفق الأصوليون على أن الناظر في القضايا العقلية المحضة (2) والمسائل
__________
(1) الرد على من أخلد إلى الأرض: ص24.
(2) القضايا العقلية: هي التي يصح للناظر درك حقيقتها بنظر العقل قبل ورود الشرع كإثبات الإله الصانع وصفاته وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وحدوث العالم، وجواز رؤية الله تعالى، وخلق القرآن والأعمال، وخروج الموحدين من النار.(1/111)
الأصولية (1) : يجب أن يهتدي إلى الحق والصواب فيها، لأن الحق فيها واحد، لايتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وإلا اجتمع النقيضان. فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأ فهو آثم، ونوع الإثم يختلف: فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر، وإلا فهو مبتدع فاسق، لأنه عدل عن الحق، وضل، كالقول بعدم رؤية الله تعالى، وخلق القرآن (2) .
ويلحق بذلك المسائل القطعية المعلومة من الدين بالضرورة (أي البداهة) ، كوجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان وتحريم الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها مما علم قطعاً من دين الله، فليس كل مجتهد فيها مصيباً، بل الحق فيها واحد لايتعدد، وهو المعلوم لنا، فالموافق له مصيب، والمخالف له مخطئ آثم.
أما المسائل الفقهية الظنية أي الأحكام التي ليس فيها دليل قاطع، فهي محل الاجتهاد، ولا إثم على المجتهد فيها، لكن اختلف الأصوليون فيها، هل كل مجتهد فيها مصيب أو أن المصيب واحد؟.
ومنشأ الخلاف في هذا: هل لله تعالى في كل مسألة حكم معين في الأمر نفسه قبل اجتهاد المجتهد، أو ليس له حكم معين، وإنما الحكم فيها هو ماوصل إليه المجتهد باجتهاده؟.
__________
(1) المسائل الأصولية: مثل كون الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة، لأن أدلتها قطعية، فيعتبر المخالف فيها آثماً مخطئاً.
(2) المستصفى: 105/2، الإحكام للآمدي: 146/3، شرح المحلي على جمع الجوامع: 318/2، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 293/2، مسلم الثبوت: 328/2، كشف الأسرار: 1137/4، التلويح: 118/2، الملل والنحل: 201/1، إرشاد الفحول: ص228.(1/112)
فقال الأشعري والغزالي والقاضي الباقلاني: لاحكم لله قبل اجتهاد المجتهد، وحكم الله ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فالحكم يتبع الظن، وما غلب على ظن المجتهد هو حكم الله، أي أن كل مجتهد مصيب، لأنه أدى ماكلف به.
وقال جمهور العلماء والشيعة: إن لله في كل واقعة حكماً معيناً قبل الاجتهاد، فمن صادفه فهو المصيب، ومن لم يصادفه كان مخطئاً. فالمصيب واحد، له أجران، والمخطئ غيره وله أجر واحد (1) .
ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة من الفقهاء والمتكلمين: هذا الحكم لادليل ولا أمارة عليه، بل هو كدفين يعثر عليه الطالب مصادفة. وهو رأي غير معقول لامعنى له، إذ كيف يكلف الله العباد بحكم لا دليل عليه؟.
وقال الأكثرون: قد نصب الله على هذا الحكم أمارة ظنية، والمجتهد ليس مكلفاً بإصابة الدليل لخفائه وغموضه، فمن لم يصبه كان معذوراً مأجوراً، وهذا هو القول الصحيح، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» .
المطلب الثامن ـ طريقة الاجتهاد:
إذا وقعت حادثة جديدة، أو أراد إنسان استخلاص رأي راجح من بين آراء الأئمة، استجمع العالم المجتهد كل ما يتصل بنواحي الموضوع من لغة وآيات قرآنية
__________
(1) اللمع للشيرازي: ص 71، المستصفى: 106/2 ومابعدها، الإحكام للآمدي: 148/3 ومابعدها، شرح الإسنوي: 251/3، شرح المحلي على جمع الجوامع: 318/2، شرح العضد على مختصر المنتهى: 293/2، التقرير والتحبير: 306/3، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: 376/2 ومابعدها، كشف الأسرار: 1138/4، التلويح على التوضيح:118/2، إرشاد الفحول: ص 230، الملل والنحل للشهرستاني:203/2.(1/113)
وأحاديث نبوية وأقاويل السلف وأوجه القياس الممكنة، أي لا بد من توافر شروط الاجتهاد في تلك الحادثة، ثم ينظر فيها بدون تعصب لمذهب معين على النحو التالي:
ينظر أولاً في نصوص كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه نصاً أو ظاهراً، تمسك به، وحكم في الحادثة بمقتضاه. فإن لم يجد فيه ذلك، نظر في السنة، فإن وجد فيها خبراً أو سنة عملية أو تقريرية، أخذ بها، ثم ينظر في إجماع العلماء، ثم في القياس (1) ، ثم في الرأي الموافق لروح التشريع الإسلامي (2) . وهكذا تتحدد طريقة الاجتهاد إما بالأخذ من ظواهر النصوص إذا انطبقت على الواقعة، أو بأخذ الحكم من معقول النص أي بالقياس، أو بتنزيل الوقائع على القواعد العامة المستنبطة من الأدلة المتفرقة في القرآن والسنة كالاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع إلخ (3) .
المطلب التاسع ـ نقض الاجتهاد وتغييره وتغير الأحكام بتغير الأزمان:
أولاً ـ تغير الاجتهاد: يجوز للمجتهد تغيير اجتهاده، فيرجع عن قول قاله سابقاً، لأن مناط الاجتهاد هو الدليل، فمتى ظفر المجتهد به، وجب عليه الأخذ بموجبه لظهور ماهو أولى بالأخذ به، مما كان قد أخذ به، ولأنه أقرب إلى الحق والصواب (4) .
__________
(1) الرسالة للشافعي: ص 508، الملل والنحل للشهرستاني: 198/2، المنخول للغزالي: ص466.
(2) أعلام الموقعين: 66/1، إرشاد الفحول: ص227.
(3) تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ص 31.
(4) إرشاد الفحول: ص232.(1/114)
جاء في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة: «ولايمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل» .
ثانياً ـ نقض الاجتهاد: إذا أفتى مجتهد في حادثة ما، أو حكم الحاكم في نزاع بين متخاصمين، ثم تغير اجتهاد كل منهما، فرأى المجتهد أو الحاكم حكماً بخلاف مارآه أولاً، فما الذي يعمل به من الاجتهادين: السابق أم اللاحق، وهل ينقض الاجتهاد السابق؟ وقبل الإجابة يلاحظ أن هناك فرقاً بين نقض الاجتهاد وتغير الاجتهاد. وهو أن التغير أمر نظري لتقرير مبدأ العدول عن الاجتهاد السابق، وأما نقض الاجتهاد فمجاله الحياة العملية والإفتاء وفض المنازعات والخصومات بين الناس.
وقد ميز الأصوليون في مسألة نقض الاجتهاد بين المجتهد والحاكم (1) .
أما المجتهد لنفسه إذا رأى حكماً معيناً، ثم تغير ظنه، لزمه أن ينقض اجتهاده وما ترتب عليه. مثاله: إذا رأى المجتهد أن الخلع فسخ، فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثاً، ثم رأى بعدئذ أن الخلع طلاق، لزمه مفارقة تلك المرأة، ولايجوز له إمساكها، عملاً بمقتضى الاجتهاد الثاني، لأنه تبين أن الاجتهاد الأول خطأ، والثاني صواب، والعمل بالظن واجب.
وأما الحاكم: إذا قضى في واقعة معينة باجتهاد، ثم تغير اجتهاده في واقعة مماثلة، فإن كان حكمه مخالفاً لدليل قاطع، من نص، أو إجماع، أو قياس جلي (2) نقض باتفاق العلماء، سواء من قبل الحاكم نفسه أو من أي مجتهد آخر، لمخالفته الدليل.
__________
(1) المستصفى: 120/2، الإحكام للآمدي: 158/3، مسلَّم الثبوت:345/2، فواتح الرحموت: 395/2، التقرير والتحبير: 335/3، شرح المحلي على جمع الجوامع: 320/2، المدخل إلى مذهب أحمد: ص190، إرشاد الفحول: ص 232.
(2) وهو ماكانت العلة فيه منصوصة، أو كان قد قطع بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع.(1/115)
وأما إذا كان حكمه في مجال الاجتهاديات، أو الأدلة الظنية، فإنه لاينقض الحكم السابق، لأن نقضه يؤدي إلى اضطراب الأحكام الشرعية وعدم استقرارها، وعدم الوثوق بحكم الحاكم، وهذا مخالف للمصلحة التي نصب الحاكم لها، وهو فصل المنازعات. فلو أجيز نقض حكم الحاكم، لما استقرت للأحكام قاعدة، ولبقيت الخصومات على حالها بعد الحكم، وذلك يوجب دوام التشاجر والتنازع وانتشار الفساد ودوام العناد، وهو مناف للحكمة التي لأجلها نصب الحكام، كما قال القرافي (1) . والرائد في ذلك قول عمر حينما قضى في مسألة إرثية بحكمين: «تلك على ماقضينا وهذا على مانقضي» وقول الفقهاء في الفروع: «لاينقض الاجتهاد بالاجتهاد» .
ثالثاً ـ تغير الأحكام بتغير الأزمان:
لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، كما هو معروف مشهور، وذلك بسبب تغير العرف، أو تغير مصالح الناس، أو مراعاة الضرورة، أو لفساد الأخلاق، وضعف الوازع الديني، أو لتطور الزمن وتنظيماته المستحدثة. فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وإحقاق الحق والخير. وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف.
ومما ينبغي ملاحظته أن الأحكام القابلة للتغير أو التطور هي المستنبطة بطريق القياس أو المصلحة المرسلة، وذلك في نطاق المعاملات أو الأحكام الدستورية والإدارية والعقوبات التعزيرية، مما يدور مع مبدأ إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد.
__________
(1) الفروق: 104/2.(1/116)
أما ماعدا ذلك من الأحكام الأساسية المقررة لغاية تشريعية أو مبدأ تنظيمي عام، فهي أمور ثابتة لاتقبل التطور، مثل أصول العقيدة والعبادات والأخلاق وأصول التعامل كحرمة محارم الإنسان، ومبدأ الرضائية في العقود، ووفاء العاقد بعقده أو عهده، وضمان الضرر اللاحق بالغير، وتحقيق الأمن والاستقرار، وقمع الإجرام، وحماية الحقوق الإنسانية العامة، ومبدأ المسؤولية الشخصية، واحترام مبدأ العدالة والشورى.
المطلب العاشر ـ خطة البحث:
طريقتي في بحث أبواب الفقه هي تقسيم الفقه إلى أقسام ستة:
1 - العبادات، وما له صلة بها كالنذور والأيمان والأضاحي والذبائح (صلة الإنسان بالله تعالى) .
2 - أهم النظريات الفقهية.
3 - المعاملات - العقود المدنية وتوابعها (علاقة الإنسان بغيره) .
4 - الملكية وما يتبعها من بحث أحكام الأراضي، وإحياء الموات، وحقوق الارتفاق، وعقود استثمار الأرض، وأحكام المعادن والنفط، والقسمة، والغصب واللقطة والسبق والمفقود والشفعة.
5 - ما له صلة بالدولة (الفقه العام) : الحدود والجنايات والجهاد والمعاهدات والقضاء وطرق الإثبات وأحكام الإمامة الكبرى أو نظام الحكم. وقد يسمى ذلك بالأحكام السلطانية.
6 - الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوابعهما، وميراث ووصية، ووقف، وأما الأهلية والولاية فقد أوضحتهما في بحث النظريات الفقهية، ويتكرر تفصيلهما أحياناً في بعض مباحث الأحوال الشخصية، وعقد البيع وغيره.
المطلب الحادي عشر ـ جدول المقاييس
1 - وحدات الأطوال:
القَصَبة: (6 أذرع أو 696،3 م) (متراً) (2) .
الجريب: (100 قصبة أو 3600) ذراعاً هاشمياً أو قدماً مربعاً أو ياردة مربعة، (أو0416،1366 م2) (متر مربع) ، والقدم: (4،30 سم) ، واليارد الحالي: (43،91سم) .
الذراع الهاشمي: (32) إصبعاً أو قيراطاً، والإصبع: (925،1) سم (سنتيمتر) .
الذراع المصري العتيق (3) : (2،46) سم.
__________
(1) انظر الخراج في الدولة الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس، ط أولى: ص261-353، النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح: ص409-429، الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان لابن الرفعة الأنصاري.
(2) القصبة الحالية: 23.75م2، قد يختلف التقدير بالغرام أو المتربين الحنفية والشافعية وغيرهم، بسبب الاختلاف في تقدير الأوسق والمرحلة.
(3) والمؤلفون يسمونه بأسماء مختلفة، فيقولون: الذراع الصغير، أو ذراع العامة، أو ذراع القياس، أو ذراع اليد، أو ذراع الآدمي، أو الذراع الصحيح.(1/117)
الذراع المقصود فقهاً هو الهاشمي: (2،61) سم.
الباع: (4) أذرع، والمرحلة: (12) ساعة.
القفيز (في الأطوال) : (10/1) الجريب أو (6،136م2) .
الغَلْوة (غلوة سهم) : (400) ذراع أو (8،184م) .
الميل: (4000) ذراع أو (1848م) أو (2/1) ساعة أو (1000) باع.
والميل البحري الحديث: (32،1848) م.
الفرسخ: (3) أميال أو (5544) م أو (12000) خطوة، حوالي (2/1) 1ساعة، واحد ونصف.
البريد العربي: (4) فراسخ أو (22176م) أو (176،22) كم أو حوالي (6) ساعات (1) .
مسافة القصرللمسافر أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً، وتساوي: (704،88) كم (كيلومتر) ، وعند الحنيفةحوالي 86 كم. وقدرها بعضهم بـ 83كم.
الفدان المصري: (5/6) (4200) م2 أو (3/1) (333) قصبة مربعة.
والفدان القديم: (5929م2) .
الدونم: (1000م2) .
__________
(1) قدر بعضهم الفرسخ بـ (5760م) فتكون الثمانية فراسخ 46.80 كم.(1/118)
2 - وحدات المكاييل:
الصاع الشرعي أو البغدادي: (4) أمدادأو (5 و3/1) رطل، أي أربع حَفَنات كبار، ووزنه: (7،685) درهماً أو (75،2) لتراً أو (2176) غم وهو رأي الشافعي وفقهاء الحجاز والصاحبين باعتبارأن المد: رطل وثلث بالعراقي، وعند أبي حنيفة وفقهاء العراق: ثمانية أرطال باعتبار أن المد رطلان، فيكون (3800غم) .وفي تقدير آخر هو الشائع أن الصاع (2751غم) . قال النووي: الأصح أن الصاع ست مئة وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم. والرطل مئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. والعبرة بالصاع النبوي إن وجد أومعياره، فإن فقد أخرج مزكي الفطرة قدراً يتيقن أنه لا ينقص عن صاع. والصاع بالكيل المصري: قَدَحان.
المد: (3/1) 1 رطلاً أو (675) غم (غرام) أو (688،0) لتراً.
الرطل الشرعي أو البغدادي: (7/4) (128) درهماً، وقيل: (130) درهماً، والرطل البغدادي: (408) غم، والرطل المصري: (144) درهماً أي (450) غم تقريباً.
الدرهم العراقي (17،3) غم، والدرهم الحالي المصري: (12،3) غم، والدرهم العربي (975،2غم) .
القفيز: (12) صاعاً أو ثمانية مكاكيك، والمكُّوك: صاع ونصف. ويساوي القفيز أيضاً (33) لترا ً أو (128) رطلاً بغدادياً، كما يساوي ثلاث كيلجات، والكيلجة: نصف صاع.
المنا: رطلان.
الفَرْق: إناء من نحاس يسع (16) رطلاً، أي ما يعادل (10) كغ أو (6) أقساط، والقِسْط نصف صاع.
الْمُدْي (مكيال للشام ومصر وهو غير الْمُدّ) : (5،22) صاعاً. الجريب: (48) صاعاً أو (192) مداً.
الوَسْق: (60) صاعاً، والخمسة أوسق نصاب الزكاة: (300) صاعاً أو (653) كغ على رأي الجمهور غير أبي حنيفة بتقدير الصاع (2175) غم أو (1200) مداً أو (4) أرادب وكيلتين من الكيل الحالي المصري أو (50) كيلة مصرية. والكيلة: (24) مداً. والإردب المصري الحالي: (96) قدحاً أو (288) مداً أو (198) لتراً (1) ، أو (156) كغ أو (192) رطلاً أو (72) صاعاً. والكيلة المصرية: (6) آصع أو (32) رطلاً.
الإرْدَب المصري أو العربي: (24) صاعاً أو (64) مَنَا أو (128) رطلاً أو (6) وَيْبات أو (66) لتراً.
__________
(1) قدرت دائرة المعارف الإسلامية الصاع بثلاثة ألتار، فيكون الوسق على هذا (180 لتراً) والأدق ماذكرناه أن الصاع (2.75 لتراً) .(1/119)
الوَيْبة: (24) مداً أو (6) آصع، فهي الكيلة المصرية الحالية.
الكُرّ (أكبر مقاييس الكيل العربي) : (720) صاعاً أو (60) قفيزاً أو (10) أرادب أو (3840) رطل عراقي أو (1560) كغ (كيلو غرام) .
3 ـ وحدات الأوزان والنقود:
الدينار: المثقا ل من الذهب أو (25،4) غم (1) أو حبة من الشعير المتوسط.
حبة الشعير (أي المعتدل) : (059،0) غم من الذهب.
المثقال أو الدينار: (20) قيراطاً، والمثقال العجمي: (80،4) غم، والمثقال العراقي: (5) غم (2) .
القيراط: (2125،0) غم فضة إذا اعتبرنا المثقال مقسماً إلى عشرين قيراطاً وهو ما أراد معاوية أن يزيده على مصر، أو (2475،0) غم فضة إذا اعتبرنا المثقال مقسماً إلى اثنين وعشرين قيراطاً.
الدرهم العربي: (10/7) من المثقال (الدينار) أو (975،2) غم أو (6) دوانق أو (5/2) (50 حبة) شعير متوسط، والعشرة دراهم: (7) مثاقيل ذهباً أو (140) قيراطاً وأوقية الذهب: (40) درهماً.
الدانق: قيراطان أو (5/2) 8 حبة شعير متوسط أو (6/1) الدرهم أو (495،0) غم من الفضة.
الطّسوج: حبتان أو نصف قيراط أو (1237،0) غم، والقيراط: طسوجان.
الحبة: (681،0) غم فضة أو (06،0) غم أو فلسين.
النواة: (5) دراهم.
الفَلْس: (03،0) غم فضة.
القنطار الشرعي: (1200) أوقية أو (8400) (3) دينار أو (000،80) درهم،
__________
(1) حدده بنك فيصل الإسلامي في السودان بـ (4.457) غم.
(2) بناء عليه يكون العشرون مثقالاً، وهو نصاب الذهب في الزكاة مساوياً 96 غم بالمثقال العجمي، و100غم بالمثقال العراقي.
ويجب اتخاذ العملة الذهبية أو مايقوم مقامها أساساً للتقدير. ويلاحظ أنه يجب تقدير نصاب الزكاة بحسب سعر الصرف لكل من الذهب والفضة القائم في السوق، لأنه تجب ملاحظة القوة الشرائية للنقد المعاصر، علماً بأن الشرع حدد مبلغين متعادلين للزكاة وهما عشرون ديناراً، ومائتا درهم فضة، وكانا شيئاً وسعراً واحداً.
(3) وجاء في لسان العرب: والمعمول عليه عند العرب أنه أي القنطار أربعة آلاف دينار. والأوقية سبعة مثاقيل: (119) غم فضة.(1/120)
القنطار الحالي: (100) رطل شامي، والرطل الشامي: (564،2) كغ، ونصاب العنب والتمر (الخمسة أوسق) : (5،2) قنطاراً زبيباًأو (653) كغ أو (50) كيلة مصرية.
ملاحظة:
إن التقدير الذي اعتمدته هنا على الأصح: هو أن الدينار (25،4غم) والدرهم (975،2 غم) ونصاب الفضة في الزكاة (595غم) ونصاب الذهب (85غم) والصاع عند الشافعية (2176غم) فتكون الخمسة أوسق.
(300صاع×2176غم) = 8،652 كغ أي (653) كغ تقريباً.
واعتمدت أيضاً في خلاصة التقديرات على ماهو الأشهر، وإن كانت إلا حالات أحياناً على تقدير مذهبي آخر.(1/121)
المطلب الثاني عشر ـ النية والباعث في العبادات والعقود والفسوخ والتروك:
هذا بحث في النية المشروعة (القصد أو الإرادة) والنية غير المشروعة (الباعث السيء) وأحكامها وأحوالها في مجال العبادات من طهارة وصيام وزكاة وحج وغيرها، والمعاملات من عقود بيع وزواج وهبة وكفالة وحوالة ونحوها، وفسوخ كالطلاق لإنهاء رابطة الزواج، وتروك كترك المكروه والحرام، وإزالة النجاسة ورد المغصوب والعواري وإيصال الهدية وغير ذلك مما لا تتوقف صحته على النية، ومباحات وعادات كالأكل والشرب والجماع ونحوها مما يثاب عليه المسلم ثواب العبادات عند استحضار النية فيها. ولا مشقة عليه في القيام بها، بل هي مألوفة لنفسه، مستلذة يقبل عليها بدافع ذاتي أو بالغريزة والفطرة. أهمية البحث وخطته:
تمتاز الشريعة الإسلامية بسبب شمولها لأمور الدين والدنيا بأنها نظام روحي ومدني معاً، وينقسم الحق فيها باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين: حق دياني وحق قضائي.
الأول: هو الذي لايدخل تحت ولاية القضاء، وإنما يكون الإنسان مسؤولاً عنه أمام الله تعالى.
والثاني: هو ما يدخل تحت ولاية القاضي، ويمكن لصاحبه إثباته أمام القضاء. وتظهر ثمرة القسمة بينهما في أن الأحكام الديانية تبنى على النوايا والواقع والحقيقة، وأما الأحكام القضائية فتبنى على ظاهر الأمر، ولا ينظر فيها إلى النوايا وواقع الأمر، فمن طلَّق امرأته خطأ، ولم يقصد إيقاع الطلاق، يحكم القاضي بوقوع طلاقه، عملاً بالظاهر واستحالة معرفة الحقيقة. وأما ديانة فيحكم المفتي بعدم وقوع الطلاق، وللإنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين الله تعالى.
فحق الديانة يعتمد على النية، والنية أساس الديانة (1) ، وهو الحق الأبدي الخالد الذي يبقى ولا يتغير، وهو مناط الثواب والعقاب بين يدي الله تعالى؛ لأن الإسلام دين قبل كل شيء، والدينونة جوهر الإسلام، وهي محصورة بأن تكون لله عز وجل وحده.
__________
(1) روى البيهقي والطبراني عن أنس بن مالك حديثاً هو: «نية المؤمن خير من عمله» لكنه ضعيف، كما ذكر السيوطي في الجامع الصغير، وقال الحافظ المناوي: والحاصل أن له عدة طرق تجبر ضعفه.(1/122)
أما القوانين الوضعية فلا ينظر فيها للنوايا والبواطن والخفايا ولا مجال فيها لفكرة الحلال والحرام بالمعنى الديني، وإنما العبرة للظواهر ورصد واقع الحياة من خلال التعامل القائم، وتنظيمه على وفق النظام السائد في المجتمع والدولة.
وقد أدى تطبيق القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية إلى إضعاف الوازع الديني، وانحسار هيمنة الدين ورقابة الإله في السر والعلن على تصرفات الناس، وغياب ميزان التقوى في كسب الحقوق والتنازل عنها، مما أفقد الاهتمام بالنية. ولكن بروز مثل هذه الظاهرة المرضية في مجتمعاتنا لا يثنينا عن ضرورة التذكير المستمر برصيد الإسلام وقيمه وأحكامه؛ لأنه النظام الأمثل والأخلد والأصلح للبشرية لتصحيح مسيرة الناس، وتجاوز الانحرافات والأخطاء، ولأنه الأساس الذي يحاسب عليه الإنسان في الضمير العام بين البشر، ولدى أحكم الحاكمين في الدار الآخرة.(1/123)
ومن أهم مقومات الرصيد الإسلامي في نطاق الأحكام الشرعية التي يلزم بها المكلفون: النية الصحيحة، فهي معيار لتصحيح الأعمال، فحيث صلحت النية، صلح العمل، وحيث فسدت فسد العمل. ولا تصير أعمال المكلفين المؤمنين معتبرة شرعاً، ولا يترتب الثواب على فعلها إلا بالنية. وقد اعتبر حديث عمر رضي الله عنه المشهور وهو «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، فهو أحد أصول الدين، وعليه تدور غالب أحكامه، وهو نصف الإسلام، قال أبو داود: «إن هذا الحديث نصف الإسلام؛ لأن الدين إما ظاهر وهو العمل، أو باطن وهو النية» وهو أيضاً ثلث العلم، قال الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله: يدخل في حديث (الأعمال بالنيات) ثلث العلم، قال البيهقي وغيره. وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه، ولسانه، وجوارحه، والنية أحد أقسامه الثلاثة. وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه. ولذا استحب العلماء أن تستفتح به الكتب والمصنفات، ليكون ذلك منبِّهاً طالب العلم أن يصحح نيته لوجه الله تعالى في طلب العلم وعمل الخير ونفع نفسه وأمته وبلاده. وبناء عليه قال العلماء: «إن قاعدة: الأمور بمقاصدها ثلث العلم» . وقال جماعة من العلماء: حديث الأعمال بالنيات ثلث الإسلام، قا ل أبو داود: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» وحديث عمر هذا، وحديث أبي هريرة: «إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً» وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم (1) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص8.(1/124)
لهذا كله يكون بحث النية من أوليات الدين. وأصول العلم الضرورية لكل إنسان، لأن في البحث تذكيراً وبياناً وضبطاً، ووضع الضوابط للنية ييسر على العبَّاد والنسَّاك معرفة الطريق الأصح الأسلم لعبادتهم وقرباتهم، ويوضح لكل إنسان طريق التمييز بين الحلال والحرام وما يوجب الثواب والعقاب، ويبيِّن له ما يجب عليه معرفته من الحد الأدنى في طلب العلم، إذ لا تصح عبادة بدون نية، ويتأثر الحكم على كل تصرف من عقد أو فسخ بنوع النية، فهو إما جائز صحيح بالنية المشروعة، وإما فاسد باطل بالنية الخبيثة أو السيئة، وإما مُرتِّب للأثر أو عدمه بحسب النية وجوداً وفقداناً، فهل العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني أو للألفاظ والمباني؟ وهل الباعث السيء يفسد العقد أو لا؟ وهذا يؤدي لبيان مبدأ الذرائع سداً وفتحاً.
وأتناول في بحثي هذا عن النية الأمور التالية:
1 - حقيقة النية أو تعريف النية.
2 - حكم النية (الوجوب) ، وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها.
3 - محل النية.
4 - زمن النية أو وقت النية.
5 - كيفية النية.
6 - الشك في النية وتغييرها والجمع بين عبادتين بنية واحدة.
7 - المقصود بالنية ومقوماتها.
8 - شروط النية.
9 - النية في العبادات.
10- النية في العقود.
11- النية في الفسوخ.
12- النية في التروك.
13- النية في المباحات والعادات.
14- النية في أمورأخرى.
هذا مع العلم بأن المحدِّثين والفقهاء أوضحوا الكلام في النية، ولكن في مواطن متفرقة، وفي ثنايا المسائل وأعماق الأبواب الفقهية، ولم أطلع على كتاب جامع لأحكام النية وأحوالها سوى (كتاب نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام) للعالم أحمد بك الحسيني (طبع 1320هـ /1903م) بالمطبعة الأميرية بمصر، إلا أنه محصور بأمرين: كونه في مذهب الشافعية فقط، وفي بعض العبادات فحسب.(1/125)
لذا وجدت لزاماً علي بحث كل ما يتعلق بالنية بحسب الخطة المذكورة، لتتجلى للقارئ هذه النظرية الشاملة لشؤون العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والتروك والمباحات، والله الموفق لسواء الصراط.
أولاً ـ حقيقة النية أو تعريفها:
النية لغة: قصد الشيء وعزم القلب عليه (1) ، قال الأزهري: يقال نواك الله: أي حفظك. وتقول العرب: نواك الله: أي صحبك في سفرك وحفظك. وبعبارة أخرى: النية: القصد: وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه، من غير تردد. والنية وإرادة الفعل مترادفان، وتعم كل منهما الفعل الحالي والاستقبالي.
وفَرَق بعض اللغويين بين النية والعزم بجعل النية: الإرادة المتعلقة بالفعل الحالي، والعزم: الإرادة المتعلقة بالفعل الاستقبالي. لكن يردّ على هذا الفارق بتفسير النية بالعزم مطلقاً في كتب اللغة.
والنية في الشرع: عزم قلبي على عمل فرضي أو غيره. أو عزم القلب على عمل فرضاً كان أو تطوعاً. وهي أيضاً: الإرادة المتعلقة بالفعل في الحال أو في المستقبل. وبناء عليه: إن كل فعل صدر من عاقل متيقظ مختار لايخلو عن نية، سواء أكان من قبيل العبادات أم من قبيل العادات. وذلك الفعل هو متعلَّق الأحكام الشرعية التكليفية من الإيجاب والتحريم، والندب والكراهة والإباحة. وما خلا عن النية فهو فعل غافل، فهو لاغٍ، لايتعلق به حكم شرعي. فإذا صدر الفعل من غير عاقل متيقظ، بأن كان من مجنون أو ناسٍ أو مخطئ أو مكرَه، فإنه لاغٍ، لايتعلق به حكم تكليفي مما ذكر، لعدم وجود النية والقصد والإرادة فيه، ولايعتبر شرعاً، ولايتعلق به طلب ولاتخيير.
وأما إذا كان الفعل من الأفعال العادية كالأكل والشرب والقيام والقعود والبطش والمشي والنوم ونحوها صادراً من العاقل المتيقظ بدون نية، فحكمه الإباحة، إن لم يقترن بمايوجب حظره أو طلبه، ويكون معتبراً شرعاً.
__________
(1) المجموع للنووي: 360/1 ومابعدها، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص24 طبع دار الفكر بدمشق.(1/126)
وأما الحكم ببطلان وضوء الناسي، وضمان المتلفات من المجنون والصبي ونحوهما، وضمان الدية بقتل النفس أو قطع عضو، أو إزالة معنى من المعاني كالسمع والبصر والبطش والحركة إذا وقع ذلك خطأ أو شبه عمد، مع عدم نية القتل أو القطع، فهو ليس من باب التكليف الشرعي بشيء بل من باب الحكم الوضعي، أي جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً أو عزيمة أو رخصة، أي أن الإتلاف مثلاً سبب موجب للتعويض أو للضمان مطلقاً، سواء صدر من صغير أو كبير، من عاقل أو مجنون.
ويلاحظ أن المراد بالنية في الصيام هو العزم أو الإرادة الكلية وهو المعنى العام للنية، أي أن الصيام يصح بتبييت النية من الليل، دون اشتراط مقارنتها لبدء الصوم وهوطلوع الفجر، فلو نوى ثم أكل، وصام، صح صومه، أما غير الصيام من العبادات التي تتطلب لصحتها مقارنة النية ببدء الفعل فلابد فيها من القصد تحقيقاً: وهو الإرادة المتعلقة ببدء الفعل، فالنية المعتبرة فيه هي القصد تحقيقاً، أي النية المقترنة ببدء تنفيذ الفعل، وهو المراد بالنية عند عدّها لدى الشافعية من أركان العبادة، كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والحج، ومثلها كنايات العقود والفسوخ، فلابد فيها من القصد تحقيقاً الذي هو النية المقارنة للفظ الكنائي أو الكتابة وإشارة الأخرس التي يفهمها الفطن، وكذا الاستثناء في الأقارير (الإقرارات) والطلاق، والتعليق في الطلاق بكلمة (إن شاء الله) فلابد فيها من النية بمعنى القصد تحقيقاً قبل الفراغ من المستثنى منه، أي اقتران النية بالكلام المتصل ببعضه.(1/127)
وخلاصة الكلام في بيان حقيقة النية تظهر فيما يأتي: قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: اعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره. والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدهما ـ تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز رمضان من صيام غيره. أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني ـ بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أو لله وغيره. وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين. وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه (كتاب الإخلاص والنية) وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلّى الله عليه وسلم تارة بلفظ (النية) وتارة بلفظ (الإرادة) وتارة بلفظ مقارب. وقد جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضاً من الألفاظ المقاربة.
وإنما فرَق من فرَق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك، وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلّى الله عليه وسلم وسلف الأمة، إنما يراد لها هذا المعنى الثاني غالباً، فهي حينئذ بمعنى الإرادة، ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيراً.
ثانياً ـ حكم النية وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها:
حكم النية عند جمهور الفقهاء (1) (غير الحنفية) : الوجوب فيما توقفت صحته عليها، كالوضوء والغسل، ماعدا غسل الميت والتيمم، والصلاة بأنواعها،
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 93/1 ومابعدها، المجموع للنووي: 361/1 ومابعدها، مغني المحتاج:47/1 ومابعدها، المهذب: 14/1 ومابعدها، المغني: 110/1 ومابعدها، كشاف القناع: 94/1-101، أحكام النية للحسيني: ص10، 76، 78 ومابعدها.(1/128)
والزكاة والصيام والحج والعمرة إلى غير ذلك، والندب فيما لم تتوقف صحته عليها كرد المغصوب، والمباحات كالأكل والشرب والتروك كترك المحرَّم والمكروه، مثل ترك الزنا والخمر وغيرهما من المحرَّمات، وترك اللهو الخالي من القمار: وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فهو مكروه، لما فيه من تضييع الوقت والانشغال عن كل نافع مفيد.
ورأي الحنفية (1) : أن النية تسن في الوضوء والغسل وغيرهما من وسائل الصلاة، لتحصيل الثواب، وهي شرط لصحة الصلاة، كما قرر المالكية والحنابلة وسيأتي مزيد بيان لذاك في بحث النية في العبادات، علماً بأن العلماء اتفقوا على أن النية واجبة في الصلاة، لتتميز العبادة عن العادة وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة، والعبادة: إخلاص العمل بكلية العابد لله تعالى.
وأدلة إيجاب النية كثيرة، منها قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء..} [البينة:98 / 5] قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية.
ومنها الحديث المتفق على صحته بين البخاري ومسلم وباقي الأئمة الستة وأحمد (الجماعة) من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ـ كما قا ل النووي ـ حديث عظيم، أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، بل هو أعظمها، وهي اثنان وأربعون حديثاً. ونصه: قا ل عمر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
__________
(1) الدر المختار: 98/1 ومابعدها، البدائع: 17/1، تبيين الحقائق:99/1.(1/129)
ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدُنيا يصيبها أو امرأة ٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه» .
والمراد بالأعمال: أعمال الطاعات والأعمال الشرعية، دون أعمال المباحات. وقد دل الحديث على اشتراط النية في العبادات، لأن كلمة (إنما) للحصر، تثبت المذكور وتنفي ماسواه، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ومعناه لا يعتد بالأعمال الشرعية بدون النية، مثل الوضوء والغسل والتيمم، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات. فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية؛ لأنها من باب التروك، والترك لا يحتاج إلى نية.
وفي قوله: (إنما الأعمال بالنيات) محذوف، اختلف العلماء في تقديره، فقال جمهور العلماء (غير الحنفية) الذين اشترطوا النية: المراد إما صحة الأعمال، أو تصحيح الأعمال أو قبول الأعمال، ويكون التقدير: صحة الأعمال بالنيات، فالنية شرط صحة، لا تصح الوسائل من وضوء وغسل وغيرهما، والمقاصد من صلاة وصوم وحج وغيرها إلا بها.
وقال الحنفية الذين لم يشترطوا النية في الوسائل: المراد كمال الأعمال ويكون تقديرهم كمال الأعمال بالنيات، فالنية شرط كمال فيها، لتحصيل الثواب فقط.
وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يدل على أمرين:
الأول ـ قال الخطابي: يفيد معنى خاصاً غير الأول، وهو تعيين العمل بالنية وقال النووي: فائدة ذكره أن تعيين العبادة المنوية شرط لصحتها. فلو كان على إنسان صلاة مقضية، لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً أو عصراً أو غيرهما، ولولا هذا اللفظ الثاني، لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك.(1/130)
الثاني ـ أنه لا تجوز النيابة في العبادات ولا التوكيل في النية نفسها. وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح والتفرقة، مع القدرة على النية، وكذلك يجوز التوكيل في دفع الدَّين (1) .
وآخر هذا الحديث أبان سببه، روى الطبراني في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجها، فكنا نسميه: مهاجر أم قيس.
والخلاصة: دل هذا الحديث على عدة أمور منها:
أـ لا يكون العمل شرعياً يتعلق به ثواب وعقاب إلا بالنية.
ب ـ تعيين المنوي وتمييزه عن غيره شرط في النية، فلا يكفي أن ينوي الصلاة، بل لابد باتفاق العلماء من تعيينها بصلاة الظهر أو العصر أو الصبح مثلاً.
جـ ـ من نوى عملاً صالحاً، فمنعه من تنفيذه عذر قاهر كالمرض أوالوفاة، فإنه يثاب عليه؛ لأن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها، لم تكتب له سيئة، قال السيوطي: من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم (2) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الأئمة الستة عن أبي هريرة: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به» .
د ـ الإخلاص في العبادة والأعمال الشرعية هو الأساس في تحصيل الأجر والثواب في الآخرة، والفلاح والنجاح في الدنيا، والدليل تصريح الزيلعي بأن المصلي يحتاج إلى نية الإخلاص فيها.
هـ ـ يصبح كل عمل نافع أو مباح أو ترك بالنية الطيبة وقصد امتثال الأمر الإلهي عبادة مثوباً عليها عند الله تعالى.
__________
(1) المجموع:361/1 ومابعدها، شرح الأربعين النووية للنووي: ص5 - 7، ولابن دقيق العيد: ص 13 - 14.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 29.(1/131)
وـ إذا كانت نية الفعل لإرضاء الناس أو الشهرة والسمعة أو لتحقيق نفع دنيوي مثل مهاجر أم قيس، فلا ثواب للفاعل في الآخرة.
رأي الحنفية في بيان تعيين المنوي وعدم تعيينه:
فصَّل الحنفية (1) في شأن تعيين المنوي، فقالوا:
أـ إن كان المنوي عبادة: فإن كان وقتها ظرفاً للمؤدى بمعنى أنه يسعه ويسع غيره، وهو الواجب الموسَّع، فلا بد من التعيين كالصلاة، كأن ينوي الظهر، فإن قرنه باليوم كظهر اليوم، صح. وعلامة التعيين للصلاة أن يكون بحيث لو سئل أي صلاة يصلي يمكنه أن يجيب بلا تأمل. ولا يسقط التعيين في الصلاة بضيق الوقت؛ لأن السعة باقية.
ب ـ وإن كان وقت العبادة معيارا ً لها، بمعنى أنه لا يسع غيرها كالصوم في يوم رمضان، وهو الواجب المضيَّق، فإن التعيين ليس بشرط، إن كان الصائم صحيحاً مقيماً، فيصح بمطلق النية، وبنية النفل؛ لأن التعيين في المتعين لغو. وإن كان مريضاً، ففيه روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان، سواء نوى واجبا ً آخر أو نفلاً. وأما المسافر: فإن نوى عن واجب آخر، وقع عما نواه، لا عن رمضان. وفي النفل روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان.
جـ ـ وإن كان وقت العبادة مشكلاً وهو الواجب ذو الشبهين كوقت الحج، فإنه يشبه الواجب المضيق أو المعيار باعتبار أنه لا يصح في السنة إلا حجة واحدة، ويشبه الواجب الموسع أو الظرف باعتبار أن أفعاله لا تستغرق وقته، فيصح الحج بمطلق النية نظراً إلى المعيارية. وإن وقع نفلاً، وقع عما نوى، نظراً إلى الظرفية.
القواعد الشرعية الكلية المتعلقة بالنية:
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 25 ومابعدها، طبع دار الفكر بدمشق.(1/132)
استنبط الفقهاء من حديث عمر السابق: (إنما الأعمال بالنيات) ثلاث قواعد كلية، اعتمد عليها المجتهدون وأئمة المذاهب في بناء أصول مذاهبهم عليها، واستنباط أحكام الفروع الفقهية منها (1) ، وهذه القواعد هي: لا ثواب إلا بالنية، الأمور بمقاصدها، العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني.
القاعدة الأولى ـ (لا ثواب إلا بالنية) :
النية شرط في العبادات كما بينا إما بالإجماع، أو بآية: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفَاء} [البينة:5/98] ، قال ابن نجيم الحنفي: والأول أوجه؛ لأن العبادة فيها ـ أي في الآية ـ بمعنى التوحيد، بقرينة عطف الصلاة والزكاة، فلا تشترط في الوضوء والغسل ومسح الخفين وإزالة النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن والمكان والأواني للصحة. وأما اشتراطها ـ أي النية ـ في التيمم فلدلالة آتية عليها؛ لأنه القصد. وأما غسل الميت فقالوا: لا تُشترط النية لصحة الصلاة عليه وتحصيل طهارته، وإنما هي شرط لإسقاط الفرض عن ذمة المكلفين (2) .
__________
(1) هناك قواعد خمس يرجع جميع مسائل الفقه إليها وهي: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والعادة محكَّمة، واليقين لايزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 14، ط دار الفكر بدمشق.(1/133)
والنية واجبة عند الجمهور كما بينا في الوسائل والمقاصد معاً، وهي شرط كمال في الوسائل عند الحنفية كالوضوء والغسل، وشرط صحة في المقاصد كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
ومعنى هذه القاعدة: لا ثواب على جميع الأعمال الشرعية إلا بالنية، قال ابن نجيم المصري (1) الثواب نوعان: أخروي: وهو الثواب واستحقاق العقاب، ودنيوي: وهو الصحة والفساد. وقد أريد الأخروي بالإجماع، للإجماع على أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بالنية، فانتفى إرادة النوع الآخر وهو الدنيوي، لاندفاع الضرورة بالأول من صحة الكلام به، فلا حاجة إلى النوع الآخر.
القاعدة الثانية ـ (الأمور بمقاصدها) :
معنى هذه القاعدة: أن أعمال الإنسان وتصرفاته القولية والفعلية تخضع أحكامها الشرعية التي تترتب عليها لمقصوده الذي يقصده منها، وليس بظاهر العمل أو القول.
والأصل في هذه القاعدة كما أوضحت الحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» وأحاديث أخرى كثيرة في معناه أوردها السيوطي في كتابه (2) . وأمثلتها مايأتي:
يختلف حكم القتل بحسب القصد الجنائي أو النية، فإذا كان القاتل عامداً وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئاً وجبت عليه الدية. وتقبل الصلاة ويثاب عليها المصلي إن كانت بإخلاص لله تعالى، وترد في وجه صاحبها إن كانت بقصد الرياء.
ومن أخذ اللقطة بقصد تملكها، كان آثماً غاصباً يضمنها، ومن أخذها بنية حفظها لمالكها حل له رفعها وكان أميناً، لا يضمنها إذا هلكت إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها.
ومن قال لزوجته: اذهبي إلى بيت أهلك، فإن قصد الطلاق وقع عليه، وإن لم يقصده لم يحكم بالطلاق عليه.
__________
(1) الأشباه، المرجع السابق.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 7.(1/134)
وذكر قاضي خان في فتاواه عند الحنفية (1) : أن بيع العصير ممن يتخذه خمراً: إن قصد به التجارة، فلا يحرم، وإن قصد به لأجل التخمير حرم (2) ، وكذا غرس الكرم على هذا.
وهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام دائر مع القصد، فإن قصد هجر المسلم حرم، وإلاَّ لا.
والإحداد للمرأة على ميت غير زوجها فوق ثلاث دائر مع القصد، فإن قصدت ترك الزينة والتطيب لأجل الميت حرم عليها، وإلا فلا. وإذا قرأ المصلي آية من القرآن جواباً لكلام، بطلت صلاته وكذا إ ذا أُخبر المصلي بما يسره فقال: الحمد لله، قاصداً الشكر، بطلت صلاته، أو بما يسوؤه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو بموت إنسان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاصداً له، بطلت صلاته.
وإن سجد امرؤ للسلطان، فإن كان قصده التعظيم والتحية، دون الصلاة لايكفر، لأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وسجود إخوة يوسف له عليه السلام. والأكل فوق الشبع حرام بقصد الشهوة، وإن قصد به التقوي على الصوم أو مؤاكلة الضيف فمستحب.
والكافر إذا تترس بالمسلم، فإن رماه مسلم، فإن قصد قتل المسلم حرم، وإن قصد قتل الكافر لا يحرم.
وإذا توسد الكتاب، فإن قصد الحفظ لا يكره، وإلا كره. وإن غرس في المسجد، فإن قصد الظل لا يكره. وإن قصد منفعة أخرى يكره.
وكتابة اسم الله تعالى على الدراهم، إن كان بقصد العلامة لا يكره، وللتهاون يكره.
والجلوس على جوالق (وعاء) فيه مصحف، إن قصد الحفظ لا يكره، وإلا يكره.
وكنايات البيع والهبة والوقف والقرض والضمان والإبراء والحوالة والإقالة والوكالة وتفويض القضاء، والإقرار والإجارة والوصية والطلاق والخلع والرجعة والإيلاء والظهار واللعان، والأيمان والقذف والأمان، إن قصد بها ما يقصد بالصريح وقع وإلا فلا (3) .
القاعدة الثالثة ـ (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني) :
هذه القاعدة أخص من القاعدة الثانية السابقة، فهي في العقود خاصة، والثانية عامة في كل التصرفات.
ومعناها: أن ألفاظ العقود تحوّل العقد إلى عقد آخر إذا قصده العاقدان، فالهبة بشرط العوض، مثل وهبتك كذا بشرط أن تعطيني كذا، هي بيع؛ لأنها في معناه، فتأخذ أحكام البيع
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 22.
(2) وقال الشافعية: يحرم بيع الرطب والعنب لعاصر الخمر والنبيذ، أي لمتخذها لذلك بأن يعلم منه ذلك أو يظنه ظناً غالباً، ومثله بيع السلاح لباغ وقاطع طريق، للنهي عن ذلك، لكن لايبطل البيع بسبب النهي (مغني المحتاج: 37/2 -38) .
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 22-23، وللسيوطي: ص 9 - 10..(1/135)
والكفالة بشرط عدم مطالبة المدين المكفول عنه: حوالة تأخذ أحكامها لأنها في معناها.
والحوالة بشرط مطالبة المدين المحيل والمحال عليه: كفالة. والإعارة بعوض: إجارة.
وبيع الوفاء عند الحنفية (وهو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقاراً، على أنه متى وفى الثمن، استرد العقار) يأخذ غالباً أحكام الرهن؛ لأنه هو مقصود العاقدين.
لكن هذه القاعدة يعمل بها عند الحنفية والشافعية (1) إن ظهر القصد في العقد صراحة أو ضمناً، فإن لم يكن في العقد ما يدل على النية والقصد صراحة، فيعمل بقاعدة «المعتبر في أوامر الله المعنى، والمعتبر في أمور العباد الاسم واللفظ» أي أن المبدأ حينئذ هو الاعتداد بالألفاظ في العقود، دون النيات والقصود؛ إذ إن نية السبب والغرض غير المباح شرعاً مستترة، فيترك أمرها لله وحده، يعاقب صاحبها عليها مادام أثم بنيته. وبناء عليه، تؤخذ أحكام كل عقد من صيغته ومما لابسه واقترن به، ففساده يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد لأمور خارجة عنه، ولو كانت نيات ومقاصد لها أمارات، أو لو كانت مآلات مؤكدة ونهايات ثابتة.
وهذا يدل على أن الشافعية والحنفية لا يأخذون بمبدأ سد الذرائع في بيوع الآجال وبيوع العينة، كأن يبيع إنسان سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يشتريها بخمسة قبل الشهر، فالشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيصحح العقد، وأما أبو حنيفة فهو وإن لم يقل بحكم سد الذرائع، يفسد البيع الثاني على أساس آخر: وهو أن الثمن إذا لم يستوف، لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنياً عليه.
__________
(1) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم: 12/2 ومابعدها، مغني المحتاج شرح المنهاج: 37/2-38، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 148 - 149.(1/136)
وأخذ الإمامان مالك وأحمد بمبدأ سد الذرائع في هذه البيوع؛ لأنها وسيلة السلف بفائدة: خمسة بعشرة إلى أجل، بإظهار صورة البيع لذلك. قال ابن القيم: أحكام الشريعة تجري على الظاهر فيما عرف منه قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يخالف كلامه، وأما النيات والمقاصد فتعتبر فيما ظهر فيه خلاف الصيغة والنطق (1) . وهذا هو الحق الأبلج لدي، سداً لباب التحايل على الربا. فيكون الباعث السيء أو القصد غير المشروع سبباً واضحاً في إفساد البيع وبطلانه.
ثالثاً ـ محل النية:
محل النية باتفاق الفقهاء وفي كل موضع: القلب وجوباً، ولا تكفي باللسان قطعاً، ولا يشترط التلفظ بها قطعاً، لكن يسن عند الجمهور غير المالكية التلفظ بها لمساعدة القلب على استحضارها، ليكون النطق عوناً على التذكر، والأولى عند المالكية: ترك التلفظ بها (2) ؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه التلفظ بالنية، وكذا لم ينقل عن الأئمة الأربعة. وسبب كونها في القلب في جميع العبادات: أن النية: الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب، أو لأن حقيقتها القصد مطلقاً، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه، أتى عند الجمهور بالأكمل، وإن تلفظ بلسانه ولم ينو بقلبه لم يجزئه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه أجزأه. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه.
__________
(1) الفروق للقرافي: 32/2، أعلام الموقعين: 117/3-120، 400/4 ومابعدها.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص46-51، القوانين الفقهية: ص57، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 233/1، 520، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص26-30، كشاف القناع: 365/1 طبع مكة، أحكام النية للحسيني: ص10، 78، 82، 97، 127.(1/137)
والحاصل أن في الكلام عن محل النية أصلين:
الأصل الأول ـ أنه لا يكفي التلفظ باللسان دون القلب، لقوله تعالى: {وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:98/5] ، والإخلاص: ليس في اللسان، وإنما هو عمل القلب، وهو محض النية، وذلك بأن يقصد بعمله الله وحده، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
ويتفرع عن هذا الأصل:
أـ أنه لو اختلف اللسان والقلب، فالعبرة بما في القلب، فلو نوى بقلبه الوضوء، وبلسانه التبرد، صح الوضوء، ولو نوى عكسه لا يصح. وكذا لو نوى بقلبه الظهر، وبلسانه العصر، أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة أو عكسه، صح له مافي القلب. وجاء في بعض كتب الحنفية (القنية والمجتبى) : من لا يقدر أن يحضر قلبه لينوي بقلبه أو يشك في النية يكفيه التكلم بلسانه: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:2/286] .
ب ـ إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بالله تعالى بلا قصد، فلا تنعقد عند الجمهور (غير الحنفية) وهي يمين اللغو، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على شيء، فسبق لسانه إلى غيره. وقال الحنفية (1) :انعقدت الكفارة؛ لأن يمين اللغو التي لاحكم لها أصلاً ولا كفارة لها: هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال، على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه في النفي أو الإثبات (2) . كمن قال: «والله مادخلت هذه الدار» وفي ظنه أنه كذلك، والأمر بخلافه، أو رأى طيراً من بعيد، فظن أنه غراب، فحلف، فإذا هو حمام، ويمين اللغو عند الجمهور: هي اليمين التي تجري على لسان الحالف (سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل) من غير قصد اليمين، كأن يقول: لا والله، أو بلى والله، أو كان يقرأ القرآن، فجرى على لسانه اليمين.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 7
(2) البدائع: 3/3-4. دون الحكم.(1/138)
والحاصل أن الحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر يميناً منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد، وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط، بحسب الظن من الحالف أن الأمر كما حلف، والحقيقة بخلاف ذلك.
هذا في اليمين بالله تعالى، وأما في الطلاق والعتاق والإيلاء فيقع قضاء لا ديانة، أي أنه لم يتعلق به شيء باطناً، ويديَّن بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يقبل كلامه في الظاهر والقضاء، لتعلق حق الغير به.
جـ ـ إن قصد بالطلاق أو العتق معنى آخر غير معناه الشرعي، كلفظ الطلاق أراد به الطلاق من وثاق، أو يقصد ضم شيء إليه يرفع حكمه، لم يقبل منه قضاء، ويديَّن فيما بينه وبين الله تعالى، فيعمل بما قصده. قال الفوراني في الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه، فإذا نواه، قبل فيما بينه وبين الله تعالى
ومثاله: إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت من وثاق، ولا قرينة، لم يقبل في الحكم، ويديَّن. فإن كان قرينة، كأن كانت مربوطة، فحلَّها، وقال ذلك، قبل ظاهراً.
الأصل الثاني ـ أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ في جميع العبادات، فلا معتبر باللسان، ويترتب على ذلك ما يأتي:
أـ إذا أحيا إنسان أرضاً بنية جعلها مسجداً، فإنها تصير مسجداً بمجرد النية، فلا يحتاج إلى التلفظ.
ب ـ من حلف: (لا يسلِّم على فلان) فسلَّم على قوم هو فيهم، واستثناه بالنية، فإنه لا يحنث، بخلاف من حلف: (لا يدخل على فلان) فدخل على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره، فإنه يحنث في الأصح عند الشافعية، وكذا يحنث عند الحنفية إن كان فلان ساكناً في الدار، ولا يحنث إن لم يكن ساكناً.(1/139)
ويستثنى من هذا الأصل مسائل:
منها: (النذر والطلاق والعتاق والوقف) لو نواها بقلبه، ولم يتلفظ لم ينعقد النذر والوقف، ولم يقع الطلاق والعتق بمجرد النية، بل لابد من التلفظ.
ومنها: لو قال رجل لامرأته: (أنت طالق) ثم قال: أردت: إن شاء الله تعالى، لم يقبل قوله، قال الرافعي: المشهور أنه لا يديَّن أيضاً. ومنها: حديث النفس لايؤاخذ به مالم يتكلم أو يعمل، أو من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة ـ «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به» .
وقد قسم السبكي وغيره من العلماء الذي يقع في النفس من قصد المعصية خمس مراتب:
الأولى ـ الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس، وهذا لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له فيه ولا صنع.
الثانية ـ الخاطر: وهو ما يجري في النفس، وكان الإنسان قادراً على دفعه، كصرف الهاجس أول وروده. وهذا لا مؤاخذة فيه أيضاً.
الثالثة ـ حديث النفس: وهو ما يقع في النفس من التردد، هل يفعل أو لا؟ وهذا لا إثم فيه أيضاً، بنص الحديث السابق، وإذا ارتفع حديث النفس، ارتفع ما قبله با لأولى.
وهذه المراتب الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر، لعدم القصد.
الرابعة ـ الهمّ: وهو ترجيح قصد الفعل، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة، والهمّ بالسيئة لا يكتب سيئة (1) ، وينظر: فإن تركها لله تعالى كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أنه يكتب عليه إثم الفعل وحده، وأن الهمَّ مرفوع.
الخامسة ـ العزم: وهو قوة القصد والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عَشْرَ حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» .(1/140)
رابعاً ـ زمن النية أو وقتها:
الأصل العام: أن وقت النية أول العبادة البدنية إلا في حالات سأذكرها (1) .
فنية الوضوء: محلها عند غسل الوجه، قال الحنفية: ويسن أن تكون في أول السنن عند غسل اليدين إلى الرسغين، لينال ثواب السنن المتقدمة على غسل الوجه.
ووقتها: قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة لله تعالى.
وقال المالكية: محلها الوجه، وقيل: أول الطهارة. وقال الشافعية: يجب قرن النية بأول غسل جزء من الوجه، لتقترن بأول الفرض كالصلاة، ويستحب أن ينوي قبل غسل الكفين، لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها، فيثاب على كل منهما، كما قال الحنفية، ويجوز تقديم النية على الطهارة بزمن يسير، فإن طال الزمن لم يجزئه ذلك. ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر الطهارة، لتكون أفعاله مقترنة بالنية، وإن استصحب حكمها أجزأه، ومعناه ألا ينوي قطعها.
وقال الحنابلة: وقت النية عند أول واجب، وهو التسمية في الوضوء.
وللمتوضئ عند الشافعية والحنابلة تفريق النية على أعضاء الوضوء، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه؛ لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء، فكذلك يجوز تفريق النية على أفعاله.
والمعتمد عند المالكية، خلافاً لابن رشد: أنه لا يجزئ تفريق النية على الأعضاء، بأن يخص كل عضو بنية، من غير قصد إتمام الوضوء، ثم يبدو له
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص43 ومابعدها، للسيوطي: ص21 ومابعدها، أحكام النية للحسيني: ص10، 74، 78، 122-125.(1/141)
فيغسل ما بعده، فإن فرق النية على الأعضاء مع قصده إتمام الوضوء على الفور، أجزأه ذلك.
والغسل كالوضوء في السنن عند الحنفية؛ لأن الابتداء بالنية في الغسل عندهم سنة فقط، ليكون فعل المغتسل تقرباً يثاب عليه، كالوضوء. وأوجب الجمهور النية للغسل كالوضوء، للحديث السابق: (إنما الأعمال بالنيات) وتكون النية عند غسل أول جزء من البدن، بأن ينوي فرض الغسل، أو رفع الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إليه.
والنية في التيمم فرض باتفاق المذاهب الأربعة، والمعتمد الراجح أنها شرط عند الحنفية والحنابلة، وتكون لدى الحنفية عند الوضع على الصعيد (التراب) . وأوجب الشافعية قرن النية بالنقل الحاصل للتراب بالضرب إلى الوجه؛ لأنه أول الأركان، ويجب على الصحيح استدامة النية إلى مسح شيء من الوجه. واقتصر المالكية والحنابلة على إيجاب النية عند مسح الوجه.
ونية الصلاة تكون عند تكبيرة الإحرام، واشترط الحنفية (1) اتصال النية بالصلاة، بلا فاصل أجنبي، بين النية والتكبيرة، والفاصل: عمل ما لا يليق بالصلاة كالأكل والشرب ونحو ذلك. وأوجب المالكية (2) استحضار النية عند تكبيرة الإحرام، أو قبلها بزمن يسير.
واشترط الشافعية (3) اقتران النية بفعل الصلاة، فإن تراخى عنه سمي عزماً.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 99/1.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 305/1، طبع دار المعارف بمصر.
(3) حاشية الباجوري: 305/1(1/142)
وقال الحنابلة (1) : الأفضل مقارنة النية للتكبير، فإن تقدمت النية على التكبير بزمن يسير بعد دخول الوقت في أداء فريضة وراتبة، ولم يفسخها، وكان ذلك مع بقاء إسلامه، بأن لم يرتدّ، صحت صلاته؛ لأن تقدم النية على التكبير بزمن يسير لا يخرج الصلاة عن كونها منْوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً، ولأن النية من شروط الصلاة، فجاز تقدمها كبقية الشروط، وفي طلب المقارنة حرج ومشقة، فيسقط لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/22] ، ولأن أول الصلاة من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيه كسائرها.
والخلاصة: يجب أن تكون النية مقارنة لتكبيرة الإحرام، لكن الشافعية أوجبوا أن تكون النية مقارنة للتكبير، ومقترنة بكل التكبير؛ لأن التكبير أول أفعال الصلاة، فيجب اقتران النية به كالحج وغيره، وأجاز باقي المذاهب (الجمهور) تقدم النية على التكبير بزمان يسير، فإن تأخرت النية أو تقدمت بزمن كثير، بطلت بالاتفاق.
وكذلك قال الشافعي في الإمامة: إذا أحرم، إماماً كان أو منفرداً، نوى في حال التكبير، لا قبله ولا بعده. قال أصحاب الشافعي: لم يرد بهذا أنه لا يجوز أن تتقدم النية على التكبير، ولا تتأخر عنه، وإنما أراد الشافعي بقوله: «لا قبله» أنه لا يجوز أن ينوي قبل التكبير، ويقطع نيته قبل التكبير، وكذلك لم يرد بقوله: «ولابعده» أنه لا تجوز استدامتها بعد التكبير، وإنما أراد لو ابتدأ بالنية بعد التكبير لم تجزه، فإن نوى قبل التكبير، واستصحب ذكرها إلى آخر التكبير أجزأه، وكذلك لو استدام ذكرها بعد الفراغ من التكبير أجزأه، وقد أتى بأكثر مما يجب عليه، ولا يضره ذلك.
__________
(1) كشاف القناع: 367، طبع مكة، غاية المنتهى: 54/1، 115(1/143)
وقال الحنفية: ينبغي أن تكون نية الإمامة وقت اقتداء أحد بالإمام لا قبله، كما أنه ينبغي أن يكون وقت نية الجماعة أول صلاة المأموم، قال في فتح القدير في صحة الاقتداء بالإمام: والأفضل أن ينوي الاقتداء عند افتتاح الإمام.
وأما ما يستثنى من وجوب توقيت النية أول العبادة فهو ما يأتي:
1ً - الصوم: يجوز تقديم نيته على أول الوقت، لعسر مراقبته، فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح عند الشافعية. وفصل الحنفية القول ورأوا أن الصوم إن كان أداء رمضان، جاز بنية متقدمة من غروب الشمس، وبنية مقارنة لطلوع الفجر وهو الأصل، وبنية متأخرة عن الشروع إلى ما قبل نصف النهار الشرعي تيسيراً على الصائمين. وإن كان غير أداء رمضان من قضاء أو نذر أو كفارة، فيجوز بنية متقدمة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ويجوز بنية مقارنة لطلوع الفجر؛ لأن الأصل القران، وإن كان نفلاً فكرمضان أداء.
2ً - الحج: النية فيه سابقة على الأداء، أي أداء المناسك، عند الإحرام، وهو النية مع التلبية أو ما يقوم مقامها من سوق الهدي عند الحنفية. ورأى المالكية أن الإحرام ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى الطريق، لكن الأرجح أنه ينعقد بمجرد النية، وقرر الشافعية والحنابلة أن الإحرام ينعقد بالنية، فإن اقتصر على النية، ولم يلبِّ أجزأه، وإن لبى بلا نية، لم ينعقد إحرامه، ولا يشترط قرن النية بالتلبية؛ لأنها من الأذكار، فلم تجب في الحج كسائر الأذكار، فصار الجمهور قائلين بانعقاد الإحرام بالنية؛ ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية، وإنما لابد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام.(1/144)
والأصح عند الشافعية أن وقت نية التمتع مالم يفرغ من العمرة.
3ً - الزكاة وصدقة الفطر: يجوز تقديم النية فيهما على الدفع إلى الفقراء قياساً على الصوم، ويكتفى بوجود النية حال عزل مقدار ما وجب عن بقية المال، أو عند إعطائها للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، تيسيراً على المزكين، وإن كان الأصل ألا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء. وهل تجوز بنية متأخرة على الأداء؟ قال الحنفية: لو دفعها بلا نية، ثم نوى بعده، فإن كان المال قائماً في يد الفقير جاز وإلا فلا.
والكفارة مثل الزكاة يجوز تقديمها على وجوبها، ويجوز تقديم نيتها على دفعها للمستحقين.
4ً - نية الجمع بين الصلاتين: تكون في الصلاة الأولى، مع أن الصلاة الثانية هي المجموعة. فإن جعلت الصلاة الأولى أول العبادة، جاز فيها عند الشافعية تأخير النية عن أولها؛ لأن الأظهر جواز النية في أثنائها ومع التحلل منها.
5ً - نية الأضحية: يجوز تقديمها على الذبح، ولا يجب اقترانها به في الأصح لدى الشافعية. وتجوز النية عند الدفع إلى الوكيل في الأصح.
6ً - نية الاستثناء في اليمين: تجب قبل فراغ اليمين مع وجوبها في الاستثناء أيضاً.
عدم اشتراط النية في البقاء:
لا تشترط النية في البقاء للحرج، ولا يلزم نية العبادة في كل جزء، إنما تلزم في جملة ما يفعله في كل حال. وعليه يكتفى في العبادات الأفعال بالنية في أولها، ولايحتاج إليها في كل فعل، اكتفاء بانسحابها عليه كالوضوء والصلاة، وكذا الحج، فلا يحتاج إلى إفراد الطواف والسعي والوقوف بنية. لكن لا يجوز في الصلاة تفريق النية على أركانها، ويجوز ذلك في الوضوء على الأصح في مذهب الشافعية كما بينت، والأكمل في الحج وجود نية الطواف والسعي والوقوف بعرفة عند كل منها، لكن تشترط النية في طواف النذر والتطوع، لعدم اندراجه مع غيره، وعلى هذا يقال: لنا عبادة تجب النية في نفلها دون فرضها وهو الطواف، ولا نظير لذلك.(1/145)
وعبارة الحنابلة في ذلك: الواجب استصحاب حكم النية دون حقيقتها، بمعنى أنه لا ينوي قطعها، فلو ذهل عنها، لم يؤثر ذلك في صحة صلاته.
وذكر الحنفية أن الحاج لو طاف بنية التطوع في أيام النحر، وقع عن الفرض، ولو طاف بعد ما حل النفر ونوى التطوع أجزأه عن طواف الصدر (الوداع) . ولو طاف الحاج طالباً الغريم لا يجزئه، ولو وقف في عرفات طالباً الغريم أجزأه؛ لأن الطواف قربةمستقلة بخلاف الوقوف (1) .
خامساً ـ كيفية النية:
تتطلب العبادة مع نية فعلها تمييزها عن غيرها، سواء أكان ذلك الغير عبادة من نوعها أو جنسها أم غير عبادة أي فعلاً عادياً؛ لأن المقصود بالنية في العبادة تمييزها عن العادات، أو تمييز رتب العبادة عن بعضها.
مثلاً الوضوء يكون عبادة إذا قصد به التوصل للعبادة كالصلاة والطواف ونحوهما مما يفتقر إلى ذلك، ويكون عادة للنظافة والتبرد ونحوهما، فإذا نوى استباحة الصلاة باستعمال الماء في أعضاء الوضوء، أو فرض الغسل، صح الوضوء.
والصلاة، وإن لم تكن من جنس العادات، بل هي محض عبادة، فإنها تتنوع إلى نوعين: فرض وسنة، والفرض: عيني وكفائي، الأول: الصلوات الخمس، والثاني: الجنازة. والسنة: رواتب تابعة للفرائض، ووتر وعيدان وكسوفان واستسقاء وتراويح، ونفل مطلق. فالفرض لابد مع نية فعله من ملاحظة تعينه باسمه، ليتميز عن باقي الفروض، ومن ملاحظة فرضيته ليتميز عما عداه من السنن، ولم يشترط بعض الفقهاء التعرض في نيته للفرضية، اكتفاء بالتعيين بالاسم، لوضعه للفرض. والرواتب والسنن المؤكدة غير النفل المطلق: لابد مع نية فعلها من ملاحظة تعينها بإضافة: كراتبة كذا، أو صلاة عيد كذا، أو صلاة كسوف.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص45-46، وللسيوطي: ص23، أحكام النية للحسيني: ص124-126، المغني: 467/1. ولاسبب.(1/146)
وأما النفل المطلق: فيكفي فيه نية الفعل، لتميزه بذاته عن غيره لعدم تقيده بوقت وإعطاء المال للغير من غير مقابل: قد يكون زكاة، وصدقة تطوع، وهدية، وهبة، فلا بد مع نية الإعطاء من التعيين بالوصف الشرعي وهو الزكاة مثلاً، ليتميز عن الإعطاء لغيرها، ولا يحتاج لنية الفرض؛ لأن لفظ الزكاة موضوع شرعاً للفرض.
والإمساك عن المفطرات قد يكون لأجل الصيام، وقد يكون لأجل الحمية والتداوي، فلا بد مع نية الإمساك من ملاحظة تعينه بكونه صياماً ليتميز عن غيره. ثم إن الصيام يكون فرضاً وسنة كالصلاة، فلا بد مع نية الصيام من ملاحظة تعينه بكونه عن رمضان إن وقع في غير شهره، أو قضاء عنه، أو كفارة يمين أو ظهار أو قتل أو جماع في رمضان أو فدية تطيب في الحج مثلاً. ولا يحتاج في ذلك إلى ملاحظة الفرض؛ لأن هذه الأمور لا تكون إلا فرضاً، فهو متعين بذاته لا يشتبه بغيره من السنن.
وقصد الحرم قد يكون للإحرام، وقد يكون لغيره من العادات كالتجارة أو غيرها، فلابد مع قصده من ملاحظة كونه للإحرام، إما بالحج إن كان الوقت قابلاً له وذلك في أشهر الحج، أو بالعمرة، أو مطلقاً، ويصرف لما شاء منهما، إن كان الوقت قابلاً للحج، وإلا تعين للعمرة. ولا يشترط نية الفرضية لانصراف الإحرام إليه، حيث لم يسبق له حج ولا عمرة (1) .
ودليل اشتراط التعيين حديث: (وإنما لكل امرئ مانوى) فهو ظاهر في اشتراط التعيين، كما بينا.
وأذكر هنا أمثلة لكيفية النية في العبادات، ففي الوضوء: أن ينوي رفع الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء، أو امتثال الأمر الإلهي، أو يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، أو ينوي رفع الجنابة أو فرض الغسل، أو الغسل المفروض مع أول غسل جزء من الجسد وهو الرأس أو غيره. وإذا وضأه غيره، اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ؛ لأن المتوضئ هو المخاطب بالوضوء. وينوي من حدثه دائم كالمستحاضة وسلس البول ونحوه استباحة الصلاة دون رفع الحدث، لعدم إمكان رفعه (2) .
__________
(1) نهاية الإحكام في بيان ماللنية من الأحكام لأحمد الحسيني: ص10 ومابعدها.
(2) البدائع: 17/1، الدر المختار: 98/1 ومابعدها، 140 ومابعدها، المجموع: 361/1 وما بعدها، مغني المحتاج 47/1، 72، بداية المجتهد: 7/1 ومابعدها، 42 ومابعدها، الشرح الصغير: 114/1 ومابعدها، 166 ومابعدها، كشاف القناع: 94/1 ومابعدها،173 ومابعدها، المغني: 142/1،218 وما بعدها.(1/147)
وفي التيمم: ينوي عند الحنفية أحد أمور ثلاثة: إما نية الطهارة من الحدث، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة، كالصلاة أو سجدة التلاوة أو صلاة الجنازة، ولا تشترط له نية الفرض؛ لأنه من الوسائل عندهم.
ونية التيمم عند المالكية: إما استباحة الصلاة أو استباحة ما منعه الحدث، أو فرض التيمم عند مسح الوجه، ولو نوى رفع الحدث فقط، كان تيممه باطلاً؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، على المشهور عندهم. ولو نوى فرض التيمم أجزأه.
وقال الشافعية: لابد أن ينوي استباحة الصلاة ونحوها، فلا يكفي في الأصح نية فرض التيمم أو فرض الطهارة أو الطهارة عن الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث عندهم.
وينوي عند الحنابلة استباحة ما لا يباح إلا بالتيمم كالصلاة ونحوها، من طواف أو مس مصحف، أي كما قال الشافعية (1) .
وفي الغسل: ينوي المغتسل عند غسل أول جزء من البدن نية فرض الغسل أو رفع الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إلى الغسل كأن ينوي استباحة الصلاة أو الطواف مما يتوقف على غسل، فإن نوى ما لا يفتقر إليه كالغسل ليوم العيد، لم يصح. وتكون النية مقرونة بأول فرض: وهو أول ما يغسل من البدن، سواء أكان من أعلاه أم من أسفله، إذ لا ترتيب فيه (2) . ولا تشترط عند الحنفية نية الفرضية، الغسل والوضوء، لعدم اشتراط النية فيهما.
__________
(1) فتح القدير: 86/1، 89، البدائع: 25/1، 52، تبيين الحقائق: 38/1، الشرح الكبير: 154/1، القوانين الفقهية: ص37، المهذب: 32/1، مغني المحتاج: 97/1، المغني: 251/1، كشاف القناع: 199/1.
(2) فتح القدير: 38/1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 20/1، الشرح الصغير: 166/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 42/1ومابعدها، مغني المحتاج: 72/1 ومابعدها، المغني: 218/1 ومابعدها، كشاف القناع: 173/1 ومابعدها.(1/148)
وفي الصلاة:
قال الحنفية: إن كان المصلي منفرداً يصلي وحده، عيَّن نوع الفرض أو الواجب، وإن كان تطوعاً تكفيه نية الصلاة.
وإن كان المصلي إماماً، عيَّن كما سبق، ولا يشترط للرجل نية إمامة الرجال، ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم. ويشترط للرجل نية إمامة النساء لصحة اقتدائهن به.
وإن كان مقتدياً، عيَّن أيضاً كما سبق، ويحتاج لزيادة نية الاقتداء بالإمام، كأن ينوي فرض الوقت والاقتداء بالإمام فيه، أو ينوي الشروع في صلاة الإمام، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته.
وقال المالكية: يجب التعيين في الفرائض، والسنن الخمس (وهي الوتر والعيد والكسوف والخسوف والاستسقاء) (1) وسنة الفجر، دون غيرها من النوافل كالضحى والرواتب والتهجد، فيكفي فيه نية مطلق نفل، وينصرف للضحى إن كان قبل الزوال، ولراتب الظهر إن كان قبل صلاته، أو بعده، ولتحية المسجد إن كان حين الدخول فيه، وللتهجد إن كان في الليل، وللشفع (سنة العشاء) إن كان قبل الوتر. ولا يشترط نية الأداء أو القضاء أو عدد الركعات، فيصح القضاء بنية الأداء وعكسه. وتجب نية الانفراد، والمأمومية، ولا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع بين الصلاتين تقديماً للمطر، والخوف، والاستخلاف، لكون الإمام شرطاً فيها (2) .
__________
(1) البدائع: 127/1 ومابعدها، الدر المختار: 406/1، تبيين الحقائق:99/1، فتح القدير: 185/1، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص32 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 233/1، 520، بداية المجتهد: 116/1، القوانين الفقهية: ص57.(1/149)
وقرر الشافعية (1) أنه إن كانت الصلاة فرضاً، ولو فرض كفاية كصلاة الجنازة، أو قضاء كالفائتة، أو معادة، أو نذراً يجب ثلاثة أمور:
أـ نية الفرضية: أي يلاحظ ويقصد كون الصلاة فرضاً، لتتميز عن النفل والمُعَاد. والعبارة عن نية الفرض: أن يقول: (أؤدي الظهر، فرض الوقت لله تعالى) فيشمل قوله: (أؤدي) أصل الفعل والأداء.
ب ـ والقصد: أي قصد إيقاع الفعل، بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن سائر الأفعال.
جـ ـ التعيين: أي تعيين نوع الفريضة من صبح أو ظهر مثلاً، بأن يقصد إيقاع صلاة فرض الظهر مثلاً.
ويشترط أن يكون ذلك مقارناً لجميع أجزاء تكبيرة الإحرام، مقارنة إجمالية لاتفصيلية، بأن يستحضر المصلي أركان الصلاة، أي أن تكون حاضرة في الذهن في زمن واحد، بأن يحضر المصلي في ذهنه ذات الصلاة وصفاتها التي يجب التعرض لها كالظهرية والفرضية وغيرهما، ثم يقصد إلى هذا المعلوم قصداً مقارناً لأول التكبير، ودائماً مع ذكر المعلوم إلى آخر التكبير، وتكفي المقارنة العرفية العامة، بحيث يعدّ المصلي مستحضرا ً للصلاة غير غافل عنها، قال النووي: وهو المختار.
وهذا الحكم هو المقصود عندهم بالاستحضار والمقارنة العرفيين، أي يستحضر قبل التحريمة فعل الصلاة من أقوالها وأفعالها في أولها وآخرها ولو إجمالاً، على المعتمد، ويقرن ذلك الاستحضار السريع في الذهن في أثناء تكبيرة الإحرام.
__________
(1) المجموع: 243/3-252، مغني المحتاج: 148/1-150، 252-253، حاشية الباجوري: 149/1.(1/150)
والحاصل: إن كانت الصلاة إحدى الفرائض الخمس، يجب على المصلي ثلاث نيات: فعل الصلاة، والفرضية، والتعيين، فيقول: نويت أن أصلي فرض الظهر، أو نويت أداء فرض صلاة العصر، أو فرض صلاة المغرب، ينوي الصلاة لتتميز العبادة عن العادة، وينوي الظهر لتمتاز عن العصر، وينوي الفرض ليمتاز عن النفل.
ولا يشترط نية عدد الركعات، ولا تعيين اليوم، لا في الأداء ولا في القضاء، ولا الإضافة إلى الله تعالى (1) ، ولا التعرض لأركان الصلاة، ولا لاستقبال القبلة، ولا التعرض للأداء والقضاء في الأصح عند الأكثرين، وإنما يسن ذلك كله، فلا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادة لا تكون إلا له سبحانه وتعالى، لكن تستحب ليتحقق معنى الإخلاص. ويستحب نية استقبال القبلة وعدد الركعات خروجاً من الخلاف، فلو أخطأ في العدد، كأن نوى الظهر ثلاثاً أو خمساً، لم تنعقد صلاته، كما يستحب نية الأداء والقضاء للتمييز بينهما. والأصح لدى الشافعية أنه يصح الأداء بنية القضاء وعكسه في حالة العذر، كجهل الوقت بسبب غيم أو نحوه، فلو ظن خروج الوقت، فصلاها قضاء، فبان بقاؤه، أو ظن بقاء الوقت، فصلاها أداء، فبان خروجه، صحت صلاته.
وذكر المالكية: أنه يصح القضاء بنية الأداء وعكسه مطلقاً. ويصح عند الحنابلة أيضاً القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه. كذلك قال الحنفية: يجوز الأداء بنية القضاء وبالعكس في الصلاة والحج.
وإن كانت الصلاة نفلاً ذات وقت كسنن الرواتب، أو ذات سبب كالاستسقاء، وجب أمران: قصد فعله، وتعيينه كسنة الظهر أو عيد الفطر أو الأضحى، ولا يشترط نية النفلية على الصحيح.
__________
(1) وهذا هو أيضاً رأي الحنفية والمالكية كما بينا، ورأي الحنابلة (الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص32- 35، كشاف القناع: 365/1 ومابعدها، غاية المنتهى: 116/1) .(1/151)
ويكفي في النفل المطلق (وهو الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب نحو تحية المسجد وسنة الوضوء) نية فعل الصلاة.
ولا يشترط للإمام نية الإمامة، بل يستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا مانوى. وتشترط نية الإمامة في مذهب الشافعية في حالات أربع: في الجمعة، والصلاة المجموعة مع غيرها للمطر جمع تقديم، والصلاة المعادة في الوقت جماعة، والصلاة التي نذر أن يصليها جماعة، للخروج من الإثم. وكذلك قال المالكية: لا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع والخوف والاستخلاف، لكون الإمام شرطاً فيها، وزاد ابن رشد الجنائز.
ويشترط للمقتدي نية الاقتداء: بأن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة بالإمام الحاضر، أو بمن في المحراب ونحو ذلك؛ لأن التبعية عمل، فافتقرت إلى نية، إذ ليس للمرء إلا ما نوى. ولا يكفي إطلاق نية الاقتداء، من غير إضافة إلى الإمام، فلو تابع بلا نية، أو مع الشك فيها، بطلت صلاته إن طال انتظاره.
ومذهب الحنابلة (1) : إن كانت الصلاة فرضاً، اشترط أمران: تعيين نوع الصلاة: ظهراً أو عصراً أو غيرهما، وقصد الفعل، ولا يشترط نية الفرضية بأن يقول: أصلي الظهر فرضاً.
أما الفائتة: فإن عينها بقلبه أنها ظهر اليوم، لم يحتج إلى نية القضاء، ولا الأداء. ويصح القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه.
وإن كانت الصلاة نافلة: فيجب تعيينها إن كانت معينة أو مؤقتة بوقت كصلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر، والسنن الرواتب؛ ولا يجب تعيين النافلة إن كانت مطلقة، كصلاة الليل، فيجزئه نية الصلاة لا غير، لعدم التعيين فيها، فهم كالشافعية في هذا.
__________
(1) المغني: 464/1-469، 231/2، كشاف القناع: 364/1 - 370.(1/152)
وفي الصوم: رأى الحنفية (1) أنه يصح صوم رمضان ونحوه كالنذر المعين زمانه بمطلق النية، وبنية النفل، وبنية واجب آخر، ولا يجب تبييت نية صوم رمضان، كما أبنت، والتسحر نية عندهم.
وصفة النية عند المالكية (2) : أن تكون معينة مبيتة جازمة. وكمال النية لدى الشافعية (3) في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى، والمعتمد أنه لا يجب في التعيين نية الفرضية.
ومذهب الحنابلة (4) : من خطر بباله أنه صائم غداً، فقد نوى، ويجب تعيين النية، بأن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضائه أو من نذره أو كفارته، ولا يجب مع التعيين نية الفرضية.
والحاصل: اتفق الجمهور غير الحنفية على وجوب تبييت النية، كما اتفق الجمهور غير الشافعية على أن الأكل والشرب بنية الصوم أو التسحر نية، إلا أن ينوي معه عدم الصيام. ولا يقوم مقام النية لدى الشافعية التسحر في جميع أنواع الصيام، إلا إذا خطر له الصوم عند التسحر ونواه، كأن يتسحر بنية الصوم، أو امتنع من الأكل عند الفجر خوف الإفطار.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 106 ومابعدها، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص33.
(2) القوانين الفقهية: ص 117، بداية المجتهد: 283/1.
(3) مغني المحتاج: 425/1.
(4) كشاف القناع: 367/2.(1/153)
وفي الاعتكاف (وهو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية، كما عرفه الشافعية) تشترط النية اتفاقاً، فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، للحديث المتقدم: (إنما الأعما ل بالنيات) ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً، لزمه تعيين النية للفرض، لتمييزه عن التطوع. ويشترط له أيضاً عند الحنفية والمالكية الصوم (1) ، لحديث رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة: «لا اعتكاف إلا بصوم» ، لكنه ضعيف. وليس الصوم بشرط عند الشافعية والحنابلة إلا أن ينذره، ونية الاعتكاف أن يقول: (نويت الاعتكاف في هذا المسجد ما دمت فيه) .
وفي الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النية شرط في أداء الزكاة، وينوي المزكي: «هذا زكاة مالي» ولا يشترط ذكر الفرض؛ لأن الزكاة لا تكون إلا فرضاً، ونحو ذلك مثل: هذا فرض صدقة مالي، أو صدقة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، أو فرض الصدقة. وتجزئ عند المالكية نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي. وقال الحنابلة: النية أن يعتقد أنها زكاته، أو زكاة ما يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب؛ لأن محل الاعتقادات كلها القلب (2) .
__________
(1) فتح القدير: 106/2 ومابعدها، الدر المختار: 177/2 ومابعدها. الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 725/2 ومابعدها، المهذب: 190/1-192، مغني المحتاج: 453/1وما بعدها، كشاف القناع: 406/2 ومابعدها، المغني: 184/3-186.
(2) فتح القدير: 493/1، البدائع: 40/2، المجموع: 182/6 ومابعدها، الشرح الصغير: 666/1، 670، المغني: 638/2 ومابعدها.(1/154)
وفي الحج والعمرة: لا بد فيهما من النية، وهي الإحرام: وهو نية الحج أو العمرة، أو هما، بأن يقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به لله تعالى. وإن حج أو اعتمر عن غيره قال: نويت الحج أوالعمرة عن فلان، وأحرمت به لله تعالى. ثم يلبي عقب صلاة ركعتي الإحرام. وينعقد الإحرام عند الجمهور بالنية، ولا ينعقد عند الحنفية بمجردها، وإنما لابد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد، ويسن عند الحنفية النطق بما نوى بأن يقول الحاج المفرد: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، ويقول المعتمر: اللهم إني أريد العمرة، فيسرها لي، وتقبلها مني، ويقول القارن: اللهم إني أريد العمرة والحج، فيسرهما لي وتقبلهما مني (1) .
ونية الأضحية: أن تكون في رأي الشافعية والحنابلة عند ذبح الأضحية؛ لأن الذبح قربة في نفسه، ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها (2) .
سادساً ـ الشك في النية، وتغييرها، والجمع بين عبادتين بنية واحدة:
الشك في النية: عني الشافعية والحنابلة (3) بأمر النية والشك فيها في العبادات، فقرروا أن الشك في أصل النية أو في شرطها يبطل العبادة. فإذا شك المصلي، هل نوى صلاة الظهر أو العصر، فلا يحسب له واحدة منهما، كما نص عليه الشافعي في الأم.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص131، البدائع: 161/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 16/2،25، مغني المحتاج: 476/1 ومابعدها، المجموع: 226/7، المغني: 281/3 ومابعدها.
(2) البدائع: 71/5، القوانين الفقهية: ص 187، مغني المحتاج: 289/4، كشاف القناع: 6/3.
(3) أحكام النية للحسيني: ص48-51، 66، مغني المحتاج: 47/1، 148 ومابعدها، 252 وما بعدها، المغني: 142/1، 467، غاية المنتهى: 116/1، كشاف القناع: 396/1.(1/155)
وإن شك المتطهر في النية في أثناء الطهارة، لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها، وهو فيها، فلم تصح كالصلاة. ولا يضر شكه في النية بعد فراغ الطهارة، كسائر العبادات.
وقرر الشافعية: أن النية شرط في جميع الصلاة، فلو شك في النية في صلاته، هل أتى بها أو لا، بطلت صلاته. وبطلان صلاته فيما إذا فعل مع الشك مالا يزاد مثله في الصلاة، وإن زيد بطلت كالركوع والسجود والرفع منهما.
أي أن صلاته تبطل إذا استمر في الشك بمقدار أداء ركن فعلي، فإن لم يمض ركن، وقصر الزمان، لم تبطل صلاته على المشهور، إلا إذا شك المسافر في نية القصر، ثم تذكر أنه نوى عن قرب، يلزمه الإتمام، لأن تلك اللحظة، وإن قصرت، فهي في حق المسافر محسوبة من الصلاة، مع تخلف نية القصر، وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف نية القصر، غلب الإتمام، فإنه الأصل.
ومالا يشترط أصل نيته، فالشك فيه لا يمنع الجواز، واستحضار النية في أثناء الصلاة لا يشترط، فلو صلى ركعة من الظهر، فظن في الركعة الثانية أنها من العصر، ثم تذكر في الثالثة، صح ظهره، ولا يضر ظنه أنها من العصر؛ لأن مالا يجب أصل نيته، فالخطأ فيه لا يضر.،ولو شك في أصل النية، فأتى بفعل الصلاة على الشك، بطلت؛ لأن أصل النية، وإن لم يكن شرطاً، فاستدامة الحكم شرط.(1/156)
وحكم الشك في شرط النية كالحكم في أصلها، فلو فاتته صلاتان، فعرفهما، فدخل في إحداهما بنية، ثم شك، فلم يدر أيتهما نوى، وصلى، لم تجزئه هذه الصلاة عن واحدة منهما، حتى يكون على يقين أو ظن غالب من التي نوى. وكذلك قرر الحنابلة: إن شك في أثناء الصلاة، هل نوى أو لا؟ أو شك في تكبيرة الإحرام، استأنفها، كما قال الشافعية؛ لأن الأصل عدم ماشك فيه. فإن ذكر أنه قد نوى، أو كبر قبل قطعها، فله البناء أي الإكمال؛ لأنه لم يوجد مبطل لها. وإن عمل في الصلاة عملاً مع الشك، بطلت الصلاة، كما قال الشافعية.
تغيير النية: اتفق الفقهاء على أن المصلي إذا أحرم بفريضة، ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى، بطلت الاثنتان؛ لأنه قطع نية الأولى، ولم ينو الثانية عند الإحرام. فإن حول الفرض إلى نفل، فالأرجح عند الشافعية أنها تنقلب نفلاً؛ لأن نية الفرض تتضمن نية النفل، بدليل أنه لو أحرم بفرض، فبان أنه لم يدخل وقته، كانت صلاته نافلة، والفرض لم يصح، ولم يوجد ما يبطل النفل.
والحاصل: تبطل الصلاة بفسخ النية أو تردده فيها أو عزمه على إبطالها أو نية الخروج من الصلاة، أو إبطالها وإلغاء ما فعله من الصلاة، أو شكه هل نوى أو لا، أو بالانتقال من صلاة إلى أخرى (1) .
الجمع بين عبادتين بنية واحدة:
قال الحنفية (2) : إما أن يكون الجمع بين العبادتين في الوسائل أو في المقاصد.
فإن كان في الوسائل، فإن الكل صحيح، كما لو اغتسل الجنب يوم الجمعة للجمعة ولرفع الجنابة، ارتفعت جنابته وحصل له ثواب غسل الجمعة. ومثله لو نوى الغسل للجمعة والعيد، فإنهما يحصلان.
وإن كان في المقاصد: فإما أن ينوي فرضين، أو نفلين، أو فرضاً ونفلاً.
__________
(1) كشاف القناع: 370/1، المغني: 468/1، فتح القدير285/1.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص39 وما بعدها.(1/157)
أما الأول (نية الفرضين) : فإن كان في الصلاة، لم تصح واحدة منهما، فلو نوى صلاتي فرض كالظهر والعصر، لم يصحا اتفاقاً. ولو نوى في الصوم القضاء والكفارة، كان عن القضاء. ولو نوى الزكاة وكفارة الظهار، جعله عن أيهما شاء. ولو نوى الزكاة وكفارة اليمين، فهو عن الزكاة. ولو نوى صلاة مكتوبة (مفروضة) وصلاة جنازة، فهي عن المكتوبة. وقد ظهر بهذا أنه إذا نوى فرضين: فإن كان أحدهما أقوى، انصرف إليه، فصوم القضاء أقوى من صوم الكفارة، وإن استويا في القوة، فإن كان في الصوم، فله الخيار ككفارة الظهار وكفارة اليمين، وكذلك الزكاة وكفارة الظهار. وأما الزكاة مع كفارة اليمين، فالزكاة أقوى، وأما في الصلاة فيقدم أيضاً، فقدمت المكتوبة على صلاة الجنازة.
وإن نوى فرضاً ونفلاً، فإن نوى الظهر والتطوع، أجزأه عن المكتوبة وبطل التطوع، في رأي أبي يوسف. وقال محمد: لا يجزئه شيء منهما. وإن نوى الزكاة والتطوع يكون عن الزكاة، وعند محمد عن التطوع. ولو نوى نافلة وجنازة فهي نافلة.
وأما إذا نوى نافلتين، كما إذا نوى بركعتي الفجر التحية والسنة أجزأت عنهما.
وأما التعدد في الحج: فلو أحرم نذراً ونفلاً، كان نفلاً، أو فرضاً وتطوعاً، كان تطوعاً عند أبي يوسف ومحمد في الأصح. ولو أحرم بحجتين معاً أو على التعاقب، لزماه عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: في المعية يلزمه إحداهما، وفي التعاقب الأولى فقط.(1/158)
وإذا نوى عبادة ثم نوى في أثنائها الانتقال عنها إلى غيرها، فإن كبر ناوياً الانتقال إلى غيرها، صار خارجاً، كما إذا نوى تجديد الأولى وكبر. وذكر السيوطي (1) : لو نوى مع النفل نفلا ً آخر فلا يحصلان، لكن لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلاً، فيصح. أما لو نوى سُنَّتين: فإن لم تدخل إحداهما في الأخرى كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر، فلا تنعقدان عند التشريك بينهما. وأما إن دخلت إحداهما في الأخرى كتحية المسجد وسنة الظهر مثلاً، فتنعقدان؛ لأن التحية تحصل ضمناً. ومثل التحية في رأي ابن حجر وشيخه العراقي أن ينوي مع الفرض صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء وستة من شوال والأيام البيض ويوم الاثنين والخميس من كل شهر.
أما لو نوى مع غير العبادة شيئاً آخر غيرهما، كما لو قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، ناوياً الطلاق والظهار، أو قال لزوجتيه: أنتما على حرام، ناوياً في إحداهما الطلاق ووفي الأخرى الظهار، حمل في رأي الحنفية إن أراد أحدهما على الأغلظ منهما وهو الطلاق؛ لأن اللفظ الواحد لا يحمل على أمرين. والأصح عند الشافعية: يخير بينهما، فما اختاره ثبت (2) .
وسيأتي في بحث المقصود بالنية تفصيل رأي الشافعية في هذا الموضوع.
سابعاً ـ المقصود بالنية ومقوماتها:
أوضح ابن نجيم والسيوطي (3) الهدف أو الغاية من النية إيضاحاً تاماً، فقالا: إن المقصود الأهم من النية تمييز العبادات من العادات وتمييز رُتَب العبادات بعضها من بعض، كالوضوء والغسل، يتردد بين التنظيف والتبرد والعبادة. والإمساك عن المفطرات قد يكون حِمْية أو تداوياً أو لعدم الحاجة إليه. والجلوس في المسجد قد يكون للاستراحة.
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص 20.
(2) الأشباه لابن نجيم: ص 42، وللسيوطي: ص21.
(3) الأشباه لابن نجيم: ص 24 ومابعدها، وللسيوطي: ص 10 - 21.(1/159)
ودفع المال قد يكون هبة أو لغرض دنيوي، وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة. والذبح قد يكون للأكل، فيكون مباحاً أو مندوباً، أو للأضحية فيكون عبادة، أو لقدوم أمير، فيكون حراماً، فشرعت النية لتمييز القربات من غيرها.
والتقرب إلى الله تعالى يكون بالفرض والنفل والواجب، فشرعت النية لتمييزها عن بعضها، فكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضاَ ونذراً ونفلاً. والتيمم قد يكون عن الحدث، أو عن الجنابة، وصورته واحدة وهي في الوجه واليدين فقط.
ويتفرع عن ذلك أمور:
1 ً - ما لا يكون عادة أو لا يلتبس بغيره، لا تشترط فيه نية زائدة على قصد الفعل، كالإيمان بالله تعالى، والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن والأذكار؛ لأنها متميزة لا تلتبس بغيرها، فإذا قصد الإنسان الإيمان أو القراءة، صار طاعة مثاباً عليها، بدون قصد التقرب، أما غير ذلك فلا يكفي فيه مجرد قصد الفعل، بل لا بد من نية زائدة، بأن ينوي التقرب في دخول المسجد ونحوه، ليكون مثاباً عليه.
2 ً - اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإنما لكل امرئ مانوى» فهذا ظاهر في اشتراط التعيين، فيشترط في الفرائض التعيين لتساوي الظهر والعصر صورة وفعلاً، فلا يميز بينها إلا التعيين. وتعين النوافل غير المطلقة كالرواتب (سنن الصلاة) بإضافتها إلى الظهر مثلاً قبلية أو بعدية. ثم ذكر السيوطي قواعد ثلاثاً وهي:
أـ (ما لايشترط التعرض له لا جملة ولا تفصيلاً لايضر الخطأ فيه) أي في تعيينه، مثل مكان الصلاة وزمانها.
ب ـ (وما يشترط تعيينه يضر الخطأ فيه) كالخطأ من الصوم إلى الصلاة ومن الظهر إلى العصر.
جـ ـ (وما يجب التعرض له جملة ولا يجب تعيينه تفصيلاً، إذا عينه وأخطأ فيه ضر) مثل عدد الركعات، لو نوى الظهر خمساً أو ثلاثاً لم يصح.(1/160)
3 ً - اشتراط التعرض للفرضية وللصلاة: يترتب كلاهما على ماشرعت النية لأجله وهو التمييز، فلا بد من بيان صفة الفرضية لتتميز عن النفل.
والأصح وجوب التعرض للصلاة لتتميز عن غيرها من صوم وغيره، والأصح اشتراط التعرض للفرضية في الغسل دون الوضوء؛ لأن الغسل قد يكون عادة، والوضوء لا يكون إلا عبادة. والأصح اشتراط التعرض للفرضية في الزكاة، إن أتى بلفظ الصدقة، وعدم التعرض لها إن أتى بلفظ الزكاة؛ لأن الصدقة قد تكون فرضاً، وقد تكون نفلاً، فلا يكفي مجردها، والزكاة لا تكون إلا فرضاً؛ لأنها اسم للفرض المتعلق بالمال، فلا حاجة إلى تقييدها به. وكذا الحج والعمرة لا يشترط فيهما التعرض للفرضية بلا خلاف.
والخلاصة: تنقسم العبادات التي تجب فيها النية بالنسبة لوجوب نية الفرضية إلى أقسام أربعة:
ـ الحج والعمرة والزكاة بلفظها والجماعة: لا تشترط فيها بلا خلاف.
ـ الصلاة والجمعة منها، والغسل، والزكاة بلفظ الصدقة: تشترط فيها على الأصح. ـ الوضوء والصوم: لاتشترط فيها على الأصح.
ـ التيمم: لا يكفي فيه نية الفرضية، بل يضر على الصحيح، فإذا نوى فرضه لم يكف.
4 ً - عدم اشتراط نية القضاء والأداء، على الأصح، في الصلوات، ومنها الجمعة.
وأما الصوم: فالذي يظهر ترجيحه أن نية القضاء لا بد منها فيه. وأما الحج والعمرة فلا شك أنهما لا يشترطان فيهما، إذ لو نوى بالقضاء الأداء لم يضره، وانصرف إلى القضاء. ولو كان عليه قضاء حج أفسده في صباه ثم بلغ، فنوى القضاء، انصرف إلى حجة الإسلام وهي الأداء.
5 ً - الإخلاص: يترتب على التمييز، فلا تصح النيابة أو التوكيل في النية إلا فيما يقبل النيابة وهو ما يقترن بفعل، كتفرقة زكاة، وذبح أضحية، وصوم عن الميت، وحج؛ لأن المقصود اختبار سر العبادة، بأن ينويها المكلف بالعبادة بنفسه.(1/161)
وضابط التشريك في النية يتضح في الأقسام التالية التي ذكرناها في بحث الجمع بين العبادتين بنية واحدة وهي:
الأول ـ أن ينوي مع العبادة ماليس بعبادة، فقد يبطلها، كما إذا ذبح الأضحية لله ولغيره، فانضمام غيره يوجب حرمة الذبيحة. ويقرب من ذلك: ما لو كبَّر للإحرام بالصلاة مرات، ونوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة، فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار، ويخرج بالأشفاع لأن من افتتح صلاة، ثم افتتح أخرى، بطلت صلاته؛ لأنه يتضمن قطع الأول. فلو نوى الخروج بين التكبيرتين، خرج بالنية، ودخل بالتكبيرة، ولو لم ينو بالتكبيرات شيئاً، لا دخولاً ولا خروجاً. صح دخوله بالأولى، والبواقي ذِكْر. وقد لا يبطلها، كما لو نوى مع الوضوء أو الغسل التبرد، الأصح الصحة لأن التبرد حاصل، قصده أم لا، فلم يجعل قصده تشريكاً للعبادة مع غيرها وتركاً للإخلاص، بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها لأن من ضرورتها حصول التبرد.
الثاني ـ أن ينوي مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة، وفيه صور:
منها ـ ما لا يقتضي البطلان وتحصلان معاً: كأن أحرم بصلاة، ونوى بها الفرض والتحية معاً، صحت، وحصلا معاً. وكأن ينوي بغسله غسل الجنابة والجمعة معاً، حصلا جميعاً على الصحيح. ولو نوى بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الحاضرين حصلا. ولو حج الفرض وقرنه بعمرة التطوع، أو عكسه، حصلا. ولو نوى في صوم يوم عرفة غيره من قضاء أو نذر أو كفارة، صح وحصلا معاً.
ومنها ـ ما يحصل الفرض فقط: كأن نوى بحجه الفرض والتطوع، وقع فرضاً؛ لأنه لو نوى التطوع، انصرف إلى الفرض. ولو صلى الفريضة الفائتة في ليالي رمضان، ونوى معها التراويح، حصلت الفائتة دون التراويح.
ومنها ـ ما يحصل النفل فقط: كأن أخرج خمسة دراهم، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع، لم تقع زكاة، ووقع التطوع. ولو خطب بقصد الجمعة والكسوف، لم يصح للجمعة؛ لأنه تشريك بين فرض ونفل.(1/162)
ومنها ـ ما يقتضي البطلان في الكل: كأن كبَّر المسبوق، والإمام راكع تكبيرة واحدة، ونوى بها التحرُّم والهويّ إلى الركوع، لم تنعقد الصلاة أصلاً، للتشريك. ولو نوى بصلاته الفرض والراتبة، لم تنعقد أصلاً.
الثالث ـ أن ينوي مع المفروضة فرضاً آخر، ويجري ذلك في الحج والعمرة، والغسل والوضوء معاً، فإنهما يحصلان على الأصح.
الرابع ـ أن ينوي مع النفل نفلاً آخر: فلا يحصلان، لأن السَّنتين إذا لم تدخل إحداهما في الأخرى، لا تنعقدان عند التشريك بينهما كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر، فإن دخلت إحداهما في الأخرى كتحية المسجد وسنة الظهر مثلاً، صح؛ لأن التحية تحصل ضمناً. ويستثنى من ذلك: ما لو نوى الغسل للجمعة والعيد، فإنهما يحصلان، وما لو خطب خطبتين بقصد العيد والكسوف جميعاً، فإنه يصح. وما لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلاً، فيصح.
الخامس ـ أن ينوي مع غير العبادة شيئاً آخر، وهما مختلفان في الحكم، كأن يقول لزوجته: «أنت علي حرام» وينوي الطلاق والظهار فالأصح يخير بينهما، فما اختاره ثبت.
والخلاصة: أن النية لها مقومات: هي القصد، والفرضية في الفرائض الخمس والغسل والزكاة بلفظ الصدقة، والتعيين فيما يلتبس مع غيره، والإخلاص، فلا يصح التوكيل في النية إلا فيما يقبل النيابة مما يقترن بفعل، والأصل: ألا يصح التشريك في العبادة، إلا ما استثني.
ثامناً ـ شروط النية:
للنية شروط عامة في العبادات، وشروط خاصة بكل عبادة. أما الشروط العامة فهي ما يأتي (1) :
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 52-55، وللسيوطي: ص 31 - 38، غاية المنتهى: 115/1 وما بعدها.(1/163)
1 ً - الإسلام: لا تصح النية المرتبة للثواب وصحة الفعل إلا من المسلم، فلا تصح العبادات من كافر، فلغا تيمم كافر وكذا وضوؤه عند الجمهور، ويصح وضوؤه وغسله عند الحنفية؛ لأن النية من شروط التيمم دون الوضوء عندهم، فإذا أسلم بعدهما صلى بوضوئه وغسله. ولم تصح عندهم الكفارة من كافر، فلا تنعقد يمينه، لقوله تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} [التوبة:12/9] ، وقوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} [التوبة:12/9] ، أي عهودهم الظاهرية. وتصح الكفارة عند الشافعية بغير العبادة (الصوم) من عتق رقبة وإطعام مساكين، ويشترط منه نيتها، لأن المغلب فيها جانب الغرامات، والنية فيها للتمييز لا للقربة، وهي بالديون أشبه. ويصح غسل الكتابية زوجة المسلم عن الحيض، ليحل وطؤها بلا خلاف للضرورة، ويشترط نيتها عند الشافعية.
أما المرتد فلا يصح منه غسل ولا غيره، لكن إذا أخرج المرتد الزكاة في حال ردته تصح وتجزئه.
2 ً - التمييز: فلا تصح بالاتفاق عبادة صبي غير مميز، ولا مجنون. لكن يصح عند الشافعية للولي أن يوضئ الطفل للطواف حيث يحرم عنه، وللزوج أن يغسل المجنونة عن الحيض، وينوي على الأصح.
ويتفرع عن هذا الشرط أن (عمد الصبي والمجنون خطأ) سواء أكان الصبي مميزاً أم لا عند الحنفية. ورأى الشافعية أن عمد المجنون والصبي غير المميز خطأ قطعاً، أما المميز منهما فعمده عمد في الأصح.(1/164)
وينتقض وضوء السكران وتبطل صلاته بالسكر، لعدم تمييزه. لكن الشافعية قالوا: لا يقضى عليه بالحدث ولا تبطل صلاته وسائر أفعاله، حتى يستغرق في سكره، بعد أوان النشوة.
3 ً - العلم بالمنوي: فمن جهل فرضية الصلاة، لم تصح منه، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض، ولم يعلم الفرضية التي شرع فيها. ولا يشترط هذا الشرط في الحج، فهو يفارق الصلاة بأنه لا يشترط فيه تعيين المنوي، بل ينعقد الإحرام مطلقاً، ثم يعينه؛ لأن علياً رضي الله عنه أحرم بما أحرم به النبي صلّى الله عليه وسلم وصححه، فإن عين حجاً أو عمرة صح إن كان قبل الشروع في الأفعال، وإن شرع تعينت عمرة.
وفرع السيوطي على هذا الشرط: ما لو نطق بكلمة الطلاق بلغة لا يعرفها، وقال: قصدت بها معناها بالعربية، فإنه لا يقع الطلاق في الأصح.
4 ً - ألا يأتي بمنافٍ بين النية والمنوي بأن يستصحبها حكماً: فتبطل العبادات من صلاة وصوم وحج وتيمم بالارتداد ـ والعياذ بالله تعالى ـ في أثنائها، وتبطل صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم بالردة إذا مات عليها، فإن أسلم بعدها: فإن كان في حياته عليه الصلاة والسلام، فلا مانع من عودها، وإلا ففي عودها نظر. وذكر السيوطي: أن الوضوء أو الغسل لم يبطل بالردة؛ لأن أفعالهما غير مرتبطة ببعضها، ولكن لا يحسب المغسول في زمن الردة.
والردة تحبط العمل والأجر والإيمان السابق، سواء عاد إلى الإسلام أم لا.(1/165)
ومن المنافي للنية: نية القطع، فإذا نوى قطع الإيمان، صار مرتداً للحال، ولو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها لم تبطل بالإجماع. وكذا سائر العبادات. أما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها بطلت بلا خلاف؛ لأنها شبيهة بالإيمان، إلا أن ابن نجيم المصري قال: لا تبطل إلا إذا كبر في الصلاة، وينوي الدخول في أخرى، فالتكبير هو القاطع للأولى، لا مجرد النية. ولو نوى قطع الطهارة في أثنائها، لم يبطل ما مضى في الأصح، لكن يجب تجديد النية لما بقي. ولو نوى قطع الصوم أو الاعتكاف، لم يبطل في الأصح؛ لأن الصلاة مخصوصة من بين سائر وجوه العبادات بوجوه من الربط ومناجاة العبد ربه. ولو شرع في الصوم الفرض بعد الفجر، ثم نوى قطعه والانتقال إلى صوم نفل، فإنه لا يبطل؛ لأن الفرض والنفل في الصوم وكذا في الزكاة جنس واحد. أما لو افتتح الصلاة بنية الفرض، ثم غيَّر نيته في الصلاة، وجعلها تطوعاً، فتصير تطوعاً. ولو نوى فعلَ منافٍ للصلاة لم تبطل. ولو نوى الأكل أو الجماع في الصوم، لم يضره. ولو نوى الصوم من الليل، ثم قطع النية قبل الفجر، سقط حكمها؛ لأن ترك النية ضد النية.
ولو نوى قطع السفر بالإقامة، صار مقيماً، وبطل سفره بخمس شرائط في رأي الحنفية: ترك السير، حتى لو نوى الإقامة سائراً لم تصح، وصلاحية الموضع للإقامة، فلو نواها في بحر أو جزيرة لم تصح، والاستقلال بالرأي، فلا تصح نية التابع، والمدة أي إن نوى إقامة نصف شهر، فيقصر إن نوى الإقامة في أقل من نصف شهر، واتحاد الموضع، فلو نوى إقامة نصف شهر في موضعين مستقلين، كمكة ومنى، لم يصر مقيماً، وأصبح كمن نوى الإقامة في غيرموضعها (1)
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 737/1..(1/166)
ويقرب من نية القطع: نية القلب (التحويل) : وهي نية نقل الصلاة إلى أخرى، وذلك لا يكون عند الحنفية إلا بالشروع بالتحريمة لا بمجرد النية، ولا بد أن تكون الثانية غير الأولى، كأن يشرع في العصر بعد افتتاح الظهر، فيفسد الظهر، وبشرط ألا يتلفظ بالنية، فإن تلفظ بها بطلت الأولى مطلقاً. وقال الماوردي: تبطل الصلاة بنقل من فرض إلى فرض، أو من نفل راتب إلى نفل راتب، كوتر إلى سنة الفجر، أو من نفل إلى فرض، أو من فرض إلى نفل إلا إذا كان لعذر، كأن أحرم بفرض منفرداً، ثم أقيمت جماعة، فسلَّم من ركعتين ليدركها، صحت نفلاً في الأصح.
ومن المنافي: التردد وعدم الجزم في أصل النية، فلو نوى يوم الشك (ليلة الثلاثين من شعبان) : إنه إن كان من شعبان فليس بصائم، وإن كان من رمضان كان صائماً، لم تصح نيته، بخلاف لو وقع ذلك ليلة الثلاثين من رمضان، لاستصحاب الأصل. ولو ترد د هل يقطع الصلاة أو لا، أو علق إبطالها على شيء بطلت. ولو تردد في أنه نوى القصر أو لا أو هل يتم أو لا، لم يقصر.
ومن فروعه: تعقيب النية بالمشيئة: قال السيوطي: إن نوى التعليق بطلت، أو التبرك فلا تبطل، أو أطلق تبطل؛ لأن اللفظ موضوع للتعليق، فلو قال: أصوم غداً إن شاء الله، لم يصح. وقال ابن نجيم: إن كان مما يتعلق بالنيات كالصوم والصلاة لم تبطل، وإن كان مما يتعلق بالأقوال كالطلاق والعتاق بطل.
وهناك صور تصح فيها النية مع التردد أو التعليق أوردها السيوطي، فمن صور التردد: لو اشتبه عليه ماء، وماء ورد، لا يجتهد، بل يتوضأ بكل مرة، ويغتفر التردد في النية للضرورة.
ومنها: من كان عليه صوم واجب، لا يدري هل هو من رمضان أو من نذر أو كفارة، فنوى صوماً واجباً أجزأه، كمن نسي صلاة من الخمس، وصلى الخمس، أجزأه، ويعذر في عدم جزم النية للضرورة.(1/167)
ومن صور التعليق:
في الصلاة: إن شك في قصر إمامه، فقال: إن قصر قصرت، وإلا أتممت، فبان قاصراً، قصر. وفي الحج: بأن يقول مريد الإحرام: إن كان زيد محرماً فقد أحرمت، فإن كان زيد محرماً انعقد إحرامه، وإلا فلا. ولو علقه بمستقبل كقوله: إذا أحرم زيد أو جاء رأس الشهر، فقد أحرمت فلا يصح.
ومنها: عليه فائتة وشك في أدائها، فقال: أصلي عنها إن كانت وإلا فنافلة، فبانت، أجزأه.
ومنها في الصوم: لو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد إن كان من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن فتطوع، صح وأجزأه.
ومنها في الزكاة: نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقياً، وإلا فعن الحاضر، فبان باقياً أجزأه عنه، أو تالفاً أجزأه عن الحاضر.
ومنها في الجمعة: أحرم بالصلاة في آخر وقتها، فقال: إن كان الوقت باقياً فجمعة، وإلا فظهر، فبان بقاؤه، صحت الجمعة في وجه، وقيل: لا تصح.
ومن المنافي: عدم القدرة على المنوي إما عقلاً أو شرعاً أو عادة.
مثال الأول ـ نوى بوضوئه أن يصلي صلاة وألا يصليها لم تصح لتناقضه.
مثال الثاني ـ نوى بوضوئه الصلاة في مكان نجس، لا تصح.
ومثال الثالث ـ نوى بوضوئه صلاة العيد، وهو في أول السنة، أو الطواف وهو بالشام، الأصح الصحة، وقيل: لا تصح.
هذه هي الشروط العامة في العبادات، شرطها الفقهاء في الطهارة، فقالوا: يشترط في نية الوضوء: إسلام الناوي، وتمييزه، وعلمه بالمنوي وعدم إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها حكماً، فلا ينصرف عن الوضوء مثلاً لغيره، وألا تكون معلَّقة، فلو قال: إن شاء الله تعالى: فإن قصد التعليق أو أطلق، لم تصح، وإن قصد التبرك صحت.(1/168)
واشترط غير الحنفية دخول وقت الصلاة لدائم الحدث كسلس بول ومستحاضة؛ لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم (1) . وشرطها الفقهاء أيضاً في الصلاة، وأضافوا إليها مقارنة النية لتكبيرة الإحرام، فاشترط الحنفية اتصال النية بالصلاة بلا فاصل أجنبي بين النية والتكبير، واشترط الشافعية اقتران النية بفعل الصلاة، وكذلك اشترط المالكية والحنابلة المقارنة، لكنهم أجازوا تقدم النية على التكبير بزمن يسير. واتفق الفقهاء على اشتراط تعيين نوع الفرض الذي يصليه المصلي كالظهر أو العصر؛ لأن الفروض كثيرة، ولا يتأدى واحد منها بنية فرض آخر.
ولا تجب نية الخروج من الصلاة بالسلام، وإنما تستحب عند المالكية والشافعية.
واشترط الفقهاء تلك الشروط في الصيام، وأضافوا إليها: تبييت النية أي إيقاعها ليلاً في رأي الجمهور غير الحنفية، وهو الأفضل عند الحنفية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» (2) . واشترط الجمهور أيضاً تعيين النية في فرض الصيام، ولم يشترطه الحنفية، والتعيين: أن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان، أو من قضائه، أو من كفارته أو نذره.
__________
(1) مغني المحتاج: 47/1، المغني: 142/1.
(2) رواه الدارقطني بإسناد رجاله كلهم ثقات.(1/169)
واشترط الجمهور كذلك الجزم بالنية، فلو نوى ليلة الشك: إن كان من رمضان، فأنا صائم فرضاً، وإلا فهو نفل، لم يجزئه عن واحد منهما، لعدم جزمه بالنية لأحدهما؛ إذ لم يعين الصوم من رمضان جزماً. وليس الجزم بالنية في الصوم المقيد بزمن معين شرطاً عند الحنفية، فيصح صومه بالنية المذكورة. وليست نية فرضية الصيام شرطاً باتفاق الفقهاء، بخلاف المقرر في الصلاة؛ لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضاً، بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل. وكذلك لا يشترط بالاتفاق تعيين السنة، ولا الأداء، ولا الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن المقصود متحقق بنية الصوم، والتعيين يجزئ عن ذلك.
واشترط الجمهور تعدد النية بتعدد الأيام، فينوي لكل يوم من رمضان على حدة، لعدم تعلق عبادة يوم باليوم الآخر. وقال المالكية: تجزئ نية واحدة لرمضان في أوله، فيجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة.
وفي الزكاة: تشترط الشروط العامة للنية، واختلفوا في أحوال مقارنتها للأداء، فقال الحنفية: لا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء إلى الفقير، ولو حكماً، كما لو دفع بلا نية ثم نوى، والمال في يد الفقير، أو نوى عند الدفع إلى الوكيل، ثم دفع الوكيل بلا نية، أو مقارنة لعزل مقدار الواجب.
وقال المالكية: تشترط النية لأداء الزكاة عند الدفع، ويكفي عند عزلها، وتجزئ من دفعها كرهاً عنه كالصبي والمجنون، وتجزئ نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي.(1/170)
وأجاز الشافعية كالحنفية والمالكية تقديم النية على الدفع للفقير، بشرط أن تقارن عزل الزكاة، أو إعطاءها للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، كما تجزئ بعد العزل وقبل التفرقة، وإن لم تقارن أحدهما، ويجوز تفويضها للوكيل إن كان من أهلها، بأن يكون مسلماً مكلفاً. ويجوز توكيل الصبي والكافر في أدائها للمستحقين، بشرط أن يعين له المدفوع له. وتجب نية الولي في زكاة الصبي والمجنون والسفيه، وإلا ضمنها لتقصيره. ولو دفعها المزكي للإمام بلا نية لم تجزئه نية الإمام في الأظهر. وإذا أخذت قهراً من المزكي نوى عند الأخذ منه، وإلا وجب على الآخذ النية.
وأجاز الحنابلة أيضاً تقديم النية على الأداء بالزمن اليسير، كسائر العبادات. وإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوى هو دون الوكيل، جاز، إذا لم تتقدم نيته الدفع بزمن طويل. فإن تقدمت النية بزمن طويل لم يجز إلا إذا نوى حال الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المستحق. لكن إن أخذ ها الإمام قهراً، أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه، أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون.
ولو تصدق الإنسان بجميع ماله تطوعاً، لم يجزئه عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه لم ينو به الفرض، كما لو تصدق ببعضه، وكما لو صلى مئة ركعة، ولم ينو الفرض بها. ورأى الحنفية أنه يسقط الفرض عنه استحساناً، بشرط ألا ينوي بها واجباً آخر من نذر أو غيره؛ لأن الواجب جزء منه، فكان متعيناً فيه، فلا حاجة إلى التعيين، وعلى هذا: لو كان للمزكي دين على فقير، فأبرأه عنه، سقط زكاة المبلغ المبرأ عنه، سواء نوى به عن الزكاة أو لم ينو؛ لأنه كالهلاك.(1/171)
وفي الحج والعمرة: تشترط الشروط العامة أيضاً، ولكن يشترط في الحج أن يكون الإحرام في وقت معين، وهي الأشهر الثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، أما العمرة فتصح على مدار العام، ويشترط أن ينضم للإحرام في رأي الحنفية قول أو فعل من خصائصه، كالتلبية أو التجرد من المخيط، ولم يشترط الجمهور ذلك، وإنما ينعقد الإحرام عندهم بمجرد النية، لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية والتجرد من المخيط ونحوه حين النية. ويشترط للإحرام تجرد الرجال من المخيط، والامتناع عن الطيب ونحو ذلك من محظورات الإحرام، وإحرام المرأة بكشف وجهها. ويشترط للإحرام أيضاً كونه من الميقات، ولكل جهة ميقات معين معروف عند الفقهاء والناس.
وأجاز جمهور الفقهاء إدخال الحج على العمرة وبالعكس، بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع في طواف العمرة، وبشرط كونه عند الحنفية قبل أداء أربعة أشواط من طواف العمرة، ولا يجوز إدخال العمرة على الحج في مذهب الحنفية.
وأجاز الحنابلة خلافاً للجمهور فسخ الحج إلى العمرة، أي تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة.
وفي الأضحية: اشترط الشافعية والحنابلة أن تكون النية عن ذبح الأضحية لأن الذبح قربة في نفسه، ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها. وقال الكاساني في البدائع: لا تتعين الأضحية إلا بالنية وتكفي النية في مذهب الحنفية عند الشراء، كما سأوضح.(1/172)
تاسعاً ـ النية في العبادات: هل هي شرط أو ركن؟
تكلمنا فيما سبق في هذا البحث عن شروط النية ومحلها وكيفيتها وزمنها وغير ذلك، ولم يبق في بحث النية في العبادات إلا الكلام عن شرطيتها وركنيتها، فهل النية في العبادات شرط أو ركن؟ علماً بأن كلاً من الشرط والركن فرض، لكن الشرط يكون خارجاً عن المشروط، كالطهارة شرط للصلاة خارجة عن الصلاة، والركن في اصطلاح الحنفية: هو ما يتوقف عليه وجود الماهية أو الشيء، ويكون جزءاً داخلاً فيها أو فيه. وهو عند الجمهور: ما به قوام الشيء الذي يتوقف وجوده عليه، سواء أكان جزءاً داخلاً فيه أم أمراً أساسياً فيه. فالركوع والسجود ركنان للصلاة داخلان فيها؛ لأنهما جزءان من أجزائها. والإيجاب والقبول ركن العقد في اصطلاح الحنفية، ويضاف إلى الصيغة (الإيجاب والقبول) العاقدان والمعقود عليه، والثمن أو العوض في المعاوضات، تعد أركاناً في العقد في اصطلاح الجمهور.
ويحسن إيراد عبارتين لكل من ابن نجيم والسيوطي قبل تفصيل حكم النية في العبادات؛ لأنهما يمثلان اتجاهين متعارضين في شرطية النية وركنيتها.
قال ابن نجيم (1) :النية شرط عندنا في كل العبادات باتفاق الأصحاب (أي الحنفية) ، لا ركن، وإنما الاختلاف بينهم وقع في تكبيرة الإحرام، والمعتمد أنها شرط كالنية وقيل: بركنيتها. وكذلك قال الحنابلة والمالكية: النية شرط في العبادة لاركن ولو داخلها (2) .
وقال السيوطي (3) :اختلف الأصحاب (أصحاب الشافعي) هل النية ركن في العبادات أو شرط؟ فاختار الأكثرون أنها ركن؛ لأنها داخل العبادات، وذلك شأن الأركان، والشرط ما يتقدم عليها، ويجب استمراره فيها.
وأتتبع هنا حكم النية في كل عبادة على حدة (4) .
1- الطهارة: اختلف الفقهاء في اشتراط النية للوضوء على رأيين فقال الحنفية (5) : يسن للمتوضئ البداية بالنية لتحصيل الثواب، ووقتها قبل الاستنجاء
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص55.
(2) القوانين الفقهية: ص 57، غاية المنتهى: 115/1.
(3) الأشباه والنظائر: ص38.
(4) سيأتي تفصيل البحث في النية في مواضعها المطلوبة أصالة.
(5) البدائع: 17/1، الدر المختار: 98/1 ومابعدها.(1/173)
ليكون جميع فعله قربة، وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء، أو امتثال الأمر ومحلها: القلب، فإن نطق بها ليجمع بين فعل القلب واللسان، فهو مستحب عند المشايخ.
ويترتب على قولهم بعدم فرضية النية: صحة وضوء المتبرد، والمنغمس في الماء للسباحة أو للنظافة أو لإنقاذ غريق، ونحو ذلك.
واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
أـ عدم النص عليها في القرآن: إن آية الوضوء لم تأمر إلا بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح بالرأس، والقول باشتراط النية بحديث آحاد زيادة على نص القرآن، والزيادة على الكتاب عندهم نسخ، لا يصح بالآحاد.
ب ـ عدم النص عليها في السنة: لم يعلِّمْها النبي صلّى الله عليه وسلم للأعرابي مع جهله. وفرضت النية في التيمم؛ لأنه بالتراب، وليس هو مزيلاً للحدث بالأصالة، وإنما هو بدل عن الماء.
جـ ـ القياس على سائر أنواع الطهارة وغيرها: إن الوضوء طهارة بماء، فلا تشترط لها النية كإزالة النجاسة، كما لا تجب النية في شروط الصلاة الأخرى كستر العورة، ولا تجب أيضاً بغسل الذمية من حيضها لتحل لزوجها المسلم.
د ـ إن الوضوء وسيلة للصلاة، وليس مقصوداً لذاته، والنية شرط مطلوب في المقاصد، لا في الوسائل.
وقال الجمهور غير الحنفية (1) : النية فرض في الوضوء، لتحقيق العبادة أو قصد القربة لله عز وجل، فلا تصح الصلاة بالوضوء لغير العبادة كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك، واستدلوا بما يأتي:
__________
(1) المجموع للنووي:361/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 7/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 93/1 وما بعدها، مغني المحتاج: 47/1 ومابعدها، المغني: 110/1 ومابعدها، كشاف القناع: 94/1 - 101(1/174)
أـ السنة: قوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الجماعة عن عمر رضي الله عنه ـ «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» أي إن الأعمال المعتدّ بها شرعاً تكون بالنية، والوضوء عمل، فلا يوجد شرعاً إلا بنية.
ب ـ تحقيق الإخلاص في العبادة، لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة:5/98] ، والوضوء عبادة مأمور بها، لا يتحقق إلا بإخلاص النية فيه لله تعالى؛ لأن الإخلاص عمل القلب وهو النية.
جـ ـ القياس: تشترط النية في الوضوء، كما تشترط في الصلاة، وكما تشترط في التيمم لاستباحة الصلاة.
د ـ الوضوء وسيلة للمقصود، فله حكم ذلك المقصود، لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/5] ، فهذا يدل على أن الوضوء مأمور به عند القيام للصلاة، ومن أجل هذه العبادة، فالمطلوب غسل الأعضاء لأجل الصلاة، وهو معنى النية.(1/175)
وبمقارنة أدلة الفريقين يتبين لي أن الحق هو القول بفرضية النية؛ لأن أحاديث الآحاد كثيراً ما أثبتت أحكاماً ليست في القرآن، بل إن حديث عمر في النية، وإن كان غريباً بالنسبة إلى أوله، فهو مشهور بالنسبة إلى آخره، فإنه اشتهر، فرواه عن عمر أكثر من مئتي إنسان، أكثرهم أئمة، ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم، ولأن عموم الماء للأعضاء بدون قصد أصلاً، أو بقصد التبرد، ليس غسلاً للوضوء، حتى يؤدي مهمته الشرعية، ويحقق المأمور به كما أمر به، والأمور بمقاصدها باتفاق الأئمة.
2- التيمم: اتفق العلماء على وجوب النية في التيمم، وهي فرض عند المالكية والشافعية، والمعتمد أنها شرط في رأي الحنفية والحنابلة (1) ، ودليلهم على اشتراط النية في التيمم: الحديث السابق: (إنما الأعمال بالنيات) واستدل الحنفية: بأن التراب ملوِّث، فلا يكون مطهراً إلا بالنية، أي أن التراب ليس بطهارة حقيقية، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية، بخلاف الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية. فلا يشترط له الحاجة ليصير طهارة، فلا يشترط له النية.
3- الغسل: الخلاف فيه كالخلاف في الوضوء على قولين، فقد أوجب الجمهور غير الحنفية النية للغسل كالوضوء، للحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات» . ورأى الحنفية أن الابتداء بالنية سنة، ليكون فعله تقرباً إلى الله تعالى يثاب عليه، كالوضوء (2) . وفي غسل الميت اشترط الحنابلة في الغاسل النية: نية غسل الميت، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» .
__________
(1) البدائع: 45/1، 52، فتح القدير: 86/1، 89، الشرح الكبير للدردير: 154/1 القوانين الفقهية: ص37، بداية المجتهد: 64/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 97/1، المهذب: 32/1، المغني: 251/1، كشاف القناع: 199/1 ومابعدها.
(2) الدر المختار: 140/1 ومابعدها، الشرح الصغير للدردير: 166/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 72/1 وما بعدها، كشاف القناع: 173/1 ومابعدها، المجموع: 370/1.(1/176)
4 - الصلاة: النية واجبة في الصلاة باتفاق العلماء، لتتميز العبادة عن العادة، وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى، قال الله تعالى: {وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء} [البينة:5/98] ، قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم: النية. ودل الحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات» على إيجابها، فلا تصح الصلاة بدون النية بحال.
والنية شرط من شروط الصلاة عند الحنفية والحنابلة، وكذا عند المالكية على الراجح، وهي من أركان الصلاة عند الشافعية وبعض المالكية؛ لأنها واجبة في بعض الصلاة، وهو أولها، لا في جميعها، فكانت ركناً كالتكبير والركوع (1) .
وهل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أو لا؟ ذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه، لحديث ابن عباس أنه قام إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة.
ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لابد من ذلك؛ لأن الإمام يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين (2) .
أما الجمهور فيرون عدم اشتراط نية الإمام الإمامة، بل تستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل؛ لأنه ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. واستثنى الشافعية والمالكية الصلاة التي تتوقف صحتها على الجماعة كالجمعة والمجموعة للمطر، والمعادة، وصلاة الخوف، والاستخلاف فلا بد فيها من نية الإمام الإمامة.
__________
(1) تبيين الحقائق: 99/1، الأشباه لابن نجيم: ص 14، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 233/1، 520، الشرح الصغير: 305/1، المجموع: 148/1 ومابعدها، الأشباه للسيوطي: ص11، 38، مغني المحتاج: 148/1، حاشية الباجوري: 149/1، المغني: 464/1 وما بعدها، غاية المنتهى: 115/1، كشاف القناع: 364/1 ومابعدها.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص15، القوانين الفقهية: ص 57، 68 ومابعدها، مغني المحتاج: 252/2-258، كشاف القناع: 565/1 وما بعدها.(1/177)
واستثنى الحنفية اقتداء النساء بالرجل، فإنه يشترط نية الإمامة، لصحة اقتداء النساء به.
وقال الحنابلة: تشترط نية الإمامة مطلقاً، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم، وإلا فسدت الصلاة، لكن لو أحرم الشخص منفرداً، ثم جاء آخر، فصلى
معه، فنوى إمامة صح في النفل، عملاً بحديث ابن عباس، وهو أنه قال: «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلّى الله عليه وسلم متطوعاً من الليل، فقام إلى القربة، فتوضأ، فقام، فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك، فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن» (1) .
أما في الفريضة: فإن كان المصلي ينتظر أحداً، كإمام المسجد، فإنه يُحرم وحده، وينتظر من يأتي، فيصلي معه، فيجوز ذلك أيضاً عند الحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أحرم وحده، ثم جاء جابر وجبارة، فأحرما معه، فصلى بهما، ولم ينكر فعلهما. والظاهر أنها كانت صلاة مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين. أما في غير هذه الحالة، فلا يصح الاقتداء لمن لم ينو الإمامة.
-----------------------------
(1) متفق عليه.(1/178)
وأما نية المؤتم الاقتداء: فهي شرط باتفاق المذاهب، فلا يصح اقتداء بإمام إلا بنية، أي أن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الجماعة أو المأمومية، فلو ترك هذه النية أو مع الشك فيها، وتابعه في الأفعال، بطلت صلاة المقتدي، ولايجب تعيين الإمام باسمه، فإن عينه وأخطأ، بطلت صلاته عند الشافعية. لكن لا بد من تعيين إمام معين بصفة الإمامة، فلو نوى الائتمام بأحد رجلين يصليان، لابعينه، لم يصح، حتى يعين الإمام بوصفه؛ لأن تعيينه شرط. ولا يجوز الائتمام بأكثر من واحد، فلو نوى الائتمام بإمامين لم يجز؛ لأنه لا يمكن اتباعهما معاً.
وشرط النية في القدوة أن تكون مقارنة للتحريمة عند الشافعية. وأجاز الحنفية أن تكون متقدمة على التحريمة، بشرط ألا يفصل بينها وبين التحريمة فاصل أجنبي. والأفضل عندهم وعند الحنابلة: أن تكون النية مقارنة، خروجاً من الخلاف. والخروج من الخلاف مستحب.
واشترط المالكية المقارنة للتحريمة أو قبلها بزمن يسير، كاشتراط النية في الصلاة، كما بينا.-- وأما الأذان: فالمشهور أنه لا يحتاج إلا نية. وقيل: إنه يحتاج.
وفي خطبة الجمعة: اشترط الحنفية والحنابلة النية أو قصد الخطبة، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» فلو خطب الخطيب بغير النية، لم يعتد بها عندهم.(1/179)
ولم يشترط المالكية النية، كما لم يشترطها الشافعية، وإنما اشترطوا عدم الصارف، فلو حمد الله للعطاس، لم يكف للخطبة (1) .
واشترط الشافعية لكل من سجدتي التلاوة والشكر النية مع تكبيرة الإحرام، لكن المصلي ينوي بقلبه لا بلسانه سجدة التلاوة، كما ينوي سجود السهو.
وفي صلاة المسافر: اشترط الشافعية والحنابلة لصحة جمع التقديم نية الجمع عند الإحرام بالصلاة الأولى، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» وتجوز نية الجمع عند الشافعية في الأظهر في أثناء الصلاة الأولى، ولو مع السلام منها. وكذلك اشترط هذان المذهبان لجمع التأخير نية الجمع أو التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة، أي بزمن لو ابتدئت فيه كانت أداء، عند الشافعية، وما لم يضق وقتها عن فعلها عند الحنابلة، فإن ضاق وقت الأولى عن فعلها، لم يصح الجمع؛ لأن تأخيرها إلى القدر الذي يضيق عن فعلها حرام، ويأثم بالتأخير (2) .
5- الصوم: ذهب الجمهور (غير الشافعية) : إلى أن نية الصوم شرط؛ لأن صوم رمضان وغيره عبادة، والعبادة: اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصاً لله تعالى بأمره، والاختيار والإخلاص لا يتحققان بدون النية، فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، تمييزاً للعبادات عن العادات.
__________
(1) الدر المختار: 757/1 - 760، مراقي الفلاح: ص87، كشاف القناع34/2-37، الأشباه لابن نجيم: ص15.
(2) المجموع: 253/4-269، مغني المحتاج: 271/1 - 275، كشاف القناع: 3/2-8، المغني: 273/2 - 281.(1/180)
وذهب الشافعية: إلى أن نية الصيام ركن كالإمساك عن المفطرات، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» (1) . أما نية الأداء والقضاء: فالأصح عند الشافعية أنهما لا يشترطان في الصلاة والحج والزكاة والكفارة وصلاة الجنازة. وأما الجمعة التي لاتقبل القضاء فلا حاجة فيها إلى نية الأداء لتمييزها. وأما الصوم فالراجح عندهم أن نية القضاء لا بد منها فيه، وهذا متفق عليه بين المذاهب.
6- الاعتكاف: (وهو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية، بتعريف الشافعية) : ويشترط لصحته بالاتفاق النية واجباً كان أو سنة أو نفلاً، فلا يصح الاعتكاف إلا بنية، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً كالمنذور، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن الطاعة (2) .
7 - الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النية شرط في أداء الزكاة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وأداؤها عمل، ولأنها عبادة كالصلاة، فتحتاج إلى نية لتمييز الفرض عن النفل (3) .
8 - الحج والعمرة: يرى الحنفية: أن الإحرام بالحج (نيته) شرط صحته، فرضاً كان أو نفلاً، والعمرة كذلك، ولا تكون عندهم إلا سنة، والمنذور عمرة فرض. ولو نذر حجة الإسلام لا يلزمه إلا حجة الإسلام، كما لو نذر الأضحية. والقضاء في الكل كالأداء من جهة أصل النية.
__________
(1) الدر المختار: 116/2ومابعدها، مراقي الفلاح: ص105، القوانين الفقهية: ص113 الأشباه لابن نجيم: ص16، 35، الأشباه للسيوطي: ص16، مغني المحتاج: 423/1، 432، المهذب: 177/1، المغني: 137/3 ومابعدها، كشاف القناع: 359/2.
(2) فتح القدير: 106/2 ومابعدها، الدر المختار: 177/2 ومابعدها، الأشباه لابن نجيم: ص17، القوانين الفقهية: ص125، الشرح الصغير: 725/1 ومابعدها، المهذب: 190/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 453/1 ومابعدها، المغني: 184/3 ومابعدها، كشاف القناع: 406/2 ومابعدها.
(3) الأشباه لابن نجيم: ص16، البدائع: 40/2، الشرح الصغير: 666/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص99، المجموع: 182/6 ومابعدها، المغني: 638/2 ومابعدها.(1/181)
ويرى جمهور الفقهاء: أن الإحرام بأن ينوي الدخول في النسك ركن في الحج والعمرة، فلا ينعقدان بدون النية، ولا يصح الإحرام إلا بالنية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» ولأن الحج أو العمرة عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة (1) . ومحل النية كما عرفنا: القلب، والإحرام: النية بالقلب، والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما نواه، لما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحج وعمرة» .
وينعقد الإحرام بالنية وحدها عند الجمهور، كما أوضحت، ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية، وإنما لا بد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد من المخيط.
9- اليمين: لا يتوقف اليمين بالله على النية، فينعقد إذا حلف عامداً أو ساهياً أو مخطئاً أومكرهاً، وكذا إذا فعل المحلوف عليه (2) . أما في حال التحليف فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف، لا الحالف، واختلفوا في الأيمان على الوعود ونحوها، فقال قوم: بحسب نية الحالف، وقال آخرون: بحسب نية المستحلف (3) .
__________
(1) الأشباه لابن نجيم: ص16، البدائع: 161/2 ومابعدها، فتح القدير: 134/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 16/2، 25، القوانين الفقهية: ص131، مغني المحتاج: 476/1 ومابعدها، المجموع: 226/7 ومابعدها، غاية المنتهى: 365/1، المغني: 281/3-288.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 19-20.
(3) بداية المجتهد: 403/1، البدائع: 20/3، الأشباه لابن نجيم: ص20، 57، مغني المحتاج: 321/4، المغني: 727/8، 763، الشرح الكبير مع الدسوقي: 139/2، القوانين الفقهية: ص162.(1/182)
أما المالكية فقالوا: اليمين على نية المستحلف، ولا تقبل نية الحالف؛ لأن الخصم كأنه قبل هذه اليمين عوضاً عن حقه، ولأنه ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اليمين على نية المستحلف» وفي رواية: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (1) .
والمعول عند الحنفية: أن اليمين على نية المستحلف، إلا إذا كانت اليمين بالطلاق أو العتاق ونحوهما، فتعتبر نيةالحالف إذا لم ينو خلاف الظاهر، ظالماً كان الحالف أو مظلوماً. وكذلك إذا كانت اليمين بالله تعالى، وكان الحالف مظلوماً، فإنه تعتبر نية الحالف أيضاً. والظالم: من يريد بيمينه إبطال حق الغير.
وذهب الحنابلة وفي رواية عن أبي حنيفة: إلى أن من حلف، فتأول في يمينه، أي قصد بكلامه محتملاً يخالف ظاهره، فله تأويله إن كان مظلوماً، ولم ينفعه تأويله إن كان ظالماً. قال ابن نجيم: والفتوى في مذهب الحنفية على اعتبار نية الحالف إن كان مظلوماً، لا إن كان ظالماً، لكن بشرط كون اليمين بالله تعالى، فإن كان بطلاق أو عتاق لا اعتبار بنية الحالف مطلقاً كما بينا.
والمقرر لدى الشافعية: أن العبرة في اليمين بنية الحالف؛ لأن المقصود من الأيمان هو المعنى القائم بالنفس، لا ظاهر اللفظ.
واختلف الفقهاء أيضاً في تفسير المقصود بالمحلوف عليه في اليمين، فهل تبنى الأيمان على النية أو العرف أو صيغة اللفظ (2) ؟
__________
(1) أخرج مسلم وابن ماجه هاتين الروايتين عن أبي هريرة. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه الرواية الثانية (جامع الأصول: 307/12) .
(2) الأشباه لابن نجيم: ص57، وللسيوطي: ص40، رسائل ابن عابدين: 292/1، بداية المجتهد: 398/1 ومابعدها، الاعتصام للشاطبي: 141/2، مغني المحتاج: 335/4، المغني: 763/8.(1/183)
فذهب الحنفية: إلى أن الأيمان مبنية على العرف والعادة، لا على المقاصد والنيات؛ لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب عندهم. وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ، لا على الأغراض. فلو اغتاظ من إنسان، فحلف أنه لا يشتري له شيئاً بفلس، فاشترى له شيئاً بمئة درهم، لم يحنث. ولو حلف لا يبيعه بعشرة فباعه بأحد عشر أو بتسعة، لم يحنث، مع أن غرضه الزيادة.
وقال الإمام مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى على حالفها بموجبها (1) ، وكذلك النذور: هو النية، أي نية الحالف في غير الدعاوى، ففيها تعتبر نية المستحلف، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، أي ما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة.
وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب. وإن كان مما يقضى بها عليه، لم يراع فيها إلا اللفظ، إلا أن يؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو العرف.
وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية، أي بحسب صيغة اللفظ؛ لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئاً فيعمل بنيته. فمن حلف ألا يأكل رؤوساً، فأكل رؤوس حيتان (مفرده حوت) فمن راعى العرف كالحنفية قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة كالشافعية قال: يحنث. وكذلك يحنث عندهم من حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً، مراعاة لدلالة اللفظ. وقال غيرهم: لايحنث.
__________
(1) أي لايصدر فيها حكم قضائي، وإنما يترك شأنها للحالف بينه وبين الله تعالى، وذلك في الأمور التي تكون علاقتها بالإنسان نفسه أو بالله سبحانه. أما الأمور التي تتعلق بالناس، فهذه مما يقضى فيها على الحالف.(1/184)
ورأى الحنابلة: أنه يرجع في الأيمان إلى النية، أي نية الحالف، فإن نوى ما يحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان ما نواه موافقاً لظاهر اللفظ أم مخالفاً له، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منَّة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها، ولا أثر للدار فيها، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار.
اليمين أمام القضاء: بينت سابقاً أن العبرة في الحلف أمام القضاء بنية القاضي المستحلف للخصم، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ: «اليمين على نية المستحلف» وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف، لبطلت فائدة الأيمان وضاعت الحقوق؛ إذ كل أحد يحلف على ما يقصد. فلو ورَّى الحالف في يمينه، بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول، أي اعتقد خلاف نية القاضي، أو استثنى الحالف، كقوله عقب يمينه: (إن شاء الله) أو وصل باللفظ شرطاً، مثل: إن دخلت الدار، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر إثم اليمين الفاجرة، فإن لم نحكم بالتأثيم ضاع المقصود من اليمين، وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها.
واشترط الشافعية والحنابلة (1) شرطين في كون اليمين على نية المستحلف.
1ً - ألا يحلفه القاضي بالطلاق أو العتاق.
2ً - ألا يكون القاضي ظالماً أو جائراً في طلب اليمين.
__________
(1) مغني المحتاج: 475/4، كشاف القناع: 242/6.(1/185)
التورية في اليمين: يجوز للحالف في اليمين غير القضائية التي يحلفها باختياره أو يطلبها شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين: التورية في يمينه، بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ، أو ينوي فيها خلاف الظاهر، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف، ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويقبل قوله.
وبناء عليه ذكر السيوطي (1) ثلاث قواعد وهي:
الأولى ـ (مقاصد اللفظ على نيةاللافظ إلا في موضع واحد وهو اليمين عند القاضي) فإنها على نية القاضي دون الحالف.
الثانية ـ (تجري النية مجرى الشروط) في مسألة وهي: ما لو شك بعد الصلاة في تركها أو ترك الطهارة، فإنه تجب الإعادة، بخلاف ما لو شك في ترك ركن؛ لأن الشك في الأركان يكثر بخلاف الشروط. أما لو شك الصائم في النية بعد الغروب (نهاية اليوم) فلا أثر له.
الثالثة ـ (النية في اليمين تخصص اللفظ العام، ولا تعمم الخاص) مثال الأول أن يقول: (والله، لا أكلم أحداً) وينوي زيداً. ومثال الثاني: أن يمن عليه رجل بماء، فيقول: والله لا أشرب منه ماء من عطش، فإن اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصة، ولا يحنث بطعامه وشرابه؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يجوز لها.
وقال ابن نجيم (2) عن هذه القاعدة: (تخصيص العام بالنية مقبول ديانة لا قضاء) وعند الخصاف: تصح قضاء أيضاً، فلو قال: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) ثم قال: (نويت من بلدة كذا) لم تصح في ظاهر المذهب، خلافاً للخصاف. ولا بأس أن يؤخذ بقول الخصاف إذا وقع الشخص في يد الظلمة، فإذا حلفه الظالم له أن يخصص العام. وأما تعميم الخاص بالنية فلم أره الآن.
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص 40
(2) الأشباه والنظائر: ص 18،56(1/186)
10- الأضحية: لا تجزئ الأضحية بدون النية؛ لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يكون قربة بدون النية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» قال الكاساني: والمراد منه عمل هو قربة، فلا تتعين الأضحية إلا بالنية.
وتتعين الأضحية بالذبح اتفاقاً، وبالنذر إن عينها له اتفاقاً، وتتعين عند أبي حنيفة بالشراء بنية الأضحية.
واشترط الشافعية والحنابلة: أن تكون النية عند ذبح الأضحية؛ لأن الذبح قربة في نفسه. ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها (1) . وتتعين الأضحية عند المالكية إما بالذبح أو بالنية قبله، على خلاف في المذهب. والمعتمد المشهور في المذهب المالكي: أن الأضحية لا تجب إلا بالذبح فقط، ولا تجب بالنذر (2) .
11 - الاصطياد:
الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو الحيونات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلَّمة.
ويشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي: قصد التملك، عملاً بقاعدة «الأمور بمقاصدها» . فمن نصب شبكة، فتعلق بها صيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه؛ لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان، كان لمن سبقت إليه يد إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك.
__________
(1) البدائع: 71/5، القوانين الفقهية: ص187، مغني المحتاج: 289/4، كشاف القناع: 6/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 187، 189، مطبعة النهضة بفاس.(1/187)
وإذا دخل طائر في دار، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه، وإن أغلقه صدفة لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده (1) .
13 - قراءة القرآن: إن القرآن يخرج عن كونه قرآناً بالقصد، فجاز للجنب والحائض قراءة ما فيه من الأذكار بقصد الذكر، والأدعية بقصد الدعاء (2) .
عاشراً ـ النية في العقود أو المعاملات (مدى تأثير النية غير المشروعة أو الباعث على العقود) :
للفقهاء اتجاهان من نظرية السبب بالمعنى الحديث: اتجاه يغلِّب النظرة الموضوعية أو الإرادة الظاهرة، واتجاه آخر يلاحظ فيه النوايا والبواعث الذاتية أو الإرادة الباطنة (3) .
أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية والشافعية (4) الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة الباطنة، أي أنهم حفاظاً على مبدأ استقرار المعاملات لا يأخذون بنظرية السبب أو الباعث لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب أو الباعث الذي يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات.
__________
(1) البدائع: 193/6ومابعدها.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص20
(3) سيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع.
(4) انظر عند الحنفية مختصر الطحاوي: ص 280، تكملة فتح القدير: 127/8، البدائع: 189/4، تبيين الحقائق: 125/2 ومابعدها.(1/188)
ولا تأثير للسبب أو للباعث على العقد إلا إذا كان مصرحاً به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة الظاهرة، كالاستئجار على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح به في صيغة العقد، بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثاً غير مشروع، فالعقد صحيح لا شتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد، ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال العقد، أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير المشروع، لكنه مكروه حرام، بسبب النية غير المشروعة، نظراً لاستكمال العقد أركانه وشروطه المطلوبة شرعاً في الظاهر.
وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية في الظاهر، مع الكراهة التحريمية أو الحرمة عند الشافعية، للنهي عنها في السنة النبوية، وهي:
1 ً - بيع العينة (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا) : كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة درهم، ثم شراؤها من المشتري في الحال بمئة وعشرة، فيكون الفرق ربا. لكن أبا حنيفة رحمه الله استثناء من مبدئه في عدم النظر إلى النية غير المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسداً، إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، لأساس آخر: وهو عدم تمام البيع الأول بسبب عدم قبض الثمن، ولأن البيع الثاني بيع شيء منقول قبل القبض وبيع الشيء قبل القبض فاسد شرعاً.
2 ً - بيع العنب لعاصر الخمر: أي لمن يعلم البائع أنه سيتخذه خمراً أو يظنه ظناً غالباً، فإن شك في اتخاذه خمراً أوتوهمه، فالبيع مكروه.
3 ً - بيع السلاح في الفتنة الداخلية، أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع الطريق المحاربين، ومثله بيع أدوات القمار، وإيجاد دار للدعارة أو للقمار، وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي، والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها، ونحو ذلك.(1/189)
4 ً - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقاً بائناً، أي البائن بينونة كبرى، بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة مثلاً، ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، هو عقد صحيح في الظاهرعملاً بظاهر الآية القرآنية: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] ، أي أنه لا يصرح في عقد التحليل بالغرض المقصود، وإنما يتم الاتفاق سراً وبنحو مستتر في غير حالة إبرام العقد.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلاً في صيغة العقد، وتضمنه التعبير عن الإرادة ولو ضمناً، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد.
وأما الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشيعة (1) الذين ينظرون إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون التصرف المشتمل على باعث غير مشروع، بشرط أن يعلم الطرف الآخر بالسبب غير المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك بالظروف والقرائن التي تدل على القصد الخبيث، كإهداء العدو هدية لقائد الجيش، والإهداء للحكام والموظفين، فذلك مقصود به الرشوة. فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد به استدامة الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (2) .
__________
(1) راجع عند المالكية: بداية المجتهد: 140/2، مواهب الجليل للحطاب: 404/4، 263، الموافقات: 261/2، الفروق:266/3، وعند الحنابلة: المغني: 174/4، 222، أعلام الموقعين: 106/3، 108، 121، 131، 148، غاية المنتهى: 18/2، وعند الظاهرية: المحلى: 36/9، وعند الشيعة الجعفرية: المختصر النافع في فقه الإمامية: ص140، وعند الزيدية: المنتزع المختار:19/3 ومابعدها.
(2) القواعد لابن رجب: ص322(1/190)
هذا الاتجاه يأخذ تقريباً بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه اللاتيني، مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث مشروعاً، فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان.
وبناء عليه، قال المالكية والحنابلة وموافقوهم ببطلان العقود السابقة وأضاف إليها المالكية: أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة أو بيع خشب بقصد صنع صليب، أو شراء عبد بقصد أن يكون مغنياً، أو استئجار كراريس فيها عبارات النوح، وبيع ثياب حرير ممن يلبسها (1) .
أما عدم صحة بيع العنب للخمار، وبيع السلاح للأعداء ونحوهما، فلأنه إعانة على الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به، فلا يصح. وأما فساد زواج المحلل، فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد، قصد به تكوين أسرة دائمة، لإنجاب ذرية تنعم بجو هادئ مطمئن، وهذا الزواج اتخذ لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول في وضع مؤقت قلق، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد غير مشروع.
وأما فساد بيع العينة أو بيوع الآجال، فلأنه اتخذ البيع حيلة لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء، فهو وسيلة لعقد محرم غير مشروع، فيمنع سداً للذرائع المؤدية إلى الحرام.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات، ولو لم تذكر في العقود، بشرط أن يكون ذلك معلوماً للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن النية روح العمل ولبّه. ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب التي تتطلب أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً، فلا يصح العقد.
أما في الأحوال غير المصحوبة بنية غير مشروعة أو بباعث سيء، فهل يصح العقد بنية تحول صفة العقد؟.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 254/4، ط دار الفكر - بيروت.(1/191)
يرى المالكية والحنفية: أن للنية تأثيراً في صيغة العقود، فقالوا: يصح عقد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك العين في الحال، كالتزويج والنكاح والتمليك، والجعل، والهبة والعطية والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج، وبشرط فهم الشهود للمقصود،؛ لأن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما (1) .
أما البيع والإقالة والإجارة والهبة فلا تتوقف على النية، فلو وهب مازحاً صحت. لكن قال الحنفية (2) : إن عُقِد البيع بمضارع لم يصدَّر بسوف أو السين توقف على النية، فإن نوى به الإيجاب للحال، كان بيعاً، وإلا لا، بخلاف صيغة الماضي، فإن البيع لايتوقف على النية. وأما المضارع المتمحض للاستقبال فهو كالأمر، لا يصح البيع به ولا بالنية، ولا يصح البيع مع الهزل، لعدم الرضا بحكمه معه.
__________
(1) فتح القدير: 346/2، الدر المختار ورد المحتار: 368/2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 220/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 168/2، القوانين الفقهية: ص195.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 18، 20 وأما الإقرار والوكالة والإيداع والإعارة والقذف والسرقة، فلا تتوقف على النية.(1/192)
وأما القصاص فمتوقف على قصد القاتل القتل، لكن قال الحنفية: لما كان القصد أمراً باطنياً، أقيمت الآلة مقامه، فإن قتله بما يفرق الأجزاء عادة، كان عمداً ووجب القصاص، وإن قتله بما لا يفرق الأجزاء عادة، لكن يقتل غالباً، فهو شبه عمد لا قصاص فيه عند أبي حنيفة.
الحادي عشر ـ النية في الفسوخ:
الإقالة (وهي فسخ العقد) والطلاق (حل الرابطة الزوجية) إن كان صريحاً لا يتوقفان على النية (1) فلو طلق الرجل زوجته غافلاً أو ساهياً أو مخطئاً وقع، حتى قال الحنفية: إن الطلاق يقع بالألفاظ المصحفة قضاء، ولكن لا بد من أن يقصدها باللفظ.
وأما الطلاق بالكناية: (وهو كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ولم يتعارفه الناس، مثل قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، اذهبي، اخرجي، أنت بائن، أنت بتَّة، أنت بتلة، أنت خلية، برية، اعتدي، استبرئي رحمك، أمرك بيدك) فلا يقع قضاء في رأي الحنفية والحنابلة إلا بالنية أو دلالة الحال على إرادة الطلاق، كأن يكون الطلاق في حالة الغضب، أو في حال المذاكرة بالطلاق.
ولا يقع في رأي المالكية والشافعية إلا بالنية، ولا عبرة بدلالة الحال، فلا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، لم يقع، وإن امتنع عن اليمين، حكم عليه بالطلاق.
واشترط الشافعية في نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، فلو قارنت أوله، وغابت عنه قبل آخره، لم يقع طلاق.
ولو قال الزوج: أنت طلاق أو أنت الطلاق (بالمصدر) أو أنت طالق طلاقاً، فيقع بها عند الحنفية والمالكية والحنابلة طلقة واحدة رجعية إن لم ينو شيئاً. فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، فهي عندهم من الألفاظ الصريحة؛ لأنه صرح بالمصدر، والمصدر يقع على القليل والكثير، وإنه نوى بلفظه ما يحتمله. وأضاف الحنفية: ولا تصح نية الثنتين في المصدر: (أنت الطلاق) إلا أن تكون المرأة أَمَة (رقيقة) . وأما تفويض الطلاق والخلع والإيلاء والظهار، فما كان منه صريحاً فلا تشترط له النية، وما كان كناية، اشترطت له. وأما الرجعة فهي كعقد الزواج؛ لأنها استدامته، لكن ما كان منها صريحاً لا يحتاج إلى نية، وكنايتها تحتاج إليها.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 18 ومابعدها.(1/193)
ورأي الشافعية في الأصح: ليس قوله: (أنت طلاق أو الطلاق) من الألفاظ الصريحة، بل هما كنايتان؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعاً (1) .
ويلاحظ أن الشافعية قرروا أن التعريض بالقذف يوجب الحد إن نوى به القاذف القذف، فهو بمنزلة كنايات الطلاق، والكناية مع النية توجب الحد كالصريح.
الثاني عشر ـ النية في التروك:
التروك كترك الرياء وغيره من المنهي عنه. إن المقرر شرعاً: أن ترك المنهي عنه لا يحتاج إلى نية للخروج عن عهدة النهي، وإنما لحصول الثواب بأن كان كفّاً: وهو أن تدعوه النفس إليه، قادراً على فعله، فيكف نفسه عنه خوفاً من ربه، فهو مثاب، وإلا فلا ثواب على تركه، فلا يثاب على ترك الزنا وهو يصلي، ولا يثاب العنِّين (العاجز عن الجماع) على ترك الزنا، ولا الأعمى على ترك النظر المحرم.
وهناك أعمال في حكم التروك، لترددها بين أصلين: الأفعال من حيث إنها فعل، والتروك من حيث إنها قريبة منها، رجح الأكثرون عدم النية فيها، لمشابهة التروك، وذلك مثل إزالة النجاسة، ورد المغصوب والعواري، وإيصال الهدية وغير ذلك، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة، لكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب.
وأما غسل الميت: فالأصح فيه عند الأكثرين خلافاً للحنابلة كما بينا عدم اشتراط النية فيه، كالأعمال الملحقة بالتروك؛ لأن القصد منه التنظيف كإزالة النجاسة. ومثله أيضاً نيةالخروج من الصلاة: الأصح فيها عدم الاشتراط؛ لأن النية تليق بالإقدام، لا بالترك.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم: ص19 ومراجع المذاهب الأخرى في بحث الطلاق الآتي.(1/194)
ومن الملحق بالتروك: إطعام الشخص دابته: إن قصد بإطعامها امتثال أمر الله تعالى، فإنه يثاب، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية، فلا ثواب، كما ذكر القرافي. لكن يستثنى من ذلك: فرس المجاهد: إذا ربطها في سبيل الله، فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها، أثيب على ذلك. وكذلك الزوجة، وكذلك إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند النوم: إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب، وإن قصد به أمر آخر، فلا (1) .
الثالث عشر ـ النية في المباحات والعادات:
تختلف صفة المباحات والعادات التي تصدر عن الإنسان في اليوم والليلة باعتبار ما قصدت لأجله، فإذا قصد بها التقوّي على الطاعات أو التوصل إليها كانت عبادة، وإن لم يقصد بها العبادة لا ثواب عليها. وبناء عليه إن المباحات كالأكل والشرب والنوم واكتساب المال والجماع أو الوطء كالتروك مثل ترك الزنا والخمر، ليست مفتقرة إلى نية، ولا تكون عبادة إلا إذا نوى بها العبادة كالأكل والشرب بقصد التقوي بهما على الطاعة، والجماع بقصد إعفاف نفسه وزوجه وحصول نسل يعبد الله، وترك الزنا والخمر مثلاً بقصد امتثال نهي الشارع.
وهكذا كل فعل يصح أن يكون عبادة بالقصد، لا بد فيه من القصد ليكون عبادة يترتب عليها الثواب، وإليه يشير حديث (إنما الأعمال بالنيات) .
فينبغي ـ كما قال الرملي ـ استحضار النية عند المباحات والعاديات ليثاب عليها ثواب العبادات، ولا مشقة عليه في القيام بها، بل هي مألوفة لنفسه، مستلذة، فسبحان الله ماأعظم منته، وما أوسع رحمته، أباح لعبده الطيبات التي يشتهيها، ثم هو مع ذلك يثيبه عليها بحسن نيته، كما يثيبه على عبادته التي طلبها منه، فله الحمد والمنة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلا خيره.
ويسن لكل إنسان أن يقول في الصباح والمساء، ليحظى بالثواب والأجر على المباحات والتروك: (اللهم ما أعمله في هذا النهار ـ أو في هذه الليلة ـ من خير، فهو امتثال لأمرك، وما أتركه من معصية فهو امتثال لنهيك) .
الرابع عشر ـ النية في أمور أخرى:
هناك غير ما ذكرناه أمور أخرى، أشير إلى النية فيها بإجمال (2) :
1 - الجهاد: هو من أعظم العبادات، فلا بد له من خلوص النية، ليكون في سبيل الله.
2 - الوصية كالعتق: إن قصد به التقرب إلى الله فله الثواب، وإلا فهي صحيحة فقط.
3 - الوقف: ليس عبادة وضعاً، بدليل صحته من الكافر، فإن نوى القربة، فله الثواب، وإلا فلا.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص21، وللسيوطي: ص11، شرح الأربعين النووية للنووي ص 7-8، غاية المنتهى: 115/1.
(2) غاية المنتهى: 1 /115.(1/195)
4- الزواج: أقرب إلى العبادات، حتى إن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة، وهو عند الاعتدال سنة مؤكدة على الصحيح في مذهب الحنفية، فيحتاج إلى النية لتحصيل الثواب: وهو أن يقصد إعفاف نفسه وتحصين زوجته وحصول الولد. والرجعة كالزواج لأنها استدامة، فما كان منها صريحاً لا يحتاج إلى نية، وما كان منها كناية يحتاج إلى نية.
5 - القضاء: من العبادات، والثواب عليه متوقف عليه متوقف على النية.
6 - الحدود والتعازير وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة، وتحمل الشهادات وأداؤها: الثواب في كل ذلك متوقف على النية.
7 - الضمان أو التعويض عن الضرر: لا يتوقف على النية أو القصد، ويجب الضمان عن الضرر كالتلف، سواء حدث عمداً أم خطأ. وهل يترتب الضمان في شيء بمجرد النية من غير فعل؟ قال الحنفية في المُحْرِم إذا لبس ثوباً، ثم نزعه، ومن قصده أن يعود إليه، لا يتعدد الجزاء. فإن قصد ألا يعود إليه، تعدد الجزاء بلبسه. وقالوا أيضاً في الوديع إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه، ومن نيته أن يعود إلى لبسه، لم يبرأ من الضمان.
8 - الكفارات: النية شرط صحتها، عتقاً، أو صياماً، أو إطعاماً.
9 - الضحايا: لابد فيها من النية كما بينا، لكن في رأي الحنفية: عند الشراء لا عند الذبح. وتفرع عليه: أنه لو اشتراها بنية الأضحية، فذبحها غيره بلا إذن، فإن ذبحها عن مالكها، فلا ضمان عليه، وإن ذبحها عن نفسه: فإن أخذها مذبوحة ولم يضمنه مالكها قيمتها، أجزأته. وإن ضمنه لا يجزئه.
وهل تتعين الأضحية بالنية؟ قال الحنفية: إن كان فقيراً، وقد اشتراها بنية الأضحية، تعينت، فليس له بيعها. وإن كان غنياً لم تتعين، وصحح ابن نجيم في الأشباه أنها تتعين مطلقاً، والصحيح لدى غيره أنها لا تتعين مطلقاً، ولو في غير أيام الذبح، ويتصدق بها.(1/196)
وتتعين الأضحية في مذهب الشافعية وفي قول عند المالكية بقول مشتريها: هذه أضحية، أو جعلتها أضحية، فيتعين عليه ذبحها، لزوال ملكه عنها بذلك القول. وتتعين الأضحية عند المالكية إما بالذبح أو بالنية قبله، على خلاف في المذهب، كما بينا، والمعتمد المشهور في المذهب: أن الأضحية لا تجب إلا بالذبح فقط، ولا تجب بالنذر.
وفي خاتمة المطاف أقول:
هذه هي النية وأهميتها وأحكامها، فهي رادار القلب المسلم توجهه إما إلى الخير وإما إلى الشر.
وهي مدار عمل المسلم ومعيار ضبط الأعمال الشرعية من عبادات ومعاملات فإما أن تصحح العمل الشرعي، وإما أن تبطله وتلغي آثاره. وهي سبب الثواب الأخروي على العمل، فإما أن تكون سبباً للثواب والظفر بجنان الخلد، كنية الجهاد وحب المؤمنين وصفاء القلب، وإما أن تكون سبباً للعقاب كالحقد والحسد والبغضاء، أو الرياء والشهرة والسمعة.
فمن حسنت نيته، وصلحت سريرته، حاز الفضل والفوز والخير في الدنيا والاخرة ومن ساءت نيته، وفسدت سريرته، بالخسران والسوء، والخذلان في الدنيا والاخرة.(1/197)
القسْمُ الأَوّل: العِبَادَاتُ
{يا أيُّها الناسُ اعبدوا ربًكم} [البقرة:21/2]
........................................تمهيد.............................................
تقوم أمور الدين على الاعتقادات والآداب والعبادات والمعاملات والعقوبات، وذلك هو الفقه الأكبر، وبما أن بحثنا في فقه الأحكام الشرعية العملية، فلا نتعرض لبحث أمور العقيدة والأخلاق.
والعبادات خمسة: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد. وبحث الجهاد في خطتنا ليس مع العبادات، وإنما هو في فقه الأحكام ذات الصلة بالدولة.
والمعاملات خمسة: المعاوضات المالية، والمناكحات، والمخاصمات، والأمانات، والتركات.
والعقوبات خمسة: القصاص، وحد السرقة، والزنا، والقذف، والردة (1) .
والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة (2) . ودين الله: عبادته وطاعته والخضوع له.
فالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والبهائم، والدعاء والذكر والتلاوة، وأمثال ذلك: من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادة.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها، قال الله تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنْسَ إلا ليَعْبُدون} [الذاريات:56/51] ، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: {اعبدوا الله َ مالكم من إله غيرُه} [الأعراف:59/7] ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لأقوامهم.
وبما أن المخلوقين كلهم عباد الله، الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، فإن عبوديتهم الحقة تستلزم عبادة الله الواحد القهار، قال تعالى: {إن هذه أمَّتُكم أمةً واحدة، وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء:92/21] ، وقال سبحانه: {يا أيها الناسُ اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:21/2] ، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56/51] .
لذا اعتاد الفقهاء تقديم العبادات على غيرها اهتماماً بشأنها؛ لأن العباد لم يخلقوا إلا لها، كما قدموا الصلاة على غيرها لأنها أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان، ولأنها عماد الدين (3) .
__________
(1) رد المحتار: 73/1. ويضاف لها حد الشرب وحد السكر.
(2) العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص2.
(3) قال صلّى الله عليه وسلم: «الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين» رواه البيهقي عن عمر، وهو حديث ضعيف. ولفظ (الصلاة عمود الدين) حديث حسن.(1/198)
خطة بحث العبادات:
الكلام في العبادات ماعدا الجهاد يشمل ما يأتي: الطهارة، الصلاة، الجنائز، الزكاة، الصيام والاعتكاف، الحج، الأيْمان والنذور، الأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح، الضحايا والعقيقة والختان.
وينقسم البحث فيها إلى الأبواب التسعة التالية:
الباب الأول ـ الطهارات ـ مقدمات الصلاة أو الوسائل.
الباب الثاني ـ الصلاة وأحكام الجنائز.
الباب الثالث ـ الصيام والاعتكاف.
الباب الرابع ـ الزكاة وأنواعها.
الباب الخامس ـ الحج والعمرة.
الباب السادس ـ الأيمان والنذور والكفارات.
الباب السابع ـ الحظر والإباحة أو الأطعمة والأشربة.
الباب الثامن ـ الضحايا والعقيقة والختان.
الباب التاسع ـ الصيد والذبائح.(1/199)
البَابُ الأوَّل: الطَّهارات
الوسائل أو مقدمات الصلاة
بحث الطهارات يشمل الفصول السبعة التالية:
الفصل الأول ـ الطهارة: معناها، وأهميتها، وأنواع المطهرات، وأنواع المياه، وحكم الأسآر والآبار، وأنواع الأعيان الطاهرة.
الفصل الثاني ـ النجاسة: أنواعها، المقدار المعفو عنها، كيفية تطهير النجاسة، حكم الغُسالة.
الفصل الثالث ـ الاستنجاء: معناه، حكمه، وسائله، آداب قضاء الحاجة.
الفصل الرابع ـ الوضوء وما يتبعه:
المبحث الأول ـ الوضوء: فرائضه، شروطه، سننه، نواقضه، وضوء المعذور.
المبحث الثاني ـ السواك: تعريفه، حكمه، كيفيته، فوائده.
المبحث الثالث ـ المسح على الخفين: معناه ومشروعيته، كيفيته، شروطه، مدة المسح، مبطلاته، المسح على العمامة، المسح على الجوارب، المسح على الجبائر.
الفصل الخامس ـ الغسل: خصائصه، موجباته، فرائضه، سننه ومكروهاته، ما يحرم على الجنب، الأغسال المسنونة، ملحقان بأحكام المساجد وأحكام الحمامات.
الفصل السادس ـ التيمم: تعريفه، مشروعيته وصفته، أسبابه، فرائضه، كيفيته، شروطه، سننه ومكروهاته، نواقضه، حكم فاقد الطهورين.
الفصل السابع ـ الحيض والنفاس والاستحاضة.
المبحث الأول ـ تعريف الحيض ومدته.
المبحث الثاني ـ تعريف النفاس ومدته.
المبحث الثالث ـ أحكام الحيض والنفاس وما يحرم على الحائض والنفساء.
المبحث الرابع ـ الاستحاضة وأحكامها.
الفَصْلُ الأوَّل: الطَّهارة
قدم الفقهاء بحث الطهارة على الصلاة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة، وشرط لصحة الصلاة، والشرط مقدم على المشروط، قال عليه الصلاة والسلام: «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (1) «الطُّهور شطر الإيمان» (2) .
وفي هذا الفصل مباحث ستة:
المبحث الأول ـ معنى الطهارة وأهميتها.
المبحث الثاني ـ شروط وجوب الطهارة.
المبحث الثالث ـ أنواع المطهرات.
المبحث الرابع ـ أنواع المياه.
المبحث الخامس ـ حكم الأسآر والآبار.
المبحث السادس ـ أنواع الأعيان الطاهرة.
__________
(1) حديث صحيح حسن أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي بن أبي طالب (نصب الراية: 307/1) .
(2) حديث صحيح رواه مسلم. والمراد بالطهور هنا الفعل - بضم الطاء، واختلف في معناه، فقيل: إن الأجر فيه ينتهي إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: المراد بالإيمان هنا: الصلاة، قال تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة:143/2] ، وبما أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فصارت كالشطر، والظاهر أن المراد بالطهارة في هذا الحديث: الطهارة المعنوية، لأن المسلم إذا كان متصفاً بطهارة القلب من الصفات الذميمة كالكبر والحقد والحسد، كان إيمانه ضعيفاً، وإذا ماصفت روحه وخلصت نفسه صار إيمانه كاملاً.(1/200)
المبحث الأول ـ معنى الطهارة وأهميتها:
الطهارة لغة: النظافة والخلوص من الأوساخ أو الأدناس الحسية كالأنجاس من بول، وغيره، والمعنوية كالعيوب والمعاصي. والتطهير: التنظيف وهو إثبات النظافة في المحل.
والطهارة شرعاً: النظافة من النجاسة: حقيقية كانت وهي الخَبَث، أو حُكمية وهي الحَدَث (1) .
والخبث في الحقيقة: عين مستقذرة شرعاً. والحدث: وصف شرعي يحل في الأعضاء يزيل الطهارة.
وعرف النووي الشافعي الطهارة بأنها: رفع حدث أو إزالة نجس، أو ما في معناهما وعلى صورتهما (2) . وأراد بالزيادة الأخيرة على تعريف الحنفية السابق: شمول التيمم والأغسال المسنونة، وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة في الحدث والنجس، ومسح الأذن، والمضمضة ونحوها من نوافل الطهارة، وطهارة المستحاضة وسلس البول.
ويتفق تعريفها عند المالكية والحنابلة (3) مع تعريفها عند الحنفية، فإنهم قالوا: الطهارة في الشرع: رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء، أو رفع حكمه بالتراب.
نوعاها: يتبين من تعريف الطهارة أنها نوعان: طهارة حدث، وتختص بالبدن، وطهارة خبث، وتكون في البدن والثوب والمكان.
وطهارة الحدث ثلاث: كبرى وهي الغسل، وصغرى وهي الوضوء، وبدل منهما عند تعذرهما وهو التيمم.
وطهارة الخبث ثلاث: غسل، ومسح، ونضح.
فالطهارة تشمل الوضوء والغسل وإزالة النجاسة والتيمم وما يتعلق بها.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 10/1، الدر المختار: 79/1.
(2) المجموع: 124/1، مغني المحتاج: 16/1.
(3) الشرح الصغير: 25/1، الشرح الكبير: 30/1، المغني: 6/1.(1/201)
أهميتها: للطهارة أهمية كبيرة في الإسلام، سواء أكانت حقيقية وهي طهارة الثوب والبدن ومكان الصلاة من النجاسة، أم طهارة حكمية وهي طهارة أعضاء الوضوء من الحدث، وطهارة جميع الأعضاء الظاهرة من الجنابة؛ لأنها شرط دائم لصحة الصلاة التي تتكرر خمس مرات يومياً، وبما أن الصلاة قيام بين يدي الله تعالى، فأداؤها بالطهارة تعظيم لله، والحدث والجنابة وإن لم يكونا نجاسة مرئية، فهما نجاسة معنوية توجب استقذار ما حلّ بهما، فوجودها يخل بالتعظيم، وينافي مبدأ النظافة التي تتحقق بالغسل المتكرر، فبالطهارة تطهر الروح والجسد معاً.
وعناية الإسلام بجعل المسلم دائماً طاهراً من الناحيتين المادية والمعنوية (1) أكمل وأوفى دليل على الحرص الشديد على النقاء والصفاء، وعلى أن الإسلام مثل أعلى للزينة والنظافة، والحفاظ على الصحة الخاصة والعامة، وبناء البنية الجسدية في أصح قوام وأجمل مظهر وأقوى عماد، ولصون البيئة والمجتمع من انتشار المرض والضعف والهزال؛ لأن غسل الأعضاء الظاهرة المتعرضة للغبار والأتربة والنُّفايات والجراثيم يومياً، وغسل الجسم في أحيان متكررة عقب كل جنابة، كفيل بحماية الإنسان من أي تلوث، وقد ثبت طبياً أن أنجع علاج وقائي للأمراض الوبائية وغيرها هو النظافة، والوقاية خير من العلاج. وقد امتدح الله تعالى المتطهرين، فقال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة:222/2] ، وأثنى سبحانه على أهل قُباء بقوله: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب الْمُطَّهرِّين} [التوبة:9/108] .
__________
(1) لاتنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة: بالإخلاص لله، والنزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله في الكون، فيعبده الإنسان لذاته مفتقراً إليه، لا لسبب نفعي.(1/202)
وعلى المسلم أن يكون بين الناس مثالاً بارزاً في نظافته، وطهره الظاهر والباطن، قال صلّى الله عليه وسلم لجماعة من صحبه: «إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لايحب الفحش ولا التفحش» (1) .
المبحث الثاني ـ شروط وجوب الطهارة:
يجب تطهير ما أصابته النجاسة من بدن أو ثوب أو مكان، لقوله تعالى: {وثيابَك فطهر} [المدثر:4/74] ، وقوله سبحانه: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة:125/2] ، وإذا وجب تطهير الثوب والمكان وجب تطهير البدن بالأولى، لأنه ألزم للمصلي.
وتجب الطهارة على من وجبت عليه الصلاة، وذلك بعشرة شروط (2) :
الأول ـ الإسلام، وقيل: بلوغ الدعوة، فعلى الأول: لا تجب على الكافر، وعلى الثاني: تجب عليه. وذلك مبني على الخلاف في مبدأ أصولي معروف، وهو مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فعند الجمهور: الكفار مخاطبون بفروع العبادات أي أنهم مؤاخذون بها في الآخرة مؤاخذة إضافية على ترك الإيمان فهم يستحقون عقابين: عقاباً على ترك الإيمان، وعقاباً على ترك الفروع الدينية، وعند الحنفية: لا يخاطب الكفار بفروع الشريعة، فيستحقون في عالم الآخرة عقاباً واحداً على ترك الإيمان فقط، فالخلاف في العقاب الأخروي. والفريقان متفقان على ألا ثمرة لهذا الخلاف في أحكام الدنيا، فلا يصح أداء العبادة من الكفار ما داموا كفاراً، وإذا أسلموا فلا يطالبون بالقضاء.
وعليه: لا تصح الصلاة من كافر بالإجماع.
وإذا أسلم المرتد لم يلزمه قضاء ما فاته من الصلوات في ردته عند الجمهور، وعليه القضاء عند الشافعية.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم والبيهقي عن سهل بن الحنظلية، وهو حديث صحيح.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي المالكي: ص 19 ومابعدها.(1/203)
الثاني ـ العقل: فلا تجب الطهارة على المجنون والمغمى عليه، إلا إذا أفاقا في بقية الوقت. أما السكران فلا تسقط عنه الطهارة.
الثالث ـ البلوغ: وعلاماته خمس: الاحتلام، وإنبات الشعر، والحيض، والحمل، وبلوغ السن، وهو خمسة عشر عاماً، وقيل: سبعة عشر عاماً، وقال أبو حنيفة: ثمانية عشر عاماً، فلا تجب الطهارة على الصبي، ويؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر. فإن صلى الصبي، ثم بلغ في بقية الوقت أو في أثناء الصلاة، لزمته الإعادة عند المالكية، ولم تلزمه عند الشافعي.
الرابع ـ ارتفاع دم الحيض والنفاس أي انقطاع الدم.
الخامس ـ دخول الوقت.
السادس ـ عدم النوم.
السابع ـ عدم النسيان.
الثامن ـ عدم الإكراه، ويقضي النائم والناسي والمكره ما فاته إجماعاً.
التاسع ـ وجود الماء أو (التراب الطاهر) ، فمن عدمهما قيل: يصلي فاقد الطهورين ويقضي، وفي قول لا يقضي، وقيل: لا يصلي، وعليه القضاء، كما سأبين تفصيلاً في بحث هذا الموضوع آخر التيمم.
العاشر ـ القدرة على الفعل بقدر الإمكان.
المبحث الثالث ـ أنواع المطهرات:
ثبت بالدليل القطعي المجمع عليه أن الطهارة واجبة شرعاً، وأن المفروض منها هو الوضوء والغسل من الجنابة والحيض والنفاس بالماء، والتيمم عنهما عند فقد الماء، أو التضرر باستعماله، وإزالة النجاسة.
واتفق الفقهاء على جواز التطهير بالماء الطهور أو المطلق: وهو ما يسمى «ماءً» بدون تقييد بوصف كماءٍ مستعمل، أو بإضافة كماء الورد مثلاً، قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48/25] ، {وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به} [الأنفال:11/8] .
كما اتفقوا على جواز التطهير بالمسح بالورق أو الحجارة في حالة الاستنجاء، أي إزالة النجاسة عن المخرجين من بول وغائط ما لم يفحش الخارج.
واتفقوا على مشروعية التطهر بالتراب طهارة حكمية، وعلى طهارة الخمر بالتخلل.
واختلفوا في مطهرات أخرى، وها هي آراء الفقهاء في المطهرات:(1/204)
قال الحنفية (1) : يجوز رفع النجاسة عن محلها بما يأتي:
1 ً ـ الماء المطلق ولو كان مستعملاً، تحصل به الطهارة الحقيقية والحكمية (الحدث والجنابة) جميعاً، كماء السماء والأنهار والبحار والآبار والعيون، والوديان التي يجتمع فيها ماء السيل؛ لأن الله تعالى سمى الماء طهوراً بقوله: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48/25] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيَّر لونه أو طعمه أوريحه» (2) ، والطهور: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره.
2 ً ـ المائعات الطاهرة: وهي التي تنعصر بالعصر، أو تزيل النجاسة. لاتحصل بها الطهارة الحكمية (وهي زوال الحدث بالوضوء والغسل) باتفاق الحنفية وغيرهم؛ لأن الحدث الحكمي خص بالماء بالنص القرآني، وهو متيسر للناس، وتحصل بها الطهارة الحقيقية (وهي زوال النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن) عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو المفتى به، مثل ماء الورد والزهر، والخل، وعصير الشجر والثمر من رمان وغيره، وماء الباقلاء (وهي الفول: أي إذا طبخت بالماء حتى صار بحيث إذا برد ثخن) (3) ونحوها مما إذا عصر انعصر، حتى الريق، فتطهر أصبع، وثدي تنجس بالقيء بلحس ثلاث مرات، عن طريق إرضاعه لولده، ويطهر فم شارب الخمر بترديد ريقه وبلعه.
فإن كان لا ينعصر مثل العسل والسمن والدهن والزيت واللبن وإن كان مخيضاً، والمرق ونحوها، فلا تحصل الطهارة بها، لعدم إمكان تحقق إزالة النجاسة بها؛ لأن الإزالة إنما تكون بإخراج أجزاء النجاسة مع المزيل شيئاً فشيئاً، وذلك إنما يتحقق فيما ينعصر بالعصر، فتكون هذه المائعات مثل الماء في إزالة أجزاء
__________
(1) البدائع: 83/1-87، فتح القدير: 133/1-138، الدر المختار: 284/1 - 302، تبيين الحقائق: 69/1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 24/1 ومابعدها، 30، مراقي الفلاح: ص 27-28.
(2) غريب بهذا اللفظ، ورواه ابن ماجه عن أبي أمامة بلفظ (إن الماء طهور لاينجسه شيء إلا ماغلب على ريحه، وطعمه، ولونه) وهو حديث ضعيف (نصب الراية: 94/1) .
(3) فإن تغير الماء بدون الطبخ يجوز التوضؤ به. النجاسة، لكون المائع رقيقاً يداخل أجزاء النجاسة ويجاورها، ويستخرجها بواسطة العصر.(1/205)
ومنع محمد وزفر وغير الحنفية إزالة النجاسة بالمائعات (1) ؛ لأن طهورية الماء عرفت شرعاً، وأقر الشرع التطهير بالماء دون غيره، فلا يلحق به غيره.
وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر، فغيَّر أحد أوصافه (2) ، كماء السيل (المَدّ) والماء الذي يختلط به الأشنان والصابون والزعفران، ما دام باقياً على رقته وسيلانه، لأن اسم الماء باق فيه، ولا يمكن الاحتراز عن هذه الأشياء التي تختلط بالماء، كالتراب والأوراق والأشجار، فإن صار الطين غالباً، وماء الصابون أو الأشنان ثخيناً، وماء الزعفران صبْغاً، لا تجوز به الطهارة.
3 ً - الدلك: وهو مسح المتنجس على الأرض مسحاً قوياً بحيث يزول به أثر أو عين النجاسة. ومثل الدلك: الحت: وهو القشر بالعود أو باليد. وبه يطهر الخف والنعل المتنجس بنجاسة ذات جِرْم، سواء أكانت جافة أم رطبة،. والجِرْم: كل ما يرى بعد الجفاف كالغائط والروث والدم والمني والبول والخمر الذي أصابه تراب. ويلاحظ أن شمول الجرم الرطب هو الأصح المختار، وعليه الفتوى، لعموم البلوى، ولإطلاق حديث النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد، فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خَبَثاً (أذى أو قذراً) ، فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما» (3) .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص35، بداية المجتهد: 80/1، المغني: 11/1، مغني المحتاج: 17/1.
(2) فإن غير اثنين أو ثلاثة لايجوز التوضؤ به، لكن الصحيح أنه يجوز التوضؤ به وإن غير أوصافه كلها.
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان عن أبي سعيد الخدري، واختلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في العلل الموصول (نيل الأوطار: 44/1) .(1/206)
فإذا لم تكن النجاسة ذات جرم، فيجب غسلها ثلاث مرات بالماء، ولو بعد الجفاف، ويترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر، وتذهب النداوة من الخف، ولا يشترط اليبس.
وقال أكثر العلماء: يطهر النعل بالدلك يابساً، لا رطباً؛ لأن عائشة كانت تفرُك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وتغسله إذا كان رطباً (1) .
وقال الشافعي ومحمد: لا يطهر النعل بالدلك، لا رطباً ولا يابساً، لأن النجاسة تداخلت في الخف تداخلها في الثوب والبدن. وقال الحنابلة: يعفى بالدلك عن يسير النجاسة، وإلا وجب غسله (2) .
4 ً - المسح الذي يزول به أثر النجاسة: يطهر به الشيء الصقيل الذي لا مسام له، كالسيف والمرآة والزجاج، والآنية المدهونة والظفر والعظم، والزبدية الصينية وصفائح الفضة غير المنقوشة ونحو ذلك؛ لأنه لا تتداخله النجاسة، ويزول ما على ظاهره بالمسح، وقد صح أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يقتلون الكفار بالسيوف، ويمسحونها، ويصلون بها.
وبناء عليه يكفي مسح محل الحجامة بثلاث خرق نظيفة مبلولة.
ورأي المالكية كالحنفية في جواز إزالة النجاسة بالمسح فيما يفسد بالغسل كالسيف والنعل والخف (3) .
__________
(1) رواه الدارقطني والبزار في مسنده عن عائشة، ولم يسنده عنها إلا عبد الله بن الزبير، ورواه غيره مرسلاً. وأما قوله عليه السلام لعائشةفي المني «فاغسليه إن كان رطباً، وافركيه إن كان يابساً» فغريب، وهو حديث لايعرف (نصب الراية: 209/1) .
(2) نيل الأوطار: 44/1، القوانين الفقهية: ص 34، كشاف القناع: 218/1، المغني: 83/2.
(3) القوانين الفقهية: ص34 -35.(1/207)
5 ً - الجفاف بالشمس أو الهواء وزوال أثر النجاسة: يطهر الأرض وكل ماكان ثابتاً بها كالشجر والكلأ والبلاط، لأجل الصلاة عليها، لا للتيمم بها، بخلاف ماكان نحو البساط والحصير والثوب والبدن وكل ما يمكن نقله، فإنه لا يطهر إلا بالغسل. وطهارة الأرض باليبس لقاعدة: (ذكاة الأرض يبسها) (1) ولحديث ابن عمر: «كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكنت شاباً عَزَباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك» (2) .
والسبب في التفرقة بين الصلاة والتيمم في هذا: هو أن المطلوب لصحة الصلاة الطهارة، ولصحة التيمم الطهورية، والذي تحقق بالجفاف هو الطهارة، لاالطهورية، والطهارة لا تستدعي الطهورية، ويشترط في التيمم طهورية التراب، كما يشترط في الوضوء طهورية الماء.
ولا تطهر الأرض بالجفاف عند غير الحنفية، وإنما لا بد من تطهيرها بالماء إذا أصابتها النجاسة، فالأرض المتنجسة وأجرنة الحمام والحيطان والأحواض ونحوها تطهر بمكاثرة الماء عليها أي بكثرة إفاضة الماء عليها من مطر أو غيره حتى تزول عين النجاسة، كما في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فأمر النبي بصب ذنوب من ماء عليه (3) .
__________
(1) لاأصل له في الحديث المرفوع، وبه أخذ الحنفية، ويروى عن أبي جعفر محمد الباقر، والمراد بـ: يبسها: طهارتها (أسنى المطالب للحوت البيروتي: ص112) .
(2) رواه أبو داود (معالم السنن للخطابي: 117/1 ومابعدها) .
(3) روى الجماعة إلا مسلماً عن أبي هريرة قال: «قام أعرابي، فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: دعوه، وأريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» والسجل أو الذنوب: الدلو العظيمة (نيل الأوطار:41/1 ومابعدها) .(1/208)
6 ً - تكرار المشي في الثوب الطويل الذي يمس الأرض النجسة والطاهرة: يطهر الثوب، لأن الأرض يطهر بعضها بعضاً، بدليل حديث أم سلمة: أنها قالت: «إني امرأة أطيل ذيلي، أمشي في المكان القذر، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده» (1) .
ويتفق المالكية والحنابلة مع الحنفية في ذلك، وأقره الشافعي بما جرى على يابس، وقيده الحنابلة بيسير النجاسة، وإلا وجب غسله (2) .
7 ً - الفَرْك: يطهر به مني الإنسان إذا أصاب الثوب وجف، ولا يضر بقاء أثره، كبقائه بعد الغسل، إن كان رأس العضو (الحشفة) طاهراً، بأن استنجى بماء، لا بورق أو حجر، لأن الحجر ونحوه لا يزيل البول المنتشر على رأس العضو، فإذا لم ينتشر البول، ولم يمر عليه المني في الخارج، فإنه يطهر بالفرك أيضاً، إذ لا يضر مروره على البول في الداخل.
ولا فرق بين مني الرجل ومني المرأة. فإن كان المني رطباً، أو كان مني غير الآدمي، أو استنجى الآدمي بورق أو نحوه، فلا يطهر بالفرك، ولابد من الغسل؛ عملاً بما جاء في السنة من حديث عائشة إنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم (3) ، وفي حديث الدارقطني عن عائشة: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطباً» (4) .
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) معالم السنن للخطابي: 118/1، القوانين الفقهية: ص35، كشاف القناع: 218/1.
(3) رواه البخاري ومسلم. قال ابن الجوزي: ليس في هذا الحديث حجة، لأن غسله كان للاستقذار، لا للنجاسة (نصب الراية: 209/1-210) .
(4) سبق تخريجه، وقد عرفنا أن أمر النبي بغسله إذا كان رطباً، وفركه إذا كان يابساً، غريب لايعرف. وقال البيهقي: لامنافاة بين الحديثين (نصب الراية، المكان السابق) .(1/209)
هذا ويمكن جعل الفرك والدلك واحداً (1) .
والمالكية كالحنفية في الحكم بنجاسة المني، وقال الشافعية والحنابلة: مني الآدمي طاهر، عملاً بحديث عائشة السابق عند الدارقطني، وبقول ابن عباس: «امسحه عنك بإذخرة (2) أو خرقة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق» (3) .
وسب الاختلاف شيئان: أحدهما: اضطراب رواية حديث عائشة، إذ مرة تغسله، ومرة تفركه. والثاني: تردد المني بين أن يشبه بالأحداث الخارجة من البدن، وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة، كاللبن وغيره.
وأميل إلى القول بطهارة المني تيسيراً على الناس، ويغسل الثوب بسبب الاستقذار لا للنجاسة، لصحة حديث عائشة الأول الذي تكتفي فيه بفرك المني، وإن كان ذلك يصلح حجة للحنفية في أن النجاسة تزال بغير الماء (4) .
8 ً - الندف: ويطهر به القطن إذا ندف، وذهب أثر النجاسة إذا كانت قليلة.
9 ً - التقوير: أي عزل الجزء المتنجس عن غيره، يطهر به الدهن الجامد المتنجس كالسمن والدبس ونحوهما، لحديث ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم: «أن فأرة وقعت في سمن، فماتت فيه، فسئل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه» (5) .
وهذا متفق عليه، فإن كان السمن جامداً طرحت النجاسة وما حولها خاصة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص34، بداية المجتهد: 79/1، مغني المحتاج: 80/1، كشاف القناع: 224/1.
(2) الإدخر: حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب.
(3) رواه سعيد بن منصور والدارقطني مرفوعاً.
(4) المجموع: 560/2، بداية المجتهد: 79/1، نيل الأوطار: 55/1.
(5) رواه البخاري، وزاد أحمد والنسائي: في سمن جامد (سبل السلام: 8/3) .(1/210)
فإن وقعت النجاسة في مائع كالزيت والسمن الذائب، لم يطهر عند الجمهور (1) ، وعند الحنفية: يطهر بصب الماء عليه بقدره ثلاث مرات، أو يوضع في إناء مثقوب ثم يصب عليه الماء، فيعلو الدهن، ويرفع بشيء أو يفتح الثقب حتى يذهب الماء. والنحت مثل التقوير.
وأما الجامدات فتقبل التطهير إلا ما تشربت أجزاؤه النجاسة، فإن كان الجامد إناء يطهر بصب الماء عليه وسيلانه حتى يغمره، وإن كان مما يطبخ كاللحم والحنطة والدجاج فيطهر بغسله نيئاً، ولا يطهر أبداً إذا تنجس وغلي على النار بنجاسته، لتشرب أجزاء النجاسة فيه. وعلى هذا لو غليت رؤوس الحيوان ولحم الكرش قبل غسلها وتطهيرها لا تطهر أبداً، ولو غليت الدجاجة قبل شق بطنها لنتف ريشها، لا تطهر أبداً.
واتفق المالكية والحنابلة مع الحنفية في أن اللحم المطبوخ بنجس لا يطهر، وأضاف المالكية أن البيض المسلوق بنجس والزيتون المملح بنجس والفخار الذي غاصت النجاسة في أعماقه لا يقبل التطهير. أما إن وقعت النجاسة في اللحم المطبوخ بعد نضجه فيقبل التطهير عند المالكية، بأن يغسل ما تعلق به من المرق إذا لم تطل إقامة النجاسة فيه.
وقال الشافعية: الجامدات التي تشربت النجاسة تقبل التطهير، فلو طبخ لحم في نجس، أو تشربت حنطة النجاسة، أو سقيت السكين بنجاسة، تطهر بصب الماء عليها إلا اللَّبِن (الطوب النيء) الذي عجن بنجاسة جامدة، لا يطهر.
10 ً - قسمة المتنجس، بفصل الأجزاء النجسة عن الظاهرة: وقسمة المثلي
__________
(1) القوانين الفقهية: ص35، المغني: 37/1، الشرح الكبير: 59/1.(1/211)
كالحنطة والشعير إذا تنجس، وتوزيعه بين الشركاء أو المشترين، فلو بال حمار على حنطة يدوسها، فقسم أو غسل بعضه، أو ذهب بهبة أو أكل أو بيع يطهر الباقي والذاهب. ومثله هبة المتنجس لمن لا يرى نجاسته. والتقوير والقسمة والهبة لا تعد مطهرات في الحقيقة، وإنما هي مطهرات تساهلاً.
11 ً - الاستحالة: أي تحول العين النجسة بنفسها أو بواسطة كصيرورة دم الغزال مسكاً، وكالخمر إذا تخللت بنفسها، أو بتخليلها بواسطة، والميتة إذا صارت ملحا، أو الكلب إذا وقع في ملاحة، والروث إذا صار بالإحراق رماداً، والزيت المتنجس بجعله صابوناً، وطين البالوعة إذا جف وذهب أثره، والنجاسة إذا دفنت في الأرض وذهب أثرها بمرور الزمان، وهذا عمل بقول الإمام محمد خلافاً لأبي يوسف، لأن النجاسة إذا استحالت وتبدلت أوصافها ومعانيها، خرجت عن كونها نجاسة، لأنها اسم لذات موصوفة، فتنعدم بانعدام الوصف، وصارت كالخمر إذا تخللت، باتفاق المذاهب.
وتطهر الخمر ودَنّها (وعاؤها) إذا تخللت بنفسها أو بنقلها من ظل إلى شمس أو بالعكس عند غير الحنفية (1) ؛لأن نجاستها بسبب شدتها المسكرة قد زالت، من غير نجاسة خلفتها، كما تطهر الخمر إذا خللت عند المالكية.
ولا تطهر عند الشافعية والحنابلة بتخليلها بالعلاج كالبصل والخبز الحار؛ لأن الشيئ المطروح بتنجس بملاقاتها. أما غير ذلك فهو نجس، فلا تطهر نجاسة باستحالة، ولا بنار، فرماد الروث النجس: نجس، والصابون المعمول من زيت
__________
(1) القوانين الفقهية: ص34، بداية المجتهد: 461/1، الشرح الصغير: 46/1، الشرح الكبير: 57/1، 59، المنتقى على الموطأ: 153/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 81/1، المغني: 319/8، كشاف القناع: 214/1 ومابعدها، المهذب: 48/1.(1/212)
نجس، ودخان النجاسة وغبارها: نجس، وما تصاعد من بخار ماء نجس إلى جسم صقيل أو غيره: نجس، والتراب المجبول بروث حمار أو بغل ونحوه مما لايؤكل لحمه: نجس ولو احترق، كالخزف. ولو وقع كلب في ملاَّحة، فصار ملحاً أو في صبَّانة فصار صابوناً، فهو نجس. لكن استثنى المالكية على المشهور رماد النجس ودخانه فقالوا بطهارته على المعتمد.
وقيد الحنابلة طهارة الخمر بنقلها من مكان لآخر بحالة غير قصد التخليل، فإن قصد تخليلها بنقلها لم تطهر، لأنه يحرم تخليلها، فلا تترتب عليه الطهارة.
وقال الشافعية (1) : لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا ثلاثة أشياء: الخمر مع إنائها إذا صارت خلاً بنفسها، والجلد (غير جلد الكلب والخنزير) المتنجس بالموت يطهر ظاهره وباطنه بالدبغ، وما صار حيواناً كالميتة إذا صارت دوداً لحدوث الحياة.
12 ً - الدباغ للجلود النجسة أو الميتة يطهرها كلها إلا جلد الإنسان والخنيزير، وما لا يحتمل الدبغ كجلد حية صغيرة وفأرة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (2) وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم مر بفِناء (ساحة الدار أو جوانبها) قوم في غزوة تبوك، فاستسقاهم، فقال: «عندكم ماء؟ فقالت امرأة: لا، يا رسول الله، إلا في قربة لي ميتة، فقال صلّى الله عليه وسلم: ألست دبغتِها؟ فقالت: نعم، فقال: فإن دباغها طهورها» (3) ، ولأن الدبغ يزيل سبب نجاسة الميتات وهو الرطوبات والدماء السائلة، فصار الدبغ كالثوب النجس إذا غسل.
__________
(1) الحضرمية: ص 23.
(2) روي من حديث ابن عباس عند النسائي والترمذي وابن ماجه، ومن حديث ابن عمرعند الدارقطني، وهو حديث حسن، ورواه مسلم بلفظ «إذا دبغ صار أديماً.
(3) رواه أبو داود والنسائي عن سلمة بن المُحبِّق، ورواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده، والترمذي، وأعله هؤلاء براوٍ فيه: هو الجون بن قتادة (نصب الراية: 117/1) .
وعن ابن عباس قال: تُصُدِّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمرَّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها» رواه الجماعة إلا ابن ماجه.(1/213)
والدبغ عند الحنفية مطهر إذا كان بما يمنع النَّتَن والفساد، ولو دباغة حُكْمية كالتتريب والتشميس، لحصول المقصود بها. وكل ما يطهر بالدباغة يطهر بالذكاة. والدبغ يطهر جلد الكلب والفيل على المعتمد، واستثناء جلد الآدمي للكرامة الإلهية، واستثناء جلد الخنزير لنجاسته العينية، وألحقوا بهما ما لا يحتمل الدباغة كفأرة صغيرة. أما ما على جلد الميتة من شعر ونحوه فهو طاهر، وقميص الحية طاهر.
والدبغ مطهر أيضاً عند الشافعية (1) ، فيطهر كل جلد نجس بالموت ظاهره، وكذا باطنه على المشهور وإن كان من غير مأكول اللحم للحديثين السابقين مع حديث ابن عباس (في الحاشية) ، لكن يشترط أن يكون الدبغ بشيء قالع: وهو نزع فضول الجلد (وهي مائيته ورطوباته التي يفسده بقاؤها، ويطيبه نزعها) بحرِّيف (ما يحرف الفم أي يلذع اللسان بحرافته) كالقَرَظ (ورق السَلَم مثل شجر الجوز يدبغ به) والعفص وقشور الرمان، والشب (شيء معروف من جواهر الأرض) . سواء أكان طاهراً أم نجساً كذرق الطيور، ولا يصح الدبغ بشمس وتراب وتجميد وتمليح بما لا ينزع الفضول، وإن جف الجلد، وطابت رائحته؛ لأن الفضلات لم تزل، وإنما جمدت، بدليل إنه لو نقع في الماء عادت إليه العفونة.
ولا يطهر عند الشافعية بالدبغ جلد الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما مع حيوان طاهر، كما لا يطهر عندهم بالدبغ ما على جلد الميتة من شعر ونحوه، لكن يعفى عن القليل من ذلك لمشقة إزالته.
__________
(1) مغني المحتاج: 82/1، المهذب: 48/1(1/214)
وقال المالكية والحنابلة على المشهور (1) : لا يطهر الجلد النجس بالدبغ، لحديث عبد الله بن عُكيم، قال: «كتب إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لاتنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» (2) فهو ناسخ لما قبله من الأحاديث، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلم، ولفظه دال على سبق الترخيص، وأنه متأخر عنه، وقال الدردير المالكي: ما ورد من نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما إهاب ـ أي جلد ـ دبغ، فقد طهر» فمحمول على الطهارة اللغوية، لا الشرعية في مشهور المذهب. وحينئذ لا تجوز الصلاة عليه.
وعلى القول المشهور عند المالكية من نجاسة الجلد المدبوغ: يجوز استعماله بعد الدبغ في اليابسات غير المائعات، كلبسه في غير الصلاة والجلوس عليه في غير المسجد، ولا يجوز استعماله في المائعات كالسمن والعسل والزيت وسائر الأدهان، والماء غير المطلق كماء الورد، والخبز المبلول قبل جفافه، والجبن، فلا يوضع فيه، ويتنجس بوضعه فيه. واستثنوا من ذلك جلد الخنزير فلا يجوز استعماله مطلقاً، دبغ أو لم يدبغ، في يابس أو مائع، وكذا جلد الآدمي، لشرفه وكرامته، وأما صوف الحيوان ونحوه فلا ينجس بالموت عند المالكية.
وعند الحنابلة روايتان في الانتفاع بالجلد النجس المدبوغ:
إحداهما ـ لا يجوز، لحديث ابن عكيم المذكور، وحديث البخاري في تاريخه «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» .
__________
(1) الشرح الصغير: 51/1، بداية المجتهد: 76/1، غاية المنتهى: 14/1، المغني: 66/1 ومابعدها،79.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) ، وأخرجه أيضاً الشافعي والبيهقي وابن حبان، قال عنه الترمذي: حديث حسن. وللدارقطني: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة، إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب (نيل الأوطار: 64/1) .(1/215)
والثانية ـ وهي الراجحة ـ يجوز الانتفاع به، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه» ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة، ولأنه انتفاع من غير ضرر، فأشبه الاصطياد بالكلب، وركوب البغل والحمار. وصوف الميتة وشعرها ووبرها وريشها طاهر عند الحنابلة.
والراجح عندي رأي الحنفية والشافعية في أن الدباغ مطهر، لأن حديث ابن عكيم فيه اختلاف واضطراب، قال الحازمي في الناسخ والمنسوخ: وطريق الإنصاف فيه: أن يقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ، لو صح، ولكنه كثير الاضطراب، لا يقاوم حديث ميمونة في الصحة. والمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيح، ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهاباً، وبعد الدباغ يسمى جلداً، ولا يسمى إهاباً، وهذا معروف عند أهل اللغة، وليكون جمعاً بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد (1) .
ويلاحظ أخيراً أن كلاً من التخلل والدباغ داخل في استحالة أو انقلاب العين.
13 ً - الذكاة الشرعية (الذبح) في تطهير الذبيح: وهو أن يذبح مسلم أوكتابي (يهودي أو نصراني) حيواناً ولو غير مأكول اللحم. فيطهر بالذكاة في أصح مايفتى به عند الحنفية من الحيوان غير المأكول الجلد دون اللحم والشحم، لأن كل حيوان يطهر بالدباغ يطهر جلده بالذكاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دباغ الأديم ذكاته» (2)
__________
(1) نيل الأوطار: 65/1.
(2) روى النسائي عن عائشة: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن جلود الميتة، فقال: دباغها ذكاتها. وللدارقطني عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «طُهور كل أديم دباغه. قال الدارقطني: إسناده كلهم ثقات (نيل الأوطار: 63/1) وأخرجه أيضاً ابن حبان والطبراني والبيهقي.(1/216)
ألحق الذكاة بالدباغ، وبما أن الجلد يطهر بالدباغ، فيطهر بالذكاة، لأن الذكاة كالدباغ في إزالة الدماء السائلة والرطوبات النجسة، فتفيد الذكاة الطهارة كالدبغ، إلا في الآدمي والخنزير. وأما فعل المجوسي فليس بذكاة شرعية، لعدم أهلية الذكاة، فلا يفيد الطهارة، فتعين تطهيره بالدباغ، وكل شيء لا يسري فيه الدم لا ينجس بالموت كالشعر والريش المجزوز والقرن والحافر والعظم ما لم يكن به دسم. والعصب نجس في الصحيح. ونافجة المسك طاهرة كالمسك.
وأما الحيوان المأكول اللحم، فيطهر بالذبح جميع أجزائه إلا الدم المسفوح، باتفاق المذاهب.
وقال المالكية في المشهور (1) : إذا ذبح ما لا يؤكل كالسباع وغيرها، يطهر لحمه وشحمه وجلده، إلا الآدمي والخنزير، أما الآدمي فلحرمته وكرامته، وأما الخنزير فلنجاسة عينه (ذاته) . لكن قال الصاوي والدردير: مشهور المذهب: لا تعمل الذكاة في محرم الأكل من حمير وبغال وخيل، وكلب وخنزير، أما سباع الوحوش وسباع الطير فتطهر بالذبح.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : لا تؤثر الذكاة في شيء من الحيوان غير المأكول؛ لأن أثر الذكاة في إباحة اللحم هو الأصل، والجلد تبع للحم، فإن لم تعمل الذكاة في اللحم، لم تعمل فيما سواه، كذبح المجوسي، أو الذبح غير المشروع، ولا يقاس الذبح على الدباغ، لكون الدبغ مزيلاً للخبث والرطوبات كلها، مطيباً للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل بها ذلك، فلا يستغنى بها عن الذبح. وهذا الرأي هو الأرجح لدي؛ لأن القياس (قياس الذكاة على الدباغ) في التعبديات أمر غير مقبول.
__________
(1) بداية المجتهد: 427/1، القوانين الفقهية: ص 181، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 45/1.
(2) مغني المحتاج: 58/1، المغني: 71/1، غاية المنتهى: 14/1.(1/217)
14 ً - النار تطهر في مواضع: هي إذا استحالت بها النجاسة، أو زال أثرها بها، كحرق الفخار الجديد، وتحول الروث إلى رماد، وإحراق موضع الدم من رأس الشاة. ومثلها الغلي بالنار كغلي الدهن أو اللحم ثلاثاً. قال ابن عابدين: «ولا تظن أن كل ما دخلته النار يطهر، كما بلغني عن بعض الناس أنه توهم ذلك، بل المراد أن ما استحالت به النجاسة بالنار، أو زال أثرها بها يطهر» وبه يظهر أن حرق النجاسة بالنار مطهر.
والنار غير مطهرة عند غير الحنفية كما بينا في بحث الاستحالة، فرماد النجس ودخانه نجسان. إلا أن المالكية استثنوا على المشهور رماد النجس فإنه يطهر بالنار، وكذا دخان النجس والوقود المتنجس، إنه يطهر بالنار.
15 ً - نزح البئر المتنجسة أو غوران ماء البئر قدر ما يجب نزحه منها: مطهر لها كالنزح.
والنزح: هو نزح ما وجب من الدلاء، أو نزح جميع الماء بعد استخراج الواقع في البئر من الآدمي أو غيره من الحيوان، وهو مطهر للبئر. وإذا وجب نزح جميع الماء من البئر فينبغي سد جميع منابع الماء إن أمكن، ثم ينزح ما فيها من الماء النجس. وإن لم يمكن سد منابعه لغلبة الماء، فتنزح المقادير التالية (1) :
أـ إن كان الواقع حيواناً: فإن كان نجس العين كالخنزير، يجب نزح جميع الماء. والصحيح عند الحنفية: أن الكلب ليس بنجس العين.
__________
(1) تحفة الفقهاء: 101/1 ومابعدها، ط دار الفكر بدمشق، بتخريج وتحقيق أحاديثها للمؤلف مع الأستاذ المنتصر الكتاني.(1/218)
وأما إذا لم يكن نجس العين: فإن كان آدمياً فلا ينجس البئر، وأما سائر الحيوان: فإن كان لا يؤكل لحمه كسباع الوحش والطيور، فالصحيح أنه يوجب التنجيس. وأما الحمار والبغل فالصحيح أنه يجعل الماء مشكوكاً فيه.
ب ـ وإن كان حيواناً يؤكل لحمه، فيتنجس الماء إن خرج ميتاً. وينزح ماء البئر كله إن كان منتفخاً أو متفسخاً.
وإن لم يكن منتفخاً ولا متفسخاً فهو في ظاهر الرواية على مراتب ثلاث:
في الفأرة ونحوها: ينزح عشرون دلواً أو ثلاثون بحسب كبر الدلو وصغره.
وفي الدجاجة ونحوها: ينزح أربعون أو خمسون.
وفي الآدمي ونحوه: ينزح ماء البئر كله. وذلك إذا كان على الآدمي نجاسة بيقين، حقيقية أو حكمية، أو نوى الغسل أو الوضوء. ودليلهم على ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، ولم يصح فيه حديث نبوي.
16 ً - دخول الماء من جانب وخروجه من الجانب الآخر في حوض صغير مثلما كان فيه ثلاث مرات، فيصير ذلك بمنزلة غسله ثلاثاً: هو وسيلة لتطهير حوض الحمام أو الأواني إذا تنجس، لأنه بزوال أثر النجاسة يصير الماء جارياً، ولم يتيقن من بقاء النجس فيه. وعلى هذا إذا تنجس ماء في قناة أو في وعاء، فيطهر بصب ماء طاهر عليه من ناحية منه، حتى يسيل من جوانبه ويخرج من الناحية الأخرى.
17 ً - الحفر (أي قلب الأرض بجعل الأعلى أسفل) : يطهرها.
18 ً - غسل طرف الثوب أو البدن: يجزئ عن غسله كله إذا نسي المرء محل النجاسة، وإن وقع الغسل بغير تحر، وهو المختار عند الحنفية. مذاهب غير الحنفية في المطهرات:
عرفنا - في ثنايا بحث أنواع المطهرات عند الحنفية - آراء المذاهب الأخرى، وأفردها هنا إجمالاً ببيان مستقل.
مذهب المالكية: المطهرات عند المالكية هي ما يأتي (1) :
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 34- 35، الشرح الصغير: 46/1، 78،82 ومابعدها، بداية المجتهد: 82/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 56/1.(1/219)
1 - الغسل بالماء الطهور المطلق لكل ما لا يجزئ فيه المسح أو النضح. ولايكفي إمرار الماء بل ولا بد من إزالة عين النجاسة وأثرها، ولا يجوز إزالة النجاسة بمائع غير الماء.
2 - المسح بخرقة مبللة لما يفسد بالغسل، كالسيف والنعل والخف.
3 - النضح للثوب أو الحصير إذا شك في نجاسته، ينضح بلا نية كالغسل: وهو رش باليد أو غيرها كفم أو تلقي مطر رشة واحدة، على المحل المشكوك بنجاسته بالماء المطلق. ففي حالة الشك بإصابة مكان بالنجاسة، يجب نضحه لاغسله، فإن غسل كان أحوط. ولا يجزئ رش البدن المشكوك في نجاسته، وإنما يجب غسله كمحقق الإصابة بالنجاسة.
4 - التراب الطاهر: طهارة حكمية في حالة التيمم.
5 - الدلك: لما أصاب الخف والنعل من أرواث الدواب وأبوالها في الطرق والأماكن التي تطرقها الدواب كثيراً لعسر الاحتراز من ذلك، بخلاف غير الدواب كالآدمي والكلب والهر ونحوها، فلا يعفى عما أصاب الثوب أو البدن من فضلاتها، وبخلاف ما أصاب غير الخف والنعل كالثوب والبدن فلا عفو عنه.
6 - تكرار المشي أو المرور: يطهر ثوب المرأة الطويل الذي تجره على الأرض المتنجسة اليابسة، فيتعلق به الغبار، بشرط أن تكون إطالته للستر لا للخيلاء، واختلف في النجاسة الرطبة. والتطهير يحصل إذا كانت غير لابسة للخف، فإن كانت لابسة للخف فلا عفو.
ومثلها: من مشى برجل مبلولة على نجاسة يابسة: يطهره ما بعده، ويصلي كل منهما على وضعه، ولا يجب عليهما الغسل.
ويعفى عن طين المطر، ما لم تكن النجاسة غالبة، أو عينها قائمة.
7 - التقوير: يطهر الجامدات، كأن وقعت فأرة في سمن جامد، طرحت هي وما حولها خاصة، قال سحنون: إلا أن يطول مقامها فيه.(1/220)
فإن وقعت الفأرة في سمن ذائب، فماتت فيه، طرح جميعه. وعلى هذا، إذا وقعت نجاسة في مائع غير الماء، تنجس، سواء تغير أو لم يتغير.
8 - النزح: إذا وقعت دابة نجسة في بئر، وغيرت الماء، وجب نزح جميعه، فإن لم تغيره، استحب أن يُنزح منه بقدر الدابة والماء، أي ينزح كله بالإضافة إلى نزح مقدار الدابة.
9 - غسل مكان النجاسة: إذا مُيِّز موضع النجاسة من الثوب والبدن، غسل وحده، وإن لم يميز غسل الجميع.
10 - الاستحالة: تطهر الخمر إذا تخللت بنفسها أو خللت، ولا يطهر جلد الميتة بالدبغ، والمعتمد أن رماد النجس ودخانه طاهر.
11- الذكاة الشرعية تطهر غير المأكول اللحم، إلا الآدمي والخنزير، وعلى رأي الدردير: مشهور المذهب أن الذكاة لا تطهر محرم الأكل كالخيل والبغال والحمير والكلب والخنزير. وإذا صلى الإنسان، وبعد الانتهاء من صلاته، رأى على ثوبه أو بدنه نجاسة لم يكن عالماً بها، أو كان يعلمها ونسيها، صحت صلاته عند المالكية الذين لايوجبون إزالة النجاسة إلا عند التذكر والقدرة والتمكن.
والمطهر للمائع والجامد وغيرهما عند الشافعية أربعة هي (1) :
1 - ماء مطلق: وهو ما يقع عليه اسم ماء، بلا قيد إضافي كماء ورد، أو قيد وصفي كماء دافق، وهو أنواع: ما نزل من السماء وهو ثلاثة: المطر، وذوب الثلج والبرد، وما نبع من الأرض وهو أربعة: ماء العيون والآبار والأنهار والبحار، ويتعين الماء لإزالة خبث ورفع حدث وغيرهما كتجديد الوضوء.
__________
(1) تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: ص 4، المجموع: 188/1، مغني المحتاج: 17/1 ومابعدها، 84 ومابعدها.....(1/221)
وينضح بول أو قيء صبي لم يَطْعم (يتناول) قبل مضي حولين غير لبن التغذي، للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام» (1) وقد أخذ بهذه التفرقة الشافعية والحنابلة، ولم يفرق المالكية بين الذكر والأنثى وقالوا: النضح: طهارة ما شك فيه أي الثوب المشكوك فيه فقط، وأوجبوا كالحنفية الغسل في الحالين قياساً للأنثى على الذكر (2) ، وإني أميل إلى رأي الشافعية والحنابلة للتصريح بالتفرقة، والحكمة فيه: أن بول الغلام يخرج بقوة، فينتشر، أو أنه يكثر حمله على الأيدي، فتعظم المشقة بغسله، أو أن مزاجه حار، فبوله رقيق، بخلاف الأنثى.
2 - وتراب مطهر لم يستعمل في فرض، ولم يختلط بشيء، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] ، أي تراباً طاهراً.
3 - ودابغ: وهو ما ينزع فضلات الجلد وعفونته، بحيث لو نقع في الماء بعد اندباغه، لم يعد إليه النتن والفساد، كقَرَظ وشَبّ، ولو كان الدابغ نجساً، كذرق طير.
4 - وتخلل: هو انقلاب الخمر خلاً، بلا مصاحبة عين تقع فيها، وإن نقلت من شمس إلى ظل، أو عكسه، فإن صحب تخللها عين وإن لم تؤثر فيها، أو وقع فيها عين نجسة وإن نزعت قبل التخلل، لم يكن ذلك مطهراً.
والطهارات الحاصلة بالمطهرات الأربعة أربع:
وضوء، وغسل، وتيمم، وإزالة نجس، وهذا الأخير يشمل الإحالة.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي السَّمْح، وروى الجماعة عن أم قيس بنت مِحْصَن: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نضح بول صبي، وروى ابن ماجه عن أم كُرْز: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل» (نيل الأوطار: 45/1) .
(2) بداية المجتهد: 82/1، نيل الأوطار: 47/1، كشاف القناع: 217/1 ومابعدها، ط مكة ...(1/222)
ولا يطهر المتنجس الصقيل كسيف ونحوه بالمسح بل لا بد من غسله، كما لايطهر النعل بالدلك دون الغسل، ويطهر الماء بالمكاثرة ولو لم يبلغ قلتين، وتطهر الأرض المتنجسة بمكاثرة الماء عليها.
والمطهرات عند الحنابلة (1) : كالشافعية غالباً إلا في الدباغ، فإنه غير مطهر عندهم، وهي الماء، والتراب ومثله الاستنجاء بالأحجار، والتخلل.
فتطهر الأرض المتنجسة بمكاثرة الماء عليها أي صب الماء على النجاسة بحيث يغمرها من غير اعتبار عدد، ولم يبق للنجاسة عين، ولا أثر من لون أو ريح، إن لم يعجز عن إزالتهما أو إزالة أحدهما.
ولا تطهر الأرض المتنجسة بشمس ولا ريح، ولا جفاف؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بغسل بول الأعرابي، ولو كان ذلك يطهر لاكتفى به.
ولا تطهر نجاسة باستحالة، فلو أحرق السرجين النجس، فصار رماداً أو وقع كلب في ملاحة، فصار ملحاً، لم تطهر، لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن أكل الجلاَّلة وألبانها» (2) لأكلها النجاسة، ولو طهرت بالاستحالة لم ينه عنه.
ولا تطهر النجاسة بنار، فالرماد من روث نجس، والصابون المعمول من زيت نجس، ودخان نجاسة وغبارها: نجس، وما تصاعد من بخار ماء نجس إلى جسم صقيل أو غيره: نجس، وتراب جبل بروث حمار أو بغل ونحوه مما لا يؤكل لحمه: نجس، ولو احترق كالخزف. وكذا لو وقع كلب في ملاحة، فصار ملحاً، أو في صبَّانة، فصار صابوناً: نجس (3) .
ويستثنى من مبدأ عدم التطهير بالاستحالة: ما يخلق منه الآدمي، والخمرة التي انقلبت خلاً بنفسها، أو بنقلها من موضع إلى آخر لغير قصد التخليل، ويحرم تخليلها، فإن خللت، ولو بنقلها بقصد التخليل لم تطهر، لحديث مسلم عن أنس قال: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا ً؟ قال: لا» ودَنُّ الخمر (أي وعاؤها) مثلها، يطهر بطهارتها تبعاً لها......
__________
(1) كشاف القناع: 22/1، 213- 218، المغني: 35/1 - 39، 98/2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر، وقال: حسن غريب.
(3) حقق ابن تيمية رحمه الله في فتاويه أن استحالة النجاسة يذهب بخبثها وعينها، فلا يبقى حكم النجاسة لها، وتكون طاهرة.(1/223)
ولا يطهر دهن تنجس بغسله؛ لأنه لا يتحقق وصول الماء إلى جميع أجزائه. كما لا يطهر باطن حَبّ (وعاء فخاري) تشرب النجاسة، ولا عجين تنجس، لأنه لا يمكن غسله، ولا يطهر لحم تنجس، ولا إناء تشرَّب نجاسة ولا سكين سقيت ماء نجساً.
ويطهر السمن الجامد ونحوه بإلقاء النجاسة وما حولها، وأما المائع فلا يطهر إن ظلت النجاسة فيه، كأن ماتت الفأرة فيه، فإن خرجت حية، فهو طاهر.
ويلزم غسل ما وقعت فيه النجاسة، حتى يتيقن من إزالتها، فإن خفي موضع نجاسة في بدن أو ثوب أو مكان صغير، كبيت صغير، فيلزم غسله، ولا يكفي الظن، لأن الطاهر اشتبه بالنجس، فوجب اجتناب الجميع، حتى يتيقن الطهارة بالغسل، لأن النجاسة متيقنة، فلا تزول إلا بيقين الطهارة.
أما خفاء موضع النجاسة في مكان كبير كصحراء واسعة ودار واسعة، فلايضر، منعاً من الوقوع في الحرج والمشقة.
ويجزئ نضح بول أو قيء الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة، وإن كان نجساً كبول الكبير، ولا بد من غسل بول الأنثى والخنثى.
ولا يطهر النعل بالدلك، بل يجب غسله، كمايجب غسل ذيل ثوب امرأة تنجس بمشي أو غيره، كغسل الثوب والبدن، لكن يعفى عن يسير النجاسة على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك، عملاً بحديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» (1) .
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح ولا جفاف، عملاً بالحديث السابق «أهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء» .
والخلاصة: أن الشافعية والحنابلة نظروا في المطهرات إلى أكمل ما يحصل به مراد الشارع.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود من رواية محمد بن عجلان، وهو ثقة، وصح في حديث أم سلمة السابق: أن المرور على طريق جاف مطهر. لكن لم يقيد الحديث بنجاسة قليلة ولاكثيرة.(1/224)
وتوسع الحنفية في شأن المطهرات، وقاربهم فيها أحياناً المالكية. والواقع العملي وحاجة الناس وأعرافهم كل ذلك يؤيد العمل بمذهب الحنفية. وبناء عليه لاتطهر الأرض وحبل الغسيل المتنجس عند الجمهور بجفاف الشمس والريح، وتطهر بذلك عند الحنفية.
وتطهير الموكيت أو المقاعد المفروشة يكون بصب الماء على مكان النجاسة. ويطهر النعل المتنجس والخف بالدلك بالأرض عند القائلين به كالحنفية والمالكية، لما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهوره» . وتطهر المرآة والسكين والسيف والزجاج وكل شيء أملس صقيل بالمسح الذي يزول به أثر النجاسة، عملاً بفعل الصحابة في مسح سيوفهم من الدماء.
ويطهر الغسيل في الغسَّالة الآلية بغمره الماء، فإن هذه الغسَّالات يتكرر فيها صب الماء، ويعصر بها الثوب بسرعة الدوران. ولا يحكم بنجاسة ثوب أو مكان إلا برؤية عين النجاسة، فلو سقط ماء أو غيره على إنسان أو أصيب ثوبه بشيء رطب ليلاً، يحكم بطهارته ولا يسأل عن نجاسته، ولا يحكم بالنجاسة إلا بغلبة الظن.(1/225)
المبحث الرابع ـ أنواع المياه:
المياه أنواع ثلاثة: طهور، وطاهر غير مطهر، ومتنجس:
النوع الأول ـ الماء الطهور أو المطلق:
هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهو كل ماء نزل من السماء، أو نبع من الأرض، ما دام باقياً على أصل الخِلْقة، فلم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي (اللون والطعم والرائحة) أو تغير بشيء لم يسلب طهوريته كتراب طاهر أو ملح أو نبات مائي، ولم يكن مستعملاً، مثل ماء المطر والأودية (1) والعيون والينابيع والآبار والأنهار والبحار، وماء الثلج والبرد، ونحوها من كل ماء عذب أو مِلْح، ويشمل الماء الذي ينعقد على صورة حيوان، أو ينعقد ملحاً، أو يرشح ويتبخر بخار ماء؛ لأنه ماء حقيقة.
إلا أن الحنفية قالوا: الماء الذي ينعقد فيه الملح طهور قبل الانعقاد، أما بعد الانعقاد والذوبان، فإنه يكون طاهراً غير طهور فلا يرفع الحدث، ويزيل الخبث.
هذا الماء المطلق طاهر مطهر إجماعاً، يزال به النجس، ويستخدم للوضوء والغسل، لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48/25] ، {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال:11/8] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (2) وقوله عليه السلام: «إن الماء طهور، لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» (3) .
وبحث الماء الطهور يستتبع معرفة الأمرين التاليين:
أـ التغير غير المؤثر في الطهورية:
اتفق الفقهاء على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالباً: أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير، فلا يضر تغير أوصاف الماء كلها أو بعضها بطول المكث (البقاء
__________
(1) الأودية جمع واد: وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يجتمع فيه السيل.
(2) رواه سبعة من الصحابة وهم: أبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، والفراسي، وأبوبكر الصديق. وحديث أبي هريرة رواه أصحاب السنن الأربعة، وهو وإن ذكرت فيه علل، تأيد بالروايات الأخرى (نصب الراية: 95/1) .
(3) رواه ابن ماجه عن أبي أمامة، وهو حديث ضعيف السند (نصب الراية: 94/1) لكن حسنه الترمذي، وله إسناد صحيح ذكره ابن القطان، وقال عنه الإمام أحمد: هو حديث صحيح.(1/226)
في المكان مدة طويلة) لتعذر الاحتراز عنه، ولا بتراب طهور، وطُحلُب (خضرة تعلو على وجه الماء) ، وما في مقره وممره، ولا بمخالط مجاور (وهو ما يمكن فصله) كعود ودُهن ولو مطيبين ومنه البَخور ولا بجيفة ملقاة على الشاطئ تغير الماء بريحها، ولابدابغ إنائه كقطران وقَرَظ، ولا ببعض المعادن كملح ماء وكبريت، ولا بما يعسر الاحتراز عنه كالتبن وورق الشجر. وللفقهاء تفصيلات وإيراد قيود هي:
قال الحنفية (1) : تجوز الطهارة بماء خالطه شيء جامد طاهر، ما لم يكن التغير عن طبخ، فغير أحد أوصافه أو أوصافه كلها، كماء السيل الذي يختلط بالتراب والأوراق والأشجار، وبقيت رقته غالبة، فإن صار الطين غالباً لا تجوز الطهارة به. وكالماء الذي اختلط به اللبَن أو الزعفران أوالصابون أو الأشنان ما دام باقياً على رقته وسيلانه، لأن اسم الماء باق فيه، ولا يمكن الاحتراز عن هذه الأشياء المخالطة له، فلو خرج الماء عن طبعه أو حدث له اسم جديد، كأن صار ماء الصابون ثخيناً، أو صار ماء الزعفران صِبْغاً، لا تجوز به الطهارة.
وقال المالكية (2) : لا يضر ما تغير بطول مُكْثه، أو بما يجري عليه، أو بما متولد منه كالطحلب والدود والسمك الحي، أو بما لا ينفك عنه غالباً، أو بالمجاورة، ولا يؤثر تغيره بالتراب المطروح، على المشهور، وبما طرح فيه من الملح ونحوه من أجزاء الأرض كالنحاس والكبريت والحديد، ولو قصداً، ولا بدابغ طاهر كقَطِران، أو بما يعسر الاحتراز منه كتبن أو ورق شجر يتساقط في الآبار والبِرك من الريح، فإذا دبغت الجلود المعدة لحمل الماء كالقِرب والدلاء التي يستقى بها، يجوز الانتفاع بمائها، وإن تغير بأثر الدابغ الطاهر كالقَرَظ والقطران والشب،
__________
(1) فتح القدير: 48/1، اللباب شرح الكتاب: 26/1. مراقي الفلاح: ص3.
(2) الشرح الصغير:30/1-36، القوانين الفقهية: ص30، بداية المجتهد: 22/1، الشرح الكبير: 35/1 -39.(1/227)
ولا يضر التغير بالمجاور؛ لأن الماء يتكيف بكيفية المجاور، ومن المجاور: جيفة مطروحة خارج الماء، فتغير ريح الماء منها.
ولا يضر التغير الخفيف بآلة سقي من حَبْل أو وعاء، أو بأثر بخور دهن به الإناء من غير دبغ به، أو رمي في الماء، فرسب في قراره، فتغير الماء به، لأن العرب كانت تستعمل القطران كثيراً عند الاستقاء وغيره، فصار كالتغير بالمقَرّ.
كما لا يضر التغير بالشك في جنس المغير، هل هو من جنس ما يضر كالعسل والدم، أو من جنس ما لا يضر كالكبريت وطول المكث، ويجوز التطهر به. وكذا لايضر المشكوك في تغيره بالريق، كما إذا جعل الماء في الفم، وحصل شك فيه، هل تغير بالريق أو لا، فإنه يجوز التطهير به.
ويضر التغير لأحد أوصاف الماء بالشيء المفارق غالباً: وهو ما شأنه مفارقة الماء غالباً وكان طاهراً، كلبن وسمن وعسل وحشيش، فإذا امتزج به، أو لاصقه، كالرياحين المطروحة على سطح الماء، والدهن الملاصق له، وتغير أحد أوصاف الماء لوناً أو طعماً أو ريحاً، لم يجز التطهر به، ويصبح الماء طاهراً بنفسه، غير مطهر لغيره.
والخلاصة: إن خالط الماء شيء طاهر، ولم يغير لونه أو طعمه أو ريحه، فهو ماء مطلق طهور، وإن غير أحد هذه الأوصاف الثلاثة فهو طاهر عند المالكية والشافعية والحنابلة، غير مطهر، وعند الحنفية: طاهر مطهر، ما لم يطبخ أو يغلب على أجزائه.(1/228)
والمالكية يلحقون بالتراب: كل أجزاء الأرض كالكبريت والحديد والنحاس فإنها لا تسلب طهورية الماء، إذا غيرت أحد أوصافه، ولو طرحت فيه قصداً. وقال الشافعية (1) : لا يضر تغير يسير بطاهر لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، ولو كان مشكوكاً في أن تغيره كثير أو يسير، لتعذر صون الماء عنه. ولا يضر متغير بمُكْث وإن فحش التغير، وطين وطُحْلُب (شيء أخضر يعلو الماء من طول المكث) ؛ وما في مقره وممره، ككبريت وزرنيخ ونُورة (كلس) ، لتعذر صون الماء عن ذلك؛ ولا يضر تغير بملح ماء، لا بملح جبلي، فيضر التغير به ما لم يكن بمقر الماء أو ممره؛ ولا تمنع الطهارة بملح انعقد من الماء، لأنه كان ماء في الأصل، فهو كالثلج إذا ذاب فيه.
ولا يضر تغير بورق شجر تناثر وتفتت واختلط بالماء، لتعذر صون الماء عنه؛ ولا يضر متغير بمجاور طاهر كعود ودهن، ولو مطيبين، وكافور صلب، أو بتراب ولو مستعملاً طرح فيه في الأظهر، لأن تغيره بغير التراب تروّح، وبالتراب كدورة لا تمنع اسم الماء عليه.
ومذهب الحنابلة (2) كالشافعية في عدم تأثر الماء بالمغير بطول مكث (وهو الماء الآجن الذي تغير بطول إقامته في مقره) (3) أو بالمقر والممر، أو بالمجاور، أو بريح ميتة إلى جانبه؛ لأن ذلك يشق الاحتراز عنه أو بملح مائي: وهو الماء الذي يرسل على الأرض السباخ، فيصير ملحاً؛ لأن المتغير به منعقد من الماء، فأشبه ذوب الثلج.
والخلاصة: إن الماء المتغير الذي لا يضر التوضؤ به أربعة أنواع:
1 - ما أضيف إلى محله ومقره، كماء النهر والبئر وأشباههما.
__________
(1) مغني المحتاج: 19/1، المهذب: 5/1.
(2) كشاف القناع: 25/1 ومابعدها، المغني: 13/1.
(3) لأنه عليه الصلاة والسلام توضأ بماء آجن.(1/229)
2 - ما لا يمكن التحرز عنه كالطحلب والخزّ (الشوك الأخضر) وسائر ما ينبت في الماء، وكذا ورق الشجر الذي يسقط في الماء أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء، كالكبريت والزفت وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف الماء فيها.
3 - مايوافق الماء في صفتيه: الطهارة والطهورية، كالتراب إذا غيَّر الماء، لا يمنع الطهورية؛ لأنه طاهر مطهر كالماء، فإن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء، لم تجز الطهارة به، لأنه طين وليس بماء، ولافرق في التراب بين وقوعه في الماء عن قصد أو غير قصد، وكذلك الملح البحري أو المائي، والمعدني، لأن هذا الأخير خليط مستغنى عنه غير منعقد من الماء، فهو كالزعفران وغيره.
4 - ما يتغير به الماء بمجاورته من غير مخالطة، كالدهن بأنواعه، ومثله القطران والزفت والشمع، والطاهرات الصلبة، كالعود والكافور والعنبر، إذا لم يتلف في الماء، ولم يمع فيه، أنه تغيير مجاورة، فأشبه ما لو تروح الماء بريح شيء في جانبه، ولا خلاف في هذا.
ولا خلاف بين العلماء في جواز التوضؤ بما خالطه طاهر لم يغيره، فإذا سقط شيء من الباقلا والحمص والورد والزعفران وغيره في ماء، وكان يسيراً، فلم يوجد له طعم ولا لون ولا رائحة كثيرة، جاز الوضوء به، لأنه «صلّى الله عليه وسلم اغتسل وزوجته من جفنة فيها أثر العجين» .
ب ـ الماء الطهور المكروه الاستعمال تنزيهاً عند الحنفية:(1/230)
هناك ماء طاهر مطهر مكروه استعماله تنزيهاً حال وجود غيره على الأصح عند الحنفية (1) : وهو الماء القليل الذي شرب منه حيوان مثل الهرة الأهلية، لا الوحشية إذ سؤرها (2) نجس، ومثل الدجاجة المخلاة (المتروكة تأكل القاذورات) وسباع الطير، والحية والفأرة؛ لأنها لا تتحامى عن النجاسة. وهذا عمل بمقتضى الاستحسان، تيسيراً على الناس بسبب مخالطة الناس للهرة، وتطوافها بهم، وللضرورة في سباع الطير لعدم إمكان التحرز عنها، وقد قرر النبي صلّى الله عليه وسلم طهارة سؤر الهرة، فقال: «إنها ليست بنجَس، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات» (3) ، وعن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان يُصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب، ثم يتوضأ بفضلها» (4) .
وتزول الكراهة إذا لم يوجد غير هذا الماء. وقال الشافعية بطهارة فم الهرة وطهارة سؤرها.
النوع الثاني ـ الماء الطاهر غير الطهور:
وحكمه عند الحنفية أنه يزيل الخبث، أي النجاسة عن الثوب والبدن، ولايزيل الحدث، فلا يصح الوضوء والغسل به، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها ـ الماء الذي خالطه طاهر غير أحد أوصافه الثلاثة وسلب طهوريته: وسالب الطهورية عند الحنفية هو غلبة غير الماء عليه إما في مخالطة الجامدات وإما في المائعات (5) .
والغلبة في الجامدات تكون بإخراج الماء عن رقته وسيلانه، أو
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 3.
(2) السؤر: الباقي من الماء في الإناء بعد شرب حيوان منه.
(3) رواه الخمسة عن كبشة بنت كلب بن مالك، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً البيهقي، وصححه البخاري والعقيلي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني (نيل الأوطار: 25/1) .
(4) رواه الدارقطني (المصدر والمكان السابق) وأصغى الإناء للهرة: أماله.
(5) مراقي الفلاح: ص3 - 4، فتح القدير: 48/1 ومابعدها.(1/231)
التي تزيل طبع الماء (وهو الرقة والسيلان والإرواء والإنبات) بالطبخ بنحو حِمّص وعدس، ولم يقصد به التنظيف كالصابون والأشنان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اغتسل بماء فيه أثر العجين، وكان يغتسل وهو جنب ويغسل رأسه بالخِطْمي (ورق يدق ويغسل به الرأس) ، وأمر النبي بغسل الذي وقَصَتْه (كسرته) ناقته، وهو مُحْرِم بماء وسِدْر (شجر النبق) ، وأمر قيس بن عاصم حين أسلم أن يغتسل بماء وسدر (1) .
والغلبة في المائع الذي لا وصف له كالماء المستعمل، وماء الورد المنقطع الرائحة: تكون إما بزيادة الوزن كأن اختلط رطلان من الماء المستعمل برطل من الماء المطلق أو بظهور وصفين من مائع له أوصاف ثلاثة، كالخل له لون وطعم وريح، فأي وصفين ظهرا منعا صحة الوضوء، ولا يضر ظهور وصف واحد لقلته، أو بظهور وصف واحد من مائع له وصفان فقط، كاللبن له اللون والطعم، ولا رائحة له.
الماء المشكوك في طهوريته عند الحنفية: وهو ما شرب منه حمار أو بغل. وهو عند الحنفية طاهر في نفسه، مشكوك في إمكان إزالة الحدث به، فمن لم يجد غيره توضأ به وتيمم، بسبب تعارض الأدلة في إباحته وحرمته أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته (2) .
وقال المالكية (3) : إن سالب الطهورية الذي يترتب عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث: هو كل طاهر يخالط الماء مما يفارقه غالباً، ويغير أحد أوصافه
__________
(1) نصب الراية:104/1، نيل الأوطار: 239/1، والحديث الأول رواه النسائي وابن ماجه والأثرم، والحديث الثاني رواه أحمد عن عائشة.
(2) فتح القدير والهداية: 78/1.
(3) الشرح الكبير: 37/1 ومابعدها، الشرح الصغير:31/1، القوانين الفقهية: ص 30 ومابعدها، بداية المجتهد: 26/1.(1/232)
(لونه أو طعمه أو ريحه) ، ولم يكن من أجزاء الأرض، ولا دابغاً لإنائه، ولا ما يعسر الاحتراز عنه. مثال ذلك الطاهر المفارق للماء غالباً الصابون وماء الورد والزعفران واللبن والعسل والزبيب المنبوذ في الماء، والليمون وروث الماشية ودخان شيء محروق، والحشيش، أو ورق الشجر أو التبن الواقع في بئر يسهل تغطيتها، والقطران الراسب في الماء لغير دباغ للوعاء والطحلب المطبوخ في الماء، والسمك الميت. فهذه الأمثلة إن غيرت أحد أوصاف الماء، جعلته طاهراً غير طهور. ومثلها المتغير الفاحش بآلة السقي، أو بإنائه، إذا كانا من غير أجزاء الأرض كإناء من جلد أو خشب، وحبل من كَتَّان أو ليف. فإن كان التغير يسيراً، أو استعمال القطران للدباغ، فلا يسلب الطهورية، ولا يضر.
وقال الشافعية (1) : الذي يسلب طهورية الماء، فيجعله غير صالح لرفع الحدث ولا لإزالة النجس به: هو كل مخالط طاهر يستغني الماء عنه، إذا غير أحد أوصافه (لونه أو طعمه أو ريحه) تغيراً كثيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه، ولم يكن المغير تراباً ولا ملحاً مائياً ولو طرحا قصداً. وذلك مثل الزعفران وماء الشجر والمني والملح الجبلي والتمر والدقيق والطحلب المطروح في الماء، والمنقوع في الماء من كتان أو عرق سوس، والقطران لغير دباغ، والماء المخلوط بنحو سدر أو صابون، فلا يصح الوضوء به كماء اللحم وماء الباقلا.
وسواء أكان التغير حسياً أم تقريرياً، فلو وقع في الماء مائع يوافقه في الصفات، كماء الورد المنقطع الرائحة، فلم يتغير، فلو قدرنا أن ماء الورد الواقع حل محله مخالف وسط، كلون العصير، وطعم الرمان، وريح اللاَّذَن (2) ، ثم غيَّره، لم يصر طهوراً.
__________
(1) مغني المحتاج: 18/1، المهذب: 5/1.
(2) اللاذن: نوع من العلوك يستعمل عطراً وداوء.(1/233)
وقال الحنابلة (1) : يسلب طهورية الماء أنواع منها: المستخرج بالعلاج، كماء ورد وزهر وبطيخ، إذا غلبت أجزاؤه على الماء؛ والطاهر الذي يغير اسم الماء حتى صار صبغاً أو خلاً؛ والطاهر الذي يغير أحد أوصاف الماء تغيراً كثيراً، بأن طبخ فيه كماء الباقلا والحمص، أو لم يطبخ كالزعفران والملح المعدني، أو طرحه فيه آدم عاقل قصداً كطحلب أو ورق شجر ونحوه، ففي كل ذلك لا يعد ماء مطلقاً، فلا يتوضأ به.
الماء المشتبه فيه: إذا اشتبه الطاهر من الماء أو الثياب بالنجس، تحرى الشخص واجتهد، كالاجتهاد في القبلة، وصلى بثوب منها، وتوضأ بأحد الماءين بما غلب على ظنه طهارته بعلامة واستعمله؛ لأن التطهر شرط من شروط الصلاة، وحل التناول والاستعمال والتوصل إلى ذلك ممكن بالاجتهاد، فوجب عند الاشتباه إن تعين طريقاً. وإذا أخبره بتنجسه ثقة أو كان فقيهاً اعتمده.
ثانيها ـ الماء المستعمل القليل:
والقليل: هو ما نقص عن القُلَّتين بأكثر من رطلين. والقلتان: خمس مئة رطل بغدادي تقريباً (500) وبالمصري (446و7/3) رطلاً (2) وبالشامي (81) رطلاً، والرطل الشامي: (2و2/1) كغ فيكون قدرهما (112،195كغ) وتساوي (10) تنكات (صفايح) وقيل: (15) تنكة أو (270) لتراً، وقدرهما بالمساحة في مكان مربع: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً بالذراع المتوسط. وفي المكان المدور كالبئر: ذراعان عمقاً، وذراع عرضاً. وقال الحنابلة: ذراعان ونصف عمقاً، وذراع طولاً.
__________
(1) المغني: 14/1 ومابعدها، كشاف القناع: 30/1.
(2) الرطل البغدادي: 128و7/4 درهم، والرطل المصري: 144 درهماً، وسعة الدرهم 3.17 غم.(1/234)
والمستعمل عند الحنفية (1) : هو الماء الذي استعمل لرفع حدث (وضوء أو غسل) أو لقربة (ثواب) كالوضوء ـ في مجلس آخر ـ على الوضوء بنية التقرب أو لصلاة الجنازة ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن. ويصير الماء مستعملاً بمجرد انفصاله عن الجسد، والمستعمل: هو الذي اتصل بالأعضاء، لا كل الماء. وحكمه عندهم أنه طاهر بنفسه غير مطهر لغيره من الحدث ويطهر الخبث أي أنه لا يزيل الحدث من وضوء وغسل، ويزيل النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن على الراجح المعتمد.
والمستعمل عند المالكية (2) : هو الماء الذي استعمل في رفع حدث (وضوء أو غسل) أو في إزالة خَبَث (عين النجاسة) ، سواء أكان الغسل واجباً كغسل الميت، أم غير واجب كالوضوء على الوضوء وغسل الجمعة والعيدين، والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، إذا لم يغيره الاستعمال.
والمستعمل في رفع الحدث: هو ما تقاطر من الأعضاء (3) ، أو اتصل بها، أو انفصل عنها وكان المنفصل يسيراً، أو غسلت فيه، فإن اغترف منه وغسلت الأعضاء خارجه فليس بمستعمل. والماء المستعمل: طاهر مطهر، ولا يكره على الأرجح استعماله مرة أخرى في إزالة النجاسة، أو في غسل إناء ونحوه، لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالات مندوبة مع وجود غيره، إذا كان يسيراً. وعلة الكراهة: أن النفوس تعافه.
والماء المستعمل عند الشافعية (4) : هو الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة
__________
(1) البدائع: 69/1 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 182/1 - 186، فتح القدير: 58/1،61
(2) الشرح الصغير: 37/1-40، الشرح الكبير مع الدسوقي: 41/1-43، القوانين الفقهية: ص 31، بداية المجتهد:26/1 ومابعدها.
(3) احترز بالماء عن التراب، فلا يكره التيمم عليه مرة أخرى لعدم تعلقه بالأعضاء.
(4) مغني المحتاج:20/1 ومابعدها، 85، المهذب: 5/1،8.(1/235)
عن حدث كالغسلة الأولى فيه، والأصح أن نفل الطهارة كالغسلة الثانية والثالثة طهور في المذهب الجديد. والمراد بفرضية الطهارة ولو صورة كوضوء الصبي، إذ لابد لصحة صلاته من وضوء.
ومن المستعمل: ماء قليل اغترف منه بدون نية الاغتراف عند إرادة غسل اليدين بأن يقصد نقل الماء من إنائه لغسلهما خارجه، فإن نوى الاغتراف بهما فهو طهور.
ومن المستعمل: ماء غسل بدل مسح من رأس أو خف، وماء غسل كافرة لتحل لحليلها المسلم، وماء غسل ميت، وماء غسل مجنونة لتحل لحليلها المسلم، ولا يصبح مستعملاً إلا إذا انفصل عن العضو.
والمستعمل الطاهر في إزالة النجاسة (وهو الغسالة) يشترط فيه شروط ثلاثة:
1 - أن يكون الماء وارداً على محل النجاسة إن كان قليلاً في الأصح لا كثيراً، لئلا يتنجس الماء، لو عكس الأمر، لأن الماء ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه.
2 - أن ينفصل طاهراً بحيث لم يتغير أحد أوصافه، وقد طهر المحل.
3 - ألا يزيد وزنه بعد اعتبار ما يأخذه الثوب من الماء ويعطيه من الوسخ الظاهر. فإذا تغير الماء أو زاد وزنه، أو لم يطهر المحل بأن بقي لون النجس وريحه معاً، أو طعمه وحده، ولم يعسر زواله، صار نجساً؛ لدلالة ذلك على بقاء عين النجاسة.
وحكم المستعمل: أنه طاهر غير طهور في المذهب الجديد، فلا يتوضأ أو يغتسل به، ولا تزال النجاسة به؛ لأن السلف الصالح كانوا لا يحترزون عن ذلك، ولا عما يتقاطر عليهم منه، وفي الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم عاد جابراً في مرض موته، فتوضأ وصب عليه من وضوئه» وكانوا مع قلة مياههم لم يجمعوا المستعمل للاستعمال ثانياً، بل انتقلوا إلى التيمم، ولم يجمعوه للشرب، لأنه مستقذر.
ويعفى عن يسير الماء المستعمل الواقع في الماء. فإن جمع الماء المستعمل فبلغ قلتين، فطهور في الأصح.(1/236)
والمستعمل عند الحنابلة (1) : هو المستعمل في رفع حدث أكبر (جنابة) أو أصغر (وضوء) ، أو إزالة نجاسة من آخر غسلة زالت بها النجاسة وهي الغسلة السابعة (2) كما هو المذهب، ولم يتغير أحد أوصاف الماء (لونه أو طعمه أو ريحه) .
ومن المستعمل: ما غسل به الميت؛ لأنه غسل تعبدي، لا عن حدث، ويصبح الماء مستعملاً: لو نوى الجنب أو المتوضئ رفع الحدث في ماء قليل، فإن لم ينو رفع الحدث أو نوى الاغتراف أو نوى إزالة الغبار أو التبرد أو العبث ظل الماء طهوراً. ومنه: الماء اليسير الذي غمس أو غسل به يد القائم من نوم الليل، وكان الشخص مسلماً عاقلاً بالغاً، وكان الغمس قبل غسل اليد ثلاثاً. ومنه الماء الذي يغمس فيه المسلم البالغ العاقل (غير الصبي والمجنون والكافر) يده كلها إلى الكوع، أي الزند. فلو غمس غير يده كالوجه والرجل لم يكن مستعملاً.
ولا يصير الماء مستعملاً إلا بعد انفصاله عن محل الاستعمال.
__________
(1) كشاف القناع:31/1 -37، المغني:15/1 ومابعدها، 18 - 22، 124.
(2) الغسلة الرابعة هي الطاهرة في الوضوء، والغسلة الثامنة في إزالة النجاسة بعد زوالها: هي الطاهرة عند الحنابلة؛ لأنه يشترط عندهم لإزالة النجاسة سبع غسلات.(1/237)
ويعفى عن يسير الماء المستعمل الواقع في الماء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتوضؤُون من الأقداح، ويغتسلون من الجفان، واغتسل النبي وعائشة من إناء واحد، تختلف
أيديهما فيه، كل واحد منهما يقول لصاحبه: أبق لي، ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء. فإن كثر الواقع وتفاحش لم تجز الطهارة به على الرواية الراجحة، وهو مذهب الشافعية أيضاً كما بينت، والمستعمل في طهارة مستحبة كتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، وغسل الجمعة والعيدين وغيرهما فيه روايتان: إحداهما: أنه كالمستعمل في رفع الحدث؛ لأنه طهارة مشروعة. والثانية وهي الراجحة: أنه طهور فلا يمنع الطهارة؛ لأنه لم يزل مانعاً من الصلاة، فأشبه ما لو تبرد به، ولا خلاف بين العلماء أن ما استعمل في التبرد والتنظيف طاهر طهور غير مكروه.
ولا يصير الماء اليسير مستعملاً إذا اغترف منه المتوضئ عند غسل يديه؛ لأن المغترف لم يقصد بغمس يده إلا الاغتراف دون غسلها، ولأن النبي عليه السلام فيما رواه سعيد عن عثمان اغترف من إناء: «ثم غرف بيده اليمنى، فصب على ذراعه اليمنى، فغسلها إلى المرفقين ثلاثاً» .
وحكم المستعمل: أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، كالشافعية.
وإن جمع الماء المستعمل فبلغ قلتين، ففيه وجهان: وجه: أنه على الأصل كما كان، ووجه: أنه طهور لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» (1) وإن اجتمع الماء المستعمل مع غير مستعمل فبلغ قلتين، صار الكل طهوراً.
ثالثها ـ ماء النبات من زهر أو ثمر، كماء الورد، أو الزهر، وماء البطيخ ونحوه من الفاكهة، طاهر غير مطهر.
__________
(1) رواه الخمسة والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي عن عبد الله بن عمر. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما (نيل الأوطار:30/1) .(1/238)
النوع الثالث ـ الماء النجس:
وهو الذي وقعت فيه نجاسة غير معفو عنها مثل قليل الأرواث، وكان الماء راكداً (غير جارٍ) قليلاً.
والقليل بالمساحة عند الحنفية (1) : ما دون عشر في عشر بذراع العامة. فينجس وإن لم يظهر أثر النجاسة فيه.
وأما إذا كان عشراً في عشر بحوض مربع، أو ستة وثلاثين في مدور، وكان عمقه بحال لا تنكشف أرضه بالغَرف منه، على الصحيح، فلا ينجس إلا بظهور وصف النجاسة فيه.
وأما الماء الجاري فينجس بظهور أثر النجاسة فيه، والأثر: طعم النجاسة أو لونها أو ريحها.
وبذلك يكون الماء المتنجس نوعين:
الأول ـ ما كان طهوراً قليلاً، ووقعت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه.
الثاني ـ ما كان طهوراً وقعت فيه نجاسة غيَّرت أحد أوصافه الثلاثة. واتفق العلماء على نجاسة النوع الثاني الذي تغيرت فيه أحد أوصاف الماء (طعمه أو لونه أو ريحه) كما أن الشافعية والحنابلة وافقوا الحنفية في نجاسة النوع الأول إلا ما يعفى عنه عند الشافعية كميتة ما لا دم له سائل مثل الذباب والنحل إذا وقع بنفسه أو ألقته الرياح.
وقال المالكية في أرجح الروايات بطهورية النوع الأول وهو الماء القليل الذي
وقعت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه، لكنه مكروه، مراعاة للخلاف (2) .
والمتنجس عند أكثر الفقهاء لا ينتفع به ولا يستعمل في طهار ة ولا في غيرها إلا في نحو سقي بهيمة أو زرع، أو في حالة الضرورة كعطش.
قلة الماء وكثرته:
اختلف الفقهاء في حد القلة والكثرة: فالكثرة عند أبي حنيفة: هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه، لم تسْرِ الحركة إلى الطرف الثاني منه (3) . والقلة: ما كان دون عشر في عشر من أذرعة العامة؛ كما تقدم.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 4.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي:37/1 ومابعدها،34، الشرح الصغير:31/1،36 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص30، بداية المجتهد:23/1، المهذب: 5/1-8، مغني المحتاج:21/1 ومابعدها. المغني:22/1-27، غاية المنتهي:9/1 ومابعدها، كشاف القناع: 37/1،39 ـ42،44 ومابعدها.
(3) فتح القدير:55/1.(1/239)
ولا حد لكثرة في مذهب المالكية فلم يحدوا لها حداً مقدراً، والماء اليسير المكروه: هو ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل، فما دونها. فإذا حلت فيه نجاسة قليلة كالقطرة، ولم تغيره، فإنه يكره استعماله في رفع حدث أو إزالة خبث، أو متوقف على طهارة كالطهارة المسنونة والمستحبة، ولا كراهة في استعماله في العادات.
والحد الفاصل عند الشافعية والحنابلة بين القليل والكثير: هو القلتان (1) ، من قُلال هجَر: وهو خمس قِرَب، في كل قربة مئة رطل عراقي، فتكون القلتان خمس مئة رطل بالعراقي.
فإذا بلغ الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة، جامدة أو مائعة، ولم تغير طعمه أو لونه، أو ريحه، فهو طاهر مطهر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبَث» قال الحاكم: على شرط الشيخين (أي البخاري ومسلم) ، وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد صحيح: «فإنه لا ينْجُس» وهو المراد بقوله: «لم يحمل الخبث» أي يدفع النجس ولا يقبله.
فإن وقعت النجاسة في مائع كثير غير مائع، ولو بمقدار قلتين فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، لأن الماء يشق حفظه عن النجس، بخلاف غيره وإن كثر.
__________
(1) القلة: هي الجرة، سميت قلة لأنها تقل بالأيدي أو تحمل.(1/240)
وإن تغير أحد أوصاف الماء الكثير (القلتين) ، ولو تغيراً يسيراً، فنجس بالإجماع المخصص لحديث القلتين ولحديث الترمذي وابن حبان: «الماء لا ينجسه شيء» (1) ، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت للماء طعماً أو لوناً أو رائحة، أنه نجس، ما دام كذلك. وقد روى أبو إمامة الباهلي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه، لكنه حديث ضعيف (2) .
وأرجح رأي الشافعية والحنابلة في الأخذ بحديث القلتين الثابت الصحيح، وإن أعله الحنفية بالاضطراب وتعارض الروايات، إذ في رواية: «إذا بلغ ثلاث قلال» وفي رواية «قلة» كما أعلوه بجهالة قدر القلة، وقد أجاب الشافعية عن هذا كله (3) .
__________
(1) انظر نصب الراية:95/1، قال ابن حبان: وهذا مخصوص بحديث القلتين، وكلاهما (هذا والحديث الآتي) مخصوص بالإجماع أن الماء المتغير بنجاسة ينجس، قليلاً كان الماء أو كثيراً.
(2) نصب الراية:94/1
(3) سبل السلام:19/1(1/241)
المبحث الخامس ـ حكم الأسآر والآبار:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ حكم الأسآر:
الأسآر: جمع سؤر، والسؤر: البقية والفضلة، واصطلاحاً: هو بقية الماء في الإناء أو في الحوض بعد شرب الشارب منه. ثم استعير لبقية الطعام.
واتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عداها اختلافاً كثيراً.
فحكم السؤر بسبب مخالطة لعاب الشارب له عند الحنفية (1) : يختلف بحسب طهارة أو نجاسة لحم الشارب، فسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه من الحيوان طاهر، وسور الكلب نجس، وقد يكون السؤر مكروهاً، أو مشكوكاً فيه، فتكون الأسآر عند الحنفية أربعة أنواع: طاهر، ومكروه، ومشكوك فيه، ونجس كما يتبين مما يأتي:
1 ً - سؤر طاهر مطهر بلا كراهة: وهو الذي شرب منه الآدمي، أو حيوان مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم، والفرس في الأصح، ونحوها، ما لم تكن جلالة (تأكل الجلة) ولا في حال اجترارها إن كانت من الحيوانات المجترة؛ لأن الماء المختلط به اللعاب أثناء الشرب قد تولد من لحم طاهر، فيكون طاهراً.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:205/1 ومابعدها،297، فتح القدير:74/1 ومابعدها، تبيين الحقائق:31/1(1/242)
ولا فرق بين أن يكون الآدمي صغيراً أو كبيراً، مسلماً أو كافراً، جنبا ً أو حائضاً، إلا أن يشرب الكافر خمراً فينجس فمه، إذا شرب عقب الخمر فوراً من إناء، أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه، ثم شرب لا ينجس (1) .
ودليل طهارة سؤر الآدمي مطلقاً: ما رواه أبو هريرة قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس» (2) . وروى مسلم عن عائشة قالت: «كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي صلّى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ» . وروى البخاري أنه عليه الصلاة والسلام شرب اللبن، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر، ثم أعطى الأعرابي، فقال: الأيمن فالأيمن.
2 ً - سؤر طاهر مكروه تنزيهاً استعماله مع وجود غيره: وهو سؤر الهرة، والدجاجة المخلاة (3) ، والإبل والبقر الجلالة (أي التي تأكل النجاسة إذا جهل حالها) ، وسباع الطير كالصقر والنسر والشاهين والحدأة والغراب، وسواكن البيوت كالحية والفأرة، ما لم تر النجاسة في فمها، لأنها تلازم التطواف في المنازل، أو للضرورة، وعدم إمكان الاحتراز منها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصغي (يميل) للهرة الإناء، فتشرب منه، ثم يتوضأ به (4) .
3 ً - سؤر مشكوك في طهوريته لا في طهارته: وهو سؤر البغل والحمار الأهلي، فيتوضأ به أو يغتسل، ثم يتيمم بعدئذ أو يقدم أيهما شاء، احتياطاً بالنسبة لصلاة واحدة. وسبب الشك: هو تعارض الأدلة في إباحة لحمه وحرمته، أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته، أو للتردد في توافر الضرورة والبلوى المسقطتين للنجاسة، وذلك بسبب ربط هذا الحيوان في الدور وشربه من الأواني المستعملة، ومخالطة الناس له بالركوب عليه، فالمذهب عند الحنفية: طهارة لعاب البغل والحمار قطعاً، والشك في الطهورية.
أما تعارض الأدلة في الإباحة والحرمة: فقد ورد في شأن حرمة لحمه حديثان:
1ً - حديث أبجر بن غالب، قال: «يا رسول الله، أصابتنا سَنَة (جدب وقحط) ، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سِمان حُمُر، وإنك حرمت الحُمُر الأهلية؟ فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك (5) » .
2ً - وحديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، أكلت الحمر، فسكت، ثم أتاه الثانية، فقال: أكلت الحمر، فسكت، ثم أتاه الثالثة، فقال: أفنيت الحمر، فأمر منادياً ينادي في الناس: «إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية» وفي رواية: «فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور باللحم» (6) .
__________
(1) ومثل ذلك: لو أصاب عضو الكافر نجاسة ثم لحسها بفمه، حتى لم يبق أثرها، أوقاء الصغير على ثدي أمه، ثم مصه حتى زال الأثر، طهر.
(2) رواه مسلم. وروي أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم لقي حذيفة، فمد يده ليصافحه، فقبض يده، وقال: إني جنب، فقال عليه السلام: «المؤمن لاينجس» .
(3) هي المرسلة التي تخالط النجاسات. أما التي تحبس في بيت وتعلف فلا يكره سؤرها، لأنها لاتأكل إلا الحب.
(4) رواه الدارقطني من طريقين عن عائشة رضي الله عنها (نصب الراية:133/1) .
(5) رواه أبو داود
(6) رواه البخاري(1/243)
وأما اختلاف الصحابة في الطهارة والنجاسة: فعن ابن عمر نجاسته، وعن ابن عباس طهارته.
والحق أن رواية حديث أنس أصح، وأن لحم الحمير محرم بلا إشكال وأنه إذا تعارض المحرم والمبيح، يقدم المحرم، سواء بالنسبة للحديثين أم للاجتهادين عن الصحابة، والأصح أن دليل الشك هو التردد في الضرورة، فإن الحمار يربط في الدور والأفنية، إلا أنها دون ضرورة الهرة والفأرة، لدخولهما المضايق، دون الحمار، فوقع الشك في الطهورية، فهو نجس من وجه لنجاسة لعابه، طاهر من وجه لوجود نوع من الضرورة، وسرى الشك إلى سؤره، فهذا سبب الشك، لا أن السبب هو الإشكال في حرمة لحمه، ولا اختلاف الصحابة في سؤره.
4 ً - سؤر نجس نجاسة مغلظة، لا يجوز استعماله بحال إلا للضرورة كأكل الميتة: وهو ما شرب منه كلب أو خنزير أو سباع البهائم كالأسد والفهد والذئب والقرد والنمر والضبع.
أما الكلب، فلقوله عليه السلام: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» (1) فلما تنجس الإناء، فالماء أولى، وهذا يفيد النجاسة.
وأما الخنزير، فلأنه نجس العين، لقوله تعالى: {فإنه رجس} [الأنعام:145/6] ، وأما سباع البهائم، فلأن لحمها نجس، ولعابها المخالط للماء يتولد من لحمها، فيتنجس الماء.
وقال المالكية (2) :
1 ً - سؤر ابن آدم: إن كان مسلماً لا يشرب الخمر، فسؤره طاهر مطهر بإجماع. وإن كان كافراً أو شارب خمر: فإن كان في فمه نجاسة فهو كالماء الذي خالطته النجاسة. وإن لم يكن في فمه نجاسة، فهو طاهر مطهر، وهو رأي الجمهور.
لكن يكره عند المالكية سؤر شارب خمر مسلم أو كافر شك في فمه، كما يكره ما أدخل يده فيه، لأنه كماء حلته نجاسة ولم تغيره.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان (متفق عليه) عن أبي هريرة ولأحمد ومسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (نيل الأوطار:36/1) .
(2) القوانين الفقهية: ص31، بداية المجتهد:27/1 -30، الشرح الصغير:43/1، الشرح الكبير:43/1-44.(1/244)
2 ً - سؤر ما يستعمل النجاسة: كالهرة والفأرة، فإن رئي في أفواهها نجاسة، كان كالماء الذي خالطته النجاسة، فإن تحقق طهارة أفواهها، فطاهر، وإن لم يعلم فيغتفر ما يعسر التحرز عنه، لكنه مكروه، وفي تنجيس ما يتحرز منه قولان (1) ، أرجحهما: القول بالطهارة.
3 ً - سؤر الدواب والسباع طاهر، لكنه يكره سؤر حيوان لا يتوقى نجساً كطير.
4 ً - سؤر الكلب والخنزير طاهر، وغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات من ولوغه في الماء إنما هو عبادة. وفي غسل الإناء الذي شرب منه الخنزير سبعاً: قولان.
وقال الشافعية والحنابلة (2) :
1 ً - سؤر الآدمي طاهر، سواء أكان مسلماً أم كافراً، وهذا متفق عليه بين العلماء، كما بينا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس» .
2 ً - سؤر الحيوان المأكول اللحم طاهر، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والتوضؤ به.
3 ً - سؤر الهر والفأر وابن عُرْس ونحوها من حشرات الأرض كالحيات وسام أبرص: طاهر، يجوز شربه والتوضؤ به، ولا يكره عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، إلا أبا حنيفة، فإنه كره الوضوء بسؤر الهر، كما أوضحنا فإن فعل أجزأ.
__________
(1) روى قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين» وقرة ثقة عند أهل الحديث. وروى مالك من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال عن الهرة: «إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات» .
(2) المجموع:227/1، المغني:46/1ـ51، مغني المحتاج:83/1، كشاف القناع:221/1.(1/245)
4 ً - سؤر جميع الحيوانات من الخيل والبغال والحمير والسباع المأكول لحمه وغير المأكول، طاهر، وهي الرواية الراجحة عند الحنابلة، لحديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها» (1) ، ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة، فكان طاهراً كالشاة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم وصحبه كانوا يركبون البغل والحمار، فلو كان نجساً لبين النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك، ولأنهما لا يمكن التحرز عنهما لمقتنيهما، فأشبها الهر. وقول النبي عن الحمر يوم خيبر: «إنها رجس» أراد أنها محرمة الأكل.
5 ً - سؤر الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما: نجس لقولهصلّى الله عليه وسلم في الكلب: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات أولهن بالتراب» (2) ، والخنزير كالكلب، لأنه أسوأ حالاً منه. وأما المتولد فحكمه حكم أصله؛ لأنه يتبع أخسهما في النجاسة.
وهذا المذهب هو الراجح، أما قول المالكية بالغسل تعبداً فلا يفهم، لأن الأصل وجوب الغسل من النجاسة، بدليل سائر أنواع الغسل، ولو كان الأمر بالغسل تعبداً لما أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بإراقة الماء، ولما اختص الغسل بموضع الولوغ، لعموم اللفظ في الإناء كله.
__________
(1) رواه الشافعي في مسنده.
(2) رواه مسلم، وفي رواية صححها الترمذي: «أولاهن أو أخراهن بالتراب» وفي رواية أبي داود: «السابعة بالتراب» أي بأن يصاحب السابعة.(1/246)
المطلب الثاني ـ حكم الآبار:
الكلام في الآبار المتنجسة يشبه الكلام في الماء الذي خالطته نجاسة، ولا فرق بين الأمرين عند الجمهور، وفرق الحنفية بينهما في بعض الأحوال.
فقال المالكية (1) : إذا وقعت دابة نجسة في بئر، وغيرت الماء، وجب نزح جميعه. فإن لم تغيره استحب أن ينزح منه بقدر الدابة والماء.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : الماء الراكد والجاري سواء في التفرقة بين القليل والكثير، فما دون القلتين وهو القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة المؤثرة، وإن لم يتغير. وأما الكثير وهو القلتان فأكثر، فلا ينجس بملاقاة نجس جامد أو مائع إن لم يتغير الماء، وإن غيره فنجس.
وبناء عليه قال الشافعية: إذا أريد تطهير الماء النجس نظر: فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين، طهر، بأن يزول التغير بنفسه، أو بأن يضاف إليه ماء آخر، أو بأن يؤخذ بعضه، لأن النجاسة بالتغير وقد زال.
وقال الحنابلة: المصانع أو البرك التي يجتمع فيها ماء كثير، لا تتنجس بشيء من النجاسات ما لم تتغير، أي يتغير لونها أو طعمها أو ريحها، فإن تغيرت بنجاسة كبول آدمي أو عذرته المائعة، نزحت، ولم يقدرا مقداراً معيناً للماء المنزوح، ثبت عن علي رضي الله عنه بإسناد صحيح «أنه سئل عن صبي بال في بئر، فأمرهم أن ينزفوها» ومثل ذلك عن الحسن البصري. وسئل أحمد عن بئر بال فيها إنسان، قال: تنزح حتى تغلبهم. قلت: ما حده؟ قال: لا يقدرون على نزحها. أي فهم في نزح جميع ماء البئر كالمالكية.
واتفق الحنفية (3) مع الجمهور على أن الماء الكثير (وهو عشر في عشر) (4) لاينجس إلا بظهور أثر النجاسة فيه، وأما الماء القليل فيتنجس ولو لم تتغير أوصافه. وقدروا استحساناً مقادير معينة في نزح ماء البئر القليل، على النحو التالي:
أولاً ـ حالة بقاء الواقع في البئر حياً:
إذا سقط آدمي أو حيوان في بئر، وبقي حياً:
لا ينجس البئر بوقوع آدمي فيه أو حيوان مأكول اللحم إذا خرج حياً، ولم يكن على بدنه نجاسة. فإن كان عليه نجاسة تنجس الماء لوجود النجاسة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص35.
(2) المجموع:178/1-184، مغني المحتاج:21/1-24، المغني:39/1-41.
(3) تبيين الحقائق:28/1 ـ30، الدر المختار ورد المحتار:194/1 ومابعدها، فتح القدير:68/1 وما بعدها، مراقي الفلاح: ص5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب:30/1 -33.
(4) أي أن مساحة الماء الكثير هي بمقدار عشرة أذرع طولاً، وعشرة أذرع عرضاً.(1/247)
وينجس البئر إذا وقع فيه خنزير، أو وصل إليه لعاب الكلب، أما لعاب سائر أنواع الحيوان غير المأكول اللحم كلعاب بغل وحمار وسباع طير ووحش إذا وصل إلى الماء، فيأخذ فيه الماء في الصحيح حكم الحيوان طهارة، وكراهة ونجاسة، فينزح بالنجس والمشكوك فيه وجوباً، ويستحب في المكروه عدد من الدلاء، كما سيأتي. والنجس: هو سباع الوحش أو البهائم كالأسد والذئب، والمكروه: هو سباع الطير كالنسر والصقر، والمشكوك فيه: هو البغل والحمار.
وقال الحنابلة (1) : إذا وقعت الفأرة أو الهر ونحوهما في مائع أو ماء يسير، ثم خرجت حية، فهو طاهر.
ثانياً ـ حالة موت الإنسان أو الحيوان في البئر:
أـ إذا مات الإنسان في البئر ينجس الماء عند الحنفية، لأن ابن عباس وابن الزبير أفتيا بمحضر من الصحابة بنزح ماء زمزم بموت زنجي فيه (2) .
وهذا مخالف لرأي غير الحنفية (3) الذين يقولون بطهارة ماء البئر بموت الآدمي، ولو كان كافراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن لاينجس» (4) .
ب ـ إذا كان الحيوان برياً غير مائي كشاة وكلب ودجاجة وهرة وفأرة ومات في البئر، فإنه ينجس.
جـ ـ ولا ينجس البئر بموت حيوان لا دم له سائل كذباب وصرصور وخنفساء وزُنبور وبق وعقرب، أو بموت حيوان مائي كسمك وضفدع وتمساح وسرطان وكلب ماء وخنزيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء» رواه البخاري، وزاد أبو داود: «وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء» (5) ولقوله عليه السلام: «يا سلمان، كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله، وشربه، ووضوؤه» .
__________
(1) المغني:52/1.
(2) راجع نصب الراية:129/1.
(3) المغني:46/1.
(4) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن حذيفة بن اليمان بلفظ «إن المسلم لاينجس» ، وقال ابن عباس: «المسلم لاينجس حياً ولا ميتاً» (نيل الأوطار:20/1،56) .
(5) رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار:20/1،56) .(1/248)
ثالثاً ـ حالة وقوع النجاسة في الماء:
أـ تنجس البئر الصغيرة بوقوع نجاسة فيها، وإن قلت، كقطرة دم وقطرة خمر، وبول وغائط، وينزح ماء جميع البئر، بعد إخراج عين النجاسة، وتطهر البئر والدلو والرشاء (الحل) والبكرة، ويد المستقي.
ب ـ ولا تنجس البئر بالبعر (للإبل والغنم) والروث (للفرس والبغل والحمار) والخنثِي (للبقر) إلا أن يستكثره الناظر أو ألا يخلو دلو عن بعرة ونحوها. وأما القليل فهو ما يستقله الناظر.
وذلك بدليل ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم بحجرين وروثة، فأخذ الحجر، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس» (1) .
ولا تنجس البئر بخُرْء حمام وعصفور ونحوها مما يؤكل من الطيور غير الدجاج والإوز والبط، استحساناً؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه مسح خرء الحمامة عنه بإصبعه.
والأصح أنه لا ينجس البئر بخرء الطيور غير المأكولة اللحم، مثل سباع الطير، لتعذر صونها، أي البئر عنه أي عن الخرء.
وقال الشافعية: روث جميع البهائم والطيور نجس، لأنه ركس، والركس: النجس.
وقال المالكية والحنابلة (2) : روث وبول الحيوان المأكول طاهر، وروث وبول محرم الأكل نجس.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن مسعود (نيل الأوطار:98/1) والركس: النجس.
(2) القوانين الفقهية: ص 33.(1/249)
مقدار الماء الواجب نزحه:
1 - يجب نزح ماء البئر كله أو مئتا دلو لو لم يمكن نزح البئر، إذا مات آدمي فيه، أو حيوان كبير مثل البغل والحمار والكلب أو الشاة ونحوها، أو إن انتفخ الحيوان في البئر أو تفسخ، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، أو كانت الفأرة هاربة من الهرة أو مجروحة، وإن خرجت حية، أو كانت الهرة هاربة من الكلب أو مجروحة، لأن الفأرة والهرة تبول في هذه الحالة، والبول والدم نجاسة مائعة.
2 - وينزح ما بين أربعين دلواً إلى ستين دلواً إذا كان الحيوان ذا حجم متوسط، مثل الحمامة والدجاجة والسنور (الهر) . والأظهر ما ذكر في الجامع الصغير: وهو أربعون أو خمسون دلواً، وفي الاثنين من هذه الحيوانات ينزح الماء كله. والأربعون واجب والخمسون مستحب.
3 - وينزح من البئر عشرون دلواً أو ثلاثون بحسب كُبْر الدلو وصُغْرها (1) ، إذا مات فيها حيوان صغير كالعصفور والفأر وسام أبرص ونحوها. ونزح العشرين واجب، والثلاثين مستحب أي أنه إذا كان الواقع كبيراً والبئر كبيرة فالعشرة مستحبة، وإن كانا صغيرين فالاستحباب دون ذلك، وإن كان أحدهما صغيراً والآخر كبيراً، فخمس مستحبة، وخمس دونها في الاستحباب.
هذا وقد روي عن أنس أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها: ينزح منها عشرون دلواً. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر: ينزح منها أربعون دلواً (2) .
__________
(1) هذا ماجاء في الهداية، والمذكور في الكتاب للقدوري: بحسب كبر الحيوان وصغره.
(2) راجع الأثرين في نصب الراية:128/1.(1/250)
حجم الدلو: المعتبر في حجم الدلو: دلو تلك البئر، فإن لم يكن فالمعتبر دلو: يسع صاعاً، أي حوالي (2و2/1) كغ أو (75،2) ليتراً، وغير هذا الدلو المذكور، بأن كان أصغر أو أكبر يحتسب به، فلو نزح القدر الواجب بدلو واحد كبير، أجزأ، في ظاهر المذهب الحنفي، لحصول المقصود.
ويكفي ملء أكثر الدلو، كما يكفي نزح الموجود في البئر ولو كان دون القدر الواجب.
ويمكن تطهيرها بتغويرها أي بفتح مصرف أو حفر منفذ يخرج منه بعض الماء. وإذا وجد في الماء حيوان ميت، فيحكم بموته من يوم وليلة إذا لم يكن منتفخاً، ومن ثلاثة أيام بلياليها إذا كان منتفخاً، فيلزم إعادة صلوات تلك المدة إن توضؤوا منها عن حدث، وغسلوا الثياب وكل شيء أصابه ماؤها.
المبحث السادس ـ أنواع الأعيان الطاهرة:
جميع ما في الكون إما جماد، أو حيوان، أو فضلات. والأصل في الأشياء الطهارة، ما لم تثبت نجاستها بدليل شرعي. والفقهاء متقاربون في الحكم بطهارة الأعيان، فاتفقوا على أن الجماد (وهو كل جسم لم تحله الحياة ولم ينفصل عن حي) (1) كله طاهر إلا المسكر، فجميع أجزاء الأرض الجامدة والمائعة وما تولد منها طاهرة، ومن الجامد: المعادن كالذهب والفضة والحديد ونحوها، وجميع أنواع النبات ولو كان ساماً أو مخدرا ً كالحشيش والأفيون والبنج، ومن المائع: المياه والزيوت وعسل القصب وماء الأزهار والطيب والخل. واتفقوا أن كل جاف طاهر، وأن نافجة (وعاء) المسك طاهر كالمسك، وأن الزبَاد والعنبر (2) طاهر، وأن شعر الحيوان المأكول طاهر، وأن الخمر المتخللة بنفسها طاهرة.
__________
(1) أما المنفصل عن الحي كالبيض والسمن وعسل النحل فليس من الجماد، لانفصاله عنه، وهو طاهر.
(2) الزباد: مادة عطرة تتخذ من دابة كالسنور هي أكبر منه قليلاً. والعنبر: يقال: إنه روث دابة بحرية.(1/251)
كما اتفقوا على طهارة الحيوان المذكى ذكاة شرعية، وعلى طهارة ميتة السمك والجراد، وعلى طهارة ميتة الآدمي ولو كافراً إلا الحنفية، فقالوا بنجاستها؛ لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الأسراء:70/17] ، وتكريمهم يقتضي طهارتهم ولو أمواتاً، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المسلم ـ أي يحكم الغالب ـ لا ينجس» . أما قوله: {إنما المشركون نجس} [التوبة:28/9] ، فيراد به نجاسة الاعتقاد، أو أن اجتنابهم كالنجس، لا نجاسة الأبدان.
واختلفوا في أشياء، فقال الحنفية (1) : كل شيء من أجزاء الحيوان غير الخنزير لا يسري فيه الدم من الحي والميت المأكول وغير المأكول حتى الكلب: طاهر، كالشعر، والريش المجزوز، والإنفحة الصلبة (2) ، والمنقار والظلف، والعصب على المشهور، والقرن والحافر، والعظم ما لم يكن به دسم (وَدَك) ؛ لأنه نجس من الميتة، فإذا زال عن العظم زال عنه النجس، والعظم في ذاته طاهر، لما أخرج الدارقطني: «إنما حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الميتة لحمها، فأما الجلد والشعر والصوف، فلا بأس به» . ويدخل فيه شعر الإنسان غير المنتوف، وعظمه وسنه مطلقاً على المذهب، أما الشعر المنتوف فنجس، لأن كل ما أبين من الحي فهو كميتته.
وأما دمع الحي وعرقه ولعابه ومخاطه فكالسؤر طهارة ونجاسة، والمذهب طهارة لعاب بغل وحمار، وكراهة لعاب سباع الطير وسواكن البيوت كالفأرة والعقرب والهرة ونحوها، ونجاسة لعاب وسؤر الخنزير والكلب وسائر سباع الوحش.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص26،28، الدر المختار: 154/1،188-193،295،323، البدائع:61/1-65.
(2) الإنفحة شيء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر، يعصر في صوفة ويغلظ به الجبن. والإنفحة الصلبة متفق على طهارتها، أما الإنفحة المائعة واللبن في ضرع الميتة فطاهران عند أبي حنيفة، نجسان عند الصاحبين، والأظهر قولهما كما أوضح ابن عابدين.(1/252)
ولعاب الآدمي كسؤره طاهر، إلا في حال شرب الخمر لنجاسة فمه، ويطهر فمه بالغسل أو شرب الماء من ساعته، أو بابتلاع بزاقه ثلاث مرات.
ورطوبة الفرج طاهرة عند الإمام خلافاً لصاحبيه: وهي رطوبة الولد عند الولادة، ورطوبة الخلة (الخل) إذا خرجت من أمها، وكذا البيضة، فلا يتنجس بها الثوب ولا الماء، لكن يكره التوضؤ به. وميتة الحيوان البري الذي ليس له دم سائل كالذباب والسوس والنمل والعقرب والزنبور والبرغوث: طاهرة.
وخرء الطيور المأكولة اللحم التي تذرق في الهواء كالحمام والعصفور والعَقْعق (القاق) ونحوها: طاهر، لأن الناس اعتادوا اقتناء الحمامات في المسجد الحرام والمساجد الجامعة، مع علمهم أنها تذرق فيها، ولو كان نجساً لما فعلوا ذلك، مع الأمر بتطهير المسجد في قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين} [البقرة:125/2] ، وروي عن ابن عمر: «أن حمامة ذرقت عليه، فمسحه وصلى» وعن ابن مسعود مثل ذلك في العصفور.
وكذلك خرء ما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي والحدأة ونحوها، طاهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، للضرورة المتحققة، لأنها تذرق في الهواء، فيتعذر صيانة الثياب والأواني عنها.
ودم السمك طاهر عند أبي حنيفة ومحمد، لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه، ولو كان نجساً لما أبيح، ولأنه ليس بدم حقيقة، بل هو ماء تلون بلون الدم؛ لأن الدموي لا يعيش في الماء. والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم. ولو لف ثوب جاف طاهر في ثوب نجس رطب لاينعصر الرطب لو عصر، لا ينجس، كما لا ينجس ثوب رطب نشر على أرض نجسة يابسة، فتندت الأرض منه ولم يظهر أثرها فيه. ولا ينجس الثوب بريح هبت على نجاسة، فأصابت الريح الثوب، إلا أن يظهر أثر النجاسة فيه.(1/253)
وقال المالكية (1) : كل حي ولو كلباً وخنزيراً طاهر ولو أكل نجساً، وكذا عَرَقه ودمعه، ومُخَاطه، ولعابه الخارج من غير المعدة (2) ، وبيضه، إلا البيض المَذِر وما خرجه بعد موته، والبيض المذر: وهو ما تغير بعفونة أو زرقة، أو صار دماً: نجس، بخلاف الممروق: وهو ما اختلط بياضه بصفاره من غير نتونة. وما خرج من الحيوان من بيض أو مخاط أو دمع أو لعاب بعد موته بلا ذكاة شرعية، يكون نجساً، إذا كانت ميتة الحيوان نجسة.
ومن الطاهر: بَلْغم: وهو ما يخرج من الصدر منعقداً كالمخاط، وكذا ما يسقط من الدماغ من آدمي أو غيره.
ومنه: الصفراء: وهي ماء أصفرملتحم، يخرج من المعدة يشبه الصبغ الزعفراني، لأن المعدة عندهم طاهرة، ما لم يستحل إلى فساد كالقيء المتغير.
ومن الطاهر: ميتة الآدمي، ولو كان كافراً على الصحيح، وميتة ما لا دم له من جميع هوام الأرض، كعقرب وجندب وخنفس، وجراد، وبرغوث، بخلاف ميتة القمل، والوزغ (غراب الزرع) والسحالي من كل ماله لحم ودم، تكون نجسة، ولكن لا يؤكل الجراد إلا بما يموت به من ذكاة ونحوها. أما دود الفاكهة والمِش (الجبن المعتق في اللبن والملح) ، فيؤكل قطعاً ولو بدون ذكاة. ويعفى عن القملتين والثلاث للمشقة.
ومنه: ميتة الحيوان البحري من السمك وغيره، ولو طالت حياته بالبر كتمساح وضفدع وسلحفاة بحرية، ولو على صورة الخنزير والآدمي.
ومنه: جميع ما ذُكِّي بذبح أو نحر أو عقر من غير مُحَّرم الأكل. أما محرم الأكل كالخيل والبغال والحمير، فإن الذكاة لا تطهره على مشهور المذهب (3) كما قرر الدردير والصاوي، وكذا الكلب والخنزير لا تطهره الذكاة، فتكون ميتة ما ذكر نجسة، ولو ذكي.
__________
(1) الشرح الكبير:48/1 ومابعدها، الشرح الصغير:43/1 ومابعدها، بداية المجتهد:74/1.
(2) أما الخارج من المعدة فنجس. وعلامته أن يكون أصفر منتاً.
(3) أما مكروه الأكل كسبع وهر: فإن ذكي لأكل لحمه طهر جلده تبعاً له، وإن ذكي بقصد أخذ جلده فقد طهر ولايؤكل لحمه لأنه ميتة بناء على تبعيض الذكاة وهو الراجح (الشرح الكبير: 49/1) .(1/254)
ومن الطاهر: الشعر والوبر والصوف ولو من خنزير، وكذا زغب الريش: وهو ما اكتنف القصبة من الجانبين.
ومنه: الجماد إلا المسكر، كما بينت في الأعيان المتفق على طهارتها، أما المسكر فنجس سواء أكان خمراً أم من نقيع الزبيب أو التمر ونحوه. وأما المخدر كالحشيشة والأفيون والسيكران، فطاهر لأنه من الجماد، ويحرم تعاطيه لتغييبه العقل، ولايحرم التداوي به في ظاهر الجسد.
ومنه: لبن الآدمي ولو كافراً، ولبن غير محرم الأكل، ولو مكروهاً كالهر والسبع، أما لبن محرم الأكل كالخيل والبغال والحمير فهو نجس. ومنه: فضلة الحيوان المباح الأكل، من روث وبعر وبول وزبل دجاج وحمام وجميع الطيور، مالم يستعمل النجاسة؛ فإن استعملها أكلاً أو شرباً، ففضلته نجسة.
والفأرة من المباح أكله، ففضلتها طاهرة، إن لم تصل للنجاسة، ولو شكاً؛ لأن شأنها استعمال النجاسة كالدجاج. بخلاف الحمام، فلا يحكم بنجاسة فضلته، إلا إذا تحقق أو ظن استعمالها للنجاسة.
ومن الطاهر: مرارة المذكَّى غير محرم الأكل من مباح أو مكروه. والمراد بها: الماء الأصفر الكائن في الجلدة المعلومة للحيوان. ومنه: القَلَس: وهو ما تقذفه المعدة من الماء عند امتلائها. والقيء طاهر ما لم يتغير عن حالة الطعام بحموضة أو غيرها، فإن تغير فنجس.
ومنه: المسك وفأرته: وهي الجلدة المتكون فيها. وكذا الخمر إذا خلل بفعل فاعل أو حُجِّر أي صار كالحجر في اليبس أو تخلل بنفسه أو تحجَّر بنفسه، ويطهر معه وعاؤه وما وقع فيه. ومنه: زرع سقي بنجس، لكن يغسل ظاهره المتنجس.
ومن الطاهر: رماد النجس، كالزبل والروث النجسين، والوقود المتنجس فإنه يطهر بالنار. وكذا دخان النجس طاهر على المعتمد.(1/255)
ومنه: الدم غير المسفوح، أي الجاري من المذكى: وهو الباقي بالعروق، أو في قلب الحيوان، أو ما يرشح من اللحم؛ لأنه كجزء المذكى، وكل مذكى وجزئه طاهر. لكن ما بقي على محل الذبح هو من باقي المسفوح،: نجس، وكذا ما يوجد في بطن المذبوح من الدم بعد السلخ: نجس، لأنه جرى من محل الذبح إلى البطن، فهو من المسفوح.
وقال الشافعية (1) : الحيوان كله طاهر إلا الكلب والخنزير وفرع كل منهما، والجماد كله طاهر إلا المسكر.
والعلقة (دم غليظ) والمضغة (لحمة صغيرة) ورطوبة الفرج (وهي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق) من كل حيوان طاهر، ولو غير مأكول، من آدمي أو غيره: طاهرة. ومن الطاهر: لبن المأكول، ولو ذكراً صغيراً ميتاً، وإنفحته (2) إن أُخذت منه بعد ذبحه، ولم يطعم غير لبن ولو نجساً. ومترشح كل حيوان طاهر كعرق ولعاب ومخاط وبلغم، إلا المتيقن خروجه من المعدة. وماء قروح ونَفَط (بثور) لم يتغير، والبيض المأخوذ من حيوان طاهر ولو من ميتة إن كان متصلباً، ولو من غير مأكول، ولو استحالت البيضة دماً، وبزر القز: وهو البيض الذي يخرج منه دود القز.
ومنه ميتة الحيوان البحري وإن لم يسمَّ سمكاً إلا التمساح والضفدع والحية فإنها نجسة. أما ميتة الجراد فهي طاهرة، وأما ميتة غيره من الحيوان البري الذي ليس له دم يسيل كالذباب والنمل والبرغوث فهي نجسة.
ومنه: المسك وفأرته المنفصلة في حياته، أو بعد ذكاته. ومنه: الزَّبَاد (نوع من الطيب يؤخذ من حيوان كالسنور) لا ما فيه من شعر السنور البري، والعنبر (هو نبت أو روث بحري وهو الطيب المعروف) وإن ابتلعه حوت، ما لم يستحل.
__________
(1) مغني المحتاج:80/1 ومابعدها، شرح الباجوري:105/1،108، شرح الحضرمية: ص22، المهذب:11/1، المجموع:576/2.
(2) الإنفحة: لبن في جوف نحو سخلة، وهي طاهرة للحاجة إليها في عمل الجبن.(1/256)
ومن الطاهر إجماعاً كما بينت: شعر أو صوف أو ريش أو وبر الحيوان المأكول، ولو أخذ نتفاً بعد التذكية، أو في حال الحياة. أما لو أخذ بعد الموت فنجس، كما أن الشعر المجزوز من حيوان غير مأكول: نجس كميتته.
ويعفى عن قليل من دخان النجاسة، وعن اليسير عرفاً من شعر نجس من غير كلب أو خنزير، كما يعفى عن كثير الشعر من مركوب لعسر الاحتراز عنه. ويعفى
عن روث سمك في ماء ما لم يغيره لتعذر الاحتراز عنه. ويعفى عن قليل بخار النجاسة المتصاعد بواسطة نار نجس. أما البخار الخارج من نجاسة الكنيف، والريح الخارج من الدبر، فطاهر.
والثمر والشجر والزرع النابت من نجاسة، أو سقيت بماء نجس: طاهر، لكن يطهر ظاهر الزرع النابت على نجاسة بالغسل.
وقال الحنابلة (1) : الطاهر: دم عِرْق مأكول بعدما يخرج بالذبح، وما في خلال اللحم؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، ودم السمك وبوله؛ لأنه لو كان نجساً لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح، ولأنه يستحيل ماء، ولأنه كالكبد.
ودم الشهيد، ولو كثر إذا لم ينفصل عنه.
ودم بق وقمل وبراغيث وذباب ونحوها من كل ما لا نفس له سائلة.
والكبد والطحال من مأكول. لحديث: «أحلت لنا ميتتان ودمان» .
ودود القز وبزره.
والمسك وفأرته (سرة الغزال) .
والعنبر (2) ، لما ذكر البخاري عن ابن عباس: «العنبر شيء دسره البحر» أي دفعه ورمى به، وهو الطيب المعروف.
وما يسيل من فم وقت النوم، والبخار الخارج من الجوف، لأنه لا تظهر له صفة بالمحل، ولا يمكن التحرز منه.
والبلغم ولو أزرق، وسواء أكان من الرأس أم الصدر أم المعدة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم أشار بمسحه في الثوب أثناء الصلاة.
__________
(1) كشاف القناع:219/1 ـ 220، غاية المنتهى:14/1
(2) العنبر: مادة صلبة، لاطعم لها ولاريح إلا إذا سحقت أو أحرقت، يقال: إنه روث دابة بحرية.(1/257)
وبول ما يؤكل لحمه، أما العلقة التي يخلق منها الآدمي أو يخلق منها حيوان طاهر، فإنها نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج. وكذلك البيضة المذرة (أي الفاسدة) أو البيضة التي صارت دماً: نجسة، لأنها أي الأخيرة في حكم العلقة.
ومن الطاهر: الدم والعرق واللعاب والمخاط من حيوان يؤكل، أو من غيره إذا كان مثل الهر أو الفأر أو أقل منه، وألا يكون متولداً من النجاسة.
ومنه: ميتة الحيوان البحري، وإن لم يسم سمكاً، إلا التمساح والضفدع والحية، فإنها نجسة، كما قال الشافعية. كما أن ميتة الحيوان البري ما عدا الجراد الذي ليس له دم يسيل كالذباب والنمل والبرغوث نجسة، كما قال الشافعية.
ومن الطاهر: الشعر ونحوه من كل حيوان مأكول اللحم حياً كان أو ميتاً، أو من غير مأكول اللحم إذا كان قدر الهر فأقل، ولم يتولد من نجاسة، لكن أصول الشعر والريش نجسة مطلقاً.(1/258)
الفَصْلُ الثَّاني: النَّجاسة
وفيه مباحث أربعة:
المبحث الأول ـ أنواع النجاسة إجمالاً وحكم إزالتها:
النجاسة: ضد الطهارة، والنَّجَس ضد الطاهر، والأنجاس جمع نَجِس: وهو اسم لعين مستقذرة شرعاً. ويطلق على النجس الحكمي والحقيقي. ويختص الخبث بالحقيقي، ويختص الحدث بالحكمي. والنجس بفتح الجيم: اسم، وبكسرها صفة.
وتنقسم النجاسة إلى قسمين: حقيقية، وحكمية.
فالنجاسة الحقيقية: هي لغة: العين المستقذرة كالدم والبول والغائط، وشرعاً: هي مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص.
والنجاسة الحكمية: هي أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص. ويشمل الحدث الأصغر الذي يزول بالوضوء، والحدث الأكبر (الجنابة) الذي يزول بالغسل.
والنجاسة الحقيقية أنواع: إما مغلظة أو مخففة، وإما جامدة أو مائعة، وإما مرئية أو غير مرئية. وأما حكم إزالة النجاسة غير المعفو عنها: عن الثوب والبدن والمكان للمصلي:
فواجب عند جمهور الفقهاء غير المالكية، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/74] . وهناك قولان مشهوران في مذهب مالك (1) : الوجوب والسنية، وذلك حالة التذكر والقدرة والتمكن، والمعتمد المشهور هو السنية، إلا أن فروع المذهب بنيت على قول الوجوب، فإن صلى المرء بالنجاسة عامداً قادراً على إزالتها، أعاد صلاته أبداً، وجوباً، لبطلانها. وعلى القول المشهور بأن إزالة النجاسة سنة إن ذكر وقدر، تندب الإعادة، وعلى كلا القولين: تندب الإعادة للناسي، وغير العالم بوجود النجاسة، والعاجز عن إزالتها.
ويشمل هذا المبحث المطلبين الآتيين:
المطلب الأول ـ النجاسات المتفق عليها والمختلف فيها:
أولاً ـ النجاسات المتفق عليها في المذاهب:
أجمع الفقهاء على نجاسة الأنواع التالية (2) :
1 ً - لحم الخنزير: وإن كان بذبحه شرعاً؛ لأنه بالنص القرآني نجس العين، فيكون لحمه وجميع أجزائه من شعر وعظم وجلد ولو مدبوغ نجساً. والمعتمد عند المالكية: أن الخنزير الحي وعرقه ودمعه ومخاطه ولعابه طاهر.
__________
(1) الشرح الكبير: 65/1، الشرح الصغير: 64/1 ومابعدها، فتح العلي المالك:111/1.
(2) فتح القدير: 135/1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 55/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص25 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص34، بداية المجتهد: 73/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 49/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 77/1 ومابعدها، المهذب: 46/1 ومابعدها، كشاف القناع: 213/1 ومابعدها، المغني: 52/1 ومابعدها. الشرح الصغير: 49/1 - 55.(1/259)
2 ً - الدم: دم الآدمي غير الشهيد ودم الحيوان غير المائي، الذي انفصل منه حياً أو ميتاً، إذا كان مسفوحاً (جارياً) كثيراً. فيخرج دم الشهيد ما دام عليه، ودم السمك ودم الكبد والطحال والقلب، وما يبقى في عروق الحيوان بعد الذح ما لم يسل، ودم القمل والبرغوث والبق وإن كثر عند الحنفية.
والدم المسفوح نجس ولو كان عند المالكية والشافعية من سمك وذباب وقراد.
ويترتب على هذا الخلاف: أكل الفسيخ (السمك المملح) الذي يوضع بعضه على بعض، ويسيل دمه من بعضه إلى بعض، لا يؤكل منه عند الشافعية والراجح عند المالكية إلا الصف الأعلى أوالمشكوك في كونه من الأعلى أو من غيره.
وأما عند الحنفية وابن العربي من المالكية: فيؤكل كله؛ لأن الخارج من السمك ليس بدم، بل رطوبة، وحينئذ فهو طاهر (1) .
3 ً - بول الآدمي وقيئه (2) وغائطه: إلا بول الصبي الرضيع، فيكتفي برشه عند الشافعية والحنابلة مع أنه نجس. وكذلك بول الحيوان غير المأكول اللحم وغائطه وقيئه، إلا خرء الطيور وبول الفأر والخفاش عند الحنفية، لأن الفأر لا يمكن التحرز عنه، والخفاش يبول في الهواد، فيعفى عنهما في الثياب والطعام فقط دون ماء الأواني، وما اجتره الحيوانات نجس.
4 ً - الخمر: نجسة عند أكثر الفقهاء، لقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة 5 / 90] وقال بعض المحدثين بطهارتها. والخمر تشمل كل مسكر مائع عند الجمهور والمعتمد عند الحنفية.
__________
(1) الشرح الكبير للدرير وحاشية الدسوقي: 57/1.
(2) القيء عند الحنفية نجس نجاسة مغلظة إذا ملأ الفم بحيث لايمكن إمساكه.(1/260)
5 ً - القيح: وهو دم فاسد، لا يخالطه دم، وهو نجس لأنه دم مستحيل. ومثله الصديد: وهو ماء رقيق يخالطه دم. والنجس منهما: هو الكثير، ويعفى عن القليل.
6 ً - المَذْي والوَدْي: والمذي هو ماء أبيض رقيق يخرج عند ثوران الشهوة أو تذكرالجماع بلا تدفق، وهو نجس للأمر بغسل الذكر منه والوضوء في حديث علي رضي الله عنه، قال: «كنت رجلاً مذَّاء، فاستَحَيْت أن أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: فيه الوضوء، والمسلم: يغسل ذكره ويتوضأ» (1) .
والوَدْي: ماء أبيض كدر ثخين يخرج عقب البول، أوعند حمل شيء ثقيل. وهو نجس؛ لأنه يخرج مع البول أو بعده، فيكون له حكمه (2) .
والرمل أو الحصاة التي تخرج عقب البول: إن أخبر طبيب عدل بأنها منعقدة من البول فهي نجسة، وإلا فهي متنجسة تطهر بالغسل (3) .
7 ً - لحم ميتة الحيوان غير المائي الذي له دم سائل، مأكول اللحم أو غير المأكول، كالكلب والشاة والهرة والعصفور ونحوها. ومثله: جلد الميتة إن لم يدبغ. هذا عند الحنفية. وقال غيرهم: ميتة غير الآدمي يجميع أجزائها من عظم وشعر وصوف ووبر وغير ذلك نجسة، لأن كلاً منها تحله الحياة.
8 ً - لحوم الحيوان غير المأكول، وألبانه؛ لأنها متولدة من اللحم فتأخذ حكمه.
__________
(1) أخرجه الشيخان عن علي، ولأحمد وأبي داود: «يغسل ذكره وأُنثييه ويتوضأ» (نيل الأوطار:51/1) .
(2) يلاحظ أن فضلات النبي صلّى الله عليه وسلم من دم وقيح وقيء، وغائط وبول ومذي وودي طاهرة، لأن بركة الحبشية شربت بوله صلّى الله عليه وسلم فقال: «لن تلج النار بطنك» صححه الدارقطني، ولأن أبا طيبة شرب من دم النبي صلّى الله عليه وسلم المأخوذ بعد حجامته، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «من خالط دمه دمي لم تمسه النار» .
(3) مغني المحتاج:79/1.(1/261)
9 ً - الجزء المنفصل أو المقطوع من الحي في حال حياته كاليد والألية، إلا الشعر وما في معناه كالصوف والوبر والريش، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ـ أي المقطوع ـ ميت» (1) .
ثانياً ـ النجاسات المختلف فيها:
اختلف الفقهاء في حكم نجاسة بعض الأشياء:
1 ً - الكلب:
الأصح عند الحنفية، أن الكلب ليس بنجس العين؛ لأنه ينتفع به حراسة واصطياداً، أما الخنزير فهو نجس العين، لأن الهاء في الآية القرآنية: {فإنه رجس} [الأنعام145/6] منصرف إليه، لقربه. وفم الكلب وحده أو لعابه ورجيعه هو النجس، فلا يقاس عليه بقية جسمه، فيغسل الإناء سبعاً بولوغه فيه (2) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» ولأحمد ومسلم: «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (3) .
وقال المالكية (4) : الكلب مطلقاً سواء أكان مأذوناً في اتخاذه ككلب الحراسة والماشية، أم لا، طاهر، والولوغ لا غيره كما لو أدخل رجله أو لسانه بلا تحريك، أوسقط لعابه، هو الذي يغسل من أجله تعبّداً سبع مرات، على المشهور عندهم.
وقال الشافعية والحنابلة (5) : الكلب والخنزير وما تولد منهما من الفروع وسؤره وعرقه نجس ويغسل ما تنجس منه سبع مرات إحداهن بالتراب، لأنه إذا ثبتت نجاسة فم الكلب بنص الحديث السابق: «طهور إناء أحدك ... » ، والفم أطيب أجزائه، لكثرة ما يلهث، فبقيته أولى.
__________
(1) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، وأخرجه أبو داود والترمذي وحسَّنه عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه (سبل السلام: 28/1) .
(2) فتح القدير:64/1، رد المحتار لابن عابدين:192/1،300، البدائع:63/1.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أبي هريرة (نيل الأوطار:36/1، سبل السلام:22/1) .
(4) الشرح الكبير:83/1، الشرح الصغير:43/1.
(5) مغني المحتاج: 78/1، كشاف القناع:208/1، المغني:52/1.(1/262)
وفي حديث آخر رواه الدارقطني والحاكم: «أنه صلّى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم، فأجاب، ثم دعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال: إن في دار فلان كلباً، قيل له: وإن في دار فلان هرة، فقال: إن الهرة ليست بنجسة» فأفهم أن الكلب نجس.
2 ً - ميتة الحيوان المائي، والحيوان الذي لا دم له سائل:
اتفق أئمة المذاهب على طهارة ميتة الحيوان المائي إذا كان سمكاً ونحوه من حيوان البحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال» (1) ولقوله عليه السلام في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (2) .
واختلف الفقهاء في ميتة الحيوان الذي لا دم له سائل، وعباراتهم في الميتة مطلقاً ما يأتي:
قال الحنفية (3) : موت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده أي لا ينجسه، كالسمك واضفدع والسرطان، لكن لحم الميتة ذات الدم السائل وجلدها قبل الدبغ نجس. وما لا دم له سائل إذا وقع في الماء لا ينجسه كابق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها، لحديث الذباب: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، فليغمسه، ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء» (4) وبه يتبين أن ميتة الحيوان المائي وما لا دم له طاهرة عند الحنفية. ومثلهم قال المالكية (5) : ميتة البحر وما لا دم له طاهرة.
__________
(1) أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر، وفيه ضعف (سبل السلام:25/1، نيل الأوطار:150/1) .
(2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة، واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي عن أبي هريرة (سبل السلام:14/1) .
(3) فتح القدير:57/1، البدائع:62/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص25.
(4) رواه البخاري عن أبي هريرة. قال الشافعي: «ووجه ذلك أنه عليه السلام لايأمر بغمس ماينجس ما مات فيه؛ لأن ذلك عمد إفساده» وزاد فيه أبو داود بإسناد حسن: «وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء» (نصب الراية:115/1) .
(5) بداية المجتهد: 1/47، الشرح الصغير44/1،45،49 القوانين الفقهية: ص 34.(1/263)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : ميتة السمك والجراد ونحوهما من حيوان البحر طاهرة، وأما ميتة ما لا دم له سائل كالذباب والبق والخنافس والعقارب والصاصر ونحوها، فهي نجسة عند الشافعية، طاهرة عند الحنابلة، وميتة حيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والتمساح والحية، نجسة عند الشافعية والحنابلة.
إلا أن الشافعية قالوا: ميتة دود نحو خل وتفاح نجسة، لكن لا تنجسه لعسر الاحتراز عنها، ويجوز أكله معه، لعسر تمييزه.
وقال الحنابلة: ما لا نفس (دم) له سائلة: إن تولد من الطاهرات فهو طاهر حياً وميتاً، وأما إن تولد من النجاسات كدود الحَشّ (البستان) وصراصره فهو نجس، حياً وميتاً؛ لأنه متولد من النجاسة، فكان نجساً كولد الكلب والخنزير.
والخلاصة: أن ميتة الحيوان المائي وما لا دم له طاهرة عند الفقهاء إلا الشافعية فيقولون بنجاسة ميتة ما لا دم له سائل، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة 5 / 3] والميتة عند الشافعية: مازالت حياته، لابذكاة شرعية، كذبيحة المجوسي، والمُحرم (بضم الميم) ،وماذبح بالعظم، وغيرالمأكول إذا ذبح. وكذلك قال المالكية: جميع ما ذكِّي (ذبح) بذبح أونحر أوعقرمن غيرمحرم الأكل طاهر، أما ماحرم أكله كالحميروالبغال، والخيل عندهم، فإن الذكاة لاتعمل فيه وكذا الكلب والخنزير لاتعمل فيه. وكذا الكلب والخنزير لاتعمل فيهما الذكاة، فميتة ماذكر نجسة.
__________
(1) مغني المحتاج: 78/1، المهذب 47/1، المغني:42/1 - 44، كشاف القناع: 223/1.(1/264)
3 ً-أجزاءالميتة الصلبة التي لادم فيها:
كالقرن والعظم والسن ومنه عاج الفيل والحافر والخف والظلف والشعر والصوف والعصب والإنفحة (1) الصلبة: طاهرة ليست بنجسة عند الحنفية (2) ،لأن هذه الأشياء ليست بميتة؛ لأن الميتة من الحيوان شرعا: ما زالت حياته ,لابصنع إنسان، أوبصنع غيرمشروع، ولاحياة في هذه الأشياء، فلا تكون ميتة. ولأن نجاسة الميتات لما فيها من الدماءالسائلة والرطوبات النجسة، ولم توجد في هذه الأشياء.
وبناءعليه يكون الجزء المقطوع من هذه الأشياء في حال الحياة طاهراً.
وأما الإنفحة المائعة واللبن فطاهران عندأبي حنيفة، لقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} [النحل 16 / 66] . وقال الصاحبان ـ وقولهما هو الأظهر ـ: هما نجسان؛ لأن اللبن وإن كان طاهراً بنفسه، لكنه صار نجساً لمجاورة النجس.
وقال الجمهور غير الحنفية (3) :أجزاء الميتة كلها نجسة، ومنها الإنفحة واللبن إلا إذا أخذا من الرضيع عند الشافعية؛ لأن كلاً منها تحلة الحياة، إلا أن الحنابلة قالوا: صوف الميتة وشعرها طاهر، لما رواه الدارقطني عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لابأس بمسك الميتة إذا دبغ، وصوفها وشعرها إذا غسل» لكنه حديث ضعيف.
كما أن المالكية استثنوا زغب الريش والشعر، فقالوا بطهارتهما، لأنه ليس بميتة، بخلاف العظم فإنه ميتة. ورجح بعض المالكية الكراهة التنزيهية لناب الفيل الميت المسمى بالعاج، وكذا قصب الريش من حي أو ميت: وهو الذي يكتنفه الزغب.
والخلاصة: أن الفقهاء ما عدا الشافعية يقولون بطهارة شعر الميتة وصوفها وريشها.
4 ً - جلد الميتة:
__________
(1) الإنفحة كما بينا سابقاً: شيء يستخرج من بطن الجدي قبل أن يُطْعَم غير اللبن، فيعصر في صوفة مبتلة في اللبن، فيغلظ كالجبن، وهو المعروف عند العامة بالمجبنة.
(2) البدائع:63/1.
(3) الشرح الصغير:44/1،49 ومابعدها، الشرح الكبير:55/1، مغني المحتاج:78/1، المغني:52/1،72،74،79.(1/265)
قال المالكية والحنابلة في المشهور عندهم (1) : جلد الميتة نجس، دبغ أو لم يدبغ، لأنه جزء من الميتة، فكان محرماً لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة 5 / 3] فلم يطهر بالدبغ كاللحم، وللأحاديث النبوية الواردة في ذلك، منها: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» (2) ، ومنها كتابه صلّى الله عليه وسلم إلى جهينة: «إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولاعصب» (3) وفي لفظ: «أتانا كتاب رسول االله صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أو شهرين» وهو ناسخ لما قبله، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلم. وتأول المالكية حديث «أيما إهاب ـ أي جلد ـ دبغ فقد طهر» بأنه في مشهور المذهب محمول على الطهارة اللغوية، لا الشرعية.
ومثل ذلك: إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه، يكون جلده نجساً، دبغ أو لم يدبغ.
وقال الحنفية والشافعية (4) : تطهر الجلود النجسة بالموت وغيره، كالمذبوح غير المأكول اللحم بالدباغ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (5) ورواه مسلم بلفظ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» وهذا هو الراجح لصحة هذا الحديث، ولأن الدبغ يقطع الرطوبات ويزيل النجاسات، ويؤيده حديث البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: «تُصُدِّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة؟ قال: إنما حرم أكلها» .
__________
(1) الشرح الصغير:51/1، المغني:66/1، بداية المجتهد:76/1.
(2) رواه أبو بكر الشافعي بإسناده عن أبي الزبير عن جابر، وإسناده حسن.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عُكيم، وقال أحمد: إسناده جيد، لكن التحقيق أن هذا الحديث ضعيف، لانقطاع سنده واضطراب متنه وسنده، وللإطلاق تارة، والتقييد أخرى فيه بشهر أو بشهرين. وقال الترمذي: إن أحمد ترك أخيراً هذا الحديث، لاضطرابهم في إسناده. وجمع بعضهم بينه وبين الأحاديث الصحيحة في تطهير الدبغ بأنه في الجلود التي لم تدبغ، لأن اسم (الإهاب) خاص بالجلد الذي لم يدبغ.
(4) البدائع: 85/1، مغني المحتاج:82/1.
(5) رواه اثنان من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر، الأول رواه النسائي والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. والثاني: رواه الدارقطني، وقال: إسناده حسن (نصب الراية: 115/1 وما بعدها) .(1/266)
وفي لفظ، قال: «يُطَهِّرها اماء والقَرَظ» قال النووي في شرح مسلم: يجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشَّت (من جواهر الأرض يشبه الزاج) والقرظ وقشور الرمان وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية، ولا بالتراب والرماد والملح على الأصح.
أي أن الحنفية يجيزون الدبغ الحقيقي بمواد كيماوية، والدبغ الحكمي كالتتريب والتشميس؛ لأن كل ذك مجفف قالع مطهر، كما قدمنا سابقاً.(1/267)
5 ً - بول الصبي الرضيع الذي لم يطعم غير اللبن:
قرر الشافعية والحنابلة (1) : أن ما تنجس ببول أو قيء صبي لم يَطْعم (يتناول قبل مضي حولين) غير لبن للتغذي (لا تحنيكه بنحو تمر حين الولادة) ، ينضح، أما الطفلة الصبية والخنثى فلا بد من غسل موضع بولهما، بإسالة الماء عليه، عملاً بالأصل في نجاسة الأبوال. واستثناء الصبي بسبب كثرة حمله على الأيدي، مأخوذ من خبر الشيخين: عن أم قيس بنت مِحْصَن أنها: «أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حِجْره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله» ولخبر الترمذي وحسنه: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام» (2) وفرّق بينهما بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر، فخفف في بوله، وبأن بوله أرقّ من بولها، فلا يلصق بالمحل لصوق بولها به، وألحق بها الخنثى.
وهذا الرأ ي هو الراجح، لصحة الحديث الخاص والوار فيه، فيقدم على الحديث العام الآمر بالاستنزاه من البول.
وقرر الحنفية والمالكية (3) : نجاسة بول أو قيء الصبي والصبية، ووجوب الغسل منه، عملاً بعموم الأحاديث الآمرة بالاستنزاه من البول: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» (4) .
إلا أن المالكية قالوا: يعفى عما يصيب ثوب المرضعة أو جسدها من بول أو غائط الطفل، سواء أكانت أماً أم غيرها، إذا كانت تجتهد في درء النجاسة عنها حال نزولها، بخلاف المفرِّطة، لكن يندب لها غسله إن تفاحش.
6 ً - بول الحيوان المأكول اللحم وفضلاته ورجيعه:
هناك اتجاهان فقهيان: أحدهما القول بالطهارة، والآخر القول بالنجاسة، الأول للمالكية والحنابلة، والثاني للحنفية والشافعية.
__________
(1) مغني المحتاج:84/1، كشاف القناع:217/1، المهذب:49/1.
(2) راجع الحديثين في نصب الراية 126/1-127.
(3) بداية المجتهد:77/1،82، الشرح الصغير: 73/1، مراقي الفلاح: ص 25، اللباب شرح الكتاب: 55/1، فتح القدير: 140/1، الدر المختار: 293/1.
(4) رواه ثلاثة من الصحابة: أنس، وأبو هريرة، وابن عباس، وحديث أنس رواه الدارقطني، وهو مرسل، وحديث أبي هريرة رواه الدارقطني أيضاً والحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه، وحديث ابن عباس رواه الطبراني والدارقطني والبيهقي والحاكم (نصب الراية:128/1) .(1/268)
قال المالكية والحنابلة (1) : بول ما يؤكل لحمه من الحيوان كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام وجميع الطيور، ورجيعه وفضلاته (روثه) : شيء طاهر، واستثنى المالكية التي تأكل النجاسة أو تشربها، فتكون فضلته نجسة، كما أن ما يكون منها مكروهاً، أبوالها وأرواثها مكروهة. وهكذا فإن أبوال سائر الحيوانات تابعة للحومها، فبول الحيوان المحرم الأكل نجس، وبول الحلال طاهر، وبول المكروه مكروه.
ودليلهم على الطهارة: إباحته عليه الصلاة والسلام للعُرَنيين شرب أبوال الإبل وألبانها (2) ،ولأن إباحة الصلاة في مرابض الغنم دليل على طهارة أرواثها وأبوالها (3) .
__________
(1) الشرح الصغير: 47/1، بداية المجتهد: 77/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص33 ومابعدها، كشاف القناع: 220/1.
(2) روى الشيخان وأحمد عن أنس بن مالك «أن رهطاً من عُكْل أو قال: عُرَيْنة، قدموا، فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يخرجوا، فيشربوا من أبوالها وألبانها» واجتووها أي استوخموها، يقال: اجتويت المدينة: إذا كرهت المقام فيها، وإن كنت في نعمة، وقيده الخطابي: بما إذا تضرر بالإقامة، وهو المناسب لهذه القصة (نيل الأوطار: 48/1) .
(3) قال ابن تيمية في نهاية الحديث السابق: وقد ثبت عنه أنه قال: صلوا في مرابض الغنم، روى أحمد والترمذي وصححه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صلوا في مرابض الغنم، ولاتصلوا في أعطان الإبل» قيل: إن حكمة النهي مافيها من النفور، فربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها (نيل الأوطار:137/2) .(1/269)
وقال الشافعية والحنفية (1) : البول والقيء والروث من الحيوان أو الإنسان مطلقاً نجس، لأمره صلّى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي في المسجد (2) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث القبرين: «أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول» (3) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم السابق: «استنزهوا من البول» وللحديث السابق: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما جيء له بحجرين وروثة ليستنجي بها، أخذ الحجرين ورد الروثة، وقال: هذا ركس، والركس: النجس» . والقيء وإن لم يتغير وهو الخارج من المعدة: نجس؛ لأنه من الفضلات المستحيلة كالبول. ومثله البلغم الصاعد من المعدة، نجس أيضاً، بخلاف النازل من الرأس أو من أقصى الحلق والصدر، فإنه طاهر.
وأما حديث العرنيين وأمره عليه السلام لهم بشرب أبوال الإبل، فكان للتداوي، والتداوي بالنجس جائز عند فقد الطاهر الذي يقوم مقامه.
__________
(1) مغني المحتاج: 79/1، المهذب:46/1، فتح القدير: 142/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص25 ومابعدها، الدر المختار: 295/1- 297.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أنس بن مالك (نيل الأوطار:43/1، نصب الراية: 212/1) .
(3) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس (نصب الراية:214/1) .(1/270)
إلا أن الحنفية فصلوا في الأمر، فقالوا:
بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسة مخففة، فتجوز الصلاة معه إذا أصاب المرء ما يبلغ ربع الثوب. وهو رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف.
وأما روث الخيل وخِثْي البقر، فنجس نجاسة مغلظة عند أبي حنيفة مثل غير مأكول اللحم، لأنه صلّى الله عليه وسلم رمى الروثة، وقال: هذا رجس أو ركس. ونجس عند الصاحبين نجاسة مخففة، فلا يمنع صحة الصلاة بالثوب المتنجس به حتى يصبح كثيراً فاحشاً، لأن للاجتهاد فيه مساغاً، ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق به، ورأي الصاحبين هو الأظهر لعموم البلوى بامتلاء الطرق بها.
والكثير الفاحش: ما يستكثره الناس ويستفحشونه، كأن يبلغ ربع الثوب.
وعلى هذا: يكون بول ما يؤكل لحمه، ورجيع (نجو) الكلب، ورجيع ولعاب سباع البهائم كالفهد والسبع والخنزير، وخرء الدجاج والبط والأوز لنتنه، من النجاسة الغليظة بالاتفاق، ويعفى قدر الدرهم منها.
وبول الفرس، وبول ما يؤكل لحمه، وخرء طير لا يؤكل كالصقر والحدأة في الأصح لعموم الضرورة، من النجاسة الخفيفة، ويعفى منها ما دون ربع الثوب، أو البدن أي ما دون ربع العضو المصاب كاليد والرجل إن كان بدناً. وأما الربع فأكثر فهو كثير فاحش.
وأما خرء الطير المأكول اللحم الذي يذرق (أو يزرق) في الهواء، كالحمام، فهو طاهر عند الحنفية، لعموم البلوى به بسبب امتلاء الطرق والخانات بها.(1/271)
كما أن الإمام محمد حكم آخراً بطهارة بول ما يؤكل لحمه ومنه الفرس، وقال: لا يمنع الروث وإن فحش، لما رأى من بَلْوى الناس من امتلاء الطرق والخانات بها، لما دخل الرِّي مع الخليفة. وقاس المشايخ عليه طين بخارى؛ لأن ممشى الناس والدواب واحد (1) . وهذا يتفق مع رأي مالك وأحمد. وقال الشافعية (2) : يعفى عن ذرق الطير إذا كثر لمشقة الاحتراز عنه. وأرى الأخذ بالأيسر في هذه الأمور ما لم يكثر النجس.
7 ً - المني: وهو ما يخرج عند اللذة الكبرى عند الجماع ونحوه.
وفي نجاسته وطهارته رأيان إن كان من الآدمي. وأما مني غير الآدمي فهو نجس عند الحنفية والمالكية، طاهر عند الحنابلة إن كان من مأكول اللحم، والأصح عند الشافعية: طهارة مني غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما.
وفي مني الآدمي: قال الحنفية والمالكية (3) : المني نجس يجب غسل أثره، إلا أن الحنفية قالوا: يجب غسل رَطْبه، فإذا جف على الثوب، أجزأ فيه الفرك.
وأطلق المالكية الحكم بنجاسة المني ولو من مباح الأكل للاستقذار والاستحالة إلى فساد، ولأن أصله دم، ولا يلزم من العفو عن أصله العفو عنه، أي لا يلزم من العفو عن يسير الدم: (وهو دون الدرهم) العفو عن يسير المني، إذ ليس ما ثبت لأصل يثبت لفرعه.
------------------------------
(1) رد المحتار: 295/1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب:56/1.
(2) مغني المحتاج:188/1.
(3) الدر المختار:287/1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب:55/1، مراقي الفلاح: ص26، بداية المجتهد:79/1، الشرح الصغير:54/1، الشرح الكبير:56/1.(1/272)
ودليلهم حديث عائشة: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان- يابساً، وأغسله إذا كان رطباً» (1) .
وفي رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة: أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيخرج، فيصلي، وأنا أنظر إلى بُقع الماء في ثوبه. ولأنه شبيه بالأحداث الخارجة من البدن، مما يدل على كونه نجساً.
وقال الشافعية على الأظهر، والحنابلة (2) : المني طاهر ويستحب غسله أو فركه إن كان مني رجل، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت تُحكَّ المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يصلي فيه» (3) . وفي رواية «كنت أحكه من ثوبه وهو يصلي فيه» (4) . وقال ابن عباس: «امسحه عنك بإذخرة أو خرقة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق» (5) . ويختلف عن البول والمذي بأنه بدء خلق آدمي.
ورجح الشوكاني نجاسة المني فقال: «فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة» (6) أي بالغسل أو المسح أو الفرك. وأرجح القول بطهارته حتى لا يلزم منه القول بنجاسة أصل الإنسان، وتيسيراً على الناس، لكن يزال أثره ندباً، اتباعاً للسنة النبوية.
ويلاحظ أن الحكم بطهارة المني مشروط بألا يسبقه المذي الذي يخرج عادة عند ثورة الشهوة، وبأن يكون العضو مغسولاً مسبقاً بالماء، فإن كان عليه أثر بول بتنشيفه بالورق كما عليه حال كثير من الناس اليوم، فإن المني يتنجس بسبب ما يختلط به من البول. والأولى تخصيص إزار (لباس) لحالات الجماع خروجاً من الخلاف.
8 ً - ماء القروح:
__________
(1) رواه الدارقطني في سننه والبزار في مسنده، وقال: لايعلم أسنده عن عائشة إلا عبد الله بن الزبير. وأما حديث «اغسليه إن كان رطباً، وافركيه إن كان يابساً» فهو غريب، وحديث لايعرف (نصب الراية: 209/1) وفي الجملة: هذا الحديث مضطرب، إذ في بعضه الغسل، وفي بعضه: (فيصلي فيه) .
(2) مغني المحتاج:79/1- 80، كشاف القناع:224/1، المهذب:47/1.
(3) رواه الجماعة، ولفظه: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه» (نيل الأوطار:53/1) .
(4) رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما.
(5) رواه سعيد ورواه الدارقطني مرفوعاً.
(6) نيل الأوطار:55/1.(1/273)
عدَّ الحنفية والمالكية (1) من النجاسات: القيح (وهو المِدَّة الخاثرة تخرج من الدمل) والصديد (وهو الماء الرقيق من المِدَّة، الذي قد يخالطه دم) ، وماء القروح (المصل الأبيض) : وهو كل ما سال من الجرح من نَفَط نار، أو جَرب أو حكة أو غير ذلك، لكن يعفى عن قليل الصديد والقيح كالدم.
واتفق الشافعية والحنابلة (2) مع بقية الأئمة في الحكم بنجاسة القيح والصديد، لكن قرر الحنابلة أنه يعفى عن يسير دم وما تولد منه من قيح وغيره كصديد، وماء قروح، في غير مائع ومطعوم؛ لأن الإنسان غالباً لا يسلم منه، ولأنه يشق الاحتراز عنه، كأثر الاستجمار. وأما المائع والمطعوم فلا يعفى عن شيء من ذلك.
وقدر اليسير المعفو عنه: هو الذي لم ينقض الوضوء، أي ما لا يفحش في النفس، ويعفى من القيح ونحوه أكثر مما يعفى عن مثله من الدم. والمعفو عنه إذا كان من حيوان طاهر من آدمي من غير سبيل، فإن كان من سبيل لم يعف عنه.
والمذهب قطعاً عند الشافعية: طهارة دم البَثَرات (خرَّاج صغير) ودم البراغيث وونيم الذباب، وماء القروح والنفاطات (أي الحروق) أو المتنفِّط الذي له ريح، أو لا ريح له في الأظهر، وموضع الفصد والحجامة، قليلاً كان أو كثيراً. والأظهر العفو عن قليل دم الأجنبي، أي عن دم الإنسان المنفصل عنه ثم العائد إليه.
__________
(1) البدائع:60/1، الدر المختار:294/1، الشرح الكبير:56/1 ومابعدها، الشرح الصغير:55/1، القوانين الفقهية: ص 33.
(2) كشاف القناع:219/1، مغني المحتاج:79/1،193-194، المهذب:47/1.(1/274)
9 ً - الآدمي الميت، وما يسيل من فم النائم:
عرفنا في أنواع المطهرات في الآدمي الميت قولين (1) :
قول الحنفية: إنه ينجس عملاً بفتوى بعض الصحابة (ابن عباس وابن الزبير) كسائر الميتات.
وقول جمهور العلماء: إنه طاهر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المسلم لا ينجس» .
وأما الماء السائل من فم النائم وقت النوم فهو طاهر كما صرح الشافعية والحنابلة (2) ، إلا أن الشافعية والمالكية قالوا: إن كان من المعدة كأن خرج منتناً بصفرة فنجس كالبلغم الصاعد من المعدة، فإن كان من غيرها أو شك في أنه منها أو لا، فإنه طاهر.
وعد المالكية (3) من الطاهر: القَلَس، وهو ما تقذفه المعدة من الماء عند امتلائها، ما لم يشابه في التغير أحد أوصاف العَذِرة.
__________
(1) فتح القدير:72/1، الشرح الصغير:44/1، مغني المحتاج:78/1، كشاف القناع:222/1، المهذب:47/1.
(2) مغني المحتاج:79/1، كشاف القناع:220/1.
(3) الشرح الصغير:48/1.(1/275)
المطلب الثاني ـ أنواع النجاسة الحقيقية:
للنجاسة الحقيقية تقسيمات عند الحنفية هي ما يأتي:
التقسيم الأول ـ تقسيم النجاسة إلى مغلظة ومخففة (1) :
النجاسة المغلظة: ما ثبتت بدليل مقطوع به، كالدم المسفوح والغائط، والبول من غير مأكول اللحم، ولو من صغير لم يطعم، والخمر (2) ، وخُرْء طير لايزرق في الهواء كدجاج وبط وإوز، ولحم الميتة وإهابها، ونجو (قذر) الكلب، ورجيع السباع ولعابها، والقيء ملء الفم، وكل ما ينقض الوضوء إذا خرج من الإنسان كالعذرة والمني والمذي والدم السائل.
ويعفى منها في الصلاة مقدار الدرهم فما دونه: (وهو الدرهم الكبير المثقال، وفي المساحة: قدر عرض الكف في الصحيح) ؛ لأن القليل لا يمكن التحرز عنه، وقدر القليل بالدرهم أخذاً عن موضع الاستنجاء، فإن زادت النجاسة عن الدرهم لم تجز الصلاة. والنجاسة المخففة: وهي ماتثبت بدليل غير مقطوع به، كبول مايؤكل لحمه، ومنه الفرس، وخرء طير لايؤكل، أما نجاسة البعر (للإبل والغنم) والروث (للفرس والبغل والحمار) والخِثْي (للبقر) فهي غليظة عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان: خفيفة، ورأيهما هو الأظهر، لعموم البلوى بامتلاء الطرق بها، وطهرها محمد آخراً، وقال: لايمنع الروث وإن فحش. وفي عصرنا في الطرق المعبدة تعتبر النجاسة مخففة.
ويعفى من النجاسة المخففة في الصلاة: مقدار ربع جميع الثوب، إن كان المصاب ثوباً، وربع العضو المصاب كاليد والرجل، إن كان المصاب بدناً. وهذا التقديرمراعى فيه التيسير على الناس، سيما من لا رأي له من العوام.
التقسيم الثاني ـ تقسيم النجاسة إلى جامدة ومائعة:
النجاسة الجامدة: كالميتة والغائط.
والمائعة: كالبول والدم المسفوح والمذي.
التقسيم الثالث ـ تقسيم النجاسة إلى مرئية وغير مرئية (3) :
المرئية أو العينية: ما يكون مرئياً بالعين بعد الجفاف كالعذرة والدم، وطهارة النجاسة المرئية تكون بزوال عينها ولو بمرة على الصحيح؛ لأن النجاسة حلت المحل، باعتبار العين (الجِرْم) ، فتزول بزوالها.
وغير المرئية أو غير العينية: ما لا يكون مرئياً بعد الجفاف كالبول ونحوه، أي مالا تكون ذاته مشاهدة بحس البصر. وطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أن المحل قد طهر، وقدر ذلك لموسوس بثلاث مرات؛ لأن التكرار لا بد منه لاستخراج النجاسة، وإذا لم يقطع بزواله، فالمعتبر غالب الظن، كما في أمر الاجتهاد في القِبْلة، ولا بد من العَصْر في كل مرة، في ظاهر الرواية، لأنه هو المستخرِج.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير:140/1-144، الدر المختار:293/1 -297، اللباب: 55/1.
(2) وأما الأشربة المحرمة الأخرى سوى الخمر فنجاستها غليظة في ظاهر الرواية، خفيفة على قياس قول الصاحبين لاختلاف الأئمة فيها (رد المحتار:295/1) .
(3) فتح القدير:145/1، الدر المختار:303/1 -307، اللباب: 57/1، مراقي الفلاح: ص26.(1/276)
النجاسات عند غير الحنفية:
يلاحظ أن هذه التقسيمات معروفة عند غير الحنفية، وأضاف إليها المالكية تقسيماً آخر عندهم وهو: النجاسة المجمع عليها في المذهب، والمختلف فيها في المذهب (1) .
والنجاسات المجمع عليها في المذهب: ثماني عشرة: بول ابن آدم الكبير، ورجيعه، والمذي، والودي، ولحم الميتة، والخنزير وعظمهما، وجلد الخنزير مطلقاً، وجلد الميتة إن لم يدبغ، وما قطع من الحي في حال حياته إلا الشعر وما في معناه، ولبن الخنزيرة، والمسكر، وبول الحيوان المحرم الأكل، ورجيعه، والمني، والدم الكثير، والقيح الكثير، والأصح أن كل حي ولو كلباً أو خنزيراً طاهر، وكذا عرقه في المعتمد عند المالكية.
والنجاسات المختلف فيها في المذهب المالكي ثماني عشرة: بول الصبي الذي لا يأكل الطعام، وبول الحيوان المكروه الأكل، وجلد الميتة إذا دبغ، وجلد المذكى المحرم الأكل، ولحمه، وعظمه، ورماد الميتة، وناب الفيل، ودم الحوت، والذباب، والقليل من دم الحيض، والقليل من الصديد، ولعاب الكلب، ولبن مالايؤكل لحمه غير الخنزير، ولبن مستعمل النجاسة، وعرق مستعمل النجاسة، وشعر الخنزير، والخمر إذا خللت.
وتظهر ثمرة هذه التقسيمات في كيفية التطهير، وفي المقدار المعفو عنه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص34.(1/277)
المبحث الثاني ـ المقدار المعفو عنه من النجاسة
للفقهاء تقديرات للمعفو عنه من النجاسات لا مانع في تقديري من الأخذ بها دفعاً للحرج ومراعاة اليسر، وأهمها في كل مذهب ما يأتي:
1 ً - مذهب الحنفية (1) :
حددوا المعفو عنه بحسب نوع النجاسة مغلظة أو مخففه: يعفى من النجاسة المغلظة أو المخففه: القدر القليل، دون الكثير، وقدروا القليل في النجاسة الجامدة المغلظة: بما دون الدرهم (975،2غم) : وهو ما يزن عشرين قيراطاً، وبما دون مقعر الكف في النجاسة المائعة. وتكره الصلاة تحريماً في المشهور بالقدر القليل من النجاسة، مع كونه معفواً عنه.
والقليل من النجاسة المخففة في الثياب: ما دون ربع الثوب، وفي البدن: مادون ربع العضو المصاب كاليد والرجل.
كما يعفى عن القليل من بول أو خرء الهرة والفأرة، في الطعام والثياب للضرورة. وعن انتضاح غسالة لا تظهر مواقع قطرها في الإناء، وعن رشاش بول، كرؤوس الإبر، للضرورة، وإن امتلأ منه الثوب والبدن، لكن لو وقع في ماء قليل نجَّسه في الأصح، لأن طهارة الماء آكد، ومثله الدم الذي يصيب الجزار، وأثر الذباب الذي وقع على نجاسة. ومثله أيضاً روث الحمار وخِثْي البقر والفيل في حالة الضرورة والبلوى.
ويعفى عما لا يمكن الاحتراز أو الامتناع عنه من غسالة الميت ما دام في تغسيله، لعموم البلوى. كما يعفى عن طين الشوارع، إلا إذا علم عين النجاسة للضرورة.
ويعفى عن الدم الباقي في عروق الحيوان المذكى (المذبوح) لتعذر الاحتراز عنه، وعن دم الكبد والطحال والقلب، لأنه دم غير مسفوح، وعن الدم الذي لا ينقض الوضوء في الصحيح، وعن دم البق والبراغيث والقمل وإن كثر، وعن دم السمك في الصحيح وعن لعاب البغل والحمار، والمذهب طهارته، وعن دم الشهيد في حقه وإن كان مسفوحاً.
ويعفى للضرورة عن بخار النجس وغباره ورماد هـ لئلا يحكم بنجاسة الخبز في سائر الأمصار، وعن ريح هبت على نجاسة فأصابت الريح الثوب، إلا إذا ظهر أثر النجاسة في الثوب.
__________
(1) فتح القدير:140/1-146، الدر المختار وحاشية ابن عابدين:295/1-309، مراقي الفلاح: ص 25 ومابعدها.(1/278)
ويعفى عن بعر الإبل والغنم إذا وقع في البئر أو في الإناء ما لم يكثر كثرة فاحشة أو يتفتت، فيتلون به الماء. والقليل: هو ما يستقله الناظر إليه، والكثير: مايستفحشه الناظر إليه.
وأما خرء الطيور المأكولة التي تذرق في الهواء، فهو طاهر، وإن لم تذرق فهو نجاسة مخففة.
وهكذا فإن سبب العفو إما الضرورة، أو عموم البلوى، أو تعذر الاحتراز (الامتناع) عن النجس.
2 ً - مذهب المالكية (1) :
يعفى عن القليل من دم الحيوان البري، وعن القليل من الصديد والقيح، وهو بمقدار الدرهم البغلي: وهو الدائرة السوداء الكائنة في ذراع البغل فدون. وذلك سواء أكان الدم ونحوه من نفسه أم من غيره، من آدمي أو حيوان ولو من خنزير، بثوب أو بدن أو مكان.
ويعفى عن كل ما يعسر التحرز عنه من النجاسات بالنسبة للصلاة ودخول المسجد، لا بالنسبة للطعام والشراب، فإذا حل ذلك بطعام أو شراب نجَّسه، ولايجوز أكله وشربه، والمعفو عنه لمشقة الاحتراز ما يأتي:
سلَس الأحداث: وهو ما خرج بنفسه من غير اختيار من الأحداث، كالبول والمذي والمني والغائط يسيل من المخرج بنفسه، فيعفى عنه، ولا يجب غسله للضرورة إذا لازم كل يوم، ولو مرة.
وبلل الباسور (2) إذا أصاب البدن أو الثوب كل يوم ولو مرة. أما اليد أو الخرقة، فلا يعفى عن غسلها، إلا إذا كثر الرد بها أي إرجاع الباسور، بأن يزيد على المرتين كل يوم، وإلا وجب غسلها؛ لأن اليد لا يشق غسلها كالثوب والبدن.
وما يصيب ثوب المرضعة أو جسدها من بول أو غائط طفلها، ولو لم يكن وليدها، إذا كانت تجتهد في درء النجاسة عنها حال نزولها، بخلاف المفرّطة. ومثلها الجزار والكنَّاف والطبيب الذي يعالج الجروح، ويندب لها ولأمثالها إعداد ثوب خاص للصلاة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 33، الشرح الكبير:56/1،58،71-81، 112، الشرح الصغير: 71/1-79.
(2) الباسور: هو النابت داخل مخرج الغائط بحيث يخرج منه وعليه بلولة النجاسة. وخروج الصرم كالباسور.(1/279)
وما يصيب ثوب المصلي أو بدنه أو مكانه من بول أو روث خيل أو بغال أو حمير، إذا كان ممن يزاول رعيها أو علفها أو ربطها، ونحو ذلك، لمشقة الاحتراز.
أثر ذباب أو ناموس يقع على نجاسة (عَذِرة أو بول أو دم) بأرجله أو فمه، ثم يطير ويحط على ثوب أو بدن لمشقة الاحتراز.
أثر الوشم الذي تعسر إزالته لضرورة (1) .
أثر موضع الحجامة إذا مسح بخرقة ونحوها، إلى أن يبرأ المحل، فيغسل، لمشقة غسله قبل برء الجرح، فإذا برأ غسل وجوباً أو ندباً على قولين.
أثر الدمامل من المِدَّة السائلة إذا كثرت، سواء سالت بنفسها أو بعصرها، لأن كثرتها مظنة الاضطرار كالحكة والجرب. فإن كانت دملاً واحداً فيعفى عما سال منه بنفسه أو بعصر احتيج إليه. فإن عصر بغير حاجة لم يعف إلا عن قدر الدرهم دون مازاد عليه.
دم البراغيث بما دون الدرهم، لا مازاد عنه، وخرء البراغيث ولو كثر. والقليل من ميتة القمل، ثلاث فأقل.
الماء الخارج من فم النائم إذا كان من المعدة بحيث يكون أصفر منتناً، إذا لازم، فإن لم يلازم فهو نجس.
طين المطر، وماؤه المختلط بنجاسة، إذا أصاب الثوب أو الرجل، ما دام طرياً في الطرق، ولو بعد انقطاع المطر، ما لم تغلب النجاسة على الطين بأن تكون أكثر منه يقيناً أو ظناً، وما لم تصب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة بغيرها، وما لم يكن له دخل في الإصابة بشيء من الطين. فإن وجدت حالة من هذه الثلاث فلا عفو، ويجب الغسل، كما لا عفو بعد جفاف الطرق، لزوال المشقة.
__________
(1) فتح العلي المالك للشيخ عليش:112/1.(1/280)
أثر الاستجمار بحجر أو ورق بالنسبة للرجل، إن كان غير زائد على المعتاد. أما إن كان منتشراً كثيراً، غسل الزائد على ما جرت العادة بتلويثه، ويعفى عن المعتاد. ويتعين الماء في الاستنجاء بالتبول من قبل المرأة، كما سأفصّل في بحث الاستنجاء.
3 ً - مذهب الشافعية (1) :
لا يعفى عن شيء من النجاسات إلا ما يأتي:
ما لا يدركه البصر المعتدل كالدم اليسير والبول المترشش.
القليل والكثير من دم البثرات والبقابيق والدماميل والقروح والقيح والصديد منها، ودم البراغيث والقمل والبعوض والبق ونحوه مما لا دم له سائل (2) ، وموضع الحجامة والفصد، وونيم الذباب، وبول الخُفَّاش، وسلس البول، ودم الاستحاضة، وماء القروح والنفاطات (البقابيق) الذي له ريح، وما لا ريح له في الأظهر، لمشقة الاحتراز عنه.
لكن إذا عصر البثرة أو الدمل أو قتل البرغوث أو فرش أوحمل الثوب الذي فيه ذلك المعفو عنه، عفي عن قليله فقط إذ لا مشقة في تجنبه، ولا يعفى عن جلد البرغوث ونحوه. كما يعفى في الأظهر عن قليل دم الأجنبي (3) ، غير الكلب والخنزير، ومن الأجنبي: ما انفصل من بدنه ثم أصابه، وسبب العفو: هو المسامحة، أما دم الكلب ونحوه فلا يعفى عن قليله لغلظ حكمه. ويتحدد القليل والكثير بالعرف، ويعفى عن قليل الدم الذي يصيب ثوب الجزار، والدم الباقي على اللحم.
ويلاحظ أن محل العفو عن سائر الدماء ما لم يختلط بأجنبي، فإن اختلط به ولو دم نفسه من موضع آخر لم يعف عن شيء منه.
__________
(1) المجموع:266/1،292 ومابعدها، مغني المحتاج:81/1، 191-194، شرح الباجوري:104/1،107، حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب:133/1 ومابعدها، شرح الحضرمية لابن حجر: ص 50 ومابعدها.
(2) كذباب ونمل وعقرب وزنبور (دبور) ووزغ (وهو البرص) ، لا نحو حية وضفدع وفأرة.
(3) أي ماانفصل عن الإنسان نفسه ثم عاد إليه، لكن لو أخذ دماً أجنبياً ولطخ به بدنه أو ثوبه، فإنه لايعفى عن شيء منه، لتعديه بذلك، فإن التضمخ بالنجاسة حرام.(1/281)
ويعفى عن أثر محل الاستجمار في حق صاحبه دون غيره، حتى ولو عرق محل الأثر وانتشر، ولم يجاوز محل الاستنجاء.
ويعفى عما يتعذر الاحتراز عنه غالباً من طين الشارع المتيقن نجاسته، في زمن الشتاء، لا في زمن الصيف، إذا كان في أسفل الثوب (ذيله) ، والرجل، دون الكم واليد، بشرط ألا تظهر عين النجاسة عليه، وأن يكون المرء محترزاً عن إصابتها بحيث لا يرخي ذيل ثيابه، وأن تصيبه النجاسة وهو ماش أو راكب، لا إن سقط على الأرض.
فيكون ضابط القليل المعفو عنه: هو الذي لا ينسب صاحبه إلى سقطة على شيء، أو كبوة على وجهه، أو قلة تحفظ، فإن نسب إلى ذلك، فلا يعفى عنه.
فإن لم يكن الطين متيقن النجاسة، وإنما يغلب على الظن اختلاطه بها كغالب الشوارع، فهو وأمثاله كثياب الخمارين والأطفال والجزارين والكفار الذين يتدينون باستعمال النجاسة، طاهر في الأصح عملاً بالأصل. وإن لم تظن نجاسته فهو طاهر قطعاً، كما أن ماء الميزاب الذي تظن نجاسته طاهر جزماً.
ويعفى عن ميتة دود الفاكهة والخل والجبن المتخلقة فيها ما لم تخرج منه ثم تطرح فيه بعد موتها، وما لم تغيره، وعن الإنفحة المستعملة للجبن، والكحول المستخدم في الأدوية والعطور، وعن دخان النجاسة، وعن القليل من بخار الماء النجس المنفصل بواسطة النار، وعن الخبز المسخن أو المدفون في رماد نجس، وإن علق به شيء منه، وعن الثياب المنشورة على الحيطان المبنية برماد نجس، لمشقة الاحتراز. ويعفى عن الميتة التي لا دم لها سائل إذا وقعت بنفسها في مائع كالذباب والنحل والنمل، ولم تغير المائع الذي وقعت فيه.
ويعفى عن خرء الطيور في الفرش والأرض إن شق الاحتراز عنه، ولم يتعمد المشي عليه، ولم يكن أحد الجانبين رطباً، إلا للضرورة كأن يتعين محل المرور فيه.(1/282)
ويعفى عن قليل شعر نجس كشعرة أو شعرتين، من غير كلب أو خنزير أو ما تولد منهما أو من أحدهما مع غيره، فذلك منهما وإن قل غير معفو عنه. ويعفى عن كثير الشعر من مركوب لعسر الاحتراز عنه.
ومن المعفو عنه: أثر الوشم (1) ، وروث السمك في الماء إذا لم يغيره، والدم الباقي على اللحم أو العظم، ولعاب النائم الخارج من المعدة في حق المبتلى به، ومايصيب قائد الحيوان وسائسه ونحوهما من جرَّة البعير ونحوه من الحيوانات المجترة، وروث البهائم وبولها حين درس الحب، وروث الفأر في مجمع الماء في المراحيض إذا كان قليلاً ولم يغير أحد أوصاف الماء، وروث المحلوبة ونجاسة ثديها إذا وقع في اللبن حال حلبه، وأثر روث البهائم المختلط بالطين، الذي يصيب عسل خلايا النحل، ونجاسة فم الصبي عند إرضاعه أو تقبيله.
4 ً - مذهب الحنابلة (2) :
لا يعفى عن يسير نجاسة، ولو لم يدركها الطرف (أي البصر) كالذي يعلق بأرجل ذباب ونحوه، لعموم قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/74] ، وقول ابن عمر: «أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً» وغير ذلك من الأدلة.
__________
(1) الوشم: غرز الجلد بالإبرة حتى يخرج الدم، ثم يوضع عليه نحو نيلة ليزرق، أو يخضر بسبب الدم الحاصل بغرز الإبر. وهو حرام لخبر الصحيحين: «لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة، والنامصة والمتنمصة» وتجب إزالته مالم يخف ضرراً يبيح التيمم، فإن خاف ذلك لم تجب إزالته ولا إثم عليه بعد التوبة. وهذا إذا فعله برضاه بعد البلوغ. وإلا فلا تلزمه إزالته (مغني المحتاج:191/1) وقال الحنفية: يطهر محل الوشم إذا غسل لأنه أثر يشق زواله (رد المحتار:305/1) .
(2) المغني:30/1،78/2-83، كشاف القناع:218/1-221.(1/283)
إلا أنه يعفى عن يسير دم وقيح وصديد وماء قروح في غير مائع ومطعوم، لأنه يشق التحرز عنه، وذلك إذا كان من حيوان طاهر حال حياته، من آدمي أو غير آدمي مأكول اللحم كإبل وبقر، أولا كهر ونحوه من غير سبيل (قبل أو دبر) فإن وقع في مائع أو مطعوم، أو كان من حيوان نجس كالكلب والخنزير، والحمار والبغل، أو خرج من أحد السبيلين (القبل أو الدبر) حتى دم حيض ونفاس واستحاضة، فلايعفى فيه عن شيء من ذلك.
ويعفى عن أثر الاستجمار (1) بعد الإنقاء واستيفاء العدد المطلوب في الاستجمار. وعن يسير طين شارع تحققت نجاسته لمشقة التحرز منه.
وعن يسير سلس بول، مع كمال التحفظ منه، للمشقة.
وعن يسير دخان نجاسة وغبارها وبخارها، ما لم تظهر له صفة في الشيء الطاهر، لعسر التحرز.
وعن ماء قليل نجس بماء معفو عن يسيره.
وعن النجاسة التي تصيب العين، ويتضرر المرء بغسلها.
وعن أثر الدم الكثير ونحوه كالقيح الواقع على جسم صقيل بعد المسح؛ لأن الباقي بعد المسح يسير.
__________
(1) يعفى عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع:
أحدها ـ محل الاستنجاء، يعفى عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه.
الثاني ـ أسفل الخف والحذاء، إذا أصابته نجاسة فدلكها بالأرض حتى زالت عين النجاسة، فيه ثلاث روايات: إحداهن ـ يجزئ دلكه بالأرض وتباح الصلاة فيه، ويظهر أن هذه الرواية هي الراجحة كما أوضح ابن قدامة.
الثالث ـ إذا جبر عظمه بعظم نجس، فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر، وأجزأته صلاته (المغني:83/2 ومابعدها) .(1/284)
وعدوا من الطاهرات: دم العروق من مأكول اللحم، لأنه لا يمكن التحرز منه، ودم السمك، ودم الشهيد الذي عليه ولو كثر، ودم بق وقمل وبراغيث وذباب ونحوها من كل ما لا نفس له سائلة، والكبد والطحال من مأكول، لحديث: «أحل لنا ميتتان ودمان» ، ودود القز وبزره، والمسك وفأرته: وهي سرَّة الغزال، والعنبر لقول ابن عباس ـ فيما ذكره البخاري: «العنبر شيء دسره البحر» أي دفعه ورمى به، وما يسيل من فم النائم وقت النوم، كما سبق بيانه، والبخار الخارج من الجوف، لأنه لا تظهر له صفة بالمحل، ولا يمكن التحرز منه، والبلغم ولو أزرق، سواء أكان من الرأس أم الصدر أم المعدة، لحديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: «فإذا تنخع أحدكم، فليتنخع عن يساره، أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا، فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه ببعض» ولو كانت النخامة نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه، وهو في الصلاة.
وبول سمك ونحوه مما يؤكل، كل ذلك طاهر.
المبحث الثالث ـ كيفية تطهير النجاسة الحقيقية بالماء:
المواضع التي تزال عنها النجاسة الحقيقية ثلاثة: هي الأبدان، والثياب، ومواطن الصلاة.
وقد عرفنا في بحث المطهرات: أن الماء الطهور هو الأصل في إزالة النجاسة، لقوله صلّى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر في كيفية تطهير ثوبها من الحيض: «تحتُّه، ثم تقرصه بالماء» (1) .
وعرفنا أيضاً أن الرأي الراجح في النجاسة الحقيقية لا الحكمية عند الحنفية: هو جواز التطهير بالمائعات الأخرى غير الماء كماء الورد والخل وعصير الفواكه والنباتات، وأنه يمكن التطهير بمطهرات أخرى كثيرة هي (21) مطهراً عند الحنفية وافقهم في بعضها غيرهم، وخالفهم في البعض الآخر.
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار:38/1) .(1/285)
وأما كيفية التطهير بالماء أو شروطه فهي ما يأتي (1) :
1 ً - العدد:
اشترط الحنفية العدد في النجاسة غير المرئية وهو الغسل ثلاثاً فقالوا: إن كانت النجاسة غير مرئية كالبول وأثر لعاب الكلب ونحوهما، فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، ولا يطهر إلا بالغسل ثلاث مرات، وإنما قدروا التكرار بالثلاث ولو في نجاسة الكلب؛ لأن غالب الظن يحصل عنده، فأقيم السبب الظاهر مُقَامه تيسيراً.
ودليلهم حديثان هما: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» (2) و «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده ثلاثاً قبل أن يدخلها في إنائه» (3) ، فقد أمر صلّى الله عليه وسلم بالغسل ثلاثاً، وإن كان هناك شيء غير مرئي، وأما الأمر بالغسل سبعاً من ولوغ الكلب، فكان في ابتداء الإسلام، لقلع عادة الناس بإلف الكلاب، كالأمر بكسر الدنان والنهي عن الشرب في ظروف الخمر حين حرمت الخمر.
__________
(1) انظر عند الحنفية: البدائع: 87/1-89، الدر المختار:303/1-310، فتح القدير:145/1، اللباب:57/1، مراقي الفلاح: ص26ومابعدها، وعند المالكية: بداية المجتهد:83/1، الشرح الصغير:81/1-82، القوانين الفقهية: ص35، وعند الشافعية: المجموع:188/1، مغني المحتاج: 83/1-85، المهذب:48/1 ومابعدها، وعند الحنابلة: المغني:52/1-58، كشاف القناع:208/1،213.
(2) روي عن أبي هريرة من طريقين: الأول عند الدارقطني، وفيه متروك. وله رواية أخرى بإسناد صحيح، والثاني عند ابن عدي في الكامل، وابن الجوزي، وهو حديث لم يصح (نصب الراية:130/1 ومابعدها) .
(3) رواه مالك والشافعي وأحمد في مسنده وأصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح حسن.(1/286)
وأما إن كانت النجاسة مرئية كالدم ونحوه، فطهارتها زوال عينها ولو بمرة على الصحيح، إلا أن يبقى من أثرها، كلون أو ريح، ما يشق إزالته، فلا يضر بقاؤه، ويغسل إلى أن يصفو الماء، على الراجح، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم للحائض إن لم يخرج أثر الدم: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» (1) .
وتظهر المشقة عندما يحتاج في إزالة الأثر إلى غير الماء القَرَاح كصابون أو ماء حار.
وعليه: يطهر الثوب المصبوغ بمتنجس إذا صار الماء صافياً مع بقاء اللون.
ولا يضر أثر دهن متنجس على الأصح لزوال النجاسة المجاورة بالغسل، ويطهر السمن والدهن المتنجس بصب الماء عليه ورفعه عنه ثلاثاً.
ويطهر اللبن والعسل والدبس والدهن بالغلي على النار ثلاثاً، فيصب عليه الماء، ويغلى، حتى يعلو الدهن، ويرفع بشيء ثلاث مرات.
ويطهر لحم طبخ بخمر بغلي وتبريد ثلاث مرات. وعلى هذا: الدجاج المغلي قبل إخراج أمعائها، يطهر بالغسل ثلاثاً، ويطهر ظاهره وباطنه، على المفتى به. وإذا وضع الدجاج بقدر انحلال المسام لنتف ريشه، يطهر بالغسل ثلاثاً.
والحنطة المطبوخة في خمر لا تطهر أبداً، على المفتى به. أما لو انتفخت من بول، نقعت وجففت ثلاثاً. ولو عجن خبز بخمر صب فيه خل، حتى يذهب أثره، فيطهر.
وقال المالكية: لا يكفي في غسل النجاسة إمرار الماء، بل ولا بد من إزالة عين النجاسة وأثرها، بأن ينفصل الماء طاهراً، ويزول طعم النجاسة قطعاً، ويزول لونها وريحها إن تيسر زوالهما، ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله، كالمصبوغ بالنجاسة من زعفران متنجس أو نيلة ونحوهما.
__________
(1) روى أحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة: «أن خولة بنت يسار قالت: يارسول الله، ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟! قال: فإذا طَهُرتِ، فاغسلي موضع الدم، ثم صلّي فيه، قالت: يارسول الله، إن لم يخرج أثره؟ قال: يكفيك الماء، ولايضرك أثره» وسنده ضعيف ـ (نيل الأوطار:40/1) .(1/287)
ولا يشترط عدد معين للغسل أصلاً؛ لأن المفهوم من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها. وأما العدد المشترط في غسل الإناء سبعاً من ولوغ الكلب، فهو عبادة لالنجاسة.
وقال الشافعية والحنابلة: ما نجس بملاقاة شيء (من لعاب أو بول، وسائر الرطوبات، والأجزاء الجافة إذا لاقت رطباً) من كلب أو خنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما من حيوان طاهر، يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب الطاهر، ولو غبار رمل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب» (1) وفي حديث عبد الله بن المغفل: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب» (2) .
ويقاس الخنزير على الكلب؛ لأنه أسوأ حالاً منه، وشر منه، لنص الشارع على تحريمه، وتحريم اقتنائه، فثبت الحكم فيه بطريق التنبيه، وإنما لم ينص الشارع عليه؛ لأنهم لم يكونوا يعتادونه.
والغسلة الأولى أولى بجعل التراب فيها للخبر الوارد، وليأتي الماء بعده، فينظفه، ولا بد من استيعاب المحل المتنجس بالتراب، بأن يمر التراب مع الماء على جميع أجزاء المحل المتنجس.
والأظهر عند الشافعية تعين التراب، فلا يكفي غيره كأشنان وصابون.
__________
(1) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة. وفي لفظ لمسلم وأبي داود: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات» ورواه مالك في الموطأ بلفظ: (إذا شرب) بدل (إذا ولغ) وغير مالك كلهم يقولون: (إذا ولغ) (نصب الراية:133/1) .
(2) رواه مسلم (نصب الراية:133/1) .(1/288)
ويقوم عند الحنابلة الأشنان والصابون والنخالة ونحوها من كل ماله قوة في الإزالة، مقام التراب، ولو مع وجوده، وعدم تضرر المحل به، لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف. وإذا أضر التراب بالمحل فيكفي مسماه أي أقل شيء يسمى تراباً يوضع في ماء إحدى الغسلات، للنهي عن إفساد المال، ولحديث: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (1) .
وأما نجاسة غير الكلب والخنزير فتطهر عند الحنابلة بسبع مرات منقية دون تراب، لقول ابن عمر: «أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً» فينصرف إلى أمره صلّى الله عليه وسلم، وقد أمر به في نجاسة الكلب، فيلحق به سائر النجاسات، والحكم لا يختص بمورد النص، بدليل إلحاق البدن والثوب به، وكذلك محل الاستنجاء يغسل سبعاً كغيره. فإن لم ينق المحل المتنجس بالسبع، زاد في الغسل حتى ينقى المحل. ولايضر بقاء لون النجاسة أو ريحها أو هما معاً حالة العجز عن إزالتهما، لحديث خولة بنت يسار السابق: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» . ويضر بقاء طعم النجاسة لدلالته على بقاء عينها، ولسهولة إزالته.
وأما عند الشافعية في نجاسة غير الكلب والخنزير: فإن كانت النجاسة مرئية (عينية) : وهي التي تدرك بإحدى الحواس، وجبت إزالة عينها وطعمها ولونها ورائحتها. ويجب نحو صابون إن توقفت الإزالة عليه.
ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله، كما قرر الفقهاء بالاتفاق، ويضر بقاؤهما معاً، أو بقاء الطعم وحده. ولايشترط عدد معين للغسلات.
__________
(1) روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وهو حديث صحيح.(1/289)
وإن كانت النجاسة غير مرئية (لا عين عليها) : وهي ما تيقن وجودها ولا يدرك لها طعم ولا لون ولا ريح، كفى جري الماء عليها مرة، كبول جف ولم يبق له أثر. والجري: هو وصول الماء إلى المحل بحيث يسيل عليه زائداً على النضح.
2 ً - العصر فيما يمكن عصره ويتشرب كثيراً من النجاسة:
قال الحنفية: إن كان محل النجاسة مما يتشرب كثيراً من النجاسة: فإن كان مما يمكن عصره كالثياب: فطهارته بالغسل والعصر إلى أن تزول عين النجاسة، إن كانت النجاسة مرئية. وبالغسل ثلاثاً والعصر في كل مرة إن كانت غير مرئية؛ لأن الماء لايستخرج كثير النجاسة إلا بالعصر، ولا يتم الغسل بدونه.
أما إن كان محل النجاسة مما لا يتشرب شيئاً أصلاً من النجاسة كالأواني الخزفية والمعدنية، أو مما يتشرب شيئاً قليلاً من النجاسة كالجسد والخف والنعل، فطهارته بزوال عين النجاسة.
وأما إن كان مما لا يعصر كالحصير والسجاد والخشب: فينقع في الماء ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، وهو قول أبي يوسف، وهو الرأي الراجح، وقال محمد: لا يطهر أبداً. وأما تطهير الأرض: فإن كانت رخوة، فيصب الماء عليها، حتى يتسرب في أسفل الأرض، وتزول النجاسة، ولا يشترط فيها العدد، وإنما بحسب الاجتهاد وغلبة الظن بطهارتها، ويقوم تسرب الماء أو تسفله مقام العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية: يصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل في كل مرة. وإن كانت صلبة فإن كان في أسفلها حفرة أو بالوعة يصب الماء عليها ثلاث مرات ويزال عنها إلى الحفرة. وإن لم يكن لها منفذ للماء لا تغسل لعدم الفائدة في الغسل. وتطهر عند الشافعية بمكاثرة الماء عليها، كما سأبيّن قريباً.
ولم يشترط غير الحنفية العصر فيما يمكن عصره، إذ البلل بعض المنفصل، وقد فرض طهره. ومرجع الخلاف هو حكم الغسالة الآتي بيانه، هل هي طاهرة أو نجسة، إن حكم بطهارتها لم يجب العصر، وإلا وجب. لكن يسن العصر خروجاً من الخلاف.(1/290)
أما مالا يمكن عصره فلا يشترط فيه العصر، بلا خلاف.
3 ً - الصب أو إيراد الماء على النجاسة (الغسل في الأواني) :
قال الحنفية: لا يشترط صب الماء أو وروده على محل النجاسة، فيطهر الغسل في الأواني، وغسل الثوب المتنجس أو البدن المتنجس، بتبديل الماء بماء جديد، ثلاث مرات، والعصر في كل مرة، ويغسل الإناء بعد الغسلة الأولى ثلاثاً، وبعد الثانية مرتين، وبعد الثالثة مرة واحدة، وذلك إذا حدث الغسل في إناء واحد، أما إن غسل في آنية ثلاثة، فكل إناء ينوب عن تبديل الماء مرة.
لكن المعتبر ـ كما أبنت وكما أوضح ابن عابدين (1) ـ في تطهير النجاسة المرئية: زوال عينها، ولو بغسلة واحدة، ولو في إناء واحد (إجانة: إناء تغسل فيه الثياب) فلا يشترط فيها تثليث غسل ولا عصر. وأما غير المرئية فالمعتبر فيها غلبة الظن في تطهيرها، بلا عدد، على المفتى به، وقيل: مع شرط التثليث.
وهذا المفتى به عند الحنفية يقترب من مذهب المالكية القائلين بإزالة عين النجاسة.
وقال الشافعية: يشترط ورود الماء، لا العصر في الأصح. أي يشترط ورود الماء على محل النجاسة، إن كان الماء قليلاً، لئلا يتنجس الماء لو عكس الأمر، لأن الماء ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه. فلو وضع ثوباً في إجَّانة وفيه دم معفو عنه، وصب الماء عليه تنجس بملاقاته، وتجب المبالغة في الغرغرة عند غسل فمه المتنجس، ويحرم ابتلاع نحو طعام قبل ذلك.
__________
(1) رد المحتار:308/1.(1/291)
هذا ... وقد اتفق الحنفية مع غيرهم على أن المتنجس إذا غسل في ماء جار، أو غدير (أي ماء كثير له حكم الجاري) أو صب عليه ماء كثير، أو جرى عليه الماء، طهر مطلقاً، بلا شرط عصر وتجفيف، وتكرار غمس، لأن الجريان بمنزلة التكرار والعصر (1) .
تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة:
قال الحنفية (2) : إذا كانت الأرض المتنجسة صلبة منحدرة، يحفر في أسفلها حفرة، ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويزال عنها إلى الحفرة، بدليل ما أخرجه الدارقطني عن أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه» (3) . ولا تطهر الأرض بمكاثرة الماء.
وقال غير الحنفية (4) : تطهر الأرض النجسة بالصب ومكاثرة الماء عليها أي كثرة إفاضة أو طرح الماء عليها، حتى تغمر النجاسة. لحديث أبي هريرة قال: «قام أعرابي، فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: دعوه، وأريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنُوباً من ماء، فإنكم بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا مُعسِّرين» (5) .
وأما تطهير الماء النجس بالمكاثرة ففيه تفصيل عند الشافعية (6) :
أـ إن كانت نجاسته بالتغير، وهو أكثر من قلتين، طهر، بأن يزول التغير بنفسه، أو بأن يضاف إليه ماء آخر، أو بأن يؤخذ بعضه؛ لأن النجاسة بالتغير، وقد زال.
ب ـ وإن كان نجاسته بالقلة، بأن يكون دون القلتين، طهر بأن يضاف إليه ماء آخر، حتى يبلغ قلتين، سواء كوثر بماء طاهر أو نجس، كثير أو قليل.
ويطهر بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين، كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة، لإيراد الماء على النجاسة (7) .
لكن الماء الذي طهر بالمكاثرة، دون أن يبلغ قلتين، هو طاهر غير مطهر؛ لأن المستعمل في إزالة النجاسة لا تجوز الطهارة به.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) البدائع: 89/1.
(3) لكنه حديث معلول بتفرد عبد الجبار به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ (نيل الأوطار:42/1) .
(4) الشرح الصغير:82/1، المهذب:7/1، المجموع:188/1وما بعدها، كشاف القناع:213/1، المغني:94/2.
(5) رواه الجماعة إلا مسلماً، والسجل أو الذنوب: الدلو ملأى، وروى أحمد والشيخان في معناه حديثاً آخر، جاء فيه: «لاتُزْرموه دعوه» أي لا تقطعوه (نيل الأوطار:41/1-43) .
(6) المهذب:6/1-7، المجموع:183/1-195) .
(7) قال النووي: وأما ما يخترعه بعض الحنفية ويقول: إن مذهب الشافعي أنه لو كان الماء قلتين إلا كوزاً، فكمله ببول، طهر، فبهتان، لا يعرفه أحد من أصحابنا (المجموع:190/1) .(1/292)
وأما إذا كان الماء أكثر من قلتين، والنجاسة الواقعة جامدة، فالمذهب أنه تجوز الطهارة منه، لأنه لا حكم للنجاسة القائمة، فكان وجودها كعدمها.
وإن كان الماء قلتين فقط، وفيه نجاسة قائمة، ففيه وجهان، أصحهما جواز الطهارة به.
وإن كانت النجاسة ذائبة جازت الطهارة به على الصحيح.
التطهير بالماء الجاري:
قال الحنفية (1) : يختلف حكم الماء الجاري عن الراكد. والجاري: هو ما يعده الناس جارياً عرفاً. وألحقوا بالجاري: حوض الحمام وغير الحمام إذا كان الماء ينزل من أعلاه، والناس يغترفون منه، فلو أدخلت القَصْعة أو اليد النجسة فيه، لاينجس.
وحكمه: أنه إذا وقعت النجاسة فيه، ولم ير لها أثر من طَعْم أو لون أو ريح، فهو طاهر مطهر، يجوز الوضوء به، وإزالة النجاسة به؛ لأن النجاسة إذا كانت مائعة لا تستقر مع جريان الماء.
أما إذا كانت دابة ميتة: فإن كان الماء يجري عليها أو على أكثرها، أو نصفها، لا يجوز استعماله، وإن كان يجري على أقلها، وأكثره يجري على موضع طاهر، وللماء قوة، فإنه يجوز استعماله، إذا لم يوجد أثر للنجاسة.
والغدير (2) والحوض العظيم الراكد: وهو في رأي العراقيين: الذي لايتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه. وفي
__________
(1) الدر المختار:173/1-180، اللباب:27/1، فتح القدير:53/1-56.
(2) هو القطعة من الماء يغادرها السيل.(1/293)
ظاهر الرواية وهو الأصح: هو الذي يغلب على ظن المرء واجتهاده عدم وصول النجاسة فيه إلى الجانب الآخر. يجوز الوضوء وإزالة النجاسة به من الجانب الآخر الذي لم تقع فيه النجاسة؛ لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إلى الجانب الآخر، كما أن المفتى به جواز التطهر به من جميع الجوانب.
وقال غير الحنفية (1) الماء الجاري كالراكد، إن كان كثيراً لا تضره النجاسة، التي لم تغير أحد أوصافه (الطعم واللون والريح) فهو طاهر، وإن كان قليلاً تنجس مجموعه بمجرد الملاقاة.
ولا حد للكثرة عند المالكية. والكثير عند الشافعية والحنابلة: ما بلغ قلتين (500 رطل بغدادي تقريباً) . والعبرة في الجاري بالجرية: وهي كما عرفها الشافعية: ما يرتفع من الماء عند تموُّجه: أي تحقيقاً أوتقديراً، فإن كبرت الجرية لم تنجس إلا بالتغير، وهي في نفسها منفصلة عما أمامها وما خلفها من الجريات حكماً.
والجرية عند الحنابلة: هي الماء الذي فيه النجاسة، وما قرب منها، من خلفها وأمامها، مع ما يحاذي ذلك مما بين طرفي النهر. أو هي ما أحاط بالنجاسة فوقها وتحتها، ويمنة ويسرة. والتعريفان مترادفان.
فإن كان الماء جارياً، وفيه نجاسة جارية، كالميتة، والجرية المتغيرة، فالماء الذي قبلها طاهر؛ لأنه لم يصل إليه النجاسة، فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق، والذي بعدها طاهر أيضاً؛ لأنه لم تصل إليه النجاسة. وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها: فإن كان قلتين ولم يتغير، فهو طاهر، وإن كان دونهما، فهو نجس كالراكد.
__________
(1) بداية المجتهد: 23/1، القوانين الفقهية: ص30، الشرح الصغير: 30/1وما بعدها، مغني المحتاج:24/1، المهذب:7/1، كشاف القناع:40/1وما بعدها، المغني:31/1 وما بعدها.(1/294)
وينظر إلى أجزاء الجرية الواحدة، بعضها ببعض: وهي ما يرتفع وينخفض بين حافتي النهر من الماء عند تموجه. أما الجريات فلا يتقوى بعضها ببعض، فلو وقعت فيه نجاسة، وجرت بجرية، فموضع الجرية المتنجس بها نجس، وأما المارة بعدها، فلها حكم غسالة النجاسة، فلو كانت النجاسة كلباً، فلا بد من سبع جريات مع كدورة الماء بالتراب الطهور في إحداهن.
ويعرف كون الجرية قلتين بأن تمسح، وتضرب ذراعاً وربعاً، طولاً وعرضاً وعمقاً.
وإذا كان أمام الماء الجاري ارتفاع يرده، فله حكم الراكد.
والخلاصة: أنه إذا وردت النجاسة على الماء تنجس الماء إجماعاً، وإذا ورد الماء على نجس تنجس (1) .
المبحث الرابع ـ حكم الغُسَالة:
الغُسَالة: هي الماء المستعمل في إزالة حدث أو خبث أي إزالة النجاسة الحكمية أو الحقيقية. وحكمها عند الجمهور غير الحنفية أنها طاهرة إذا طهر المحل المغسول. وللفقهاء تفصيلات في شأنها.
قال الحنفية (2) : غسالة النجاسة نوعان: غسالة النجاسة الحقيقية، وغسالة النجاسة الحكمية وهي الحَدَث.
أما غُسالة النجاسة الحكمية: وهي الماء المستعمل، فهو في ظاهر الرواية طاهر غير مطهر، أي لا يجوز التوضؤ به، لكن في الراجح يجوز إزالة النجاسة الحقيقية به.
والماء المستعمل: هو ما زايل البدن واستقر في مكان. أما مادام على العضو الذي استعمله فيه فلا يكون مستعملاً.
__________
(1) الدر المختار:300/1وما بعدها.
(2) البدائع:66/1-69، رد المحتار:300/1.(1/295)
ويصير مستعملاً إما بإزالة الحدث، أو بنية إقامة القربة، كالصلاة المعهودة، وصلاة الجنازة، ودخول المسجد، ومس المصحف، وقراءة القرآن ونحوها. فإن كان الشخص محدثاً صار الماء مستعملاً بلا خلاف عندهم، لوجود السببين: وهو إزالة الحدث، وإقامة القربة جميعاً. وإن لم يكن محدثاً يصير مستعملاً أيضاً عند أئمة الحنفية ما عدا زفر، لوجود إقامة القربة، لكون الوضوء نوراً على نور. وعند زفر لا يصير مستعملاً لانعدام إزالة الحدث. أما إن كان الوضوء أو الغسل للتبرد ولم يكن محدثاً لا يصير مستعملاً.
وأما غسالة النجاسة الحقيقية:
فهي نجسة إذا انفصلت متغيرة، بأن تغير طعمها أو لونها أو ريحها. أو إذا لم يطهر المحل، كما لو انفصلت بعد الغسلات الثلاث، الأولى والثانية والثالثة من نجاسة غير مرئية؛ لأن النجاسة انتقلت إليها، إذ لا يخلو كل ماء عن نجاسة.
ولا يجوز الانتفاع بالغُسَالة فيما سوى الشرب والتطهير من بل الطين وسقي الدواب ونحو ذلك، إن كان قد تغير طعمها أو لونها أو ريحها؛ لأنه لما تغير، دل على أن النجس غالب، فالتحق بالبول. وإن لم يتغير شيء من ذلك يجوز الانتفاع بها، لأنه لما لم يتغير دل على أن النجس لم يغلب على الطاهر، والانتفاع بما ليس بنجس العين مباح في الجملة.
وقال المالكية (1) : إن انفصلت الغُسَالة متغيرة الطعم أو اللون أو الريح، فهي نجسة، والموضع نجس. وإن طهر المحل، كانت الغسالة طاهرة. ولا يجوز استعمال المتنجس في العادات.
__________
(1) الشرح الصغير:82/1، القوانين الفقهية: ص35.(1/296)
والأظهر عند الشافعية (1) : طهارة غُسَالة قليلة تنفصل بلا تغير، وقد طهر المحل، لأن البلل الباقي على المحل هو بعض المنفصل، فلو كان المنفصل نجساً، لكان المحل كذلك. أما الكثيرة فطاهرة ما لم تتغير، وإن لم يطهر المحل.
أي أن الغُسَالة القليلة المنفصلة طاهرة غير مطهرة، ما لم تتغير بطعم أو لون أو ريح، ولم يزد وزنها، بعد اعتبار ما يأخذه الثوب من الماء، ويعطيه من الوسخ الطاهر، وقد حل المحل.
أما إذا تغيرت أو زاد وزنها، أو لم يطهر المحل، فهي نجسة كالمحل. وبه يتبين أن الغُسَالة كالمحل مطلقاً، فحيث حكم بطهارته، حكم بطهارتها، وحيث لا، فلا.
وقال الحنابلة (2) كالشافعية: ما أزيلت به النجاسة، إن انفصل متغيراً بالنجاسة، أو قبل طهارة المحل، فهو نجس، لأنه تغير بالنجاسة، كما أن الماء القليل إذا لاقى محلاً نجساً لم يطهره، يكون نجساً، كما لو وردت النجاسة عليه. وإن انفصل غير متغير من الغسلة التي طهر بها المحل ففيه تفصيل:
فإن كان المحل أرضاً فهو طاهر، لطهارة الأرض التي بال عليها الأعرابي بصب دلو عليها، بأمره صلّى الله عليه وسلم.
وإن كان غير أرض: فيه وجهان أصحهما أنه طاهر.
__________
(1) مغني المحتاج:85/1، شرح الحضرمية: ص23وما بعدها.
(2) المغني: 58/1،98/2.(1/297)
الفَصْلُ الثَّالث: الاستِنْجَاء
معناه، حكمه، وسائله، مندوباته، آداب قضاء الحاجة.
أولاً ـ معنى الاستنجاء والفرق بينه وبين غيره من الاستبراء والاستجمار ونحوهما:
الاستنجاء: لغة: إزالة النجو أي الغائط. واصطلاحاً: هو قلع النجاسة بنحو الماء، أو تقليلها بنحو الحجر، فهو استعمال الأحجار أو الماء. أو هو إزالة للنجاسة من كل خارج ملوّث ولو نادراً كدم ومذي وودي، لا على الفور، بل عند الحاجة إليه بماء أو حجر.
أو هو إزالة نجس عن سبيل: قبل أو دبر. فلا يطلب من ريح، وحصاة، ونوم، وفصد دم. والاستنجاء أو الاستطابة أعم من أن يكون بالماء وغيره.
والاستجمار: إزالة النجس بالأحجار ونحوها، مأخوذ من الجمرات أي الأحجار.
والاستبراء: طلب البراءة من الخارج، حتى يتيقن من زوال الأثر أو هو طلب براءة المخرج عن أثر الرشح من البول.
والاستنزاه: طلب البعد عن الأقذار. وهو بمعنى الاستبراء.
والاستنقاء: طلب النقاوة، وهو أن يدلك المقعدة بالأحجار أو بالأصابع حالة الاستنجاء بالماء (1) .
وكل هذه الوسائل للتطهر من النجاسة، ولا يجوز الشروع في الوضوء حتى يطمئن المرء من زوال أثر رشح البول.
ثانياً ـ حكم الاستنجاء والاستجمار والاستبراء:
أما حكم الاستنجاء: قال الحنفية (2) : إنه في الأحوال العادية، ما لم تتجاوز النجاسة المخرج، سنة مؤكدة للرجال والنساء، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولقوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» (3) .
فإذا تجاوزت النجاسة المخرج، وكان المتجاوز قدر الدرهم فيجب إزالته بالماء.
وإن زاد المتجاوز على قدر الدرهم، افترض الغسل بالماء أو المائع.
وقال الجمهور غير الحنفية (4) : يجب الاستنجاء أو الاستجمار من كل خارج معتاد من السبيلين، كالبول أوالمذي أو الغائط، لقوله تعالى:
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:310/1،319، مراقي الفلاح: ص 7، كشاف القناع:62/1، الشرح الصغير:87/1، 94،96،100، مغني المحتاج:42/1 وما بعدها.
(2) فتح القدير:148/1، تبيين الحقائق:76/1، اللباب:57/1، الدر المختار:310/1، 313، مراقي الفلاح: ص 7.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي وابن حبانٍ عن أبي هريرة (نصب الراية:217/1) .
(4) الشرح الصغير:94/1،96، القوانين الفقهية: ص37، الشرح الكبير:109/1وما بعدها، مغني المحتاج:46/1، المهذب:27/1، المغني:149/1وما بعدها، كشاف القناع: 71/1، 77.(1/298)
{والرجزَ فاهجر} [المدثر:5/74] ، وهو يعم كل مكان ومحل من ثوب أو بدن، ولأن الاستنجاء بالماء هو الأصل في إزالة النجاسة، ولقوله عليه السلام: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» (1) وقوله: «لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه مسلم، وفي لفظ لمسلم: «لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة أحجار» وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء باتفاق العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من استنجى من ريح فليس منا» (2) ، وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/5] : «إذا قمتم من النوم، ولم يأمر بغيره» فدل على أنه لا يجب، ولأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة ههنا. والأظهر عند الشافعية: ألا استنجاء لدود وبعر بلا لوث، إذ لا نجاسة باقية، ويندب عند الشافعية والحنابلة، ويجب عند الحنفية والمالكية، بعد قضاء الحاجة قبل الاستنجاء.
الاستبراء: أيضاً إما بالمشي أو التنحنح أو الاضطجاع على شقه الأيسر أو غيره بنقل أقدام وركض، وهو: أن يستخلص مجرى البول من ذكره، بمسح ذكره بيده اليسرى من حلقة دبره (بدايته) إلى رأسه ثلاثاً، لئلا يبقى شيء من البلل في ذلك المحل، فيضع إصبعه الوسطى تحت الذكر، والإبهام فوقه، ثم يمرهما إلى رأس الذكر، ويستحب نتره ثلاثاً بلطف ليخرج ما بقي إن كان.
__________
(1) رواه أبو داود، وروى الشافعي والبيهقي: «وليستنج بثلاثة أحجار» وروى أحمد والنسائي وأبو داود والدارقطني وقال: إسناده صحيح حسن عن عائشة: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه (نصب الراية:214/1، نيل الأوطار:90/1) .
(2) رواه الطبراني في معجمه الصغير.(1/299)
وعبارة المالكية والحنابلة والشافعية: يكون الاستبراء بنتر وسلت خفيفين ثلاثاً: بأن يجعل إصبعه السبابة من يده اليسرى تحت ذكره من أصله، والإبهام فوقه، ثم يسحبه برفق، حتى يخرج ما فيه من البول. والنتر: جذبه، وندب أن يكون كل منهما برفق، وذلك حتى يغلب الظن نقاوة المحل من البول، ولا يتتبع الأوهام، فإنه يورث الوسوسة، وهي تضر بالدين (1) .
روى الإمام أحمد حديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات» .
واستبراء المرأة: أن تضع أطراف أصابع يدها اليسرى على عانتها.
والاستبراء عموماً يختلف باختلاف الناس. والقصد أن يظن أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه، فمنهم من يحصل هذا بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكرّره، ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا. ويكره حشو مخرج البول من الذكر بنحو قطن، وإطالة المكث في محل قضاء الحاجة، لأنه يورث وجعاً في الكبد.
ودليل طلب الاستبراء: حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أماأحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» (2) .
ودليل القائلين بندبه دون إيجاب: قوله صلّى الله عليه وسلم: «تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» والظاهر من انقطاع البول عدم عوده، ويحمل الحديث على ماإذا تحقق أو غلب على ظنه بمقتضى عادته أنه إن لم يستبرئ خرج منه شيء.
ثالثاً ـ وسائل الاستنجاء وصفاته أو كيفيته:
يكون الاستنجاء بالماء أوبالحجر ونحوه من كل جامد طاهر قالع غير محترم، كورق وخرق وخشب وخزف، لحصول الغرض به كالحجر.
__________
(1) قال العارفون: إن الوسواس سببه خبل في العقل، أو شك في الدين.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/300)
والأفضل الجمع بين الجامد والماء، فيقدم الورق ونحوه، ثم يتبعه بالماء، لأن عين النجاسة تزول بالورق أو الحجر، والأثر يزول بالماء (1) .
والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجر ونحوه، لأنه يزيل عين النجاسة وأثرها، بخلاف الحجر والورق ونحوه، روي عن أنس بن مالك أنه لما نزلت آية: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} [التوبة:108/9] ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «: يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: هو ذاكم، فعليكموه» (2) .
وشرط الاستنجاء بالحجر أو الورق ونحوه ما يأتي (3) :
1ً - ألا يجف النجس الخارج، فإن جف تعين الماء.
2ً - ألا ينتقل عن المحل الذي أصابه عند خروجه واستقر فيه، أوألا يجاوز صفحته وحشفته، فإن انتقل عنه، بأن انفصل عنه، تعين الماء في المنفصل اتفاقاً.
__________
(1) اللباب:57/1وما بعدها، مراقي الفلاح: ص 7، القوانين الفقهية: ص36-37، الشرح الصغير: 96/1 ومابعدها،100، مغني المحتاج:43/1، المغني:151/1وما بعد ها، كشاف القناع:72/1،75، المهذب:27/1 وما بعدها.
(2) رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي، وسنده حسن. ويؤيده قول ابن عباس: «نزلت هذه الآية في أهل قُبا: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين} [التوبة:108/9] ، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نتبع الحجارة بالماء» (نصب الراية:218/1وما بعدها) .
(3) مغني المحتاج:44/1وما بعدها، المهذب:28/1، كشاف القناع:72/1وما بعدها، المغني:152/1وما بعدها،159وما بعدها، الدر المختار:311/1وما بعدها، الشرح الصغير:97/1وما بعدها،100، بداية المجتهد:83/1، القوانين الفقهية: ص36، اللباب:58/1، فتح القدير:148/1، تبيين الحقائق:77/1.(1/301)
3ً - ألا يطرأ عليه شيء رطب أجنبي عنه، نجساً كان، أو طاهراً، فإن طرأ عليه جاف طاهر فلا يؤثر.
4ً - أن يكون الخارج من فرج معتاد: فلا يجزئ في الخارج من غيره، كالخارج بالفصد، أو من منفذ منفتح تحت المعدة، ولو كان الأصلي منسداً انسداداً عارضاً، ولا يجزئ الورق ونحوه في بول خنثى مشكل، وإن كان الخارج من أحد قُبُليه، لاحتمال زيادته، ولا في بول الأقلف إذا وصل البول إلى الجلدة.
ويجزئ الورق ونحوه عند غير المالكية في مسح دم حيض أو نفاس، كما يجزئ الحجر في الأظهر عند الشافعية وعند الحنابلة والحنفية فيما ندر خروجه كالدم والودي والمذي، أو انتشر الخارج فوق عادة الناس، ولكن لم يجاوز في الغائط صفحته (ما انضم من الأليتين عند القيام) وحشفته (وهي ما فوق الختان أو قدرها من مقطوعها) .
ولا يجوز الاستجمار بالأحجارعند المالكية من المني ولا من المذي ودم الحيض، وإنما يتعين الماء في إزالة مني، ودم حيض ونفاس، ودم استحاضة إن لم يلازم كل يوم ولو مرة، وإلا فهو معفو عنه كسلس البول الملازم لذكر أو أنثى، ولاتجب إزالته حينئذ.
كما يتعين الماء عند المالكية أيضاً في إزالة بول المرأة، بكراً كانت أو ثيباً، لتعديه المخرج إلى جهة المقعدة عادة.(1/302)
وهل يشترط عدد ثلاثة أحجار في الاستنجاء؟
قال الحنفية والمالكية: يستحب ولا يجب عدد الثلاث، ويكفي ما دونه إن حصل الإنقاء أو التنظيف به، ومعنى الإنقاء: إزالة عين النجاسة وبلّتها، بحيث يخرج الحجر نقياً، وليس عليه أثر، إلا شيئاً يسيراً فالواجب عند المالكية والسنة عند الحنفية الإنقاء دون العدد، للحديث السابق: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» .
وقال الشافعية والحنابلة: الواجب الإنقاء وإكمال الثلاثة: ثلاثة أحجار، أو ثلاث مسحات ولو بأطراف حجر، وإن لم ينق بالثلاث، وجب الإنقاء برابع فأكثر، إلى أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء، أو صغار الحصى، لأنه المقصود من الاستنجاء. ودليلهم الأحاديث السابقة، منها: «وليستنج بثلاثة أحجار» وخبر مسلم عن سلمان: «نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار» وفي معناها: ثلاثة أطراف حجر.
وإذا زاد عن الثلاثة: سن الإيتار، لما روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا استجمر أحدكم، فليستجمر وتراً» وصرفه عن الوجوب رواية أبي داود: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» .
وأما عدد الغسلات حالة الاستنجاء بالماء:
فالصحيح أنه مفوض إلى الرأي حتى يطمئن القلب بالطهارة بيقين أو غلبة الظن، وهو الأصح عن الإمام أحمد، قال أبو داود: سئل أحمد عن حد الاستنجاء بالماء؟ فقال: ينقي. ولم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك عدد ولا أمر به، ويروى عن أحمد عدد سبع غسلات (1) . وعلى هذا فإن الواجب في الاستنجاء أن يغلب على الظن زوال النجاسة، ولا يضر شم ريحها باليد؛ لأن بقاء الرائحة يدل على بقائها على المحل، ويحكم على اليد بالنجاسة حينئذ.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 8، المغني: 1 / 161 وما بعدها، مغني المحتاج:46/1.(1/303)
وصفة الاستنجاء:
أن يفرغ على يده اليسرى قبل أن يلاقي بها الأذى، ثم يغسل القبل: المخرج خاصة في حالة البول، والذكر كله في حالة المذي، ثم يغسل الدبر، ويوالي صب الماء، ويدلكه بيده اليسرى، ويسترخي قليلاً، ويجيد العرك حتى ينقي. ولا يستنجي باليمين، ولا يمس به ذكره (1) .
ويحترز الصائم من إدخال الإصبع المبتل في الدبر، لأنه يفسد الصوم.
وكيفية الاستجمار:
أن يمسح بالحجر الأول من الأمام إلى الخلف، وبالثاني من الخلف إلى الأمام، وبالثالث كالأول من الأمام إلى الخلف إذا كانت الخصية مدلاة، خشية تلويثها، وكالثاني من الخلف إلى الأمام إن كانت الخصية غير مدلاة.
والمرأة تبتدئ من الأمام إلى الخلف خشية تلويث فرجها (2) .
وقال الشافعية (3) : يسن استيعاب المحل بكل حجر من الثلاث، بأن يبدأ بالأول من مقدم الصفحة اليمنى ويديره إلى محل ابتدائه، وبالثاني من مقدم اليسرى ويديره كذلك، ويمر الثالث على صفحتيه ومُسرَبته جميعاً. والمسربة: مجرى الغائط.
رابعاً ـ مندوبات الاستنجاء:
يسن في الاستنجاء ما يأتي (4) :
__________
(1) القوانين الفقهية: ص36، تبيين الحقائق:78/1.
(2) مراقي الفلاح: ص 8.
(3) مغني المحتاج:45/1، المهذب:27/1.
(4) مراقي الفلاح: ص 7، الدر المختار:311/1-315، فتح القدير:50/1، تبيين الحقائق:78/1، اللباب:58/1، الشرح الصغير:96/1،100، وما بعدها، بداية المجتهد:80/1، القوانين الفقهية: ص37، مغني المحتاج:43/1،46، المهذب:28/1، المغني:154/1-158، كشاف القناع:75/1-77.(1/304)
1ً - أن يستنجي بحجر أو ورق منق، بألا يكون خشناً كالآجر، ولا أملس كالعقيق، لأن الإنقاء هو المقصود. ويعد كالحجر: كل طاهر مزيل بلا ضرر، وليس متقوماً ولا شيئاً محترماً، فلا يستنجي بملوث كالفحم، ولا بما يضر كالزجاج، ولا بمال متقوم، كحرير وقطن ونحوهما، لأنه إتلاف للمال، ولا بشيء محترم لطعمه أو شرفه أو لحق الغير.
وهذا يعني أنه يجوز عند الحنفية الاستنجاء بالمائع غير الماء كماء الورد والخل، واشترط الجمهور غير الحنفية: أن يكون بجامد يابس، فلا يجوز بالمائع.
واتفقوا على أن الاستنجاء يكون بطاهر قالع غير محترم، فلا يجوز (أو يكره تحريماً عند الحنفية) الاستنجاء بالنجس كالبعر والروث، ولا بالعظم والطعام أو الخبز لآدمي أو بهيمة؛ لأنه إتلاف وإهانة، ولا بغير القالع نحو الزجاج والقصب الأملس والآجر والخزف ولا بالمتناثر كتراب أو مدر وفحم رخوين، بخلاف التراب والفحم الصلبين، ولا بالشيء المحترم لشرف ذاتي كالذهب والفضة والجواهر، أو لكونه حق الغير كالشيء المملوك للغير، ومنه جدار الغير ولو وقفاً.
واكتفى المالكية بالقول بأنه يكره الاستنجاء بعظم وروث طاهرين وبجدار مملوك له.(1/305)
والخلاصة: أنه يشترط لجواز الاستجمار بالأحجار ونحوها شروط خمسة هي: كل جامد طاهر قالع غير مؤذ ولا محترم لطعمه أو شرفه أو حق الغير، وإلا فلا، وأجزأ إن أنقى ويجزئ الإنقاء باليد بدون الثلاث من الأحجار ونحوها. ولم يشترط الحنفية كونه جامداً. وقال المالكية والحنفية: إن استجمر بما لا يجوز أجزأه مع الكراهة. وقد ثبت النهي عن الاستنجاء بالروث والعظم، روى مسلم وأحمد عن ابن مسعود: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنهما زاد إخوانكم من الجن» (1) ، وروى الدارقطني: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يُطهِّران» (2) وروى أبو داود عنه عليه السلام أنه قال لرويفع بن ثابت (أبي بكرة) : «أخبر الناس أنه من استنجى برجيع (أي روث) أو عظم، فهو بريء من دين محمد» (3) وهذا عام في الطاهر منها، وإذا حرم طعام الجن حرم طعام الآدمي بالأولى، لكن أجاز الشافعية الاستنجاء بمطعوم البهائم الخاص بها كالحشيش، وقال الجمهور: لا يجوز. قال النووي: لكن النهي عن الاستنجاء بالفحم ضعيف، وإن صح حمل على الرخو.
2ً - تثليث الأحجار أو الورق ونحوه، مندوب عند الحنفية والمالكية، واجب عند الشافعية والحنابلة، فإنهم قالوا: يجب في الاستنجاء بالحجر أمران: أحدهما ـ ثلاث مسحات ولو بأطراف حجر، والإيتار بعد الثلاث إلى السبع إن لم ينق المحل، ويسن أن يكون كل حجر أو نحوه لكل محل الخارج، ودليلهم حديثان: الأول: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» والثاني: «من استجمر فليوتر» (4) .
__________
(1) انظر نصب الراية:219/1، نيل الأوطار:97/1.
(2) إسناده صحيح (نيل الأوطار:96/1) .
(3) وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتمسح بعظم أو بعرة» وروى الدارقطني والبيهقي عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذهب لحاجته، فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فألقى الروثة، وقال: «إنها ركس، ائتني بحجر» . وروى البخاري عن أبي هريرة قصة مماثلة: «ابغني أحجاراً أستنفضْ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة» (نصب الراية:216/1، 219، نيل الأوطار:96/1،97) .
(4) روى الحديث الأول: أحمد والنسائي وأبو داود والدارقطني وقال: إسناده صحيح حسن، ورواه أيضاً ابن ماجه عن عائشة. والثاني رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار:90/1،95) .(1/306)
3ً - ألا يستنجي باليد اليمنى إلا لعذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه، وإذا شرب فلا يشرب نفَساً واحداً» (1) وإذاً يسن الاستنجاءُ باليسار.
4ً - الاستتار وعدم كشف العورة عمن يراه واجب أثناء الاستنجاء وقضاء الحاجة، لحرمته والفسق به، فلا يرتكبه لإقامة السنة، ويمسح المخرج من تحت الثياب بنحو حجر. وإن تركه صحت الصلاة بدونه لأن ما في المخرج ساقط الاعتبار. ودليل الاستتار أحاديث رواها أبو داود وابن ماجه، منه: «من أتى الغائط، فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من الرمل فليستدبره» ويبعد عن الناس في الصحراء ونحوها إلى حيث لا يسمع للخارج منه صوت ولا يشم له ريح.
5ً - للمستنجي بالماء أن يدلك يده بنحو أرض، ثم يغسلها بعد الاستنجاء بتراب أو صابون وأشنان ونحوه.
6ً - تنشيف المقعدة قبل القيام إذا كان صائماً لئلا تجذب المقعدة شيئاً من الماء.
7ً - يبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر، والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت. ويستحب عند الشافعية والحنابلة: أن ينضح الماء على فرجه وإزاره ليزيل الوسواس عنه.
__________
(1) رواه الأئمة الستة عن أبي قتادة (نصب الراية:220/1) .(1/307)
خامساً ـ آداب قضاء الحاجة:
يندب لقاضي الحاجة من بول أو غائط ما يأتي (1) :
1ً - ألا يحمل مكتوباً ذكر اسم الله عليه، أو كل اسم معظم كالملائكة، والعزيز والكريم ومحمد وأحمد، لما روى أنس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (2) » وكان فيه: محمد رسول الله. فإن احتفظ به، واحترز عليه من السقوط فلا بأس.
2ً - أن يلبس نعليه، ويستر رأسه، ويأخذ أحجار الاستنجاء أو يهيء ويعد المزيل للنجاسة من ماء ونحوه.
3ً - يدخل الخلاء برجله اليسرى، ويخرج برجله اليمنى؛ لأن كل ما كان من التكريم يبدأ فيه باليمين، وخلافه باليسار، لمناسبة اليمين للمكرم، واليسار للمستقذر، بعكس المسجد والمنزل، يقدم يمناه فيهما.
ويقول عند إرادة الدخول: «باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث» أي أتحصن من الشيطان، وأعتصم بك يا الله من ذكور الشياطين، وإناثهم، اتباعاً لما رواه الشيخان في السنة: «سترة ما بين أعين الجن وعورات بني آدم، إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول: بسم الله» «إن الحُشوش (3) محتضرة، فإذا أتى، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث» .
ويقول عند خروجه: «غفرانَك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» اتباعاً للسنة، رواه النسائي.
4ً - يعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى، لأنه أسهل لخروج الخارج، ولما رواه الطبراني عن سراقة بن مالك قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نتوكأ على
__________
(1) رواه ابن ماجه وأبو داود وقال: هذا حديث منكر، ورواه النسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار:73/1) .
(2) الدر المختار:316/1-318، الشرح الصغير:87/1-94، مغني المحتاج:39/1-34،
(3) الحشوش جمع الحش بالفتح والضم: بستان النخيل في الأصل، ثم استعمل في موضع قضاء الحاجة، واحتضارها: رصد بني آدم بالأذى. المهذب:5/1، المغني:162/1-168، كشاف القناع:62/1-75.(1/308)
اليسرى، وأن ننصب اليمنى» ويوسع فيما بين رجليه، ولا يتكلم إلا لضرورة، ولايطيل المقام أكثر من قدر الحاجة؛ لأن ذلك يضره، بظهور الباسور أو إدماء الكبد ونحوه.
ويستحب ألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض؛ لأن ذلك أستر له، ولما روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا أراد الحاجة، لا يرفع ثوبه حتى يدنومن الأرض» .
ويستحب أن يبول قاعداً لئلا يترشش عليه، ويكره البول قائماً إلا لعذر قال ابن مسعود: «من الجفاء أن تبول وأنت قائم» قالت عائشة: «من حدثكم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبول قائماً، فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً» (1) ، ورويت الرخصة في التبول قائماً عن جماعة من الصحابة كعمر وعلي وغيرهما. ويستحب أن يبول في مكان رخو غير صلب لئلا يترشش بالبول، ولما روى أحمد وأبو داود عن أبي موسى: «إذا بال أحدكم فليرتَدْ لبوله» .
5ً - لا يبول في مهب الريح لئلا تعود النجاسة إليه، ولا في ماء راكد، وقليل جار، أو في كثير أيضاً عند الحنفية؛ للنهي عنه في حديث البخاري ومسلم (2) ، ولا في المقابر احتراماً لها، ولا في الطرقات ومُتَحدَّث الناس، لقولهصلّى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» (3) «ولا يبول في شق أو ثقب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجُحر» (4) .
__________
(1) قال الترمذي: هذا أصح شيء في الباب، رواه الخمسة إلا أبا داود (نيل الأوطار:88/1) .
(2) نص الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» .
(3) رواه أبو داود بإسناد جيد عن معاذ، والمورد: المياه وطرق الماء والحياض التي يردها الناس للشرب والاستقاء. وروى مسلم وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة: «اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم» والملاعن: موضع اللعن، والتخلي: التغوط، والبراز، وقيس عليه البول.
(4) رواه أبو داود عن عبد الله بن سَرْجس (نيل الأوطار:84/1) .(1/309)
ولا يبول تحت شجرة مثمرة في حال كون الثمرة عليها، لئلا تسقط عليه الثمرة؛ لأن التبول في الماء القليل حرام عند الحنفية، ومكروه تحريماً في الماء الكثير، ومكروه تنزيهاً في الماء الجاري عندهم، فتتنجس به. قال الشافعية: وكذا في غير وقت الثمر، صيانة لها عن التلويث عند الوقوع، فتعافها النفس، ولم يحرموه، لأن التنجس غير متيقن. وأجازه الحنابلة في غير حال الثمر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل» (1) أي جماعته. ويكره أن يستنجي بماء في موضعه بل ينتقل عنه إن لم يكن معداً لذلك، لئلا يعود عليه الرشاش، فينجسه. ويكره أن يبول في المغتسل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في مُسْتَحمه، ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه» (2) وذلك إذا لم يكن ثَم منفذ ينفذ منه البول والماء.
6ً - يكره تحريماً عند الحنفية ولو في البنيان استقبال القبلة واستدبارها بالفرج حال قضاء الحاجة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» (3) .
وقال الجمهور غير الحنفية: لا يكره ذلك في المكان المعد لقضاء الحاجة، لحديث جابر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها» (4) وهذا يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستتراً بشيء.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.
(2) رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن المغفل.
(3) رواه أحمد والشيخان في صحيحهما عن أبي أيوب (نيل الأوطار:80/1) .
(4) رواه الترمذي وحسنه، فقال: هذا حديث حسن غريب. وروى الجماعة مثله عن ابن عمر (نيل الأوطار:80/1-81) .(1/310)
ويحرم استقبالها واستدبارها في البناء غير المعد لقضاء الحاجة، وفي الصحراء بدون ساتر مرتفع بقدر ثلثي ذراع تقريباً فأكثر، ولا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع، كما يحرم وطء الزوجة بدون ساتر في الفضاء، وإلا فلا حرمة، كأن كان في منزله، أو في الفضاء بساتر. ويكره استقبال عين الشمس والقمر بفرجه، لما فيهما من نور الله تعالى، ولكونهما آيتين عظيمتين، فإن استتر عنهما بشيء أو في المكان المعد فلا بأس، كما في القبلة. كما يكره استقبال الريح لئلا يرد عليه رشاش البول، فينجسه.
7ً - يستحب ألا ينظر إلى السماء، ولا إلى فرجه، ولا إلى ما يخرج منه، ولايعبث بيده، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولا يستاك؛ لأن ذلك كله لا يليق بحاله، ولا يطيل قعوده، لأنه يورث الباسور، وأن يسبل ثوبه شيئاً فشيئاً، قبل انتصابه.
ويحرم البول في المسجد ولو في إناء؛ لأن ذلك لا يصلح له، ويحرم أيضاً على القبر المحترم، ويكره عند القبر، احتراماً له.
وإذا عطس حمد الله بقلبه، ويقول بعد الاستنجاء عقب الخروج من الخلاء: (اللهم طهر قلبي من النفاق، وحصن فرجي من الفواحش) (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فِيَّ منفعته، وأخرج عني أذاه) .(1/311)
الفَصْلُ الرَّابع: الوضُوء وما يتبعه
وفيه مباحث ثلاثة:
المبحث الأول ـ الوضوء
تعريفه وأنواعه، فرائضه، شروطه، سننه، آدابه، مكروهاته، نواقضه، وضوء المعذور، ما يمنع منه غير المتوضئ.
تقدم بحث الطهارة عن الخبث وهي الطهارة الحقيقية، أما الطهارة عن الحدث فهي طهارة حُكْمية، وهي ثلاثة أنواع: الوضوء، الغسل، التيمم. وأبدأ بالوضوء، لأن الموجب له الحدث الأصغر، أما الغسل فالموجب له هو الحدث الأكبر. وأما التيمم فهو بديل يخلف كلاً من الوضوء والغسل في حالات معينة، وقد عرفنا سابقاً أن الطهارة الحكمية: هي وصف شرعي يحل في الأعضاء يزيل الطهارة، وأن الطهارة الحقيقية: هي إزالة الخبث وهو عين مستقذرة شرعاً.
وفيه مطالب تسعة:
المطلب الأول ـ تعريف الوضوء، وحكمه (أنواعه أو أوصافه) :
الوضوء في اللغة بضم الواو: هو اسم للفعل أي استعمال الماء في أعضاء مخصوصة، وهو المراد هنا، مأخوذ من الوضاءة والحسن والنظافة، يقال: وضؤ الرجل: أي صار وضيئاً. وأما بفتح الواو فيطلق على الماء الذي يتوضأ به.
والوضوء شرعاً: نظافة مخصوصة (1) ، أو هو أفعال مخصوصة مفتتحة بالنية (2) . وهو غسل الوجه واليدين والرجلين، ومسح الرأس. وأوضح تعريف له هو: أنه استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة (أي السابقة) على صفة مخصوصة في الشرع (3) . وحكمه الأصلي أي المقصود أصالة للصلاة: هو الفرضية، لأنه شرط لصحة الصلاة، بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ، وامسحوا برؤوسكم، وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة:6/5] ، وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (4) وبإجماع الأمة على وجوبه.
وشُرع الوضوء بمكة وآيته في المدينة كما أوضح المحققون. والحكمة من غسل هذه الأعضاء هو كثرة تعرضها للأقذار والغبار والنُّفايات وغيرها.
وقد يعرض للوضوء أوصاف أخرى، فتجعله مندوباً، أو واجباً بتعبيرالحنفية (5) ، أو ممنوعاً، لهذا قسمه الفقهاء أنواعاً، وذكروا له أوصافاً.
فقال الحنفية (6) : الوضوء خمسة أنواع:
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 9.
(2) مغني المحتاج:47/1.
(3) كشاف القناع:91/1.
(4) رواه الشيخان.
(5) الفرض عند الحنفية: هو الثابت بالدليل القطعي. والواجب: هو الثابت بدليل ظني فيه شبهة.
(6) مراقي الفلاح: ص13وما بعدها.(1/312)
الأول ـ فرض:
أـ على المحدث إذا أراد القيام للصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، كاملة، أو غير
كاملة كصلاة الجنازة وسجدة التلاوة (1) ، للآية السابقة: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... } [المائدة:6/5] ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (2) «لا يقبل الله صلاة بغير طُهور، ولا صدقة من غُلُول» (3) .
ب ـ ولأجل لمس القرآن، ولو آية مكتوبة على ورق أو حائط، أو نقود، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/56] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (4) .
الثاني ـ واجب:
للطواف حول الكعبة، وقال الجمهور غير الحنفية. إنه فرض، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله قد أحل فيه النطق، فمن نطق فيه، فلا ينطق إلا بخير» (5) .
قال الحنفية: ولما لم يكن الطواف صلاة حقيقية، لم تتوقف صحته على الطهارة، فيجب بتركه دم في الواجب، وبَدَنة في الفرض للجنابة، وصدقة في النفل بترك الوضوء
__________
(1) هناك آيات في القرآن تسمى آيات السجدة، وعددها أربع عشرة آية عند الشافعية والحنابلة، إذا قرأها المؤمن سجد سجدة بنية وطهارة واستقبال القبلة، والسجدة واجبة عند الحنفية، سنة عند الجمهور.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة (سبل السلام:40/1) .
(3) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عمر، والغلول: الخيانة، وأصله السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة (نيل الأوطار:204/1) .
(4) رواه الأثرم والدارقطني، والحاكم والبيهقي والطبراني، ومالك في الموطأ مرسلاً، وهو حديث ضعيف، وقال ابن حجر: لا بأس به (نيل الأوطار:205/1) .
(5) رواه ابن حبان والحاكم والترمذي عن ابن عباس (نصب الراية:57/3) .(1/313)
الثالث ـ مندوب: في أحوال كثيرة منها ما يأتي (1) :
أـ التوضؤ لكل صلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك» (2) ويندب تجديد الوضوء إذا كان قد أدى بالسابق صلاة: فرضاً أو نفلاً، لأنه نور على نور، وإن لم يؤد به عملاً مقصوداً شرعاً، كان إسرافاً (3) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» (4) كما يندب المداومة على الوضوء، لما روى ابن ماجه والحاكم وأحمد والبيهقي عن ثوبان: «استقيموا ولن تُحصْوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .
ب ـ مس الكتب الشرعية من تفسير وحديث واعتقاد وفقه ونحوها، لكن إذا كان القرآن أكثر من التفسير، حرم المس.
جـ ـ للنوم على طهارة وعقب الاستيقاظ من النوم مبادرة للطهارة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت» (5) .
__________
(1) انظر أيضاً مغني المحتاج:63/1.
(2) رواه أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة (نيل الأوطار:210/1) .
(3) رد المحتار لابن عابدين: 1 / 111.
(4) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر، لكنه حديث ضعيف.
(5) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن البراء بن عازب. ويشير حديث الأمر بغسل اليد بعد اليقظة إلى المبادرة إلى الوضوء، روى ابن ماجه عن جابر مرفوعاً: «إذا قام أحدكم من النوم، فأراد أن يتوضاً، فلا يدخل يده في وضوئه، حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده، ولا على ما وضعها» (نصب الراية: 1 / 2) .(1/314)
د ـ قبل غسل الجنابة، وللجنب عند الأكل والشرب والنوم ومعاودة الوطء، لورود السنة به، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ» (1) وقالت أيضاً: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة» (2) وقال أبو سعيد الخدري: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ» (3) .
هـ ـ بعد ثورة الغضب، لأن الوضوء يطفئه، روى أحمد في مسنده: «فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» .
وـ لقراءة القرآن، ودراسة الحديث وروايته، ومطالعة كتب العلم الشرعي، عنايةً بشأنها، وكان مالك يتوضأ ويتطهر عند إملاء الحديث عن رسول الله، تعظيماً له.
ز ـ للأذان والإقامة وإلقاء خطبة ولو خطبة زواج، وزيارة النبي صلّى الله عليه وسلم، وللوقوف بعرفة، وللسعي بين الصفا والمروة، لأنها في أماكن عبادة.
ح ـ بعد ارتكاب خطيئة، من غيبة وكذب ونميمة ونحوها، لأن الحسنات تمحو السيئات، قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار صلاة بعد صلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (4) .
__________
(1) رواه أحمد ومسلم، وهناك رواية أخرى للنسائي بمعناها.
(2) رواه الجماعة.
(3) رواه الجماعة إلا البخاري.
(4) رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي، وابن ماجه بمعناه عن أبي هريره، ورواه ابن ماجه أيضاً وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري (الترغيب والترهيب:158/1) .(1/315)
ط ـ بعد قهقهة خارج الصلاة، لأنها حدث صورة.
ي ـ بعد غسل ميت وحمله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (1) .
ك ـ للخروج من خلاف العلماء، كما إذا لمس امرأة، أو لمس فرجه ببطن كفه، أو بعد أكل لحم الجزور، لقول بعضهم بالوضوء منه، ولتكون عبادته صحيحة بالاتفاق عليها، استبراء لدينه.
الرابع ـ مكروه:
كإعادة الوضوء قبل أداء صلاة بالوضوء الأول، أي أن الوضوء على الوضوء مكروه، وإن تبدل المجلس (2) ما لم يؤد به صلاة أو نحوها.
الخامس ـ حرام:
كالوضوء بماء مغصوب، أو بماء يتيم. وقال الحنابلة: لا يصح الوضوء بمغصوب ونحوه لحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3) .
وقال المالكية (4) أيضاً: الوضوء خمسة أنواع:
واجب، ومستحب، وسنة، ومباح، وممنوع.
فالواجب: هو الوضوء لصلاة الفرض، والتطوع، وسجود القرآن، ولصلاة الجنازة، ولمس المصحف، وللطواف. ولا يصلى عندهم إلا بالواجب، ومن توضأ لشيء من هذه الأشياء، جاز له فعل جميعها.
والسنة: وضوء الجنب للنوم.
والمستحب: الوضوء لكل صلاة، ووضوء المستحاضة وصاحب السلس لكل صلاة، وأوجبه غير المالكية لهما، والوضوء للقربات كالتلاوة والذكر والدعاء والعلم، وللمخاوف كركوب البحر، والدخول على السلطان والقوم.
والمباح: للتنظيف والتبرد.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة، وهو حديث حسن.
(2) هذا ما حققه ابن عابدين (رد المحتار: 1 / 111) وإن قال في مراقي الفلاح بأن الوضوء على الوضوء يستحب إذا تبدل مجلس المتوضئ.
(3) رواه مسلم عن عائشة، وللبخاري ومسلم عنها بلفظ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
(4) القوانين الفقهية: ص20.(1/316)
والممنوع: التجديد قبل أن تقع به عبادة.
واتفق الشافعية والحنابلة (1) مع الحنفية والمالكية على الحالات السابقة ونحوها التي يندب لها الوضوء، من قراءة قرآن أو حديث، ودراسة العلم، ودخول مسجد وجلوس أو مرور فيه، وذكر وأذان ونوم ورفع شك في حدث أصغر، وغضب (2) وكلام محرم كغيبة ونحوها، وفعل مناسك الحج كوقوف ورمي جمار، وزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأكل، ولكل صلاة، لحديث أبي هريرة يرفعه: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة» (3)
كما يستحب الوضوء عند الشافعية من بعد الفصد والحجامة والرعاف والنعاس والنوم قاعداً ممكناً مقعدته من الأرض، والقهقهة في الصلاة، وأكل مامسته النار، ولحم الجزور، والشك في الحدث، وزيارة القبور، ومن حمل الميت ومسه.
المطلب الثاني ـ فرائض الوضوء:
نص القرآن الكريم على أركان أو فرائض أربعة للوضوء: وهي غسل الوجه، واليدين، والرجلين، ومسح الرأس، في قوله تعالى: {يا آيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم، وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة:6/5] .
وأضاف جمهور الفقهاء غير الحنفية بأدلة من السنة فرائض أخرى، اتفقوا فيها على النية، وأوجب المالكية والحنابلة الموالاة، كما أوجب الشافعية والحنابلة الترتيب، وأوجب المالكية أيضاً الدلك.
فتكون أركان الوضوء أربعة عند الحنفية هي المنصوص عليها، وسبعة عند المالكية بإضافة النية والدلك والموالاة، وستة عند الشافعية بإضافة النية والترتيب.
وسبعة عند الحنابلة والشيعة الإمامية بإضافة النية والترتيب والموالاة.
وبه يتبين أن أركان أو الفرائض نوعان: متفق عليها، ومختلف فيها.
__________
(1) مغني المحتاج:49/1، كشاف القناع:98/1 وما بعدها.
(2) لأنه من الشيطان، والشيطان من النار، والماء يطفئ النار، كما ورد في الخبر.
(3) رواه أحمد بإسناد صحيح.(1/317)
النَّوعُ الأوَّل ـ فرائِضُ الوضوء المتَّفق عليها:
هي أربعة منصوص عليها في القرآن العظيم وهي:
أولاً ـ غسل الوجه:
لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/5] ، أي غسل ظاهر وجميع الوجه مرة (1) ، وللإجماع (2) .
والغسل: إسالة الماء على العضو بحيث يتقاطر، وأقله قطرتان في الأصح، ولا تكفي الإسالة بدون التقاطر، والمراد بالغسل، الانغسال، سواء أكان بفعل المتوضئ أم بغيره. والفرض هو الغسل مرة، أما تكرار الغسل ثلاث مرات فهو سنة وليس بفرض.
والوجه: ما يواجه به الإنسان. وحده طولاً: ما بين منابت شعر الرأس المعتاد، إلى منتهى الذقن، أو من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن. والذقن: منبت اللحية فوق الفك السفلي أو اللَّحْيين: أي العظمين اللذين تنبت عليها الأسنان السفلى. ومن الوجه: موضع الغمم: وهو ما ينبت عليه الشعر من الجبهة، وليس منه النزعتان (3) : وهما بياضان يكتنفان الناصية: وهي مقدم الرأس من أعلى الجبين، وإنما النزعتان من الرأس؛ لأنهما في حد تدوير الرأس.
__________
(1) روى الجماعة إلا مسلماً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: توضأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرة مرة (نيل الأوطار:172/1) .
(2) الدر المختار: 1 / 88، فتح القدير: 1 / 8 وما بعدها، البدائع: 1 / 3 وما بعدها، تبيين الحقائق:2/1، الشرح الصغير:104/1وما بعدها، الشرح الكبير:85/1، مغني المحتاج:50/1 وما بعدها، المهذب: 1 /16، كشاف القناع: 1 / 92،106، المغني:114/1-120، بداية المجتهد: 1 /10، القوانين الفقهية: ص 10.
(3) يقال: رجل أنزع، ولا يقال: امرأة نزعاء، بل يقال: زعراء، والعرب تمدح بالنزع، وتذم بالغمم لأن الغمم يدل على البلادة والجبن والبخل، والنزع بضد ذلك.(1/318)
وحد الوجه عرضاً: ما بين شحمتي الأذنين. ويدخل في الوجه في الراجح عند الحنفية والشافعية البياض الذي بين العذار والأذن. وقال المالكية والحنابلة: إنه من الرأس. كما يدخل في الوجه في الأصح عند الحنابلة كما في المغني موضع التحذيف: وهو ما ينبت عليه الشعر الخفيف من طرفي الجبين بين ابتداء العذار والنزعة (1) لأن محله من الوجه. ولكن قال النووي: صحح الجمهور أي من الشافعية أن موضع التحذيف من الرأس، لاتصال شعره بشعر الرأس. وقال صاحب كشاف القناع الحنبلي: لا يدخل في الوجه تحذيف، وإنما هو من الرأس.
والصدغان من الرأس: وهما فوق الأذنين، متصلان بالعذارين، لدخولهما في تدوير الرأس، ولا بد من إدخال جزء يسير من الرأس؛ لأنه مما لا يتم الواجب إلا به. وقال الحنابلة: يستحب تعاهد موضع المفصل (وهو ما بين اللحية والأذن) بالغسل، لأنه مما يغفل الناس عنه، وقال الشافعية: ويسن غسل موضع الصلع والتحذيف والنزعتين والصدغين مع الوجه، خروجاً من الخلاف في وجوب غسلها. ويجب غسل جزء من الرأس ومن الحلق ومن تحت الحنك ومن الأذنين، كما يجب أدنى زيادة في غسل اليدين والرجلين، على الواجب فيهما؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
ومن الوجه: ظاهر الشفتين (2) ومارن الأنف (مالان منه) وموضع الجدع من الأنف ونحوه، ولا يغسل المنضم من باطن الشفتين، ولا باطن العينين.
__________
(1) وسمي بذلك لأن النساء والأشراف يحذفون الشعر عنه ليتسع الوجه وضابطه: أن تضع طرف خيط على رأس الأذن، والطرف الثاني على أعلى الجبهة، وتفرض هذا الخيط مستقيماً، فما نزل عنه إلى جانب الوجه، فهو موضع التحذيف.
(2) وهو ما ظهر عند انطباقهما بلا تكلف.(1/319)
ويجب غسل الحاجب والهُدْب (الشعر النابت على أجفان العين) والعذار (الشعر النابت على العظم الناتئ المحاذي للأذن بين الصدغ والعارض) (1) والشارب وشعر الخد، والعنفقة (الشعر النابت على الشفة السفلى) واللِّحية (الشعر النابت على الذقن خاصة، وهي مجمع اللِّحْيين) الخفيفة، ظاهراً وباطناً، خفيفاً كان الشعر أو كثيفاً (2) لما روى مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلم لرجل ترك موضع ظفر على قدمه: «ارجع فأحسن وضوءك» .
فإن كانت اللحية كثيفة لا ترى بشرتها، فيجب فقط غسل ظاهرها، ويسن تخليل باطنها، ولا يجب إيصال الماء إلى بشرة الجلد، لعسر إيصال الماء إليه، ولما روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة غسل بها وجهه (1) وكانت لحيته الكريمة كثيفة، وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى ذلك غالباً.
وأما المسترسل من اللحية الخارج عن دائرة الوجه فيجب غسله عند الشافعية على المعتمد، وعند الحنابلة، لأنه نابت في محل الفرض، ويدخل في اسمه ظاهراً، ويفارق ذلك شعر الرأس، فإن النازل عنه لا يدخل في اسمه، ولما رواه مسلم عن عمرو بن عَبْسة: « ... ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خَرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء» .
ولم يوجب الحنفية والمالكية غسل المسترسل؛ لأنه شعر خارج عن محل الفرض، وليس من مسمى الوجه.
__________
(1) العارض: صفحة الخد، أو هو القدر المحاذي للأذن من الوجه، أو ما نزل عن حد العذار.
(2) الشعر الكثيف: ما يستر البشرة عن المخاطب، بخلاف الخفيف.
(1) رواه البخاري عن ابن عباس (نيل الأوطار: 1 /147) .(1/320)
وأضاف الحنابلة: أن الفم والأنف من الوجه يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء، لما روى أبو داود وغيره: «إذا توضأت فمضمض» ولما روى الترمذي من حديث سلمة بن قيس: «إذا توضأت فانتثر» ولحديث أبي هريرة المتفق عليه: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر» كما أوجب الحنابلة التسمية في الوضوء لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاصلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (1) .
ثانياً ـ غسل اليدين إلى المرفقين مرة واحدة:
لقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة:6/5] ، وللإجماع (2) .
والمرفق: ملتقى عظم العضد والذراع.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة، ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد وأبي سعيد مثله.
(2) المراجع السابقة: البدائع: ص 4، فتح القدير: ص 10، تبيين الحقائق: ص 3، الدر المختار: ص 90 وما بعدها، الشرح الصغير: ص107 وما بعدها، الشرح الكبير: ص87 وما بعدها، بداية المجتهد: 1 / 10، القوانين الفقهية: ص 10، مغني المحتاج: ص52، المهذب: ص16 وما بعدها، المغني: ص 122وما بعدها، كشاف القناع: ص 108وما بعدها.(1/321)
ويجب عند جمهور العلماء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة إدخال المرفقين في الغسل، لأن حرف «إلى» لانتهاء الغاية، وهي هنا بمعنى «مع» كما في قوله تعالى: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود:52/11] ، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء:2/4] ، ولأن الأصل في اليد شمولها الكف إلى الذراع، لكن التحديد بالمرافق أسقط ما وراءها، وقد أوضحت السنة النبوية المطلوب وبينت المجمل، روى مسلم عن أبي هريرة في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنه توضأ فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد..» (1) وروى الدارقطني عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «هلمَّ أتوضأ لكم وُضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغسل وجهه ويديه حتى مسَّ أطراف العضدين ... » (2) وروى الدارقطني أيضاً عن جابر، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا توضأ أمرَّ الماء على مرفقيه» .
ويجب غسل تكاميش الأنامل، وغسل ما تحت الأظافر الطويلة التي تستر رؤوس الأنامل، كما يجب عند غير الحنفية إزالة أوساخ الأظافر إن منعت وصول الماء، بأن كانت كثيرة، ويعفى عن القليل منها، ويعفى عند الحنفية عن تلك الأوساخ، سواء أكانت كثيرة أم يسيرة دفعاً للحرج. لكن يجب بالاتفاق إزالة ما يحجب الماء عن الأظافر غيرها كدهن وطلاء.
ويجب عند المالكية تخليل أصابع اليدين، ويندب تخليل أصابع الرجلين.
ويجب غسل الإصبع الزائدة في محل الفرض مع الأصلية؛ لأنها نابتة فيه، كما يجب عند الحنابلة والمالكية غسل جلدة متعلقة في غير محل الفرض وتدلت إلى محل الفرض. وقال الشافعية: إن تدلت جلدة العضد منه، لم يجب غسل شيء منها، لا المحاذي ولا غيره؛ لأن اسم اليد لا يقع عليها، مع خروجها عن محل الفرض.
__________
(1) نيل الأوطار: 1 / 152.
(2) نيل الأوطار: 1 / 152.(1/322)
فإن قطع بعض ما يجب غسله من اليدين، وجب بالاتفاق غسل ما بقي منه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
أما من قطعت يده من المرفق فيجب عليه غسل رأس عظم العضد، لأنه من المرفق.
فإن قطع ما فوق المرفق، ندب غسل باقي العضد، لئلا يخلو العضد عن طهارة.
ويجب عند الجمهور تحريك الخاتم الضيق، ولا يجب عند المالكية تحريك الخاتم المأذون فيه لرجل وامرأة، ولو ضيقاً لا يدخل الماء تحته، ولا يعد حائلاً.
ثالثاً ـ مسح الرأس:
لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة:6/5] ، وروى مسلم «أنه (صلّى الله عليه وسلم) مسح بناصيته وعلى العمامة» .
والمسح: هو إمرار اليد المبتلة على العضو.
والرأس: منبت الشعر المعتاد من المقدم فوق الجبهة إلى نقرة القفا. ويدخل فيه الصُدْغان ما فوق العظم الناتئ في الوجه. واختلف الفقهاء في القدر المجزئ منه (1) :
فقال الحنفية على المشهور المعتمد: الواجب مسح ربع الرأس مرة، بمقدار الناصية، فوق الأذنين لا على طرف ذؤابة (ضفيرة) ، ولو بإصابة مطر أو بلل باق بعد غسل لم يؤخذ من عضو آخر.
ودليلهم: أنه لا بد من تحقيق معنى المسح عرفاً، فيحمل على مقدار يسمى المسح عليه مسحاً في المتعارف، وبما أن الباء للإلصاق، فيكون معنى الآية وامسحوا أيديكم ملصقة برؤوسكم، والقاعدة: أن الباء إذا دخلت على الممسوح اقتضت استيعاب الآلة، وإذا دخلت على الآلة اقتضت استيعاب الممسوح، فتفيد المسح بمقدار اليد؛ لأن استيعاب اليد ملصقة بالرأس لا يستغرق غالباً سوى الربع، فيكون هو المطلوب من الآية.
__________
(1) تبيين الحقائق: 1 / 3، البدائع: 1 / 4، فتح القدير: 1 / 10 وما بعدها، الدر المختار:92/1، بداية المجتهد: 1 / 11، القوانين الفقهية: ص21، الشرح الصغير: 1 / 108 وما بعدها، الشرح الكبير: 1 / 88، المهذب: 1 / 17، مغني المحتاج: 1 / 53،المغني:125/1 وما بعدها، كشاف القناع: 1 / 109 وما بعدها.(1/323)
ويوضحه مارواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، والخفين» وما رواه أبو داود عن أنس قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عِمامة قِطْرية (من صنع قَطَر) ، فأدخل يده تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة» (1) ، فكان ذلك بياناً لمجمل الآية القرآنية، لأن الناصية أو مقدم الرأس مقدرة بالربع؛ لأنها أحد جوانب الرأس الأربعة، ولعل أرجح الآراء وجوب مسح مقدار يسمى مسحاً باليد في العرف.
وقال المالكية: والحنابلة في أرجح الروايتين عندهم: يجب مسح جميع الرأس، وليس على الماسح نقض ضفائر شعره، ولا مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس، ويجزئ المسح على الشعر الذي لم ينزل عن محل الفرض. فإن فقد شعره مسح بشرته؛ لأنها ظاهر رأسه بالنسبة إليه.
__________
(1) نيل الأوطار: 1 / 157،167، نصب الراية: 1 / 1 - 2.(1/324)
والظاهر عند الحنابلة: وجوب الاستيعاب للرجل، أما المرأة فيجزئها مسح مقدم رأسها؛ لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها. ويجب أيضاً عند الحنابلة مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما؛ لأنهما من الرأس، لما رواه ابن ماجه: «الأذنان من الرأس» (1) .
ويكفي المسح عندهم مرة واحدة، ولا يستحب تكرار مسح رأس وأذن، قال الترمذي وأبو داود: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ لأن أكثر من وصف وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح رأسه واحدة، لأنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وقالوا فيها: (ومسح برأسه) ولم يذكروا عدداً، كما ذكروا في غيره.
ودليلهم: أن الباء للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول، فكأنه تعالى قال: ألصقوا المسح برؤوسكم أي المسح بالماء.
ولأنه صلّى الله عليه وسلم مسح جميع الرأس، روى عبد الله بن زيد «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر، بدأ بمقدِّم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قَفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه» (2) وهو يدل على مشروعية مسح جميع الرأس، وهو مستحب باتفاق العلماء، كما قال النووي.
وقال الشافعية: الواجب مسح بعض الرأس، ولو شعرة واحدة في حدِّ الرأس، بأن لا يخرج بالمدِّ عنه من جهة نزوله.
والأصح عند الشافعية جواز غسله لأنه مسح وزيادة، وجواز وضع اليد على الرأس بلا مَدّ، لحصول المقصود من وصول البلل إليه.
والأصح عند الحنابلة: أنه لا يكفي غسل الرأس من غير إمرار اليد على الرأس، فيجزئه الغسل مع الكراهة إن أمرّ يده.
__________
(1) وعن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» رواه الترمذي وصححه (نيل الأوطار: 1 / 162) .
(2) رواه الجماعة، وروى أبو داود وأحمد حديثاً حسناً عن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ عندها، ومسح برأسه، فمسح الرأس كله من فوق الشعر، كلَّ ناحية لمُنصَبِّ الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته» (نيل الأوطار: 1 /154،156) .(1/325)
ودليل الشافعية حديث المغيرة السابق عند الشيخين: «أنه صلّى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وعلى العمامة» فاكتفى بمسح البعض فيما ذكر، لأن المطلوب مطلقاً وهو المسح في الآية يتحقق بالبعض، والباء إذا دخلت على متعدد، كما في الآية، تكون للتبعيض، فيكفي القليل كالكثير.
والحق: أن الآية من قبيل المطلق، وأنها لا تدل على أكثر من إيقاع المسح بالرأس، وذلك يتحقق بمسح الكل، وبمسح أي جزء قل أم كثر، ما دام في دائرة ما يصدق عليه اسم المسح، وأن مسح شعرة أو ثلاث شعرات لا يصدق عليه ذلك (1) .
رابعاً ـ غسل الرجلين إلى الكعبين:
لقوله تعالى: {وأرجلكم (2) إلى الكعبين} [المائدة:5/6] ، ولإجماع العلماء، ولحديث عمرو بن عَبْسة عند أحمد: « ... ثم يمسح رأسه كما أمر الله، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله» ولحديث عثمان عند أبي داود والدارقطني بعد أن غسل رجليه قال: «هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ» ولغيرهما من الأحاديث كحديث عبد الله بن زيد وحديث أبي هريرة.
والكعبان: هما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل القدم.
والواجب عند جمهور الفقهاء غسل الكعبين أو قدرهما عند فقدهما مع الرجلين مرة واحدة، كغسل المرفقين، لدخول الغاية في المُغَيَّا أي لدخول ما بعد «إلى» فيما قبلها (3) ،ولحديث أبي هريرة السابق: « ... ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ» (4) .
__________
(1) مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد علي السايس: ص 11.
(2) قراءة السبع بالنصب، وقراءة غيرها بالجر للمجاورة، عطفاً على الوجوه، لفظاً في الأول، ومعنى في الثاني.
(3) البدائع: 1 / 5، الشرح الصغير: 1 / 109، مغني المحتاج: 1 /53، المغني: 1 /132 وما بعدها.
(4) رواه مسلم (نيل الأوطار: 1 / 152) .(1/326)
ويلزم عند الجمهور أيضاً غسل القدمين مع الكعبين، ولا يجزئ مسحهما لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار» (1) فقد توعد على المسح، ولمداومته صلّى الله عليه وسلم على غسل الرجلين، وعدم ثبوت المسح عنه من وجه صحيح، ولأمره بالغسل، كما ثبت في حديث جابر عند الدارقطني بلفظ «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا» ولثبوت ذلك من قوله وفعله صلّى الله عليه وسلم، كما في حديث عمرو بن عَبْسة وأبي هريرة وعبد الله بن زيد وعثمان السابقة التي فيها حكاية وضوء رسول الله وفيها: (فغسل قدميه) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءاً غسل قدميه: «فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» (2) ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص، ولقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» (3) ثم ذكر له صفة الوضوء، ولإجماع الصحابة على الغسل، فكانت هذه الأمور موجبة لحمل قراءة (وأرجلِكم) بالكسر على حالة نادرة مخالفة للظاهر، لا يجوز حمل المتنازع فيه عليها. وعطفها على (برؤوسكم) بالجر للمجاورة. وأما قراءة النصب فهي عطف على اليدين في الغسل.
ثم إن أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتخليل أصابع اليدين والرجلين يدل على وجوب الغسل (4) .
__________
(1) رواه أحمد والشيخان عن عبد الله بن عمر، قال: «تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفرة، فأدرَكنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا» (نيل الأوطار: 1 /167) .
(2) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق صحيحة، وصححه ابن خزيمة (نيل الأوطار: 1 /146،152، 168،173) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني عن أنس بن مالك، ورواه أحمد ومسلم عن عمر بن الخطاب (نيل الأوطار: 1 / 170،175) .
(4) روى أحمد وابن ماجه والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك» (نيل الأوطار: 1 /153) .(1/327)
وأوجب الشيعة الإمامية (1) مسح الرجلين، لما أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي: «أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى كِظَامة (2) قوم بالطائف، فتوضأ، ومسح على نعليه وقدميه» (3) ، وعملاً بقراءة الجر «وأرجلكم» وبما روي عن علي وابن عباس وأنس، لكن قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال الشوكاني: وأما الموجبون للمسح، وهم الإمامية، فلم يأتوا مع مخالفتهم الكتاب والسنة المتواترة قولاً وفعلاً بحجة نيرة، وجعلوا قراءة النصب عطفاً على محل قوله: {برؤوسكم} [المائدة:6/5] (4) .
والسبب في ذكر الغسل والمسح في الأرجل بحسب قراءتي النصب والجر ـ كما ذكر الزمخشري ـ هو توقي الإسراف؛ لأن الأرجل مظنة لذلك.
والخلاصة: أن أركان الوضوء المتفق عليها أربعة: غسل الوجه واليدين والرجلين مرة واحدة، والمسح بالرأس مرة واحدة، وأما التثليث فهو سنة، كما سيأتي بيانه.
__________
(1) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 30.
(2) الكظامة: القناة، أو فم الوادي.
(3) حديث معلول بجهالة بعض رواته، وعلى تقدير ثبوته ذهب بعضهم إلى نسخه، قال هيثم: كان هذا في أول الإسلام: (نيل الأوطار: 1 /169) .
(4) نيل الأوطار: المكان السابق.(1/328)
النَّوع الثَّاني ـ فرائِضُ الوضوء المختلف فيها:
اختلف الفقهاء في إيجاب النية والترتيب والموالاة والدلك. فقال غير الحنفية بفرضية النية، وقال المالكية والحنابلة والإمامية بوجوب الموالاة، وقال الشافعية والحنابلة والإمامية بوجوب الترتيب، وانفرد المالكية بإيجاب الدلك. وأبحث الخلاف في هذه الأمور:
أولاً ـ النية:
النية لغة: القصد بالقلب، لا علاقة للسان بها، وشرعاً: هي أن ينوي المتطهر أداء الفرض، أو رفع حكم الحدث، أو استباحة ما تجب الطهارة له، كأن يقول المتوضئ: نويت فرائض الوضوء، أو يقول من دام حدثه كمستحاضة وسلس بول أو ريح: نويت استباحة فرض الصلاة، أو الطواف أو مس المصحف. أو يقول المتطهر مطلقاً: نويت رفع الحدث، أي إزالة المانع بين كل فعل يفتقر إلى الطهارة. وعرف الحنفية النية اصطلاحاً بأنها توجه القلب لإيجاد الفعل جزماً.
وقد اختلف الفقهاء في اشتراط النية للطهارة:
فقال الحنفية (1) : يسن للمتوضئ البداية بالنية لتحصيل الثواب، ووقتها: قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة. وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء أو امتثال الأمر. ومحلها القلب، فإن نطق بها ليجمع بين فعل القلب واللسان، فهو مستحب عند المشايخ.
ويترتب على قولهم بعدم فرضية النية: صحة وضوء المتبرد، والمنغمس في الماء للسباحة أو للنظافة أو لإنقاذ غريق، ونحو ذلك.
واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
1ً - عدم النص عليها في القرآن: إن آية الوضوء لم تأمر إلا بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح بالرأس، والقول باشتراط النية بحديث آحاد زيادة على نص الكتاب، والزيادة على الكتاب عندهم نسخ، لا يصح بالآحاد.
2ً - عدم النص عليها في السنة: لم يعلمها النبي صلّى الله عليه وسلم للأعرابي مع جهله. وفرضت النية في التيمم لأنه بالتراب، وليس هو مزيلاً للحدث بالأصالة، وإنما هو بدل عن الماء.
__________
(1) الدر المختار: 1 / 98 - 100، اللباب: 1 /16، مراقي الفلاح: ص 12، البدائع:17/1، مقارنة المذاهب في الفقه: ص14.(1/329)
3ً - القياس على سائر أنواع الطهارة وغيرها: إن الوضوء طهارة بماء، فلا تشترط لها النية كإزالة النجاسة، كما لا تجب النية في شروط الصلاة الأخرى كستر العورة، ولا تجب أيضاً بغسل الذمية من حيضها لتحل لزوجها المسلم.
4ً - إن الوضوء وسيلة للصلاة، وليس مقصوداً لذاته، والنية شرط مطلوب في المقاصد، لا في الوسائل.
وقال المالكية والشافعية: النية فرض في الوضوء، وعند الحنابلة شرط، لتحقيق العبادة أو قصد القربة لله عز وجل (1) ،فلا تصح الصلاة بالوضوء لغير العبادة كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك. واستدلوا بما يأتي:
1ً - السنة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) أي إن الأعمال المعتدّ بها شرعاً تكون بالنية، والوضوء عمل، فلا يوجد شرعاً إلا بنية.
2ً - تحقيق الإخلاص في العبادة: لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:5/98] ، والوضوء عبادة مأمور بها، لا يتحقق إلا بإخلاص النية فيه لله تعالى، لأن الإخلاص عمل القلب وهو النية.
3ً - القياس: تشترط النية في الوضوء كما تشترط في الصلاة، وكما تشترط في التيمم لا ستباحة الصلاة.
4ً - الوضوء وسيلة للمقصود، فله حكم ذلك المقصود، لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/5] ، فهذا يدل على أن الوضوء مأمور به عند القيام للصلاة، ومن أجل هذه العبادة، فالمطلوب غسل الأعضاء لأجل الصلاة، وهو معنى النية.
__________
(1) المجموع للنووي: 1 /361 وما بعدها، المهذب: 1 / 14 وما بعدها، بداية المجتهد: 1 / 7 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص21، الشرح الصغير: 1 / 114 وما بعدها، الشرح الكبير: 1 / 93وما بعدها، مغني المحتاج: 1 / 47وما بعدها، المغني: 1 /110 وما بعدها، كشاف القناع: 1 /94-101.
(2) متفق على صحته، رواه الجماعة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (نيل الأوطار: 1 / 131) .(1/330)
والحق: القول بفرضية النية؛ لأن أحاديث الآحاد كثيراً ما أثبتت أحكاماً ليست في القرآن، ولأن عموم الماء للأعضاء بدون قصد أصلاً، أو بقصد التبرد، ليس غسلاً للوضوء، حتى يؤد ي مهمته الشرعية، ويحقق المأمور به كما أمر به (1) .
ما يتعلق بالنية: يتلخص مما سبق أمور تتعلق بالنية هي ما يأتي (2) :
أـ حقيقتها: لغة: القصد، وشرعاً: قصد الشيء مقترناً بفعله.
ب ـ حكمها: عند الجمهور: الوجوب، وعند الحنفية: الاستحباب.
جـ ـ المقصود بها: تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز رتبتها أي تمييز بعض العبادات عن بعض، كالصلاة تكون فرضاً تارة، ونفلاً أخرى.
د ـ شرطها: إسلام الناوي وتمييزه وعلمه بالمنوي، وعدم إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها حكماً، فلا ينصرف عن الوضوء مثلاً لغيره، وألا تكون معلقة، فلو قال: إن شاء الله تعالى: فإن قصد التعليق أوأطلق، لم تصح، وإن قصد التبرك صحت.
واشترط غير الحنفية دخول وقت الصلاة لدائم الحدث كسلس بول ومستحاضة؛ لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم.
هـ ـ محلها: القلب، إذ هي عبارة عن القصد، ومحل القصد: القلب، فمتى اعتقد بقلبه أجزأه، وإن لم يتلفظ بلسانه، أما إن لم تخطر النية بقلبه، فلم يجزئه الفعل الحاصل، والأولى عند المالكية ترك التلفظ بالنية، ويسن عند الشافعية والحنابلة: التلفظ بها، إلا أن المذهب عند الحنابلة أنه يستحب التلفظ بها سراً، ويكره الجهر بها وتكرارها.
__________
(1) مقارنة الفقه في المذاهب: ص 17.
(2) مغني المحتاج: 1 /47 والمراجع السابقة: المغني: 1 /142.(1/331)
وـ صفتها: أن يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وينوي رفع الحدث الأصغر، أي المنع المترتب على الأعضاء، أي أن صفة النية أن ينوي رفع الحدث أو الطهارة من الحدث، وأيهما نواه أجزأه، لأنه نوى المقصود وهو رفع الحدث.
فإن نوى بالطهارة: ما لا تشرع له الطهارة، كالتبرد والأكل والبيع والزواج ونحوه، ولم ينو الطهارة الشرعية، لم يرتفع حدثه؛ لأنه لم ينو الطهارة ولامايتضمن نيتها، فلم يحصل له شيء، كالذي لم يقصد شيئاً.
وإن نوى بالوضوء الصلاة وغيرها كالتبرد أو النظافة أو التعليم أو إزالة النجاسة، صحت النية وأجزأته. لكن لو أطلق النية أي لمجرد الطهارة الشاملة للحدث والخبث مثلاً، لم تصح ولم تجزئ، حتى يتحقق تمييز العبادة عن العادة، ولا يتم التمييز إلا بالنية، والطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن نجس، فلم تصح بنية مطلقة.
وإن نوى المتوضئ بوضوئه ما تسن له الطهارة، كأن نوى الوضوء لقراءة وذكر وأذان ونوم وجلوس بمسجد أو تعليم علم وتعلمه أو زيارة عالم ونحو ذلك، ارتفع حدثه وله أن يصلي ما شاء عند الحنابلة، لأنه نوى شيئاً من ضرورة صحة الطهارة.
ولا يجزئه للصلاة عند المالكية من غير أن ينوي رفع الحدث، لأن ما نواه يصح فعله مع بقاء الحدث.
كما لا يجزئه في الأصح عند الشافعية؛ لأنه مباح مع الحدث، فلا يتضمن قصده رفع الحدث.
ولا خلاف في أنه إذا توضأ لنافلة أو لما يفتقر إلى الطهارة كمس المصحف والطواف، صلى بوضوئه الفريضة؛ لأنه ارتفع حدثه (1) .
وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها، وهو فيها، فلم تصح كالصلاة.
ولا يضر شكه في النية بعد فراغ الطهارة، كسائر العبادات.
__________
(1) المغني:142/1.(1/332)
وإذا وضّأه غيره، اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ؛ لأن المتوضئ هو المخاطب بالوضوء، والوضوء يحصل له بخلاف الموضئ فإنه آلة لا يخاطب ولا يحصل له.
وينوي من حدثه دائم كالمستحاضة وسلس البول ونحوه استباحة الصلاة دون رفع الحدث، لعدم إمكان رفعه.
ز ـ وقت النية: قال الحنفية: وقتها قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة، وقال الحنابلة: وقتها عند أول واجب وهو التسمية في الوضوء، وقال المالكية: محلها الوجه، وقيل: أول الطهارة.
وقال الشافعية: عند أول غسل جزء من الوجه، ويجب عند الشافعية قرنها بأول غسل الوجه لتقترن بأول الفرض كالصلاة. ويستحب أن ينوي قبل غسل الكفين لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها، فيثاب على كل منهما. ويجوز تقديم النية على الطهارة بزمن يسير، فإن طال الزمن لم يُجزه ذلك.
ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر الطهارة، لتكون أفعاله مقترنة بالنية، وإن استصحب حكمها أجزأه، ومعناه: ألا ينوي قطعها.
ولا يضر عزوب النية: أي ذهابها عن خاطره وذهوله عنها، بعد أن أتى بها في أول الوضوء؛ لأن ما اشترطت له النية لا يبطل بعزوبها والذهول عنها كالصلاة والصيام. وذلك بخلاف الرفض: أي الإبطال في أثناء الوضوء بأن يبطل ما فعله منه، كأن يقول بقلبه: أبطلت وضوئي، فإنه يبطل. وللمتوضئ عند الشافعية والحنابلة تفريق النية على أعضاء الوضوء، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه، لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء، فكذلك يجوز تفريق النية على أفعاله.
والمعتمد عند المالكية خلافاً للأظهر عند ابن رشد: أنه لا يجزئ تفريق النية على الأعضاء، بأن يخص كل عضو بنية، من غير قصد إتمام الوضوء، ثم يبدو له فيغسل ما بعده، وهكذا، فإن فرق النية على الأعضاء مع قصده إتمام الوضوء على الفور، أجزأه ذلك. وبه يلتقي المالكية مع الشافعية والحنابلة.
والخلاصة: اتفق العلماء على وجوب النية في التيمم، واختلفوا في وجوبها في الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر على قولين.(1/333)
ثانياً ـ الترتيب:
الترتيب: تطهير أعضاء الوضوء واحداً بعد الآخر كما ورد في النص القرآني: أي غسل الوجه أولاً ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين. واختلف الفقهاء في وجوبه (1) .
فقال الحنفية والمالكية: إنه سنة مؤكدة لا فرض، فيبدأ بما بدأ الله بذكره وبالميامن؛ لأن النص القرآني الوارد في تعداد فرائض الوضوء عطف المفروضات بالواو، التي لا تفيد إلا مطلق الجمع، وهو لا يقتضي الترتيب، ولو كان الترتيب مطلوباً لعطفه بالفاء أو (ثم) ، والفاء التي في قوله تعالى: {فاغسلوا} [المائدة:6/5] ، لتعقيب جملة الأعضاء.
__________
(1) الدر المختار: 1 /113، مراقي الفلاح: ص12، فتح القدير: 1 /23، البدائع: 1 /17 وما بعدها، الشرح الصغير: 1 /120، الشرح الكبير: 1 /102، مغني المحتاج:54/1، المهذب:19/1، المغني: 1 /136-138، كشاف القناع: 1 /116، بداية المجتهد: 1 /16، القوانين الفقهية: ص 22، المجموع: 1 /480 -486.(1/334)
وروي عن علي وابن عباس وابن مسعود ما يدل على عدم وجوب الترتيب، قال علي رضي الله عنه: «ما أبالي بأي أعضائي بدأت» وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «لابأس بالبداية بالرجلين قبل اليدين» وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لابأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء» (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: الترتيب فرض في الوضوء لا في الغسل. لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به (2) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حجته: «ابدؤوا بما بدأ الله به» (3) ، والعبرة بعموم اللفظ، ولأن في آية الوضوء قرينة تدل على أنه أريد بها الترتيب، فإنه تعالى ذكر ممسوحاً بين مغسولات، والعرب لا تفرق بين المتجانسين ولا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، وهي هنا الترتيب، ولأن الآية بيان للوضوء الواجب، بدليل أنه لم يذكر فيها شيء من السنن. وقياساً على الترتيب الواجب في أركان الصلاة.
فلو نكس (4) الترتيب المطلوب، فبدأ برجليه، وختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، ثم يكمل ما بعده على الترتيب الشرعي. ويمكن تصحيح الوضوء غير المرتب بأن يغسل أعضاءه أربع مرات، لأنه يحصل له في كل مرة غسل كل عضو، فيحصل له من المرة الأولى غسل الوجه، ومن الثانية غسل اليدين، ومن الثالثة مسح الرأس، ومن الرابعة غسل الرجلين.
وإن غسل أعضاءه دفعة واحدة، لم يصح وضوءه، وكذا لو وضأه أربعة في حالة واحدة؛ لأن الواجب الترتيب، لا عدم التنكيس، ولم يوجد الترتيب.
ولو اغتسل محدث حدثاً أصغر فقط بنية رفع الحدث أو نحوه، فالأصح عن الشافعية: أنه إن أمكن تقدير ترتيب بأن غطس مثلاً صح، ولو بلا مُكْث؛ لأنه يكفي ذلك لرفع أعلى الحدثين، فللأصغر أولى، ولتقدير الترتيب في لحظات معينة.
ولا يكفي ذلك عند الحنابلة، إلا إذا مكث في الماء قدراً يسع الترتيب، فيخرج وجهه ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يخرج من الماء، سواء أكان الماءراكداً أم جارياً.
__________
(1) روى الدارقطني الأثرين الأولين، وأما الأثر الثالث فلا يعرف له أصل.
(2) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 1 /152) .
(3) رواه النسائي بإسناد صحيح.
(4) نكس ـ كنصر ـ الشيء: فانتكس: قلبه على رأسه، ونكَّسه بالتشديد تنكيساً.(1/335)
والترتيب مطلوب بين الفرائض، ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين، وإنما هو مندوب، لأن مخرجهما في القرآن واحد، قال تعالى: {وأيديكم} .... {وأرجلكم} [المائدة:6/5] ، والفقهاء يعدون اليدين عضواً، والرجلين عضواً، ولا يجب الترتيب في العضو الواحد. وهذا هو المقصود من قول علي وابن مسعود، قال أحمد: إنما عنيا به اليسرى قبل اليمنى؛ لأن مخرجهما من الكتاب واحد.
وفي تقديري: أن رأي القائلين بالترتيب أولى، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً عليه، واستمر الصحابة على ذلك، لا يعرفون غير الترتيب في الوضوء، ولايتوضؤون إلا مرتبين، ودرج المسلمون على الترتيب في كل العصور. وكون الواو لا يقتضي الترتيب صحيح مسلّم به، لكن ذلك عند عدم القرائن الدالة على إرادة الترتيب، والقرائن الدالة عليه كثيرة، وهي المواظبة من النبي وصحبه (1) .
ثالثاً ـ الموالاة أو الوِلاء:
هي متابعة أفعال الوضوء بحيث لا يقع بينها ما يعد فاصلاً في العرف، أو هي المتابعة بغسل الأعضاء قبل جفاف السابق، مع الاعتدال مزاجاً وزماناً ومكاناً ومناخاً. واختلف الفقهاء في وجوبها (2) .
فقال الحنفية الشافعية: الموالاة سنة لا واجب، فإن فرق بين أعضائه تفريقاً يسيراً لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. وإن فرق تفريقاً كثيراً، وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل، أجزأه؛ لأن الوضوء عبادة لايبطلها التفريق القليل والكثير كتفرقة الزكاة والحج.
واستدلوا على رأيهم بالآتي:
1ً - «إنه صلّى الله عليه وسلم توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد يمسح على خفيه وصلى عليها» (3) قال الإمام الشافعي: وبينهما تفريق كثير.
2ً - صح عن ابن عمر رضي الله عنهما التفريق أيضاً، ولم ينكر عليه أحد.
__________
(1) مقارنة المذاهب: ص21-23.
(2) بداية المجتهد: 1 /17، القوانين الفقهية: ص21، المجموع:489/1-493، الدر المختار: 1 /113، الشرح الصغير: 1 / 111، الشرح الكبير: 1 /90، مغني المحتاج: 1 /61، كشاف القناع: 1 /117، المغني: 1 /138، المهذب: 1 /19.
(3) الواقع أنه أثر صحيح رواه مالك عن نافع: «أن ابن عمر توضأ في السوق ... » الخ (المجموع:493/1) .(1/336)
وقال المالكية والحنابلة: الموالاة في الوضوء لا في الغسل فرض، بدليل مايأتي:
1ً - «إنه صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لُمْعة (بقعة) قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» (1) ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة.
2ً - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى» (2) .
3ً - مواظبته صلّى الله عليه وسلم على الوِلاء في أفعال الوضوء، فإنه لم يتوضأ إلا متوالياً، وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء.
4ً - القياس على الصلاة، الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فاشترطت الموالاة كالصلاة.
وفي تقديري أن القول بضرورة الموالاة إلا لعجز أمر يتفق مع ضرورة الجدية في العبادات وعدم العبث واللعب فيها، ومع وحدة العبادات، والسنة الفعلية، ولزوم الانصراف الكلي بالنية والتطبيق لتنفيذ مطلب الشرع على نحو متتابع منسجم بعضه مع بعض، دون تخلل أمر صارف عن موضوعية الفعل.
رابعاً ـ الدلك الخفيف باليد:
الدلك: هو إمرار اليد على العضو بعد صب الماء قبل جفافه، والمراد باليد: باطن الكف، فلا يكفي دلك الرِجل بالأخرى.
واختلف الفقهاء في إيجابه (3) .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، لكن قال عنه النووي: إنه ضعيف الإسناد، وقال عنه أحمد: إسناده جيد.
(2) رواه أحمد ومسلم (انظر الحديثين في نيل الأوطار:174/1 وما بعدها) لكن قال عنه النووي: لا دلالة فيه على الموالاة.
(3) فتح القدير: 1 / 9، الدر المختار: 1 / 114، مراقي الفلاح: ص12، الشرح الصغير: 1 /110 وما بعدها، الشرح الكبير: 1 /90، نيل الأوطار:220/1،245.(1/337)
فقال الجمهور (غير المالكية) : الدلك سنة لا واجب، لأن آية الوضوء لم تأمر به، والسنة لم تثبته، فلم يذكر في صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم. والثابت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام مجرد إفاضة الماء مع تخلل أصول الشعر (1) .
وقال المالكية: الدلك واجب، ويكون في الوضوء بباطن الكف، لا بظاهر اليد، ويكفي الدلك بالرجل في الغسل، والدلك فيه: هو إمرار العضو على العضو إمراراً متوسطاً، ويندب أن يكون خفيفاً مرة واحدة، ويكره التشديد والتكرار لما فيه من التعمق في الدين المؤدي للوسوسة.
وهو واجب بنفسه، ولو وصل الماء للبشرة على المشهور.
واستدلوا بما يأتي:
1ً - إن الغسل المأمور به في آية الوضوء {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/5] ، لا يتحقق معناه إلا بالدلك، فإن مجرد إصابة الماء للعضو لا يعتبر غسلاً، إلا إذا صاحبه الإمرار بشيء آخر على الجسم، وهو معنى الدلك.
2ً - حديث «بُلُّوا الشعر، وأنقوا البشر» (2) على فرض صحته مشعر بوجوب الدلك؛ لأن الإنقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة.
3ً - القياس: قاسوا طهارة الحدث الأصغر على إزالة النجاسة التي لا تحصل إلا بالدلك والعرك، كما قاسوها على غسل الجنابة في آية: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] ، فالصيغة للمبالغة، والمبالغة تكون بالدلك. ويظهر لي أن الدلك وسيلة تنظيف وتحسين هيئة الأعضاء الظاهرة، ويكفي لتحقيق هذا
__________
(1) عبرت ميمونة عن كيفية الغسل بالغسل، وعبرت عائشة بالإفاضة والمعنى واحد، وقد استدل بذلك على عدم وجوب الدلك، وعلى أن مسمى (غسل) لا يدخل فيه الدلك (نيل الأوطار: 1 /244 وما بعدها) .
(2) نيل الأوطار: 1 /220.(1/338)
المقصود القول بسنية الدلك لا بوجوبه، لأن الأحاديث التي وصفت غسل النبي صلّى الله عليه وسلم لا تدل حقاً على الدلك، وليس في كتب اللغة ما يشعر بأن الدلك داخل في مسمى الغسل، فالواجب ما صدق عليه اسم الغسل المأمور به لغة.
حكم ناسي أحد الفروض: قال ابن جزي المالكي (1) : من نسي شيئاً من فرائض الوضوء، فإن ذكر بعد أن جف وضوءه، فعل ما ترك خاصة، وإن ذكر قبل أن يجف وضوءه ابتدأ الوضوء، قال الطُّليطلي: إنه يعيد الذي نسي وما بعده ولايبتدئ الوضوء، وهو الصحيح.
المطلب الثالث ـ شروط الوضوء:
سبب وجوب الوضوء: هو الحدث، ودخول وقت الصلاة، والقيام إليها ونحوها، والأصح عند الشافعية: الاثنان معاً أي الحدث والقيام إلى الصلاة ونحوها.
وأما شروط الوضوء فنوعان: شروط وجوب، وشروط صحة (2) .
وشرائط الوجوب: هي ما إذا اجتمعت وجبت الطهارة على الشخص. وشرائط الصحة: ما لا تصح الطهارة إلا بها.
أولاً ـ شروط الوجوب:
يشترط لوجوب الوضوء على الشخص، أي التكليف به وافتراضه عليه شروط ثمانية هي ما يأتي:
1ً - العقل: فلا يجب ولا يصح من مجنون حال جنونه، ولا من مصروع حال صرعه، ولا يجب على النائم والغافل ولا يصح منهما لعدم النية عند الجمهور غير الحنفية؛ إذ لا نية لنائم أو غافل حال النوم أو الغفلة.
2ً - البلوغ: فلا يجب على صبي، لكن لا يصح الوضوء إلا من مميز، فالتمييز شرط لصحة الوضوء.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص23.
(2) البدائع: 1 /15، الدر المختار ورد المحتار: 1 /80، مراقي الفلاح: ص10، الشرح الصغير: 1/ 131 -134، الشرح الكبير: 1 /84 وما بعدها، مغني المحتاج: 1 /47، كشاف القناع: 1 /95.(1/339)
3ً - الإسلام: شرط وجوب عند الحنفية بناء على المشهور عندهم من أن الكفار غير مخاطبين بالعبادات وغيرها من فروع الشريعة، فلا يجب على كافر إذ لايخاطب كافر بفروع الشريعة. وهو شرط صحة عند الجمهور بناء على أن المقرر لديهم مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فلا يصح من كافر، إذ يشترط لصحة أدائه منه وجود الإسلام (1) . وهذا شرط في جميع العبادات من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج.
4ً - القدرة على استعمال الماء الطهور الكافي، فلا يجب على عاجز عن استعمال المطهر، ولا على فاقد الماء، والتراب أيضاً، ولا على واجد ماء لا يكفي لجميع الأعضاء مرة مرة. ولا على عاجز يضره الماء، فالمراد بالقادر: هو الواجد الماء الذي لا يضره استعماله. هذا عند الحنفية والمالكية، والأظهر عند الشافعية والحنابلة أنه يجب استعمال الماء الذي لا يكفيه ثم يتيمم.
5ً - وجود الحدث: فلا يلزم المتوضئ إعادة الوضوء أي الوضوء على الوضوء.
6ً، 7ً - عدم الحيض والنفاس بانقطاعهما شرعاً، فلا يجب على الحائض والنفساء.
8ً - ضيق الوقت: لأن الخطاب الشرعي يتوجه للمكلف حينئذ توجهاً مضيقاً، وموسعاً في ابتداء الوقت، فلا يجب الوضوء حال سعة الوقت، ويجب إذا ضاق الوقت.
ويمكن اختصار هذه الشروط في أمر واحد: هو قدرة المكلف بالطهارة عليها بالماء.
ثانياً ـ شروط الصحة:
يشترط لصحة الوضوء شروط ثلاثة عند الحنفية، وأربعة عند الجمهور:
1ً - عموم البشرة بالماء الطهور: أي أن يعم الماء جميع أجزاء العضو المغسول، بحيث لا يبقى منه شيء، إلا وقد غسل، لكي يغمر الماء جميع أجزاء البشرة، حتى لو بقي مقدار مغرز إبرة لم يصبه الماء من المفروض غسله، لم يصح الوضوء.
__________
(1) انظر كتابي أصول الفقه الإسلامي146/1، ط دار الفكر، ط ثانية.(1/340)
وبناء عليه يجب تحريك الخاتم الضيق عند الجمهور غير المالكية: أما المالكية فقالوا: لا يجب تحريك الخاتم المأذون فيه لرجل أو امرأة ولو ضيقاً لا يدخل الماء تحته، ولا يعد حائلاً بخلاف غير المأذون فيه، كالذهب للرجل أو المتعدد أكثر من واحد، فلا بد من نزعه ما لم يكن واسعاً يدخل الماء تحته، فيكفي تحريكه؛ لأنه بمنزلة الدلك بالخرقة.
ولا يصح الوضوء باتفاق الفقهاء بغير الماء من المائعات كالخل والعصير واللبن ونحو ذلك، كما لا يصح التوضؤ بالماء النجس، إذ لا صلاة إلا بطهور أو لا صلاة إلا بطهارة.
2ً - إزالة ما يمنع وصول الماء إلى العضو: أي ألا يكون على العضو الواجب غسله حائل يمنع وصول الماء إلى البشرة، كشمع وشحم ودهن ودهان، ومنه عماص العين، والحبر الصيني المتجسم، وطلاء الأظافر للنساء. أما الزيت ونحوه فلا يمنع نفوذ الماء للبشرة.
3ً - عدم المنافي للوضوء أو انقطاع الناقض من خارج أو غيره: أي انقطاع كل ما ينقض الوضوء قبل البدء به، لغير المعذور، من دم حيض ونفاس وبول ونحوهما، وانقطاع حدث حال التوضؤ؛ لأنه بظهور بول وسيلان ناقض، لا يصح الوضوء.
والخلاصة: أنه لا يصح الوضوء لغير المعذور حال خروج الحدث أو وجود ناقض للوضوء.
4ً - دخول الوقت للتيمم عند الجمهور غير الحنفية، ولمن حدثه دائم كسلس البول عند الشافعية والحنابلة، لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت.
والإسلام كما عرفنا شرط لصحة أداء العبادات عند غير الحنفية، وعندهم: شرط وجوب. وأما التمييز فهو شرط لصحة الوضوء وغيره من العبادات بالاتفاق.(1/341)
وقال الشافعية: شروط الوضوء والغسل ثلاثة عشر: الإسلام، والتمييز، والنقاء من الحيض والنفاس، وعما يمنع وصول الماء إلى البشرة، والعلم بفرضيته، وألا يعتقد فرضاً معيناً من فروضه سنة، والماء الطهور، وإزالة النجاسة العينية، وألا يكون على العضو ما يغير الماء، وألا يعلق نيته، وأن يجري الماء على العضو، ودخول الوقت لدائم الحدث، والموالاة (أي فقد الصارف) .
المطلب الرابع ـ سنن الوضوء:
ميز الحنفية بين السنة والمندوب، فقالوا: السنة: هي المؤكدة وهي الطريقة المسلوكة في الدين من غير لزوم، على سبيل المواظبة، أي أنها التي واظب عليها النبي ـ صلّى الله عليه وسلم وتركها أحياناً بلا عذر. وحكمها الثواب على الفعل والعتاب على الترك.
وأما المندوب أو المستحب: فهو مالم يواظب عليه النبي صلّى الله عليه وسلم. ويعرف هنا بآداب الوضوء. وحكمه الثواب على فعله وعدم اللوم على تركه.
وأهم سنن الوضوء عند الحنفية: ثمانية عشر شيئاً، وعند المالكية ثمان، وعند الشافعية حوالي ثلاثين، إذ لم يفرقوا بين السنة والمندوب، وعند الحنابلة: حوالي عشرين مطلوباً (1) .
1ً - النية سنة عند الحنفية، ووقتها قبل الاستنجاء، وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث أو إقامة الصلاة أو ينوي الوضوء أو امتثال الأمر. ومحلها القلب، واستحب المشايخ النطق بها. وهي فرض عند الجمهور غير الحنفية، كما بينت في بحث فرائض الوضوء.
2ً - غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء، سواء قام من النوم أم لم يقم؛ لأنهما آلة التطهير، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه،
__________
(1) البدائع:18-23، فتح القدير:13-23، الدر المختار: 1 / 101 -114، مراقي الفلاح: ص10-13، الشرح الصغير: 1 /117 - 121، الشرح الكبير:96/1-104، بداية المجتهد: 1/ 8 -12، القوانين الفقهية: ص 22، المهذب:15/1-19، كشاف القناع: 1 / 118 - 122، المغني:96/1-143.(1/342)
فليغسل يده، قبل أن يدخلها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» (1) وفي لفظ: «حتى يغسلها ثلاثاً» والأرجح الاكتفاء بمرة كبقية أفعال الوضوء، والتثليث مستحب. وقال الحنابلة: يكون الغسل ثلاثاً، سنة لغير المستيقظ من النوم ليلاً، وواجباً على المستيقظ من نومه ليلاً.
3ً - التسمية في بدء الوضوء: بأن يقول عند غسل يديه إلى كوعيه: بسم الله، والوارد عنه عليه السلام ـ فيما رواه الطبراني عن أبي هريرة بإسناد حسن ـ باسم الله العظيم، والحمد لله على دين الإسلام. وقيل: الأفضل: (باسم الله الرحمن الرحيم) عملاً بحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم: أقطع» (2) .
وقد اعتبر المالكية التسمية من فضائل (آداب) الوضوء. وأوجب الحنابلة التسمية عند الوضوء.
ودليلهم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (3) وقوله عليه السلام من حديث سعيد بن زيد مثله (4) ، وحديث أبي سعيد: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (5) .
__________
(1) أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة (نصب الراية: 1 / 2) والرسغ: المفصل الذي بين الساعد والكف، وبين الساق والقدم، أو أنه مفصل الكف بين الكوع (ما يلي الإبهام) والكرسوع (ما يلي الخنصر) وأما البوع فهو العظم الذي يلي إبهام الرجل.
(2) ذكره عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة، وهو حديث ضعيف.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد، عن أبي هريرة (نصب الراية:3/1) .
(4) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي والحاكم، قال الإمام أحمد: حديث أبي سعيد أحسن حديث في هذا الباب، وقال الترمذي والبخاري: حديث سعيد بن زيد أحسن. والجميع في أسانيدها مقال قريب (نصب الراية: 1 / 4، نيل الأوطار: 1 /134) .
(5) رواه الحاكم في المستدرك وصححه، وضعفه غيره (نصب الراية: 1 / 4) .(1/343)
استدل الحنابلة على وجوب التسمية بهذه الأحاديث. وتأول الجمهور هذه الأحاديث بأنها واردة لنفي الكمال، لا نفي الصحة، كحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (1) وحديث «ذكر الله على قلب المؤمن، سمى أو لم يسمِّ» (2) بقرينة حديث مرفوع عن ابن عمر (3) : «من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه، كان طهوراً لأعضاء وضوئه» (4) ولخبر النسائي وابن خزيمة بإسناد جيد عن أنس: «توضؤوا بسم الله» أي قائلين ذلك، وأكملها كمالها، ثم الحمد لله على الإسلام ونعمته، الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً. وإنما تجب التسمية لآية الوضوء المبينة لواجباتها.
4ً - المضمضة والاستنشاق: والمضمضة: هي إدخال الماء في الفم وخضخضته وطرحه، أو استيعاب جميع الفم بالماء. والاستنشاق: إدخال الماء في الأنف وجذبه بنفسه إلى داخل أنفه.
ويلحق بهما سنة الاستنثار: وهو دفع الماء بنفسه مع وضع أصبعيه (السبابة والإبهام من يده اليسرى) على أنفه، كما يفعل في امتخاطه. وهي كلها سنة مؤكدة عند الجمهور غير الحنابلة لحديث مسلم: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر، إلا خرَّت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء» (5) . وأما خبر (تمضمضوا واستنشقوا) فضعيف. وإنما لم يجبا فلآية الوضوء المبينة لواجباته.
__________
(1) رواه الدارقطني عن جابر وعن أبي هريرة، وهو ضعيف (الجامع الصغير: نيل الأوطار: 1/136) .
(2) أخرجه الدارقطني، وفيه ضعيف (نصب الراية: 4 /183، نيل الأوطار: المكان السابق) .
(3) وصرح ابن سيد الناس في شرح الترمذي بأنه قد روي في بعض الروايات: «لا وضوء كاملاً» وقد استدل به الرافعي، قال ابن حجر: لم أره هكذا (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(4) أخرجه الدارقطني والبيهقي، وفيه متروك ومنسوب إلى الوضع، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة وفيه ضعيفان، ورواه الدارقطني والبيهقي أيضاً، وفيه متروك (نيل الأوطار: 1 /135) .
(5) معنى: خرت: سقطت وذهبت و (فيه) فمه.(1/344)
صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المضمضة والاستنشاق:
وتسن المضمضة والاستنشاق ثلاثاً للحديث المتفق عليه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رِجليه ثلاث مرات إلى الكعبين. ثم قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وُضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وُضوئي هذا، ثم صلى ركعتين، لا يُحدِّث فيهما نفسه، غفَر الله له ما تقدم من ذنبه» (1) ولقوله عليه السلام فيما روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة: «عشر من الفطرة» وذكر منها (المضمضة والاستنشاق) والفطرة: السنة، ولأن الفم والأنف عضوان باطنان، فلا يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين، ولأن الوجه: ماتحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما.
واتفق الفقهاء على أنه تسن المبالغة فيهما للمفطر غير الصائم، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ في رواية صحح ابن القطان إسنادها ـ: «إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً» ولحديث لَقِيط بن صَبْرة: «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» (2) ولا تسن المبالغة للصائم، بل تكره لخوف الإفطار.
__________
(1) نيل الأوطار: (1 /139) ، ويؤيده حديث ضعيف رواه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ «المضمضة والاستنشاق سنة» .
(2) صححه الترمذي وغيره، ورواه الخمسة (نيل الأوطار: 1 /145) .(1/345)
والمبالغة في المضمضة: أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثات. ويسن إمرار أصبع يده اليسرى على ذلك، وفي الاستنشاق: أن يصعد الماء بالنَّفَس إلى الخيشوم. ويسن إدارة الماء في الفم ومجه.
ويسن الاستنثار للأمر به في خبر ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «استنثروا مرتين بالغتين، أو ثلاثاً» (1) .
وعبارة الحنفية في المضمضة والاستنشاق: وهما سنتان مؤكدتان مشتملتان على سنن خمس: الترتيب، والتثليث، وتجديد الماء، وفعلهما باليمنى، والمبالغة فيهما بالغرغرة ومجاوزة المارن (أرنبة الأنف) لغير الصائم، لاحتمال الفساد أي الإفطار (2) .
وقال المالكية: يندب فعل المضمضة والاستنشاق، بثلاث غرفات لكل منهما، ومبالغة مفطر.
ويرى الشافعية في الأصح أن الترتيب فيهما مستحق لا مستحب، بعكس تقديم اليمنى على اليسرى. والأظهر كما قال النووي في المنهاج: تفضيل الجمع على الفصل بين المضمضة والاستنشاق، بثلاث غرف، يتمضمض من كلٍ، ثم يستنشق، أي أن الجمع بغرفة لكليهما أفضل من فصلهما للأخبار الصحيحة في ذلك (3) .
والمشهور في مذهب الحنابلة: أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعاً: الوضوء والغسل، لأن غسل الوجه واجب فيهما، والفم والأنف من الوجه، ولحديث عائشة: «المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه» (4) ، ولمداومته صلّى الله عليه وسلم عليهما في كل حديث ذكر فيه صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مثل
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وابن الجارود وصححه ابن القطان، وذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص ولم يذكره بضعف، وكذلك المنذري (نيل الأوطار: 1 /146) .
(2) الدر المختار: 1 /108.
(3) مغني المحتاج: 1 / 58.
(4) رواه أبو بكر في الشافي بإسناده، والدارقطني في سننه.(1/346)
حديث عثمان السابق، وحديث علي: «أنه دعا بوَضُوء (أي ماء) ، فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى، ففعل هذا ثلاثاً، ثم قال: هذا طَهُور نبي الله صلّى الله عليه وسلم» (1) وحديثي أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء، ثم لينثر» «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق» (2) .
والحق: أن هذه الأحاديث ظاهرة في إيجاب المضمضة والاستنشاق. وقد اعترف جماعة من الشافعية وغيرهم بضعف دليل من قال بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق، مع صحة الأمر به، إلا بكونه لا يعلم خلافاً في أن تاركه لا يعيد. وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عن عطاء (3) .
5ً - السواك سنة باتفاق الفقهاء ما عدا المالكية الذين عدوه من الفضائل، وسأخصص له مبحثاً مستقلاً.
6ً - تخليل اللحية الكثة والأصابع: يسن تخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها (4) ، وتخليل أصابع اليدين والرجلين باتفاق الفقهاء، لما روى ابن ماجه والترمذي وصححه: أنه صلّى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، ولما روى أبو داود: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا
__________
(1) رواه أحمد والنسائي عن علي رضي الله عنه (نيل الأوطار: 1 /143) .
(2) الحديث الأول متفق عليه، والثاني رواه الدارقطني (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(3) نيل الأوطار: 1 / 141.
(4) أما اللحية الخفيفة، والكثيفة في حد الوجه من لحية غير الرجل وعارضيه، فيجب إيصال الماء إلى ظاهره وباطنه ومنابته بتخليل أو غيره (مغني المحتاج: 1 /60) .(1/347)
أمرني ربي» (1) .
ولحديث لَقيط بن صَبْرَة في المبالغة في الاستنشاق السابق: «أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» (2) وحديث ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا توضأت فخلِّل أصابع يديك ورجليك» (3) وحديث المُسْتَورِد بن شدَّاد قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره» (4) .
7ً - تثليث الغسل: اتفق الفقهاء على أنه يسن تثليث الغسل واعتبره المالكية من فضائل الوضوء، لما ثبت في السنة كحديث عمرو بن شعيب من تثليث غسل الكفين والوجه والذراعين (5) . وإنما لم يجب؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وقال: «هذا الذي لايقبل الله العمل إلا به» ، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: «هذا يضاعف الله به الأجر مرتين» وتوضأ ثلاثا صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» (6) .
وأما المسح فلا يسن تكراره عند الجمهور وأكثر أهل العلم من الصحابة، لحديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «ومسح برأسه مرة
__________
(1) انظر الحديثين في (نيل الأوطار: 1 /148) ، وحديث ابن عباس عند البخاري في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يوجب إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة (نيل الأوطار: 1 /147) وانظر الأحاديث الواردة في تخليل اللحية في (نصب الراية: 1 /23) .
(2) رواه الخمسة وصححه الترمذي (نيل الأوطار: 1 /145) .
(3) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي (نيل الأوطار: 1 /135) .
(4) رواه الخمسة إلا أحمد (المرجع السابق) وانظر أحاديث تخليل الأصابع في (نصب الراية: 1 /27) .
(5) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وفي آخره: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء» (نصب الراية: 1 /29) .
(6) رواه الدارقطني عن زيد بن ثابت وأبي هريرة، ولكن فيه راو ضعيف (المرجع السابق) .(1/348)
واحدة» (1) ، ولما روي عن علي رضي الله عنه «أنه توضأ ومسح برأسه مرة واحدة» ، ثم قال: «هذا وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم، من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع والرُّبَيِّع، كلهم قالوا: (ومسح برأسه مرة واحدة) وحكايتهم لوضوء النبي صلّى الله عليه وسلم إخبار عن الدوام، ولا يداوم إلا على الأفضل الأكمل.
ولأنه مسح في طهارة، فلا يسن تكراره، كالمسح في التيمم والمسح على الجبيرة، وسائر المسح.
وقال الشافعية: ويسن أيضاً تثليث المسح، لما روي عن أنس: «الثلاث أفضل» ولحديث شقيق بن سلمة عند أبي داود قال: «رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ومسح برأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل مثل هذا، وروي مثل ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وروى عثمان وعلي وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو مالك والرُّبيع، وأبي بن كعب: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً» .
لكن رد الجمهور على الشافعية بأنه لم يصح من أحاديثهم شيء صريح، ويظهر أن رأي الجمهور أقوى دليلاً من السنة الصحيحة.
8ً - استيعاب كل الرأس بالمسح: يسن الاستيعاب بالمسح عند الحنفية والشافعية اتباعاً للسنة فيما رواه الشيخان، مرة واحدة عند الحنفية، وثلاثاً عند الشافعية، وخروجاً من خلاف من أوجبه؛ لأن مسح الرأس كله واجب عند المالكية والحنابلة كما بينا.
__________
(1) متفق عليه.(1/349)
والسنة في كيفيته: أن يضع يديه على مقدمة رأسه ويلصق سبابته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي ذهب منه إذا كان له شعر ينقلب (1) ، فإن لم يقلب شعره لقصره أو عدمه لم يردّ لعدم الفائدة.
وقال المالكية: يسن رد مسح الرأس وإن لم يكن له شعر بأن يعمه بالمسح ثانياً إن بقي بيده بلل من المسح الواجب، وإلا سقطت سنة الرد.
ودليل الحنفية: حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان السابقان وفيهما: «ثم مسح برأسه» ولم يذكرا عدداً. ومثله حديث أبي حَبَّة في صفة وضوء علي وفيه: «ومسح برأسه مرة» (2) ودليل الشافعية: حديث عثمان السابق فيما رواه أبو داود بإسناد حسن: أنه توضأ، فمسح رأسه ثلاثاً، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ هكذا. وحديث علي عند البيهقي: «توضأ، فمسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل» .
وأجاز الشافعية والحنابلة مسح بعض الرأس والإكمال على العمامة إن عسر رفعها، لأنه صلّى الله عليه وسلم «مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين» (3) .
9ً - مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بماء جديد: يسن مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بماء جديد عند الجمهور؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم مسح في وضوئه برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه، يأخذ لصماخيه أيضاً ماء جديداً.
روي عن عبد الله بن زيد: «أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ لأذنيه ماءً
__________
(1) هكذا رواه الجماعة عن عبد الله بن زيد (نيل الأوطار: 1 /154) .
(2) رواه الترمذي وصححه (المرجع السابق: ص158) .
(3) رواه مسلم والترمذي وصححه عن المغيرة بن شعبة (المرجع السابق: ص164) .(1/350)
خلاف الماء الذي أخذه لرأسه» (1) ، وكان ابن عمر إذا توضأ يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه (2) .
وقال الحنابلة: يجب مسح الأذنين؛ لأن الأذنين من الرأس لحديث «الأذنان من الرأس» (3) ،ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم مسحهما مع رأسه، كما هو الثابت في أحاديث متعددة (4) .
والراجح لدي القول بسنية مسح الأذنين فقط، لأن حديث «الأذنان من الرأس» لم يثبت، وإنما هو ضعيف، حتى قال ابن الصلاح: إن ضعفه كثيرلا ينجبر بكثرة الطرق. وقال الشوكاني: الحق عدم انتهاض الأحاديث الواردة لذلك، والمتيقن الاستحباب، فلا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض، وإلا كان من التقول على الله بما لم يقل (5) .
ومسح الأذنين: ثلاث مرات عند الشافعية ومرة عند الجمهور.
10ً - البداءة بالميامن في غسل اليدين والرجلين: واعتبره المالكية من الفضائل. ودليل السنية: حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب التيامُن في تنعله وترجُّله وطَهوره، وفي شأنه كله» (6) وهو دليل على مشروعية الابتداء باليمين في لبس النعال، وفي ترجيل الشعر (أي تسريحه) وفي الطهور، فيبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى، وبالجانب الأيمن من سائر البدن في الغسل قبل الأيسر، والتيامن سنة في جميع الأشياء.
__________
(1) رواه الحاكم والبيهقي وقال: إسناده صحيح (نصب الراية: 1 / 22) .
(2) رواه مالك في الموطأ (المرجع السابق) .
(3) رواه ابن ماجه من غير وجه، لكن فيه راو تكلم فيه (نيل الأوطار: 1 /160) .
(4) منها حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود، وحديث ابن عباس عند الترمذي والنسائي، وحديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ عند أبي داود والترمذي، وقالا: حديث حسن (انظر نيل الأوطار: 1 /160-162) .
(5) نيل الأوطار: 1 / 161.
(6) متفق عليه، وصححه ابن حبان وابن منده (نيل الأوطار: 1 /170) .(1/351)
ويؤيده حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا لبستم، وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم» (1) .
وأضاف الحنفية والشافعية لهذه السنة: البداءة برؤوس الأصابع ومقدم الرأس، كما أن الشافعية أضافوا: البدء بأعلى الوجه. وقال المالكية: يندب البدء في الغسل أو المسح بمقدم العضو، أي في الوجه واليدين والرأس والرجلين.
11ً- الترتيب والموالاة والدلك عند من لا يرى فرضيتها، كما قدمنا في بحث فرائض الوضوء.
المطلب الخامس ـ آداب الوضوء أو فضائله:
عبر الحنفية عن ذلك بالآدا ب جمع أدب: وهو ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه.
وحكمه: الثواب بفعله وعدم اللوم على تركه. وآداب الوضوء عندهم أربعة عشر شيئاً.
وعبر عنها المالكية بالفضائل أي الخصال والأفعال المستحبة، وهي عندهم عشر، والفرق بينها وبين السنة: أن السنة: ما أكد الشارع أمرها، وعظم قدرها، وأما المندوب أو المستحب: فهو ما طلبه الشارع طلباً غير جازم، وخفف أمره، وكل منهما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه.
وأهم هذه الآداب ما يأتي:
1ً- استقبال القبلة؛ لأنها أشرف الجهات ولأنها حالة أرجى لقبول الدعاء، واعتبره الحنابلة والشافعية سنة، إذ لم يفرقوا بين السنة والأدب.
2ً - الجلوس في مكان مرتفع؛ تحرزاً عن الغسالة.
وقال المالكية: يستحب إيقاع الوضوء في محل طاهر بالفعل، وشأنه الطهارة، فيكره الوضوء في بيت الخلاء أو الكنيف (دورة المياه) قبل استعماله (2) ، كما يكره الوضوءفي غيره من المواضع المتنجسة بالفعل.
3ً - عدم التكلم بكلام الناس، بلا ضرورة؛ لأنه يشغله عن الدعاء المأثور.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي، قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح (نيل الأوطار: 1 /170) .
(2) لأنه يصير مأوى الشياطين بمجرد إعداده، ففيه تعرض للوسواس، وإن لم يكن تنجس برشاش. والخلاصة: أنه يكره الوضوء في مكان نجس: لأنه طهارة، أو فيما شأنه النجاسة، لئلا يتطاير عليه شيء مما يتقاطر من أعضائه ويتعلق به النجاسة.(1/352)
4ً - عدم الاستعانة بغيره إلا لعذر؛ كالصب ونحوه (1) ، لأنه الأكثر من فعله صلّى الله عليه وسلم (2) ، ولأنها نوع من الترفه والتكبر، وذلك لا يليق بالمتعبد، والأجر على قدر النَّصَب، وهي خلاف الأولى، وقيل: تكره. فإن كان ذلك لعذر كمرض فلا بأس، وقد أجازها النبي، بدليل حديث المغيرة بن شعبة: «أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، وأنه ذهب لحاجة له، وأن مُغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح الخفين» (3) ،وقال صفوان بن عَسَّال: «صببت الماء على النبي صلّى الله عليه وسلم في السفر والحضر في الوضوء» (4) وقد دل هذان الحديثان على جواز الاستعانة بالغير، وبهما أخذ الحنابلة فقالوا بالإباحة.
5ً - تحريك الخاتم الواسع؛ مبالغة في الغسل، وروي عن أبي رافع: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرَّك خاتمه» (5) . ويندب أيضاً تحريك الخاتم الضيق إن علم وصول الماء، وإلا فيفرض تحريكه. وقد بينت أنه عند المالكية: لا يجب تحريك الخاتم الضيق المأذون فيه.
6ً - كون المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى لشرفها، والامتخاط باليسرى لامتهانها.
7ً - التوضؤ قبل دخول الوقت مبادرة للطاعة، لغير المعذور.
__________
(1) أما الاستعانة بإحضار الماء فلا بأس بها وتركها أفضل، والاستعانة بغسل الأعضاء مكروهة (مغني المحتاج: 1 /61) .
(2) روى ابن ماجه من حديث ابن عباس «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لايكل طهوره إلى أحد، ولاصدقته التي يتصدق بها إلى أحد، ويكون هو الذي يتولاها بنفسه» وهو حديث ضعيف.
(3) متفق عليه بين الشيخين (نيل الأوطار: 1 /175) .
(4) رواه ابن ماجه، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير، قال ابن حجر: وفيه ضعف (نيل الأوطار: 1 /175 مكرر) .
(5) رواه ابن ماجه والدارقطني، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 1 /153) .(1/353)
أما المعذور أو المتيمم فلا يندب له تعجيل الطهارة عند الحنفية، ويجب تأخيرها لما بعد دخول الوقت عند الجمهور.
8ً - إدخال الخنصر المبلولة في صماخ الأذنين؛ مبالغة في التنظيف.
9ً - مسح الرقبة بظهر يديه، لا الحلقوم عند الحنفية (1) ؛ لما روي عن ليث عن طلحة بن مُصرِّف عن أبيه عن جده أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القَذَال، وما يليه من مُقَدَّم العنق» (2) .
وقال جمهور الفقهاء: لا يندب مسح الرقبة، بل يكره؛ لأنه من الغلو في الدين.
10ً- إطالة الغرة والتحجيل:
إطالة الغرة: بغسل زائد على الواجب من الوجه من جميع جوانبه، وغايتها: غسل صفحة العنق مع مقدمات الرأس.
والتحجيل: بغسل زائد على الواجب من اليدين والرجلين من جميع الجوانب، وغايته استيعاب العضدين والساقين.
وهذا مندوب عند الجمهور، لخبر الصحيحين: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل» وخبر مسلم: «أنتم الغُرُّ المحجَّلُون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غُرَّته وتحجيله» (3) .
__________
(1) هذا هو الراجح الصحيح، وعده صاحب مراقي الفلاح تبعاً للبحر الرائق من سنن الوضوء (انظر الدر المختار: 1 /115) .
(2) رواه أحمد، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 1 /163) والقذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس.
(3) نيل الأوطار: 1 /152.(1/354)
وقال المالكية: لا تندب إطالة الغرة: وهي الزيادة في غسل أعضاء الوضوء على محل الفرض، بل يكره، لأنه من الغلو في الدين، وإنما يندب دوام الطهارة والتجديد، ويسمى ذلك أيضاً إطالة الغرة، كما حمل عليه الحديث السابق: «من استطاع منكم أن يطيل غرته» فقد حملوا الإطالة على الدوام، والغرة على الوضوء. فيتلخص أن إطالة الغرة له معنيان: الزيادة على المغسول، وإدامة الوضوء، الأول مكروه، والثاني مطلوب عندهم.
11ً - ترك التنشيف بالمنديل عند الحنفية والحنابلة وفي الأصح عند
الشافعية: إبقاء لأثر العبادة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «بعد غسله من الجنابة أتته ميمونة بمنديل، فرده، وجعل يقول بالماء: هكذا، ينفضه» (1) .
وقال المالكية: المسح بالمنديل جائز، لحديث قيس بن سعد، قال: «زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في منزلنا، فأمر له سعد بغُسْل، فوُضع له فاغتسل، ثم ناوله مِلْحفة مصبوغة بزعفران، أو وَرَس، فاشتمل بها» (2) .
وعبارة الحنابلة: يباح للمتطهر تنشيف أعضائه (3) ، وتركه أفضل. وهذا هو الراجح.
12ً - ترك النفض للماء في الأصح عند الشافعية والحنابلة؛ ويكره النفض عند بعض الحنابلة، وخلاف الأولى عند الشافعية، لحديث أبي هريرة: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان» (4) ، والأظهر عند الحنابلة أنه لا يكره وفاقاً للأئمة الثلاثة.
13ً - تقليل الماء الذي يرفعه للأعضاء حال الوضوء، لأن الإسراف في الماء مكروه.
14ً - جعل الإناء المفتوح كالقَصْعة والطَّست عن يمين المتطهر، لأنه أعون في التناول.
__________
(1) رواه الشيخان، قال الشافعية: ولا دليل في ذلك لإباحة النفض، فقد يكون فعله صلّى الله عليه وسلم لبيان الجواز (مغني المحتاج: 1 /61) .
(2) رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود والنسائى. والغسل بضم الغين: اسم للماء الذي يغتسل به (نيل الأوطار: 1 /175 مكرر) اختلف في وصله وإرساله وذكره النووي في فصل الضعيف.
(3) لما رواه ابن ماجه والطبراني في الصغير عن سلمان: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «توضأ، ثم قلب جبة كانت عليه، فمسح بها وجهه»
(4) رواه المعمري وغيره من رواية البحتري بن عبيد، وهو متروك.(1/355)
15ً - الإتيان بالشهادتين والدعاء بعد الوضوء.
قال الحنابلة: وكذا بعد الغسل.
وهو أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمد ك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إ ليك. ويسن الصلاة والسلام بعد الوضوء على النبي صلّى الله عليه وسلم، فيقول: اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد.
والنطق بالشهادتين لخبر مسلم وأبي داود وابن ماجه عن عمر مرفوعاً: «مامنكم من أحد يتوضأ فيبلِّغ، أو فيسبغ الوضوء (أي يتمه) ، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء» .
وزاد الترمذي على مسلم: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» وزاد فيه أيضاً: «اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين» ورواه أحمد وأبو داود.
وروى النسائي والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري: «من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَقّ ثم طبع بطابَع (خاتم) ، فلم يكسر إلى يوم القيامة» أي لم يتطرق إليه إبطال.
قال السامري: ويقرأ سورة القدر ثلاثاً.
وأما الدعاء عند غسل الأعضاء فلا أصل له في كتب الحديث، كما قال النووي رحمه الله. واستحبه الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، وأباحه بعض الشافعية.
__________
(1) فيقول عند غسل الكفين: (اللهم احفظ يدي من معاصيك كلها) ، وعند المضمضة: (اللهم أعني على تلاوة القرآن وذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وعند الاستنشاق: (بسم الله، اللهم أرحني رائحة الجنة ولا ترحني رائحة النار) وعند غسل الوجه: (اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) وعند غسل اليد اليمنى: (اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً) وعند اليسرى: (اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري) وعند مسح الرأس: (اللهم حرم شعري وبشري على النار) وعند مسح الأذنين: (اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) وعند غسل الرجلين: (اللهم ثبِّت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام) وأباح بعض الشافعية الدعاء بهذه الأدعية.
(2) قالوا: يكره الكلام حال الوضوء بغير ذكر الله تعالى، وورد أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول حال الوضوء: «اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي، وقنعني بما رزقتني، ولا تفتني بما زويت عني» رواه الترمذي عن أبي هريرة (الشرح الصغير:127/1) .(1/356)
صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم:
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال حُمْرانُ مولى عثمان: «إن عثمان دعا بإناء (1) ،فأفرغ على كفّيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض، واستَنْثَر (2) ، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين. ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحدِّثُ (3) فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» (4) .
__________
(1) وفي رواية «دعا بوَضوء» الوضوء بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به. وبضم الواو: الفعل نفسه، وهو من الوضاءة: الحُسْن.
(2) أو في رواية: «واستنشق واستنثر َ» وهو الاستنشاق.
(3) لايحدث: أي بشيء من أمور الدنيا.
(4) جامع الأصول:76/8.(1/357)
خلاصة المذاهب في سنن الوضوء وآدابه:
1 ً - مذهب الحنفية (1) :
أـ سنن الوضوء سبع عشرة:
غسل اليدين إلى الرسغين، والتسمية والسواك في ابتداء الوضوء، والمضمضة ثلاثاً ولو بغرفة، والاستنشاق بثلاث غرفات، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم، وتخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها، وتخليل الأصابع، وتثليث الغسل، واستيعاب الرأس بالمسح مرة، ومسح الأذنين ولو بماء الرأس، والدلك، والولاء، والنية، والترتيب كما نص الله تعالى في كتابه، والبداءة بالميامن ورؤوس الأصابع ومقدم الرأس.
ب ـ آداب الوضوء خمسة عشر:
مسح الرقبة لا الحلقوم، الجلوس في مكان مرتفع، واستقبال القبلة، وعدم الاستعانة بغيره، وعدم التكلم بكلام الناس، والجمع بين نية القلب وفعل اللسان، والدعاء بالمأثور والتسمية عند كل عضو، وإدخال خنصره في صماخ أذنيه، وتحريك خاتمه الواسع، والمضمضة والاستنشاق باليد اليمنى، والامتخاط باليسرى، والتوضؤ قبل دخول الوقت لغير المعذور، والإتيان بالشهادتين بعده، وأن يشرب من فضل الوضوء قائماً، وأن يقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين. ومن آدابه قراءة سورة القدر (2) وصلاة ركعتين في غير وقت الكراهة (3) ومن الآداب: تعاهد موقية وكعبيه وعرقوبيه وإخمصيه.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص10-13، الدر المختار: 1 /95-122.
(2) الأحاديث وردت فيها، لكن قال ابن حجر: لم يثبت منها شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلم لا من قوله ولا من فعله.
(3) لما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما: «ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة» .(1/358)
2 ً - مذهب المالكية (1) :
أ - سنن الوضوء ثمان:
غسل اليدين مرة إلى الكوعين أولاً قبل إدخالهما في الإناء، والمضمضة، والاستنشاق بثلاث غرفات لكل منهما ومبالغة فيهما للمفطر، ولا بد لهذه السنن الثلاث من نية بأن ينوي بها سنن الوضوء، أو ينوي عند غسل يديه أداء الوضوء، والاستنثار (دفع الماء من الأنف) ، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما مرة واحدة، وتجديد الماء لهما، ورد مسح الرأس إن بقي بيده بلل من أثر المسح الواجب لرأسه، وترتيب فرائضه الأربعة بتقديم غسل الوجه على اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، فإن قدم فرضاً على موضعه المشروع له، أعاده وحده مرة ولا يعيد ما بعده. والمعتمد في ترك سنة ندب الإعادة دون ما بعدها، سواء طال الترك أو لا، لكن من ترك فرضاً من فرائض الوضوء أو الغسل غير النية، أو ترك لمعة (بقعة) أتى به وبما بعده من الأعضاء إن لم يطل الترك، فإن طال بطل كل الفرض لعدم الموالاة الواجبة.
ب ـ فضائل الوضوء عشر:
أي خصاله وأفعاله التي يثاب عليها ولا يعاقب على تركها: إيقاع الوضوء موضع طاهر بالفعل وشأنه الطهارة، واستقبال القبلة، والتسمية بأن يقول عند غسل يديه إلى كوعيه: بسم الله، وتقليل الماء الذي يرفعه للأعضاء حال الوضوء (2) ، وتقديم اليد أو الرجل اليمنى على اليسرى، وجعل الإناء المفتوح كالقصعة والطست لجهة اليد اليمنى، والبدء في الغسل أو المسح بمقدم العضو، والغسلة الثانية والثالثة في السنن والفرائض حتى في الرِّجْل، وترتيب السنن مع بعضها أو مع الفرائض، واستياك ولو بأصْبُع.
__________
(1) الشرح الصغير: 1 /117-124، الشرح الكبير: 1 /96-106.
(2) ولا تحديد في التقليل لاختلاف الأعضاء والناس، بل بقدر ما يجري على العضو، وإن لم يتقاطر منه.(1/359)
3 ً - مذهب الشافعية (1) :
سنن الوضوء حوالي ثلاثين: السواك عرضاً بكل خشن لا أصبُعه في الأصح لغير صائم بعد الزوال، والتسمية مقرونة بالنية مع أول غسل الكفين (2) ، والتلفظ بالنية واستصحابها، وغسل الكفين: فإن لم يتيقن طهرهما كره غمسهما في مائع أو ماء قليل قبل غسلهما ثلاث مرات، والمضمضة، والاستنشاق، والأفضل ـ في الأظهر كما رجح النووي خلافاً للرافعي ـ الجمع بينهما بثلاث غرفات يتمضمض من كل غرفة ثم يستنشق بباقيها، والمبالغة فيهما لغير الصائم، وتثليث كل من الغسل والمسح والتخليل والدلك والسواك (3) ، ومسح جميع رأسه أو بعضه ويتم على العمامة، ثم مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما وصماخيه بماء جديد.
وتخليل اللحية الكثة وأصابع اليدين بالتشبيك وأصابع الرجلين بخنصر اليسرى من أسفل خنصر الرجل اليمنى إلى خنصر اليسرى، والتتابع (الموالاة) والتيامن، وإطالة غرته وتحجيله، وترك النفض والاستعانة بالصب إلا لعذر والتنشيف في الأصح، وتحريك الخاتم (4) ، والبداءة بأعلى الوجه، والبداءة في اليد والرجل بالأصابع (5) ، ودلك العضو، ومسح المأقين (طرفي العين مما يلي الأنف) (6) واستقبال القبلة، ووضع الإناء في حالة الاغتراف فيه عن يمينه إن كان واسعاً، فإن صب منه وضعه عن يساره، وألا ينقص ماء الوضوء عن مُدّ (675غم) .
__________
(1) مغني المحتاج: 1 / 55 -62، الحضرمية: ص 11 -13، وفي بعض الكتب مثل بجيرمي الخطيب، 1 /139: سنن الوضوء عشر.
(2) فإن ترك التسمية في أول الوضوء ولو عمداً، أتى بها قبل فراغه، فيقول: بسم الله في أوله وآخره، كما في الأكل والشرب.
(3) ويأخذ الشاك باليقين وجوباً في الواجب وندباً في المندوب، وتكره الزيادة على الثلاث.
(4) فإن لم يصل الماء إلى ما تحته إلا بالتحريك وجب.
(5) فإن صب عليه غيره بدأ بالمرفق والكعب.
(6) بالسبابتين إن لم يكن بهما نحو رمص وإلا وجب.(1/360)
وألا يتكلم في جميع وضوئه إلا لمصلحة، ولا يلطم وجهه بالماء، ولا يمسح الرقبة، وأن يقول بعده: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، ويسن أن يقول بعده: وصلى الله وسلم على محمد وآل محمد، ويقرأ سورة القدر، ويصلي ركعتين.
4 ً - مذهب الحنابلة (1) :
جملة سنن الوضوء حوالي عشرين: استقبال القبلة، والسواك عند المضمضة، وغسل الكفين ثلاثاً لغير قائم من نوم ليل، ويجب ذلك للمستيقظ ليلاً، والبداءة قبل الوجه بالمضمضة، ثم الاستنشاق، والمبالغة فيهما لغير صائم، والمبالغة في سائرالأعضاء لصائم وغيره، والاستنثار باليسار، وتخليل أصابع اليدين والرجلين، وتخليل شعر اللحية الكثيفة في الوجه، والتيامن حتى بين الكفين للقائم من نوم الليل، وبين الأذنين، ومسح الأذنين بعد الرأس بماء جديد، ومجاوزة موضع الفرض، والغسلة الثانية والثالثة، وتقديم النية على مسنونات الوضوء، واستصحاب ذكرها إلى آخر الوضوء، وغسل باطن الشعور الكثيفة في الوجه غير اللحية، وأن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج ليصل الماء إلى جميعه، وأن يتولى وضوءه بنفسه من غير معاونة، ويباح للمتطهر تنشيف أعضائه وتركه أفضل، ووضع الإناء الواسع عن يمينه ليغترف منه، وترك نفض الماء، ولا يكره فعله في الأظهر وفاقاً للأئمة الثلاثة، والدعاء (السابق عند الشافعية) عقب فراغه من الوضوء بعد رفع بصره إلى السماء (2) ، وكذا يدعو به بعد الغسل.
__________
(1) كشاف القناع: 1 /118 -122، المغني 1 /118،139-142.
(2) روى حديث الدعاء أحمد وأبو داود، كما تقدم، وفي بعض رواياته: «فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء» .(1/361)
المطلب السادس ـ مكروهات الوضوء:
المكروه عند الحنفية نوعان: مكروه تحريماً: وهو ما كان إلى الحرام أقرب، وتركه واجب. وهو المراد عندهم حالة الإطلاق.
ومكروه تنزيهاً: وهو ما كان تركه أولى من فعله، أي خلاف الأولى. وكثيراً ما يطلقونه.
وعلى هذا إذا ذكروا مكروهاً فلا بد من النظر في دليله، فإن كان نهياً ظنياً يحكم بكراهة التحريم إلا لصارف عن التحريم إلى الندب. وإن لم يكن الدليل نهياً بل كان مفيداً للترك غير الجازم، فهي تنزيهية.
ولم يفرق الجمهور غير الحنفية بين نوعي الكراهة، ويراد بها عندهم التنزيهية. ويكره للمتوضئ (1) ضد ما يستحب من الآداب (2) وأهمها ما يأتي:
1 ً - الإسراف في صب الماء: بأن يستعمل منه فوق الحاجة الشرعية أو ما يزيد عن الكفاية. وهذا إذا كان الماء مباحاً أو مملوكاً للمتوضئ، فإن كان موقوفاً على الوضوء منه كالماء المعد للوضوء في المساجد، فالإسراف فيه حرام.
ودليل الكراهة: ما أخرج ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرَّ بسعد، وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السَّرَف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ فقال: نعم، وإن كنت على نهر جار» ومن الإسراف: الزيادة على الثلاث في الغسلات وعلى المرة الواحدة في المسح عند الجمهور غير الشافعية لحديث عمرو بن شعيب السابق: «فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وتعدى وظلم» (3) .
__________
(1) الدر المختار: 1 / 121 -123، مراقي الفلاح: ص13، الشرح الصغير:126/1-129، الشرح الكبير: 1 /126، الحضرمية: ص14، كشاف القناع:118/1-120.
(2) حصر الشافعية المكروه في ترك السنة المؤكدة والمختلف فيها، أما ترك غيرهما فخلاف الأولى.
(3) هذه رواية النسائي، ومعناها: أنه أخطأ طريق السنة.(1/362)
والكراهة تنزيهية حتى عند الحنفية إلا إذا اعتقد أن ما زاد على الغسلات الثلاث من أعمال الوضوء، فتكون الكراهة حينئذ تحريمية عندهم. وذكر ابن عابدين: أن الكراهة مطلقاً تنزيهية، فإن زاد للنظافة أو للطمأنينة ونحوها فلا كراهة.
وكذا يكره تنزيهاً التقتير بجعل الغسل مثل المسح: (وهو أن يكون تقاطر الماء عن العضو المغسول غير ظاهر) لأن السنة إسباغ الوضوء، والتقتير ينافيه.
2 ً - لطم الوجه أو غيره بالماء: والكراهة تنزيهية؛ لأنه يوجب انتضاح الماء المستعمل على ثيابه، وتركه أولى، وهو أيضاً خلاف التؤدة والوقار، فالنهي عنه من الآداب.
3 ً - التكلم بكلام الناس: والكراهة تنزيهية؛ لأنه يشغله عن الأدعية. وعند الشافعية: خلاف الأولى.
4 ً - الاستعانة بالغير بلا عذر: لحديث ابن عباس السابق: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يكل طهوره إلى أحد ... » (1) . وقد عرفنا أن الثابت في السنة جواز المعاونة في الوضوء، لكن قد حمل ذلك على حالة العذر، ولأن الضرورات تبيح المحظورات.
5 ً - التوضؤ في موضع نجس: لئلا يتنجس منه، وزاد الحنفية: التوضؤ بفضل ماء المرأة، أو في المسجد إلاّ في إناء أوفي موضع أعد لذلك خشية تلويث المسجد بآثار الماء. وقال الحنابلة (2) : تكره إراقة ماء الوضوء وماء الغسل في المسجد، أوفي مكان يداس فيه كالطريق تنزيهاً لماء الوضوء؛ لأن له حرمة وأنه أثر عبادة. ويباح الوضوءوالغسل في المسجد اذا لم يؤذ به أحداً ولم يؤذ المسجد؛ لأن المنفصل منه طاهر.
6 ً - مسح الرقبة بالماء: عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه غلو في الدين وتشديد. قال الشافعية: ولا يسن مسح الرقبة إذ لم يثبت فيه شيء، قال النووي: بل هو بدعة. وكذلك قال المالكية: إنه بدعة مكروهة (3) .
7 ً- مبالغة الصائم في المضمضة والاستنشاق مخافة أن يفسد صومه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه والدارقطني، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 1 /176) ومثله قوله صلّى الله عليه وسلم لعمر وقد بادر ليصب الماء على يديه: «أنا لا أستعين في وضوئي بأحد» قال النووي في شرح المهذب: هذا حديث باطل لا أصل له.
(2) كشاف القناع: 1 /120، المغني: 1 /143.
(3) مغني المحتاج: 1 /60، الشرح الصغير: 1 /128.(1/363)
8 ً - ترك سنة من سنن الوضوء، السابق بيانها في المذاهب. قال الحنابلة مثلاً: يكره لكل أحد أن ينتثر وينقي أنفه ووسخه ودرنه ويخلع نعله ويتناول الشيء من يد غيره، ونحو ذلك بيمينه، مع القدرة على ذلك بيساره، مطلقاً (1) .
9 ً - الوضوء بفضل طهور المرأة إذا استقلت به: قال الحنابلة في المشهور عن أحمد (2) : يكره ولا يجوز وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خَلَت به (استقلت) ، فإن اشترك الرجل معها فلابأس. بدليل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» (3) لأن جماعة من الصحابة كرهوا ذلك، فقالوا: إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه.
وقال أكثر العلماء: يجوز الوضوء به للرجال والنساء، لما روى مسلم في صحيحه وأحمد عن ابن عباس، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يغتسل بفضل وضوء ميمونة» (4) وقالت ميمونة: «اغتسلت من جفنة (5) ، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم يغتسل، فقلت: إني قد اغتسلت منه، فقال: الماء ليس عليه جنابة» (6) ولأنه ماء طهور جاز للمرأة الوضوء به، فجاز للرجل كفضل الرجل. وهذا هو الأصح، ويحمل النهي على الكراهة التنزيهية بقرينة أحاديث الجواز.
__________
(1) كشاف القناع: 1 /118.
(2) المغني: (1 /214) وما بعدها، المهذب: (1 /31) .
(3) رواه الخمسة عن الحَكَم بن عمرو الغفاري، إلا أن ابن ماجه والنسائي قالا: «وضوء المرأة» وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال النووي: اتفق الحفاظ على تضعيفه، قال ابن حجر: وقد أغرب النووي بذلك، وله شاهد عند أبي داود والنسائي (نيل الأوطار:25/1) .
(4) لكن مع كونه في صحيح مسلم أعله قوم (نيل الأوطار: 1 /26) .
(5) الجفنة وعاء كالقَصْعة.
(6) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، بلفظ: «يا رسول الله، إني كنت جُنُباً، فقال: إن الماء لا يُجنَب» أي من أجنب، وفي نسخة لايَجْنب من جَنُب. (نيل الأوطار: 1/26) وروى أحمد وابن ماجه عن ميمونة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة» .(1/364)
10 ً - الماء الساخن والماء المشمس: قال الشافعية: يكره تنزيهاً التطهير بماء شديد السخونة وشديد البرودة، والمشمس في جهة حارة في إناء منطبع (أي ممتد تحت المطرقة من حديد ونحاس) في بدن دون ثوب، لناحية طبية لأنه يورث البرص ظناً، ولم يحرم لندرة ترتبه عليه. وتزول الكراهة بالتبريد.
المطلب السابع ـ نواقض الوضوء:
النواقض جمع ناقضة وناقض، والنقض: إذا أضيف إلى الأجسام كنقض الحائط: يراد به إبطال تأليفها. وإذا أضيف إلى المعاني كالوضوء: يراد به إخراجها عن إقامة المطلوب بها، والمعنى الثاني هو المراد هنا، فمعنى ناقض الوضوء: إخراجه عن إفادة المقصود منه، كاستباحة الصلاة بالوضوء.
والنواقض أو المعاني الناقضة للوضوء المبطلة حكمه متفق على الكثير منها، مختلف في بعضها.(1/365)
وهي عند الحنفية اثنا عشر ناقضاً، والمالكية: ثلاثة أنواع، والشافعية: خمسة أشياء، والحنابلة: ثمانية أنواع، وهي ما يأتي (1) :
1 ً - كل خارج من أحد السبيلين: معتاد كبول أو غائط أو ريح أو مذي أو ودي (2) أو مني، أو غير معتاد: كدودة وحصاة ودم قليلاً كان الخارج أو كثيراً، لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة:6/5] ، كناية عن الحدث من بول أو غائط، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، فقال رجل من أهل حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُسَاء أو ضراط» (3) وقوله عليه السلام: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» (4) ، ولأن الخارج غير المعتاد خارج من السبيل، فأشبه المذي، ولأنه لا يخلو من بَلَّة تتعلق به، فينتقض الوضوء بها، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، ودمها خارج غير معتاد (5) .
__________
(1) فتح القدير: 1 /24 -37، تبيين الحقائق: 1 / 7 -12، البدائع: 1 /24 - 33، الدر المختار:124/1-138، اللباب: 1 /17-20، مراقي الفلاح: ص14 وما بعدها، الشرح الصغير:135/1 -148، الشرح الكبير: 1 /114-116، القوانين الفقهية: ص24وما بعدها، المهذب: 1 / 22 -25، حاشية الباجوري: 1 /69-74، المجموع: 2 / 3 -68، كشاف القناع:138/1-148، بداية المجتهد: 1 / 33 -39، المغني:168/1-196.
(2) الودي: ماء أبيض خاثر يخرج بأثر البول. والمذي: هو ماء أبيض رقيق يخرج عند الالتذاذ.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة (نيل الأوطار: 1 /185) .
(4) رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، قال عنه النووي: حديث صحيح، ولكن رمز له السيوطي بالضعف ورواه مسلم بلفظ آخر: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (نيل الأوطار: 1 /188) .
(5) روى أبو داود والدارقطني بإسناد موثوق عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش: «أنها كانت تستحاض، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو دم عرق» فأمرها بالوضوء، ودمها غير معتاد، فيقاس عليه ما سواه، طاهراً كان الخارج كولد بلا دم، أو نجساً كالبول ونحوه.(1/366)
واستثنى الحنفيةفي الأصح: ريح القبل فهو غير ناقض؛ لأنه اختلاج لا ريح، وإن كان ريحاً فهو لا نجاسة فيه. وغير الحنفية لم يستثنوا ذلك، للحديث السابق «أو ريح» فهو شامل للريح من القبل. والحق أنه كما قال ابن قدامة في المغني: «لا نعلم لهذا الريح وجوداً ولا نعلم وجوده في حق أحد» .
واستثنى المالكية الخارج غير المعتاد من المخرج في حالة الصحة، كالدم والقيح والحصى والدود، والريح أو الغائط من القبل، والبول من الدبر، والمني بغير لذة معتادة كمن حك لجرب أو هزته دابة فأمنى، فلا ينقض حتى ولو كان مع الحصى والدود أذى (أي بول أو غائط) بخلاف غيرهما، فلو خرج مع الدم والقيح أذى انتقض الوضوء (1) . وكذا لا ينتقض الوضوء إن خرج شيء من ثقب إلا إذا كان تحت المعدة وانسد المخرجان المعتادان، فلا ينقض الوضوء بول أو غائط أو ريح من ثقبة فوق المعدة، سواء انسد المخرجان أو أحدهما أو لا، أما الخارج من ثقبة تحت المعدة، فإنه ينقض بشرط انسداد المخرجين لأنه صار بمنزلة الخارج من المخرجين نفسهما.
__________
(1) والمشهور عند ابن رشد: أنه لا نقض بهما مطلقاً كالحصى والدود.(1/367)
ولا ينتقض الوضوء عندهم بخروج شيء من السَّلَس الذي يلازم صاحبه نصف الزمن فأكثر، وإلا نقض. والسلس: هو ما يسيل بنفسه لانحراف الطبيعة بولاً أو ريحاً أو غائطاً أو مذياً. ودم الاستحاضة من السلس. وهذا في غير المستحاضة إذا لم ينضبط ولم يقدر على التداوي، فإن انضبط بأن جرت عادته أن ينقطع آخر الوقت أو أوله، وجب عليه الصلاة حينئذ، وإن قدر على التداوي وجب عليه التداوي.
واستثنى الشافعية: مني الشخص نفسه، فإنه لا ينقض؛ لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل.
لكن ينتقض الوضوء عندهم بالخارج من مخرج انفتح دون المعدة، وانسد المخرج المعتاد لأنه صار هو المخرج المعتاد، أي كما قال المالكية. فإن لم ينسد المخرج المعتاد فالأصح أنه لا ينقض، سواء أكان المخرج تحت المعدة أم فوقها.
واستثنى الحنابلة: صاحب الحدث الدائم، لا يبطل وضوءه بالحدث الدائم قليلاً كان الخارج أو كثيراً، نادراً كان أو معتاداً للحرج والمشقة. أما غير صاحب الحدث الدائم فينقض ما خرج منه من بول أو غائط، قليلاً كان أو كثيراً، من تحت المعدة أو فوقها، سواء أكان السبيلان مفتوحين أم مسدودين لعموم الآية والحديث السابق. وأضاف الحنابلة: أنه لو احتمل المتوضئ في قُبُل أو دُبُر قطناً أو ميلاً، ثم خرج ولو بلا بلل، نقض، وكذا لو قطر في إحليله دهناً أو غيره من المائعات ثم خرج نقض، أو ظهر طرف مصران أو رأس دودة نقض.(1/368)
2 ً - الولادة من غير رؤية دم، والصحيح عند الحنفية قول الصاحبين أن المرأة لا تكون حينئذ نفساء لتعلق النفاس بالدم ولم يوجد، وإنما عليها الوضوء للرطوبة. وقال أبو حنيفة: عليها الغسل احتياطاً لعدم خلوه عن قليل دم غالباً.
3 ً - الخارج من غير السبيلين كالدم والقيح والصديد (1) : ناقض بشرط سيلانه عند الحنفية إلى موضع يلحقه حكم التطهير وهو ظاهر الجسد: أي يجب تطهيره في الجملة، ولو ندباً كسيلان الدم داخل الأنف. والسيلان: أن يتجاوز موضع خروجه بأن يعلو على رأس الجرح ثم ينحدر إلى أسفل، فليس في النقطة والنقطتين وضوء، وليس في أثر الدم بسبب عض شيء أو استياك وضوء. كما لا وضوء من دم يخرج من موضع لا يلحقه حكم التطهير كالخارج من جرح في العين أو في الأذن أو الثدي أوالسرة، ثم يسيل إلى الجانب الآخر منها.
وبشرط كونه كثيراً عند الحنابلة، والكثير: ما كان فاحشاً بحسب كل إنسان، أي أنه يراعى حالة الجسم نحافة وضخامة، فلو خرج دم من نحيف مثلاً وكان كثيراً بالنسبة إلى جسده، نقض، وإلا فلا، لقول ابن عباس: «الفاحش: ما فحش في قلبك» .
ودليل الحنفية: قوله صلّى الله عليه وسلم: «الوضوء من كل دم سائل» (2) وقوله عليه السلام: «من قاء أو رعف في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، وليبن ـ يكمل ـ على صلاته ما لم يتكلم» (3) وقوله أيضاً: «ليس في القطرة ولا في القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دماً سائلاً» (4) .
__________
(1) القيح: دم نَضِج حتى ابيضَّ وخثر. والصديد: هو قيح ازداد نضجاً حتى رَقَّ، أو هو ماء الجرح الرقيق المختلط بالدم.
(2) روي من حديث تميم الداري عند الدارقطني، وفيه مجهولان، ومن حديث زيد بن ثابت عند ابن عدي في الكامل، وفيه من لا يحتج بحديثه (نصب الراية: 1 /37) .
(3) روي من حديث عائشة عند ابن ماجه، وهو حديث صحيح، ومن حديث أبي سعيد الخدري عند الدارقطني، وهو معلول براو فيه (نصب الراية: 1 /38، نيل الأوطار:187/1) .
(4) أخرجه الدارقطني، من حديث أبي هريرة مرفوعاً، قال الحافظ ابن حجر: وإسناده ضعيف جداً. وفيه متروك (نيل الأوطار: 1 /189، نصب الراية: 1 / 44) .(1/369)
ودليل الحنابلة حديث فاطمة بنت أبي حبيش السابق عند الترمذي: «إنه دم عرق، فتوضئي لكل صلاة» ولأن الدم ونحوه نجاسة خارجة من البدن، فأشبه الخارج من السبيل.
وأما كون القليل من ذلك لا ينقض، فلمفهوم قول ابن عباس: في الدم: «إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة» وعصر ابن عمر بثرة، فخرج الدم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملاً، وغيرهما (1) .
وقرر المالكية والشافعية: عدم نقض الوضوء بالدم ونحوه، بدليل حديث أنس، قال: «واحتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه» (2) .
وحديث عباد بن بشر: «أنه أصيب بسهام، وهو يصلي، فاستمر في صلاته» (3) ويبعد ألا يطلع النبي صلّى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة، ولم ينقل أنه أخبره بأن صلاته قد بطلت.
4 ً - القيء: الخلاف فيه كالخلاف في الدم ونحوه من الخارج من غير السبيلين، على اتجاهين:
الأول ـ للحنفية والحنابلة: أنه ينقض الوضوء، إذا كان بملء الفم عند الحنفية: وهو ما لا ينطبق عليه الفم إلا بتكلف، على الأصح. وإذا كان كثيراً فاحشاً عند الحنابلة: وهو ما فحش في نفس كل أحد بحسبه.
__________
(1) نيل الأوطار: 1 /189.
(2) رواه الدارقطني والبيهقي، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 1 /189) .
(3) ذكره البخاري تعليقاً، وأبو داود وابن خزيمة.(1/370)
والقيء سواء أكان طعاماً أم ماء أم عَلَقًا (المراد به هنا الدم المتجمد الخارج من المعدة) أم مِرَّة (الصفراء) . ولا ينقض البلغم من معدة أو صدر أو رأس، كالبصاق والنخامة، لأنها طاهرة تخلق من البدن. ولا ينقض الجشاء وهو الريح الذي يخرج من فم الرجل.
ودليلهم: حديث عائشة المتقدم: «من أصابه قيء أو رعاف أو قَلس، أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليَبْن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم» (1) . والقلس: هو ما خرج من العلق ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، وإن عاد فهو القيء.
وحديث أبي الدرداء: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قاء، فتوضأ، فلقيت ثوبانَ في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وَضُوءه» (2) .
والخلاصة: أن القيء ناقض للوضوء عند هؤلاء بقيود ثلاثة: كونه من المعدة، وكونه ملء الفم أو كثيراً، وكونه دفعة واحدة.
الاتجاه الثاني ـ للمالكية والشافعية: أنه لا ينقض الوضوء بالقيء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قاء فلم يتوضأ (3) ،وفي حديث ثوبان قال: «قلت: يا رسول الله، هل يجب الوضوء من القيء؟ قال: لو كان واجباً، لوجدته في كتاب الله» ولأنه خارج من غير المخرج، مع بقاء المخرج، فلم ينقض الطهارة كالبصاق. وأجابوا عن حديث أبي الدرداء بأن المراد بالوضوء: غسل اليدين.
والظاهر لي: أن الخارج من غير السبيلين كالدم والقيء ينقض الوضوء إذا كان كثيراً فاحشاً أي كما قال الحنابلة، قياساً على الخارج النجس من السبيلين، إذ في الأحاديث كلها كلام، ولا تخلو من ضعف.
__________
(1) رواه ابن ماجه والدارقطني، قال البيهقي: والصواب إرساله (نيل الأوطار: 1 /187) .
(2) رواه أحمد والترمذي، وقال: هو أصح شيء في الباب (نيل الأوطار: 1 /186) .
(3) رواه الدارقطني.(1/371)
5 ً - غيبة العقل أو زواله بالمخدرات أو المسكرات، أو بالإغماء أو الجنون، أو الصرع، أو بالنوم: هذا السبب وما بعده من لمس المرأة المشتهاة، ومس الذكر أو القبل أو الدبر، قد يترتب عليه غالباً خروج شيء من أحد السبيلين، فيكون ناقضاً للوضوء، لأن زائل العقل لا يشعر بحال، والنوم يذهب معه الحس، والجنون والإغماء ونحوهما أشد تأثيراً من النوم.
والدليل على أن النوم الثقيل أو غير اليسير ناقض للوضوء: قوله صلّى الله عليه وسلم من حديث علي: «العين وِكاء السَّهِ، فمن نام فليتوضأ» (1) وحديث معاوية «العين وكاء السه، فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء» (2) والحديثان يدلان على أن النوم مظِنَّة للنقض، لا أنه بنفسه ناقض.
وقد اختلف الفقهاء على آراء في كون النوم ناقضاً للوضوء، ذكرها النووي في شرح مسلم (73/1) أختار منها رأيين متقاربين لا يختلفان إلا في بيان مدى عمق النوم الذي يعد دليلاً على خروج الريح، وهما ما يأتي:
الرأي الأول ـ للحنفية والشافعية: أن النوم الناقض للوضوء هو الذي لم تتمكن فيه المقعدة من الأرض، أو النوم مضطجعاً أو متكئاً أو منكباً على شيء؛ لأن الاضطجاع ونحوه سبب لاسترخاء المفاصل. فإن نام قاعداً ممكناً مقعدته من الأرض كأرض وظهر دابة سائرة، لم ينتقض وضوءه.
فإن كان مستنداً إلى شيء لو أزيل عنه لسقط، ولم يكن ممكناً مقعده من الأرض، انتقض وضوءه عند الحنفية؛ لأن الاسترخاء يبلغ نهايته بهذا النوع من الاستناد، ولم ينتقض عند الشافعية إذا كان ممكناً مقعده من الأرض، للأمن حينئذ من خروج شيء، فالحكم في المذهبين إذن واحد.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. والوكاء: الخيط الذي يربط به الشيء، والسه: الدبر، والمعنى: اليقظة وكاء الدبر، أي حافظة ما فيه من الخروج لأنه ما دام مستيقظاً، أحس بما يخرج منه (نيل الأوطار: 1 /192) .
(2) رواه أحمد والدارقطني (المرجع السابق) .(1/372)
ولا ينتقض الوضوء عند الحنفية بالنوم حالة القيام والركوع والسجود في الصلاة وغيرها؛ لأن بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط، فلم يتم الاسترخاء.
ودليلهم: أحاديث، منها حديث ابن عباس: «ليس على من نام ساجداً وضوء، حتى يضطجع، فإنه إذا اضطجع، استرخت مفاصله» (1) وفي لفظ «لاوضوء على من نام قاعداً، إنما الوضوء على من نام مضطجعاً فإن من نام مضطجعاً استرخت مفاصله» (2) وفي رواية للبيهقي: «لا يجب الوضوء على من نام جالساً أو قائماً أو ساجداً حتى يضع جنبه» .
ومنها حديث أنس: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء، فينامون قعوداً، ثم يصلون، ولا يتوضؤون» (3) وهويدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء.
ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من نام جالساً فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء» (4) . وروى مالك عن ابن عمر أنه كان ينام جالساً، ثم يصلي ولا يتوضأ.
وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم نام وهو ساجد، حتى غَطَّ أو نفخ، ثم قام يصلي، فقلت: يا رسول الله، إنك قد نمت؟ قال: «إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعاً، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» (5) .
قال الكمال بن الهمام: وأنت إذا تأملت فيما أوردناه لم ينزل عندك الحديث عن درجة الحسن (6) .
الرأي الثاني ـ للمالكية والحنابلة: أن النوم اليسير أو الخفيف لا ينقض، والنوم الثقيل ينقض.
__________
(1) رواه أحمد وهو ضعيف (نيل الأوطار: 1 /193) .
(2) رواه أبو داود والترمذي والدارقطني، وهو ضعيف (المرجع السابق) .
(3) رواه الشافعي وأبو داود ومسلم والترمذي وهو صحيح (المرجع السابق) .
(4) أخرجه ابن عدي (نصب الراية: 1 /45) وأخرج أيضاً البيهقي حديثاً مماثلاً عن حذيفة بن اليمان.
(5) نصب الراية: 1 / 44.
(6) فتح القدير: 1 / 33.(1/373)
وعبارة المالكية: النوم الثقيل ولو قَصُر زمنه ناقض للوضوء، أما النوم الخفيف ولو طال زمنه فلا ينقض. والثقيل: ما لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء بيده، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فإن شعر بذلك فنوم خفيف. ودليلهم حديث أنس المتقدم: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة، حتى تخفُق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون» .
وحديث ابن عباس، قال: «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي، فجعلني عن شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفَيت، يأخذ بشحمة أذُني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة» (1) في هذين الحديثين دلالة واضحة على أن النوم اليسير لا ينقض الوضوء.
وعبارة الحنابلة: النوم في جميع أحواله ناقض للوضوء إلا النوم اليسير عرفاً من جالس أو قائم، لحديثي أنس وابن عباس السابقين. والصحيح أنه لا حد للنوم القليل، وإنما مرجعه إلى ما جرت به العادة، فسقوط المتمكن وغيره ينقض الوضوء.
فإن نام وشك، هل نومه كثير أو يسير؟ اعتبر طاهراً لتيقنه الطهارة، وشكه في نقضها، وإن رأى رؤيا فهو نوم كثير. وينقض النوم اليسير من راكع وساجد ومستند ومتكئ ومُحْتَب (2) كمضطجع.
ومن لم يُغْلب على عقله، لم ينقض وضوءه؛ لأن النوم: الغلبة على العقل، ولأن الناقض زوال العقل، ومتى كان العقل ثابتاً، وحسه غير زائل، مثل من يسمع ما يقال عنده، ويفهمه، لم ينتقض وضوءه. والخلاصة: أن النوم مضطجعاً في الصلاة أو في غيرها غير ممكن مقعدته ناقض للوضوء بلا خلاف بين الفقهاء، وأن زوال العقل بأي سبب من إغماء أو جنون أو سكر ناقض للوضوء قياساً على النوم، وهو الحق.
__________
(1) رواه مسلم (نيل الأوطار: 1 /192) والإغفاء: النوم أو النعاس.
(2) جلسة الاحتباء: أن يجلس على مقعده ويرفع ركبتيه ويمسكهما بيديه.(1/374)
6 ً - لمس المرأة: ينتقض الوضوء عند الحنفية بلمس المرأة في حالة المباشرة الفاحشة، وعند المالكية والحنابلة بالتقاء بشرتي الرجل والمرأة في حال اللذة أو الشهوة. وعند الشافعية: بمجرد التقاء بشرتي الرجل والمرأة، اللامس والملموس، ولو بدون شهوة.
وتفصيل آراء المذاهب فيما يأتي:
قال الحنفية: ينتقض الوضوء بالمباشرة الفاحشة: وهي التقاء الفرجين مع انتشار العضو بلا حائل يمنع حرارة الجسد، أو هي أن يباشر الرجل المرأة بشهوة وينتشر لها، وليس بينهما ثوب، ولم ير بللاً.
وقال المالكية: ينتقض الوضوء بلمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ به عادة ـ من ذكر أو أنثى ـ ولو كان الملموس غير بالغ، سواء كان اللمس لزوجته أو أجنبية أو محرماً، أو كان اللمس لظفر أو شعر، أو من فوق حائل كثوب، وسواء كان الحائل خفيفاً يحس اللامس معه بطراوة البدن، أو كان كثيفاً، وسواء كان اللمس بين الرجال أو بين النساء.
فاللمس بلذة ناقض، وكذا القبلة بالفم تنقض الوضوء مطلقاً، ولو بدون لذة؛ لأنها مظنة اللذة، أما القبلة في غير الفم فتنقض وضوء المقبِّل والمقبَّل إن كانا بالغين، أو البالغ منهما إن قبل من يشتهي، إن وجدت اللذة، ولو وقعت بإكراه أو استغفال. فالنقض باللمس مشروط بشروط ثلاثة: أن يكون اللامس بالغاً، وأن يكون الملموس ممن يشتهى عادة، وأن يقصد اللامس اللذة أو يجدها.
ولا ينقض الوضوء بلذة من نظر أو فكر ولو حدث انتصاب (إنعاظ) ما لم يلتذ بالفعل، ولا بلمس صغيرة لا تشتهى، أو بهيمة أو رجل ملتحي، إذ الشأن عدم التلذذ به عادة إذا كملت لحيته.(1/375)
وقال الحنابلة في المشهور: ينقض الوضوء بلمس بشرة النساء بشهوة من غير حائل، وكان الملموس مشتهى عادة غير طفلة وطفل، ولو كان الملموس ميتاً، أو عجوزاً، أو مَحْرماً، أو صغيرة تشتهى: وهي بنت سبع سنين فأكثر، فلا فرق بين الأجنبية وذات المحرم والكبيرة والصغيرة. ولا ينقض لمس شعر وظفر وسن، ولا مس عضو مقطوع لزوال حرمته، ولا مس أمرد ولو بشهوة، ولا مس خنثى مشكل، ولا ينقض مس الرجل الرجل ولا المرأة المرأة ولو بشهوة. وإذا لم ينقض الوضوء بمس أنثى، فإنه يستحب.
والخلاصة: أن هذه المذاهب الثلاثة (الجمهور) : لا ينتقض الوضوء لديها بمجرد التلامس العادي بين الرجل والمرأة.
الأدلة:
واستدلوا بما يأتي:
1 - قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} [المائدة:6/5] ، وحقيقة اللمس: ملاقاة البشرتين، أما الحنفية فأخذوا بما نقل عن ابن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنهما: أن المراد من اللمس الجماع، وبما قال ابن السكيت: أن اللمس إذا قرن بالنساء يراد به الوطء، تقول العرب: لمست المرأة أي جامعتها، فيجب المصير في الآية إلى إرادة المجاز: وهو أن اللمس يراد به الجماع، لوجود القرينة وهي حديث عائشة الذي سيأتي.
وأما المالكية والحنبلية الذين قيدوا اللمس الناقض بما إذا كان لشهوة: فجمعوا بين الآية والأخبار الآتية عن عائشة وغيرها.
2 - حديث عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يُقبِّل بعض أزواجه، ثم يصلِّي ولا يتوضأ» (1) .
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وأحمد والترمذي، وهو مرسل، وضعفه البخاري، وكل طرقه معلولة، قال ابن حزم: لا يصح في الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من المس (نيل الأوطار: 1 /195) .(1/376)
3 - حديث عائشة أيضاً، قالت: «إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليُصلّي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسَّني برجْله» (1) فيه دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، والظاهر أن مسها برجله كانَ من غير حائل.
4 - حديث عائشة أيضاً، قالت: «فَقَدْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش، فالتمسته، فوضعت يدي على باطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، كما أثنيت على نفسك» (2) وهو يدل على أن اللمس غير موجب للنقض.
وقال الشافعية: ينقض الوضوء بلمس الرجل المرأة الأجنبية غير المحرم، ولو ميتة، من غير حائل بينهما، ينقض اللامس والملموس، ولو عجوزاً شوهاء أو شيخاً هرماً، ولو بغير قصد، ولا ينقض شعر وسن وظفر، أو لمس مع حائل.
والمراد بالرجل والمرأة: ذكر وأنثى بلغا حد الشهوة عرفاً، أي عند أرباب الطباع السليمة، والمراد بالمَحْرم: من حرم نكاحها لأجل نسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا ينقض صغير أو صغيرة لا يشتهى أحدهما عرفاً غالباً لذوي الطباع السليمة، فلا يتقيد بابن سبع سنين أو أكثر، لاختلافه باختلاف الصغار والصغيرات، لانتفاء مظنة الشهوة. ولا ينقض مَحْرم بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة كأم الزوجة لانتفاء مظنة الشهوة.
وسبب النقض: أنه مظنة التلذذ المثير للشهوة التي لا تليق بحال المتطهر.
__________
(1) رواه النسائي، قال ابن حجر: إسناده صحيح (نيل الأوطار: 1 /196) .
(2) رواه مسلم والترمذي وصححه والبيهقي (المرجع السابق، وانظرهذه الأحاديث في نصب الراية: 1 /70-75) .(1/377)
ودليلهم: العمل بحقيقة معنى الملامسة في اللغة في الآية: {أو لامستم النساء} [المائدة:6/5] ، وهو الجس باليد، أو ملاقاة البشرتين، أو لمس اليد، بدليل قراءة: {أو لمستم} [المائدة:6/5] ، فإنها ظاهرة في مجرد اللمس من دون جماع.
وأما حديث عائشة في التقبيل فهو ضعيف، ومرسل. وأما حديث عائشة في لمسها لقدمه صلّى الله عليه وسلم فمؤول بأن اللمس يحتمل أنه كان بحائل، أو أنه خاص بالنبي. لكن في هذا التأويل تكلف ومخالفة للظاهر.
ويبدو لي أن اللمس العارض أو الطارئ، أو الذي لا لذة أو لا شهوة فيه غير ناقض للوضوء، وأما اللمس الذي يصحبه الشهوة فهو ناقض، وهذا في تقديري أرجح الآراء.
7 ً - مس الفرج ـ القُبُل أو الدبر: لا ينتقض الوضوء عند الحنفية بمس الفرج، وينتقض به عند الجمهور، على تفصيل آتٍ، قال الحنفية: لا ينتقض الوضوء بمس الفرج أو الذكر، لحديث طَلْق بن علي: «الرجل يمس ذكره، أعليه وضوء؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: إنما هو بَضْعة منك، أو مضغة منك» (1) .
ولما روي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان، وأبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهم: أنهم لم يجعلوا مس الذكر حدثاً، حتى قال علي رضي الله عنه: لا أبالي مسسته، أو أرنبة أنفي.
__________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة (أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وأحمد والدارقطني مرفوعاً، ورواه ابن حبان في صحيحه، قال الترمذي: هذا الحديث أحسن شيء يروى في هذا الباب (نصب الراية: 1 /60 وما بعدها، نيل الأوطار: 1 /198) .(1/378)
وقال المالكية: ينقض الوضوء بمس الذكر، لا بمس الدبر، فيعد مس الذكر المتصل ناقضاً، لا المقطوع، سواء مسَّه من أي جزء منه، التذ أم لا، إذا مسه عمداً أو سهواً من غير حائل ببطن الكف أو جنبه، أو ببطن أصبع وبجنبه، لا بظهره، ولو كان الأصبع زائداً على الخمسة إن كان له إحساس ويتصرف به كغيره من الأصابع، وذلك إذا كان بالغاً، أما مس الصبي ذكره فلا ينقض، أي أن المراد مس البالغ ذكره بباطن الكف والأصابع.
ولا ينقض مس حلقة الدبر، أو الأنثيين (الخِصيتين) ، ولا مس امرأة فرجها، ولو ألطفت: أي أدخلت أصبعاً أو أكثر من أصابعها في فرجها. ولا ينقض مس ذكر صبي أو كبير غيره.
ودليلهم: الاقتصار على حديث: «من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ» (1) وحديث «من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه سِتْر، فقد وجب عليه الوضوء» (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: ينتقض الوضوء بمس فرج الآدمي (الذكر والدبر وقبُل المرأة) من نفسه أو غيره، صغيراً أو كبيراً، حياً أو ميتاً، وقياس الدبر على الذكر هو مذهب الشافعي الجديد، بشرط كونه بباطن الكف (أي الراحة مع بطون الأصابع) فلا ينقض بظاهر الكف وحرفه ورؤوس الأصابع وما بينها بعد التحامل اليسير، أي أن الناقض هو ما يستتر عند وضع إحدى الراحتين على الأخرى مع تحامل يسير، وفي الإبهامين يضع باطن أحدهما على باطن الآخر.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً مالك والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود، وقال البخاري: «هو أصح شيء في هذا الباب» (نيل الأطار: 1 /197، نصب الراية:54/1 وما بعدها) .
(2) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، وقال: حديث صحيح سنده عدول نقلته (نيل الأوطار: 1 /199) ورواه الشافعي في مسنده بلفظ «إذا أفضى أحدكم إلى ذكره، فقد وجب عليه الوضوء» (انظر نصب الراية: 1 / 54 وما بعدها) .(1/379)
فلو كان التحامل كثيراً كثر غير الناقض، وقل الناقض. وفي هذا يتفق الشافعية مع مذهب المالكية؛ لأن ظاهر الكف ليس بآلة اللمس، فأشبه ما لو مسه بفخذه.
ولا فرق عند الحنابلة بين بطن الكف وظهره، بدليل حديث الإفضاء المتقدم: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس بينهما سترة، فليتوضأ» وظاهر كفه من يده، والإفضاء: اللمس من غير حائل.
ودليل الشافعية والحنابلة مجموع الحديثين السابقين: حديث بُسْرة بنت صفوان وأم حبيبة: «من مس ذكره فليتوضأ» وفي لفظـ «من مس فرجه فليتوضأ» وحديث أبي هريرة: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، فقد وجب عليه الوضوء» وفي لفظ «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه..» والفرج: يشمل القبُل والدبُر، ولأن الدبر أحد الفرجين، فأشبه الذكر.
والنقض بمس المرأة قبلها لعموم حديث بسرة وأم حبيبة: «من مس فرجه فليتوضأ» ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» (1) .
والراجح عندي مذهب الجمهور غير الحنفية؛ لأن حديث طلق بن علي ضعيف أو منسوخ، ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادعى فيه النسخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي وآخرون.
8 ً - القهقهة في الصلاة: تنقض الوضوء عند الحنفية دون غيرهم، إذا كان المصلي بالغاً، عمداً أو سهواً، زجراً وعقوبة للمصلي، لمنافاتها مناجاة الله تعالى، فلا تبطل صلاة الصبي، لأنه ليس من أهل الزجر.
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي (نصب الراية: 1 / 58) .(1/380)
والقهقهة: ما يكون مسموعاً لجيرانه. أما الضحك: فهو ما يسمعه هو دون جيرانه، والأول يبطل الصلاة والوضوء، والثاني يبطل الصلاة فقط. أما التبسم: وهو ما لا صوت فيه، ولو بدت به الأسنان، فلا يبطل شيئاً.
ودليلهم: حديث: «ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الصلاة والوضوء جميعاً» (1) .
ولا ينتقض الوضوء عند الجمهور (غير الحنفية) بالقهقهة؛ لأنها لا توجب الوضوء خارج الصلاة، فلا توجبه داخلها كالعطاس والسعال. وردوا الحديث السابق لكونه مرسلاً، ولمخالفته للأصول: وهو أن يكون شيء ينقض الطهارة في الصلاة، ولا ينقضها في غير الصلاة (2) .
وأرجح رأي الجمهور لعدم ثبوت حديث الحنفية.
9 ً - أكل لحم الإبل: ينتقض الوضوء عند الحنابلة دون غيرهم بأكل لحم الإبل، على كل حال، نيئاً ومطبوخاً، عالماً كان أو جاهلاً. بدليل ما روي البراء بن عازب قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل؟ فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: لا يتوضأ منها» (3) وروى أسيد بن حضير حديث: «توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم» (4) . وعلق الحنابلة على ذلك بقولهم: إن وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور تعبُّد لا يعقل معناه، فلا يتعدى إلى غيره، فلا يجب الوضوء بشرب لبنها ومرق لحمها وأكل كبدها وطحالها وسنامها وجلدها وكرشها ونحوه.
__________
(1) فيه أحاديث مسندة، وأحاديث مرسلة، أما المسندة فمنها حديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني، وأبي هريرة عند الدارقطني، وابن عمر عند ابن عدي، وأنس وجابر، وعمران بن الحصين، وأبي المليح عند الدارقطني. ولكن كلها ضعيفة، وأما المراسيل فهي أربعة: مرسل أبي العالية، ومرسل معبد الجهني، ومرسل إبراهيم النخعي، ومرسل الحسن (نصب الراية: 74/1-54) .
(2) بداية المجتهد: 39/1.
(3) رواه مسلم وأبو داود. وروى مسلم وأحمد عن جابر بن سمرة مثله، وهما حديثان صحيحان.
(4) رواه أحمد وصححه هو وإسحق، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك (راجع نيل الأوطار: 200/1) .(1/381)
وقال الجمهور غير الحنابلة؛ لا ينقض الوضوء بأكل لحم الجزور، لما رواه جابر قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» (2) ولأنه مأكول كسائر المأكولات.
والراجح لدي رأي الجمهور؛ لأن جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول اتفقوا على سقوط الأمر بإيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار، إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، بل إن الحنابلة أنفسهم أخذوا بحديث الجمهور وقالوا: لانقض بأكل ما مسته النار.
10 ً - غسل الميت: ينتقض الوضوء عند أكثر الحنابلة بغسل الميت (3) أو بعضه، سواء أكان المغسول صغيراً أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، مسلماً أم كافراً، لما روي عن ابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة، فقد روي عن ابن عمر وابن عباس «أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء» وقال أبو هريرة: «أقل ما فيه الوضوء» ، ولأن الغالب فيه أنه لا يسلم أن تقع يده على فرج الميت.
وقال أكثر الفقهاء وهو الصحيح: لاوضوء من غسل الميت، إذ لم يرد فيه نص شرعي، ولا هو في معنى المنصوص عليه، ولأنه غسل آدمي، فأشبه غسل الحي.
وما أحسن ما ذكره ابن رشد عن النواقض الثلاثة الأخيرة، فقال: شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية ... الخ وشذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت، وفيه أثر ضعيف: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) وذهب قوم من أهل الحديث: أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم: أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور، لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام (3) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(2) لكن لا ينتقض الوضوء بحمل الميت عندهم، خلافاً لما هو شائع في بعض الكتب.
(3) بداية المجتهد: 39/1.(1/382)
11 ً - الشك في الوضوء: قال المالكية في المشهور من المذهب: من تيقن الطهارة أو ظنها، ثم شك في الحدث، فعليه الوضوء، وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة فعليه الوضوء؛ لأن الذمة عامرة فلا تبرأ إلا بيقين.
وقال الجمهور غير المالكية وهو الأولى: لا ينتقض الوضوء بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على اليقين، وهو الطهارة الأولى، والحدث في الثانية، لحديث عبد الله بن زيد قال: «شُكي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (2) ، ولأنه إذا شك تعارض عنده الأمران، فيجب سقوطهما، كالبينتين إذا تعارضتا، تساقطتا، ويرجع إلى اليقين. وبناء عليه قرر الفقهاء قاعدة عامة وهي: (اليقين لا يزول بالشك) .
12 ً - ما يوجب الغسل: قال الحنابلة: ينتقض الوضوء بكل ما يوجب الغسل غير الموت، فإنه يوجب الغسل ولا يوجب الوضوء. ومن موجبات الغسل: التقاء الختانين، وانتقال المني، وإسلام الكافر أصلياً كان أو مرتداً، فإذا عاد المرتد إلى الإسلام، وجب عليه الغسل، وإذا وجب الغسل وجب الوضوء. وينتقض الوضوء بالردة، لأنهامحبطة للعمل ومنه الوضوء والغسل. وهذا يوافق رأي المالكية، ولا ينتقض الوضوء بالردة عند الحنفية والشافعية.
تعليق على النواقض:
هذه النواقض مشتركة بين الماسح على الخفين وغيره. وهناك نواقض خاصة، كبطلان طهارة المسح على الخفين ونحوهما من الجوارب بانتهاء مُدَّته وبخلع حائله، وكانتقاض طهارة المستحاضة ونحوها كسلس البول بخروج الوقت، وطهارة المتيمم بوجود الماء ونحوها، تبحث في مباحثها الخاصة بها.
__________
(1) متفق عليه، بل رواه الجماعة إلا الترمذي. ولمسلم بمعناه مرفوعاً من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه: (وهو في الصلاة) .(1/383)
ولا نقض بكلام محرَّم، كالكذب والغيبة والقذف والسب ونحوها، بل يستحب الوضوء منه، ولا نقض بإزالة شعر وأخذ ظفر ونحوهما.
خلاصة نواقض الوضوء في المذاهب:
1 - مذهب الحنفية:
ينقض الوضوء اثنا عشر شيئاً: ما خرج من السبيلين إلا ريح القبل في الأصح، وولادة من غيررؤية دم، ونجاسة سائلة من غير السبيلين كدم وقيح وقيء طعام أو ماء أو عَلَق (دم متجمد من المعدة) ، أو مِرَّة (صفراء) إذا ملأ الفم: وهو مالا ينطبق عليه الفم إلا بتكلف على الأصح، ويجمع متفرق القيء إذا اتحد سببه (1) ، وينقضه دم غلب على البزاق أو ساواه، ونوم مضطجعاً، أو متكئاً أو مستنداً إلى شيء لوأزيل لسقط (أي نوم لم تتمكن فيه المقعدة من الأرض) ، وارتفاع مقعدة نائم على الأرض قبل انتباهه، وإن لم يسقط على الأرض، وإغماء، وجنون، وسكر، وقهقهة بالغ يقظان في صلاة ذات ركوع وسجود، ولو تعمد الخروج بها من الصلاة، ومس فرج بذكر منتصب بلا حائل.
ولا ينقض الوضوء عشرة أشياء: دم لم يسل عن محله، وسقوط لحم من غير سيلان دم، وخروج دودة من جرح وأذن وأنف، ومس ذكر، ومس امرأة، وقيء لا يملأ الفم، وقيء بلغم ولو كثيراً، وتمايل نائم احتمل زوال مقعدته، ونوم متمكن ولو مستنداً إلى شيء، لو أزيل سقط، ونوم مُصَلٍّ ولو راكعاً أو ساجداً.
2 - مذهب المالكية:
النواقض ثلاثة: الأحداث، والأسباب، والارتداد والشك.
__________
(1) هذا هو رأي محمد وهو الأصح. واتحاد السبب هو الغَثَيان: وهو أمر حادث في مزاج الإنسان منشؤه تغير طبعه من إحساس النتن المكروه.(1/384)
والأحداث: هي الخارج المعتاد من السبيلين وهي ثمانية أشياء: البول، والغائط، والريح بصوت وبغير صوت، والودي (وهو ماء أبيض خاثر يخرج بأثر البول) ، والمذي (وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند الالتذاذ) ، والهادي (وهو الماء الذي يخرج من فرج المرأة عند ولادتها) ، ودم الاستحاضة ونحوه: وهو سلس البول إن خرج أحياناً: بأن لم يلازم الخروج نصف زمن أوقات الصلاة أو أكثر، فإن لازم نصف زمن أوقات الصلاة أو أكثر فلا ينقض، ومني الرجل الخارج من فرج المرأة بعد أن اغتسلت (1) .
ولا ينقض الخارج غير المعتاد كالدم والقيح والحصى والدود، ولا الخارج من
غير المعتاد كخروج ريح أو غائط من القبل، أو خروج بول من الدبر، ولا المني بغير لذة معتادة: بأن كان بغير لذة أصلاً، أو لذة غير معتادة كمن حك لجرب أو هزته دابة فأمنى. أما ما خرج بلذة معتادة من جماع أو لمس أو فكر فموجب للغسل.
ولا ينقض البول أو الغائط أو الريح الخارج من ثقبة فوق المعدة، سواء انسد المخرجان أو أحدهما أو لا، وينقض الخارج من تحت المعدة إن انسد المخرجان، كما ينقض الوضوء إن انقطع الخروج من المخرج، وصار يبول أو يتغوط من فمه مثلاً.
والأسباب: ثلاثة أنواع: زوال العقل، ولمس البالغ بلذة من تشتهى، ومس البالغ ذكره المتصل به ببطن كفه أو جنبه أو أصبع بلا حائل ولو كان خفيفاً، إلا أن يكون خفيفاً جداً كالعدم. وزوال العقل يكون بجنون أو إغماء أو سكر أو بنوم ثقيل ولو قصر زمنه. والقبلة بالفم تنقض ولو بغير لذة.
والردة والشك في الناقض بعد طُهر معلوم وعكسه: أي الشك في الطهارة بعد تيقن الحدث أو ظنه، كل منهما ناقض للوضوء، ليس بحدث ولا سبب.
3 - مذهب الشافعية:
__________
(1) الأحداث الثمانية: اثنان من الدبر: وهما الغائط والريح، وستة من القبل: وهي البول والمذي والودي والمني في بعض أحواله، والهادي، ودم الاستحاضة ونحوه كالسلس إن خرج أقل من نصف زمن الصلاة.(1/385)
نواقض الوضوء أربعة:
الأول ـ الخارج من أحد السبيلين إلا المني أي مني الشخص نفسه، لأنه أوجب الغسل.
الثاني ـ زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم إلا النوم قاعداً ممكِّناً مقعده من مقره كالأرض، وظهر دابة سائرة، وإن كان مستنداً إلى شيء بحيث لو زال، لسقط. الثالث ـ التقاء بشرتي الرجل والمرأة ولو ميتة، عمداً أو سهواً. وينتقض اللامس والملموس، ولا ينقض صغير أو صغيرة لا تشتهى، ولا ينقض شعر وسن وظفر، ومحرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أي المحرَّمات بصفة التأبيد، لا المؤقتة كأخت الزوجة فإنها تنقض الوضوء.
الرابع ـ مس قبل الآدمي، وحلقة دبره، بباطن الكف. ولا ينتقض الممسوس. وينقض فرج الميت والصغير، ومحل الجَبِّ كله لا الثقبة فقط، والذكر المقطوع. ولا ينقض فرج البهيمة، ولا المس برأس الأصابع وما بينها.
4 - مذهب الحنابلة:
نواقض الوضوء ثمانية أنواع:
أحدها ـ الخارج من السبيلين، إلا ممن حدثه دائم، فلا يبطل وضوءه، وينقضه ولو كان الخارج ريحاً من قُبُل أنثى أو من ذكر، أو قطناً أو ميلاً أو دهناً أو حقنة أدخل فيهما، أو ظهر طرف مصران أو رأس دودة، أو منياً لرجل أو امرأة استدخلته امرأة في فرجها ثم خرج.
الثاني ـ خروج النجاسات من بقية البدن: فإن كانت النجاسة غائطاً أو بولاً، نقض ولو قليلاً، من تحت المعدة أو فوقها، انسد المخرجان أم بقيا مفتوحين، وإن كانت النجاسة غير الغائط والبول، كالقيء والدم والقيح ودود الجراح لم ينقض إلا كثيرها: وهوما فحش في نفس كل أحد بحسبه.(1/386)
الثالث ـ زوال العقل بجنون ونحوه، أو تغطيته بإغماء أو سكر قليل أو كثير، أو بنوم إلا النوم اليسير عرفاً من جالس وقائم. وينقض النوم اليسير من راكع وساجد ومستند ومتكئ ومُحْتب كمضطجع. الرابع ـ مس ذكر أو قبُل أو دبُر آدمي من نفسه أو غيره، ولو من غير شهوة بيده، ببطن كفه أو بظهره أو بحرفه، غير ظفر، من غير حائل، ولو بأصبع زائدة، ولا ينتقض وضوء ملموس، ولا ينقض مس ذكر بائن (أي مقطوع) ولا مس محله، ولا قُلَفة (وهي الجلدة التي تقطع في الختان) بعد قطعها، ولا مس ذكر زائد؛ لأنه ليس فرجاً، ولا ينقض مس امرأة شفريها، لأن الفرج هو مخرج الحدث، وهو ما بينهما دونهما.
الخامس ـ مس بشرة الرجل بشرة الأنثى بشهوة، من غير حائل.
ولا ينقض مس طفلة وطفل من دون سَبْع إذا لم يكن بشهوة، وينتقض الوضوء باللمس بشهوة ولو كان الملموس ميتاً أو عجوزاً، أو محرماً، أو صغيرة تشتهى وهي بنت سبع فأكثر لقوله تعالى: {أو لا مستم النساء} [المائدة:6/5] .ولا ينتقض وضوء الملموس، ولو وجد منه شهوة، ولا ينتقض وضوء بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر، ولا ينقض لمس شعر وظفر وسن؛ لأنه في حكم المنفصل، ولا ينقض مس عضو مقطوع لزوال حرمته، ولا مس أمرد ولو بشهوة، لعدم تناول الآية له، ولأنه ليس محلاً للشهوة شرعاً. ولا ينقض مس خنثى مشكل من رجل أو امرأة ولو بشهوة، ولا ينقض مس الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة، ولو بشهوة فيهن.
السادس ـ غسل الميت أو بعضه، ولو في قميص، ولا ينقض تيمم الميت لتعذر غسل. وغاسل الميت: من يقلبه ويباشره ولو مرة، لا من يصب الماء ونحوه.
السابع ـ أكل لحم الجزور نيئاً وغير نيء.
الثامن ـ موجبات الغسل كالتقاء الختانين وانتقال المني وإسلام الكافر الأصلي أو المرتد. c(1/387)
المطلب الثامن ـ وضوء المعذور:
ينتقض الوضوء بالخارج من أحد السبيلين إذا كان خروجه في حال الصحة، فإن كان في حال المرض كان معذوراً.
والمعذور كما عرفه الحنفية: من به سلس بول لايمكنه إمساكه، أو استطلاق بطن، أو انفلات ريح أو رعاف دائم أو نزف دم جرح، أو استحاضة (1) ،وكذا كل ما يخرج بوجع ولو من أذن وثدي وسرة، من دم أو قيح أو صديد، أو ماء الجرح والنفطة، وماء البثرة، والثدي والعين والأذن (2) .
وأحكام وضوء المعذور وصلاته تحتاج لتفصيل بين المذاهب.
1 - مذهب الحنفية (3) :
ضابط المعذور: هو ـ في ابتداء الأمر ـ من يستوعب عذره تمام وقت صلاة مفروضة، بأن لا يجد في جميع وقتها زمناً يتوضأ، ويصلي فيه خالياً عن الحدث، كأن يستمر تقاطر بوله مثلاً من ابتداء الظهر إلى العصر. فإن أصبح متصفاً بهذه الصفة، كفى وجوده في جزء من الوقت ولو مرة، كأن يرى الدم مرة فقط في وقت العصر، بعد استمراره في وقت الظهر، ولا يصبح معافى إلا إذا انقطع عنه وقت صلاة كامل، أي أن شرط ثبوت العذر في مبدأ الأمر: هو استيعابه جميع الوقت.
وشرط دوامه: وجوده في كل وقت بعد ذلك، ولو مرة واحدة، ليعلم بها بقاؤه. وشرط انقطاعه وعدم اتصافه بوصف المعذور: خلو وقت صلاة كامل عنه، كأن ينقطع طوال وقت العصر مثلاً.
__________
(1) هو دم علة يخرج من أدنى الرحم، بخلاف الحيض فإنه يخرج من أقصى الرحم، وهو الدم الذي يستمر في غير وقت العادة الشهرية، أي الناقص عن أقل الحيض، والزائد عن أكثره، أو عن أكثر النفاس، أو ما تراه صغيرة دون تسع على المعتمد، وآيسة على ظاهر المذهب الحنفي، وما تراه حامل ولو قبل خروج أكثر الولد (الدر المختار:262/1-263) .
(2) الدر المختار: 280/1 وما بعدها.
(3) الدر المختار: 139/1، 281-283، فتح القدير: 124/1-128، مراقي الفلاح: ص25، تبيين الحقائق: 64/1.(1/388)
وحكمه: أنه يتوضأ لوقت كل فرض، لا لكل فرض ونفل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» (1) ويقاس عليها سائر ذوي الأعذار. ويصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل، ويبقى وضوءه ما دام باقياً بشرطين: أن يتوضأ لعذره، ولم يطرأ عليه حدث آخر كخروج ريح أو سيلان دم من موضع آخر.
ويبطل وضوء المعذور بخروج وقت الصلاة المفروضة فقط، فإن توضأ بعد طلوع الشمس لصلاة العيد، ودخل وقت الظهر، فإن وضوءه لا ينتقض، لأن دخول وقت الظهر ليس ناقضاً، وكذا خروج وقت العيد ليس ناقضاً، لأنه ليس وقت صلاة مفروضة، بل هو وقت مهمل، وصلاة العيد بمننرلة صلاة الضحى، وهذا يعني أنه يصح في هذه الحالة فقط وضوء المعذور قبل دخول الوقت (وقت الظهر) ليتمكن من الأداء عند دخول الوقت، وأنه يبطل وضوء المعذور بخروج الوقت لا بدخوله (2) . فإذا خرج الوقت بطل وضوء المعذور واستأنف الوضوء لصلاة أخرى عند أئمة الحنفية الثلاثة، وقال زفر: استأنف إذا دخل الوقت.
أما إن توضأ قبل طلوع الشمس، فإنه ينتقض بطلوعها لخروج وقت الفريضة. وكذلك ينتقض وضوءه إن توضأ بعد صلاة الظهر ثم دخل وقت العصر، لخروج وقت الظهر.
__________
(1) رواه سبط ابن الجوزي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، لكن قال عنه الزيلعي: غريب جداً (نصب الراية: 204/1) .
(2) قال أبو حنيفة ومحمد: يبطل وضوء المعذور بخروج الوقت فقط، لأن الوقت مخصص للأداء شرعاً، فلا بد من تقديم الطهارة عليه ليتمكن من الأداء عند دخول الوقت، كما لابد من تقديم الطهارة على الأداء حقيقة، ولأن دخول الوقت دليل ثبوت الحاجة إلى الطهارة، وخروجه دليل زوال الحاجة، فينتقض الوضوء عند زوال الحاجة وهو خروج الوقت، لا عند دخول الوقت. وقال أبو يوسف: يبطل الوضوء بكل واحد منهما أي عند دخول الوقت وعند خروجه، لأن الحاجة إلى الطهارة مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده. وقال زفر بعكس الطرفين: يبطل الوضوء بدخول الوقت فقط لا بخروجه، لأنه لا حاجة للطهارة قبل الوقت، فلا تعتبر. وتظهر فائدة الاختلاف في أمرين فقط: فيمن توضأ قبل الزوال، أو قبل طلوع الشمس، فلا ينتقض الوضوء في الحالة الأولى عند أبي حنيفة ومحمد حتى يذهب وقت الظهر. وينتقض في الحالة الثانية بخروج الوقت (طلوع الشمس) . وعند أبي يوسف: ينتقض الوضوء في الحالتين. وعند زفر: لا ينتقض في الحالة الثانية لعدم دخول وقت صلاة الظهر. وينتقض في الحالة الأولى. فأبو يوسف وزفر: يوجبان الطهارة بدخول الوقت، لأنه وقت الحاجة، وهذا موافق لقول الشافعية والحنابلة الآتي بيانه. واتفق أئمة الحنفية الأربعة على أن طهارة المستحاضة ونحوها تنتقض بخروج الوقت.(1/389)
وعلى المعذور أن يخفف عذره بالقدر المستطاع، كالحِفَاظ للمستحاضة، والقعود في أثناء الصلاة إن كانت الحركة أو القيام تؤدي إلى السيلان. ويستحب للرجل أن يحتشي إن رابه الشيطان، ويجب إن كان لا ينقطع إلا به.
ولا يجب على المعذور غسل ما يصيب ثوبه أكثر من قدر الدرهم إذا اعتقد أنه لو غسله تنجس بالسيلان قبل الفراغ من الصلاة. فإن لم يتنجس قبل فراغه من الصلاة، وجب عليه غسله، وهو المختار للفتوى.
2 - مذهب المالكية (1) :
السلس: هو ما يسيل بنفسه لانحراف الطبيعة بولاً أو ريحاً أو غائطاً أو مذياً، ومنه دم الاستحاضة. وذلك إذا لم ينضبط، ولم يقدر على التداوي. فإن انضبط بأن جرت عادته أن ينقطع آخر الوقت، وجب عليه تأخير الصلاة لآخره، وإن كان ينقطع أول الوقت وجب عليه تقديم الصلاة. وإن قدر على التداوي أو التزوج وجب عليه ذلك، واغتفر له زمن التداوي والتزوج.
فلا يكون السلس من طول العزوبة، وإنما من اختلال المزاج، أو من برودة وعلة.
__________
(1) الشرح الصغير: 139/1 وما بعدها، الشرح الكبير: 116/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص14.(1/390)
ولا ينتقض الوضوء عند المالكية إن خرج البول والمذي على وجه السلس الملازم: وهو أن يلازمه نصف زمن أوقات الصلاة أو أكثر، أو كل الزمن. لكن يندب الوضوء إذا لم يعم الزمن.
وينتقض وضوء السلس: إذا بال البول المعتاد، أو أمذى بلذة معتادة بأن حدث كلما نظر أو تفكر. ويعرف ذلك: بأن البول المعتاد يكثر ويمكن إمساكه، وأن المذي يكون بشهوة.
كما ينتقض وضوء السلس: إن لازمه أقل الزمان.
وإذا لم ينتقض وضوء السلس، فله أن يصلي به ما شاء إلى أن يوجد ناقض غيره، لكن يستحب للسلس والمستحاضة: أن يتوضأ لكل صلاة، ولا يجب عليهما.
3 - مذهب الحنابلة (1) :
لا ينتقض وضوء المبتلى صاحب الحدث الدائم بسلس بول وكثرة مذي ونزف الدم وانفلات ريح ونحوها كالمستحاضة. وذلك إذا دام حدثه، ولم ينقطع زمناً من وقت الصلاة بحيث يسعها مع الطهارة. فإن انقطع حدثه زمناً يسع الصلاة والطهارة، وجب عليه أداء الصلاة فيه.
__________
(1) كشاف القناع: 138/1،247 وما بعدها، المغني: 340/1-342.(1/391)
لكن عليه الوضوء إن خرج منه شيء من حدثه الدائم لكل صلاة، بعد غسل محل الحدث، وشدِّه، والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه، ولا يصح وضوءه إلا بعد دخول وقت الصلاة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لكل صلاة، حتى يجيء ذلك الوقت» (1) وفي لفظ: «توضئي لوقت كل صلاة» (2) ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم، فإن توضأ قبل دخول الوقت وخرج منه شيء بطلت طهارته.
ويجوز للمستحاضة وغيرها الجمع بين فرضي الصلاتين بوضوء واحد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر حَمْنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد» (3) وأمر به سهلة بنت سهيل، ولبقاء وضوئها إلى آخر الوقت، وكالمتيمم وأولى. ولو زال العذر كأن انقطع دم المستحاضة وقتاً يسع الوضوء والصلاة، بطلت الطهارة ويلزم استئنافها؛ لأنه صار بهذا الانقطاع في حكم من حدثه غير دائم.
وكيفية إعداد المعذور للوضوء: هي أن تغسل المستحاضة المحل ثم تحشوه بقطن أو نحوه ليرد الدم. ومن به سلس البول أو كثرة المذي: يعصب رأس ذكره بخرقة ويحترس حسبما يمكنه.
وكذلك يفعل من به ريح أو نزف دم يعصب المحل. فإن كان مما لا يمكن عصبه مثل من به جرح لا يمكن شده، أو باسور، أو ناسور لايتمكن من عصبه، صلى على حسب حاله، كما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه حين طعن، صلى وجرحه يثْعَب دماً» أي يتفجر.
وينوي المعذور استباحة الصلاة، ولا يكفيه نية رفع الحدث لأنه دائم الحدث.
4 - مذهب الشافعية (1) :
صاحب السلَس الدائم من بول أو مذي أو غائط أو ريح، والمستحاضة، يغسل الفرج ثم يحشوه إلا إذا كان صائماً، أو تأذت المستحاضة به، فأحرقها الدم فلا يلزم الحشو حينئذ، ثم يعصِب. وكيفية العصب للمستحاضة مثلاً: أن تشد فرجها بعد غسله بخرقة مشقوقة الطرفين، تخرج أحدهما من أمامها، والآخر من خلفها، وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة.
ثم يتوضأ أو يتيمم عقب ذلك فوراً، أي أنه تجب الموالاة بين الأفعال من عصب ووضوء، يفعل كل ذلك فوراً، أي أنه تجب الموالاة بين الأفعال من عصب ووضوء، يفعل كل ذلك بعد دخول وقت الصلاة، لأنه طهارة ضرورة، فلا تصح قبل الوقت كالتيمم.
ثم يبادر وجوباً إلى الصلاة تقليلاً للحدث، فلو أخر لمصلحة الصلاة كستر العورة، وأذان وإقامة، وانتظار جماعة، واجتهاد في قبلةوذهاب إلى مسجد، وتحصيل سترة، لم يضر، لأنه لا يعد بذلك مقصراً، وإلا كأن أخر لا لمصلحة الصلاة كأكل وشرب وغزل وحديث، فيضر التأخير على الصحيح، فيبطل الوضوء، وتجب إعادته وإعادة الاحتياط لتكرر الحدث والنجس مع إمكان الاستغناء عنه.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه (نيل الأوطار: 275/1) .
(2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) صححه الترمذي.
(4) مغني المحتاج: 1/111 وما بعدها، الحضرمية: ص 28.(1/392)
وتجب الطهارة وتجديد العصابة في الأصح، والوضوء لكل فرض ولو منذوراً، كالمتيمم لبقاء الحدث، ويصلي به ما شاء من النوافل فقط، وصلاة الجنازة لها حكم النافلة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لكل صلاة» ولو زال العذر وقتاً يسع الوضوء والصلاة، كانقطاع الدم مثلاً، وجب الوضوء، وإزالة ما على الفرج من الدم ونحوه.
وسلس المني: يلزمه الغسل لكل فرض.
ولو استمسك الحدث بالجلوس في الصلاة، وجب بلا إعادة.
ولا يجوز للسلس: أن يعلق قارورة يقطر فيها بوله.
وينوي المعذور استباحة الصلاة، لا رفع الحدث لأنه دائم الحدث، لا يرفعه وضوءه، وإنما يبيح له العبادة، كما قال الحنابلة.
وبه يتبين أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في أحكام وضوء المعذور، إلا أن الحنابلة ومثلهم الحنفية قالوا: يجوز بالوضوء الواحد صلاة أكثر من فرض في الوقت؛ لأن الواجب عندهم الوضوء لوقت كل صلاة. ولم يجز الشافعية الصلاة به إلا فرضاً واحداً؛ لأن الواجب عندهم تجديد الوضوء لكل فرض.
واتفق الجمهور (غير المالكية) على وجوب تجديد وضوء المعذور، وقال المالكية باستحباب الوضوء فقط. والوضوء يكون بعد دخول الوقت عند الشافعية والحنابلة، وفي غير صلاة الظهر عند الحنفية، أما صلاة الظهر فيجوز تقديم الوضوء لها على دخول الوقت، لسبقها بوقت مُهْمل.
المطلب التاسع ـ ما يحرم بالحدث الأصغر أو ما يمنع منه غير المتوضئ:
يحرم بالحدث الأصغر ثلاثة أمور: الصلاة ونحوها، والطواف، ومس المصحف وتوابعه، على تفصيل بين المذاهب (1) .
1 - الصلاة ونحوها: يحرم على المحدث غير المتوضئ الصلاة فرضاً أو
__________
(1) البدائع: 33/1 وما بعدها، الدر المختار: 160/1-165، الشرح الصغير: 149/1 وما بعدها، المجموع:71/2-79، المهذب: 25/1، الحضرمية: ص16، حاشية الباجوري: 121/1 وما بعدها، المغني: 142/1، 147، كشاف القناع: 152/1-157.(1/393)
نفلاً، ونحوها، كسجود التلاوة، وسجود الشكر، وخطبة الجمعة، وصلاة الجنازة. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (1) «لا صلاة لمن لا وضوء له ... » (2) .
2 - الطواف بالبيت الحرام فرضاً أو نفلاً؛ لأنه صلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير» (3) .
إلا أن الحنفية جعلوا الطهارة للطواف واجباً لا شرطاً في صحته، فيصح مع الكراهة التحريمية الطواف محدثاً؛ لأن الطواف بالبيت شبيه بالصلاة بنص الحديث السابق، ومعلوم أنه ليس بصلاة حقيقة، فلكونه طوافاً حقيقة يحكم بالجواز، ولكونه شبيهاً بالصلاة يحكم بالكراهة.
3 - مس المصحف كله أو بعضه ولو آية: والمحرم هو لمس الآية ولو بغير أعضاء الطهارة لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/56] ، أي المتطهرون، وهو خبر بمعنى النهي، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (4) ، ولأن تعظيم القرآن واجب، وليس من التعظيم مس المصحف بيد حلَّها الحدث.
__________
(1) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 134/1) .
(3) رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية والحاكم والبيهقي في السنن عن ابن عباس، وهو حديث حسن. ورواه أحمد والنسائي والترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعاً وموقوفاً بلفظ: «إنما الطواف بالبيت صلاة، فإذا طُفتم فأقلوا الكلام» (نيل الأوطار: 207/1) .
(4) روي من حديث عمرو بن حزم عند الأثرم وأبي داود والنسائي، وعن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني والبيهقي، وعن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني، وعن ثوبان إلا أن الأخير في غاية الضعف عنه، والأحاديث الأخرى ضعيفة، ورواه مالك مرسلاً عن عمرو ابن حزم (نيل الأوطار: 205/1، نصب الراية: 196/1) .(1/394)
واتفق الفقهاء على أن غير المتوضئ يجوز له تلاوة القرآن أو النظر إليه دون لمسه، كما أجازوا للصبي لمس القرآن للتعلم؛ لأنه غير مكلف، والأفضل التوضؤ.
وقد حرم المالكية والشافعية مس القرآن بالحدث الأصغر ولو بحائل أو عود، وأجاز الحنفية والحنابلة مسّه بحائل أو عود طاهرين.
وهذه عبارات الفقهاء:
قال الحنفية: يحرم مس المصحف كله أو بعضه أي مس المكتوب منه، ولو آية على نقود (درهم ونحوه) أو جدار، كما يحرم مس غلاف المصحف المتصل به، لأنه تبع له، فكان مسه مساً للقرآن، ولا يحرم مس الغلاف المنفصل عن القرآن كالكيس والصندوق، ويجوز مسه بنحو عود أو قلم أو غلاف منفصل عنه، ويكره لمسه بالكم تحريماً لتبعيته للابس، والحائل كالخريطة في الصحيح، والمقصود بالخريطة: هو الوعاء من جلد أو غيره تُشرَج على ما فيها.
ولا يجوز لغير المسلم مس المصحف ويجوز له تعلمه وتعلم الفقه ونحوه، ويجوز للصبي مس القرآن أو لوح منه للضرورة من أجل التعلم والحفظ. ولا تحرم كتابة آية على ورقة، لأن المحرم هو مس المكتوب باليد، أما القلم فهو واسطة منفصلة، كالثوب المنفصل الذي يمس به القرآن؛ لأن المفتى به جواز مس المصحف بغلاف منفصل أو بصُرة.
ولا يكره مس كتب التفسير إن كان التفسير أكثر، ويكره المس إن كان القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له.
ولا مانع من مس بقية الكتب الشرعية من فقه وحديث وتوحيد بغير وضوء، والمستحب له ألا يفعل. كما لا مانع من لمس الكتب السماوية الأخرى المبدلة، لكن يكره قراءة توراة وإنجيل وزبور؛ لأن الكل كلام الله، وما بدل منها غير معين.(1/395)
ويجوز قربان المرأة في بيت فيه مصحف مستور، ويكره وضع المصحف تحت رأسه إلا للحفظ. ويكره لف شيء في ورق فيه فقه ونحوه من علوم الشرع. ويدفن المصحف كالمسلم إذا صار بحال لا يقرأ فيه، ولا بأس أن تدفن كتب الشرع، أوتلقى في ماء جارٍ، أو تحرق، والأول أحسن. ويجوز محو بعض الكتابة ولو قرآناً بالريق، ويجوز حمل الحجب المشتملة على آيات قرآنية ودخول الخلاء بها ومسها ولو للجنب إذا كانت محفوظة بغلاف منفصل عنها كالمشمع ونحوه.
وقال المالكية: يمنع المحدث حدثاً أصغر من مس مصحف أو جزئه، أو كَتْبِه، أو حمله ولو بعلاقة أو ثوب أو وسادة، أو كرسي تحته، ولو كان المس بحائل أو عود، أو كان الحمل مع أمتعة أخرى غير مقصودة بالحمل. أما إن قصد حمل الأمتعة وفيها قرآن تابع لها كصندوق ونحوه، فيجوز الحمل، أي إن قصد المصحف فقط أو قصده مع الأمتعة حرم الحمل، وإن قصد الأمتعة بالحمل جاز.
ويجوز المس والحمل لمعلم ومتعلم بالغ، وإن كان حائضاً أو نفساء، لعدم قدرتهما على إزالة المانع، ولايجوز ذلك للجنب لقدرته على إزالة المانع بالغسل أو التيمم.
كما يجوز للمسلم لا للكافر المس والحمل بحِرْز ساتر واقٍ، ولو لجنب أو حائض، ولو مصحفاً كاملاً. ويباح مس التفسير وحمله والمطالعة فيه للمحدث ولو كان جنباً، لأن المقصود من التفسيرمعاني القرآن، لا تلاوته.
وقال الشافعية: يحرم حمل المصحف ومس ورقه وحواشيه، وجلده، المتصل به (لا المنفصل عنه) ، ووعائه (خريطته) (1) وعلاقته، وصندوقه، وما كتب من الألواح لدارس قرآن، ولو بخرقة، أو بحائل. ويحل حمل القرآن في أمتعة لا بقصده، وحمل التفسير الأكثر منه، أما إذا كانا متساويين أو كان القرآن أكثر فلا يجوز، ويجوز حمل كتب العلم الأخرى غير التفسير المشتملة على آيات قرآنية.
__________
(1) يعبر الفقهاء عادة عن كيس المصحف المعدّ له عرفاً اللائق به بالخريطة.(1/396)
ويباح قلب ورقه بعود. ولا يمنع الصبي المميز من حمله ومسه للدراسة.
ويجوز حمل التمائم، وما على النقد، وما على الثياب المطرزة بالآيات القرآنية ككسوة الكعبة لأنه لم يقصد به القرآن.
ويجوز للمحدث كتابة القرآن بدون مس.
ويحرم وضع شيء على المصحف كخبز وملح؛ لأن فيه إزراء وامتهاناً له. ويحرم تصغير المصحف والسورة لما فيه من ايهام النقص، وإن قصد به التعظيم.
وقال الحنابلة: يحرم مس المصحف ولو آية منه، بشيء من جسده، ويجوز مسه بحائل أو عود طاهرين، وحمله بعلاقة أو وعاء، ولو كان المصحف مقصوداً بالحمل، وكتابته ولو لذمي من غير مس، وحمله بحرز ساتر طاهر.
ولا يجوز لولي الصبي تمكينه من مس المصحف أو لوح الدرس القرآني ولو للحفظ أو التعلم، ما دام الصبي محدثاً، أي أن حرمة مس القرآن إلا بطهارة تشمل عندهم الصبي.
ويجوز مس كتب التفسير والفقه وغيرها وإن كان فيها آيات من القرآن، بدليل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر كتاباً فيه آية» (1) . يجوز في أرجح الوجهين: مس الدراهم المكتوب عليها القرآن، والثوب المرقوم بالقرآن، لأنها لا تسمى قرآناً، ولأن في الاحتراز منها مشقة، فأشبهت ألواح الصبيان على أحد الوجهين.
وإن احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء، تيمم وجاز مسه.
ويمنع الكافر (الذمي أو غيره) من مس القرآن ومن قراءته ومن تملكه ويمنع المسلم من تمليكه له، ويحرم بيع المصحف ولو لمسلم، ويحرم توسد المصحف والوزن به والاتكاء عليه أو على كتب العلم التي فيها القرآن. فإن لم يكن فيها القرآن، كره توسدها والوزن بها والاتكاء عليها، إلا إن خاف عليها سرقة، فلا بأس أن يتوسدها للحاجة.
__________
(1) متفق عليه من حديث ابن عباس.(1/397)
ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن تناله أيديهم» (1) .
والخلاصة: أنه وقع الإجماع ما عدا داود أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف. وأما المحدث حدثاً أصغر فلم تدل الأدلة قطعاً على منعه من مس القرآن، لكن أكثر الفقهاء على أنه لا يجوز له. وأجاز ابن عباس والزيدية له مس المصحف (2) .والظاهر أن المراد من آية {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/56] هو اللوح المحفوظ، والمطهرون: الملائكة، فإن لم يكن ظاهراً فهو احتمال، كاحتمال أن المراد من كلمة (طاهر) في الحديث «لا يمس القرآن إلا طاهر» : هو المؤمن، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، ومن ليس على بدنه نجاسة.
ويجوز للمحدث عند الجمهور غير المالكية كتابة المصحف أو بعض آيات منه، وإن لم يكن بقصد التعليم والتعلم، بشرط ألا يحمله الكاتب المحدث أو يمسه أثناء كتابته، وإلا حرم.
وحرَّم المالكية على المعتمد كتابةالقرآن أو بعض منه للمحدث كحمله ومسَّه.
ويجوز عند الجمهور غير الحنابلة للصبيان كتابة القرآن ومسّه بقصد التعليم والتعلم للضرورة أو الحاجة ودفعاً للمشقة.
وأجاز المالكية للحائض والنفساء قراءة القرآن وحمله ومسّه أثناء التعليم والتعلم للضرورة، كما أجازوا لهما القراءة في غير حال التعلم إذا كان يسيراً كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين وآيات الرُّقية للتداوي بقصد الاستشفاء بالقرآن.
__________
(1) رواه مسلم بلفظ: «لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو» ولعل هذا في بادئ الأمر، واليوم يتداول العالم القرآن بسبب انتشار الطباعة.
(2) راجع نيل الأوطار: 205/1-207.(1/398)
المبحث الثاني ـ السواك:
تعريفه، حكمه، كيفيته، فوائده.
أولاً ـ تعريف السواك:
السواك لغة: الدلك وآلته. وشرعاً: استعمال عود أو نحوه كأشنان وصابون، في الأسنان وما حولها، ليذهب الصفرة وغيرها عنها.
ثانياً ـ حكمه:
السواك من سنن الفطرة (أي من السُّنَّة أو من الدين) ، لأنه سبب لتطهير الفم وموجب لرضا الله على فاعله، قال عليه السلام: «السواك مَطْهرة للفم، مَرْضاة للرب» (1) وهو يدل على مطلق شرعيته دون تخصيص بوقت معين، ولا بحالة مخصوصة، فهو مسنون في كل وقت. وهو من السنن المؤكدة، وليس بواجب في حال من الأحوال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وفي رواية لأحمد: «لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء» (2) وللبخاري تعليقاً بصيغة الجزم - وتعليقاته هكذا صحيحة -: «لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» قال بعض الفقهاء: اتفق العلماء على أنه سنة مؤكدة لحث الشارع ومواظبته عليه، وترغيبه وندبه إليه.
وحكمه عند الفقهاء: أنه سنة عند الحنفية لكل وضوء عند المضمضة، ومن فضائل الوضوء قبل المضمضة عند المالكية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» (3 إلاأنه إذا نسيه عند المضمضة في الوضوء فيندب للصلاة. وهو لدى الشافعية والحنابلة سنة مستحبة عند كل صلاة، لحديث أبي هريرة السابق برواية الجماعة: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وسنة أيضاً عند الوضوء بعد غسل الكفين وقبل المضمضة ولتغير الفم أو الأسنان، بنوم أو أكل أو جوع أو سكوت طويل أو كلام كثير، لحديث حذيفة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» (4) أي يدلكه بالسواك، وقيس بالنوم غيره بجامع التغير.
وكما أنه يتأكد للصلاة ولتغير الفم واصفرار الأسنان، يتأكد أيضاً لقراءة قرآن، أو حديث شرعي، ولعلم شرعي، ولذكر الله تعالى، ولنوم ويقظة، ولدخول منزله، وعند الاحتضار (5) ، وفي السحَر، وللأكل، وبعد الوتر،
__________
(1) رواه عن عائشة أحمد والنسائي، وهو للبخاري تعليق، وابن حبان موصولاً (نيل الأوطار: 102/1) .
(2) رواه الجماعة، ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد، قال ابن منده: مجمع على صحته. ورواه مالك والشافعي مرفوعاً (المرجع السابق: 104/1) .
(3) رواه البخاري تعليقاً، والنسائي، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الحاكم عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب بإسناد حسن.
(4) رواه الجماعة إلا الترمذي عن حذيفة، ولفظ الصحيحين: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك» (نيل الأوطار: 105/1) .
(5) ويقال: إنه يسهل خروج الروح، وورد «إن السواك شفاء من كل داء إلا السام» أي الموت (الشرح الصغير: 126/1) .(1/399)
وللصائم قبل الظهر (1) . وأضاف الشافعية: ويسن التخلل قبل السواك وبعده ومن آثار الطعام.
وأدلة ذلك: ما روى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك» وروى ابن ماجه عن أبي أمامة: «إني لأستاك، حتى لقد خشيت أن أُحفي مقادم فمي» (2) وعن عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل أو نهار، فيستيقظ، إلا تسوك، قبل أن يتوضأ» (3) ، ولأن النوم والأكل ونحوهما يغير رائحة الفم، والسواك مشروع لإزالة رائحته وتطييبه.
ويكره عند الشافعية والحنابلة السواك للصائم بعد الزوال أي من وقت صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس، لخبر الصحيحين: «لخُلوف (4) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» وأطيبية الخلوف تدل على طلب إبقائه، فكرهت إزالته، وتزول الكراهة بالغروب؛ لأنه ليس بصائم الآن، واختصاصه بما بعد الزوال لأن تغير الفم بالصوم إنما يظهر حينئذ.
ولا يكره عند المالكية والحنفية السواك للصائم مطلقاً لعموم الأحاديث السابقة الدالة على استحباب السواك، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من خير خصال الصائم السواك» (5) وقال ربيعة بن عامر: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك،
__________
(1) فتح القدير: 15/1 ومابعدها، اللباب: 14/1، الشرح الصغير: 124/1-126، المجموع: 329/1-342، الشرح الكبير: 102/1 وما بعدها، مغني المحتاج: 55/1 وما بعدها، المهذب: 13/1، المغني: 95/1-97، كشاف القناع: 78/1-81.
(2) أي خشيت أن ترق ثناياي.
(3) رواه أحمد وأبو داود.
(4) الخلوف: تغير رائحة الفم، والخلوف بعد الزوال لخبر: «أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً، ثم قال: وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك» والمساء: بعد الزوال.
(5) رواه ابن ماجه عن عائشة.(1/400)
وهو صائم» (1) قال الشوكاني: الحق أنه يستحب السواك للصائم أول النهار وآخره، وهو مذهب جمهور الأئمة.
ثالثاً ـ كيفيته وأداته:
يستاك الشخص بيده اليمنى مبتدئاً بالجانب الأيمن، عرضاً في الأسنان (أي ظاهراً وباطناً) من ثناياه إلى أضراسه، ويذهب إلى الوسط ثم الأيسر، وطولاً في اللسان، لحديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يحب التيامن في تنعله وترجله وطُهوره، وفي شأنه كله» (2) ولخبر «إذا استكتم فاستاكوا عرضاً» (3) ،ويجزئ الاستياك في الأسنان طولاً، لكن مع الكراهة؛ لأنه قد يدمي اللثة، ويفسد لحم الأسنان.
أما اللسان فيسن أن يستاك فيه طولاً، كما ذكره ابن دقيق العيد مستدلاً بخبر في سنن أبي داود (4) .
وقال الحنابلة: يبدأ من أضراس الجانب الأيمن بيساره. ويحصل الاستياك بعود ليِّن من نخل أو غيره، ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يضره ولا يتفتت فيه كالأراك والفرشاة، والأفضل أن يكون من أراك، ثم من النخل، ثم ذو الريح الطيب ثم اليابس المندى بالماء، ثم العود. ولايكره بسواك الغير إذ اأذن وإلا حرم، روى أبو داود عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستنُّ، وعنده رجلان،
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن، ورواه أصحاب السنن وابن خزيمة وعلقه البخاري (نيل الأوطار: 107/1) .
(2) متفق عليه.
(3) رواه أبو داود في مراسيله.
(4) عن أبي بردة عن أبيه، قال: «أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم نستحمله، فرأيته يستاك على لسانه» (سنن أبي داود: 12/1، الإلمام لابن دقيق العبد: ص 16) .(1/401)
أحدهما أكبر من الآخر، فأُوحي إليه في فضل السواك (أن كبِّر) أعط السواك أكبرهما» .
ويحصل أيضاً بالإصبع عند عدم السواك في رأي الحنفية والمالكية، قال علي رضي الله عنه: التشويص بالمُسبِّحة والإبهام سواك، وروى البيهقي وغيره من حديث أنس يرفعه: «يجزي من السواك الأصابع» (1) وروى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، الرجل يذهب فوه، يستاك؟ قال: نعم، قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل أصبعه في فيه، فيدلكه» (2) .
ولا يحصل السواك بالإصبع في الأصح عند الشافعية، والحنابلة، كما لايحصل بخرقة عند الحنابلة، ويصح بكل خشن عند الشافعية؛ لأن استعمال الإصبع لا يسمى استياكاً، ولم يرد الشرع به، ولا يتحقق به الإنقاء الحاصل بالعود.
ويغسل السواك بالماء بعد استعماله ليزيل ما عليه، قالت عائشة: «كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يستاك، فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه» (3) .
ولا يستاك بعود الرمان ولا الآس ولا الريحان ولا الأعواد الذكية الرائحة؛ لأنها تضر بلحم الفم، ولايحصل الإنقاء بها، ولم يرد بها الشرع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «
__________
(1) تكلم فيه المحدثون، ورواه أيضاً ابن عدي والدارقطني (نيل الأوطار:106/1، نصب الراية:10/1) .
(2) فيه راو ضعيف (مجمع الزوائد:100/2) وروى أحمد عن علي أنه دعا بكوز من ماء، فغسل وجهه وكفيه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه..» وفيه دلالة على أنه يجزئ التسوك بالإصبع (نيل الأوطار:106/1) .
(3) رواه أبو داود (سنن أبي داود (سنن أبي داود:13/1) . لا تخللوا بعود الريحان، ولا الرمان، فإنهما يحركان عرق الجذام» (1) .(1/402)
ولا يستاك أيضاً بقصب الشعير ولا بعود الحلفاء ونحوهما من كل ما يضر أو يجرح؛ ولأنهما يورثان الأكلة أو البرص.
ولا يتسوك ولا يتخلل بما يجهله، لئلا يتضرر منه.
ويقول إذا استاك: (اللهم طهر قلبي، ومحِّص ذنوبي) (2) .
وقال بعض الشافعية: وينوي به الإتيان بالسنة.
ولا يكره السواك في المسجد، لعدم الدليل الخاص بالكراهة.
ويكره أن يزيد طول السواك على شبر، في البيهقي عن جابر قال: «كان موضع سواك رسول الله صلّى الله عليه وسلم موضع القلم من أذن الكاتب» .
رابعاً ـ فوائد السواك:
ذكر العلماء من فوائد السواك: أنه يطهر الفم، ويرضي الرب، ويبيض الأسنان، ويطيب النكهة، ويسوِّي الظهر، ويشد اللثة، ويبطئ الشيب، ويصفي الخلقة، ويذكي الفطنة، ويضاعف الأجر، ويسهل النزع، ويذكّر الشهادة عند الموت (3) . ونحو ذلك، مما يصل إلى بضع وثلاثين فضيلة، نظمها الحافظ ابن حجر (4) .
ويوصي الأطباء المعاصرون باستعمال السواك لمنع نخر الأسنان، والقَلَح (الطبقة الصفراء على الأسنان) ، والتهابات اللثة والفم، ومنع الاختلاطات العصبية والعينية والتنفسية والهضمية، بل ومنع ضعف الذاكرة وبلادة الذهن، وشراسة الأخلاق.
ما يلحق بالسواك من سنن العادات الحسنة (سنن الفطرة) :
ورد في السنة النبوية أحاديث تبين مجموعة حسنة من الآداب أو السنن الدينية المرتبطة بنظافة أجزاء الإنسان من أشعار وأظفار ونحوها، يحسن ذكرها كما وردت، ثم تشرح وتوضح على طريقة الفقهاء.
__________
(1) رواه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ بإسناده عن قبيصة بن ذؤيب.
(2) استحب بعضهم أن يقول في أول السواك: اللهم بيض به أسناني، وشدّ به لثاتي، وثبِّت به لهاتي، وبارك لي يا أرحم الراحمين. قال النووي: وهذا لا بأس به، وإن لم يكن له أصل، فإنه دعاء حسن (مغني المحتاج:56/1) .
(3) راجع مغني المحتاج:57/1.
(4) انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير للدردير:125/1.(1/403)
ومن أهم هذه الأحاديث اثنان: الأول ذكر فيه خمس خصال من الفطرة، والثاني ذكر فيه عشر خصال:
سنن الفطرة الخمس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: خمس من الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار» (1) .
والاستحداد: هو حلق العانة، وهو سنة بالاتفاق، ويكون بالحلق، والقص، والنتف، والنورة (الكلس) . قال النووي: والأفضل الحلق. والمراد بالعانة: الشعر النابت حول فرج الرجل، أو فرج المرأة.
والخِتَان: قطع جميع الجلدة التي تغطي حشفة ذكر الرجل، حتي ينكشف جميع الحشفة. وفي المرأة قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. ويسمى ختان الرجل إعذاراً، وختان المرأة: خفضاً، فالخفض للنساء كالختان للرجال.
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار:108/1وما بعدها) .(1/404)
ويستحب أن يكون في اليوم السابع من الولادة، والأظهر أنه يحسب يوم الولادة. وهو سنة للرجل، مكرمة للمرأة عند الحنفية والمالكية، لحديث: «الختان سنة في الرجال، مكرمة في النساء» (1) .
وواجب عند الشافعية والحنابلة للذكر والأنثى، لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر، واختتن» (2) ولخبر أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أسلم فليختتن» (3) وفي حديث آخر لأبي هريرة: «اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقَدُّوم» (4) أي آلة النجارة، ولأنه من شعار المسلمين، فكان واجباً كسائر شعاراتهم.
والدليل على أنه مكرمة لا واجب للنساء عند الحنابلة: حديث: «الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء» وحديث «أشمِّي ولا تنهكي» (5) وفي حديث أم عطية: «إذا خَفَضْتِ فأشِمِّي» .
وقص الشارب: هو سنة بالاتفاق. والقاص مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه، أو يوليه غيره، لحصول المقصود، بخلاف الإبط والعانة.
والمراد به عند الشافعية والمالكية: التقصير بأن يؤخذ من الشارب حتى يبدو أطراف الشفة، وهو معنى الحديث «احْفُوا الشوارب وأرْخوا اللحى، خالفوا المجوس» (6) أو «جزوا الشوارب» .
ويراد به عند الحنفية: الاستئصال، لظاهر الحديث السابق: «احفوا وانهَكُوا» .
ويخير عند الحنابلة بين القص والإحفاء، والحف أولى نصاً.
أما إرخاء أو إعفاء اللحية: فهو تركها وعدم التعرض لها بتغيير، وقد حرم المالكية والحنابلة حلقها، ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة، ولا أخذ ما تحت حلقه، لفعل ابن عمر (7) .
ويكره حلقها تحريماً عند الحنفية، ويكره تنزيهاً عند الشافعية، فقد ذكر النووي في شرح مسلم عشر خصال مكروهة في اللحية، منها حلقها، إلا إذا نبت للمرأة لحية، فيستحب لها حلقها.
ونتف الإبط: هو سنة بالاتفاق أيضاً.
وتقليم الأظافر: هو سنة بالاتفاق أيضاً.
ويستحب في كل ما سبق البدء بالجانب الأيمن، لحديث التيامن المتقدم، وفيه: «كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله» .
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي من حديث الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وفيه اضطراب، وقال عنه البيهقي: هو ضعيف منقطع (نيل الأوطار:113/1) ورواه الخلال بإسناده عن شداد بن أوس.
(2) رواه أبو داود من حديث عثيم، وفيه مقال.
(3) ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص الجبير، ولم يضعفه، وتعقب بقول ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه، ولا سنة تتبع.
(4) متفق عليه (نيل الأوطار: 1/111) .
(5) روي عن جابر بن زيد موقوفاً عليه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للخافضة: الخاتنة «أشِمِّي ولا تَنْهكي» أي اقطعي بعض النواة ولا تستأصِليها.
(6) رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة، وفي معناه روى أحمد والشيخان عن ابن عمر: «خالفوا المشركين، وفِّروا اللِّحى، وأحفوا الشوارب» وروى أحمد والنسائي والترمذي وقال: حديث صحيح عن زيد بن أرقم: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» (نيل الأوطار: 14/1 وما بعدها) .
(7) كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه (المرجع السابق) .(1/405)
خصال الفطرة العشر:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسِّواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البَرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء يعني الاستنجاء، قال الراوي مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة» (1) وقال النووي عن العاشرة: لعلها الختان، وهو أولى.
وقد سبق بيان هذه الخصال في الحديث السابق وفي سنن الوضوء، أما غسل البراجم: فهو سنة مستقلة ليست بواجبة، والبراجم: عقد الأصابع ومعاطفها كلها. قال العلماء: ويلحق بالبراجم: ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وقعر الصماخ، فيزيله بالمسح ونحوه.
وأما انتقاص الماء فهو الاستنجاء، وفي رواية: الانتضاح: وهو نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس.
آراء الفقهاء في خصال الفطرة:
بناء على ما ورد في الحديثين السابقين وغيرهما قال الفقهاء (2) :
1 ً - الطيب والظفر والكحل: يسن الادهان في بدن وشعر غِبَّاً: يوماً فيوماً، والاكتحال وتراً في كل عين قبل النوم، والوتر: ثلاثة في العين اليمنى،
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي عن عائشة، ورواه أبو داود من حديث عمار، وصححه ابن السكن قال الحافظ ابن حجر: وهو معلول. ورواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس موقوفاً (نيل الأوطار: 110/1) .
(2) المغني: 85/1-94، كشاف القناع: 82/1-91، الحضرمية: ص9، الفتاوى الهندية: 367/5-370.(1/406)
وثلاثة في اليسرى، وتقليم الأظافر بادئاً ـ كما يرى الشافعية ـ بسبابة يده اليمنى إلى الخنصر، ثم الإبهام، ثم خنصر اليسرى إلى الإبهام. ويستحب سل رؤوس الأصابع بعد قص الأظافر تكميلاً للنظافة، وينبغي دفن الشعر والأظافر وإن رمى به فلا بأس. وقطع الظفر بالأسنان مكروه يورث البرص.
والدليل لما سبق بالترتيب: أنه عليه السلام «نهى عن الترجل إلا غِبَّاً» (1) . وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه «كان يكتحل بالإثْمِد (حجر للكحل معروف) ، كل ليلة، قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال» (2) .
وتقليم الأظفار من سنن الفطرة، في الحديثين السابقين. والمرأة تتطيب في بيتها، وتمنع من الطيب في غير بيتها لأنه يؤدي إلى الفتنة والفساد. قال الحنفية: قلم الأظفار سنة إلا في دار الحرب فإن تركها مندوب إليه.
2 ً - الانتعال وإطالة الثياب: يكره بلا عذر المشي في نعل واحد للنهي الصحيح عنه، ولئلا يختل توازنه ومشيه، كما يكره الانتعال قائماً للنهي الصحيح عنه، ولأنه يخشى منه السقوط.
ويكره إطالة العَذَبة (طرف العمامة) والثوب والإزار عن الكعبين، لا للخيلاء، وإلا حرم. ولا يكره إرسال العَذَبة ولا عدمه، كما لا يكره للمرأة إرسال ثوبها على الأرض ذراعاً.
__________
(1) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي عن عبد الله بن المغفَّل (نيل الأوطار: 123/1) ، والترجل: تسريح الشعر ودهنه، وروى أحمد عن أبي أيوب مرفوعاً: «أربع من سنن المرسلين: الحِنِّاء، والتعطر، والسواك، والنكاح» وعن أنس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حبب إلي من الدنيا: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» رواه النسائي وأحمد وابن أبي شيبة، والمرسل أشبه بالصواب (نيل الأوطار: 127/1) .
(2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.(1/407)
3 ً - الختان: سنة عند الحنفية والمالكية: واجب عند الشافعية والحنابلة للذكر والأنثى، كما بينا في شرح الحديث السابق. ويجب للذكر والأنثى في رأي الحنابلة عند البلوغ ما لم يخف على نفسه، لقول ابن عباس: «وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك» (1) .
والختان في الصغر أفضل منه عند التمييز، لأنه أسرع برءاً.
ويكره الختان قبل اليوم السابع من الولادة.
ويجوز أن يختن نفسه إن قوي عليه وأحسنه، لأنه قد روي أن إبراهيم عليه السلام ختن نفسه.
4 ً - الشعر: يسن الامتشاط غِبّاً كالادهان، ويفعله كل يوم لحاجة لخبر أبي قتادة عند النسائي. واللحية كالرأس في ذلك.
ويسن قص الشارب وإعفاء اللحية ونتف الإبط، لأنها من خصال الفطرة في الحديث السابق. ويكون ذلك مع تقليم الأظفار وحلق العانة يوم الجمعة، وقيل: يوم الخميس، وقيل: يخير. ويدفن الشعر والظفر والدم، لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم (2) .
ويفعل ما ذكر كل أسبوع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يأخذ أظفاره وشاربه كل
__________
(1) رواه البخاري.
(2) روى الخلال بإسناده عن مثلة بنت مشرح الأشعرية، قالت: «رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها، ويقول: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يفعل ذلك» وعن ابن جريح عن النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «كان يعجبه دفن الدم» وكان ابن عمر يدفن شعره وأظفاره (كشاف القناع: 84/1 وما بعدها، المغني: 88/1) وروى الديلمي في مسند الفردوس عن علي في حديث ضعيف: «قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس، والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة» .(1/408)
جمعة» (1) فالأفضل أن يقلم أظفاره ويحفي شاربه ويحلق عانته وينظف بدنه بالاغتسال في كل أسبوع مرة.
ويكره ترك التقليم، والحلق لشعر الرأس والعانة، والنتف فوق أربعين يوماً، ويستحب حلق الرأس في كل جمعة، ويكره القزَع وهو أن يحلق البعض ويترك البعض قطعاً مقدار ثلاثة أصابع، وعن أبي حنيفة: يكره أن يحلق قفاه إلا عند الحجامة. وحلق الشعر وقص الأظفار حال الجنابة مكروه.
وكان هديه صلّى الله عليه وسلم في حلق رأسه: تركه كله أو حلقه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه. ويسن أن يغسله ويسرحه متيامناً لحديث «من كان له شعر فليكرمه» (2) قال ابن عبد البر: أجمع العلماء في جميع الأمصار على إباحة الحلق، أي حلق الذكر رأسه ولو لغير نسك وحاجة.
ويكره نتف الشيب، لحديث «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نتف الشيب، وقال: إنه نور الإسلام» (3) . ويكره أيضاً نتف اللحية إيثاراً للمردودة، ويكره القَزَع: وهو حلق بعض الرأس - كما تقدم - للنهي عنه، ويكره حلق القفا منفرداً عن الرأس إذا لم يحتج إليه لحجامة أو غيرها - كما تقدم -، لأنه من فعل المجوس. ويخضب الشيب بحمرة أو صفرة، اتباعاً للسنة (4) ، ويكره أو يحرم بسواد إلا في حالة الحرب لإرهاب الكفار.
وللمرأة المزوجة أن تخضب يديها ورجليها بالحنَّاء إن أحب ذلك زوجها.
__________
(1) رواه البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص (كشاف القناع، المكان السابق) .
(2) رواه أبو داود، وإسناده حسن (نيل الأوطار: 123/1) .
(3) رواه الخلال من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروى أيضاً من حديث طارق بن حبيب: «من شابه شيبة في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة» (المغني: 91/1) .
(4) رواه أحمد وغيره (المغني: 91/1 وما بعدها) .(1/409)
ويكره للمرأة حلق رأسها وقصه تماماً من غير عذر، قال عكرمة: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها» (1) ، فإن كان ثَمَّ عذر كقروح لم يكره. ويحرم حلقها رأسها لمصيبة كلطم خد وشق ثوب ويجوز للمرأة قص شعرها لما دون الأذن، حتى لاتتشبه بالرجال، ولها التجمل لزوجها أو للنساء بمختلف أنواع التسريحات، مالم تقصد التشبه بالكافرة أو الساقطة.
5 ً - التزين: لا بأس بالنظر في المرآة، ويقول حينئذ: (اللهم كما حسَّنت خَلْقي، فحسِّن خُلُقي، وحرِّمْ وجهي على النار) (2) .
ويكره ثقب أذن صبي، لا بنت نصاً، لحاجتها للتزين بخلافه.
ويحرم نمص (وهو نتف الشعر من الوجه) ، ووَشْر (أي برد الأسنان لتحدد وتفلج وتحسن) ، ووشْم (وهو غرز الجلد بإبرة حتى يخرج الدم ثم حشوه كحلاً أو نيلة ليخضر أو يزرق بسبب الدم الحاصل بغرز الإبرة) ، ووصل شعر بشعر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» (3) أي الفاعلة، والمفعول بها ذلك بأمرها، واللعنة
__________
(1) رواه الخلال بإسناده عن قتادة عن عكرمة.
(2) لخبر أبي هريرة، رواه أبو بكر بن مردويه، والخلق الأول: الصورة الظاهرة، والثاني: الصورة الباطنة.
(3) رواه الجماعة عن ابن مسعود، ورواه الجماعة أيضاً عن ابن عمر: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة» وهم صحيحان (نيل الأوطار: 190/6) والواصلة: هي التي تصل شعر امرأة بشعر امرأة أخرى، لتكثر به شعر المرأة. والمستوصلة: هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك، ويقال لها: موصولة. والوشم حرام على الفاعل والمفعول به. والمتنمصات: جمع متنمصة: وهي التي تطلب نتف الشعر من وجهها، والنامصة: المزيلة شعرها من نفسها أو من غيرها، والمتفلجات جمع متفلجة وهي التي تبرد ما بين أسنانها والثنايا والرباعيات. قال الطبري: لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص، التماس حسن، لا للزوج ولا لغيره،.كمن تكون مقرونة الحاجبين، فتزيل ما بينهما توهم البلج وعكسه (تحفة الأحوذي بشرح الترمذي: 67/1) .(1/410)
على الشيء تدل على تحريمه؛ لأن فاعل المباح لا تجوز لعنته. وعلى هذا فلا يجوز وصل شعر المرأة بشعر آخر لهذا الحديث، وأما وصله بغير الشعر: فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس به، لأن الحاجة داعية إليه، ولا يمكن التحرز منه، كذلك لا يحرم في الأصح ما يزيد عن الحاجة إن كان فيه مصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة. وقال مالك: الوصل ممنوع بكل شيء، سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، لحديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً» (1) .
وقد فصل الشافعية والحنابلة في موضوع وصل الشعر، فقالوا: إن وصلت المرأة شعرها بشعر آدمي، فهو حرام بلا خلاف، سواء أكان شعر رجل أم امرأة، وسواء أكان شعر قريب محرم أم زوج أم غيرهما لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه.
__________
(1) نيل الأوطار: 191/6.(1/411)
وإن وصلته بشعر غير آدمي: فإن كان شعراً نجساً، وهو عندهم: شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضاً للحديث، ولأنه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمداً. وهاتان الحالتان يستوي فيهما المرأة المزوجة وغيرها من النساء، والرجال. لكن الأوجه عند الشافعية أنه يجوز التنميص بإذن الزوج؛ لأن له غرضاً في تزيينها له، وقد أذن لها فيه (1) .
وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي: فإن لم يكن لها زوج فالوصل حرام أيضاً، وإن كان لها زوج يجوز لها في الأصح بإذن الزوج، وإلافهو حرام.
وأما نتف الشعر (النَّمْص) فهو حرام مطلقاً، إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب، فلا يحرم إزالتها، بل يستحب، كما قال النووي وغيره.
والتحريم المذكور في الحديث إذا كان لقصد التحسين، لا لداء وعلة، فإنه ليس بمحرم. والمحرم فقط هو نتف الشعر من الوجه، وللمرأة حلق الوجه وحفه نصاً، ولها تحسين شعرها وتحميره ونحوه من كل ما فيه تزيين للزوج، ولها التحذيف، أي إرسال الشعر الذي بين العذار والنزعة، ويكره ذلك، كما يكره حف الوجه للرجل.
وينبني على ذلك أنه يحرم قلع سن أو إصبع زائدة أو عضو زائد؛ لأنه من تغيير خلق الله، قال القاضي عياض: إلا أن تكون هذه الزوائد مؤلمة ويتضرر بها، فلا بأس بنزعها، واستثنى الطبري ما يحصل به الضرر والأذية، كالسن الزائدة أو الطويلة التي تعوق في الأكل أو الأصبع الزائدة التي تؤذي أو تؤلم، سواء للمرأة أو للرجل (2) .
ويكره كسب الماشطة ككسب الحمامي، ويحرم على النساء التشبه بالمردان، كما يحرم على المردان التشبه بالنساء.
ويكره كما تقدم نتف الشيب من المحل الذي لا يطلب منه إزالة شعره، لخبر الترمذي وحسنه: «لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم يوم القيامة» .
__________
(1) مغني المحتاج: 191/1والظاهر أن هذا إذا أعقبه ستر الوجه عن الأجانب.
(2) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: 68/1.(1/412)
6 ً - تغطية الإناء: يسن تخمير الإناء أي تغطيته، ولو بعود، لحديث: «أوك سِقاك، واذكر اسم الله، وخمِّر إناءك، واذكر اسم الله، ولو أن تعرض عليه عوداً» (1) وحكمة وضع العود: أن يعتاد تخميره ولا ينساه، وربما كان سبباً لرد دبيب بحباله، أو بمروره عليه. ويسن مع ذكر اسم الله إيكاء السقاء (ربط فم وعاء الماء) إذا أمسى، للخبر السابق.
7 ً - النوم: يسن إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند الرقاد، وإطفاء الجمر عند الرقاد مع ذكر اسم الله، للحديث السابق. وينفض الفراش عند إرادة النوم، ويسن وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، ويجعل وجهه نحو القبلة على جنبه الأيمن، ويتوب إلى الله تعالى، ويقول ما ورد: (باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لي، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) .
ويستحب قراءة سورة السجدة (آلم) ، وسورة الملك (تبارك) ، وروى الإمام أحمد والترمذي والخلا ل عن جابر أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أي الدعاء والقراءة. ويستحب أيضاً قراءة آخر سورة البقرة: {آمن الرسول} [البقرة:285/2] وآية الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص، وإذا استيقظ من النوم نظر في السماء وقرأ آخر آل عمران: {إن في خلق السموات والأرض} [آل عمران:190/3] .
ويكره النوم على سطح ليس عليه حاجز، لنهيه عليه السلام (2) ، وخشية أن يتدحرج، فيسقط عنه.
ويكره نومه على بطنه وعلى قفاه (3) ، إن خاف انكشاف عورته.
ويكره النوم بعد العصر لحديث: «من نام بعد العصر، فاختل عقله، فلا يلومن إلا نفسه» (4) ، والنوم بعد الفجر، لأنه وقت قسْم الأرزاق، كما ثبت في السنة، والنوم تحت السماء متجرداً من ثيابه مع ستر العورة فقط، والنوم بين قوم
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الترمذي من حديث جابر.
(3) قال بعضهم في الآداب الكبرى: النوم على القفا رديء يضر الإكثار منه بالبصر، وبالمني، وإن استلقى للراحة بلا نوم لم يضر. وأردأ من ذلك النوم منبطحاً على وجهه.
(4) رواه أبو يعلى الموصلي عن عائشة، لكنه حديث ضعيف.(1/413)
مستيقظين؛ لأنه خلاف المروءة، والنوم وحده لحديث «نهى عن الوحدة، وأن يبيت الرجل وحده» (1) ،كما يكره السفر وحده، لخبر «الواحد شيطان» (2) .
والنوم والجلوس بين الظل والشمس، لنهيه عليه السلام عنه (3) ،وفي الخبر: أنه مجلس الشيطان.
ويكره ركوب البحر عند هيجانه؛ لأنه مخاطرة.
وتستحب القائلة (4) أو القيلولة: أي الاستراحةوسط النهار، وإن لم يكن مع ذلك نوم، شتاء أو صيفاً.
ويقرأ عند الميت (يس) لحديث عند أبي داود وغيره، ويقرأ عند المريض الفاتحة والإخلاص والمعوذتين مع النفخ في اليدين ويمسحه بهما، كما ثبت في الصحيحين، ويقرأ الكهف يوم الجمعة وليلتها.
وسيأتي في بحث الحظر والإباحة مزيد بيان لأحوال الإنسان وعاداته في اللبس واستعمال الأواني والنظر واللمس واللهو والطعام والشراب.
__________
(1) رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعاً، وهو حديث حسن.
(2) رواه الحاكم عن أبي هريرة: «الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب» وهو صحيح.
(3) رواه أحمد.
(4) القائلة لغة: النوم في الظهيرة.(1/414)
المبحث الثالث ـ المسح على الخفين
معناه ومشروعيته، كيفيته ومحله، وشروطه، مدته، مبطلاته، المسح على العمامة، المسح على الجوارب، المسح على الجبائر.
أولاً ـ معنى المسح على الخفين ومشروعيته:
المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين في الوضوء، ومعناه لغة: إمرار اليد على الشيء. وشرعاً: إصابة اليد المبتلة بالماء (البِلَّة) لخف مخصوص في موضع مخصوص، وفي زمن مخصوص، والخف شرعاً: الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه. والموضع المخصوص: ظاهر الخفين لا باطنهما، والزمن المخصوص: هو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر (1) . ولم يحدد المالكية مدة للمسح كما سيأتي بيانه، كما أن الإمامية حال تجويزه للضرورة لم يقدروا مدة المسح بيوم ولا ثلاثة أيام.
وصفة المسح: أنه شرع رخصة، وهو جائز في المذاهب الأربعة في السفر والحضر، للرجال والنساء (2) ، تيسيراً على المسلمين، وبخاصة في وقت الشتاء والبرد، وفي السفر، ولأصحاب الأعمال الدائمة كالجنود والشرطة والطلاب المواظبين على العمل في الجامعات ونحوهم.
وقد ثبتت مشروعيته بالسنة النبوية في طائفة من الأحاديث منها:
1 - حديث علي رضي الله عنه قال: «لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» وقال علي أيضاً: «جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم» (3) .
2 - حديث المغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم (4) ، فتوضأ، فأهويت
لأنزع خفيه، فقال: دعهما،
__________
(1) الدر المختار: 240/1 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 17/1، القوانين الفقهية: ص 8338، مراقي الفلاح: ص 21.
(3) الحديث الأول: أخرجه أبو داود والدارقطني بإسناد حسن، وقال ابن حجر: إنه حديث صحيح. والثاني أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه (سبل السلام: 58/1-60، نيل الأوطار: 184/1) .
(4) أي في سفر، كما صرح به البخاري، وعند مالك وأبي داود: السفر في غزوة تبوك.(1/415)
فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما» (1) .
3 - حديث صفوان بن عَسَّال، قال: أمرنا، يعني النبي صلّى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين، إذا نحن أدخلناهما على طُهْر، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول، ولا نخلعهما إلا من جنابة» (2) .
4 - حديث جرير، أنه بال ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: «نعم رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه» (3) . ومن المعروف أن إسلام جرير كان بعد نزول سورة المائدة التي فيها آية الوضوء.
قال النووي في شرح مسلم: وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة. وصرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته، فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة المبشرون بالجنة. وقال الإمام أحمد: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين (4) والقول بالمسح قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص وبلال وحذيفة وبريدة وخزيمة بن ثابت وسلمان وجرير البجلي وغيرهم.
وقد أنكر الشيعة الإمامية والزيدية والإباضية والخوارج مشروعية المسح على الخفين (5) ، والأدق أن يقال: إن الإمامية لا يجيزون المسح مع الاختيار، ويجيزونه للضرورة عند الخوف والتَّقية، أما الخوارج فلا يجوز عندهم ولو لضرورة.
__________
(1) متفق عليه (سبل السلام: 57/1، نيل الأوطار: 180/1) .
(2) رواه أحمد وابن خزيمة، والنسائي والترمذي، وصححه الترمذي وابن خزيمة، ورواه الشافعي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والبيهقي، وقال البخاري: إنه حديث حسن (نيل الأوطار: 181/1، سبل السلام: 59/1) .
(3) متفق عليه، ورواه أبو داود (نيل الأوطار: 176/1) .
(4) أخرجه عنه ابن أبي شيبة.
(5) نيل الأوطار: 176/1-178، كتاب الخلاف في الفقه للطوسي عند الإمامية: 60/1-61، شامل الأصل والفرع عند الإباضية للشيخ محمد بن يوسف أطَّفَيِّش: 211/1، سبل السلام: 57/1 وما بعدها.(1/416)
والواجب في المسح عند الحنفية (1) : هو قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد، على ظاهر مقدم كل رجل، مرة واحدة، اعتباراً لآلة المسح، فلا يصح على باطن القدم، ولاعقبه، ولا جوانبه وساقه. ولا يسن تكراره ولا مسح أسفله لأنه يراعى فيه جميع ما ورد به الشرع.
واستدلوا على رأيهم بأدلة لا تخلو من مناقشة، بل هي واهية، منها:
1 - إنه منسوخ بآية الوضوء في سورة المائدة التي لم يذكر فيها المسح على الخفين، وإنما قال تعالى: {وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة:6/5] فعينت الآية مباشرة الرجلين بالماء.
روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: سبق الكتاب الخفين، وقال ابن عباس: ما مسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد المائدة. ورد: بأن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتاً قبل نزولها، فورودها بغسل الرجلين، أو مسحهما على رأي الإمامية دون التعرض للمسح، لا يوجب نسخ المسح على الخفين. وإن كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ قطعاً. ثم إن إسلام جرير راوي الحديث السابق كان بعد نزول المائدة كما بينا، وقد رأى الرسول عليه السلام يمسح على خفيه، ومن شرط النسخ تأخر الناسخ.
والخلاصة: أن آية الوضوء نزلت في غزوة المُرَيسيع، ومسحهصلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك (1) ، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟!
وأما قول علي فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة، فهو منقطع، كذا ما روي عن ابن عباس، مع أنه مخالف ما ثبت عنهما من القول بالمسح، وعارض حديثهماما هو أصح منهما، وهو حديث جرير البجلي.
2 - الأخبار الواردة بمسح الخفين نسخت بآية المائدة التي ذكر فيها الوضوء.
__________
(1) غزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق وقعت في شعبان في السنة السادسة من الهجرة، وحدث اللقاء على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية قديد إلى الساحل. وغزوة تبوك أو غزوة العسرة حدثت في رجب من التاسعة للهجرة.(1/417)
والجواب: أن الآية عامة مطلقاً باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه، فتكون أحاديث الخفين مخصِّصة أو مقيدة، فلا نسخ، وتلك الأحاديث متواترة كما بينت، فتصلح مخصصة بالاتفاق، أي أن قوله تعالى {وأرجلكم} [المائدة:6/5] مطلق قيدته أحاديث المسح على الخف، أو عام خصصته تلك الأحاديث.
3 - لم يذكر المسح على الخفين في أحاديث الوضوء، وإنما فيها كلها الأمر بغسل الرجلين، دون ذكر المسح، وفيها بعد غسل الرجلين: (لا يقبل الله الصلاة من دونه) وقوله عليه السلام لمن لم يغسل عقبه: «ويل للأعقاب من النار» .
والجواب: أن غاية ما اشتملت عليه الأحاديث الأمر بالغسل، دون حصر ولا قصر ينفي مشروعية غيره، ولو كان فيها ما يدل على الغسل فقط، لكانت مخصصة بأحاديث المسح المتواترة. وأما لفظ (لا يقبل الله الصلاة بدونه) فلم يثبت من وجه يعتد به. وأما حديث «ويل للأعقاب من النار» فهو وعيد لمن مسح رجليه، ولم يغسلهما، ولم يرد في المسح على الخفين.
وهو لا يشمل المسح على الخفين، لأنه يدع رجله كلها، ولا يدع العقب فقط. ثم إن أحاديث المسح مخصصة للماسح من ذلك الوعيد.
ويمكن أن يقال: قد ثبت في آية المائدة قراءة بالجر لأرجلكم عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين كما بينت السنة، ويتم ثبوت المسح بالسنة والكتاب، وهو أحسن الوجوه التي توجه به قراءة الجر.(1/418)
ثانياً ـ كيفية المسح على الخفين ومحله:
كيفيته: الابتداء من أصابع القدم خطوطاً بأصابع اليد إلى الساق.
والواجب في المسح عند الحنفية (1) : هو قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد، على ظاهر مقدم كل رجل، مرة واحدة، اعتباراً لآلة المسح، فلا يصح على باطن القدم، ولاعقبه، ولا جوانبه وساقه. ولا يسن تكراره ولا مسح أسفله لأنه يراعى فيه جميع ما ورد به الشرع.
والواجب عند المالكية (2) : مسح جميع أعلى الخف، ويستحب أسفله أيضاً. وعند الشافعية (3) : يكفي مُسمَّى مسح، كمسح الرأس، في محل الفرض وهو ظاهر الخف، لا أسفله وحرفه وعقبه؛ لأن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح فيه تقدير شيء معين، فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه اسم المسح، كإمرار يد أو عود ونحوهما، أي يجزئه أقل ما يقع عليه اسم المسح، ويسن مسح أعلاه وأسفلِه وعقبه خطوطاً، كما قال المالكية.
وعند الحنابلة (4) : المجزئ في المسح: أن يمسح أكثر مقدم ظاهر الخف، خطوطاً بالأصابع، ولا يسن مسح أسفل الخف ولا عقبه، كما قال الحنفية. ودليلهم: أن لفظ المسح ورد مطلقاً، وفسره النبي صلّى الله عليه وسلم بفعله، فيجب الرجوع إلى تفسيره، وقد فسر المسح في حديث المغيرة بن شعبة ـ فيما يرويه الخلاّل بإسناده ـ قال: «ثم توضأ ومسح على الخفين، فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين» .
والخلاصة: أن الواجب هو مسح جميع ظاهر الخف عند المالكية، كسائر أعضاء الوضوء، وبمقدار ثلاث أصابع من اليد عند الحنفية كمسح الرأس في الوضوء، ومسح أكثر أعلى الخف عند الحنابلة لحديث المغيرة: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين» (5)
والواجب عند الشافعية: أقل ما يطلق عليه اسم المسح؛ لأن ما ورد في الشرع مطلقاً يتحقق بأي حالة من حالاته، والراجح تحقيق مدلول المسح على الخف، كالراجح في المسح بالرأس في الوضوء.
وسبب الاختلاف في مسح باطن الخف تعارض أثرين (6) :
__________
(1) مراقي الفلاح: ص222، البدائع: 12/1، اللباب: 43/1، فتح القدير: 103/1، الدر المختار: 246/1، 251، 260.
(2) القوانين الفقهية: ص 39، الشرح الصغير: 159/1.
(3) مغني المحتاج: 67/1، المهذب: 22/1.
(4) المغني: 298/1، كشاف القناع: 130/1، 133.
(5) رواه أحمد وأبو داود.
(6) بداية المجتهد: 18/1.(1/419)
أحدهما ـ حديث المغيرة بن شعبة، وفيه أنه صلّى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله (1) ، وبه أخذ المالكية والشافعية.
والثاني ـ حديث علي السابق: «لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» وبه أخذ الحنفية والحنابلة.
والفريق الأول: جمع بين الحديثين، فحمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب.
والفريق الثاني: ذهب مذهب الترجيح، فرجح حديث علي على حديث المغيرة، لأنه أرجح سنداً، ولأن المسح على الخف شرع مخالفاً للقياس، فيقتصر فيه على النحو الذي ورد به الشرع.
والثاني هو الأرجح في تقديري، وإن قال ابن رشد: والأسد في هذه المسألة هو مالك.
والخلاصة: أن محل المسح على الخف هو ظاهره وأعلاه ولا يمسح باطنه وأسفله عند الحنفية والحنابلة، ومحله المفروض عند المالكية والشافعية: هو أعلى الخف ويسن مسح أسفله معه.
سنة المسح: تبين مما ذكر أن للفقهاء رأيين في سنة المسح: قال الحنفية والحنابلة: يمسح خطوطاً بالأصابع بادئاً من ناحية الأصابع إلى الساق، لحديث المغيرة رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح إلى أعلاه مسحة واحدة» (2) .
فإن بدأ في المسح من ساقه إلى أصابعه، أجزأه.
ويسن مسح الرجل اليمنى باليد اليمنى والرجل اليسرى باليد اليسرى، لحديث المغيرة السابق.
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي وابن الجارود، لكنه معلول ضعيف (نيل الأوطار: 185/1) .
(2) رواه البيهقي في سننه، وابن أبي شيبة (نصب الراية: 180/1) .(1/420)
وقال المالكية والشافعية: صفة المسح المندوبة: أن يضع باطن كف يده على أطراف أصابع رجله اليمنى، ويضع باطن كف يده اليسرى تحت أصابع رجليه (عند المالكية) وتحت العقب (عند الشافعية) ، ثم يمر يديه إلى آخر قدمه، أي أنه يندب عندهم مسح أعلى الخف مع أسفله معاً، ولا يسن استيعابه بالمسح، ويكره تكراره وغسله؛ لأن ذلك مفسد للخف، ولو فعل ذلك أجزأه.
ثالثاً ـ شروط المسح على الخفين:
هناك شروط ثلاثة متفق عليها فقهاً، وشروط مختلف فيها بين الفقهاء (1) ، ومن المعلوم أنها جميعاً شروط في المسح لأجل الوضوء، أما من أجل الجنابة فلا يجوز المسح، أفلا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل، لحديث صفوان بن عسَّال المتقدم: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين، إذا نحن أدخلناهما على طهر، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة» .
الشروط المتفق عليها: اتفق الفقهاء على اشتراط شروط ثلاثة في المسح على الخفين لأجل الوضوء وهي ما يأتي:
1 ً - لبسهما على طهارة كاملة: لحديث المغيرة السابق، قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما» (2) ، واشترط الجمهور أن تكون تلك الطهارة بالماء، وأجاز الشافعية: أن تكون الطهارة بالماء من وضوء أو غسل، أو بالتيمم لا لفقد الماء.
وقد جعل المالكية هذا الشرط مشتملا على شروط خمسة في الماسح هي:
الأول - أن يلبس الخف على طهارة، فإن لبسه محدثاً، لم يصح المسح عليه. وأجاز الشيعة الإمامية أن يلبس الخف على طهارة أو غير طهارة.
__________
(1) راجع الدر المختار: 241/1-245، البدائع:9/1 وما بعدها، مراقي الفلاح: ص 22، الشرح الصغير:154-156، القوانين الفقهية: ص38، مغني المحتاج:65/1وما بعدها، المهذب:21/1، المغني:282/1،293،294،296، كشاف القناع:124/1-133، بداية المجتهد:19/1-21.
(2) متفق عليه.(1/421)
الثاني ـ أن تكون الطهارة مائية، لا ترابية، وهذا شرط عند الجمهور غير الشافعية، فإن تيمم ثم لبس الخف، لم يكن له المسح عند الجمهور؛ لأنه لبسه على طهارة غير كاملة، ولأنها طهارة ضرورة بطلت من أصلها، ولأن التيمم لا يرفع الحدث، فقد لبسه وهو محدث. وقال الشافعية: إن كان التيمم لفقد الماء فلا يجوز المسح بعد وجود الماء، وإنما يلزمه إذا وجد الماء نزع الخف، والوضوء الكامل. أما إن كان التيمم لمرض ونحوه، فأحدث فله أن يمسح على الخف.
الثالث ـ أن تكون تلك الطهارة كاملة، بأن يلبسه بعد تمام الوضوء أو الغسل، الذي لم ينتقض فيه وضوءه. فإن أحدث قبل غسل الرجل، لم يجز له المسح؛ لأن الرِجْل حدثت في مقرها، وهو محدث، فصار كما لو بدأ اللبس وهو محدث.
والشرط عند الشافعية والحنابلة: أن تكون الطهارة كاملة عند اللبس، أي لا بد من كمال الطهارة جميعها، وأما عند الحنفية: فالطهارة عند الحدث بعد اللبس، أي لا يشترط كمال الطهارة، وإنما المطلوب إكمال الطهارة. ويظهر أثر الخلاف فيما لو غسل المحدث رجليه أولاً، ولبس خفيه، ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث، ثم أحدث، جاز له أن يمسح على الخفين عند الحنفية، لوجود الشرط: وهو (لبس الخفين على طهارة كاملة وقت الحدث بعد اللبس) . وعند الشافعية والحنابلة: لا يجوز لعدم الطهارة الكاملة وقت اللبس؛ لأن الترتيب شرط عندهم، فكان غسل الرجلين مقدماً على الأعضاء الأُُخر، كأن لم يكن.(1/422)
الرابع ـ ألا يكون الماسح مترفهاً بلبسه، كمن لبسه لخوف على حناء برجليه، أو لمجرد النوم به، أو لكونه حاكماً، أو لقصد مجرد المسح، أو لخوف برغوث مثلاً، فلا يجوز له المسح. لكن لو لبسه لحر أو برد أو وعر، أو خوف عقرب، ونحو ذلك، فيجوز له المسح.
الخامس ـ ألا يكون عاصياً بلبسه، كمُحرم بحج أو عمرة، لم يضطر للبسه، فلا يجوز له المسح. أما المضطر للبسه، والمرأة، فيجوز له المسح. والمعتمد عند المالكية والحنابلة والشافعية: أنه يجوز المسح للعاصي بالسفر كالعاق والديه وقاطع الطريق. والضابط عند المالكية: أن كل رخصة جازت في الحضر، كمسح خف وتيمم وأكل ميتة، تفعل في السفر، وكل رخصة تختص بالسفر كقصر الصلاة وفطر رمضان تجوز في السفر لغير العاصي بسفره، أما هو فلا يجوز له ذلك (1) .
2 ً - أن يكون الخف طاهراً، ساتراً المحل المفروض غسله في الوضوء: وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب، لا من الأعلى، فلا يجوز المسح على خف غير ساتر الكعبين مع القدم، كما لا يجوز المسح على خف نجس، كجلد الميتة قبل الدباغ عند الحنفية والشافعية، وكذلك بعد الدباغ عند المالكية والحنابلة؛ لأن الدباغ عندهم غير مطهر، والنجس منهي عنه.
3 ً - إمكان متابعة المشي فيه بحسب المعتاد: وتقدير ذلك محل خلاف، فقال الحنفية: أن يكون الخف مما يمكن متابعة المشي المعتاد فيه فرسخاً (2) فأكثر، فلا يجوز المسح على خف متخذ من زجاج أو خشب أو حديد، أو خف رقيق يتخرق بالمشي. واشترطوا في الخفين: استمساكهما على الرجلين من غير شد.
والمعتبر عند المالكية: أن يمكن تتابع المشي فيه عادة، فلا يجوز المسح على خف واسع لا تستقر القدم أو أكثرها فيه، وإنما ينسلت من الرجل عند المشي فيه.
والمقرر عند الأكثرين من الشافعية: أن يمكن التردد فيه لقضاء الحاجات، للمقيم سفر يوم وليلة، وللمسافر: سفر ثلاثة أيام ولياليهن، وهو سفر القصر؛ لأنه بعد انقضاء المدة يجب نزعه.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير:143/1، كشاف القناع:128/1، مغني المحتاج:66/1.
(2) الفرسخ: ثلاثة أميال، اثنا عشر ألف خطوة، والميل:1848م، فيكون الفرسخ مساوياً5544م.(1/423)
وانفرد الحنابلة برأي خاص هنا، فقالوا: إمكان المشي فيه عرفاً، ولو لم يكن معتاداً، فجاز المسح على الخف من جلد ولبود وخشب، وزجاج وحديد ونحوها؛ لأنه خف ساتر يمكن المشي فيه، فأشبه الجلود، وذلك بشرط ألا يكون واسعاً يرى منه محل الفرض، أي كما قال الحنفية والمالكية.
الشروط المختلف فيها بين الفقهاء:
هناك شروط أخرى مقررة في المذاهب مختلف فيها وهي:
1 ً - أن يكون الخف صحيحاً سليماً من الخروق: هذا شرط مفرع على الشرط الثالث السابق، مشروط عند الفقهاء، لكنهم اختلفوا في مقدار الخرق اليسير المتسامح فيه.
فالشافعية في الجديد والحنابلة: لم يجيزوا المسح على خف فيه خرق، ولو كان يسيراً؛ لأنه غير ساتر للقدم، ولو كان الخرق من موضع الخرز؛ لأن ما انكشف حكمه حكم الغسل، وما استتر حكمه المسح، والجمع بينهما لا يجوز، فغلب حكم الغسل، أي أن حكم ما ظهر الغسل، وما استتر: المسح، فإذا اجتمعا غلب حكم الغسل، كما لو انكشفت إحدى قدميه.
والمالكية والحنفية: أجازوا استحساناً ورفعاً للحرج المسح على خف فيه خرق يسير؛ لأن الخفاف لا تخلو عن خرق في العادة، فيمسح عليه دفعاً للحرج. أما الخرق الكبير فيمنع صحة المسح، وهو عند المالكية: مالا يمكن به متابعة المشي، وهو الخرق الذي يكون بمقدار ثلث القدم، سواء أكان منفتحاً أم ملتصقاً بعضه ببعض، كالشق وفتق خياطته، مع التصاق الجلد بعضه ببعض. وإن كان الخرق دون الثلث ضر أيضاً إن انفتح، بأن ظهرت الرجل منه، لا إن التصق. ويغتفر الخرق اليسير جداً بحيث لا يصل بلل اليد حال المسح لما تحته من الرجل. والخرق الكبير عند الحنفية: هو بمقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم.(1/424)
2 ً - أن يكون الخف من الجلد: هذا شرط عند المالكية، فلا يصح المسح عندهم على خف متخذ من القماش، كما لا يصح عندهم المسح على الجورب: وهو ما صنع من قطن أو كتان أو صوف، إلا إذا كسي بالجلد، فإن لم يجلَّد، فلا يصح المسح عليه. وكذلك قال الشافعية: لا يجزئ المسح على منسوج لا يمنع نفوذ الماء إلى الرجل من غير محل الخرز، لو صب عليه لعدم صفاقته.
واشترط المالكية أيضاً أن يكون الخف مخروزاً، لا إن لزق بنحو رسراس قصراً للرخصة على الوارد.
وأجاز الجمهور غير المالكية: المسح على الخف المصنوع من الجلود، أو الخِرَق، أو غيرها، فلم يشترطوا هذا الشرط. واشترط الحنفية والشافعية: أن يكون الخف مانعاً من وصول الماء إلى الجسد؛ لأن الغالب في الخفاف أنها تمنع نفوذ الماء، فتنصرف إليها النصوص الدالة على مشروعية المسح.
المسح على الجوارب: أجاز الحنفية على الراجح لديهم (1) المسح على الجوربين الثخينين بحيث يمشي به اللابس فرسخاً فأكثر، ويثبت الجورب على الساق بنفسه، ولا يرى ما تحته، ولا يشف (يرق حتى يرى ما وراءه) .
وأجاز الحنابلة أيضاً المسح على الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه، أي بشرطين:
أحدهما ـ أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم (2) .
الثاني ـ أن يمكن متابعة المشي فيه.
ويجب أن يمسح على الجوربين وعلى سيور النعلين قدر الواجب. وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء.
وأجاز الشافعية والحنابلة المسح على الخف المشقوق القدم كالزربول الذ ي له ساق إذا شد في الأصح بواسطة العرا، بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض إذا مشى عليه.
__________
(1) البدائع:10/1، الدر المختار وحاشية ابن عابدين:348/1، وسيأتي بحث مفصل للمسح على الجوارب.
(2) وأجاز الشيخ جمال الدين القاسمي المسح على الجورب ولو لم يكن ثخيناً، كالجوارب الحديثة.(1/425)
3 ً - أن يكون الخف مفرداً: (المسح على الجرموق) : وهذا أيضاً شرط عند المالكية (1) ، فلو لبس خفاً فوق خف (الجُرْموق) (2) ففي جواز المسح عليه قولان عندهم، الراجح أنه يجوز في هذه الحالة المسح على الأعلى، فلو نزعه، وكان على طهر، وجب عليه مسح الأسفل فوراً.
وقال الحنفية والحنابلة (3) : يجزئ المسح على الجرموق فوق الخف، أي كما قال المالكية. لقول بلال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يمسح على الموق» (4) ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «امسحوا على النصيف والموق» (5) .
ولكن اشترط الحنفية لصحة المسح على الجرموق شروطاً ثلاثة:
الأول ـ أن يكون الأعلى جلداً، فإن كان غير جلد يصح المسح على الأعلى إن وصل الماء إلى الأسفل.
الثاني ـ أن يكون الأعلى صالحاً للمشي عليه منفرداً، فإن لم يكن صالحاً لم يصح المسح عليه إلا بوصول الماء إلى الأسفل.
الثالث ـ أن يلبس الأعلى على الطهارة التي لبس عليها الأسفل.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص39، الشرح الكبير:145/1، الشرح الصغير:157/1 وما بعدها.
(2) الجرموق: هو الجلد الذي يلبس على الخف ليحفظه من الطين ونحوه، على المشهور. ويقال له: الموق، وليس غيره.
(3) الدر المختار:247/1فتح القدير:108/1، كشاف القناع:124/1، 131 وما بعدها، المغني:284/1.
(4) رواه أحمد وأبو داود.
(5) رواه سعيد بن منصور في سننه عن بلال.
وأجاز الحنابلة المسح على الخف الأعلى قبل أن يحدث، ولو كان أحدهما مخروقاً، لا إن كانا مخروقين، كما يجوز المسح على الخف الأسفل بأن يدخل يده من تحت الفوقاني فيمسح عليه؛ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فجاز المسح عليه إذا كان صحيحاً.(1/426)
ولا يجزئ عند الشافعية (1) في الأظهر الاقتصار في المسح على الخف الأعلى من الجرموقين (وهما خف فوق خف، كل منهما صالح للمسح عليه) ؛ لأن الرخصة وردت في الخف لعموم الحاجة إليه، والجرموق لا تعم الحاجة إليه، أي أنه لا بد من مسح الأعلى والأسفل.
4 ً - أن يكون لبس الخف مباحاً: هذا شرط عند المالكية والحنابلة، فلا يصح المسح على خف مغصوب، ولا على محرم الاستعمال كالحرير، وأضاف الحنابلة: ولو في ضرورة، كمن هو في بلد ثلج، وخاف سقوط أصابعه بخلع الخف المغصوب أو الحرير، فلا يستبيح المسح عليه؛ لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة، فلا حكم لها. ولا يجوز عند الحنابلة للمحرم المسح على الخفين ولو لحاجة. والأصح عند الشافعية: أنه لا يشترط هذا الشرط، فيكفي المسح على المغصوب، والديباج الصفيق، والمتخذ من فضة أو ذهب، للرجل وغيره، كالتيمم بتراب مغصوب. ويستثنى من ذلك المُحرِم بنسك اللابس للخف؛ لأن المحرم منهي عن اللبس من حيث هو لبس، أما النهي عن لبس المغصوب ونحوه فلأنه متعدٍ في استعمال مال الغير.
5 ً - ألا يصف الخف القدم لصفائه أو لخفته: هذا شرط عند الحنابلة، فلا يصح المسح على الزجاج الرقيق؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، ولا على ما يصف البشرة لخفته.
والمطلوب عند المالكية أن يكون الخف من جلد كما بينت، وعند الحنفية والشافعية: أن يكون مانعاً من نفوذ الماء إلى الرِجْل من غير محل الخرز، لو صب عليه، لعدم صفاقته، وبناء عليه يصح المسح على خف مصنوع من «نايلون» سميك، ونحوه من كل شفاف، لأن القصد هو منع نفوذ الماء.
__________
(1) مغني المحتاج:6/1.(1/427)
6 ً - أن يبقى من مقدم القدم قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد: اشترط الحنفية هذا الشرط في حالة قطع شيء من الرجل، ليوجد المقدار المفروض من محل المسح. فإذا قطعت رجل من فوق الكعب سقط غسلها ولا حاجة للمسح على خفها، ويمسح خف القدم الأخرى الباقية. وإن بقي من دون الكعب أقل من ثلاث أصابع، لا يمسح لافتراض غسل الجزء الباقي. وعليه فمن كان فاقداً مقدم قدمه لا يمسح على خفه ولو كان عقب القدم موجوداً، لأنه ليس محلاً لفرض المسح، ويفترض غسله.
ويصح عند الفقهاء الآخرين المسح على خف أي جزء باق من القدم مفروض غسله، فإذا لم يبق من محل الغسل شيء من الرجل، وصار برجل واحدة، مسح على خف الرجل الأخرى. ولا يجوز بحال أن يمسح على رجل أو ما بقي منها، ويغسل الأخرى، لئلا يجمع بين البدل والمبدل في محل واحد. خلاصة الشروط في المذاهب:
1 ً - الحنفية: يشترط لجواز المسح على الخفين سبعة شرائط:
الأول ـ لبسهما بعد غسل الرجلين، ولو قبل تمام الوضوء، إذا أتمه قبل حصول ناقض للوضوء.
الثاني ـ سترهما للكعبين.
الثالث ـ إمكان متابعة المشي فيهما.
الرابع ـ خلو كل منهما عن خرق قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم.
الخامس ـ استمساكهما على الرجلين من غير شد.
السادس ـ أن يبقى ـ في حالة قطع شيء من القدم ـ من مقدم القدم قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد.
2 ً - المالكية: لجواز المسح على الخف أحد عشر شرطاً: ستة في الممسوح وخمسة في الماسح. أما شروط الماسح فقد ذكرتها في بحث أول شرط متفق عليه. وأما شروط الممسوح فهي ما يأتي:
الأول ـ كون الممسوح جلداً، فلا يصح المسح على غيره.
الثاني ـ أن يكون طاهراً، احترازاً من جلد الميتة ولو مدبوغاً.
الثالث ـ أن يكون مخروزاً، لا إن لزق بنحو رسراس.(1/428)
الرابع ـ أن يكون له ساق ساتر لمحل الفرض في الغسل، بأن يستر الكعبين، فلا يصح المسح على غير الساتر لهما. الخامس ـ أن يمكن المشي فيه عادة، احترازاً من الواسع الذي ينسلت من الرجل عند المشي فيه.
3 ً - الشافعية: يشترط لجواز مسح الخف أمران:
أحدهما ـ أن يلبسه بعد طهارة كاملة من الحدثين الأصغر والأكبر.
الثاني ـ أن يكون الخف طاهراً قوياً، يمكن تتابع المشي عليه في الحاجة (1) ، ساتراً لمحل فرض الغسل (وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب لا من الأعلى) (2) ، مانعاً لنفوذ الماء من غير الخرز والشق. ويجوز في الأصح مشقوق قدم شد بالعرا بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض إذا مشى، أي يكفي المسح عليه.
4 ً - الحنابلة: يشترط لجواز المسح على الخف سبعة شروط:
الأول ـ أن يلبس الخفان بعد كمال الطهارة بالماء.
الثاني ـ أن يثبت بنفسه أو بنعلين، ولا يصح المسح على خف يثبت بشده فقط، لكن يصح المسح على خف يثبت بنفسه، لكن يبدو بعضه، ويشد بالعرا كالزربول الذي له ساق، فيدخل بعضها في بعض، فيستتر بذلك محل الفرض.
الثالث ـ إباحته، فلا يصح المسح على خف مغصوب ولا حرير، ولو في ضرورة.
الرابع ـ إمكان المشي فيه عرفاً، ولو لم يكن معتاداً، فيصح المسح على خف من جلود ولبود وخشب وزجاج وحديد ونحوها؛ لأنه خف ساتر يمكن المشي فيه.
الخامس ـ طهارة عينه، فلا يصح المسح على نجس، ولو في ضرورة، وفي حال الضرورة: يتيمم للرجلين، إذ لا بد من غسلهما.
__________
(1) أي الحاجة التي تقع في مدة لبسه: وهي ثلاثة أيام ولياليها للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، فلا يجزئ نحو رقيق يتخرق بالمشي عن قرب.
(2) فلو رئي القدم من أعلاه، كأن كان واسع الرأس لم يضر.(1/429)
السادس ـ ألا يصف القدم لصفائه كالزجاج الرقيق؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، فلا يصح المسح على خف فيه خرق أو غيره، يبدو منه بعض القدم، ولو من موضع الخرز، لعدم ستره محل الفرض. فإن انضم الخرق ونحوه بلبسه، جاز المسح عليه، لحصول الشرط، وهو ستر محل الفرض.
السابع ـ ألا يكون واسعاً يرى منه محل الفرض.
رابعاً ـ مدة المسح على الخفين:
للفقهاء رأيان في توقيت مدة المسح، المالكية لم يؤقتوا، والجمهور أقتوا مدة. أما المالكية (1) فقالوا: يجوز المسح على الخف من غير توقيت بزمان، مالم يخلعه، أو تصيبه جنابة، فيجب حينئذ خلعه للاغتسال، وإن خلعه انتقض المسح، ووجب غسل الرجل، وإن وجب الاغتسال لم يمسح، لأن المسح إنما هو في الوضوء. وبالرغم من عدم وجوب نزع الخف في مدة معينة، فإنهم قالوا: يندب نزع الخف كل أسبوع مرة في مثل اليوم الذي لبسه فيه.
واستدلوا بما يأتي:
1ً - حديث أُبيّ بن عمارة، قال: قلت: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قلت: يوماً؟ قال: يوماً، قلت: يومين؟ قال: ويومين، قلت: وثلاثة؟ قال: وما شئت» (2) .
2ً - روي عن جماعة من الصحابة ذكرالمسح بدون توقيت، منهم عمر، ومنهم أنس بن مالك عند الدارقطني.
3ً - إنه مسح في طهارة، فلم يتوقت كمسح الرأس والجبيرة؛ لأن التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث من بول أو غائط ونحوهما، وهذا القياس يعارض الأخبار الدالة على توقيت المسح بمدة معينة، فيعمل به، بسبب معارضة حديث ابن عمارة لها.
وأما الجمهور فقالوا: مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها (3) ، ويرى الحنفية أن المسافر العاصي بسفره كغيره من المسافرين، وأما الشافعية والحنابلة فيجعلون مدة المسح له كالمقيم.
__________
(1) الشرح الصغير:154/1،158، الشرح الكبير:142/1، بداية المجتهد:20/1، القوانين الفقهية: ص39
(2) رواه أبو داود، وقال: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي، وقال البخاري نحوه، وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون، وأخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناده لا يثبت، وفي إسناده ثلاثة مجاهيل، وأخرجه ابن ماجه، وقال ابن عبد البر: وليس له إسناد قائم، وبالغ الجوزقاني فذكره في الموضوعات (نيل الأوطار:182) قال الشوكاني: وما كان بهذه المرتبة لا يصح الاحتجاج به على فرض عدم المعارض، فالحق توقيت المسح بالثلاث للمسافر، واليوم والليلة للمقيم.
(3) فتح القدير: 102/1،107، تبيين الحقائق:48/1، البدائع:8/1، مغني المحتاج:64/1، المهذب:20/1، كشاف القناع:128/1وما بعدها، المغني:282/1-287،291 وما بعدها.(1/430)
وأدلتهم هي الأحاديث الثابتة الواردة بمشروعية المسح، منها: حديث علي المتقدم: «للمسافر ثلاثة أيام وليالِيهن، وللمقيم يوم وليلة» (1)
ومنها: حديث خزيمة بن ثابت: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة» (2) .
ومنها حديث صفوان بن عَسَّال، قال: أَمَرنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طُهر، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة» (3) .
ومنها حديث عوف بن مالك الأشجعي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم» (4) وثبت القول بالتوقيت عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس، وأبي زيد، وشريح، وعطاء، والثوري، وإسحاق.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
(3) رواه أحمد وابن خزيمة، وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد (نيل الأوطار:181/1-183) .
(4) رواه الإمام أحمد، وقال: هو أجود حديث في المسح على الخفين؛ لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو آخر فعله.(1/431)
والحق القول بتوقيت المسح، لأن حديث ابن عمارة لم يثبت، ويحتمل أنه منسوخ بهذه الأحاديث الصحيحة؛ لأنها متأخرة، لكون حديث عوف في غزوة تبوك، وليس بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا شيء يسير. وقياس المالكية ينتقض بالتيمم.
بدء المدة: وتبدأ عند الجمهور مدة المسح المقررة من تمام الحدث بعد لبس الخف إلى مثله من اليوم الثاني للمقيم، ومن اليوم الرابع للمسافر؛ لأن وقت جواز المسح (أي الرافع للحدث) يدخل بذلك، فاعتبرت مدة المسح بدءاً منه كالصلاة يبدأ وقتها من حين جواز فعلها، ولأن حديث صفوان بن عسال المتقدم: «أمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط ونوم وبول» يدل بمفهومه: أنها تنزع لثلاث مضين من الغائط، ولأن الخف مانع سراية الحدث (أي وصوله إلى الرجل) فتعتبر المدة من وقت المنع، أي من وقت منع الحدث عن الرجل.
وعلى هذا: من توضأ عند طلوع الفجر، ولبس الخف، ثم أحدث بعد طلوع الشمس، ثم توضأ ومسح بعد الزوال، فيمسح المقيم إلى وقت الحدث من اليوم الثاني: وهو ما بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني، ويمسح المسافر إلى ما بعد طلوع شمس اليوم الرابع.(1/432)
وإذا مسح خفيه مقيماً حالة الحضر، ثم سافر، أو عكس بأن مسح مسافراً ثم أقام، أتم عند الشافعية والحنابلة مسح مقيم؛ تغليباً للحضر؛ لأنه الأصل. فيقتصر في الحالتين على يوم وليلة. وعند الحنفية: من ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة، مسح ثلاثة أيام ولياليها؛ لأنه صار مسافراً، والمسافر يمسح مدة ثلاثة أيام، ولو أقام مسافر إن استكمل مدة الإقامة، نزع الخف؛ لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه، وإن لم يستكمل أتمها لأن هذه مدة الإقامة، وهو مقيم.
وإن شك، هل ابتدأ المسح في السفر أو الحضر، بنى عند الحنابلة (1) على المتيقن وهو مسح حاضر (مقيم) ؛ لأنه لا يجوز المسح مع الشك في إباحته.
وقال الشافعية (2) : ولا مسح لشاكّ في بقاء المدة، انقضت أو لا، أو شك المسافر، هل ابتدأ في السفر أو في الحضر؛ لأن المسح رخصة بشروط، منها المدة، فإذا شك فيها رجع إلى الأصل وهو الغسل.
خامساً ـ مبطلات (أو نواقض) المسح على الخفين:
يبطل المسح على الخف بالحالات الآتية (3) :
1 ً - نواقض الوضوء: ينتقض المسح على الخف بكل ناقض للوضوء؛ لأنه بعض الوضوء، ولأنه بدل فينقضه ناقض الأصل. وحينئذ يتوضأ، ويمسح، إذا كانت مدة المسح باقية. فإن انتهت المدة يعاد الوضوء وغسل الرجلين.
__________
(1) المغني:292/1.
(2) معني المحتاج:67/1.
(3) فتح القدير:105/1وما بعدها، البدائع:12/1وما بعدها، الدر المختار:254/1-256، مراقي الفلاح: ص22، الشرح الصغير:156/1-158، الشرح الكبير:145/1-147، مغني المحتاج:68/1، المهذب:22/1، المغني: 287/1، كشاف القناع:136/1وما بعدها.(1/433)
2 ً - الجنابة ونحوها: إن أجنب لابس الخف، أو حدث منه موجب غسل كحيض في أثناء المدة، بطل المسح، ووجب غسل الرجلين. فإن أراد المسح على الخف بعد الغسل، جدد لبسه، لحديث صفوان بن عسال السابق: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سَفْراً (أي مسافرين) ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن، إلا من جنابة» وقيس بالجنابة غيرها، مما هو في معناها، كالحيض والنفاس والولادة.
3 ً - نزع أحد الخفين أو كليهما، ولو كان النزع بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف، ينتقض بذلك، لمفارقة محل المسح مكانه، وللأكثر حكم الكل.
وفي هذه الحالة: يغسل عند الجمهور غير الحنابلة قدميه، لبطلان طهرهما؛ لأن الأصل غسلهما، والمسح بدل، فإذا زال حكم البدل، رجع إلى الأصل، كالتيمم بعد وجود الماء.
ولا يكتفى بغسل الرجل المنزوع خفها، وإنما لا بد من غسل الرجلين؛ إذ لا يجوز الجمع بين غسل ومسح.
وفي حالة نزع الخف الأعلى (الجرموق) قال المالكية: تجب المبادرة لمسح الأسفل، كما هو المقرر في الموالاة، وكما بينت سابقاً.
4 ً - ظهور بعض الرجل بتخرق أو غيره كانحلال العرا ونحو ذلك: ينتقض الوضوء بذلك عند الشافعية والحنابلة، وبظهور قدر ثلاث أصابع من أصابع الرجل عند الحنفية، أو بقدر ثلث القدم عند المالكية، سواء أكان منفتحاً أم ملتصقاً بعضه ببعض، كالشق وفتق الخياطة مع التصاق الجلد بعضه ببعض، أم أقل من الثلث أيضاً إن انفتح بأن ظهرت الرجل منه، لا إن التصق. فإن كان المنفتح يسيراً جداً، بحيث لا يصل بلل اليد حال المسح لما تحته من الرجل، فلا يضر.
5 ً - إصابة الماء أكثر إحدى القدمين في الخف، على الصحيح: هذا ناقض للمسح على الصحيح عند الحنفية، كما لو ابتل جميع القدم، فيجب قلع الخف وغسل الرجلين، تحرزاً عن الجمع بين الغسل والمسح، فلا يغسل قدماً ويمسح على الأخرى؛ إذ هو لا يجوز.(1/434)
6 ً - مضي المدة: وهي اليوم والليلة للمقيم، والثلاثة الأيام بلياليها للمسافر؛ لأن أحاديث المسح عن علي وخزيمة وصفوان حددت للمسح هذه المدة.
والواجب في هذه الحالة والأحوال الثلاثة السابقة (نزع الخف، وظهور بعض الرجل أو أكثرها بحسب الخلاف المتقدم) عند الحنفية، والمالكية، والراجح عند الشافعية، وهو بطهر المسح في جميع ذلك: غسل الرجلين فقط، دون تجديد الوضوء كله، إذا ظل متوضئاً، لأن أثر الحدث اقتصر على الخف، أو لبطلان طهر القدمين فقط، وبما أن الأصل غسلهما، والمسح بدل، فإذا زال حكم البدل رجع إلى الأصل، كالتيمم بعد وجود الماء.
واستثنى الحنفية هنا حالة الضرورة: وهي الخوف من ذهاب رجله من البرد، فلا يقلع الخفين، وإنما يجوز له المسح حتى يأمن، أي بدون توقيت، ويلزمه استيعاب المسح جميع الخف، كمسح الجبائر.
والواجب بعد مضي المدة أو خلع الخف عند الحنابلة: هو استئناف الطهارة (تجديد الوضوء كله) ؛ لأن الوضوء عبادة يبطلها الحدث، فتبطل كلها ببطلان بعضها، كالصلاة، أي أن الحدث لا يتبعض ولا يتجزأ، فإذا خلع أو مضت المدة، عاد الحدث إلى العضو الذي مسح الخف عنه، فيسري إلى بقية الأعضاء، فيستأنف الوضوء، ولو قرب الزمن.
والخلاصة: أن نواقض المسح عند الحنفية أربعة أشياء:
كل ناقض للوضوء، ونزع الخف ولو بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف، وإصابة الماء أكثر إحدى القدمين في الخف على الصحيح، ومضي المدة إن لم يخف ذهاب رجله من البرد، فيجوز له المسح حينئذ حتى يأمن الضرر.(1/435)
سادساً ـ المسح على العمامة:
قال الحنفية (1) : لا يصح المسح على عِمامة وقَلنسُوة وبُرْقع وقُفَّازين (2) ؛ لأن المسح ثبت بخلاف القياس، فلا يلحق به غيره.
وقال الحنابلة (3) : من توضأ من الذكور ثم لبس عمامة، ثم أحدث وتوضأ، جاز له المسح على العمامة أي عمامة الذكور، لقول عمرو بن أمية الضَّمْري: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه» (4) ، وقال المغيرة بن شعبة: «توضأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومسح على الخفين، والعمامة» (5) ، وعن بلال قال: «مسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الخفين والخمار» (6) ، وبه قال أبو بكر وعمر وأنس وأبو أمامة. روى الخلال عن عمر: «من لم يطهره المسح على العمامة، فلا طهره الله» .
والواجب مسح أكثر العمامة، لأنها بدل كالخف، وتمسح دوائرها دون وسطها لأنه يشبه أسفل الخف، ولا يجب أن يمسح معها ما جرت العادة بكشفه؛ لأن العمامة نابت عن الرأس، فانتقل الفرض إليها، وتعلق الحكم بها. ولا يجوز المسح على القلنسوة.
ويصح المسح على العمامة بشروط:
1ً - إذا كانت مباحة بألا تكون محرمة كمغصوبة أو حرير.
2ً - أن تكون محنَّكة: وهي التي يدار منها تحت الحنك كَوْر، أو كَوران، سواء أكان لها ذؤابة أم لا؛ لأنها عمامة العرب، ويشق نزعها، وهي أكثر ستراً.
__________
(1) مر اقي الفلاح: ص23، فتح القدير:109/1، اللباب:54/1 وما بعدها.
(2) العمامة: غطاء الرأس، والقُفَّاز: يعمل لليدين محشواً بقطن له أزرار، يُزَرُّ على الساعدين من البرد، تلبسه النساء، ويتخذه الصياد من جلد أو لبد، اتقاء مخالب الصقر. والقَلَنسُوة: لباس للرأس مختلف الأنواع والأشكال، والبُرْقُع: النقاب الذي تضعه نساء الأعراب على وجوههن.
(3) كشاف القناع:126/1وما بعدها، 134 وما بعدها، المغني:300/1-304.
(4) رواه أحمد والبخاري وابن ماجه.
(5) رواه مسلم، والترمذي وصححه.
(6) رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود، وفي رواية لأحمد: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «امسحوا على الخفين والخمار» (نيل الأوطار:164/1) .(1/436)
أو تكون ذات ذؤابة: وهي طرف العمامة المرخي؛ لأن إرخاء الذؤابة من السنة، قال ابن عمر: «عمَّ النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الرحمن بعمامة سوداء، وأرخاها من خلفه، قدر أربع أصابع» . فلا يجوز المسح على العمامة الصماء، لأنها لم تكن عمامة المسلمين، ولا يشق نزعها، فهي كالطاقية.
3ً - أن تكون لذكر، لا أنثى؛ لأنها منهية عن التشبه بالرجال، فلا تمسح أنثى على عمامة، ولو لبستها لضرورة برد وغيره.
4ً - أن تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه، كمقدم الرأس والأذنين وجوانب الرأس.
وقال المالكية (1) : يجوز المسح على عمامة خيف بنزعها ضرر، ولم يقدر على مسح ماتحتها مما هي ملفوفة عليه كالقلنسوة. فإن قدر على مسح بعض الرأس، أتى به وكمل على العمامة.
وقال الشافعية: لايجوز الاقتصار على مسح العمامة، لحديث أنس السابق: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ، وعليه عمامة قِطْرية (من صنع قَطَر) ، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة» (2) ؛ ولأن الله فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس.
قال الشوكاني (3) : والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت، فقصر الإجزاء على بعض ماورد لغير موجب، ليس من دأب المنصفين.
سابعاً - المسح على الجوارب:
اتفق الفقهاء على جواز المسح على الجوربين (4) إذا كانا مجلَّدين أو منعلين (5) ، واختلفوا في الجوربين العاديين على اتجاهين:
__________
(1) الشرح الكبير:163/1، الشرح الصغير:203/1 وما بعدها.
(2) رواه أبو داود، قال الحافظ ابن حجر: في إسناده نظر (نيل الأوطار:157/1) .
(3) نيل الأوطار:166/1.
(4) الجورب: لفافة الرجل، قال الزركشي: هو غشاء من صوف يتخذ للدفء. وقال في شرح المنتهى عند الحنابلة: ولعله اسم لكل ما يلبس في الرجل، على هيئة الخف من غير الجلد، أي سواء أكان مصنوعاً من صوف أو قطن أو شعر أو جوخ أو كتان.
(5) يقال أنعلت خفي ودابتي، ونعَّلت بالتشديد، والخفان منعلان بسكون النون، أو منعلان بتشديد العين وفتح النون.(1/437)
اتجاه يمثله جماعة: وهم أبو حنيفة والمالكية والشافعية: لايجوز، واتجاه آخر يمثله الحنابلة، والصاحبان من الحنفية وعلى رأيهما الفتوى: يجوز.
وهذه آراء المذاهب (1) :
قال أبو حنيفة: لايجوز المسح على الجوربين، إلا أن يكونا مجلَّدين أو منعلين، لأن الجورب ليس في معنى الخف؛ لأنه لايمكن مواظبة المشي فيه، إلا إذا كان منعلاً، وهو محمل الحديث المجيز للمسح على الجورب.
والمجلد: هو الذي وضع الجلد أعلاه وأسفله.
إلا أنه رجع إلى قول الصاحبين في آخر عمره، ومسح على جوربيه في مرضه، وقال لعواده: فعلت ماكنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه. وقال الصاحبان، وعلى رأيهما الفتوى في المذهب الحنفي: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين، لا يشفان (لا يرى ما وراءهما) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح على جوربيه (2) ، ولأنه يمكن المشي في الجورب إذا كان ثخيناً، كجوارب الصوف اليوم. وبه تبين أن المفتى به عند الحنفية: جواز المسح على الجوربين الثخينين، بحيث يمشي عليهما فرسخاً فأكثر، ويثبت على الساق بنفسه، ولا يرى ما تحته ولا يشف. واشترط المالكية كأبي حنيفة: أن يكون الجوربان مجلّدين ظاهرهما وباطنهما، حتى يمكن المشي فيهما عادة، فيصيران مثل الخف. وهو محمل أحاديث المسح على الجوربين.
__________
(1) الدر المختار:248/1 وما بعدها، فتح القدير:108/1 وما بعدها، البدائع:10/1، مراقي الفلاح: ص21، بداية المجتهد: 19/1، الشرح الصغير:153/1، الشرح الكبير:141/1، مغني المحتاج:66/1، المجموع:539/1 وما بعدها، المهذب:21/1، المغني:295/1، كشاف القناع:124/1، 130.
(2) روي من حديث المغيرة بن شعبة عند أصحاب السنن الأربعة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ومن حديث أبي موسى عند ابن ماجه والطبراني، ومن حديث بلال عند الطبراني، وفي الأخيرين ضعف (نصب الراية:184/1 وما بعدها) .(1/438)
وأجاز الشافعية المسح على الجورب بشرطين:
أحدهما ـ أن يكون صفيقاً لا يشف بحيث يمكن متابعة المشي عليه.
والثاني ـ أن يكون منعلاً.
فإن اختل أحد الشرطين لم يجز المسح عليه، لأنه لا يمكن متابعة المشي عليه حينئذ كالخرقة. قال البيهقي عن حديث المغيرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه» : إنه ضعيف، وضعف المحدثون حديثي أبي موسى وبلال.
وأباح الحنابلة المسح على الجورب بالشرطين المذكورين في الخف وهما:
الأول ـ أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم.
الثاني ـ أن يمكن متابعة المشي فيه، وأن يثبت بنفسه.
ودليلهم ما روي من إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة: علي وعمار، وابن مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وابن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وبه قال جماعة من مشاهير التابعين كعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والثوري.
وثبت في السنة النبوية المسح على الجوربين منها:
حديث المغيرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين» (1) .
وحديث بلال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على المُوقَين والخمار» (2) .
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري، وليس بالمتصل ولا بالقوي (نيل الأوطار:179/1) ويلاحظ أن الزيلعي ذكر النسائي من رواة حديث المغيرة، ولكن ابن تيمية في منتقى الأخبار استثنى النسائي.
(2) رواه أحمد والترمذي والطبراني، والموق: الذي يلبس فوق الخف، أو الخف المقطوع الساقين. والخمار: العمامة، أو النصيف في رواية سعيد بن منصور عن بلال: «امسحوا على النصيف والخمار» (المرجع السابق) .(1/439)
والراجح رأي الحنابلة لاستناده لفعل الصحابة والتابعين، ولما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث المغيرة. وهو الرأي المفتى به عند الحنفية.
ويمسح على الجوربين إلى خلعهما مدة يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، ويجب عند الحنابلة أن يمسح على الجوربين، وعلى سيور النعلين، بقدر الواجب في المسح على الخفين.
ثامناً ـ المسح على الجبائر:
معنى الجبيرة، مشروعية المسح عليها، حكمه، شرائط جواز المسح على الجبيرة، القدر المطلوب مسحه، هل يجمع بين المسح والتيمم؟ هل تجب إعادة الصلاة بعده؟ نواقض المسح على الجبيرة، الفوارق بينه وبين المسح على الخفين.
معنى الجبيرة: الجبيرة والجِبارة: خشب أو قصب يسوّى ويشد على موضع الكسر أو الخلع لينجبر (1) . وفي معناها: جبر الكسور بالجِبْس، وفي حكمها: عصابة الجراحة ولو بالرأس، وموضع الفصد (2) والكي، وخرقة القرحة، ونحو ذلك من مواضع العمليات الجراحية. قال ابن جزي المالكي: الجبائر: هي التي تشد على الجراح والقروح والفصادة (3) .
مشروعية المسح على الجبيرة: المسح على الجبائر جائز شرعاً بالسنة والمعقول.
أما السنة: فأحاديث منها: حديث علي بن أبي طالب، قال: «انكسرت إحدى زندي، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فأمرني أن أمسح على الجبائر» (4) .
ومنها حديث جابر في الرجل الذي شُجَّ (كسر) فاغتسل، فمات، فقال النبي
__________
(1) مغني المحتاج:94/1، وعرفها ابن قدامة في المغني:277/1: ما يعد لوضعه على الكسر لينجبر.
(2) يقال: فصد المريضَ: أخرج مقداراً من دم وريده بقصد العلاج.
(3) القوانين الفقهية: ص39.
(4) رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي بسند واه جداً (نصب الراية:186/1 وما بعدها، سبل السلام:99/1) .(1/440)
صلّى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويَعْصِب على جُرْحه خِرْقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» (1) .
وأما المعقول: فهو أن الحاجة تدعو إلى المسح على الجبائر؛ لأن في نزعها حرجاً وضرراً. قال المرغيناني في الهداية: إن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف، فكان أولى بشرع المسح (2) .
حكمه ـ هل المسح على الجبيرة واجب أو سنة؟
قال أبو حنيفة وصاحباه (3) في الأصح وعليه الفتوى: المسح على الجبائر واجب؛ وليس بفرض، لكن قال أبو حنيفة: وإذا كان المسح على الجبيرة يضره سقط عنه المسح؛ لأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى. ودليل الوجوب: أن الفرضية لاتثبته إلا بدليل مقطوع به. وحديث علي ـ المتقدم ـ من أخبار الآحاد، فلا تثبت الفرضية به. وبه يظهر أن الإمام وصاحبيه اتفقوا على الوجوب بمعنى عدم جواز الترك، لكن عنده يأثم بتركه فقط مع صحة الصلاة بدونه، ووجوب إعادتها، فهو يريد الوجوب الأدنى، وعندهما: لا تصح الصلاة بدونه فهما أرادا الوجوب الأعلى.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (4) : المسح على الجبائر بماء
__________
(1) رواه أبو داود بسند ضعيف. وقال البيهقي: هذا الحديث أصح ما روي في هذا الباب، مع اختلاف في إسناده (نصب الراية:187/1، سبل السلام:99/1) قال الشوكاني: (نيل الأوطار:258/1) : وقد تعاضدت طرق حديث جابر، فصلح للاحتجاج به على المطلوب، وقوي بحديث علي، ولكن حديث جابر قد دل على الجمع بين الغسل والمسح والتيمم.
(2) فتح القدير:109/1.
(3) البدائع:13/1 وما بعدها، رد المحتار لابن عابدين: 257/1. وهذا هو التحقيق خلافاً لما ذكر في البدائع: أن المسح عند أبي حنيفة مستحب لا واجب، وعند الصاحبين: واجب.
(4) الشرح الصغير:202/1، الشرح الكبير: 163/1، مغني المحتاج:94/1 وما بعدها، بجيرمي الخطيب:262/1-265، المغني: 286/1، كشاف القناع:127/1 وما بعدها،135 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص39، المهذب:37/1.(1/441)
واجب أي فرض، استعمالاً للماء ما أمكن، وقياساً على الخفين بجامع الضرورة وبطريق الأولى، وللأمر به في حديث علي ـ مع ضعفه ـ: «امسح على الجبائر» والأمر للوجوب.
ولا يجوز اتفاقاً المسح على جبيرة رِجْل مع مسح خف الأخرى الصحيحة، وإنما يجمع بين المسح والغسل.
شرائط المسح على الجبيرة: يشترط لجوازه ما يأتي (1) :
1ً - ألا يمكن نزع الجبيرة، أو يخاف من نزعها بسبب الغسل حدوث مرض، أو زيادته، أو تأخر البرء كما في التيمم. قال المالكية: يجب المسح إن خيف هلاك أو شدة ضرر أو أذى، كتعطيل منفعة من ذهاب سمع أو بصر مثلاً، ويجوز إن خيف شدة الألم أو تأخره بلا شين، أو رمد أو دمل أو نحوها.
وذلك إذا كان الجرح ونحوه في أعضاء الوضوء في حالة الحدث الأصغر، أو في الجسد في حالة الحدث الأكبر.
2ً - ألا يمكن غسل أو مسح الموضع نفسه بسبب الضرر، فإن قدر عليه فلا مسح على الجبيرة، وإنما يمسح على عين الجراحة إن لم يضر المسح بها، ولا يجزئه المسح على الجبيرة، وإن لم يستطع مسح على الجبيرة. قال المالكية: والأرمد الذي لا يستطيع المسح على عينيه أو جبهته إن خاف الضرر، يضع خرقة على العين أو الجبهة ويمسح عليها. وقال الحنفية: يترك المسح كالغسل إن ضر، وإلا لا يترك.
وقال الشافعية: لا يمسح على محل المرض بالماء، وإنما يغسل الجزء الصحيح ويتيمم عن الجزء العليل، ويمسح على الجبيرة إن وجدت.
__________
(1) البدائع:13/1، الدر المختار:58/1، المراجع السابقة.(1/442)
3ً - ألا تتجاوز الجبيرة محل الحاجة، فإن تجاوزت الجبيرة محل الحاجة، وهو مالا بد منه للاستمساك، وجب نزعها، ليغسل الجزء الصحيح من غير ضرر لأنها
طهارة ضرورة، فتقدر بقدرها، فإن خاف من نزعها تلفاً أو ضرراً، تيمم لزائد على قدر الحاجة، ومسح ما حاذى محل الحاجة، وغسل ما سوى ذلك، فيجمع إذن بين الغسل والمسح والتيمم، ولا يجب مسح موضع العلة بالماء، وإن لم يخف منه، لأن الواجب إنما هو الغسل، لكن يستحب المسح، ولا يجب عليه وضع ساتر على العليل ليمسح على الساتر؛ لأن المسح رخصة؛ فلا يليق بها وجوب المسح.
وهذا شرط ذكره الشافعية والحنابلة. وأوجب الشافعية أيضاً التيمم مطلقاً كما سيأتي.
وقال الحنفية عملاً بما ذكر الحسن بن زياد: إن كان حل الخرقة، وغسل ما تحتها من حوالي الجراحة، مما يضر بالجرح، يجوز المسح على الخرقة الزائدة ويقوم المسح عليها مقام غسل ماتحتها، كالمسح على الخرقة التي تلاصق الجراحة. وإن كان ذلك لا يضر بها، لا يجوز المسح إلا على الجراحة نفسها، ولا يجوز على الجبيرة؛ لأن الجواز على الجبيرةللعذر، ولا عذر. وهذا هو المقرر أيضاً عند المالكية، وبه يتبين أن الحنفية والمالكية لم يفرقوا بين ما إذا كانت الجبيرة قدر المحل المألوم أو زادت عنه للضرورة.(1/443)
4ً - أن توضع الجبيرة على طهارة مائية، وإلا وجبت إعادة الصلاة: هذا شرط عند الشافعية والحنابلة؛ لأن المسح على الجبيرة أولى من المسح على الخف، للضرورة فيها، ويشترط لبس الخف على طهارة (وضوء أو غسل) . ولا تعاد الصلاة إن كانت الجبيرة بقدر الاستمساك، ووضعت على طهر، وغسل الصحيح، وتيمم عن الجريح، ومسح على الجبيرة. ولو شد الجبيرة على غير طهارة، نزعها إن لم يتضرر، ليغسل ما تحتها، فإن خاف من نزعها تلفاً أو ضرراً، تيمم لغسل ما تحتها، ولو عمت الجبيرة فرض التيمم (الوجه واليدين) كفى مسحها بالماء عند الحنابلة، وسقط التيمم، ويعيد الصلاة عند الشافعية لأنه كفاقد الطهورين. ولم يشترط الحنفية والمالكية: وضع الجبيرة على طهارة، فسواء وضعها وهو متطهر أو بلا طهر، جاز المسح عليها ولا يعيد الصلاة إذا صح، دفعاً للحرج. وهذا هو المعقول؛ لأنه يغلب في وضعها عنصر المفاجأة، فاشتراط الطهارة وقتئذ فيه حرج وعسر.
5ً - ألا يكون الجبر بمغصوب، ولا بحرير محرم على الذكر، ولا بنجس كجلد الميتة والخرقة النجسة، فيكون المسح حينئذ باطلاً، وتبطل الصلاة أيضاً. وهذا شرط عند الحنابلة.
القدر المطلوب مسحه على الجبيرة:
المفتى به عند الحنفية (1) : أنه يكفي مسح أكثر الجبيرة مرة، فلا يشترط استيعاب وتكرار، ونية اتفاقاً، كما لا تطلب النية في مسح الخف والرأس أو العمامة، والفرق بينه وبين مسح الرأس والمسح على الخفين، حيث لايشترط فيهما مسح الأكثر، وإنما يكفي مقدار ثلاث أصابع: أن مسح الرأس شرع بالقرآن بواسطة حرف الباء الذي اقتضى تبعيضه، والمسح على الخفين: إن ثبت بالقرآن بقراءة الجر: {وأرجلكم} [المائدة:6/5] ، فحكمه حكم المعطوف عليه، وإن ثبت بالسنة، فهي أوجبت مسح البعض. أما المسح على الجبائر: فإنما ثبت بحديث علي رضي الله عنه، وليس فيه ما ينبئ عن البعض، إلا أن القليل سقط اعتباره دفعاً للحرج، وأقيم الأكثر مقامه.
__________
(1) الدر المختار:260/1، فتح القدير:109/1، البدائع:12/1.(1/444)
والواجب عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (1) : مسح الجبيرة كلها بالماء، استعمالاً للماء ما أمكن، ولأن مسحها بدل عن غسل ما تحتها، وما تحت الجبيرة كان يجب استيعابه بالغسل، فكذا المسح، ولا ضرر في تعميمها بالمسح، بخلاف الخف يشق تعميم جميعه، ويتلفه المسح.
وأوضح المالكية والحنفية أن الواجب الأصلي هو غسل أو مسح المحل المجروح مباشرة إن أمكن بلا ضرر؛ فإن لم يستطع المسح عليه، مسح جبيرة الجرح: وهي اللزقة التي فيها الدواء الذي يوضع على الجرح ونحوه، أو على العين الرمداء؛ فإن لم يقدر على مسح الجبيرة أو تعذر حلها، مسحت عصابته التي تربط فوق الجبيرة. ولو تعددت العصائب، فإنه يمسح عليها. ولا يجزيه المسح على ما فوق العصائب إن أمكنه المسح على ما تحتها أو مسح أسفلها.
ولا يقدر المسح بمدة، بل له الاستدامة إلى الشفاء (الاندمال) ؛ لأنه لم يرد فيه تأقيت، ولأن الساتر لا ينزع للجنابة، بخلاف الخف، ولأن مسحها للضرورة، فيقدر بقدرها، والضرورة قائمة إلى حلِّها أو برء الجرح عند الجمهور، وإلى البرء عند الحنفية.
ويمسح الجنب ونحوه متى شاء. ويمسح المحدث عند الشافعية والحنابلة وقت غسل الجزء العليل، عملاً بمبدأ الترتيب المطلوب عندهم، وله تقديم التيمم على المسح والغسل وهو أولى.
__________
(1) الشرح الكبير:163/1، الشرح الصغير:203/1، القوانين الفقهية: ص39، المهذب:37/1، مغني المحتاج:94/1 وما بعدها، بجيرمي الخطيب:262/1، كشاف القناع:128/1 وما بعدها،135.(1/445)
ويجب مسح الساتر، ولو كان به دم؛ لأنه يعفى عن ماء الطهارة (1) ، ومسحه بدل عما أخذه من الجزء الصحيح. فلو لم يأخذ الساتر شيئاً، أو أخذ شيئاً وغسله، لم يجب مسحه على المعتمد عند الشافعية.
وذكر الشافعية: أنه لو برأ وهو على طهارة، بطل تيممه لزوال علته، ووجب غسل موضع العذر، جنباً كان أو محدثاً، ولا يجدد (يستأنف) الطهارة كلها، لأن بطلان بعضها لا يقتضي بطلان كلها، ويجب على المحدث عندهم أن
يغسل ما بعد موضع العذر، رعاية للترتيب كما لو أغفل لمعة، بخلاف الجنب لا يغسل ما بعد موضع العذر، لعدم اشتراط الترتيب في الغسل، باتفاق الفقهاء.
هل يجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم؟
يرى الحنفية والمالكية (2) : الاكتفاء بالمسح على الجبيرة، فهو بدل لغسل ما تحتها، ولا يضم إليه التيمم؛ إذ لا يجمع بين طهارتين.
ويرى الشافعية في الأظهر (3) : أنه يجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم، فيغسل الجزء الصحيح، ويمسح على الجبيرة، ويتيمم وجوباً، لما روى أبو داود والدارقطني بإسناد كل رجاله ثقات عن جابر في المشجوج الذي احتلم واغتسل، فدخل الماء شجته، فمات: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» والتيمم بدل عن غسل العضو العليل، ومسح الساتر بدل عن غسل ما تحت أطرافه من الجزء الصحيح؛ لأن الغالب أن الساتر يأخذ زيادة على محل العلة. فلو كان الساتر بقدر العلة فقط، أو بأزيد وغسل الزائد كله، لا يجب المسح.
__________
(1) وعن الدم الذي عليه، وإن اختلط بماء المسح قصداً؛ لأنه ضروري، وتتوقف صحة المسح عليه (بجيرمي الخطيب، المكان السابق) .
(2) الدر المختار:258/1، الشرح الكبير: 163/1، الشرح الصغير:202/1.
(3) مغني المحتاج:94/1، بجيرمي الخطيب: 262/1وما بعدها، حاشية الباجوري:101/1، المهذب: 37/1.(1/446)
ولو كان في بدنه جبائر كثيرة وأجنب وأراد الغسل، كفاه تيمم واحد عن الجميع؛ لأن بدنه كعضو واحد. وفي حالة الحدث الأصغر (الوضوء) يتعدد التيمم بعدد الأعضاء المريضة على الأصح، كما يتعدد مسح الجبيرة بتعددها. وعليه: إن كانت الجراحة في أعضاء الوضوء الأربعة ولم تعممها فلا بد من ثلاثة تيممات: الأول للوجه، والثاني لليدين، والثالث للرجلين، أما الرأس فيكفي فيه مسح ما قل منه، فإن عمت الجراحة الرأس فأربعة تيممات. وإن عمت الأعضاء كلها فتيمم واحد عن الجميع لسقوط الترتيب بسقوط الغسل.
وتوسط الحنابلة (1) فرأوا أنه يجزئ المسح على الجبيرة، من غير تيمم، إذا لم تجاوز الجبيرة قدر الحاجة؛ لأنه مسح على حائل، فأجزأ من غير تيمم، كمسح الخف، بل أولى؛ إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف (2) .
ويمسح ويتيمم إن تجاوزت الجبيرة محل الحاجة، أو خيف الضرر من نزعها، ويكون التيمم للزائد على قدر الحاجة، والمسح لما يحاذي محل الحاجة، والغسل لما سوى ذلك، فيجمع إذن بين الغسل والمسح والتيمم. وإذا لم يكن على الجرح عصاب، يغسل الصحيح ويتيمم للجرح. وهو في تقديري أولى الآراء. ويتعدد التيمم عندهم كما قرر الشافعية.
هل تجب إعادة الصلاة بعد البرء؟
الذين لم يشترطوا وضع الجبيرة على طهارة وهم المالكية والحنفية (3) ، ورأيهم هو الحق، لم يوجبوا إعادة الصلاة بعد الصحة من الجرح، لإجماع العلماء على جواز الصلاة، وإذا جازت الصلاة، لم تجب إعادتها.
أما الذين اشترطوا وضع الجبيرة على طهارة وهم الشافعية والحنابلة (4) ، فقد أوجب الشافعية إعادة الصلاة، لفوات شرط الوضع على طهارة، ولو يوجبها الحنابلة إذا تيمم.
__________
(1) كشاف القناع:135/1وما بعدها، المغني:279/1وما بعدها.
(2) وفند الحنابلة حديث الشجة، فقالوا: الاستدلال بقصه صاحب الشجة ضعيف بأنه يحتمل أن الواو فيه بمعنى (أو) ، ويحتمل أن التيمم فيه لشد العصابة فيه على غير طهارة (المرجع السابق) .
(3) القوانين الفقهية: ص39، الدر المختار:258/1.
(4) بجيرمي الخطيب:265/1، كشاف القناع: 131/1.(1/447)
وتعاد الصلاة عند الشافعية في الأحوال الثلاثة التالية (1) .
1 - إذا كانت الجبيرة في أعضاء التيمم (الوجه واليدين) مطلقاً، سواء على طهر أو حدث.
2 - إذا وضعت الجبيرة على غير طهر (حدث) سواء في أعضاء التيمم أو في غيرها.
3 - إذا زادت الجبيرة على قدر الحاجة أو الاستمساك، مطلقاً، سواء طهر أو حدث.
ولا تعاد الصلاة عندهم في حالتين وهما:
1 - إذا كانت في غير أعضاء التيمم، ولم تأخذ من الصحيح شيئاً، ولو على حدث.
2 - إذا كانت في غير أعضاء التيمم، ووضعها على طهر، ولو زادت على قدر الحاجة.
نواقض المسح على الجبيرة:
يبطل المسح على الجبيرة في حالتين هما (2) :
1ً - نزعها وسقوطها: قال الحنفية: يبطل المسح على الجبيرة إن سقطت عن
__________
(1) بجيرمي الخطيب: 265/1، حاشية الباجوري:100/1، مغني المحتاج:107/1، المهذب:37/1.
(2) البدائع:14/1، فتح القدير: 110/1، اللباب:46/1، مراقي الفلاح: ص23، القوانين الفقهية: ص39، الشرح الصغير:206/1، الشرح الكبير:166/1، بجيرمي الخطيب: 262/1، كشاف القناع: 136/1-137. برء، لزوال العذر، وإن كان في الصلاة، استأنف الصلاة بعد الوضوء الكامل؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل.
وإن سقطت عن غير برء لم يبطل المسح؛ لأن العذر قائم، والمسح عليها كالغَسْل لما تحتها ما دام العذر قائماً: أي أن بطلان المسح على الجبيرة في الحقيقة يكون بالبرء، ويجوز تبديلها بغيرها ولا يجب إعادة المسح عليها، والأفضل إعادته.(1/448)
وإذا رمد، وأمَره طبيب مسلم حاذق ألا يغسل عينه، أو انكسر ظفره، أو حصل به داء، وجعل عليه دواء، جاز له المسح للضرورة، وإن ضره المسح تركه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.
وقال المالكية: يبطل المسح بنزع الجبيرة أو سقوطها للمداواة أو غيرها، فإذا صح غسل الموضع على الفور، وإن لم يصح وبدَّلها للمداواة، أعاد المسح، وإن سقطت الجبيرة وهو في الصلاة. بطلت الصلاة، وأعاد الجبيرة في محلها، وأعاد المسح عليها، إن لم يطل الفاصل، ثم ابتدأ صلاته، لأن طهارة الموضع قد انتقضت بظهوره.
ويمسح المتوضئ رأسه إن سقط الساتر، الذي كان قد مسح عليه من الجبيرة أو العصابة أو العمامة، ثم صلى إن طال فاصل سقوط الساتر نسياناً، وإلا ابتدأ طهارة جديدة أي أعاد الوضوء.
وقال الشافعية: لو سقطت جبيرته في الصلاة، بطلت صلاته، سواء أكان قد برئ، أم لا، كانقلاع الخف. وفي حالة البرء تبطل الطهارة أيضاً، فإن لم يبرأ رد الجبيرة إلى موضعها ومسح عليها فقط. وقال الحنابلة: زوال الجبيرة كالبرء، ولو قبل برء الكسر أو الجرح، وبرؤها كخلع الخف، يبطل المسح؛ والطهارة والصلاة كلها، وتستأنف من جديد، لأن مسحها بدل عن غسل ما تحتها، إلا أنه في الطهارة الكبرى من الجنابة يكفي بزوال الجبيرة غسل ما تحتها فقط. وفي الطهارة الصغرى (الوضوء) إن كان سقوطها عن برء توضأ فقط، وإن كان سقوطها عن غير برء، أعاد الوضوء والتيمم.
وهكذا يتبين أن الجمهور غير الحنفية يقررون بطلان المسح على الجبيرة بنزعها أو سقوطها.
2ً - الحدث: يبطل المسح على الجبيرة بالاتفاق بالحدث. لكن إذا أحدث صاحب الجبيرة يعيد عند الشافعية (1) ثلاثة أمور: يغسل الصحيح، ويمسح على الجبيرة، ويتيمم. فإن لم يحدث وأراد صلاة فرض آخر، تيمم فقط، ولم يعد غسلاً ولا مسحاً؛ لأن الواجب عندهم إعادة التيمم لكل فريضة (2) .
__________
(1) حاشية الباجوري:101/1.
(2) هناك ملاحظة ذكرها الشافعية عن حكم حمصة الكي: إن قام غيرها مقامها في مداواة الجرح، لم يعف عنها، ولا تصح الصلاة مع حملها. وإن لم يقم غيرها مقامها، صحت الصلاة معها، ولا يضر انتفاخها في المحل، ما دامت الحاجة داعية إليها، وبعد انتهاء الحاجة، يجب نزعها، فإن تركه بلا عذر، ضر، ولا تصح صلاته (بجيرمي الخطيب:265/1) وقال الحنفية: ينقض الوضوء بالدم الخارج من محل كي الحمصة إن سال عن محله وذلك بمجرد ابتلال الرباط (رد المحتار:129/1) .(1/449)
أهم الفروق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة:
ذكر الحنفية فروقاً بين هذين النوعين من المسح، وهي سبعة وعشرون وجهاً، وأضاف ابن عابدين لها عشرة أخرى، أهمها ما يأتي (1) :
1ً - المسح على الجبائر غير مؤقت بالأيام، بل هو موقت بالبرء، أما المسح على الخفين فهو بالشرع مؤقت بالأيام، للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها.
2ً - لا تشترط الطهارة لوضع الجبائر، فيجوز المسح عليها للمحدث. وتشترط الطهارة للبس الخفين، فلا يجوز المسح عليهما للمحدث.
3ً - إذا سقطت الجبائر لا عن برء لا ينتقض المسح، وسقوط الخفين أو أحدهما يوجب انتقاض المسح.
4ً - المسح على الجبائر جائز إذا كان يضره المسح على الجراحة، فإن لم يضره فلا يمسح على الجبائر. أما المسح على الخفين فهو جائز ولو لم يعجز عن غسل الرجلين.
5ً - المسح على الجبائر جائز ولو كانت في غير الرجلين. أما المسح على الخفين فمحصور في الرجلين.
وتعرف بقية الفروق من طبيعة كلا النوعين وشروطهما.
__________
(1) البدائع:14/1 وما بعدها، فتح القدير وحاشية العناية:109/1 وما بعدها، الدر المختار وحاشية ابن عابدين:259/1-260.(1/450)
وذكر الحنابلة خمسة فروق بين نوعي المسح المذكورين، وافقوا الحنفية في الفرق الأول والثاني والرابع، أما الفرقان الآخران فهما: أنه يمسح على الجبيرة في الطهارة الكبرى؛ لأن الضرر يلحق بنزعها فيها، بخلاف الخف، ويجب عندهم استيعابها بالمسح لأنه لاضرر في تعميمها، بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه ويتلفه المسح (1) .
__________
(1) المغني:278/1.(1/451)
الفَصْلُ الخامِس: الغَُسلُ
خصائصه، موجباته، فرائضه، سننه، مكروهاته، مايحرم على الجنب، الأغسال المسنونة. ملحقان به: الأول ـ في أحكام المساجد، والثاني ـ في أحكام الحمامات.
المطلب الأول ـ خصائص الغسل:
الغسل المراد هنا بضم الغين أو فتحها: هو فعل الاغتسال، أو الماء الذي يغتسل به. وهو لغة: سيلان الماء على الشيء مطلقاً. والغسل بكسر الغين: ما يغسل به الشيء من أشنان وصابون ونحوه.
والغسل شرعاً: إفاضة الماء الطهور على جميع البدن على وجه مخصوص (1) .
وعرفه الشافعية بأنه: سيلان الماء على جميع البدن مع النية (2) .
وعرفه المالكية بأنه: إيصال الماء لجميع الجسد بنية استباحة الصلاة مع الدلك (3) .
والأصل في مشروعيته: قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] ، وهو أمر بتطهير جميع البدن، إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه كداخل العينين خارج عن الإرادة، لما في غسلهما من الضرر والأذى.
والقصد منه التنظيف، وتجديد الحيوية وإثارة النشاط؛ لأن عملية الجنابة تؤثر في جميع أجزاء الجسد، فتزال آثارها بالاغتسال. وفي الغسل ثواب لامتثال أمر الشارع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه: «الطُّهور شطر الإيمان» أي جزء منه، وهو يشمل الوضوء والغسل.
وركنه: عموم ما أمكن من الجسد، من غير حرج، بالماء الطهور.
وسببه: إرادة ما لا يحل مع الجنابة، أو وجوبه (4) .
وحكمه: حل ماكان ممتنعاً قبله، والثواب بفعله، تقرباً إلى الله. أما الستر للغسل: فيجوز أن ينكشف للغسل في خلوة، أو بحضرة من يجوز له نظره إلى عورته، والستر أفضل، لقوله صلّى الله عليه وسلم لبَهْز بن حكيم: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ماملكت يمينك، قال: أرأيت إن كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس» (5) .
المطلب الثاني ـ موُجِبات الغسل:
يسمى ما يوجب الغسل (حدثاً أكبر) ، كما يسمى ما يوجب الوضوء (حدثاً أصغر) .
وموجبات الغسل على المكلف (البالغ العاقل) ذكراً أو أنثى عند الحنفية سبعة أسباب، وعند المالكية: أربعة، وعند الشافعية خمسة، وعند الحنابلة ستة، وهي ما يأتي (6) :
1 - خروج المني:
أي بروزه إلى الظاهر من فرج الرجل أو المرأة، بلذة معتادة تدفقاً، في حال النوم أو اليقظة بنظر، أو فكر في جماع، أو بمباشرة فعلية، لإنسان حي أو ميت، أو بهيمة. إلا أن الحنفية لم يوجبوا الغسل بوطء الميتة والبهيمة والصغيرة غير المشتهاة.
والمني: هو الماء الغليظ الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة. ومني المرأة رقيق أصفر ولا غسل للمذي والودي، أما المذي: فهو رقيق أبيض مائل إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله. وأما الودي فهو الغليظ من البول يعقب الرقيق منه.
ويعرف المني كما أبان الشافعية: بتدفقه (بأن يخرج بدفعات) ، أو لذة بخروجه مع فتور الذكر وانكسار الشهوة عقبه، وإن لم يتدفق لقلته، أو خرج على لون الدم، كما يعرف أيضاً بشم ريح عجين حنطة إذا كان رطباً، أو ريح بياض بيض دجاج أو نحوه إذا كان جافاً، وإن لم يلتذ منه ولم يتدفق، كأن خرج باقي منيه بعد غسله، فيجب عليه إعادة الغسل.
__________
(1) كشاف القناع: 158/1.
(2) مغني المحتاج:68/1.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير:160/1.
(4) مراقي الفلاح: ص15.
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
(6) فتح القدير:41/1-44، الدر المختار: 148/1-156، مراقي الفلاح: ص16، اللباب:22/1، الشرح الصغير:160/1-166، الشرح الكبير: 126/1-130، القوانين الفقهية: ص25-30، بداية المجتهد:44/1 وما بعدها، المهذب: 29/1 وما بعدها، مغني المحتاج:68/1-70، المغني:199/1-211، كشاف القناع:158/1-167.(1/452)
والخلاصة: أن خروج المني ولو بحمل ثقيل أو سقوط من مكان مرتفع أو وجوده في الثوب مطلقاً: موجب للغسل عند الشافعية، سواء بشهوة أو غيرها، خرج من طريقه المعتاد أو من غيره، كأن انكسر صلبه فخرج منيه، إلا أنه إذا خرج من غير طريقه المعتاد لمرض فلايجب الغسل به.
وقال الحنابلة: إذا خرج المني بغير اللذة أو الشهوة كمرض، أو برد أو كسر ظهر، من غير نائم أو مجنو ن أو مغمى عليه أو سكران، لم يوجب غسلاً. وعلى هذا يكون نجساً يجب غسل المحل الذي أصابه، كما أن سلس المني لا غسل عليه، وإنما يجب الوضوء فقط. ومن رأى في ثوبه منياً فعليه الغسل. ومن رأى أنه قد احتلم ولم يجد منياً فلا غسل عليه باتفاق العلماء.
وقال الحنفية: من موجبات الغسل احتياطاً: وجود بلل ظنه منياً بعد إفاقته من سكر أو إغماء. كما يجب الغسل عندهم بخروج مني الشخص منه بعد الغسل. ويشترط عند الحنفية في المني الموجب للغسل: إنزاله على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة، فلو خرج بسبب حمل ثقيل أو بسقوط من مكان لا يجب الغسل؛ لأن الجنب في آية {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] : من خرج منه المني على وجه الشهوة.(1/453)
واتفق أئمة الحنفية على أنه لا يجب الغسل إذا انفصل المني عن مقره من الصلب بشهوة إلا إذا خرج على رأس الذكر. وهناك خلاف بينهم في أنه هل تشترط مقارنة الشهوة للخروج؟ فعند أبي حنيفة ومحمد: لا تشترط. وعند أبي يوسف: تشترط. وثمرة الخلاف تظهر: فيما لو احتلم فوجد اللذة، ولم ينزل حتى توضأ وصلى ثم أنزل، اغتسل، ولا يعيد الصلاة في رأيهما، ولايغتسل في رأيه. ولو اغتسل بعد الجماع قبل النوم أو البول أو المشي، ثم خرج منه المني بلا شهوة، يجب إعادة الغسل عندهما، لا عنده. وقولهما أحوط لأن الجنابة قضاء الشهوة، فإذا وجدت مع الانفصال تحقق اسمها. وقال المالكية كالحنفية والحنابلة: المني الموجب للغسل: هو الخارج بلذة معتادة، فإن لم يخرج بلذة معتادة، كأن خرج بنفسه لمرض أو ضربة أو سلس أو لدغة عقرب، فلاغسل، وعليه الوضوء فقط. كما أنه إذا خرج بلذة غير معتادة كمن حك لجرب بذكره، أو هزته دابة له، أو نزل بماء حار، فلا غسل وعليه الوضوء فقط، لكن في مسألة الماء الحار والجرب بغير الذكر، لا غسل ولو أحس بمبادئ اللذة واستدام حتى أمنى. لبعد الماء الحار عن شهوة الجماع. أما في مسألة هز الدابة أو الجرب بالذكر، فإن أحس بمبادئ اللذة واستدام حتى أنزل، وجب الغسل، لأنه أقرب لشهوة الجماع. ومن انتبه من نومه، فوجد بللاً في ثوبه أو بدنه، فشك هل هو مني أو مذي؟ وجب عليه الغسل؛ لأن الشك مؤثر في إيجاب الطهارة. ولايجب بالاتفاق الغسل على امرأة بمني وصل للفرج ما لم تحبل منه، واتفقوا على أن رطوبة الفرج طاهرة، وغسله سنة.
والدليل لوجوب الغسل بخروج المني: حديث علي قال: «كنت رجلاً مذَّاء، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: في المَذْي الوضوء، وفي المَنِيّ الغسل» (1) ولأحمد: «إذا حَذَفْت الماء فاغتسل من الجنابة، فإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل» .
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائى، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث علي مختصراً. ومعنى «حذفْتَ» أي رميت بشهوة، فالخارج لمرض أو برد لا يوجب الغسل (نيل الأوطار:218/1) .(1/454)
وحديث أم سَلَمة: «أن أم سُلَيم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يسْتَحِي من الحق، فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: وتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك، فيمَ يُشْبهها ولدها!!» (1) .
وقوله: «إذا رأت الماء» أي المني بعد الاستيقاظ. وتربت يداك أي افتقرت، ولا يراد ذلك وإنما للزجر (المرجع السابق: ص219) . وليس في المذي والودي غسل، وفيهما الوضوء، وغسل الذكر، لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل فحل يمذي، وفيه الوضوء» (2) .
2 - التقاء الختانين (3) ولو من غير إنزال:
أو الجنابة بمغيب حَشَفة (رأس الذكر) أو قدرها من مقطوعها في فرج مطيق للجماع، قبلاً أو دبراً، من ذكر أو أنثى، طائع أو مكره، نائم أو يقظان.
ولو من غير بالغ عند الشافعية والحنابلة، فلا يشترط التكليف، فيجنب الصبي والمجنون بالإيلاج، ويجب عليهما الغسل عند الشافعية بعد الكمال، ويصح الغسل من مميز ويؤمر به كالوضوء. وأوجب الحنابلة على صغير ابن عشر وطئ، وبنت تسع وطئت الغسل والوضوء إذا أرادا ما يتوقف عليه الغسل كقراءة القرآن، أو الوضوء كالصلاة والطواف.
واشترط المالكية والحنفية: أن يكون الوطء من مكلف (بالغ عاقل) فلا يجب الغسل على غير مكلف. ويندب عند المالكية في المعتمد الغسل للمراهق والصغيرة التي وطئها بالغ، وقال الحنفية: يمنع المراهق من الصلاة حتى يغتسل، ويؤمر به ابن عشر تأديباً.
__________
(1) متفق عليه.
(2) أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عبد الله بن سعد الأنصاري، وأخرج إسحاق والطحاوي من حديث علي نحوه (نصب الراية:93/1) .
(3) الختانان: موضع القطع من الذكر والفرج. والتقاء الختانين: كناية عن الجماع.(1/455)
ولا يشترط الإنزال بالاتفاق لأن حديث «إنما الماء من الماء» منسوخ بالإجماع، إلا أن الحنفية استثنوا وطء الميتة والبهيمة والصغيرة غير المشتهاة إذا لم تزل بكارتها، فلا يجب الغسل إلا بالإنزال، فإن لم يوجد إنزال ولم تزل بكارة الصغيرة فلا يجب الغسل ولا الوضوء، وإنما يجب فقط غسل الذكر؛ لأن هذا الوطء غير مقصود في الطبع السليم (1) .
وقال الجمهور: يجب الغسل بوطء الميتة والبهيمة، لأنه إيلاج في فرج كوطء الآدمية في حياتها، ووطء الآدمية الميتة داخل في عموم الأحاديث الآتية الموجبة للغسل.
وسواء أكان الوطء عند المالكية والشافعية بحائل أم بغير حائل، يوجب الغسل، إلا أن المالكية قالوا: الموجب للغسل فيما إذا لف الذكر بخرقة خفيفة لا كثيفة. وقال الشافعية: يجب الغسل ولو كان على الذكر خرقة خفيفة أو غليظة.
وقال الحنيفة والحنابلة: لا يجب الغسل في حالة عدم الإنزال بإيلاج بحائل كأن يلف على ذكره خرقة أو يدخله في كيس. واشترط الحنابلة والشافعية: أن يكون الإيلاج في فرج أصلي، فلا غسل بلا إنزال بإيلاج في غير أصلي كإيلاج رجل في قبل الخنثى، لعدم الفرج الأصلي بيقين، أو إيلاج الخنثى ذكره في قبل أو دبر بلا إنزال، لعدم تغييب الحشفة الأصلية بيقين.
واشترط المالكية وغيرهم: أن يكون الإيلاج في فرج مطيق، فلا غسل في حالة عدم الإنزال: بإيلاج بعض الحشفة أو بإيلاج في فرج غير مطيق أو ما دون الفرج كالتفخيذ والتبطين، والتغييب بين الشفرين، أو في هوى الفرج، والتصاق الختانين بدون إيلاج، والسحاق (إتيان المرأة المرأة) ، كل ذلك لا غسل فيه بلا إنزال.
__________
(1) حاشية ابن عابدين:154/1.(1/456)
والأدلة على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين: قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطَّهروا} [المائدة:6/5] ، وأحاديث كثيرة: منها حديث «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل» (1) وحديث «إذا جلس بين شُعَبها الأربع، ثم جَهَدها، فقد وجب عليه الغسل» (2) ، ولمسلم وأحمد: «وإن لم ينزل» . وحديث «إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم مس الخِتانُ الختانَ، فقد وجب الغسل» (3) ، ولفظ الترمذي: «إذا جاوز الختان الختان، وجب الغسل» وحديث أبي بن كعب قال: «إن الفُتْيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء، رُخْصة، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها» (4) ، وفي لفظ للترمذي وصححه: «إنما كان الماء من الماء، رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها» .
فدل على أن حديث رافع بن خديج عند أحمد: «الماء من الماء» منسوخ. وبه يرد على الأنصار الذين كانوا يقولون: لا يجب الغسل بالإكسال (أي من غير إنزال) ، إذ إن هذه الأحاديث صريحة في إيجاب الغسل من التقاء الختانين، أنزل أو لم ينزل، وقد انعقد إجماع الصحابة على ذلك. وليس المراد من التقاء الختانين، تجاورهما أو انضمامهما فقط، وإنما مجاوزة الختان الختان، فهو مجاز أريد به الإيلاج أو إدخال الحشفة في الفرج (القبل أو الدبر) إذ الختانان محل القطع في الختان، وختان المرأة فوق مخرج البول، ومخرج البول فوق مدخل الذكر.
وصرح الحنابلة وغيرهم بأنه يعاد غسل الميتة الموطوءة.
3، 4 - الحيض والنفاس:
هذان يوجبان الغسل بالاتفاق، أما الحيض فلقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222/2] ، ولخبر البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» .
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجه عن عا ئشة وعبد الله بن عمرو، وهو حديث صحيح.
(2) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار:219/1) وشعبها الأربع: قيل: يداها ورجلاها، وقيل: رجلاها وفخذاها، وقيل: غير ذلك.
(3) رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، عن عائشة (المرجع السابق:221/1) .
(4) رواه أحمد وأبو داود (المرجع السابق) وأما حديث رافع بن خديج: «الماء من الماء» عند أحمد، ففيه راو مجهول، والظاهر ضعف الحديث (المرجع السابق: 222/1) .(1/457)
وأما النفاس: فلأنه دم حيض مجتمع.
وانقطاع دم الحيض والنفاس شرط وجوب الغسل وصحته، بدليل قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن} [البقرة:222/2] ، يعني: إذا اغتسلن، قيل: منع الزوج وطأها قبل الغسل، فدل على وجوبه عليها.
أما الولادة بلا بلل: فتوجب الغسل في المعتمد عند المالكية وفي المختار عند الحنفية، وفي الأصح عند الشافعية، لأن المولود ولو كان عند الشافعية علقة أو مضغة: مني منعقد؛ ولأنه لايخلو عن بلل غالباً، فأقيم مقامه، كالنوم مع الشيء الخارج، وتفطر به المرأة. بخلاف ما لو ألقت يداً أو رجلاً أو نحو ذلك، فإنه لا يجب عليها الغسل، ولا تفطر به، بل تتخير بين الغسل والوضوء.
وقال الحنابلة على الراجح: لا يجب الغسل بولادة عريت عن دم؛ لأنه لانص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، فلا يبطل الصوم، ولا يحرم الوطء بها قبل الغسل، ولا يجب الغسل بإلقاء علقة أو مضغة لأن ذلك ليس بولادة، والولد طاهر، ومع الدم يجب غسله، كسائر الأشياء المتنجسة.
ولا يجب الغسل بدم الاستحاضة، لكن يندب إذا انقطع.
5 - موت المسلم غير الشهيد:
يجب تعبداً باتفاق المذاهب الأربعة على المسلمين وجوب كفاية غسل الميت المسلم غير الشهيد، الذي لا جنابة منه، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الذي سقط عن راحلته فمات: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفِّنوه في ثوبين» (1) فهو دليل على وجوب غسل الميت، وقد غسل النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر بعده، وتوارثه المسلمون.
__________
(1) متفق عليه عن ابن عباس (سبل السلام:92/1) والسدر: شجر النَّبق.(1/458)
6 - إسلام الكافر، ولو مرتداً أو مميزاً:
أوجب المالكية والحنابلة الغسل على الكافر إذا أسلم، لحديث قيس بن عاصم: «أنه أسلم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» (1) .
وقال الحنفية والشافعية: إنه يستحب إذا لم يكن جنباً، ويجزئه الوضوء، لأنه لم يأمر النبي صلّى الله عليه وسلم كل من أسلم بالغسل، ولو كان واجباً لما خص بالأمر به بعضاً دون بعض، فيكون ذلك قرينة تصرف الأمر إلى الندب.
ويجب الغسل على الكافر إذا أسلم جنباً: للأدلة القاضية بوجوبه، مثل آية: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] ؛ لأنها لم تفرق بين كافر ومسلم.
خلاصة ما يوجب الغسل وما لا يوجبه:
هذه موجبات الغسل الستة عند الحنابلة. أما الأسباب السبعة عند الحنفية فهي: خروج المني إلى ظاهر الجسد بشهوة، وتواري حشفة أو قدرها من مقطوعها في أحد سبيلي آدمي حي، وإنزال المني بوطء ميتة أو بهيمة، ووجود ماء رقيق بعد النوم إذا لم يكن ذكره منتشراً قبل النوم، ووجود بلل ظنه منياً بعد إفاقته من سكر أو إغماء، وحيض، ونفاس، ثم أضافوا إليها: ويفترض تغسيل الميت كفاية.
والأربعة عند المالكية: هي خروج المني، ومغيب الحشفة، والحيض، والنفاس.
والخمسة عند الشافعية: هي موت، وحيض، ونفاس، وولادة بلا بلل في الأصح، وجنابة بدخول حشفة أو قدرها فرجاً وبخروج مني من طريقه المعتاد وغيره.
__________
(1) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، ورواه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة، وصححه ابن السكن (نيل الأوطار: 224/1) .(1/459)
ثم قال الحنفية: عشرة أشياء لا يغتسل منها: مذي، وودي، واحتلام بلا بلل، وولادة من غير رؤية دم بعدها، في قول أبي حنيفة، والأصح كما أبان ابن عابدين وجوب الغسل لها احتياطاً، وإيلاج بخرقة ما نعة من وجود اللذة على الأصح، وحقنة، وإدخال أصبع ونحوه في أحد السبيلين، ووطء بهيمة أو ميتة من غير إنزال، وإصابة بكر لم تُزل الإصابة بكارتها من غير إنزال.
ويلاحظ أنه إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل، كالحيض والجنابة، أو التقاء الختانين والإنزال، أجزأه غسل واحد، كما تنوب عند الجمهور نية الغسل عن الوضوء لدخوله تحته، بخلاف العكس، وقال الحنابلة: لابد من نية الوضوء أيضاً.
المطلب الثالث ـ فرائض الغسل:
ثبتت فرضية الغسل بالقرآن في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] ، وقوله سبحانه: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43/4] .
صفة غسل النبي صلّى الله عليه وسلم: إن كيفية الغسل الكامل عرفت بالسنة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يُفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ (1) ، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حَفَن على رأسه ثلاث حَفَنات (2) ، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم غسل رجليه» (3) .
__________
(1) أجمع العلماء على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسياً برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأنه أعون على الغسل، وأهذب فيه (المغني: 219/1) .
(2) الحفنة: ملء الكف.
(3) متفق عليه، واللفظ لمسلم (سبل السلام:89/1) وروي مثله عن عائشة، وعن ميمونة.(1/460)
وقد أوجب العلماء في الغسل ما يأتي (1) :
1 - تعميم الجسد شعره وبشره بالماء الطهور:
هذا متفق عليه بين الفقهاء، فيجب تعميم (أو إعمام وهو الأصح) الشعر والبشرة بالماء مرة واحدة، حتى لو بقيت بقعة يسيرة لم يصبها الماء، يجب غسلها، ويجب تعهد مواطن تجاعيد البدن، كالشقوق التي في البدن أي التكاميش والسُّرة، والإبطين وكل ما غار من البدن، بصب الماء عليها، لقوله صلّى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشَّعرَ، وأنْقُوا البَشَر» (2) .
قال الحنفية: يجب غسل سائر البدن مما يمكن غسله من غير حرج كأذن وسرة وشارب وحاجب وداخل لحية وشعر رأس، وخارج فرج، ولا يجب غسل ما فيه حرج كداخل عين وداخل قُلْفة، والأصح أنه يندب عند الحنفية.
وهل يجب نقض ضفائر الشعر؟ للعلماء آراء متقاربة: قال الحنفية: يكفي بلُّ أصل الضفيرة (3) أي شعر المرأة المضفور، دفعاً للحرج، أما المنقوض، فيفرض غسله كله اتفاقاً، ولو لم يبتل أصل الضفيرة بأن كان متلبداً أو غزيراً، أو مضفوراً ضفراً شديداً لا ينفذ فيه الماء، يجب نقضها مطلقاً، على الصحيح، لكن لو ضرها غسل رأسها تركته، وقيل: تمسحه، ولا تمنع نفسها عن زوجها.
ويجب عند الحنفية غسل داخل قُلْفة، لا عسر في فسخها، كما يجب نقض ضفائر الرجل وغسل أصول الشعر مطلقاً.
__________
(1) فتح القدير:38/1 ومابعدها، الدر المختار:140/1-143، مراقي الفلاح: ص17، اللباب:20/1، الشرح الصغير:166/1-170، الشرح الكبير:133/1-135، بداية المجتهد:42/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص26، مغني المحتاج:72/1وما بعدها، المهذب:31/1 وما بعدها، المغني: 218/1-229، كشاف القناع: 173/1-177.
(2) رواه أبو داود والترمذي، وضعفاه (سبل السلام:92/1) .
(3) الضفيرة: هي الذؤابة، وهي الخصلة من الشعر، والضفر: فتل الشعر وإدخال بعضه في بعض.(1/461)
وكذلك قال المالكية: لا يجب على المغتسل نقض مضفور شعره، ما لم يشتد الضفر، حتى يمنع وصول الماء إلى البشرة، أو يضفر بخيوط كثيرة تمنع وصول الماء إلى البشرة، أو إلى باطن الشعر.
ودليل الحنفية والمالكية: حديث أم سلمة، قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة أو الحيضة؟ فقال: لا إنما يكفيك أن تَحْثي على رأسك ثلاث حَثَيات» (1) .
وقال الشافعية: يجب نقض الضفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، لكن يعفى عن باطن الشعر المعقود، ولا يجب غسل الشعر النابت في العين والأنف، وإن كان يجب غسله من النجاسة. ويجب غسل الأظفار، وما يظهر من صماخي الأذنين، وما تحت القُلْفة من الأقلف (غير المختون) ، بدليل حديث أبي هريرة المتقدم الدال على وجوب إيصال الماء إلى الشعر والبشرة. وقيدوا حديث أم سلمة بحالة وصول الماء إلى الضفائر من غير نقض.
أما الإمام أحمد ففرق بين الحيض والجنابة، وقال: تنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض والنفاس، وليس عليها نقضه من الجنابة إذا أروت أصوله، عملاً في الجنابة بحديث أم سلمة. ودليل نقضه من الحيض: ماروت عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها إذ كانت حائضاً: «خذي ماءك وسدرك وامتشطي» (2) ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور، وللبخاري: «انقضي رأسك وامتشطي» ولابن ماجه «انقضي رأسك وامتشطي» لكن قال ابن قدامة: النقض من الحيض مستحب، وهو الصحيح إن شاء الله، وهو قول أكثر الفقهاء؛ لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة: «أفأنقضه للحيض؟ قال: لا» .
والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على أن نقض الشعر للمرأة غير واجب إن وصل الماء لأصول الشعر لحديث أم سلمة المتقدم.
__________
(1) رواه مسلم، لكن لفظه: (أشد ضَفْر رأسي) بدل (شعر رأسي) (سبل السلام: 91/1) .
(2) رواه البخاري.(1/462)
وإذا بقيت لُمْعة من الجسد لم يصبها الماء، يجزئه غسلها، والصحيح عند الحنابلة أنه يجزئه مايصيبها من بلل شعره في الغسلة الثانية أو الثالثة وجرى ماؤه على تلك اللمعة، لأن غسلها بذلك البلل كغسلها بماء جديد، مع ما فيه من الأحاديث. روى أحمد عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه رأى على رجل موضعاً لم يصبه الماء، فأمره أن يعصر شعره عليه» .
أما غسل بشرة الرأس: فواجب، سواء أكان الشعر كثيفاً أم خفيفاً، وكذلك ما تحت الشعر كجلد اللحية وغيرها، لما روت أسماء: «أنها سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة، فقال: تأخذ إحداكن ماء، فتطهر، فتحسن الطهور ـ أو تبلغ الطهور ـ ثم تصب على رأسها، فتدلكه، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء» (1) .
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء، فعل الله به كذا وكذا من النار، قال علي: فمن ثم عاديت شعري، زاد أبو داود: وكان يجزّ شعره رضي الله عنه» (2) ، ولأن ما تحت الشعر بشرة أمكن إيصال الماء إليها من غير ضرر، فلزمه كسائر بشرته.
وأما غسل المسترسل من الشعر: فواجب عند الشافعية، لحديث أبي هريرة السابق «إن تحت كل شعرة جنابة» ، ولأنه نابت في محل الغسل، فوجب غسله كشعر الحاجبين وأهداب العينين.
ولا يجب عند الحنفية والمالكية، لحديث أم سلمة السابق في عدم نقض الشعر، مع إخبارها إياه بشد ضفر رأسها، ولأنه لو وجب بلُّه، لوجب نقضه ليعمه الغسل.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أبو داود وأحمد (نيل الأوطار:247/1) .(1/463)
وعند الحنابلة وجهان: كالرأيين المذكورين، أرجحهما الوجوب كالشافعية. ويعركه عند صب الماء حتى يصل إلى البشرة فلا يجب إدخال أصابعه تحته، ويعرك بها البشرة. وكذا يجب عندهم تخليل أصابع الرجلين واليدين، أما في الوضوء فيندب تخليل أصابع رجليه ويجب تخليل أصابع اليدين، ومن الفرائض عند المالكية: تخليل شعره ولو كثيفاً، سواء أكان شعر رأس أم غيره، ومعنى تخليله: أن يضمه.
2 - المضمضة والاستنشاق: أوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق، عملاً بقوله تعالى: {وإنْ كنتُمْ جُنُباً فاطَّهروا} [المائدة:6/5] ، وبحديث «ثم تفيضين عليك الماء» ففيهما طلب تطهير جميع البدن وتعميمه بالماء (1) .
وقال المالكية والشافعية: إنهما سنة في الغسل كالوضوء لحديث: «عشر من الفطرة» وذكر منها المضمضة والاستنشاق (2) .
3 - النية عند غسل أول جزء من البدن: أي نية فرض الغسل، أو رفع الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إليه، كأن ينوي استباحة الصلاة أو الطواف مما يتوقف على غسل، فإن نوى ما لا يفتقر إليه كالغسل ليوم العيد، لم يصح. ومحل النية في القلب، وتكون مقرونة بأول فرض: وهو أول ما يغسل من البدن، سواء أكان من أعلاه أم من أسفله، إذ لا ترتيب فيه.
وأوجب الجمهور (غير الحنفية) النية للغسل كالوضوء، للحديث: «إنما الأعمال بالنيات» .
والابتداء بالنية عند الحنفية سنة، ليكون فعله تقرباً يثاب عليه، كالوضوء.
أما التسمية فهي سنة عند الجمهور، فرض عند الحنابلة كالوضوء، لكنهم ذكروا أن حكمها في الجنابة أخف؛ لأن حديث التسمية إنما تناول بصريحه الوضوء لا غير.
__________
(1) وأما استدلال الحنفية بحديث في المضمضة والاستنشاق: «إنهما فرضان في الجنابة، سنَّتان في الوضوء» فهو غريب (نصب الراية:78/1) .
(2) رواه الجماعة إلا البخاري (نصب الراية:76/1) .(1/464)
4 - الدلك والموالاة والترتيب: اتفق الفقهاء على عدم إيجاب الترتيب في الغسل، فيصح البدء بأعلى الجسد أو بأسفله.
وأوجب المالكية دون غيرهم الدلك ولو بخرقة، والموالاة إن ذكر وقَدَر كالوضوء، والدلك هنا: إمرار العضو على ظاهر الجسد، يداً أو رجلاً، فيكفي دلك الرِجْل بالأخرى، ويكفي الدلك بظاهر الكف وبالساعد والعضد، بل يكفي بالخرقة عند القدرة، باليد على الراجح: بأن يمسك طرفيها بيديه، ويدلك بوسطها، أو بحبل كذلك، ويكفي ولو بعد صب الماء وانفصاله عن الجسد ما لم يجف، فإن تعذر الدلك، سقط. ويكفي تعميم الجسد بالماء كما في سائر الفرائض، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والموالاة فريضة كما في الوضوء، فإن فرق عامداً بطل إن طال، وإلا بنى (كمل) على ما فعل بنية.
ولم يوجب غير المالكية الدلك والموالاة؛ لأن الآية: {فاطهروا} [المائدة:6/5] ، والأحاد يث ليس فيها تعرض لوجوبهما.
خلاصة فرائض الغسل في المذاهب:
1 ً - مذهب الحنفية: يفترض في الغسل أحد عشر شيئاً: غسل الفم، والأنف، والبدن مرة، وداخل قُلْفة لا عسر بلا مشقة في فسخها، وسرة، وثقب غير منضم، وداخل المضفور من شعر المرأة إن سرى الماء في أصوله، وبشرة اللحية، وبشرة الشارب، والحاجب، والفرج الخارج (الظاهر) ، لكن الأصح أنه يندب غسل داخل القلفة (الجلدة التي يقطعها الخاتن) ولا يجب.
2 ً - مذهب المالكية: فرائض الغسل خمسة:
نية فرض الغسل، أو رفع الحدث، أو استباحة ممنوع، بأول مفعول، بأن ينوي بقلبه أداء فرض الغسل، أو ينوي رفع الحدث الأكبر، أو رفع الجنابة، أو ينوي استباحة ما منعه الحدث الأكبر، أو استباحة الصلاة مثلاً. وموالاة إن ذكر وقدر كالوضوء، وتعميم ظاهر الجسد بالماء، ودلك ولو بعد صبه وإن بخرقة، وتخليل شعر وأصابع رجليه ويديه.
3 ً - مذهب الشافعية: الواجب في الغسل ثلاثة أشياء:(1/465)
النية، وإزالة النجاسة إن كانت، وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته. وما زاد على ذلك سنة.
4 ً - مذهب الحنابلة: واجبات الغسل أحد عشر شيئاً:
إزالة مابه من نجاسة أو غيرها تمنع وصول الماء إلى البشرة إن وجد، والنية، والتسمية، وتعميم بدنه بالغسل حتى فمه وأنفه، فتجب المضمضة، والاستنشاق في الغسل كالوضوء، ويجب غسل ظاهر شعره وباطنه، من ذكر أو أنثى، مسترسلاً كان أو غيره، مع نقض الشعر لغسل حيض ونفاس، لا غسل جنابة إذا روَّت أصوله. ويجب غسل حشفة أقلف (غير مختون) إن أمكن تشميرها، وغسل ما تحت خاتم ونحوه، فيحركه ليتحقق وصول الماء إلى ما تحته، وغسل ما يظهر من فرج المرأة عند قعودها لقضاء حاجتها؛ لأنه في حكم الظاهر، ولا يجب غسل داخله، ولا غسل داخل عين، بل ولا يستحب ولو أمن الضرر. ولا يجب الترتيب ولا الموالاة في أعضاء الوضوء؛ لأن الغسل يجزئ عنهما، لأنهما عبادتان دخلت إحداهما في الأخرى، فسقط حكم الصغرى، كالعمرة مع الحج. ولا يجب الدلك إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده.
المطلب الرابع ـ سنن الغسل:
أوضحت كيفية غسل النبي صلّى الله عليه وسلم وهو دليل لصفة الغسل الكامل الشامل للواجب والسنة: وهو ما اجتمع فيه عشرة أشياء كما فهم الحنابلة (1) :
النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيده، وينتقل من موضع غسله، فيغسل قدميه. ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه.
__________
(1) المغني:217/1. انظر صفة الغسل الكامل عند المالكية في الشرح الكبير:137/1، القوانين الفقهية: ص26.(1/466)
وترتيب سنن الغسل التي يتحقق بها كماله على اختلاف المذاهب ما يأتي (1) :
1ً - البدء بغسل اليدين والفرج، وإزالة النجاسة إن كانت على بدنه، وينوي كما أبان الشافعية عن غسل القبل والدبر، فيقول: نويت رفع الجنابة عن هذين المكانين وما بينهما.
2ً - ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. والأولى عند الحنفية تأخير غسل رجليه إن كان المغتسل واقفاً في مكان يجتمع فيه الماء كالطَّست، ثم يتنحى عن ذلك المكان ويغسلهما، وإلا قدمه إذا كان مثلاً واقفاً على لوح أو قبقاب أو حجر. وبالوضوء تتحقق المضمضة والاستنشاق الواجبان عند الحنفية والحنابلة.
ويمسح عند المالكية صماخ أذنيه أي ثقبيهما، ولا يبالغ فإنه يضر السمع، وأما ظاهرهما وباطنهما فمن ظاهر الجسد، يجب غسله عندهم.
3ً - ثم يتعهد عند الشافعية معاطف جسده، كأن يأخذ الماء بكفه، فيجعله على المواضع التي فيها انعطاف والتواء، كالأذنين، وطبقات البطن، وداخل السرة؛ لأنه أقرب إلى الثقة بوصول الماء، ويتأكد ذلك في الأذن، فيأخذ كفاً من ماء، ويضع الأذن عليه برفق، ليصل الماء إلى معاطفه وزواياه ويتفقد تحت حلقه، وإبطيه، وحالبيه (وهما العرقان اللذان يكتنفان السرة) .
4ً - ثم يفيض الماء على رأسه ويخلله، وعلى سائر جسده، ثلاثاً، بادئاً بشقه الأيمن ثم الأيسر، لما تقدم أنه صلّى الله عليه وسلم: «كان يعجبه التيمن في طهوره» ، وتخليل شعره وتفقد أصوله لحديث «تحت كل شعرة جنابة» ويسن أن يدلُك بدنه بيديه؛ لأنه أنقى، وبه يتيقن وصول الماء إلى مغابنه وجميع بدنه، وبه يخرج من خلاف من أوجبه وهم المالكية.
ويكفي الظن في الإسباغ أي في وصول الماء إلى البشرة؛ لأن اعتبار اليقين حرج ومشقة.
__________
(1) فتح القدير:39/1 وما بعدها، الدر المختار:140/1 وما بعدها، مراقي الفلاح: ص17، اللباب:21/1، الشرح الكبير:135/1-137، الشرح الصغير:170/1، القوانين الفقهية: ص26، المهذب:73، مغني المحتاج:73/1 وما بعدها، المغني:217/1، كشاف القناع:173/1-176.(1/467)
قال الحنفية: ولو انغمس في الماء الجاري أو ما في حكمه ومكث، فقد أكمل السنة.
وقال المالكية: يجزئ غسل الجنابة عن غسل الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر ولو لم ينو الأصغر إذا لم يحصل له ناقض من مس ذكر أو غيره، وكذلك قال الشافعية على المذهب: يكفي الغسل، سواء أنوى الوضوء معه أم لا.
وقال الحنابلة: يجزئ الغسل عن الوضوء بعد أن يتمضمض ويستنشق وينوي به الغسل والوضوء، وكان تاركاً للأفضل والأولى.
وتسن عند غير المالكية الموالاة في الغسل عند غسل جميع أجزاء البدن، لفعله صلّى الله عليه وسلم. وعند المالكية: هي فرض.
كما يسن الترتيب بالبداءة بالرأس، ثم بالمنكب الأيمن، ثم الأيسر. ولا يجب الترتيب بالاتفاق؛ لأن البدن شيء واحد، بخلاف أعضاء الوضوء، وبناء عليه لو ترك لمعة في الجسد أو محل جبيرة أعاد غسلها فقط دون ما بعدها.
أما نقض الضفائر فلا يجب عند المالكية ما لم يشتد، ولا يجب في الجنابة ويجب في الحيض في رأي الحنابلة، ولا يجب للمرأة إن سرى الماء في أصوله، ويجب للرجل مطلقاً عند الحنفية. ويجب النقض لدى الشافعية إن لم يصل الماء إلى باطن الشعر، كما أبنت قريباً. وفي الجملة يسن نقض الضفائر لحديث عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضاً: «انقضي شعرك واغتسلي» (1) .
ويسن عند الحنابلة سدر، أي صابون في غسل كافر أسلم، لحديث قيس بن عاصم السابق: «أنه أسلم، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» (2) ، ويسن له إزالة شعره، فيحلق رأسه، إن كان رجلاً، ويأخذ عانته وإبطيه مطلقاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر، واختتن» (3) ويختتن الكافر إذا أسلم وجوباً بشرط كونه مكلفاً، وألا يخاف على نفسه منه.
__________
(1) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح (نيل الأوطار:249/1) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسَّنه.
(3) رواه أبو داود.(1/468)
ويسن عند الحنابلة أيضاً سدر في غسل حيض ونفاس، لحديث عائشة المتقدم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: «وإذا كنت حائضاً، خذي ماءك وسدرك وامتشطي» (1) وروت أسماء أنها «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن غسل الحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتطهر» (2) .
ويسن عند الشافعية والحنابلة: أن تتبع المرأة غير المحرمة بنسك، أو المحدّة (المعتدة) (3) أثر دم الحيض والنفاس مِسْكاً أو طيباً، أو ماء، فتجعله في قطنة أو غيرها كخرقة، وتدخله فرجها بعد غسلها، ليقطع رائحة الحيض أو النفاس، لما روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «أن امرأة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل عن الحيض، فقال: خذي فِرْصة (4) من مسك، فتطهري بها، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: سبحان الله، واستتر بثوبه، تطهري بها، فاجتذبتها عائشة، فعرفتها أنها تتبع بها أثر الدم» ويكره تركه بلا عذر.
ولا يسن تجديد الغسل؛ لأنه لم ينقل فيه شيء، ولما فيه من المشقة، بخلاف الوضوء فيسن تجديده إذا صلى بالأول صلاة ما.
مقدار ماء الغسل والوضوء: ويسن عند الشافعية والحنابلة: ألا ينقص ماء الوضوء عن مُدّ تقريباً: وهو رطل وثلث بغدادي، ويساوي (675) غم، وألا ينقص ماء الغسل عن صاع تقريباً، وهو أربعة أمداد، ويساوي (2175) غم، لحديث مسلم عن سُفَينة: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يغسله الصاع، ويوضئه المد» (5) .
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
(3) أما المحرمة فيحرم عليها الطيب بأنواعه، وأما المحدّة: فلا تتطيب في فترة العدة.
(4) الفرصة: بكسر الفاء: قطعة من صوف أو قطن أو خرقة. والرواية «خذي فرصة ممسَّكة فتطهري بها» أي مطيبة بالمسك.
(5) ورواه أيضاً أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وروي في معناه أحاديث كثيرة (نيل الأوطار:250/1 وما بعدها) .(1/469)
ولاحدّ لأقل ماء الوضوء والغسل، فلو نقص عن ذلك وأسبغ كفى، روى أبو داود والنسائي: «أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مدّ» ولأن الله تعالى أمر بالغسل، وقد فعله، ولم يكره، والإسباغ في الوضوء والغسل: تعميم العضو بالماء، بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحاً، لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم..} [المائدة:6/5] ، والمسح ليس غسلاً. فإن مسح العضو بالماء، أو أمرَّ الثلج عليه، لم تحصل الطهارة به؛ لأن ذلك مسح لا غسل، إلا أن يكون الثلج خفيفاً فيذوب، ويجري على العضو، فيجزئ، لحصول الغسل المطلوب. وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل جاز، بدليل قول عائشة: «كنت أغتسل أنا والنبي صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال: الفَرَق» (1) والفرق ستة عشر رطلاً عراقياً.
وقال الحنفية والمالكية: لا تقدير للماء الذي يتطهر به في الغسل والوضوء لاختلاف أحوال الناس، ويراعي المغتسل حالاً وسطاً من غير إسراف ولا تقتير.
آداب الغسل: فرق المالكية والحنفية بين سنن الغسل وآدابه أو فضائله.
فقال المالكية (2) : سننه خمس: وهي غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، والمضمضة والاستنشاق، ومسح داخل الأذنين، وتخليل أصول شعر الرأس بإدخال الأصابع تحته. أما تخليل الشعر بدون إدخال الأصابع تحته فهو أحد فرائض الغسل عندهم كما أبنت.
وقد أوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق. وأوجب الشافعية تخليل شعر الرأس.
وفضائله خمس: التسمية، والغرف على الرأس ثلاثاً، وتقديم الوضوء، والبداءة بإزالة الأذى قبل الوضوء، والبدء بالأعالي والميامن.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار:251/1) .
(2) القوانين الفقهية: ص26، الشرح الصغير:170/1 وما بعدها.(1/470)
وقال الحنفية (1) : يسن في الاغتسال اثنا عشر شيئاً، الابتداء بالتسمية، والنية، وغسل اليدين إلى الرسغين، وغسل نجاسة لو كانت بانفرادها، وغسل فرجه، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، فيثلث الغسل ويمسح الرأس، ولكنه يؤخر غسل الرجلين إن كان يقف في محل يجتمع فيه الماء، ثم يفيض الماء على بدنه
ثلاثاً، ويبتدئ في صب الماء برأسه، ويغسل بعدها منكبه الأيمن، ثم الأيسر، ويدلك جسده.
وآداب الاغتسال: هي آداب الوضوء، إلا أنه لا يستقبل القبلة؛ لأنه يكون غالباً مع كشف العورة.
المطلب الخامس ـ مكروهات الغسل:
قال الحنفية (2) : كره في الغسل ما كره في الوضوء وهي ستة أشياء: الإسراف في الماء، والتقتير فيه، وضرب الوجه به، والتكلم بكلام الناس، والاستعانة بغيره من غير عذر. ويزاد فيه كراهة الدعاء. أما في الوضوء، فيندب الدعاء بالمأثور والتسمية عند كل عضو، كما بينت.
وقال المالكية (3) : مكروهات الغسل خمسة: هي الإكثار من صب الماء، والتنكيس في عمله، وتكرار غسل الجسد إذا أوعب، والاغتسال في الخلاء، والكلام بغير ذكر الله.
وقال الشافعية (4) : يكره الإسراف في الصب والغسل، والوضوء والاغتسال في الماء الراكد، والزيادة على الثلاث، وترك المضمضة والاستنشاق، ويكره للجنب ومنقطعة الحيض والنفاس: الأكل والشرب والنوم والجماع قبل غسل الفرج والوضوء.
وقال الحنابلة (5) : يكره الإسراف في الماء ولو على نهرٍ جارٍ، لحديث ابن
__________
(1) مراقي الفلاح: ص17.
(2) المرجع السابق: ص18.
(3) القوانين الفقهية: ص26.
(4) الحضرمية: ص21 وما بعدها.
(5) كشاف القناع:179/1 وما بعدها، المغني: 229/1.(1/471)
عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ على سعد، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا الإسراف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهرٍ جار» (1) .
ويكره لمن توضأ قبل غسله إعادة الوضوء بعد الغسل، لحديث عائشة، قالت: «كان صلّى الله عليه وسلم لايتوضأ بعد الغسل» إلا أن ينتقض وضوءه بمس فرجه أو غيره، كمس امرأة لشهوة، أو بخروج خارج، فيجب عليه إعادته للصلاة ونحوها.
ويكره للجنب ومنقطعة دم الحيض والنفاس ترك الوضوء لنوم فقط، ولا يكره تركه لأكل وشرب ومعاودة وطء، وإنما يستحب لهما الوضوء. بدليل ما روى ابن عمر أن عمر قال: «يا رسول الله، أيرقد أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ فليرقد» وعن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة» (2) . وأما استحباب الوضوء للأكل والشرب، فلما روت عائشة قالت: «رخص النبي صلّى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أن يتوضأ وضوءه للصلاة» (3) .
وأما كون الوضوء يستحب لمعاودة الوطء، فلحديث أبي سعيد، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعاود، فليتوضأ بينهما وضوءاً» (4) وزاد الحاكم: «فإنه أنشط للعود» لكن الغسل لمعاودة الوطء أفضل من الوضوء؛ لأنه أنشط.
ولا يكره عند الحنابلة للجنب أو الحائض والنفساء أن يأخذ شيئاً من شعره وأظفاره، ولا أن يختضب قبل الغسل، نصاً.
__________
(1) رواه ابن ماجه.
(2) متفق عليهما.
(3) رواه أحمد بإسناد صحيح.
(4) رواه مسلم وابن خزيمة والحاكم (سبل السلام:89/1) .(1/472)
وقال الغزالي في الإحياء: لا ينبغي أن يقلم أو يحلق أو يستحد (يحلق العانة) أو يخرج دماً أو يبين من نفسه جزءاً وهو جنب، إذ يرد إليه سائر أجزائه في الآخرة، فيعود جنباً، ويقال: إن كل شعرة تطالب بجنابتها (1) .
المطلب السادس: ما يحرم على الجنب ونحوه:
يحرم على الجنب والحائض والنفساء ما يحرم على المحدث حدثاً أصغر: من صلاة وطواف ومس مصحف أو جزئه، كما يحرم على الجنب قراءة القرآن ودخول المسجد، وتعرف الأحكام من التفصيل التالي (2) :
1 ً - الصلاة ومثلها سجود التلاوة: تحرم على الجنب ونحوه إجماعاً، لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] .
2 ً - الطواف حول الكعبة: ولو نفلاً؛ لأنه صلاة كما في الحديث المتقدم: «إنما الطواف بالبيت صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام» (3) .
3 ً - مس القرآن، لقوله تعالى: {لايمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/56] أي (المتطهرون) ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايمس القرآن إلا طاهر» (4) .
__________
(1) مغني المحتاج:75/1.
(2) الدر المختار:158/1-161، الشرح الكبير:138/1 وما بعدها،172-174، الشرح الصغير:176/1،215، القوانين الفقهية: ص59 وما بعدها، بداية المجتهد:46/1وما بعدها، المهذب:30/1، مغني المحتاج:71/1 وما بعدها، كشاف القناع:168/1-170، فتح القدير:114/1-116.
(3) رواه أحمد والنسائي والترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وهو صحيح (نيل الأوطار:207/1) .
(4) رواه النسائي وأبو داود في المراسيل عن عمرو بن حزم، وفيه متروك، ورواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر، وفيه مختلف فيه، ورواه الحاكم وقال حديث صحيح الإسناد عن حكيم بن حزام، ورواه الطبراني عن عثمان بن أبي العاص، ورواه علي بن عبد العزيز عن ثوبان، وإسناده في غاية الضعف (نصب الراية:196/1-199) .(1/473)
وهذه الأمور الثلاثة تحرم على المحدث حدثاً أكبر أو أصغر، ويزاد عليها للجنب ونحوه أيضاً:4ً - تلاوة القرآن للمسلم بلسانه، ولو لحرف، أو ولو دون آية على المختار عند الحنفية، والشافعية، بقصد القراءة: فلو قصد الدعاء أو الثناء أو افتتاح أمر، أو التعليم، أو الاستعاذة، أو الأذكار، فلا يحرم، كقوله عند الركو ب: {سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين} [الزخرف:13/43] أي مطيقين، وعند النزول: {وقل: ربِّ أنزلني منزلاً مباركاً} [المؤمنون:29/23] . وعند المصيبة: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156/2] .
كما لا يحرم إذا جرى القرآن على لسانه بلا قصد، فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر، حرم.
ولا تحرم البسملة والحمد لله والفاتحة وآية الكرسي وسورة الإخلاص بقصد الذكر: أي ذكر الله تعالى، لما روى مسلم عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه» .
والمحرَّم بالجنابة: التلاوة لفظاً من الناطق، وإشارةٍ من الأخرس؛ لأنها بمنزلة النطق، ولو كان المتلو بعض آية، كحرف، للإخلال بالتعظيم.
ودليل التحريم: حديث ابن عمر عند الترمذي وأبي داود: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن» (1) ، وحديث علي: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جنباً» (2) .
وأجاز الحنابلة للجنب: قراءة بعض آية، ولو كرره، لأنه لا إعجاز فيه، ما لم تكن طويلة. كما أجازوا له مع الحنفية تهجية القرآن؛ لأنه ليس بقراءة له، وله قراءة لا تجزئ في الصلاة لإسرارها، وله أن ينظر في المصحف من غير تلاوة، وأن يقرأ عليه وهو ساكت؛ لأنه في هذه الحالة لا ينسب إلى القراءة.
__________
(1) ذكره النووي في المجموع وضعفه، لكن له متابعات تجبر ضعفه.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً باقي أصحاب السنن الأربعة (سبل السلام:88/1) .(1/474)
وضبط المالكية ما يجوز للجنب من القراءة اليسيرة: بأنها ما الشأن أن يتعوذ به كآية الكرسي، والإخلاص والمعوذتين، أو لأجل رقيا للنفس أو للغير من ألم أو عين، أو لأجل استدلال على حكم نحو: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/2] .
والمعتمد عند المالكية: أنه لا يحرم قراءة القرآن القليلة على الحائض والنفساء حال استرسال الدم عليها، سواء أكانت جنباً أم لا، إلا بعد انقطاعه وقبل غسلها، فلا تقرأ بعد انقطاعه مطلقاً حتى تغتسل. ودليلهم الاستحسان لطول مقامها حائضاً.
واتفق الفقهاء على أنه لا يحرم النظر في القرآن لجنب وحائض ونفساء؛ لأن الجنابة لا تحل العين الناظرة.
5 ً - الاعتكاف في المسجد إجماعاً، ودخول المسجد مطلقاً ولو عبوراً أو مجتازاً، عند الحنفية والمالكية، لما أخرجه أبو داود وغيره عن عائشة، قالت: «جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبيوت الصحابة شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (1) ولحديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته: إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب» (2) .
__________
(1) رواه ابن ماجه أيضاً، وفي إسناده مختلف فيه، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وقال: ضعفوا هذا الحديث.
(2) رواه البيهقي وابن ماجه، وقال البيهقي: صحيح.(1/475)
والمراد بعابري سبيل في الآية: المسافرون، فالمسافر مستثنى من النهي عن الصلاة بلا اغتسال، وبينت الآية أن حكمه التيمم، واكتفى الشافعية والحنابلة بالنسبة للجنب ونحوه (1) بتحريم المكث في المسجد أو التردد فيه لغير عذر، وأباحوا له عبور المسجد، ولو لغير حاجة، لقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ماتقولون، ولا جنباً إلا عابري سبيل} [النساء:43/4] وهو الطريق. وروي سعيد بن منصور عن جابر، قال: «كان أحدنا يمر في المسجد جنباً مجتازاً» وروى أيضاً عن زيد بن أسلم قال: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب» .
لكن إباحة عبور المسجد للحائض والنفساء مقيد بما إذا أمنت تلويثه، فإن خافت تلويثه منعت وحرم عليها الدخول فيه، كالمكث فيه.
المطلب السابع ـ الأغسال المسنونة:
الغسل قد يكون واجباً: كالغسل من الجنابة والحيض والنفاس، واعتناق الإسلام عند المالكية والحنابلة.
وقد يكون سنة، وقد يكون مندوباً أو مستحباً عند الحنفية والمالكية.
__________
(1) قال الشافعية: التحريم للجنب المسلم غير النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه لا يحرم عليه. أما الكافر فإنه يمكن من المكث في المسجد على الأصح؛ لأنه لا يعتقد حرمة ذلك، لكن لا يمكَّن الكافر ولو غير جنب دخول المسجد، إلا لحاجة كإسلام وسماع قرآن، لا كأكل وشرب، وبشرط أن يأذن له مسلم في الدخول، إلا أن تكون له خصومة، وكان القاضي في المسجد (مغني المحتاج:71/1) .(1/476)
والأغسال المسنونة هي مايأتي (1) :
1 ً - الغسل لصلاة الجمعة: لأحاديث متعددة، منها حديث أبي سعيد مرفوعاً: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (2) والإيجاب محمول على أنه مسنون مؤكد الاستحباب، لأحاديث أخرى: وهي حديث سمرة: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» (3) وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت» (4) .
والغسل مسنون لحاضر الجمعة في يومها بدءاً من طلوع الفجر إلى الزوال، ويشترط عند المالكية اتصاله بالرواح إلى المسجد لحديث رواه الجماعة عن ابن عمر: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» وهذا الغسل عند المالكية والصحيح عند الحنفية للصلاة. وعند غيرهم: الغسل ليوم الجمعة. وتظهر ثمرة الخلاف فيمن اغتسل يوم الجمعة ثم أحدث، فتوضأ وصلى الجمعة، لم تحصل له السنة عند الأولين، وتحصل له عند الآخرين. ولا يعتبر الغسل بعد صلاة الجمعة إجماعاً.
ومن اغتسل لجنابة أو نحوها كحيض، مع غسل جمعة أو عيد، أجزأه الغسل عنهما إذا نوى الجنابة وأتبعها الجمعة باتفاق المذاهب، كما لو نوى الفرض وتحية المسجد عند الشافعية، وكما اغتسل لفرضي جنابة وحيض اتفاقاً.
وهو آكد الأغسال المسنونة للأحاديث المتقدمة، ولا يستحب للنساء.
__________
(1) فتح القدير:44/1 وما بعدها، الدر المختار:156/1-158، اللباب:23/1، مراقي الفلاح: ص18، القوانين الفقهية: ص25 وما بعدها، كشاف القناع: 171/1-173، الشرح الصغير:503/1 وما بعدها.
(2) أخرجه السابعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) .
(3) رواه الجماعة، وإسناده جيد، وعن أبي هريرة: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده» متفق عليه.
(4) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة، ورواه أحمد والبيهقي، وفي إسناده راوٍ فيه مقال (انظر الأحاديث في سبل السلام:86/1 وما بعدها، نيل الأوطار:231/1-236) .(1/477)
2 ً - الغسل لصلاة العيدين: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل لذلك (1) ، لكن قال الشوكاني: الحديث استدل به على أن غسل العيد مسنون، وليس في الباب ما ينتهض لإثبات حكم شرعي.
ولأنها صلاة شرعت لها الجماعة، فأشبهت الجمعة.
ويكون في يوم العيد لحاضره إن صلى العيد، ولو صلى وحده إن صحت صلاة المنفرد، بأن صلى بعد صلاة العدد المعتبر، فلا يجزئ قبل طلوع الفجر.
3 ً - للإحرام بالحج أو بالعمرة، ولوقوف عرفة بعد الزوال ولدخول مكة ومبيت مزدلفة وطواف زيارة وطواف وداع: أما الإحرام فلما روى زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلم «تجرد لإهلاله واغتسل» (2) وظاهره ولو مع حيض ونفاس، بدليل أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس به حينما ولدت محمد بن أبي بكر (3) .
وأما لدخول مكة ولو مع حيض: فلفعله صلّى الله عليه وسلم (4) ، وظاهره ولو كان في منطقة الحرم، كالذي بمنى، إذا أراد دخول مكة. ويندب الغسل أيضاً لدخول المدينة تعظيماً لحرمتها، وقدومه على حضرة النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) عن الفاكه بن سعد، وكان له صحبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر» رواه عبد الله بن أحمد في المسند، وابن ماجه ولم يذكر الجمعة، وهو ضعيف (نيل الأوطار:236/1) .
(2) رواه الترمذي وحسنه (نيل الأوطار:239/1) .
(3) رواه مسلم من حديث عائشة، ورواه أيضاً ابن ماجه وأبو داود (نيل الأوطار:240/1) .
(4) متفق عليه (نيل الأوطار:240/1) . .(1/478)
وأما لوقوف عرفة، فلثبوته في السنة (1) .
وأما الغسل لمبيت مزدلفة ورمي الجمار في منى وطواف الزيارة والوداع، فلأنها أنساك يجتمع لها الناس، فيعرقون، فيؤذي بعضهم بعضاً، فاستحب الغسل لها كالجمعة دفعاً للروائح وللتنظيف
وقال المالكية: الغسل للطواف والسعي وللوقوف بعرفة والمزدلفة مستحب، أما للإحرام ولدخول مكة فهو سنة. وقال الحنفية: الغسل للإحرام ولدخول عرفة سنة، أما للوقوف بالمزدلفة وعند دخول مكة فهو مندوب.
4 ً - لصلاة الكسوف (للشمس) والخسوف (للقمر) والاستسقاء: لأنها عبادة يجتمع لها الناس، فأشبهت الجمعة والعيدين.
وقال الحنفية: إنه مندوب فقط.
5 ً - لغسل الميت، المسلم أو الكافر: وهو مستحب عند المالكية والشافعية والحنابلة، لقولهصلّى الله عليه وسلم: «من غسل مىِّتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (2) وهو محمول على الندب لحديث «إن ميِّتكم يموت طاهراً؛ فحسبكم أن تغسلوا أيديكم» (3) ، ولحديث: «كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل» (4) .
وقال الحنفية: لا يجب، لحديث «لا غسل عليكم من غسل الميت» (5) وقال ابن عطاء: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاًَ» (6) لكن قالوا: يندب الغسل خروجاً من خلاف من ألزم به.
لكن قال الشوكاني: القول بالاستحباب هو الحق، لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن. وبه يتبين أن طلب الغسل غير لازم لغسل الميت، مندوب إليه في المذاهب الأربعة.
6 ً - للمستحاضة: يسن الغسل عند الشافعية والحنابلة للمستحاضة لكل صلاة، وقال المالكية: إنه مستحب، وقال الحنفية: يندب لها إذا انقطع دمها.
ودليل ندب الغسل: «أن أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل عند كل صلاة» (7) وفي غير الصحيح: «أنه أمرها به لكل صلاة» .
__________
(1) رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، ورواه الشافعي عن علي، ورواه ابن ماجه مرفوعاً.
(2) رواه الخمسة، وقال أبو داود: هذا منسوخ. ورجح البخاري والبيهقي أنه موقوف (نيل الأوطار:237/1) .
(3) أخرجه البيهقي وحسنه ابن حجر.
(4) أخرجه الخطيب من حديث عمر، وصحح ابن حجر إسناده.
(5) رواه الدارقطني والحاكم مرفوعاً من حديث ابن عباس، وصحح البيهقي وقفه، وقال: لا يصح رفعه.
(6) إسناده صحيح، وقد روي مرفوعاً، أخرجه الدارقطني والحاكم، وورد أيضاً مرفوعاً من حديث ابن عباس: «لا تنجسوا موتاكم» أي لا تقولوا هم نجس (نيل الأوطار:238/1) .
(7) متفق عليه.(1/479)
وعن عائشة: أن زينب بنت جحش استحيضت، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: «اغتسلي لكل صلاة» (1) .
ويجوز الاقتصار على غسل واحد لما يجوز جمعه بين الصلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، لحديث عائشة: أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جَهَدَها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بغسل، والصبح بغسل» (2) .
7 ً - للإفاقة من جنون أو إغماء أو سكر: يندب الغسل لمن أفاق من جنون ونحوه، قال ابن المنذر: «ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء» (3) .
8 ً - عند حجامة، وفي ليلة براءة، وليلة قدر إذا رآها: يندب عند الحنفية الغسل من الحجامة خروجاً من خلاف من ألزمه.
وفي ليلة براءة: وهي ليلة النصف من شعبان، لإحيائها وعظم شأنها؛ إذ فيها تقسم الأرزاق والآجال. وفي ليلة القدر إذا رآها، لإحيائها.
وفي حال فزع من مخوف، التجاء إلى الله، وكرمه، لكشف الكرب عنه.
وفزع من ظلمة وريح شديدة؛ لأن الله تعالى أهلك به من طغى، كقوم عاد.
ويندب الغسل للتائب من ذنب، وللقادم من سفر، ولمن أصابته نجاسة وخفي مكانها، فيغسل جميع بدنه وجميع ثوبه احتياطاَ.
ملحقان بالغسل:
الملحق الأول ـ في أحكام المساجد:
المساجد أفضل بقاع الأرض، وأفضل المساجد ثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، وأفضل الثلاثة عند الجمهور مسجد
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه، وحسن المنذري بعض طرقه (نيل الأوطار:241/1) .
(2) رواه أحمد وأبو داود، قال ابن حجر: قد قيل: إن ابن إسحاق وهم فيه (نيل الأوطار:242/1) .
(3) متفق عليه من حديث عائشة (نيل الأوطار:343/1) .(1/480)
مكة، وعند مالك مسجد المدينة , كما أن مالكا فضل المدينة على مكة خلافا للجمهور. وقال الحنفية: مسجد استاذ للعلوم أفضل اتفاقا, ومسجد الحي أفضل من الجامع.
وقد ذكر الإمام النووي (المتوفى سنة 676 للهجرة) ثلاثة وثلاثين حكما للمساجد وهي ما يأتي (1) :
1ً -يحرم على الجنب والحائض والنفساء دخول المساجد , وأباح الشافعية المرور من غير مكث , ولا كراهة فيه , سواء أكان لحاجة أو لغيرها , لكن الأولى ألا يعبر إلا لحاجة , ليخرج من خلاف الحنفية والمالكية. كما أبنت فيما يحرم على الجنب ونحوه. ويكره تحريما عند الحنفية اتخاذ المسجد طريقاً بغير عذر، وقال المالكية: يكره كثرة المرور في المسجد إن كان بناء المسجد سابقاً على الطريق، وإلا فلا كراهة.
2ً - لو احتلم في المسجد، وجب عليه الخروج منه، إلا أن يعجز عن الخروج لإغلاق المسجد ونحوه، أو خاف على نفسه أو ماله، فإن عجز أو خاف، جاز أن يقيم للضرورة.
ولا يتيمم بتراب المسجد فيحرم ذلك، فإن خالف وتيمم صح. ولو أجنب وهو خارج المسجد، والماء في المسجد، لم يجز أن يدخل ويغتسل في المسجد؛ لأنه يلبث لحظة مع الجنابة.
ولو دخل للاستسقاء، لا يجوز أن يقف إلا قدر حاجة الاستسقاء.
3ً - يجوز للمحدث الجلوس في المسجد بإجماع المسلمين، سواء لغرض شرعي كاعتكاف أو سماع قرآن أو علم آخر، أم لغير غرض، ولا كراهة في ذلك.
__________
(1) المجموع:187/2-196،33/4، وانظر إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي المتوفى (سنة 794 هـ) وبخاصة: ص301-407 حيث ذكر137 حكماً للمساجد، طبع أبي ظبي، القوانين الفقهية: ص49، المغني: 243/2، الدر المختار ورد المحتار:614/1-619، كشاف القناع: 424/2-436.(1/481)
4ً - يجوز النوم في المسجد، ولا كراهة فيه عند الشافعية، لفعل ابن عمر في الصحيحين، وكان أصحاب الصُفَّة (1) ينامون في المسجد، ونام العرنيون في المسجد، ونام علي وصفوان بن أمية فيه، ونام غيرهم.
وقال مالك: لابأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر.
وقال الحنفية: يكره النوم في المسجد إلا للغريب والمعتكف.
وقال أحمد وإسحاق: إن كان مسافراً أو شبهه، فلا بأس، وإن اتخذه مبيتاً أو مقيلاً، فلا.
وقال المالكية (2) : يمنع دخول الكافر المسجد وإن أذن له مسلم إلا لضرورة عمل، ومنها قلة أجرته عن المسلم في عمل ما، وإتقانه العمل على الظاهر.
وأجاز أبو حنيفة لكافر دخول كل مسجد.
ويجوز عند الشافعية للكافر دخول المسجد غير المسجد الحرام وحرم مكة، وله أن يبيت فيه، ولو كان جنباً في الأصح، ولكن بإذن المسلمين.
5ً - يجوز الوضوء في المسجد إذا لم يؤذ بمائه، والأولى أن يكون في إناء. قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد، إلا أن يَبُلَّه، ويتأذى به الناس، فإنه يكره.
وقال مالك وأبو حنيفة: يكره الوضوء، تنزيهاً للمسجد، واستثنى الحنفية: ماأعد للوضوء فلا يكره فيه.
6ً - لا بأس بالأكل والشرب ووضع المائدة في المسجد، وغسل اليد فيه. وقال الحنفية: يكره تنزيهاً أكل ما ليست له رائحة كريهة، وقال المالكية: يجوز للغرباء الأكل في المساجد ما لم يقذر، وكذلك قال الحنابلة: يباح الأكل بشرط ألا يلوثه.
__________
(1) أهل الصفة: جماعة من فقراء المهاجرين كانوا يقيمون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت صُفَّته، أي ظلته.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير:178/1.(1/482)
7ً - يكره لمن أكل ثوماً، أو بصلاً، أو كُرَّاثاً، أو غيرها مما له رائحة كريهة، وبقيت رائحته، أن يدخل المسجد من غير ضرورة، لحديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا» أو «مساجدنا» (1) ، وحديث أنس: «من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنا، ولا يصلين معنا» (2) ، وحديث جابر: «من أكل ثوماً، أو بصلاً، فليعتزلنا، أو فليعتزل مساجدنا» (3) .
وقال الحنفية: يكره ذلك تحريماً، وقال المالكية: يحرم ذلك.
8ً - يكره البصاق في المسجد، لما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» .
9ً - يحرم البول والفصد والحجامة في المسجد في غير إناء. ويكره الفصد والحجامة فيه في إناء. ولا يحرم. وقال الحنفية: يكره تحريماً البول والتغوط والوطء في المسجد؛ لأنه مسجد إلى عنان السماء، ويكره إدخال نجاسة إلى المسجد، فلا يجوز الاستصباح فيه بدهن نجس، ولا تطيينه بنجس ولا الفصدفيه.
وقال الشافعية: يحرم إدخال النجاسة إلى المسجد. أما من على بدنه نجاسة أو به جرح: فإن خاف تلويث المسجد، حرم عليه دخوله، وإن أمن لم يحرم. ولا يجوز البناء ولا التجصص بالنجس، ويكره ذلك تحريماً عند الحنفية. ويحرم الاستصباح فيه بالزيت والدهن المتنجس.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، ورواية مسلم: «مساجدنا» .
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم، وروى مسلم حديثاً عن عمر بن الخطاب في معنى المذكورات. هذا ولا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد، لكن الأولى اجتنابه، لرواية مسلم من حديث جابر السابق: «من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» والكراث: بقل (نيل الأوطار: 154/2) .(1/483)
ودليل حرمة هذه المسائل حديث أنس عند مسلم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله، وقراءة القرآن» .
10ً - يكره غرس الشجر في المسجد، ويكره حفر البئر؛ لأنه بناء في مال غيره، وللإمام قلع ما غرس فيه، وقال الحنفية: يكره غرس الأشجار في المسجد إلا لنفع، كتقليل نَزّ (ما يتحلب من الأرض من الماء) .
11ً - تكره الخصومة في المسجد، ورفع الصوت فيه، ونشد الضالة، والبيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، لحديث أبي هريرة عند مسلم وأحمد وابن ماجه: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» وفي رواية الترمذي: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة، فقولوا: لا ردها الله عليك» (1) .
كذلك يكره البيع والشراء عند الحنفية والمالكية، ويحرم عند الحنابلة، وإن وقع فهو باطل. ويكره رفع الصوت بالذكر إن شوش على المصلين عند الحنفية والحنابلة إلا للمتفقهة، كما يكره عندهم الكلام غير المباح، فإن كان مما يباح فلا يكره إن لم يشوش على المصلين. وقال المالكية: يكره رفع الصوت في المسجد مطلقاً ولو بالذكر والعلم.
__________
(1) قال الترمذي: حديث حسن. وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر» قال الترمذي: حديث حسن.
(1) رواه أبو داود بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.(1/484)
لكن لا بأس عند الشافعية أن يعطى السائل في المسجد شيئاً، لحديث: «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه» (1) وكره الشافعي السؤال في المسجد، وكذلك كرهه المالكية والحنابلة، ولكن يجوز الإعطاء، وقال الحنفية: يحرم السؤال في المسجد، ويكره إعطاء السائل فيه شيئاً.
12ً - يكره إدخال البهائم والمجانين، والصبيان الذين لايميزون المسجد؛ لأنه لا يؤمن من تلويثهم إياه، ولا يحرم ذلك؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلى حاملاً أمامة بنت زينب رضي الله عنهما، وطاف على بعيره. ولا ينفي هذا الكراهة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، فيكون حينئذ أفضل في حقه، فإن البيان واجب. وهذا الحكم هو المقرر أيضاً عند الحنابلة إلا أنهم أجازوا إدخال المجانين في المساجد لحاجة كتعليم الكتابة. ومنع المالكية والحنفية من إدخال الصبيان والمجانين المساجد، وهو مكروه، ويرخص للنساء الصلاة في المساجد إذا أمن الفساد، ويكره للشابة الخروج إليه.
13ً - يكره أن يجعل المسجد مقعداً لحرفة، كالخياطة ونحوها، لحديث أنس السابق في حكم المسألة التاسعة. أما من ينسخ فيه شيئاً من العلم، أو اتفق قعوده فيه، فخاط ثوباً، ولم يجعله مقعداً للخياطة، فلا بأس به.
14ً - يجوز الاستلقاء في المسجد على القفا، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، وتشبيك الأصابع ونحو ذلك، ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك كله.
15ً - يستحب عقد حلق العلم في المساجد، وذكر المواعظ والرقائق ونحوها، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة.
__________
(1) رواه ابو داود باسناد جيد عن عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنهما.(1/485)
ويجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد، وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات، وإن حصل فيه ضحك ونحوه ما دام مباحاً، لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وقال: وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم (1) .»
16ً - لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحاً للنبوة أو الإسلام، أو كان حكمة، أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد، أو نحو ذلك من أنواع الخير، بدليل حديث سعيد بن المسيب قال: مر عمر بن الخطاب، وحسان ينشد الشعر، فلحظ إليه، فقال: أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله، أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس» ؟ قال: نعم (2) .
أما ما فيه شيء مذموم كهجو مسلم أو صفة الخمر، أو ذكر النساء أو المُرْد، أو مدح ظالم، أو افتخار منهي عنه، أو غير ذلك، فحرام لحديث أنس السابق في المسألة التاسعة، ولحديث آخر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد» (3) وهذا التفصيل هو الحكم المقرر لدى المذاهب الأخرى.
17ً - يسن كنس المسجد وتنظيفه وإزالة ما يرى فيه من نخامة أو بصاق، أو نحو ذلك، ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى بصاقاً في المسجد، فحكه بيده. وروى أبو داود عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي، حتى القَذاةُ يخرجها الرجل من المسجد» والقذاة: الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك.
18ً - من البدع المنكرة إيقاد القناديل الكثيرة في ليال معينة كليلة نصف شعبان، مضاهاة للمجوس في الاعتناء بالنار، وإضاعة للمال.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) حديث حسن رواه النسائي بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(1/486)
19ً - السنة لمن دخل المسجد ومعه سلاح: أن يمسك على حَدِّه، كنصل السهم وسنان الرمح ونحوه، لحديث جابر رضي الله عنه: أن رجلاً مر بسهام في المسجد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمسك بنصالها» (1) .
20ً - السنة للقادم من سفر: أن يبدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى ركعتين» (2) .
21ً - ينبغي للجالس في المسجد لانتظار صلاة، أو اشتغال بعلم، أو لشغل آخر من طاعة أو مباح: أن ينوي الاعتكاف، فإنه يصح، وإن قل زمانه.
22ً - لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة، لصيانته أو لحفظ آلاته. فإذا لم يخف من فتحها مفسدة ولا انتهاك حرمتها، وكان في فتحها رفق بالناس، فالسنة فتحها، كما لم يغلق مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في زمنه ولا بعده.
23ً - يكره لداخل المسجد: أن يجلس فيه، حتى يصلي ركعتين.
24ً- ينبغي للقاضي ألا يتخذ المسجد مجلساً للقضاء، إلا ما يقع فيه صدفة، فيقضى فيه.
25ً- يكره أن يتخذ على القبر مسجد، لحديث صحيح: «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (3) .
وأما حفر القبر في المسجد، فحرام شديد التحريم.
وتكره الكتابة عند الشافعية والحنفية والحنابلة على جدران المسجد وسقوفه. وقال المالكية والحنابلة: تكره الكتابة في القبلة لئلا تشغل المصلي، ولا تكره فيما عدا ذلك؛ لأن الكتابة تشغل قلب المصلي، وربما اشتغل بقراءته عن صلاته. كما يكره تزويقه وكل ما يشغل المصلي عن صلاته.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، كما رويا في معناه حديثاً عن أبي موسى رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/487)
ً 26ً- حائط المسجد من داخله وخارجه: له حكم في وجوب صيانته وتعظيم حرماته، وكذا سطحه، والبئر التي فيه، وكذا رحبته، وقد نص الشافعي وأصحابه على صحة الاعتكاف في رحبته وسطحه، وصحة صلاة المأموم فيهما مقتدياً بمن في المسجد، وكذلك يعتبر سطح المسجد كالمسجد في بقية المذاهب.
27ً - السنة لمن أراد دخول المسجد: أن يتفقد نعليه، ويمسح ما فيهما من أذى قبل دخوله، لحديث: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى، فليمسحه، وليصل فيهما» (1) .
28ً - يكره الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي إلا لعذر، لحديث أبي الشَّعْثاء قال: «كنا قعوداً مع أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره، حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا، فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم» (2) .
29ً - يستحب أن يقول عند دخوله المسجد: (أعوذ بالله العظيم ووجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، باسم الله والحمد لله، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك) .
وإذا خرج من المسجد قال مثله، إلا أنه يقول: (وافتح لي أبواب فضلك) (3) .
ويقدم رجله اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج.
30ً- لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد، كحجر وحصاة وتراب وغيره، لحديث مرفوع: «إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد» (4) .
31ً- يسن بناء المساجد وعمارتها وتعهدها، وإصلاح ما تشعث منها، لحديث: «من بنى لله تعالى مسجداً، بنى الله له مثله في الجنة» (5) .
وقال الحنابلة: يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحالّ (جمع مَحلِّة)
__________
(1) حديث حسن رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(2) رواه مسلم.
(3) هذه الأذكار بعضها في صحيح مسلم، ومعظمها في سنن أبي داود والنسائي، فإن طال عليه هذا كله، فليقتصر على ما في مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» .
(4) رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
(5) رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه (نيل الأوطار:147/1) .(1/488)
ونحوها بحسب الحاجة فهو فرض كفاية، وعمارة المساجد ومراعاة أبنيتها مستحبة، ويسن أن يصان المسجد عن الأوساخ والمخاط وتقليم الأظافر وقص الشعر ونتفه، وعن الروائح الكريهة من بصل وثوم وكراث ونحوها.
ويجوز بناء المسجد في موضع كان كنيسة وبِيعة أو مقبرة درست إذا أصلح ترابها، لحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد أهل الطائف حيث كانت طواغيتهم» (1) ، ولحديث أنس: «أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فيه قبور مشركين، فنبشت» (2) .
ويكره زخرفة المسجد باللونين الأحمر والأصفر ونقشه وتزيينه، لئلا تشغل قلب المصلي، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» (3) وقوله أيضاً: «ما أمرت بتشييد المساجد، قال ابن عباس: (لَتُزَخرِفُنَّها) كما زخرفت اليهود والنصارى» (4) فهو يدل على أن تشييد المساجد بدعة، وهذا الحكم بالكراهة هو المقرر عند المالكية والحنابلة، لكن أجاز الحنفية نقش المسجد بالمال الحلال، خلا محرابه فإنه يكره، لأنه يلهي المصلي.
وروي عن أبي حنيفة الترخيص في ذلك. وروي عن أبي طالب المكي: أنه لا كراهة في تزيين المحراب.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد جيد، وابن ماجه (نيل الأوطار:145/2) .
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه الخمسة إلا الترمذي عن أنس (نيل الأوطار:151/2) .
(4) أخرجه أبو داود عن ابن عباس، والتشييد: رفع البناء وتطويله. وفي قول ابن عباس نوع تأنيب وتوبيخ، والمراد من الزخرفة: الزينة. وفتح اللام في قوله: لتزخرفنها لأنه جواب القسم. وكلام ابن عباس مفصول عن كلام النبي صلّى الله عليه وسلم في الكتب المشهورة وغيرها (نيل الأوطار:150/2) .(1/489)
32ً - ورد في فضل المساجد أحاديث كثيرة منها: «أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» (1) .
33ً - مصلى العيد وغيره الذي ليس بمسجد: لايحرم المكث فيه على الجنب والحائض، على المذهب عند الشافعية.
الملحق الثاني ــ أحكام الحمامات العامة:
ذكر الشافعية والحنابلة أحكام الحمام وآداب دخوله فقالوا (2) :
أـ أجود الحمامات: ماكان شاهقاً، عذب الماء، معتدل الحرارة، معتدل البيوت، قديم البناء.
ب ـ بناء الحمام: وبيعه وشراؤه وإجارته مكروه عند الإمام أحمد، لما فيه من كشف العورة والنظر إليها، ودخول النساء إليه، قال أحمد: في الذي يبني حماماً للنساء: ليس بعدل. وحمله بعضهم على غير البلاد الباردة.
وكسب الحمام والحلاق عند الحنابلة مكروه.
جـ ــ الدخول إلى الحمام: يباح للرجال دخول الحمام، ويجب عليهم غض البصر عما لايحل لهم، وصون عورتهم عن الكشف بحضرة من لايحل له النظر إليها، أو في غير وقت الاغتسال، فإنه يروى: «أن ابن عباس دخل حماماً بالجُحْفة» ، ويروى ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلم، كما يروى عن خالد بن الوليد «أنه دخل الحمام» .
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة، ورواه أحمد والحاكم عن جبير بن مطعم.
(2) مغني المحتاج:76/1، المغني: 230/1-233، كشاف القناع:181/1-183، الفتاوى الهندية:373/5 وما بعدها.(1/490)
فإن خشي ألا يسلم من النظر إلى العورات، ونظر الناس إلى عورته كره له ذلك؛ لأنه لايأمن وقوعه في المحظور، فإن كشف العورة ومشاهدتها حرام، بدليل حديث بهز بن حكيم المتقدم في أول مبحث الغسل: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ماملكت يمينك ... » (1) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لاينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولاتنظر المرأة إلى عورة المرأة» «لاتمشوا عراة» (2) «الفخذ عورة» (3) .
ويحرم دخول الحمامات العامة بغير مئزر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تدخل الحمام» (4) «حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر» (5) ، وروي: «أن الرجل إذا دخل الحمام عارياً لعنه ملكاه» (6) .
وأما النساء: فيكره لهن دخول الحمام بلا عذر من حيض أو نفاس أو مرض أو حاجة إلى الغسل، ولا يمكن المرأة أن تغتسل في بيتها، لخبر: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت مابينها وبين الله تعالى» (7) وقال صلّى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتاً، يقال لها الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار، وامنعوها النساء، إلا مريضة أو نفساء» (8) ، ولأن أمرهن
__________
(1) رواه الخمسة (نيل الأوطار:62/2) .
(2) رواهما مسلم، وروى أبو داود وابن ماجه عن علي: «لا تبرِز فخذاك، ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت» (نيل الأوطار:62/2) .
(3) رواه الترمذي وأحمد عن ابن عباس (نيل الأوطار:62/2) .
(4) رواه أحمد عن أبي هريرة.
(5) رواه النسائي والحاكم عن جابر.
(6) رواه القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون} [الانفطار:11/82-12] .
(7) رواه الترمذي وحسنه عن عائشة رضي الله عنها.
(8) رواه أبو داود وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه.(1/491)
مبني على المبالغة في الستر، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر (1) .
ولايحرم على المرأة الاغتسال في حمام دارها حيث لم ير من عورتها مايحرم النظر إليه.
د - يحرم الاغتسال عرياناً بين الناس، فمن اغتسل عرياناً بين الناس: لم يجز له ذلك؛ لأن كشف العورة للناس محرم، لما تقدم، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل حيي ستِّير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» (2) . أما إن كان خالياً فيجوز؛ لأن موسى عليه السلام اغتسل عرياناً (3) ، كما اغتسل أيوب عليه السلام عرياناً (4) .
وإن ستره إنسان بثوب، فلابأس، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يستتر بثوب ويغتسل.
ويستحب التستر وإن كان خالياً للحديث السابق: «فالله أحق أن يستحيا منه من الناس» .
ولايسبح في ماء إلا مستتراً؛ لأن الماء لايستر، فتبدو عورة من دخله عرياناً.
هـ ـ يجزئ الغسل والوضوء بماء الحمام، لأنه طاهر، ويجعل بمنزلة الماء الجاري إذا كان يفيض من الحوض ويخرج، أي أن عليه مصبَّاً، فإن الذي يأتي أخيراً يدفع مافي الحوض، ويثبت في مكانه.
وـ لابأس للمستتر بذكر الله في الحمام، فإن ذكر الله حسن في كل مكان، مالم يرد المنع منه، روي «أن أبا هريرة دخل الحمام، فقال: لا إله إلا الله» وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان يذكر الله على كل أحيانه» .
أما قراءة القرآن في الحمام: فلا تكره عند مالك والنخعي، كذكر الله فيه، وكره أحمد ذلك، ولو خفض صوته؛ لأنه محل التكشف، ويفعل فيه مالايحسن في غيره، فيصان القرآن عنه. كما يكره السلام فيه. وأباحه بعض الحنابلة؛ لأن الأشياء على الإباحة.
__________
(1) قال بعض الشافعية: والخناثى كالنساء فيما يظهر.
(2) رواه أبو داود عن يعلى بن أمية.
(3) رواه البخاري.
(4) كما ذكر صاحب المغني ابن قدامة المقدسي.(1/492)
ز ـ آداب الحمام: يجب ألايزيد المستحم في الماء على قدر الحاجة والعادة، ولايطيل المقام إلا بقدر الحاجة.
وآداب الحمام: أن يقصد التطهير والتنظيف، لا الترفه والتنعم، وأن يسلم الأجرة قبل دخوله، وأن يسمي للدخول، ثم يتعوذ، كما في دخول الخلاء، ويقدم رجله اليسرى عند الدخول، ورجله اليمنى عند الخروج.
ويتذكر بحرارة الحمام حرارة نار جهنم، ولايدخله إذا رأى فيه عرياناً، ولايعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في البيت الأول؛ لأنه أجود طباً، ولايكثر الكلام، ويتحين بدخوله وقت الفراغ أو الخلوة إن قدر على ذلك، ويقلل الالتفات؛ لأنه محل الشياطين، ويستغفر الله تعالى ويصلي ركعتين بعد خروجه منه، فقد كانوا يقولون: يوم الحمام يوم إثم.
وكره الشافعية دخول الحمام قبيل الغروب، وبين العشاءين؛ لأنه وقت انتشار الشياطين، وقال الحنابلة: لايكره ذلك لعدم النهي الخاص عنه. ولابأس بدلك غيره إلا عورة أو مظنة شهوة.
ويكره الحمام للصائم؛ لأن الغسل يضعف الجسم، وهو ترفه لايلائم الصوم، وقد يسبق الماء إلى جوفه، فيفطر.
ويغسل قدميه عند خروجه بماء بارد، ولابأس بشرب ماء بارد عند خروجه منه، لأنه أنفع طباً، كما لابأس بقوله لغيره: عافاك الله، ولا مانع من المصافحة.
الفَصْلُ السَّادس: التَّيَمُّم
تعريفه، ومشروعيته وصفته، أسبابه، فرائضه، كيفيته، شروطه، سننه، ومكروهاته، نواقضه، حكم فاقد الطهورين.
المطلب الأول ــ تعريف التيمم ومشروعيته وصفته:
التيمم لغة: القصد ومنه قوله تعالى: {ولاتيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:2/267] ، وشرعاً عرفه الفقهاء بعبارات متقاربة، فقال الحنفية (1) : مسح الوجه واليدين عن صعيد مطهر. والقصد شرط له؛ لأنه النية، فهو قصد صعيد مطهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة.
وقال المالكية (2) : طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنية.
وقال الشافعية (3) : إيصال التراب إلى الوجه واليدين بدلاً عن الوضوء أو الغسل أو عضو منهما بشرائط مخصوصة.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص19، فتح القدير:84/1، اللباب:35/1، البدائع:45/1، حاشية ابن عابدين: 211/1.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير:179/1.
(3) مغني المحتاج:87/1. وقال الحنابلة (1) : مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص.(1/493)
مشروعيته: التيمم من خصائص الأمة الإسلامية، شرع في غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع) في السنة السادسة من الهجرة حينما أضاعت عائشة عِقْدها، فبعث صلّى الله عليه وسلم في طلبه، وحانت الصلاة، وليس معهم ماء، فنزلت آية التيمم، كما نزلت آيات براءة عائشة من الإفك في سورة النور، فقال أُسَيدُ بن حضير: «يرحمك الله يا عائشة، مانزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه فرجاً» .
وهو رخصة، وقال الحنابلة: إنه عزيمة، وأدلة مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع: أما القرآن: فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيداً طيباً (2) ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة 5 /6] ، وهذا يدل على أن التيمم فريضة بدل الغسل بالماء.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها خبر مسلم: «جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وتربتها طهوراً» (3) ، ومنها «التراب طهور المسلم، ولو إلى عشر حجج، مالم يجد الماء أو يحدث» (4) .
وأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة.
__________
(1) كشاف القناع: 183/1.
(2) أي تراباً طهوراً.
(3) وروى أحمد في معناه حديثين عن أبي أمامة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار:258/1) .
(4) روي من حديث أبي ذر عند أبي داود والنسائي والترمذي، ومن حديث أبي هريرة عند البزار والطبراني، قال الترمذي عن الأول: حديث حسن صحيح (نصب الراية: 148/1) .(1/494)
صفته أو الطهارة التي هو بدل عنها: قال عامة الفقهاء (1) : التيمم ينوب عن الوضوء وعن الغسل من الجنابة والحيض والنفاس، إلا أنه لايجوز عند غير الحنفية لزوج الحائض أن يطأها حتى تغتسل بالماء، فالمحدث والجنب والحائض والنفساء ومن ولدت ولداً جافاً يتيمم للصلاة وغيرها من الطاعات؛ لأن الضمير في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة 5/6] ، يعود على المحدث حدثاً أصغر وعلى المحدث حدثاً أكبر عند القائلين بأن الملامسة هي الجماع. أما من كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد في قوله تعالى: {أو لامستم النساء} [المائدة:5/6] ، فالضمير يعود على المحدث حدثاً أصغر فقط، وتكون مشروعية التيمم للجنب ثابتة بالسنة:
مثل حديث عمران بن حصين، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل، فقال: مامنعك أن تصلي؟ قال: أصابني جنابة ولا ماء؟ قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك» (2) وهو يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء من غير فرق بين الجنب وغيره. والصعيد: ماصعد على وجه الأرض من التراب.
ومثل حديث جابر قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حَجَر، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابَه، هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: مانجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول
__________
(1) بداية المجتهد:61/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص38، البدائع:55/1، مغني المحتاج:87/1، المغني:237/1،257،273، كشاف القناع:194/1، المهذب:32/1، فتح القدير:87/1، غاية المنتهى: 53/1.
(2) متقق عليه (نيل الأوطار:256/1) .(1/495)
الله صلّى الله عليه وسلم أُُخبر بذلك، فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيّ (1) السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويِعْصِر، أو يَعْصِب على جُرْحه، ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده (2) وهو يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر.
ومثل حديث عمرو بن العاص: أنه لما بُعث في غزوة ذات السلاسل (3) ، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت أن أهْلِك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنُب؟ فقلت: ذكرت قول الله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيماً، فتيممت، ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً» (4) وهو يدل على جواز التيمم لشدة البرد، ولا إعادة عليه، وهو رأي مالك وأبي حنيفة.
الطاعات التي يتيمم لها: يجوز التيمم لكل مايتطهر له من صلاة مفروضة أو نافلة، أو مس مصحف، أو قراءة قرآن، أو سجود تلاوة أو شكر، أو لُبث في مسجد، للأحاديث السابقة، ولأنه يستباح بالتيمم مايستباح بطهارة الماء.
مايتيمم له من الأحداث: ويجوز التيمم للحدث الأصغر، والجنابة، والحيض والنفاس على حد سواء، لما روي أن قوماً جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال، ولانجد الماء شهراً أو شهرين، وفينا الجنب
__________
(1) العي: التحير في الكلام، وقيل: ضد البيان.
(2) رواه أبو داود والدارقطني وابن ماجه، وصححه ابن السكن (نيل الأوطار:257/1) .
(3) هي موضع وراء وادي القرى، وكانت هذه الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة.
(4) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن حبان والحاكم، وأخرجه البخاري تعليقاً (نيل الأوطار:258/1) .(1/496)
والحائض والنفساء، فقال عليه السلام: «عليكم بالأرض» (1) . وقال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطّهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة:5/6] .
نوع البدل:
قال الحنفية (2) : إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، فالحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة، بدليل الحديث المتقدم: «التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حِجج، مالم يجد الماء، أو يحدث» فقد سمى التيمم وضوءاً، والوضوء مزيل للحدث. وقال صلّى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (3) ، والطهور اسم للمطهر، فدل على أن الحدث يزول بالتيمم، إلا أن زواله مؤقت إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء يعود الحدث.
ويترتب عليه: أنه يجوز التيمم قبل دخول الوقت، ويجوز له أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث، وإذا تيمم للنفل جاز له أن يؤدي به النفل والفرض.
وقال الجمهور غير الحنفية (4) : التيمم بدل ضروري، فيباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة، كطهارة المستحاضة، لحديث أبي ذر عند الترمذي: «
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي وإسحاق بن راهويه عن أبي هريرة لكنه ضعيف (نصب الراية:156/1) .والحديث الصحيح المتفق عليه المتقدم عن عمران بن حصين يدل على الاكتفاء بالتيمم بدل الغسل حال الجنابة وفقد الماء.
(2) البدائع:54/1 وما بعدها، الدر المختار: 223/1.
(3) رواه الشيخان والنسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4) الشرح الكبير:154/1، مغني المحتاج:97/1، بجيرمي الخطيب:253/1، كشاف القناع: 199/1.(1/497)
فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك، فإنه خير لك» ولو رفع الحدث لم يحتج إلى الماء إذا وجده، ولو رأى الماء يعود الحدث، مما يدل على أن الحدث لم يرتفع، لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة، كمافي المستحاضة.
ويترتب عليه عكس الأحكام السابقة، إلا أن الحنابلة خلافاً للمالكية والشافعية أجازوا بالتيمم الواحد صلاة ما عليه من فرائض فوائت إن كانت عليه.
آراء المذاهب فيما يترتب على الاختلاف في نوع بدلية التيمم:
1 ً - وقت التيمم:
قال الحنفية (1) القائلون بأن التيمم طهارة مطلقة: يجوز التيمم قبل الوقت، ولأكثر من فرض، ولغير الفرض من النوافل؛ لأن التيمم بدل مطلق عند عدم الماء، ويرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء، وليس ببدل ضروري مبيح مع قيام الحدث حقيقة، الذي هو قول الجمهور، فلا يجوز عندهم قبل الوقت، ولا يصلى به أكثر من فرض. ودليل الحنفية: أن التوقيت في العبادات لا يكون إلا بدليل سمعي، ولا دليل فيه، فيقاس على الوضوء، والوضوء يصح قبل الوقت.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) : لا يصح التيمم إلا بعد دخول وقت ما يتيمم له من فرض أو نفل، فلا يتيمم لفرض قبل دخول وقت فعله، ولا لنفل معين أو مؤقت كسنن الفرائض الرواتب قبل وقتها.
أما الفريضة: فلقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة:5/6] ، والقيام إليها بعد دخول الوقت، ولما رواه البخاري من حديث «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» وما رواه أحمد: «أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» أي تيممت وصليت، وهذا دليل على أن التيمم يكون عند إدراك الصلاة، أي بعد دخول وقتها.
__________
(1) البدائع:54/1، الدر المختار وحاشية ابن عابدين:223/1
(2) بدا ية المجتهد:65/1، القوانين الفقهية: ص37، مغني المحتاج:105/1، المهذب:34/1، كشاف القناع:184/1.(1/498)
وأما النفل: فلحديث أبي أمامة مرفوعاً قال: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده، وعنده طهوره» (1) .
وأما الوضوء: فإنما جاز قبل الوقت، فلكونه رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه طهارة ضرورة، فلم يجز قبل الوقت، كطهارة المستحاضة.
ويصح التيمم لركعتي الطواف كل وقت لإباحته، ويصح التيمم لفائتة تذكرها وأراد فعلها لصحة فعلها في كل وقت، ويصح التيمم لكسوف عند وجوده إن لم يكن وقت نهي عن الصلاة فيه (2) ، ويصح التيمم لاستسقاء إذا اجتمعوا لصلاته، ولصلاة جنازة إذا غسل الميت، أو يمم لعذر، ولصلاة عيد إذا دخل وقته، ولمنذورة كل وقت. ويصح التيمم لنفل عند جواز فعله كتحية المسجد؛ لأن ذلك وقته.
واحترز بعبارة النفل المعين أو المؤقت عن النوافل المطلقة، فإنه يتيمم لها متى شاء، إلا في وقت الكراهة المنهي عنه؛ لأنه ليس وقتاً له.
هل يؤخر التيمم لآخر الوقت؟
اتفق أئمة المذاهب الأربعة (3) على أن الأفضل تأخير التيمم لآخر الوقت إن رجا وجود الماء حينئذ. فإن يئس من وجوده استحب تقديمه أول الوقت عند الجمهور (غير الحنابلة) والمنصوص عن أحمد: أن تأخير التيمم أولى بكل حال.
__________
(1) رواه أحمد، ورواه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر بلفظ: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» .
(2) تكره الصلاة النافلة في خمسة أوقات: بعد صلاة الفجر، وعند طلوع الشمس، وعند الزوال ظهراً، وبعد صلاة العصر، وعند الغروب.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 229/1، البدائع:54/1، الشرح الصغير:189/1 وما بعدها، مغني المحتاج:89/1، المغني:243/1.(1/499)
والأصح عند الحنفية: أن ندب التأخير هو لآخر الوقت المستحب بحيث لايقع في كراهة؛ إذ لا فائدة في التأخير سوى الأداء بأكمل الطهارتين. ويجب التأخير بالوعد بالماء، ولو خاف القضاء، كما يجب التأخير عند أبي حنيفة بالوعد بالثوب للعاري، أو بالدلو لنزح الماء، ما لم يخف القضاء.
وقيد الشافعية أفضلية الانتظار بحالة تيقن وجود الماء آخر الوقت، فإن شك في وجوده أو ظن بأن ترجح عنده وجود الماء آخر الوقت، فتعجيل التيمم أفضل في الأظهر؛ لأن فضيلة التقديم محققة بخلاف فضيلة الوضوء.
وفصل المالكية في الأمر فقالوا: اليائس من وجود الماء يندب له التعجيل أول الوقت. والمتردد في ذلك وهو الشاك أو الظان ظناً قريباً من الشك: يندب له التيمم وسط الوقت. والراجي: وهو الغالب على ظنه وجود الماء: يتيمم ندباً آخر الوقت.
2 ً - مايفعل بالتيمم الواحد:
قال الحنفية (1) : يصلي بتيممه ماشاء من الفرائض والنوافل؛ لأنه طهور حال عدم الماء، فيعمل عمله ما بقي شرطه، فله أن يصلي بتيمم واحد فرضين فأكثر، وما شاء من نافلة.
وقال الحنابلة (2) : التيمم مقيد بالوقت، لقول علي رضي الله عنه: «التيمم لكل صلاة» وقول ابن عمر رضي الله عنهما: «تيمم لكل صلاة» ولأن التيمم طهارة ضرورة، فتقيدت بالوقت، كطهارة المستحاضة، والطواف المفروض كالصلاة الفريضة.
وبناء عليه: إذا تيمم صلى الصلاة التي حضر وقتها، وصلى به فوائت إن كانت عليه، فيصلي الحاضرة، ويجمع بين الصلاتين، ويقضي فوائت، وله التطوع بما شاء من النوافل إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى.
__________
(1) فتح القدير: 95/1
(2) المغني:262/1-246.(1/500)
وقال المالكية والشافعية (1) : لا يصلى بتيمم واحد فرضان، فلا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة. ويجمع بين نوافل، وبين فريضة ونافلة إن قدم الفريضة عند المالكية، ويتنفل ما شاء قبل المكتوبة وبعدها عند الشافعية، لأنها غير محصورة.
ودليلهم: ما روى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر، قال: «يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث» ، ولأنه طهارة ضرورة، فلا بد من تكرار التيمم لكل فرض، وإن كانت الفريضتان مجموعتين في وقت واحد، كالظهر مع العصر، ولو كان التيمم من مريض يشق عليه إعادته.
ويجوز أن يصلي بتيمم واحد فرض صلاة، وفرض جنازة عند المالكية، والشافعية في الأصح؛ لأن الجنازة فرض كفاية، فهي كالنفل في جواز الترك في الجملة.
وجاز بالتيمم للصلاة: مس المصحف، وقراءة القرآن إن كان جنباً.
والنذر عند الشافعية كفرض في الأظهر، فيجدد له التيمم، ولا يجمعه مع فرض آخر أداء أو قضاء بتيمم واحد. وفرض الطواف وخطبة الجمعة عند الشافعية كفرض الصلاة، فلا يجمع بتيمم واحد بين طوافين مفروضين، ولا بين طواف مفروض وصلاة مفروضة، ولا بين صلاة جمعة وخطبتها؛ لأن الخطبة وإن كانت فرض كفاية، ألحقت بفرض العين، إذا قيل: إنها قائمة مقام ركعتين.
وأجاز المالكية الجمع بتيمم بين صلاة مفروضة وطواف غير واجب وركعتيه، فهم إذن كالشافعية.
3 ً - هل التيمم للنفل يجيز صلاة الفرض؟
قال الحنفية الواصفون التيمم بأنه بدل مطلق (2) : إذا تيمم للنفل، يجوز له أن يؤدي به النفل والفرض. ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف: أن يؤم المتيمم المتوضئين إذا لم يكن معهم ماء؛ لأن التيمم في حال عدم الماء طهارة مطلقة، فيجوز اقتداؤهم به، وإن كان معهم ماء لا تجوز صلاتهم؛ لأن التيمم بدل عن الماء عند عدمه.
__________
(1) الشرح الصغير: 186/1-187، الشرح الكبير:151/1، المهذب: 36/1، مغني المحتاج:103/1، القوانين الفقهية: ص38.
(2) البدائع:55/1 وما بعدها.(1/501)
وقال المالكية (1) : لا يصلى فرض بتيمم نواه لغيره، فإن نوى فرض الصلاة صلى به ما عليه من فرض واحد، وما شاء من النوافل على أن يقدم صلاة الفرض على النفل، ولا يصلى به الفريضة الفائتة معه، وإن نوى مطلق الصلاة صلى به النفل دون الفرض، لأن الفرض يحتاج لنية تخصه، ومن نوى نفلاً لم يصل به فرضاً. ويلزم حال نية استباحة الصلاة أو ما منعه الحدث نية الحدث الأكبر من جنابة أو غيرها إن كان عليه. فإن لم يلاحظه بأن نسيه أو لم يعتقد أنه عليه، لم يجزه وأعاد أبداً.
ويندب نية الحدث الأصغر إذا نوى استباحة الصلاة أو نوى استباحة ما منعه الحدث. أما لو نوى فرض التيمم، فلا تندب نية الأصغر، ولا الأكبر؛ لأن نية الفرض تجزئ عن نية كل من الأصغر والأكبر. وإذا تيمم لقراءة قرآن أو للدخول على سلطان ونحو ذلك لا يجوز أن يصلي به.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : إن نوى فرضاً ونفلاً صلى به الفرض والنفل، وإن نوى فرضاً استباح مثله، وما دونه من النوافل، لأن النفل أخف، ونية الفرض تتضمنه، وبما أن الفرض أعلى استباح ما دونه تبعاً. وإن نوى نفلاً أو أطلق النية للصلاة بأن نوى استباحة الصلاة، ولم ينو فرضاً ولا نفلاً، لم يصل إلا نفلاً، ولم يصل به إلا فرضاً؛ لأن الفرض أصل والنفل تابع، فلا يجعل المتبوع تابعاً، وقياساً على ما لو أحرم بالصلاة، فإن صلاته تنعقد نفلاً.
__________
(1) مغني المحتاج: 98/1، كشاف القناع:201/1 وما بعدها، بجيرمي الخطيب:253/1.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 193/1، الشرح الكبير: 154/1.(1/502)
المطلب الثاني ـ أسباب التيمم:
أسباب التيمم أو الأعذار له هي ما يلي (1) :
1 ً - فقد الماء الكافي للوضوء أو الغسل:
حساً بأن لم يجد ماء أصلاً أو وجد ماء لا يكفيه، أو شرعاً: بأن خاف الطريق إلى الماء أو كان عند الحنفية بعيداً عنه بمقدار ميل (8481م أو 0004 ذراع أو خطوة) أو أكثر، أو بقدر ميلين كما قال المالكية، أو احتاج إلى ثمنه أو وجده بأكثر من ثمن المثل، للآية السابقة: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:5/6] .
وفصل الشافعية في جواز التيمم لفقد الماء وطلبه، فقالوا:
أـ إن تيقن فقد الماء حوله، تيمم بلا طلب.
ب ـ وإن توهم الماء أو ظنه، أو شك فيه، فتش في منزله وعند رفقته وتردد قدر حد الغوث (2) : وهو مقدار غَلْوة سهم (004 ذراع أو 8،481م) ، فإن لم يجد ماء تيمم. وقد اقتصر الحنفية على هذا فأوجبوا طلب الماء إلى أربع مئة خطوة إن ظن قربه من الماء مع الأمن.
جـ ـ وإن تيقن الماء طلبه في حد القُرب (3) : (وهو ستة آلاف خطوة) وقال المالكية: إذا تيقن أو ظن الماء يطلبه لأقل من ميلين. وقال الحنابلة: يطلبه فيما قرب منه عادة.
ولا يطلب الماء عند الشافعية سواء في حد القرب أو الغوث إلا إذا أمن نفساً ومالاً، وانقطاعاً عن الرفقة. والأظهر عند الشافعية، والحنابلة خلافاً لغيرهم: أنه لو وجد ماء لا يكفيه، وجب استعماله، ثم يتيمم، للحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه مااستطعتم» .
__________
(1) البدائع:46/1-49، تبيين الحقائق:36/1، اللباب:36/1، فتح القدير:83/1-86، مراقي الفلاح: ص19، الدر المختار:214/1-226، الشرح الصغير:179/1-183،199، بداية المجتهد:63/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص37، الشرح الكبير:149/1 ومابعدها، مغني المحتاج:87/1-95، المغني:234/1، 239، 257، 258، 261، 265، كشاف القناع:184/1-194.
(2) وهو ما يلحقه فيه غوث الرفقة، مع ما هم عليه من التشاغل والتفاوض في الأقوال.
(3) وهو ما يقصده النازلون لنحو احتطاب واحتشاش.(1/503)
الشراء: ويجب شراؤه بثمن المثل، إن لم يحتج إليه لدين مستغرق (محيط بماله) أو مؤنة سفره، أو نفقة حيوان محترم، سواء أكان آدمياً أم غيره.
الهبة: ولو وهب له ماء أوعير دلواً، وجب القبول عند العلماء وفي الأصح عند الشافعية، أما لو وهب ثمنه فلا يجب قبوله بالإجماع، لعظم المنة، ولو من الوالد لولده.
نسيان الماء: ولو نسي الماء في رحله، فتيمم وصلى، ثم تذكر الماء في الوقت بعد أن فرغ من الصلاة، قضى في الأظهر عند الشافعية وأبي يوسف والمالكية، لأنه واجد للماء، ولكنه قصر في الوقوف عليه، فيقضي كما لو نسي ستر العورة، بأن كان في رحله ثوب فنسيه (1) .
ولم يقض عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه لا قدرة بدون العلم، فهو غير واجد للماء؛ لأن المراد بوجود الماءالقدرة على استعماله، ولا قدرة إلا بالعلم (2) .
فإن تذكر الماء وهو في الصلاة يقطع ويعيد إجماعاً، كما أنه يعيد اتفاقاً إذا ظن فناء الماء. ولا يكره الوطء لعادم الماء، ولو لم يخف العنت (المشقة) ؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة إلا لدليل.
2 ً - فقد القدرة على استعمال الماء:
قال المالكية والحنابلة وغيرهم: يتيمم العاجز الذي لا قدرة له على الماء كالمكره والمحبوس، والمربوط بقرب الماء، والخائف على نفسه من سبع أو لص، سواء في الحضر أو السفر، ولو سفر معصية؛ لأن التيمم مشروع مطلقاً، سواء في الحضر أو السفر، في الطاعة أو المعصية، ولأنه عادم للماء، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير» (3) .
لكن عند الشافعية يقضي المقيم المتيمم لفقد الماء، لا المسافر، إلا العاصي بسفره في الأصح، فإنه يقضي؛ لأنه ليس من أهل الرخصة (4) .
__________
(1) مغني المحتاج:91/1.
(2) فتح القدير وحاشية العناية:97/1، الدر المختار:330/1.
(3) رواه الترمذي عن أبي ذر، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) مغني المحتاج:106/1.(1/504)
ولا يعيد عند بقية المذاهب في الأرجح عند الحنابلة؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج من عهدته، ولأنه صلى بالتيمم المشروع على الوجه المشروع، فأشبه المريض والمسافر (1) ، واستثنى الحنفية المكره على ترك الوضوء فإنه يتيمم ويعيد صلاته.
3 ً - المرض أو بطء البرء:
يتيمم إذا خاف باستعمال الماء على نفس أو منفعة عضو حدوث مرض من نزلة أو حمى أو نحو ذلك، أوخاف من استعماله زيادة المرض أو طوله، أو تأخر برئه، ويعرف ذلك بالعادة، أو بإخبار طبيب عارف، ولو غير مسلم عند المالكية والشافعية، مسلم عند الحنفية والحنابلة. وأضاف الشافعية في الأظهر والحنابلة حدوث شين فاحش في عضو ظاهر، لأنه يشوه الخلقة ويدوم ضرره. والمراد بالظاهر ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين. وقال الحنابلة: من كان مريضاً لا يقدر على الحركة، ولا يجد من يناوله الماء للوضوء فهو كعادم للماء، له التيمم إن خاف فوت الوقت.
4 ً - الحاجة إلى الماء في الحال أو في المستقبل:
للمرء التيمم إذا اعتقد أو ظن ولو في المستقبل أنه يحتاج للماء احتياجاً مؤدياً إلى الهلاك أو شدة الأذى، بسبب عطش حيوان محترم شرعاً، من آدمي وغيره، ولو كلب صيد أو حراسة، بخلاف الحربي والمرتد والكلب غير المأذون فيه (ومنه عند الحنابلة: الكلب الأسود) ، وذلك صوناً للروح عن التلف.
ومن أصناف الحاجة: الاحتياج للماء لعجن أو طبخ له ضرورة، أو لإزالة نجاسة غير معفو عنها، بشرط أن تكون عند الشافعية على البدن، فإن كانت على الثوب توضأ بالماء. وصلى عرياناً إن لم يجد ساتراً، ولا إعادة عليه.
__________
(1) المغني:235/1، كشاف القناع:195/1، الشرح الصغير:190/1، الشرح الكبير:148/1، مراقي الفلاح: ص19.(1/505)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : إن كانت على بدنه نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله، تيمم لها وصلى، وعليه القضاء عند الشافعية، ولا قضاء عليه عند الحنابلة. ولا إعادة للصلاة بالاتفاق على مسافر تيمم خوف العطش.
5 ً - الخوف من تلف المال لو طلب الماء:
قال المالكية: يتيمم القادر على استعمال الماء من حاضر أو مسافر إذا خاف تلف مال ذي بال، سواء أكان له أم لغيره، لو طلب الماء الذي تحقق وجوده أو ظنه. أما إن شكه أو توهمه، فيتيمم ولو قل المال.
والمراد بالمال ذي البال: ما زاد على ما يلزمه بذله في شراء الماء. وقال غير المالكية: خوف عدو آدمي أو غيره أو حريق أو لص يجيز التيمم وعدم طلب الماء، سواء خاف على نفسه أو ماله أو أمانته، أو خافت امرأة فاسقاً عند الماء، أو خاف المديون المفلس الحبس، أو خاف فوات مطلوبه كتحصيل شارد، فحال كل واحد من هؤلاء كعادم الماء؛ لأن في ذلك ضرراً، وهو منفي شرعاً.
6 ً - شدة البرد أي شدة برودة الماء:
يجوز التيمم لشدة البرد إذا خاف ضرراً من استعمال الماء، ولم يجد ما يسخن به الماء.
لكن قيد الحنفية إباحة التيمم للبَرْد بما إذا خاف الموت أو التلف لبعض الأعضاء أو المرض، وبالجنب فقط ولو في الحضر، إذا لم تكن له أجرة حمام ولا ما يدفئه، لأنه هو الذي يتصور فيه ذلك. أما المحدث حدثاً أصغر فلا يجوز له التيمم للبرد في الصحيح.
وقيد المالكية جواز التيمم للبرد بحالة الخوف من الموت.
أما الشافعية والحنابلة: فأباحوا التيمم للبرد إذا تعذر تسخين الماء في الوقت، أو لم تنفع تدفئة أعضائه، وخاف على منفعة عضو أو حدوث شين فاحش، في عضو ظاهر عند الشافعية، أو في بدنه بسبب استعمال الماء عند الحنابلة.
__________
(1) مغني المحتاج:106/1، المغني:273/1 وما بعدها.(1/506)
ويقضي الصلاة عند الشافعية من تيمم لمرض، أو لبرد في الأظهر، ولا قضاء عليه عند المالكية والحنفية، وعند الحنابلة: روايتان: إحداهما ـ لا يلزمه القضاء، والثانية يلزمه الإعادة.
7 ً - فقدان آلة الماء من دلو وحبل:
يتيمم من له قدرة على استعمال الماء، ولكن لم يجد من يناوله إياه، أولم يجد آلة من حبل أو دلو، إذا خاف خروج الوقت، لأنه بمنزلة عادم الماء.
وأضاف الحنابلة: أنه يلزم طلب الآلة بالاستعارة ليحصل بها الماء، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويلزمه قبول عارية؛ لأن المنة في ذلك يسيرة. وإن قدر على استخراج ماء بئر بثوب يبله، ثم يعصره، لزمه ذلك لقدرته على تحصيل الماء، كما لو وجد حبلاً ودلواً، إذا لم تنقص قيمة الثوب أو أكثر من ثمن الماء الذي يستخرجه في مكانه، فإن نقصت أكثر من ثمنه لم يلزمه كشرائه. ويلزمه قبول الماء قرضاً، وقبول ثمنه قرضاً، إذا كان له ما يوفيه منه؛ لأن المنة في ذلك يسيرة، ولا يلزمه اقتراض ثمن الماء للمنة، ويلزمه قبول الماء إذا بذل له هبة لسهولة المنة فيه، لعدم تموله عادة، ولا يلزمه قبول ثمن الماء هبة للمنة، ولا يلزمه شراء الماء بدين في ذمته، ولو قدر على أدائه في بلده؛ لأن عليه ضرراً في بقاء الدين في ذمته، وربما تلف ماله قبل أدائه.
8 ً - الخوف من خروج وقت الصلاة:
لم يجز الشافعية (1) التيمم خوفاً من خروج الوقت؛ لأنه يكون متيمماً مع وجود الماء، واستثنوا حالة المسافر فإنه لا يلزم بطلب الماء ويتيمم إذا خاف خروج الوقت وخاف على نفسه أو ماله أو انقطاعه عن الرفقة.
وكذلك الحنابلة لم يجيزوا التيمم لخوف فوت الوقت سواء لجنازة أو عيد أو فريضة، إلا لمسافر علم وجود الماء في مكان قريب، لكن إذا قصده خاف خروج الوقت، فيتيمم حينئذ، ويصلي ولا إعادة عليه، لأنه غير قادر على استعماله في الوقت، فأشبه عادم الماء (2) .
__________
(1) مغني المحتاج:88/1، الحضرمية: ص24.
(2) كشاف القناع:206/1.(1/507)
ولم يجز الحنفية التيمم خوف خروج الوقت إلا فيما يأتي (1) :
أولاً ـ يتيمم لفقد الماء خوف فوت صلاة جنازة ولو جنباً، أو فوت صلاة عيد بسبب الخوف من فراغ إمام أو زوال شمس لو اشتغل بالوضوء، سواء أكان إماماً أم غيره في الأصح، لفواتهما بلا بدل، ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا فاجأتك صلاة جنازة، فخشيت فوتها، فصل عليها بالتيمم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة، وهو على غير وضوء، فتيمم، ثم صلى عليها. وإذا تيمم لصلاة جنازة أو لسجدة تلاوة يجوز له عند فقد الماء أداء سائر الصلوات (2) .
ثانياً ـ له التيمم أيضاً لفقد الماء خوف فوت صلاة كسوف وسنن المفروضات، ولو سنة فجر، إذا أخرها بحيث لو توضأ، فات وقتها.
ولا يصح التيمم لصلاة الجمعة وسائر الصلوات المكتوبة والوتر إذا خاف فوت الوقت؛ لأن للجمعة بدلاً وهو الظهر، ولأن بقية الصلوات تقضى.
وقال المالكية على المعتمد (3) : يجوز التيمم لعادم الماء خوف خروج الوقت محافظة على أداء الصلاة في وقتها، فإن ظن أنه يدرك منها ركعة في وقتها إن توضأ أو اغتسل، فلا يتيمم.
__________
(1) الدر المختار:223/1-227، مراقي الفلاح: ص19 وما بعدها، البدائع:51/1، فتح القدير:96/1.
(2) ويجوز عند الحنفية التيمم لذاته عند فقد الماء وإن لم تجز الصلاة به لأمور، ضابطها: كل مالا تشترط الطهارة له، وهي: قراءة القرآن لغير الجنب عن ظهر قلب أو من المصحف، وتعليم القرآن، ودخول المسجد، أو خروجه، ودفن الميت وزيارة القبر، والأذان والإقامة، وعيادة المريض، والسلام ورده. والمختار: جواز التيمم للمسافر دون المقيم لأداء سجدة التلاوة، مع وجود الماء.
(3) الشرح الصغير182/1-184، الشرح الكبير:150/1 وما بعدها.(1/508)
والأظهر خلاف المشهور: أنه يجوز التيمم لعادم الماء وقت الأداء لحاضر (مقيم) صحيح لأداء جمعة، وصلاة جنازة، متعينة أم لا، خاف فواتها، ويصلي ولا يعيد.
كما يجوز التيمم لعادم الماء لأداء السنة والمندوب ومس المصحف، والطواف غير الواجب.
والخلاصة أن أسباب التيمم ترجع إلى أمرين:
الأول: فقد الماء، ويشمل حالة الحاجة إلى الماء ولو في المستقبل، وحالة الخوف من تلف المال، وخوف خروج الوقت بالطلب أو الاستعمال.
والثاني ـ العجز عن استعمال الماء. ويشمل بقية الحالات. والأمر الثاني مقيس على الأمر الأول: وهو فاقد الماء المنصوص عليه في آية التيمم.
واتفق الفقهاء على أنه يجوز التيمم لاثنين: للمريض وللمسافر إذا عدم الماء.
هل تعاد الصلاة المؤداة بالتيمم؟
اتفق الفقهاء على أن من تيمم لفقد الماء، وصلى، ثم وجد الماء بعد خروج الوقت (وقت الصلاة) ، لا إعادة عليه. أما إن وجد الماء في الوقت، أو تيمم لأسباب أخرى ففيه اختلاف (1) :
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا إعادة على من تيمم ثم وجد الماء في الوقت، ولا قضاء عليه بالتيمم للأسباب الأخرى، إلا أن المالكية قالوا: كل من أمر بالتيمم يعيد الصلاة في الوقت إذا كان مقصراً أي عنده نوع من التقصير في البحث عن الماء، أو طلبه.
واستثنى الحنفية: المحبوس الذي صلى بالتيمم فإنه يعيد الصلاة إن كان مقيماً في الحضر، ولا يعيدها في السفر. والأيسر الأخذ بهذا الرأي.
__________
(1) المغني:243/1 وما بعدها،265،268، كشاف القناع:193/1-195،206، الشرح الصغير:190/1، مراقي الفلاح: ص19، الوجيز للغزالي:23/1، مغني المحتاج:101/1،106 وما بعدها، المهذب:36/1، المجموع:342/2-352.(1/509)
ودليلهم: ما روى أبو داود عن أبي سعيد: «أن رجلين خرجا في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين» .
وتيمم ابن عمر وهو يرى بيوت المدينة، وصلى العصر، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد.
ولأن المتيمم فعل ما أمر به، وأدى فرضه كما أمر، فلم يلزمه الإعادة، ولأن عدم الماء عذر معتاد، فإذا تيمم معه يجب أن يسقط فرض الصلاة، كالمرض، وماسقط لايعود إلى الذمة.
وذهب الحنابلة على المشهور في المذهب إلى أن المتيمم واجد الماء في الصلاة، ينتقض تيممه، وتبطل طهارته، ويعيد الطهارة ويستأنف الصلاة من جديد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب: وضوء المسلم، إن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء، فأمِسَّه جلدك» (1) دل بمفهومه: على أنه لا يكون طهوراً عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب إمساسه جلده عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء، فبطل تيممه كالخارج من الصلاة، ولأن التيمم طهارة ضرورة، فبطلت بزوال الضرورة، كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها.
وإن عدم الماء تيمم وصلى ولم يعد الصلاة؛ لأنها صلاة تيمم صحيح، وإن خاف العطش أبقى ماءه ولا إعادة عليه.
وقال الشافعية: إن تيمم لعدم الماء، ثم رأى الماء:
أـ فإن كان قبل الدخول في الصلاة، بطل تيممه، لأنه لم يشرع في المقصود، وللحديث السابق عن أبي ذر: «فإذا وجدت الماء، فأمسه جلدك» .
__________
(1) رواه أبو داود والحاكم والنسائي عن أبي ذر، وصححه الترمذي، وقال: حسن صحيح.(1/510)
ب ـ وإن رأى الماء في أثناء الصلاة: فإن كان في الحضر بطل تيممه وصلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة لوجود الماء، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة. والأصح أن خروجه من الصلاة وقطعها ليتوضأ أفضل. وإن كان في السفر لم يبطل تيممه على المذهب؛ لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود، فلا يلزمه الانتقال إليه.
وإن رأى الماء في الصلاة في السفر، ثم نوى الإقامة، بطل تيممه وصلاته؛ لأنه اجتمع حكم السفر والحضر في الصلاة، فوجب أن يغلَّب حكم الحضر، ويصير كأنه تيمم وصلى، وهو حاضر، ثم رأى الماء.
جـ ـ وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة: إن كان في الحضر، أعاد الصلاة؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل، فلم يسقط معه فرض الإعادة، كما لو صلى بنجاسة نسيها. وإن كان في السفر لا تلزمه الإعادة، سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً في أشهر القولين عن الشافعي. وإن كان سفر معصية فالأصح أنه تجب عليه الإعادة كالمقيم؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر، والسفر معصية، فلا تتعلق به رخصة.
وإن تيمم للمرض وصلى، ثم برئ، لم تلزمه الإعادة أي في الوقت؛ لأن المرض من الأعذار العامة، فهو كعدم الماء في السفر.
وإن تيمم لشدة البرد، وصلى، ثم زال البرد: فإن كان في الحضر، لزمه الإعادة؛ لأن ذلك من الأعذار النادرة. وإن كان في السفر ففيه قولان أرجحهما أنه تجب الإعادة، لأن البرد الذي يخاف منه الهلاك، ولا يجد ما يدفع ضرره عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء في الحضر.
أما قضاء الصلاة المؤداة بالتيمم عند الشافعية: فقالوا فيه: يقضي المقيم المتيمم لفقد الماء، لا المسافر، إلا العاصي بسفره كالآبق والناشزة، فإنه يقضي في الأصح، لأنه ليس من أهل الرخصة.(1/511)
ويقضي في الأظهر من تيمم في السفر للبرد، أو لمرض يمنع الماء مطلقاً (أي في جميع أعضاء الطهارة) ، أو يمنع الماء في عضو من أعضاء الطهارة ولا ساتر عليه، أو بسبب وجود ساتر كجبيرة في محل التيمم (الوجه واليدين) ، أو حالة وجود ساتر وضع على حدث في غير أعضاء التيمم.
والخلاصة: أن ما كان من الصلاة بعذر دائم كصلاة المستحاضة والمريض قاعداً، والمسافر: لا يقضي. وما كان منها بعذر لا يدوم وليس له بدل كفاقد الطهورين (الماء والتراب) ، والمصلوب إذا صلى بالإيماء: يقضي، وما كان منها بعذر لا يدوم وله بدل كتيمم المقيم وتيمم المسافر لشدة البرد، ففي القضاء قولان أرجحهما أنه يقضي. ولا يخفى ما في رأي الشافعية من تشدد، يقتضي الجنوح إلى الأخذ برأي الحنفية وموافقيهم.
المطلب الثالث ـ أركان التيمم أو فرائضه:
للتيمم أركان أو فرائض، علماً بأن المراد بالركن أو الفرض ما يتوقف عليه، أساساً وجود الشيء أو هو جانبه الأقوى، وهو اصطلاح الجمهور (غير الحنفية) ، أما الحنفية فيحصرون الركن فيما يتوقف الشيء على وجوده، وكان جزءاً من حقيقته. وبناء عليه قالوا: للتيمم ركنان فقط: هما الضربتان، والاستيعاب بالمسح وجهه ويديه إلى المرفقين.
أما الجمهور فقالوا: أركان التيمم أربعة أو خمسة على الاختلاف الآتي (1) :
1 ً - النية عند مسح الوجه:
هي فرض باتفاق المذاهب الأربعة، منهم القدوري وصاحب الهداية من الحنفية، وجعلها جماعة من الحنفية وبعض الحنابلة شرطاً، وهو المعتمد في مذهبي الحنابلة والحنفية.
والنية عند المالكية: أن ينوي استباحة الصلاة أو استباحة ما منعه الحدث، أو فرض التيمم عند مسح الوجه، ولو نوى رفع الحدث فقط كان تيممه باطلاً؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث على المشهور عندهم.
__________
(1) البدائع:45/1 وما بعدها،52، فتح القدير:86/1،89، الدر المختار:212/1، اللباب:37/1، تبيين الحقائق:38/1 وما بعدها، مراقي الفلاح 19-20، الشرح الكبير:154/1 وما بعدها، الشرح الصغير:192/1-198، القوانين الفقهية: ص37 وما بعدها، بداية المجتهد:64/1،66 وما بعدها، مغني المحتاج: 97/1-99، المهذب:32/1 وما بعدها، المغني:251/1،254، كشاف القناع:199/1-202.(1/512)
ولو نوى فرض التيمم أجزأه، ولا يلزم بتعيين الحدث الأكبر إن كان عليه، أو الأصغر.
أما لو نوى استباحة الصلاة أو ما منعه الحدث فيلزم بتعيين الحدث الأكبر إن كان عليه، ويندب نية الأصغر، كما تقدم سابقاً.
ويندب فقط تعيين الصلاة المتيمم لها من فرض أو نفل، أو هما معاً. فإن لم يعين الصلاة لا يصلي الفرض بنية النفل، ولا بنية مطلق الصلاة لأن الفرض يحتاج لنية تخصه.
وقال الشافعية: لا بد أن ينوي استباحة الصلاة ونحوها، فلا يكفي في الأصح نية فرض التيمم أو فرض الطهارة، أو الطهارة عن الحدث أو الجنابة أو رفع الحدث، لأن التيمم لا يرفع الحدث عندهم، ولأن التيمم ليس مقصوداً في نفسه، وإنما يؤتى به عن ضرورة، فلا يجعل مقصوداً.
والأصح عندهم أنه لا يشترط التعيين في النية، فإذا أطلق، صلى أي فرض شاء، وإن عين فرضاً، جاز أن يصلي غيره فرضاً أو نفلاً في الوقت أو غيره، لكن لا يصلي الفرض بنية النفل، أو بنية استباحة مطلق الصلاة، أي كما قال المالكية.
ويجب عندهم قرن النية بالنقل الحاصل للتراب بالضرب إلى الوجه، لأنه أول الأركان، ويجب على الصحيح استدامة النية إلى مسح شيء من الوجه.
وينوي عند الحنابلة استباحة ما لا يباح إلا بالتيمم كالصلاة ونحوها، من طواف ومس مصحف، أي كما قال الشافعية، ولا يصح بنية رفع الحدث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث عندهم كالمالكية والشافعية، لحديث أبي ذر: «فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك، فإنه خير لك» (1) .
__________
(1) صححه الترمذي.(1/513)
ويجب عندهم تعيين النية لما تيمم له كصلاة وطواف ومس مصحف، من حدث أصغر أو أكبر، أو نجاسة على بدنه؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة، فلم يكن بد من تعيين النية تقوية لضعفه.
وصفة التعيين: أن ينوي استباحة صلاة الظهر مثلاً من الجنابة إن كان جنباً، أو من الحدث إن كان محدثاً، أو منهما إن كان جنباً محدثاً، وما أشبه ذلك.
وإن تيمم لجنابة لم يجزه عن الحدث الأصغر؛ لأنهما طهارتان، فلم تتأد إحداهما بنية الأخرى.
وقال الحنفية: يشترط لصحة نية التيمم الذي تصح به الصلاة أن ينوي أحد أمور ثلاثة:
إما نية الطهارة من الحدث، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة كالصلاة أو سجدة التلاوة أو صلاة الجنازة. فإن نوى التيمم فقط من غير أن يلاحظ استباحة الصلاة، أو رفع الحدث القائم به، لم تصح الصلاة به. كما لا تصح الصلاة إذا نوى ما ليس بعبادة أصلاً كدخول المسجدومس المصحف (1) ، أو نوى عبادة غير مقصودة لذاتها كالأذان والإقامة (2) ، أو نوى عبادة مقصودة تصح بدون طهارة كالتيمم من المحدث حدثاً أصغر لقراءة القرآن، أو للسلام أو رده.
فإن تيمم الجنب لقراءة القرآن، صح له أن يصلي به سائر الصلوات.
ولا يشترط عندهم تعيين الحدث أو الجنابة، وإنما يصح التيمم بإطلاق النية، ويصح أيضاً بنية رفع الحدث؛ لأن التيمم رافع له كالوضوء.
ويشترط لصحة النية عندهم: الإسلام، والتمييز، والعلم بما ينويه ليعرف حقيقة المنوي.
ومذهب الحنفية هنا أولى الآراء لسماحته ويسره وسعته.
__________
(1) لأن العبادة في الاعتكاف في المسجد، وفي التلاوة.
(2) لأن الغرض منهما الإعلان.(1/514)
والدليل على اشتراط النية الحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» واستدل الحنفية: بأن التراب ملوث، فلا يكون مطهراً إلا بالنية، أي أن التراب ليس بطهارة حقيقية، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية، بخلاف الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية، فلا يشترط له الحاجة ليصير طهارة، فلا يشترط له النية.
2 ً -مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب (1) :
لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة:5/6] .
والمطلوب في اليدين عند الحنفية والشافعية: مسحهما إلى المرفقين كالوضوء، على وجه الاستيعاب، للآية المذكورة، لقيام التيمم مقام الوضوء، ولأن اليد أطلقت في التيمم، وقيدت في الوضوء بقوله تعالى: {إلى المرافق} [المائدة:5/6] ، فيحمل التيمم على الوضوء، ويقاس عليه، ولحديث عمار: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة للوجه واليدين» (2) .
__________
(1) يلاحظ أن المالكية جعلوا هذا فريضتين: إحداهما ـ الضربة الأولى أي وضع الكفين على الصعيد، والثانية ـ تعميم الوجه واليدين إلى الكوعين. وعند الشافعية والحنابلة: مسح جميع الوجه فرضاً، ومسح اليدين فرضاً آخر.
(2) رواه أحمد وأبو داود. أما حديث ابن عمر: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، فهو ضعيف.(1/515)
واكتفى المالكية والحنابلة بمسح اليدين إلى الكوعين، أما من الكوعين إلى المرفقين فسنة، مستدلين بقوله تعالى: {وأيديكم} [المائدة:6/5] ، وإذا علق حكم بمطلق اليدين، لم يدخل فيه الذراع، كقطع السارق، ولحديث عمار بن ياسر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين (1) ، ولقول عمار: أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت (تمرغت أو تقلبت) في الصعيد، وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إنما كان يكفيك هذا، وضرب النبي صلّى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (2) .
والمفروض عند الحنفية والشافعية: ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين. وقال المالكية والحنابلة: الفريضة: الضربة الأولى: أي وضع الكفين على الصعيد، وأما الضربة الثانية فهي سنة، كما سيأتي.
وسبب الخلاف: أن الآية مجملة في ذلك، والأحاديث متعارضة، وقياس التيمم على الوضوء في جميع أحواله غير متفق عليه. والذي في حديث عمار الثابت من ذلك: إنما هو ضربة واحدة للوجه والكفين معاً، وهناك أحاديث فيها ضربتان، فرجح الجمهور هذه الأحاديث قياساً للتيمم على الوضوء، ومن هذه الأحاديث حديث ابن عمر: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» (3) وروى أبو داود: «أنه صلّى الله عليه وسلم تيمم بضربتين مسح بإحداهما وجهه، وبأخرى ذراعيه» (4) .
__________
(1) رواه الترمذي وصححه (نيل الأوطار:263/1) .
(2) متفق عليه، وفي لفظ: «إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين» رواه الدارقطني (نيل الأوطار:264/1) .
(3) أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي، لكن في إسناده ضعيف، وهو موقوف على ابن عمر.
(4) فيه راوٍ ليس بالقوي عند المحدثين، فسنده ضعيف (انظر نصب الراية:150/1-154) .(1/516)
واتفق الفقهاء على وجوب نزع الخاتم في التيمم، بخلاف الوضوء؛ لأن التراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء. ومحل الوجوب عند الشافعية في الضربة الثانية، ويستحب في الأولى، وإيجاب النزع إنما عند المسح لا عند نقل التراب.
وأوجب المالكية والحنفية أيضاً تخليل الأصابع بباطن الكف أو الأصابع ليتم المسح.
واكتفى الشافعية والحنابلة بالقول بأنه يندب تخليل الأصابع بعد مسح اليدين احتياطاً.
ولا يجب إيصال التراب منبت الشعر الخفيف، فلا يوصل التراب إلى ما تحت شعر اللحية مثلاً ولو خفيفاً، لما فيه من العسر، بخلاف الوضوء، وليس فيه مضمضة واستنشاق، لئلا يدخل التراب فمه وأنفه، بل يكرهان لما فيهما من التقذير.
3 ً - الترتيب فرض عند الشافعية، وعند الحنابلة في غير حدث أكبر:
أي بين عضوي التيمم؛ لأن التيمم مبني على الطهارة بالماء، والترتيب فرض في الوضوء، فكذا في التيمم القائم مقامه، أما التيمم لحدث أكبر ونجاسة ببدن، فلا يعتبر فيه ترتيب.
وقال الحنفية والمالكية: الترتيب في التيمم بين العضوين (الوجه واليدين) مستحب لا واجب؛ لأن الفرض الأصلي المسح، وإيصال التراب وسيلة إليه.
4 ً - الموالاة فرض عند الحنابلة والمالكية، وقيدها الحنابلة بغير الحدث الأكبر كالترتيب: بأن يوالي بين أجزاء التيمم، بألا يؤخر مسح عضو عما قبله زمناً بقدرها في الوضوء، أي بحيث لو قدر مغسولاً لجف بزمن معتدل.
وأضاف المالكية: أن يوالي بين التيمم وبين ما فعل له من صلاة ونحوها.
وقال الشافعية والحنفية: موالاة التيمم كالوضوء سنة، كما تسن الموالاة أيضاً بين التيمم والصلاة، خروجاً من خلاف من أوجبها، وهم المالكية كما قدمنا.
5 ً - الصعيد الطاهر فرض عند المالكية، شرط عند غيرهم:(1/517)
والصعيد عند المالكية (1) : كل ما صعد على الأرض من أجزائها، كتراب وهو الأفضل من غيره عند وجوده، ورمل وحجارة وحصى، وجص (2) لم يحرق بالنار، فإن أحرق أو طبخ لم يجز التيمم به، ولو نقل ذلك من محله: بأن يجعل بينه وبين الأرض حائل.
ويجوز التيمم على المعادن ما دامت في مواضعها ولم تنقل من محلها، إذا لم تكن من أحد النقدين (الذهب أو الفضة) أو من الجواهر كاللؤلؤ. فلا يتيمم على المعادن من شبّ ومِلْح وحديد ورصاص وقصدير وكحل إن نقلت من محلاتها، وصارت أموالاً في أيدي الناس، ولا يتيمم على الذهب والفضة ولو في مكانهما الأصلي، ولا على الجواهر كالياقوت والزبرجد واللؤلؤ ولو بمحلها، ولا يجوز التيمم في قول على الخشب والحشيش، ولو لم يوجد غيرهما، إذ ليس كلاهما بصعيد ولا ما يشبه الصعيد، والمعتمد جواز التيمم عليها عند عدم غيرهما.
ويجوز التيمم على الجليد: وهو الثلج المجمد من الماء على وجه الأرض أو البحر؛ لأنه أشبه بجموده الحجر، فالتحق بأجزاء الأرض.
__________
(1) الشرح الصغير:195/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص38، الشرح الكبير:155/1وما بعدها.
(2) الجص: نوع من الحجر يحرق بالنار ويسحق ويبنى به القناطر والمساجد والبيوت العظيمة.(1/518)
ومذهب الحنفية كالمالكية، فقال أبو حنيفة ومحمد (1) : يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، كالتراب (وهو مجمع عليه) والغبار، والرمل، والحجر، والجِصّ (الكلس) والنُّورة (حجر الكلس) ، والكُحْل والزَّرْنيخ، وإن لم يكن عليها غبار؛ لأن الصعيد اسم لوجه الأرض، وهذا لا يوجب الاختصاص بالتراب، بل يعم جميع أجزاء الأرض، ولحديث أبي هريرة: أن ناساً من أهل البادية أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نكون بالرمال، الأشهر الثلاثة والأربعة، ويكون فينا الجنب والنفساء والحائض، ولسنا نجد الماء، فقال عليه السلام: «عليكم بالأرض، ثم ضرب بيده على الأرض لوجهه ضربة واحدة، ثم ضرب أخرى، فمسح بها على يديه إلى المرفقين» (2) وقال الإمام البخاري: «لا بأس بالصلاة على السبخة والتيمم منها» وهي الأرض ذات الملح والنزز.
ويجوز عند المالكية والحنفية التيمم بحجر أو صخرة لا غبار عليهما، وبتراب ندي لا يعلق باليد منه غبار، كما يجوز التيمم بالغبار، بأن ضرب يده على ثوب أو لبد أو سرج، فارتفع غباراً.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد غير محترق، فإن كان جرشاً أو ندياً لا يرتفع له غبار لم يكف.
__________
(1) فتح القدير:88/1، البدائع:53/1 وما بعدها، اللباب:37/1. وقال أبو يوسف: لايجوز إلا بالتراب والرمل خاصة؛ لأن ابن عباس فسّر الصعيد الطيب بالتراب المنبت، وزاد عليه أبو يوسف: الرمل، بالحديث الذي ذكر في دليل الطرفين.
(2) رواه أحمد والبيهقي وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى الموصلي والطبراني، لكنه حديث ضعيف (نصب الراية:156/1) .
(3) المهذب:32/1، مغني المحتاج:96/1 وما بعدها، المغني:247/1-249، كشاف القناع:197/1 ومابعدها، بجيرمي الخطيب:252/1، غاية المنتهى:61/1.(1/519)
وأضاف الشافعية: يجوز برمل فيه غبار، ولا يجوز عند الحنابلة التيمم برمل، ونحت حجارة ونحوه، وعن أحمد: رواية أخرى: أنه يجوز التيمم بالرمل.
ولا يجوز عند الفريقين التيمم بمعدن كنفط وكبريت ونورة، ولا بسُحاقة خزف، إذ لا يسمى ذلك تراباً، ولا بتراب مختلط بدقيق ونحوه كزعفران وجص، لمنعه وصول التراب إلى العضو، ولا بجص مطبوخ لأنه ليس بتراب، ولا بسبخة ونحوها مما ليس له غبار، ولا بطين رطب لأنه ليس بتراب، ولا بتراب نجس، كالوضوء باتفاق العلماء لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] ، ولا بما استعمل في العضو عند الشافعية، ولا بمغصوب ونحوه كتراب مسجد عند الحنابلة.
وإن ضرب على لبد أو ثوب أو جوالق أو بساط، فعلق بيديه غبار، فتيمم به، جاز، وأعجب الإمام أحمد حمل التراب لأجل التيمم احتياطاً للعبادة.
ودليلهم قوله عز وجل: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة:6/5] وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد، فما لا غبار له كالصخر لا يمسح بشيء منه، ولأنه طهارة، فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة، كمسح الرأس، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «جعل لي التراب طهوراً» (1) .
وذكر الحنابلة: أنه لو وجد ثلجاً وتعذر تذويبه، لزمه مسح أعضائه، الواجب غسلها به، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر، فائتوا منه ما استطعتم» ، ويعيد الصلاة، إن لم يجر على الأعضاء بالمس؛ لأنه صلى مع وجود الماء في الجملة، بلا طهارة كاملة، كما لو صلى بلا تيمم، مع وجود طين يابس عنده، لعدم ما يدقه به، ليصير له غبار.
__________
(1) رواه الشافعي وأحمد من حديث علي، وهو حديث حسن.(1/520)
وقال ابن عباس: «الصعيد: تراب الحرث، والطيب الطاهر» . وإن كان الثلج يسيل على الأعضاء، لم يعد الصلاة، لوجود الغسل المأمور به، وإن كان خفيفاً.
هذا وقد اعتبر الشافعية: نقل التراب إلى العضو الممسوح أول أركان التيمم الخمسة عندهم (1) ، فلو نقل التراب من عضو حدث عليه تراب جديد إلى عضو التيمم، كفى في الأصح، لوجود مسمى النقل،،ولو كان على العضو تراب، فردده عليه من جانب إلى جانب، لم يكف ولم يجز، ويظهر لي أن رأي الشافعية والحنابلة أقوى، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] .
المطلب الرابع ـ كيفية التيمم:
للفقهاء رأيان في كيفية التيمم:
1 ً - رأي الحنفية والشافعية (2) : التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلي المرفقين، بدليل الحديث المتقدم، وهوما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» (3) ولأن اليد عضو في التيمم، فوجب استيعابه كالوجه. وأما حديث عمار رضي الله عنه الدال على الاكتفاء بالكفين، فيتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين، بدليل حديث أبي أمامة وابن عمر.
وهذا الرأي هو الأولى بالاتباع؛ لأن التيمم بدل عن الوضوء، فيكون محله أعضاء الوضوء المنصوص على وجوب التيمم فيها.
__________
(1) وبقية الأركان هي: نية استباحة الصلاة، ومسح الوجه، ومسح اليدين إلى المرفقين، والترتيب بين الوجه واليدين.
(2) البدائع:46/1، تبيين الحقائق:38/1، المهذب:32/1.
(3) روي أيضاً من حديث جابر عند الحاكم والدارقطني، ومن حديث عائشة عند البزار، لكن في هذه الروايات طعن وضعف (نصب الراية:150/1 ومابعدها) .(1/521)
2 ً - رأي المالكية والحنابلة (1) : التيمم الواجب: ضربة واحدة يمسح بها وجهه بباطن أصابعه، ثم كفيه براحتيه، لحديث عمار: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة واحدة للوجه واليدين» (2) ، لأن اليد إذا أطلقت لا يدخل فيها الذراع بدليل السرقة.
والأكمل عندهم خروجاً من خلاف من أوجبه: ضربتان يمسح بالثانية يديه إلى المرفقين، وكيفية المسح: أن يمر اليد اليسرى على اليمنى من فوق الكف إلى المرفق، ثم باطن المرفق إلى الكوع (الرسغ) ، ثم يمر اليمنى على اليسرى كذلك، وكيفما فعل أجزأه إذا أوعب.
واتفق الفقهاء على أنه إن تيمم بأكثر من ضربتين، جاز أيضاً؛ لأن المقصود إيصال التراب إلى محل الفرض، فكيفما حل جاز، كالوضوء.
المطلب الخامس ـ شروط التيمم:
اشترط الحنفية لصحة التيمم ثمانية شروط، والشافعية شرطوا عشرة، والمالكية والحنابلة شرطوا شرطين. وهذه الشروط قد تختلط بالفرائض المتقدمة، وقد تكون الأسباب السابقة نفسها.
أما المالكية ففسروا الشروط بالأسباب وقالوا (3) : يشترط لجواز التيمم في الجملة شرطان: عدم الماء، أو تعذر استعماله.
وأما تفصيلاً فهي ما يلي:
__________
(1) الشرح الصغير:194/1،198، القوانين الفقهية: ص38، المغني:244/1،254، كشاف القناع:200/1،205.
(2) رواه أحمد والأئمة الستة بإسناد صحيح (نصب الراية:154/1) .
(3) القوانين الفقهية: ص37.(1/522)
عدم الماء في السفر، والمرض، وفي الحضر: أن يجد من الماء ما لا يكفيه، وعدم الآلة الموصلة إلى الماء كالدلو أو الرشاء (الحبل) ، وأن يخاف العطش على نفسه أو غيره من آدمي أو بهيمة، وأن يخاف إن خرج إلى الماء لصوصاً أو سباعاً، وأن يجد الماء غالياً يجحف به شراؤه، وأن يخاف فوات الوقت إن ذهب إلى الماء أو انتظره، أو استعمله، وأن يخاف الموت من البرد، أو حدوث مرض أو زيادته أو تأخر برء، أو يكون مريضاً لا يجد من يناوله الماء، أو يكون قد استوعبت الجراح أو القروح أكثر جسد الجنب، أو أعضاء الوضوء من المحدث.
ويلاحظ أن هذه الحالات هي أسباب للتيمم، والذي يمكن جعله شرطاً عند المالكية: اثنان: فعله بعد دخول الوقت، وطلب الماء. أما عند الحنابلة فشرطا التيمم هما: دخول وقت ما يتيمم له، والعجز عن استعمال الماء.
يتبين مما ذكر أن شروط التيمم هي ما يأتي:
الشرط الأول ـ الصعيد الطاهر: فلا يصح التيمم بغير صعيد الأرض (التراب عند الشافعية والحنابلة، وكل ما كان من جنس الأرض عند الحنفية والمالكية) ، ولا بالصعيد المتنجس، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] .
وهذا شرط لصحة التيمم عند الجمهور، فرض عند المالكية، كما تقدم في فروض التيمم. وأضاف الحنابلة: أن يكون التراب مباحاً، فلو تيمم بمغصوب أو بتراب مقبرة تكرر نبشها أو بتراب مسجد لم يجز.
الشرط الثاني ـ كون التيمم بعد دخول الوقت: أي وقت ما يتيمم له. وهذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية، كما اتضح في بحث صفة التيمم.
الشرط الثالث ـ طلب الماء: يشترط لجواز التيمم باتفاق المذاهب الأربعة طلب الماء ما لم يتيقن عدم وجوده؛ لأنه لا يسمى فاقد الماء (أو غير واجده أوعادمه) إلا إذا طلب الماء، فلم يجده. لكن الفقهاء اختلفوا في تقدير المسافة التي يلزم طلب الماء فيها، وقد أشرت إليها سابقاً في بحث أسباب التيمم، وأذكرها هنا تفصيلاً:(1/523)
1 - مذهب الحنفية (1) : على المقيم في البلد طلب الماء قبل التيمم مطلقاً، سواء ظن قربه أو لم يظن، أما المسافر أو خارج المصر الذي يريد التيمم، فليس عليه طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء؛ لأن الغالب عدم الماء في الفلوات.
وإن غلب على ظنه وجود الماء، لم يجز له التيمم حتى يطلبه بنفسه أو برسوله، بمقدار غَلْوة سهم من كل جانب، ولا يبلغ ميلاً (2) ، وظاهره أنه لا يلزمه المشي، بل يكفيه النظر في الجهات الأربع، لئلا ينقطع عن رفقته، ودفعاً للحرج عن نفسه، لقوله تعالى إثر آية التيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم} [المائدة:6/5] ، ولا حرج فيما دون الميل، قال الكاساني: أقرب الأقاويل اعتبار الميل؛ لأن الجواز لدفع الحرج، ثم قال: والأصح أنه يطلب قدر ما لا يضر بنفسه ورفقته بالانتظار.
فإن قصر في طلب الماء، وصلى ولم يطلبه، وجبت عليه الإعادة عند أبي حنيفة ومحمد.
وإن كان مع رفيقه ماء طلب منه قبل أن يتيمم، لعدم المنع غالباً، فإن منعه منه تيمم لتحقق العجز. لكن لو تيمم قبل الطلب من رفيقه أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير. وقال الصاحبان: لا يجزيه؛ لأن الماء مبذول عادة. ولو أبى أن يعطيه إلا بثمن المثل، وعنده ثمنه، لا يجزئه التيمم، لتحقق القدرة، ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش (3) .
وإن لم يغلب على ظنه قرب الماء لا يجب طلبه، بل يندب إن رجا وجود الماء.
وإن كان بينه وبين الماء ميل فأكثر، تيمم.
2 - مذهب المالكية (4) : إن تحقق عدم الماء فلا يلزمه طلبه.
__________
(1) البدائع46/1 ومابعدها، فتح القدير84/1،98، الدر المختار227/1 ومابعدها، اللباب 36/1.
(2) الغلوة مقدار رمية سهم، وهي أربع مئة ذراع (8، 184م) والميل في اللغة: منتهى مد البصر، والمراد به ههنا: أربعة آلاف خطوة: أو ثلث فرسخ، أو1848م.
(3) قال أبو حنيفة: إن كان لايبيع إلا بضعف القيمة فهو غالٍ، وقيل: هو مالايدخل تحت تقويم المقومين.
(4) الشرح الكبير153/1(1/524)
وإن علم وجود الماء أو ظنه أو شك فيه في مكان أو توهم وجوده، لزمه طلبه لكل صلاة طلباً لا يشق عليه بالفعل، وهو على أقل من ميلين. كما يلزمه طلبه من رُفْقته إن اعتقد أو ظن أو شك أو توهم إعطاءهم، فإن لم يطلب منهم وتيمم، ثم تبين وجود الماء أو لم يتبين شيئاً، أعاد الصلاة أبداً إن اعتقد أو ظن الإعطاء، وأعاد في الوقت فقط إن شك أو توهم.
ويلزمه شراء الماء بثمن معتاد لم يحتج له، نقداً أو ديناً في الذمة، فإن زاد على الثمن المعتاد، ولو درهماً على الراجح، في ذلك المحل وما قاربه، فلا يلزمه الشراء.
3 - مذهب الشافعية (1) : إن تيقن المسافر أو المقيم فقد الماء حوله، تيمم بلا طلب. وإن توهم الماء (وقع في وهمه - تصور ذهنه - أي جوز ذلك) ، طلبه من رحله ورُفقته، ونظر حواليه إن كان بمستو من الأرض، فإن احتاج إلى تردد، تردد في الجهات الأربعة قدر نظره في المستوي , إن أمن على نفسه وماله وانقطاعه عن الرفقة , بمقدار حد الغوث , وهو غلوة سهم , فإن لم يجد ماء تيمم. ولو مكث في موضعه فالأصح وجوب الطلب لما يطرأ.
وإن تيقن الماء في محل , طلبه في حد القرب: وهو ستة آلاف خطوة.
ويجب شراؤه بثمن مثله إن كان قادرا عليه بنقد أو غيره , ولم يحتج إليه، وثمن المثل: هو على الأصح ما تنتهي إليه الرغبات في ذلك الموضع في تلك الحالة. ولا يجب عليه شراؤه بزيادة على ذلك، وإن قلَّت. لكن إن بيع لأجل بزيادة لائقة بذلك الأجل وكان موسرا , والأجل ممتد إلى موضع ماله، وجب الشراء؛ لأن ذلك لا يخرجه عن ثمن المثل. ويندب له أن يشتريه إذا زاد على ثمن مثله، وهو قادر على شرائه.
ولا يجب طلب الماء في حد البعد: وهو مازاد عن ستة آلاف خطوة، وله أن يتيمم.
__________
(1) مغني المحتاج87/1 -90(1/525)
4 - مذهب الحنابلة (1) : يلزم طلب الماء لوقت كل صلاة، بعد دخول الوقت في رحله (أي ما يسكنه وما يستصحبه من الأثاث) وفيما قرب منه عرفاً وعادة، ويسع في جهاته الأربع إلى ما قرب منه مما عادة القوافل السعي إليه، ويسأل رفقته ذوي الخبرة بالمكان عن موارد الماد، كما يسألهم عمن يبيع له الماء أو يبذله له. وإن رأى خُضْرة أو شيئاً يدل على الماء لزمه قصده، وإن كان بقربه ربوة أو شيء قائم، أتاه وفتش عنده قطعاً للشك. وإن كان سائراً طلبه أمامه فقط؛ لأن في طلبه فيما عدا ذلك ضرراً به. وإن دله أو أرشده عليه ثقة (عدل ضابط) لزمه قصده إن كان قريباً عرفاً.
فإن تيمم وصلى بعد طلب الماء وفقده، صح تيممه وصلاته، ولم يعد الصلاة؛ لأنها صلاة تيمم صحيح.
هذا وقد ذكر الحنابلة شرطاً آخر لصحة التيمم: وهو العجز عن استعمال الماء؛ لأن غير العاجز يجد الماء على وجه لا يضره، فلم يتناوله النص: {وإن كنتم مرضى أو على سفر، فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة:6/5] ، لكن يلاحظ أن هذا سبب من أسباب التيمم التي ذكرتها.
وعد بعض الحنابلة ثمانية شروط للتيمم وهي: نية وإسلام وعقل وتمييز واستنجاء أو استجمار، وإزالة ما على بدن من نجاسة ذات جرم، ودخول وقت لصلاة ولو منذورة بزمن معين، وتعذر ماء ولو بحبس أو غيره.
شروط التيمم عند الحنفية:
ذكر الحنفية شروطاً ثمانية لصحة التيمم، بعضها من أسباب التيمم، وبعضها من فرائض التيمم عند غيرهم وبعضها داخل في كيفية التيمم، وهذه الشروط هي باختصار ما يأتي (2) :
1ً - النية: وهي عقد القلب على الفعل، ووقتها: عند ضرب يده على ما يتيمم به. ويشترط لصحة النية عندهم ثلاثة شروط: الإسلام، والتمييز، والعلم بما ينويه. كما يشترط لصحة نية التيمم للصلاة به: أحد ثلاثة أشياء: إما نية
__________
(1) كشاف القناع:192/1 ومابعدها، غاية المنتهى:54/1.
(2) البدائع:52/1 وما بعدها، الدر المختار:213/1،228، مراقي الفلاح: ص19 ومابعدها.(1/526)
الطهارة، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة (1) لا تصح بدون طهارة، فله الصلاة بالتيمم بنية الصلاة أو صلاة الجنازة، أو سجدة التلاوة، وليس له الصلاة بالتيمم بنية دخول المسجد ومس المصحف ولو كان جنباً؛ لأنه عبادة غير مقصودة، ولا بنية قراءة القرآن للمحدث حدثاً أصغر، ولكن له الصلاة بتيمم بنية الجنب قراءة القرآن، لجواز قراءة المحدث، لا الجنب، وليس له الصلاة بتيمم لزيارة القبور والأذان والإقامة والسلام ورده أو للإسلام؛ لأنها تصح بدون طهارة.
2ً - العذر المبيح للتيمم: كبعده ميلاً عن الماء ولو في المصر، وحصول مرض، وبرد يخاف منه التلف أو المرض، وخوف عدو وعطش، واحتياج لعجن، لا لطبخ مرق لا ضرورة إليه، ولفقد آلة، وخوف فوت صلاة جنازة أو عيد لو اشتغل بالوضوء (2) ، وليس من العذر خوف فوت الجمعة، وفوات الوقت، لو اشتغل بالوضوء.
3ً - أن يكون التيمم بطاهر من جنس الأرض كالتراب والحجر والرمل، والفيروزج والعقيق، لا الحطب والفضة والذهب والنحاس والحديد، وضابطه: أن كل شيء يصير رماداً، أو ينطبع (يلين) بالإحراق، لا يجوز التيمم به، وإلا جاز لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] ، والصعيد: اسم لوجه الأرض تراباً كان أو غيره.
4ً - استيعاب المحل بالمسح.
5ً - أن يمسح بجميع اليد أو بأكثرها (أي بثلاث أصابع) فلو مسح بأصبعين مثلاً لا يجوز حتى ولو كرر واستوعب المحل الممسوح، بخلاف مسح الرأس في الوضوء.
__________
(1) المقصودة: هي ما لا تجب في ضمن شيء آخر بطريق التبعية.
(2) ولو من أجل البناء على صلاته السابقة، كأن سبقه الحدث في صلاة الجنازة أو العيد، فله أن يتيمم ويتم صلاته، لعجزه عنه بالماء.(1/527)
6ً - أن يكون بضربتين بباطن الكفين، ولو في مكان واحد على الأرض. ويقوم مقام الضربتين: إصابة التراب بجسده إذا مسحه بنية التيمم.
7ً - انقطاع ما ينافيه من حيض أو نفاس أو حدث، كما هو مشروط في الوضوء.
8ً - زوال ما يمنع المسح على البشرة، كشمع وشحم، حتى يتحقق مسح الجسد، وهذا مانع من تحقق المسح عليه.
شروط التيمم عند الشافعية:
ذكر الشافعية عشرة شروط للتيمم هي ما يأتي (1) :
1ً - أن يكون بتراب على أي لون كان كالمدر والسبخ (2) الذي عليه غبار وغيرهما، حتى ما يداوى به كالطين الأرمني إذا سحق، وحتى غبار رمل خشن أو ناعم، لا مشوي بقي اسمه وزال غباره.
2ً - وأن يكون طاهراً، لقوله تعالى: {صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] ، قال ابن عباس: تراباً طاهراً.
3ً - ألا يكون مستعملاً كالماء: وهوما بقي بمحل التيمم أو تناثر بعد مسه العضو حالة التيمم، في الأصح.
4ً - ألا يخالطه دقيق ونحوه كزعفران وجص، لمنعه وصول التراب إلى العضو.
5ً - أن يقصده، فلو سَفَتْه (ألقته) ريح عليه، فردده على أعضاء التيمم، ونوى، لم يجزئ، لأنه لم يقصد التراب بنقله إليه، وإنما التراب أتاه. لكن لو يُمم بغيره بإذنه، جاز.
6ً - أن يمسح وجهه ويديه بضربتين، وإن أمكن بضربة بخرقة ونحوها.
7ً - أن يزيل النجاسة أولاً، فلو تيمم قبل إزالتها، لم يجز على المعتمد، لأن التيمم للإباحة، ولا إباحة مع المانع، فأشبه التيمم قبل الوقت.
8ً - أن يجتهد في القبلة قبل التيمم، فلو تيمم قبل الاجتهاد فيها، لم يصح على الأوجه.
__________
(1) المهذب:32/1-34، مغني المحتاج:96/1-99، الحضرمية: ص26.
(2) السبخ بكسر الباء: هو ما لا ينبت، إذا لم يعله الملح، فإن علاه لم يصح التيمم به.(1/528)
9ً - أن يقع التيمم بعد دخول الوقت، لأنه طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبله، فيتيمم للنافلة المطلقة فيما عدا وقت الكراهة، وللصلاة على الميت بعد طهره، وللاستسقاء بعد تجمع الناس، وللفائتة بعد تذكرها.
10ً - أن يتيمم لكل فرض عيني؛ لأن التيمم طهارة ضرورة، فيقدر بقدرها.
المطلب السادس ـ سنن التيمم ومكروهاته:
يسن في التيمم الأمور التالية (1) علماً بأنها سبع عند الحنفية، وتسع عند المالكية، وخمس عشرة عند الشافعية، واثنتان عند الحنابلة.
أما سننه عند الحنفية فهي ما يأتي:
1ً - التسمية في أوله، كالوضوء، بأن يقول: بسم الله، وقيل: الأفضل: بسم الله الرحمن الرحيم.
2ً - 4ً - الضرب بباطن الكفين وإقبال اليدين بعد وضعهما في التراب، وإدبارهما مبالغة في الاستيعاب، ثم نفضهما، اتقاء عن تلويث الوجه، نقل ذلك عن أبي حنيفة.
5ً - تفريج الأصابع، ليصل التراب إلى ما بينهما.
6ً، 7ً - الترتيب والموالاة (الوِلاء) أي مسح المتأخر عقب المتقدم، بحيث لو كان الاستعمال بالماء لا يجف المتقدم، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
وسنن التيمم عند المالكية أربع:
1ً - الترتيب: بأن يمسح الوجه أولاً، ثم اليدين، فإن نكس أعاد المنكس وحده وهو اليدان، إن قرب ولم يصلّ به وإلا بطل التيمم. أما الموالاة فهي فرض عندهم.
2ً، 3ً - الضربة الثانية ليديه، والمسح إلى المرفقين.
4ً - نقل أثر الضرب من الغبار إلى الممسوح، بأن لا يمسح على شيء قبل مسح الوجه واليدين، فإن مسحهما بشيء قبل ما ذكر، كره وأجزأ، وهذا لا يمنع من نفضهما نفضاً خفيفاً.
وأضاف المالكية فضائل أو مندوبات أخرى للتيمم وهي:
__________
(1) الدر المختار:213/1، مراقي الفلاح: ص20، الشرح الصغير:198/1، الشرح الكبير:157/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص38، بجيرمي الخطيب:256/1، المهذب:33/1، مغني المحتاج:99/1، كشاف القناع:204/1.(1/529)
1ً - التسمية: بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم على الأظهر، أو بسم الله في قول آخر. 2ً، 3ً - الصمت، واستقبال القبلة.
4ً، 5ً - البدء باليد اليمنى، وجعل ظاهرها من طرف الأصابع بباطن يسراه، ثم يُمرّها من فوق الكف إلى المرفق، ثم باطن المرفق إلى الكوع (الرسغ) ثم يمر اليمنى على اليسرى كذلك، كما فعل في اليمنى، ثم يخلل أصابعه وجوباً، كما أوضحت في الفرائض.
وسنن التيمم عند الشافعية نحو خمس عشرة:
التسمية الكاملة أوله كالوضوء والغسل، والبداءة بأعلى الوجه.
وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين، وتفريق الأصابع في الضربة الأولى، وتخليل الأصابع بعد مسح اليدين احتياطاً، وتخفيف الغبار بحيث يبقى بقدر الحاجة، لئلا تتشوه به خلقته، وعملاً بحديث عمار السابق وغيره.
والموالاة، كالوضوء لأن كلاً منهما طهارة عن حدث، والموالاة بين التيمم والصلاة، خروجاً من خلاف من أوجبها، وهم المالكية.
ويسن أيضاً إمرار اليد على العضو كالدلك في الوضوء، وألا يرفع اليد عن العضو قبل تمام مسحه، خروجاً من خلاف من أوجبه.
ومن سننه أيضاً مسح بعض العضد كالتحجيل في الوضوء، وعدم تكرار المسح؛ لأن المطلوب منه تخفيف الغبار، واستقبال القبلة، والشهادتان بعده، كالوضوء فيهما.
ويسن نزع الخاتم في الضربة الأولى، ويجب نزعه في الضربة الثانية عند المسح.
ويسن صلاة ركعتين عقبه قياساً على الوضوء، والسواك قبله بين التسمية ونقل التراب إلى أعضاء التيمم، كما أنه في الوضوء بين غسل اليدين والمضمضة.(1/530)
أما الحنابلة: فاعتبروا التسمية والترتيب والموالاة واجبة في التيمم كالوضوء، ولم يعدوا من سنن التيمم سوى أن تأخيره أولى بكل حال إلى آخر الوقت المختار، إن رجا وجود الماء، لقول علي رضي الله عنه في الجن: «يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء، وإلا تيمم» ولأنه يستحب التأخير للصلاة إلى ما بعد العَشَاء، وقضاء الحاجة، كيلا ذهب خشوعها وحضور القلب فيها، ويستحب تأخيرها لإدراك الجماعة، فتأخيرها لإدراك الطهارة المشترطة أولى. كما أنهم اعتبروا تخليل الأصابع مستحباً، وليس بفرض (1) .
وصفة التيمم عندهم (2) : أن ينوي استباحة ما يتيمم له، كفرض الصلاة من الحدث الأصغر، أو الأكبر ونحوه، ثم يسمي، فيقول: بسم الله، وتسقط سهواً، ويضرب يديه مفرجتي الأصابع ليصل التراب إلى ما بينها، على التراب أو على غيره مما له غبار طهور، كلبد أو ثوب أو بساط أو حصير أو برذعة حمار ونحوها، ضربة واحدة، بعد نزع خاتم ونحوه، ليصل التراب إلى ما تحته، وإن كان التراب خفيفاً كره نفخه لئلا يذهب فيحتاج إلى إعادة الضرب. ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، ثم كفيه براحتيه، لحديث عمار السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة واحدة للوجه واليدين» (3) .
ويجوز أن يمسح بضربتين، بإحداهما وجهه، وبالأخرى يديه إلى المرفقين، وهو حسن.
مكروهات التيمم:
يتبين من بحث سنن التيمم أنه عند الحنفية يكره ترك سنة من السنن المتقدمة، وتكرار المسح.
وقال المالكية: تكره الزيادة على مرة في المسح، وكثرة الكلام في غير ذكر الله، وإطالة المسح إلى ما فوق المرفقين وهو المسمى بالغرة والتحجيل.
وقال الشافعية: يكره تكثير التراب، وتكرار المسح، وتجديد التيمم ولو بعد فعل صلاة، ونفض اليدين بعد تمام التيمم.
__________
(1) المغني:243/1،254
(2) كشاف القناع:204/1 ومابعدها، المغني:254/1.
(3) رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح.(1/531)
وقال الحنابلة: يكره تكرار المسح، وإدخال التراب في الفم والأنف، والضرب أكثر من مرتين، ونفخ التراب إن كان خفيفاً.
المطلب السابع: نواقض التيمم أو مبطلاته:
ينقض التيمم ما يأتي (1)
1ً - كل ما ينقض الوضوء والغسل ينقض التيمم؛ لأنه بدل عنهما، وناقض الأصل ناقض لخلفه، فلو تيمم للجنابة، ثم أحدث صار محدثاً لا جنباً، فيتيمم وينزع خفيه إن كان لابسهما، ثم بعده يمسح عليهما، ما لم يجد الماء.
2ً - زوال العذر المبيح له كذهاب العدو والمرض والبرد ووجود آلة نزح الماء، وإطلاق سراحه من السجن الذي لا ماء فيه؛ لأن ما جاز بعذر بطل بزواله.
3ً - رؤية الماء أو القدرة على استعمال الماء الكافي ولو مرة عند الحنفية والمالكية، ولو لم يكف عند الشافعية والحنابلة، وذلك قبل الصلاة، لا فيها عند جماعة كما سيأتي، وأن يكون فاضلاً عن حاجته كعطش وعجن وغسل نجاسة؛ لأنه مشغول بالحاجة، وغير الكافي في رأي الحنفية والمالكية كالمعدوم.
وقال الحنفية: إن مرور نائم أو ناعس متيمم على ماء كاف يجعله كالمستيقظ، يبطل تيممه.
فإن رأى الماء أثناء الصلاة:
ينتقض تيممه عند الحنفية والحنابلة، لبطلان الطهارة بزوال سببها، ولأن الأصل إيقاع الصلاة بالوضوء، وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود ببدله، وللأدلة النصية المتقدمة في بحث إعادة الصلاة.
__________
(1) الدر المختار:234/1-236، مراقي الفلاح: ص21، اللباب:37/1 ومابعدها، فتح القدير:91/1 ومابعدها، البدائع:56/1، الشرح الصغير:199/1، الشرح الكبير:158/1، القوانين الفقهية: ص38، بجيرمي الخطيب:257/1-261 مغني المحتاج:101/1، المهذب:36/1، المغني:268/1،272، كشاف القناع:190/1،202، غاية المنتهى:63/1 ومابعدها.(1/532)
ولا ينتقض تيممه عند المالكية، ولا ينتقض بالنسبة للمسافر عند الشافعية؛ لأنه مأذون له بالدخول في الصلاة بالتيمم، والأصل بقاء ذلك الإذن، ولقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/47] ، وكان عمله سليماً قبل رؤية الماء، والأصل بقاؤه، وقياساً على رؤية الماء بعد الفراغ من الصلاة؛ لأن رؤية الماء ليست بحدث، فلا تبطل الصلاة، حفاظاً على حرمة الصلاة.
وتبطل صلاة المقيم عند الشافعية إن رأى الماء في أثناء الصلاة؛ لأنه كما أبنت سابقاً تلزمه إعادة الصلاة لوجود الماء، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة.
واستثنى المالكية حالة نسيان الماء: فمن كان ناسياً للماء الذي معه، فتيمم وأحرم بصلاة ثم تذكر فيها، تبطل إن اتسع الوقت.
أما إن رأى الماء بعد انتهاء الصلاة: فإن كان بعد خروج وقت الصلاة، لا يعيدها إجماعاً، دفعاً للحرج. وإن كان في أثناء الوقت، لم يعد الصلاة عند الجمهور (غير الشافعية) ، ويعيدها المقيم لا المسافر غير العاصي بسفره عند الشافعية، كما أوضحت سابقاً.
4ً - خروج الوقت: يبطل التيمم عند الحنابلة بخروج وقت الصلاة، وأضاف الحنابلة: إن خرج وقت الصلاة وهو فيها، بطل تيممه، وبطلت صلاته، لأن طهارته انتهت بانتهاء وقتها، فبطلت صلاته، كما لو انقضت مدة المسح وهو في الصلاة.
5ً - الردة: تبطل التيمم عند الشافعية، بخلاف الوضوء، لقوته، وضعف بدله، لكن تبطل نية الوضوء فيجب تجديدها، ولأن التيمم لاستباحة الصلاة، وهي منتفية مع الردة، هذا والردة تبطل التيمم ولو صورة كالواقعة من الصبي.
ولا يبطل التيمم بالردة عند الحنفية وغيرهم، فيصلي به إذا أسلم؛ لأن الحاصل بالتيمم صفة الطهارة، والكفر لا ينافيها كالوضوء، ولأن الردة تبطل ثواب العمل، لا زوال الحدث.
6ً - الفصل الطويل بين التيمم والصلاة: يُبطل التيمم عند المالكية دون غيرهم لاشتراطهم الموالاة بينه وبين الصلاة كما تقدم.(1/533)
المطلب الثامن ـ حكم فاقد الطهورين:
فاقد الطهورين: هو فاقد الماء والتراب، كأن حبس في مكان ليس فيه واحد منهما، أو في موضع نجس لا يمكنه إخراج تراب مطهر. أو كأن وجد ما هو محتاج إليه لنحو عطش، أو وجد تراباً ندياً ولم يقدر على تجفيفه بنحو نار. ومثله المصلوب وراكب سفينة لا يصل إلى الماء. ومثله: من عجز عن الوضوء والتيمم معاً بمرض ونحوه، كمن كان به قروح لا يستطيع معها مس البشرة بوضوء ولا تيمم.
وحكمه يتردد بين رأيين: إيجاب الصلاة عليه عند الجمهورمع الإعادة عند الحنفية والشافعية، وعدم الإعادة عند الحنابلة، وسقوط الصلاة عند المالكية على المعتمد. وهذا تفصيل الآراء (1) :
1 ً - الحنفية: المفتى به عندهم ما قاله الصاحبان: وهو أن فاقد الطهورين يتشبه بالمصلين وجوباً، فيركع ويسجد، إن وجد مكاناً يابساً، وألا يومئ قائماً، ولا يقرأ ولا ينوي، ويعيد الصلاة متى قدر على الماء أو التراب.
أما مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة، فيصلي بغير طهارة ولا يتيمم، ولا يعيد على الأصح.
والمحبوس الذي صلى بالتيمم يعيد الصلاة إن كان مقيماً في الحضر، لعدم الضرورة؛ لأن الحضر مظنة الماء، فلا ضرورة، ولا يعيدها في السفر؛ لأن الغالب فيه فقد الماء، وهذا مذهب الشافعية كما أبنت في بحث إعادة الصلاة.
2 ً - المالكية: المذهب المعتمد أن فاقد الطهورين وهما الماء والتراب، أو فاقد القدرة على استعمالهما كالمكره والمصلوب، تسقط عنه الصلاة أداء وقضاء، فلا يصلي ولا يقضي، كالحائض؛ لأن وجود الماء والصعيد شرط في وجوب أداء الصلاة، وقد عدم، وشرط وجوب القضاء: تعلق الأداء بذمة المصلي، ولم يتعلق الخطاب بأداء الصلاة في ذمته.
__________
(1) الدر المختار:232/1 وما بعدها، مراقي الفلاح: ص21، الشرح الصغير:200/1 ومابعدها، الشرح الكبير:162/1، المجموع للنووي:351/2، المهذب:35/1، مغني المحتاج:105/1 ومابعدها، كشاف القناع:195/1 ومابعدها.(1/534)
3 ً - الشافعية: يصلي فاقد الطهورين الفرض وحده في المذهب الجديد على حسب حاله بنية وقراءة، لأجل حرمة الوقت، ولا يصلي النافلة ويعيد الصلاة، إذا وجد الماء أو التراب في مكان لا ماء فيه؛ لأن هذا العذر نادر ولا دوام له، ولأن العجز عن الطهارة التي هي شرط من شروط الصلاة لا يبيح ترك الصلاة، كستر العورة وإزالة النجاسة، واستقبال القبلة، والقيام والقراءة. ومن على بدنه نجاسة يخاف من غسلها، ومن حبس عن الصلاة كفاقد الطهورين يصلون الفريضة فقط، إلا أن الجنب يقتصر على قراءة الفاتحة فقط.
والراجح لدي هذا الرأي، أي أن الصلاة تكون بحسب المعتاد، وتعاد لعدم النص الصريح في حكم حال هذا المصلي.
4 ً - الحنابلة: يصلي فاقد الطهورين الفرض فقط، على حسب حاله وجوباً، لقوله صلّى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» ولأن العجز عن الشرط لا يوجب ترك المشروط، كما لو عجز عن السترة والاستقبال، أي كما قال الشافعية.
ولا إعادة عليه، لما روي عن عائشة: «أنها استعارت من أسماء قلادة، فضلَّتها، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها، فوجدوها، فأدركتهم الصلاة، وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، فشكوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم» (1) ولم يأمرهم بالإعادة، ولأن الوضوء أحد شروط الصلاة، فسقط عند العجز، كسائر شروطها.
__________
(1) متفق عليه.(1/535)
ولا يزيد المصلي الفاقد الطهورين على ما يجزئ في الصلاة من قراءة وغيرها، فيقرأ الفاتحة فقط، ويسبح مرة فقط، ويقتصر على ما يجزئ في طمأنينة ركوع أو سجود، أو جلوس بين السجدتين، كما يقتصر على ما يجزئ في التشهد الأول والأخير، ثم يسلم في الحال.
ولا يتنفل، ولا يؤم متطهراً بماء أو تراب، لعدم صحة اقتداء المتطهر بالمحدث العالم بحدثه، لكن يؤم مثله.
ولا يقرأ في غير صلاة إن كان جنباً ونحوه كحائض ونفساء.
وتبطل صلاته بالحدث فيها، وبطروء نجاسة لا يعفى عنها؛ لأن ذلك ينافي الصلاة.
ولا تبطل صلاته بخروج وقتها بخلاف صلاة المتيمم؛ لأن التيمم يبطل فتبطل الصلاة.
وتبطل الصلاة على الميت إذا لم يغسل ولم يتيمم، لعدم الماء والتراب، ويجوز نبشه قبل تفسخه للغسل أو التيمم، لأنه مصلحة بلا مفسدة، فإن خيف تفسخه لم ينبش.
الفَصْلُ السَّابع: الحَيض، النِّفاس، الاسْتِحاضة
الدماء التي تخرج من فروج النساء ثلاثة: دم حيض: وهو الخارج في حالة الصحة، ودم استحاضة: وهو الخارج في حالة المرض، وهو غير دم الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما ذلك عِرْق وليس بالحيضة» (1) ،ودم نفاس: وهو الخارج مع الولد. ولكل أحكام، ففي هذا الفصل مباحث أربعة:
المبحث الأول ـ تعريف الحيض ووقته
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ تعريف الحيض:
الحيض: لغة: هو السيلان، يقال: حاض الوادي: إذا سال، وحاضت الشجرة: إذا سال صمغها.
وشرعاً: هو الدم الخارج في حال الصحة من أقصى رحم المرأة من غير ولادة ولا مرض، في أمد معين. ولونه عادة: السواد، وهو محتدم (أي شديد الحرارة) ، لذاع محرق (أي موجع مؤلم) ، كريه الرائحة.
والأصل فيه آية: {ويسألونك عن المحيض} [البقرة:222/2] ، أي الحيض، وخبر الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الحيض: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن عائشة، وسيأتي نصه الكامل، والمراد بقوله: عرق أي ينزف.(1/536)
ووقته: من بلوغ الأنثى تقريباً تسع سنين قمرية (1) ، إلى سن اليأس. فإن رأت الدم قبل هذه السن أو بعد سن اليأس، فهو دم فساد أو نزيف.
وتصبح الأنثى برؤية الحيض بالغة مكلفة مطالبة بجميع التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وحج ونحوها، كما أن الولد يبلغ بالاحتلام بخروج المني، ويحصل البلوغ باستكمال سن الخامسة عشرة، إذا لم يحصل الاحتلام أو الحيض.
واختلف الفقهاء في تحديد سن اليأس لعدم النص فيه، ولاعتمادهم على الاستقراء والتتبع لأحوال النساء (2) .
فقال الحنفية على المفتى به أو المختار: سن الإياس خمس وخمسون سنة، فإن رأت بعده دماً قوياً أسود أو أحمر قانياً، اعتبر حيضاً، وعليه: ما تراه آيسة على ظاهر المذهب يعد استحاضة ما لم يكن دماً خالصاً كالأسود والأحمر القاني.
وقال المالكية: سن اليأس سبعون سنة، وتسأل النساء في بنت الخمسين إلى السبعين، فإن قلن: حيض، أو شككن، فحيض، كما يسألن في المراهقة: وهي بنت تسع إلى ثلاث عشرة.
وقال الشافعية: لا آخر لسن اليأس، فما دامت حية فالحيض ممكن في حقها، لكن غالبه اثنان وستون سنة.
وقدر الحنابلة سن اليأس بخمسين سنة، لقول عائشة: «إذا بلغت امرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض» (3) وقالت أيضاً: «لن ترى في بطنها ولداً بعد الخمسين» (4) .
__________
(1) السنة القمرية: (6/1،5/1 و354) ثلاث مئة وأربعة وخمسون يوماً، وخمس يوم وسدسه.
(2) مراقي الفلاح: ص23، حاشية الصاوي على الشرح الصغير:208/1، تحفة الطلاب: ص33، الحضرمية: ص27، المغني: 363/1، كشاف القناع: 232/1، الدر المختار: 279/1 وما بعدها.
(3) ذكره أحمد.
(4) رواه أبو إسحاق الشالنجي.(1/537)
وهل تحيض الحامل؟ للفقهاء فيه رأيان:
فذهب المالكية، والشافعية في الأظهر الجديد (2) : إلى أن الحامل قد تحيض، وقد يعتريها الدم أحياناً ولو في آخر أيام الحمل، والغالب عدم نزول الدم بها، ودليلهم إطلاق الآية السابقة، والأخبار الدالة على أن الحيض من طبيعة المرأة، ولأنه دم صادف عادة، فكان حيضاً كغير الحامل.
وذهب الحنفية والحنابلة (2) : إلى أن الحامل لا تحيض، ولو قبل خروج أكثر الولد عند الحنفية، أما عند الحنابلة: فما تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة، يكون دم نفاس.
ودليلهم: قول النبي صلّى الله عليه وسلم في سبي أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض» (3) فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم، فدل على أنه لا يجتمع معه وقال صلّى الله عليه وسلم في حق ابن عمر ـ لما طلق زوجته وهي حائض ـ «ليطلقها طاهراً، أو حاملاً» (4) فجعل الحمل علماً على عدم الحيض، كما جعل الطهر علماً على انتهاء الحيض، ولأنه زمن لا تعتاد المرأة فيه الحيض غالباً، فلم يكن ما تراه فيه حيضاً كالآيسة. والطب والواقع يؤيد هذا الرأي.
وعليه: لا تترك الحامل الصلاة لما تراه من الدم، لأنه دم فساد، لا حيض، كما لا تترك الصوم والاعتكاف والطواف ونحوها من العبادات، ولا يمنع زوجها من وطئها؛ لأنها ليست حائضاً، وتغتسل الحامل إذا رأت دماً زمن حملها عند انقطاعه استحباباً، خروجاً من الخلاف.
__________
(1) بداية المجتهد:51/1، الشرح الصغير:211/1، مغني المحتاج:118/1.
(2) الدر المختار: 263/1، المغني:361/1 ومابعدها، كشاف القناع:232/1.
(3) رواه أحمد وأبو داود من رواية شريك القاضي. وهو تقرير استبراء السبايا غير الحوامل بحيضة، والحوامل بوضع الحمل.
(4) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عمر (نيل الأوطار:221/6) .(1/538)
ألوان الدم: دم الحيض في أيام العادة الشهرية باتفاق الفقهاء (1) : إما أسود أو أحمر أو أصفر أو أكدر (متوسط بين السواد والبياض) وليست الصفرة والكدرة بعد العادة حيضاً، ولا يعرف انقطاعه إلا برؤية بياض خالص، بأن تدخل المرأة خرقة نظيفة أو قطنة في فرجها لتنظر هل بقي شيء من أثر الدم أو لا.
ورأى الحنفية: أن ألوان دم الحيض ستة: السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والخضرة، والتٌربية (أي على لون التراب) على الأصح. فكل ما يرى في أيام الحيض من الدماء فهو حيض، حتى ترى البياض الخالص: وهو شيئ يشبه المخاط يخرج عند انتهاء الحيض. أو هو القطن الذي تختبر به المرأة نفسها، إذا خرج أبيض، فقد طهرت.
والخضرة نوع من الكدرة، وتظهر في المرأة ذات العادة الشهرية بسبب غذاء فاسد أفسد صورة دمها، كما أن الآيسة الكبيرة لاترى غير الخضرة.
ورتب الشافعية ألوان الحيض بحسب قوتها فقالوا: الألوان خمسة: أقواها السواد، ثم الحمرة، ثم الشقرة (وهي التربية عند الحنفية) ثم الصفرة، ثم الكدرة.
وصفات دم الحيض أربعة أقواها: الثخين المنتن، ثم المنتن، ثم الثخين، ثم غير الثخين وغير المنتن.
والدليل على أن هذه الألوان في أيام العادة حيض: هو دخولها في عموم النص القرآني: {ويسألونك عن المحيض} [البقرة:222/2] وأخبار في السنة، منها قول عائشة: «وكان النساء يبعثن إليها بالدُّرجة فيها الكُرْسف (2) ، فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض، فتقول: لا تعْجَلْن حتى ترين القَصَّة البيضاء» (3) تريد بذلك الطهر من الحيض.
وأما الدليل على أن ما بعد الحيضة من الصفرة والكدرة ليس حيضاً: فهو قول أم عطية: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً» (4) .
__________
(1) فتح القدير مع حاشية العناية:112/1، اللباب:47/1، الشرح الصغير:207/1 مغني المحتاج:113/1، حاشية الباجوري:112/1، كشاف القناع:246/1، البدائع:39/1.
(2) الدرجة: بضم الدال وإسكان الراء والجيم: هي نحو خرقة كقطنة تدخلها المرأة فرجها ثم تخرجها لتنظر هل بقي شيء من أثر الدم أو لا. والكرسف: القطن.
(3) رواه مالك. والقصة: بفتح القاف الجص، شبهت الرطوبة النقية بالجص في الصفاء، قال مالك وأحمد: هي ماء أبيض يتبع الحيضة.
(4) رواه أبو داود والبخاري، ولم يذكر (بعد الطهر) والحاكم.(1/539)
المطلب الثاني ـ مدة الحيض والطهر:
لا يكون الدم حيضاً إلا إذا كان بالألوان السابقة، وأن يتقدمه أقل مدة الطهر (وهي خمسة عشر يوماً عند جمهور الفقهاء) . وأن يبلغ أقل مدة الحيض، وهي مختلف فيها بين الفقهاء (1) . وما نقص عن مدة الحيض أو زاد على أكثرها فهو استحاضة.
يرى الحنفية: أن أقل الحيض: ثلاثة أيام ولياليها، وما نقص عن ذلك، فليس بحيض، وإنما هو استحاضة.
وأوسطه خمسة أيام.
وأكثره عشرة أيام ولياليها، والزائد عن ذلك: استحاضة.
ودليلهم: حديث «أقل الحيض للجارية البكر والثيب: ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام» (2) وما زاد على ذلك استحاضة؛ لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به.
ويرى المالكية: ألا حد لأقل الحيض بالنسبة للعبادات، فأقله دَفْقه أو دَفعة في لحظة، فتعتبر حائضاً وتغتسل بانقطاعه، ويبطل صومها وتقضي ذلك اليوم. وأما بالنسبة للعدة والاستبراء، فأقله يوم أو بعض يوم له بال.
وأكثر الحيض يختلف باختلاف النساء وهن أربع: مبتدأة، ومعتادة (3) ، وحامل، ومختلطة. أما المبتدأة: فيقدر بخمسة عشر يوماً، وما زاد فهو دم علة وفساد. وأما المعتادة: فيقدر بزيادة ثلاثة أيام على أكثر عادتها ـ والعادة تثبت بمرة ـ استظهاراً، مالم تجاوز نصف الشهر.
__________
(1) فتح القدير:111/1، الدر المختار:262/1، البدائع:208/1 ومابعدها، بداية المجتهد:48/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص39 ومابعدها، مغني المحتاج:109/1،113، حاشية الباجوري:114/1، المغني:308/1، كشاف القناع:233/1.
(2) روي من حديث أبي أمامة عند الطبراني والدارقطني، ومن حديث واثلة بن الأسقع عند الدارقطني، ومن حديث معاذ بن جبل عند ابن عدي، ومن حديث أبي سعيد الخدري عند ابن الجوزي، ومن حديث أنس بن مالك عند ابن عدي، ومن حديث عائشة عند ابن الجوزي، وكلها ضعيفة (نصب الراية:191/1) .
(3) المبتدأة: هي التي أول ما ابتدأها الدم في بدء الحيض عند الصغر، والمعتادة: هي التي اعتادت أن ترى الدم.(1/540)
وأما الحامل فيما بعد شهرين من بدء الحمل: فيقدر أكثر الحيض بعشرين يوماً.
وما بعد ستة أشهر فأكثر: فيقدر له ثلاثون يوماً.
وأما المختلطة: وهي التي ترى الدم يوماً أو أياماً، والطهر يوماً أو أياماً، حتى لا يحصل لها طهر كامل، فإنها تلفق أيام الدم، فتعدها حتى يكمل لها مقدار أكثر أيام الحيض (15 يوماً) ، وتلغي أيام الطهر التي بينها، فلا تعدها. فما زاد عن مدة أكثر الحيض يكون استحاضة.
وتغتسل في كل يوم لا ترى فيه الدم، رجاء أن يكون طهراً كاملاً.
وتكون حائضاً في كل يوم ترى فيه الدم، وتجتنب ما تجتنبه الحائض.
ويرى الشافعية والحنابلة: أن أقل زمن الحيض يوم وليلة: وهو أربع وعشرون ساعة، على الاتصال المعتاد في الحيض، بحيث لو وضعت قطنة لتلوثت، فلا يشترط نزوله بشدة دائماً حتى يوجد الاتصال. وعلى هذا فقد يتصل في الظاهر أو ينقطع في الظاهر، ولكنه موجود في الواقع، ويعرف بتلوث قطنة أو نحوها، فإن رأت الدم أقل من يوم وليلة، فهو دم استحاضة، لا دم حيض.
وغالبه: ست أو سبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم لِحَمْنة بنت جحش لما سألته: «تَحَيَّضي في علم الله ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، فإن ذلك يجزيك» (1) . وأكثره: خمسة عشر يوماً بلياليها، فإن زاد عليها فهو استحاضة.
ويتميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بلونه وشدته ورائحته الكريهة.
__________
(1) تتمة الحديث: «وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء، ويَطْهُرن لميقات حيضتهن وطهرهن» رواه أبو داود والنسائي وأحمد والترمذي وصححاه، وحسنه البخاري (نيل الأوطار:271/1) .(1/541)
ودليلهم: الاستقراء (السؤال والتتبع لأحوال بعض النساء في زمان ما) الذي قام به في زمانه الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره؛ إذ لا ضابط له لغة ولا شرعاً، فرجع إلى المتعارف بالاستقراء، ويكون المعتمد فيه هو العرف والعادة، كما هو المقرر في القبض والإحراز والتفرق بين المتبايعين في العقود.
ويؤيدهم قول علي: «أقل الحيض يوم وليلة، وما زاد على خمسة عشر استحاضة» . وقول عطاء: «رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر» والقاعدة عند الشافعية كما قال النووي في المنهاج: رأت المرأة الدم لسنّ الحيض أقلّه، ولم يعبر أكثره، فكله حيض، سواء أكانت مبتدأة أم معتادة، تغيرت عادتها أم لا. فإذا رأت المرأة الدم أقل من يوم وليلة أو بعد أكثر من مدة الحيض (أي بعد 51 يوماً) كان دم استحاضة، لا دم حيض.
أقل الطهر:
قال الجمهور غير الحنابلة (1) : إن أقل الطهر الفاصل بين الحيضتين: خمسة عشر يوماً؛ لأن الشهر غالباً لايخلو عن حيض وطهر، وإذا كان أكثر الحيض خمسة عشر، لزم أن يكون أقل الطهر كذلك خمسة عشر يوماً. ولا حد لأكثره؛ لأنه قد يمتد سنة أو سنتين، وقد لا تحيض المرأة أصلاً، وقد تحيض في السنة مرة واحدة.
وقال الحنابلة (2) : أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، لما روى أحمد عن علي: «أن امرأة جاءته ـ قد طلقها زوجها ـ فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حِيَض، فقال علي لشريح: قل فيها، فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرجى دينه وأمانته، فشهدت بذلك، وإلا فهي كاذبة. فقال علي: «قالون» أي جيد بالرومية.
__________
(1) فتح القدير:121/1، مراقي الفلاح: ص24، الشرح الصغير:209/1، بداية المجتهد:48/1، مغني المحتاج:109/1، حاشية الباجوري:116/1، المهذب:39/1.
(2) كشاف القناع:234/1.(1/542)
وهذا لا يقوله إلا توقيفاً، وهو قول صحابي اشتهر، ولم يعلم خلافه، ووجود ثلاث حيض في شهر، دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقيناً (1) .
ولا حد لأكثر الطهر باتفاق الفقهاء.
والمراد بالطهر:
هو زمان نقاء المرأة من دم الحيض والنفاس، وللطهر علامتان: جفاف الدم أو جفوفه، والقصة البيضاء: وهي ماء أبيض رقيق يأتي في آخر الحيض (2) .
النقاء من الدم في أيام الحيض:
النقاء: أي عدم الدم، ويحدث ذلك بأن تبدأ العادة الشهرية، ثم ينقطع الحيض مدة زمنية، ثم يعود، فهل تعد تلك المدة من أيام الحيض أو لا؟
هناك رأيان فقهيان، الأول للحنفية والشافعية، والثاني للمالكية والحنابلة (3) . وأصحاب الرأي الأول يرون: أن النقاء من الدم في أيام الحيض يعتبر حيضاً، فلو رأت يوماً دماً، ويوماً نقاء، بحيث لو وضعت قطنة لم تتلوث، ويوماً بعد ذلك دماً وهكذا في مدة الحيض (أثناء العادة) ، تعتبر حائضاً في كل تلك المدة.
وأصحاب الرأي الثاني يأخذون بمبدأ التلفيق: وهو ضم الدم إلى الدم
__________
(1) وهذا مبني على أن أقل الحيض يوم وليلة. وكانت حيضات هذه المرأة بأقل مدة الحيض.
(2) بداية المجتهد:52/1، القوانين الفقهية: ص41.
(3) فتح القدير:112/1، الدر المختار وحاشية ابن عابدين:267/1، اللباب:49/1، بداية المجتهد:50/1، الشرح الصغير:212/1، مغني المحتاج:119/1، حاشية الباجوري:114/1، المهذب:39/1، المغني:359/1 ومابعدها، كشاف القناع:246/1 ومابعدها.(1/543)
واعتبار أيام النقاء طهراً صحيحاً، فلو رأت الحائض الدم يوماً أو يومين، ثم طهرت يوماً أو يومين، جمعت أيام الدم بعضها إلى بعض، واعتبر الباقي طهراً، واتفق الكل على أن الطهر (المتخلل) بين الدمين إذا كان خمسة عشر يوماً فأكثر يكون فاصلاً بين الدمين في الحيض، وما قبله وما بعده يعد حيضاً إذا بلغ أقل مدة الحيض.
وها هو تفصيل الآراء في كل مذهب:
1 ً - مذهب الحنفية: أفتى كثير من المتأخرين بقول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة الآخر، وهو أن الطهر المتخلل بين الدمين، لا يعد فاصلاً، بل يكون كالدم المتوالي بشرط إحاطة الدم لطرفي الطهر المتخلل، فيجوز بداية الحيض بالطهر، وختمه به أيضاً، فلو رأت مبتدأة يوماً دماً، وأربعة عشر طهراً، ويوماً دماً، فالعشرة الأولى حيض. ولو رأت المعتادة قبل عادتها يوماً دماً وعشرة طهراً ويوماً دماً، فالعشرة التي لم تر فيها الدم حيض إن كانت عادتها، وإلا ردت إلى أيام عادتها.
وأما الطهر المتخلل بين الأربعين يوماً في حالة النفاس فلا يفْصل عند أبي حنيفة وعليه الفتوى، سواء أكان خمسة عشر أم أقل أم أكثر، ويجعل إحاطة الدم بطرفيه كالدم المتوالي.
2 ً - مذهب الشافعية: الأظهر المعتمد أن النقاء بين دماء أقل الحيض فأكثر حيض تبعاً لها، بشروط: وهي ألا يجاوز ذلك خمسة عشر يوماً، ولم تنقص الدماء المرئية عند المرأة عن أقل الحيض، وأن يكون النقاء محتوشاً (محوطاً) بين دمي حيض.(1/544)
وهذا يسمى قول السَّحْب؛ لأننا سحبنا الحكم بالحيض على النقاء أيضاً، وجعلنا الكل حيضاً. وهناك قول آخر ضعيف يسمى قول اللَّقْط: وهو أن النقاء طهر؛ لأن الدم إذا كان حيضاً، كان النقاء طهراً، وسمي بذلك لأنا لقطنا أوقات النقاء وجعلناها طهراً.
أما زمن النقاء في حالة النفاس فهو على المعتمد طهر، لكنه يحسب من مدة النفاس الستين يوماً، أي أنه من النفاس عدداً لا حكماً على المعتمد.
والخلاصة: أن النقاء في الحيض يأخذ حكم الحيض، وفي النفاس: لايأخذ حكمه، وإنما يحسب أي النقاء من أيام الستين التي هي أكثر مدة النفاس.
3 ً - مذهب المالكية المعتمد، والحنابلة: هو الأخذ بالتلفيق أي ضم الدم إلى الدم، والطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح، فإذا أتاها الدم في يوم مثلاً، وانقطع يوماً أو أكثر، ولم يبلغ الانقطاع نصف الشهر وهو أكثر مدة الحيض، فإنها تلفق أيام الدم فقط، أي يضم الدم إلى الدم، فيكون حيضاً، وما بينهما من النقاء طهر. وحكم الملفقة: أنها تغتسل وجوباً، كلما انقطع دمها، وتصلي وتصوم وتوطأ، لأنه طهر حقيقة، لكن قال الحنابلة: يكره وطؤها زمن الطهر.
وتظل على هذا النحو عند الحنابلة إلى أن يجاوز زمن الدم وزمن النقاء أكثر الحيض، كأن ترى يوماً دماً ويوماً طهراً إلى ثمانية عشر يوماً مثلاً، فتكون مستحاضة.
وقال المالكية: تلفق المبتدأة، والمعتادة نصف الشهر: خمسة عشر يوماً. أما المعتادة أقل من نصف شهر: فتلفق عادتها، مع إضافة ثلاثة أيام على أكثر عادتها، وهي التي تسمى أيام الاستظهار. وما نزل عليها من الدم بعد ذلك فاستحاضة لاحيض.
أولاً ـ تعريف النفاس:(1/545)
المبحث الثاني ـ تعريف النفاس ومدته
أولاًـ تعريف النفاس:
النفاس عند الحنفية والشافعية (1) : هو الدم الخارج عقب الولادة. أما الخارج مع الولد حال الولادة أو قبله، فهو دم فساد واستحاضة، فتتوضأ إن قدرت وتصلي، وأضاف الحنفية: أو تتيمم وتومئ بصلاة ولا تؤخر الصلاة. واستثنى الشافعية الدم الخارج قبل الولادة المتصل بحيض قبله، بناء على أن الحامل تحيض في الأصح عندهم، وقال المالكية: الدم الذي يخرج قبل الولادة هو دم حيض.
والنفاس عند الحنابلة (2) : الدم الخارج بسبب الولادة.
والدم النازل قبل الولادة بيومين أو ثلاثة مع أمارة كالطلق، والدم الخارج مع الولادة هو دم نفاس عندهم، كالدم الخارج عقب الولادة.
ويعد الدم عند هؤلاء دم نفاس: بخروج أكثر الولد، ولو متقطعاً عضواً عضواً، ولو سِقْطاً (3) استبان فيه بعض خلقة الإنسان كأصبع أو ظفر، ولو بين توأمين (4) ، إلا أن الأصح عند الشافعية أن النفاس معتبر من الولد الثاني، ومايخرج بعد الأول هو حيض ان اتصل بحيض سابق وإلا فهو استحاضة. فإن رأت دماً بعد إلقاء نطفة أو علقة، فليس بنفاس، أما المالكية فقالوا (5) :
النفاس: هو ما خرج من قُبُل المرأة عند ولادتها مع الولادة أو بعدها، ولو بين توأمين. أما ما خرج قبل الولادة، فالراجح أنه حيض، فلا يحسب من الستين يوماً.
__________
(1) فتح القدير:129/1، البدائع:41/1-43، الدر المختار:275/1 ومابعدها، اللباب:352/1، مراقي الفلاح: ص23، مغني المحتاج:119/1، حاشية الباجوري:113/1، المهذب:45/1، المجموع:529/1 ومابعدها.
(2) كشاف القناع:226/1.
(3) السِقط: الجنين يسقط من بطن أمه قبل تمامه، ذكراً كان أو أنثى.
(4) التوأمان: الولدان في بطن إذا كان بينهما أقل من ستة أشهر.
(5) الشرح الصغير:216/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص40.(1/546)
ثانياً ـ مدة النفاس:
للنفاس مدة دنيا وقصوى وغالبة (1) .
أما المدة الدنيا: فقال الشافعية: أقله لحظة أي مجة أو دفعة. وقال الأئمة الآخرون: لا حد لأقله، لأنه لم يرد في الشرع تحديده، فيرجع فيه إلى الوجود الفعلي، وقد وجد قليلاً وكثيراً.
والظاهر ألا خلاف بين الرأيين، والمراد بهما واحد.
وقد تلد المرأة ولا ترى الدم، روي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، «فلم تر نفاساً» ، فسميت ذات الجفوف.
وغالبه عند الشافعية أربعون يوماً.
وأكثره عند المالكية والشافعية ستون يوماً والمعتمد في ذلك هو الاستقراء، وعند الحنفية والحنابلة: أربعون يوماً، وما زاد عن ذلك فهو استحاضة، بدليل قول أم سلمة: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين يوماً وأربعين ليلة» (2) .
لكن قال فيه الشافعية: لا دلالة فيه على نفي الزيادة، أو محمول على الغالب أو على نسوة مخصوصات.
المبحث الثالث ـ أحكام الحيض والنفاس وما يحرم على الحائض والنفساء:
للحيض أحكام خمسة وهي ما يلي (3) :
1ً - الحيض ومثله النفاس يوجب الغسل بعد انقطاعه، لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض، قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطْهُرنَ، فإذا تطَّهرْنَ فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة:222/2] .
ولقوله صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنكِ الدم وصَلِّي» (4) وفي رواية للبخاري: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» .
__________
(1) المراجع السابقة في كل مذهب.
(2) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، أي رواه الخمسة إلا النسائي، وأخرجه الدارقطني والحاكم أيضاً، وهو صحيح، والقول بضعفه مردود كما قال النووي (نيل الأوطار:282/1)
(3) كشاف القناع:228/1.
(4) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها (نيل الأوطار:568/1) .(1/547)
2ً - البلوغ: تبلغ الأنثى وتصبح أهلاً للتكاليف الشرعية بالحيض، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (1) فأوجب عليها أن تستتر لأجل الحيض، فدل على أن التكليف حصل به.
3ً - الحكم ببراءة الرحم في الاعتداد بالحيض، ومن المعلوم أن الأصل في مشروعية العدة العلم ببراءة الرحم.
4ً - الاعتداد بالحيض في رأي الحنفية والحنابلة؛ لأن الأقراء الثلاثة المنصوص عليها في القرآن الكريم هي الحيضات، ولا تنتهي عدة المطلقة غير الحامل إلا بانتهاء الحيضة الثالثة ولا تحتسب الحيضة التي وقع الطلاق في أثنائها. وقال المالكية والشافعية: القرء: الطهر، فتحسب العدة بزمن الأطهار، وتنتهي العدة بابتداء الحيضة الثالثة، ويحتسب الطهر الذي وقع الطلاق فيه من الأطهار الثلاثة ولو كان لحظة.
5ً - الكفارة بالوطء في أثناء الحيض عند الحنابلة، وسيأتي الكلام في ذلك في بحث ما يحرم بالحيض.
ما يحرم بالحيض والنفاس: يحرم بالحيض والنفاس ما يحرم بالجنابة وهي سبعة أمور: الصلوات كلها، وسجود التلاوة، ومس المصحف، ودخول المسجد، والطواف، والاعتكاف، وقراءة القرآن، لكن أجاز المالكية على المعتمد للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب إلا بعد انقطاع الدم وقبل غسلها، سواء أكانت جنباً حال حيضها أو نفاسها أم لا.
ويزاد على ذلك أمور أخرى، وقد عد الحنفية ثمانية أمور تحرم على الحائض والنفساء، والمالكية عدوا اثني عشر، وهي السبعة السابقة وخمسة أخرى وهي الصيام، والطلاق، والجماع في الفرج قبل انقطاع الدم، والجماع بما دون الفرج قبل انقطاع الدم، والجماع بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال.
وعد الشافعية ثمانية أمور، والحنابلة خمسة عشر أمراً.
__________
(1) رواه أحمد وغيره.(1/548)
وتفصيل هذه الممنوعات في حالة الحيض ومثله النفاس وأدلتها بتبين فيما يأتي (1) :
1 ً - الطهارة: غسلاً أو وضوءاً: في رأي الشافعية والحنابلة، فإذا حاضت المرأة، حرم عليها الطهارة للحيض؛ لأن الحيض ومثله النفاس يوجب الطهارة، وما أوجب الطهارة منع صحتها كخروج البول، أي أن انقطاعه شرط لصحة الطهارة له. لكن يجوز الغسل لجنابة أو إحرام ودخول مكة ونحوه (2) بل يستحب لذلك.
2 ً - الصلاة: يحرم على الحائض والنفساء الصلاة، لحديث فاطمة بنت أبي حُبَيش المتقدم: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» لكن يسقط فرض الصلاة ولا يقضى، بإجماع العلماء، لما روت عائشة رضي الله عنها: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (3) ، ولأنه يشق قضاء الصلاة لتكرر الحيض وطول مدته، بخلاف الصوم. ويحرم على الحائض قضاء الصلاة، والمعتمد عند الشافعية أنه يكره وتنعقد نفلاً مطلقاً لا ثواب فيه.
__________
(1) البدائع:44/1، الدر المختار ورد المحتار:158/1-162،268-274، فتح القدير:114/1-119، تبيين الحقائق:56/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص24، الشرح الصغير:215/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص40، بداية المجتهد:54/1-57،61، المهذب:38/1،45، مغني المحتاج:109/1،120، تحفة الطلاب: 33 ومابعدها، بجيرمي الخطيب:312/1-323، حاشية الباجوري:117/1-119، المغني: 306/1 ومابعدها، 333-338، كشاف القناع:226/1-233.
(2) هذا وقد ذكر الحنابلة الوضوء أمراً ثانياً، كما ذكروا في الأمر الثاني: وهو فعل الصلاة ووجوبها أمرين.
(3) رواه الجماعة عن مُعَاذة (نيل الأوطار:280/1) .(1/549)
3 ً - الصوم: يحرم على الحائض والنفساء الصوم ويمنع صحته، لحديث عائشة السابق، فإنه يدل على أنهن كن يفطرن. ولا يسقط قضاؤه عنهما فتقضي الحائض والنفساء الصوم دون الصلاة للحديث نفسه، ولأن الصوم في السنة مرة، فلا يشق قضاؤه، فلم يسقط. وهناك حديث آخر عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للنساء: أليس شهادةُ المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلكن من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى؟ قال: فذلكن من نقصان دينها» (1) .
4 ً - الطواف: لقوله صلّى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنهما: «إذا حضت، افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (2) ولأنه يفتقر إلى الطهارة ولا يصح من الحائض.
5 ً - قراءة القرآن ومس المصحف وحمله، كما سبق في الجنابة، لقوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/56] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» (3) واستثنى الشافعية حالة الخوف على القرآن من غرق أو حرق أو نجاسة أو وقوعه في يد كافر، فيجب حمله حينئذ، كما يجوز حمله باتفاق العلماء في تفسير أكثر منه يقيناً، ولا يجوز حمله عند الشافعية إذا قصده مع المتاع على المعتمد.
__________
(1) رواه البخاري (نيل الأوطار:279/1 ومابعدها) ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: «تمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في شهر رمضان، فهذا نقصان دينها» (سبل السلام:105/1) .
(2) متفق عليه عن عائشة.
(3) روي من حديث ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه والبيهقي، ومن حديث جابر عند الدارقطني، وهو ضعيف (نصب الراية:195/1) .(1/550)
واستثنى الحنفية حالة مس القرآن بغلاف متجاف عن القرآن، ويكره مسه بالكم تحريماً لتبعيته للابس، ويرخص لأهل كتب الشريعة من حديث وفقه وتفسير أخذ الورقة بالكم وباليد للضرورة، ويكره مسها؛ لأنها لا تخلو عن آيات القرآن، والمستحب ألا تقلب ورقة القرآن إلا بوضوء. وأجازوا تقليب أوراق المصحف بنحو قلم للقراءة، كما أجازوا للصبي حمل القرآن ورفعه لضرورة التعلم، ولا يكره النظر للقرآن لجنب وحائض ونفساء؛ لأن الجنابة لا تحل العين. وتكره كتابة القرآن وأسماء الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يفرش، وتكره القراءة في المخرج والمغتسل والحمام. ولا تكره كتابة آية الكرسي على صحيفة منفصلة عن الكاتب، إلا أن يمسها بيده.
6 ً - دخول المسجد، واللبث والاعتكاف فيه، ولو بوضوء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (1) .
وأجاز الشافعية والحنابلة للحائض والنفساء العبور في المسجد إن أمنت تلويثه، لأنه يحرم تلويث المسجد بالنجاسة وغيرها من الأقذار بسبب المكث فيه، ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ناوليني الخُمْرة من المسجد» فقلت: «إني حائض» فقال: «إن حيضتك ليست في يدك» (2) وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: «تقوم إحدانا بالخُمْرة إلى المسجد، فتبسُطُها وهي حائض» (3) هذا.. وأباح الحنابلة أيضاً للحائض المكث في المسجد بوضوء بعد انقطاع الدم، لانتفاء المحذور وهو خشية تلويث المسجد.
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه مسلم، والخمرة: هي السجادة أو الحصير الذي يضعه المصلي ليصلي عليه أو يسجد.
(3) رواه النسائي.(1/551)
7 ً - الوطء في الفرج (الجماع) ولو بحائل باتفاق العلماء، والاستمتاع بما بين السرة والركبة عند الجمهور (غير الحنابلة) ، لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:222/2] والمراد بالاعتزال: ترك الوطء، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن سعد حينما سأله: ما يحل لي من امرأتي، وهي حائض؟ قال: «لك ما فوق الإزار» (1) ولأن الاستمتاع بما تحت الإزار يدعو إلى الجماع، فحرم لخبر الصحيحين عن النعمان بن بشير: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» والإزار: الثوب الذي يستر وسط الجسم وما دونه، وهو ما بين السرة والركبة غالباً، فما عدا ذلك جائز بالذكر أو القبلة أوالمعانقة أو اللمس أو غير ذلك.
وأباح الحنابلة الاستمتاع بالحائض ونحوها بما دون السرة وفوق الركبة ما عدا الوطء في الفرج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (2) ، كما أنهم أباحوا الجماع لمن به شَبَق بشرط ألا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، ولا يجد غير الحائض بأن لا يقدر على مهر حرة، ولا ثمن أمَة ...
__________
(1) رواه أبو داود عن حِزام بن حكيم عن عمه: عبد الله بن سعد (نيل الأوطار:277/1) وروي مثله عن عكرمة عند أبي داود، وعن عائشة عند البخاري ومسلم ونصه: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها، ثم يباشرها» والمراد بالمباشرة هنا: التقاء البشرتين، لا الجماع، والمراد بالاتزار، أن تشد إزاراً تستر سرتها، وما تحتها إلى الركبة (نيل الأوطار:277/1 ومابعدها) .
(2) رواه الجماعة إلا البخاري، وروى البخاري في تاريخه عن مسروق بن أجدع قال: «سألت عائشة رضي الله عنها: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كل شيء إلا الفرج» (نيل الأوطار:276/1 ومابعدها) .(1/552)
وتستمر حرمة الوطء والاستمتاع بما بين السرة والركبة عند المالكية والشافعية حتى تغتسل، أي تطهر بالماء لا بالتيمم، إلا في حال فقد الماء أوالعجز عن استعماله، فيباح الوطء بالتيمم. واستدلوا بقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة:222/2] فالله تعالى شرط لحل الوطء شرطين: انقطاع الدم، والغسل، الأول من قوله تعالى: {حتى يطهرن} [البقرة:222/2] أي ينقطع دمهن، والثاني: من قوله عز وجل: {فإذا تطهرْن} أي اغتسلن بالماء {فأتوهن} [البقرة:222/2] فتصير إباحة وطئها موقوفة على الغسل. وهذا هو رأي الحنابلة أيضاً في حرمة الوطء (الجماع) .
وكذلك قال الحنفية: إذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام، لم يحل وطؤها أو الاستمتاع بها حتى تغتسل أو تتيمم بشرطه، وإن لم تصل به في الأصح؛ لأن الدم تارة يدر، وتارة ينقطع، فلا بد من الاغتسال ليترجح جانب الانقطاع.
فإن لم تغتسل ومضى عليها وقت صلاة كامل، بأن تجد من الوقت زمناً يسع الغسل ولبس الثياب وتحريمة الصلاة، وخرج الوقت، ولم تُصَلِّ، حل وطؤها؛ لأن الصلاة صارت ديناً في ذمتها، فطهرت حكماً.
ولو انقطع دم الحائض لدون عادتها، فوق الأيام الثلاثة، لم يقربها حتى تمضي عادتها، وإن اغتسلت؛ لأن النقاء عندهم حيض كما عرفنا، ولأن العَوْد في العادة غالب، فكان الاحتياط في الاجتناب.(1/553)
وإن انقطع دم الحائض لعشرة أيام، وهو أكثر الحيض عندهم، جاز وطؤها قبل الغسل؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة؛ إلا أنه لا يستحب قبل الغسل، للنهي عنه في قراءة {ولا تقربوهن حتى يطَّهَّرن} [البقرة:2/222] بالتشديد، والتشديد يدل على المبالغة في الطهارة، وذلك إنما يكون بالاغتسال فعلاً، لا بانقطاع الدم.
والخلاصة: أن الحنفية أجازوا الوطء في حالة الحيض ومثله النفاس قبل الغسل في حالتين، لقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:2/222] بتخفيف الطاء، فإنه جعل الطهر غاية للحرمة. ويستحب ألا يطأها حتى تغتسل لقراءة التشديد، خروجاً من الخلاف.
والحالتان هما: أن يمضي على من اع دمها دون العشرة أيام وقت صلاة كامل ويخرج الوقت ولم تصل، وأن ينقطع دمها لعشرة أيام أي بعد أكثر الحيض.
أما الحالة الغالبة بين النساء: وهي انقطاع الدم بعد ستة أو سبعة أيام فلا يجوز نقطة أج وطؤها حتى تغتسل، ما لم تصر الصلاة ديناً في ذمتها، وهي الحالة الأولى السابقة، فمن انقطع دمها لأكثر الحيض حلت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض، لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل.
كفارة وطء الحائض ونحوها: يري المالكية والحنفية والشافعية في المذهب الجديد: أنه لا كفارة على من وطئ حائضاً ونحوها، بل الواجب عليه الاستغفار والتوبة؛ لأن الأصل البراءة، فلا ينتقل عنها إلا بحجة، وحديث الكفارة مضطرب، ولأنه وطء محرم للأذى، فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر.(1/554)
ويرى الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: أنه تجب الكفارة على من وطئ امرأة في أثناء الحيض أو النفاس، وتجب على المرأة إن طاوعت الرجل في وطئها في الحيض، ككفارة الوطء في الإحرام، فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها، لعدم تكليفها. والكفارة واجبة ولو كان الوطء من ناس ومكره وجاهل الحيض أو الالتحريم، أو كلاهما، ولا تجب الكفارة بوطئها بعد انقطاع الدم. والكفارة دينار أو نصف دينار على سبيل التخيير، أيهما أخرج أجزأه، لما روي عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: في الذي يأتي امرأته، وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار (1) وتسقط كفارة الوطء في الحيض بعجز عنها، ككفارة الوطء في رمضان.
وقال الشافعية: يسن لمن وطئ في إقبال الدم التصدق بدينار، ولمن وطئ في إدباره التصدق بنصف دينار، لخبر ابن عباس السابق عن الترمذي: «إذا كان دما أحمر، فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار» .
ووطء الحائض ليس بمعصية كبيرة، لعدم انطباق تعريفها عليه.
8 ً - الطلاق: يحرم الطلاق في الحيض، ويكون الطلاق بدعياً واقعاً، لما فيه من تطويل العدة على المرأة، ولمخالفته قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] أي في الوقت الذي يشرعن فيه العدة، لأن بقية الحيض لا تحسب من العدة فتتضرر بطول مدة التربص والانتظار، ولما روي عن ابن عمر: «أنه طلق امرأته، فذكر عمر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً» (2) .
أما بعد انقطاع الدم وقبل الغسل فيحل الطلاق. وهكذا يبين أنه إذا انقطع الدم لم يحل قبل الغسل غيرُ الصوم، والطلاق، والطهر، والصلاة المكتوبة إذا فقدت المرأة الطهورين.
__________
(1) رواه الخمسة، قال الحافظ ابن حجر: والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جداً (نيل الأوطار:278/1) .
(2) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عمر (نيل الأوطار:221/6) .(1/555)
أما الصوم: فلأن تحريمه بالحيض، لا بالحدث، بدليل صحته من الجنب، وقد زال الحيض.
وأما الطلاق: فلزوال المعنى المقتضي للتحريم، وهو تطويل العدة.
وأما الطهر فإنها مأمورة به. وأما الصلاة المكتوبه فهي مأمورة بها أيضاً.
ولا تبدأ العدة إذا طلق الرجل زوجته في أثناء الحيض، لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/2] وبعض القرء ليس بقرء.
الفرق بين الحيض والجنابة: عرفنا أن ما يحرم على الحائض ونحوها أكثر مما يحرم على الجنب. وهناك فروق أخرى هي (1) :
فالجنب يجوز له أداء الصوم مع الجنابة، ولا يجوز للحائض والنفساء؛ لأن الحيض والنفاس أغلظ من الحدث، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في تفسير نقصان الدين عند المرأة: «تقعد إحداهن شطر عمرها، لا تصوم ولا تصلي» (2) .
ويقضي الجنب الصلاة والصوم، والحائض ونحوها لا تقضي الصلاة وإنما تقضي الصوم فقط؛ لأن الحيض يتكرر في كل شهر، فتحرج في قضاء أيام العادة، ولا حرج في قضاء الصوم؛ لأنه مفروض في السنة مرة.
ويحرم قربان المرأة في حالتي الحيض والنفاس، ولا يحرم قربان المرأة التي أجنبت لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222/2] ومثل هذا لم يرد في الجنابة، بل وردت الإباحة بقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة:187/2] أي الولد، فقد أباح الله المباشرة وطلب الولد بالجماع مطلقاً على الأحوال.
الفرق بين الحيض والنفاس: يفترق الحيض عن النفاس في ثلاثة أمور هي (3) :
1 - الاعتداد بالحيض عند الحنفية والحنابلة؛ لأن انقضاء العدة بالقروء والنفاس ليس بقرء.
2 - النفاس لا يوجب البلوغ، لحصوله قبله بالحمل؛ لأن الولد ينعقد من الرجل والمرأة، لقوله تعالى: {خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق:6/86-7] .
__________
(1) البدائع:44/1.
(2) رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: «النساء ناقصات عقل ودين، قيل: وما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي، قال البيهقي: لم أجده في شيء من كتب الحديث، وقال ابن منده: لا يثبت هذا بوجه عن النبي صلّى الله عليه وسلم (كشاف القناع:233/1) .
(3) كشاف القناع:233/1.(1/556)
3 - لا تحتسب مدة النفاس على المولي في مدة الإيلاء (1) في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر} [البقرة:226/2] لأنه ليس بمعتاد، بخلاف الحيض.
وبدن الحائض وعَرَقها وسؤرها طاهر، ولا يكره طبخها وعجنها وغير ذلك، ولا وضع يديها في شيء من المائعات، وأجمع العلماء على جواز مؤاكلة الحائض كالمعتاد دون عزلها، لأن المراد من اعتزالها هو وطؤها، روت عائشة فقالت: «كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي صلّى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرق العَرْق، وأنا حائض، فأناوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ» (2) .
المبحث الرابع ـ الاستحاضة وأحكامها:
تعريف الاستحاضة: هي سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة (غير الحيض والنفاس) من مرض وفساد، من عِرْق أدنى الرحم، يقال له العاذل، فكل نزيف من الأنثى قبل مدة الحيض (وهي تسع سنين) ، أو نقص عن أقل الحيض، أو زاد على أكثره أو أكثر النفاس، أو زاد عن أيام العادة الشهرية وجاوز أكثر مدة الحيض، أو ما تراه الحامل (الحبلى) في رأي الحنفية والحنابلة، هو استحاضة (3) .
أحكام المستحاضة: هناك أمور ثلاثة تحتاج إلى بحث وهي ما يأتي:
__________
(1) الإيلاء: هو أن يحلف الزوج بالله تعالى أو بصفة من صفاته: ألا يقرب زوجته أربعة أشهر أو أكثر، أو يعلق على قربانها أمراً فيه مشقة على نفسه، كالصيام أو الحج أو الإطعام.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، ومعنى «أتعرق العَرْق» أي آكل ما عليه من اللحم. وروى أحمد والترمذي عن عبد الله بن سعد قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن مواكلة الحائض، قال: واكلها» (نيل الأوطار:281/1) .
(3) الدر المختار ورد المحتار:262/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص25، الشرح الصغير:207/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص41، مغني المحتاج:108/1، كشاف القناع:226/1،236.(1/557)
أولاً ـ هل يحرم شيء على المستحاضة مما يحرم على الحائض؟
الاستحاضة حدث دائم كسلَس بول ومذي وغائط وريح باتفاق الفقهاء، أو كرعاف دائم أو جرح لا يرقأ دمه أي لا يسكن عند الحنفية والحنابلة، فلا يمنع شيئاً مما يمنعه الحيض والنفاس من صلاة وصوم ولو نفلاً، وطواف، وقراءة قرآن ومس مصحف ودخول مسجد واعتكاف ووطء بلا كراهة، للضرورة (1) ، وللأحاديث الثابتة في ذلك، منها:
1 - ما روت عائشة قالت: «قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني امرأة أُسْتَحاض، فلا أطهرُ، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنما ذلك عِرْق (أي ينزف) ، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها (قدر عادتها) فاغسلي عنك الدم، وصلِّي» (2) .
2 - أمر النبي صلّى الله عليه وسلم حَمْنة بنت جَحْش بالصوم والصلاة في حالة الاستحاضة (3) .
3- روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش «أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها» وقال: «كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها» وكانت حمنة زوجة طلحة، وأم حبيبة زوجة عبد الرحمن بن عوف (4) .
__________
(1) الدر المختار:275/1، مراقي الفلاح: ص25، فتح القدير:121/1، الشرح الصغير:210/1، القوانين الفقهية: ص41، مغني المحتاج:111/1، المغني:339/1، كشاف القناع:235/1،237.
(2) رواه البخاري والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار:268/1) .
(3) رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححاه (نيل الأوطار:271/1) .
(4) بنات جحش ثلاث: زينب أم المؤمنين، وحمنة، وأم حبيبة (سبل السلام: 103/1) .(1/558)
وهذا المذكور في إباحة وطء المستحاضة هو ما قرره الفقهاء، منهم الإمام أحمد في رواية عنه، وفي رواية أخرى يظهر أنها الراجحة عند الحنابلة: لا توطأ المستحاضة إلا أن يخاف على نفسه الوقو ع في محظور، لما روى الخلال بإسناده عن عائشة: أنها قالت: «المستحاضة لا يغشاها زوجها» ولأن بها أذى، فيحرم وطؤها كالحائض، قال تعالى في الحائض معللاً منع وطئها بالأذى {قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222/2] .
لكن إذا انقطع دم المستحاضة أبيح وطؤها عند الحنابلة من غير غسل، لأن الغسل ليس بواجب عليها كسلس البول.
ثانياً ـ طهارة المستحاضة الوضوء والغسل:
قال المالكية (1) : يستحب للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، كما يستحب لها بعد انقطاع الدم الغسل من دم الاستحاضة.
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (2) : يجب على المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة، بعد أن تغسل فرجها، وتعصِبه، وتحشوه بقطن وما أشبهه إلا إذا أحرقها الدم أو كانت صائمة، والحشو ليرد الدم، لقوله صلّى الله عليه وسلم لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم: «أنْعَت لك الكُرْسُفَ، فإنه يُذهب الدمَ» (3)
فإذا استوثقت (بأن تشد خرقة مشقوقة الطرفين تخرج أحدهما من أمامها والآخر من خلفها، وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة) ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد، لم تبطل صلاتها، لما روت عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة
__________
(1) القوانين الفقهية: ص26،41، بداية المجتهد:57/1 وما بعدها.
(2) اللباب:51/1، مراقي الفلاح: ص25، مغني المحتاج:111/1 وما بعدها، المهذب:45/1 وما بعدها، المغني:340/1-342.
(3) رواه أبو داود وأحمد وصححاه (نيل الأوطار:271/1) .(1/559)
بنت أبي حبيش استحيضت، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: «اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صَلِّي، وإن قطر الدم على الحصير» (1) .
والدليل على أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل فريضة: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها (حيضاتها) ، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي» (2) ولأنهاطهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم.
ولا يجب على المستحاضة إلا غسل واحد باتفاق المذاهب الأربعة بدليل الحديث السابق وغيره كحديث حمنة، ويسن لها عند الشافعية والحنابلة، ويندب عند الحنفية كالمالكية أن تغتسل لكل صلاة، بدليل الحديث المتقدم في الأغسال المسنونة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة أن تغتسل، فكانت تغتسل عند كل صلاة» (3) .
وتصلي المستحاضة ونحوها عند الحنفية بوضوئها ما شاءت من الفرائض والنوافل. ويبطل وضوءها بخروج الوقت كما بينا في بحث وضوء المعذور.
ولها عند الحنابلة أيضاً الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد؛ «لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد» وأمر به سهلة بنت سهيل. وخروج الوقت مبطل لهذه الطهارة، أي أن مذهبي الحنفية والحنابلة متفقان.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وابن حبان، ورواه مسلم في الصحيح بدون قوله: «وتوضئي لكل صلاة» (نصب الراية:199/1 وما بعدها، نيل الأوطار:275/1) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن (نيل الأوطار:274/1، نصب الراية:202/1 وما بعدها) وأما حديث «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» الذي رواه سبط ابن الجوزي عن أبي حنيفة، كما سبق تخريجه، فقال عنه الزيلعي: غريب جداً (نصب الراية:204/1) .
(3) متفق عليه.(1/560)
أما الشافعية فقالوا: يجب الوضوء لكل فرض ولو منذوراً، كالتيمم لبقاء الحدث، وتصلي به الجنازة وما شاءت من النوافل، وكذا يجب لكل فرض تجديد العِصَابة في الأصح، قياساً على تجديد الوضوء. ويجب أن تبادر إلى الصلاة عقب الوضوء، إلا لمصلحة كستر عورة وأذان وإقامة، وانتظار جماعة واجتهاد في قبلة وذهاب إلى مسجد وتحصيل سترة. وقد سبق بيان ذلك وغيره في بحث وضوء المعذور.
ثالثاً ـ تقدير مدة حيض المستحاضة:
نظراً لاستمرار نزول الدم على المستحاضة بسبب حالة مرضية، فإنها تحتاج لبيان مدة الحيض الشهرية، لتطبق عليها أحكام الحيض، ويكون الباقي استحاضة، وقد ورد في السنة النبوية مبادئ أساسية في هذا الموضوع، منها ما يأتي:
أولاً ـ العمل بالتمييز بصفة الدم، فإذا كان متصفاً بصفة السواد فهو حيض، وإلا فهو استحاضة، أي أن المرأة إذا ميزت دم الحيض عن دم الاستحاضة، عملت بتمييزها، وذلك في حديث عروة عن فاطمة بنت أبي حُبَيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلِّي، فإنما هو عِرْق» (1) ينزف.
ثانياً ـ بناء المعتادة على عادتها السابقة، في حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش، وفي رواية البخاري: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي، وصلِّي» (2) .
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي، وابن حبان والحاكم وصححاه، والدارقطني والبيهقي (نيل الأوطار:270/1) .
(2) انظر نيل الأوطار:268/1، سبل السلام:100/1.(1/561)
ثالثاً ـ رجوع المستحاضة إلى الغالب من عادة النساء: وهي ست أو سبع لفقد العادة والتمييز، في حديث حمنة بنت جحش: « ... إنما هذه رَكْضة من رَكَضات الشيطان (1) فتحيَّضي (2) ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهُرت، واستَنْقَيت، فصلِّي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين وأيامها، فصومي، فإن ذلك مُجْزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء، وكما يَطْهُرن لميقات حيضِهِن وطهرهن..» (3) .
وقد اختلفت المذاهب في تقدير مدة حيض المستحاضة على النحو التالي:
مذهب الحنفية (4) :
المستحاضة إما مبتدأة: وهي التي ابتدأها الدم مع البلوغ أو في أول نفاس ثم استمر، أو معتادة: وهي التي سبق لها دم وطهر صحيحان، أو متحيرة وهي المعتادة التي نسيت عادتها.
أما المبتدأة: فيقدر حيضها بعشرة أيام لأنه لا مزيد للحيض على العشرة، وطهرها بعشرين يوماً من كل شهر (عشرة حيض وعشرون استحاضة) عملا ً بالحديث السابق: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها» أي أيام حيضها، كما يقدر نفاسها بأربعين يوماً وطهرها منه بعشرين يوماً، ثم يقدر حيضها بعد ذلك بعشرة أيام، وهكذا حتى تطهر أو تموت.
__________
(1) أي أن الشيطان وجد بذلك سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها بذلك عادتها، فصار في التقدير كأنه ركض بآلة، كأنه أراد الإضرار بالمرأة والأذى.
(2) أي اجعلي نفسك حائضاً.
(3) رواه أبو داود والترمذي وصححاه (نيل الأوطار:271/1، سبل السلام:102/1) .
(4) تبيين الحقائق: 62/1، الدر المختار:277/1، فتح القدير:122/1-124، اللباب:50/1، البدائع:41/1 وما بعدها.(1/562)
وأما المعتادة: التي لم تنس عادتها الممتدة الدم: فترد إلى عادتها المعروفة في الحيض والطهر، وما زاد على ذلك فهو استحاضة، فتقضي ما تركت من الصلاة بعد العادة، إلا إذا كانت عادتها في الطهر ستة أشهر فأكثر، فترد إلى ستة أشهر إلا ساعة بالنسبة لانقضاء العدة، وأما بالنسبة لغير العدة فترد إلى عادتها السابقة كما كانت ترى. والمفتى به أن العادة تثبت بمرة.
وأما المحيَّرة أو المتحيرة وهي التي نسيت عادتها، فلا يحكم لها بشيء من الطهر أو الحيض على التعيين، بل تأخذ بالأحوط في حق الأحكام الشرعية (1) ، وأما بالنسبة لانقضاء العدة فيقدر في الأصح بستة أشهر إلا ساعة، لأن الطهر بين الدمين أقل من أدنى مدة الحمل (2) عادة، فنقصناه من ذلك ساعة، فإن طُلِّقت تنقضي عدتها بتسعة عشر شهراً إلا ثلاث ساعات، لجواز أن يكون طلقها في أول الطهر، فتحتاج إلى ثلاث حيضات مجموعها شهر (لأن كل حيضة عشرة أيام) ، وإلى ثلاثة أطهار مجموعها ثمانية عشر شهراً إلا ثلاث ساعات.
مذهب المالكية (3) :
المستحاضة وهي التي استمر بها الدم بعد تمام حيضها: إذا ميزت الدم بتغير رائحة أو لون أو ثخن أو تألم ونحو ذلك لا بكثرة الدم وقلّته، فهو حيض (4) ، بشرط أن يتقدمه أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً، علماً بأن دم الحيض أسود
__________
(1) وهو أن تجتنب دائماً وأبداً ما تجتنبه الحائض من قراءة القرآن ومسه ودخول المسجد ونحو ذلك، ولا يأتيها زوجها، وتغتسل لكل صلاة، فتصلي به الفرض والوتر، وتقرأ فيهما قدر ما تجوز به الصلاة ولاتزيد.
(2) أقل مدة الحمل ستة أشهر.
(3) الشرح الصغير:213/1، الشرح الكبير:171/1، القوانين الفقهية: ص41.
(4) اتفاقاً في العبادة، وعلى المشهور في العدة.(1/563)
غليظ، ودم الاستحاضة أحمر رقيق، والصفرة أو الكدرة حيض، كما أبنت في ألوان الدم.
ولا تزيد المميزة ثلاثة أيام على عادتها استظهاراً، على الأصح، بل تقتصر على عادتها، ما لم يستمر ما ميزته بصفة الحيض المميز، فإن استمر بصفته استظهرت على المعتمد، والعادة تثبت بمرة.
فإن لم تميز، فهي مستحاضة (أي باقية على أنها طاهر) ، ولو مكثت طول عمرها، وتعتد عدة المرتابة بسنة بيضاء. وكذلك تكون مستحاضة لو ميزت قبل تمام أقل الطهر، إذ لا عبرة بذلك التمييز ولا فائدة له.
والخلاصة: أن المستحاضة لا تعد بحكم الحائض إلا بثلاثة شروط:
الأول ـ أن تكون المرأة مميزة.
والثاني ـ أن يتغير الدم عن صفة الاستحاضة إلى الحيض.
والثالث ـ أن تمضي لها من الأيام في الاستحاضة مقدار أقل الطهر (51 يوماً) .
مذهب الشافعية (1) :
تسمى المرأة التي زاد دمها على خمسة عشر يوماً مستحاضة، وصورها سبع:
1ً - المُبتَدَأة المميزة: المبتدأة: أول ما ابتدأها الدم، والمميزة: هي التي تميز الدم، فترى قوياً وضعيفاً، كالأسود والأحمر (2) .
وحكمها: الضعيف استحاضة، والقوي حيض، بشرط ألا ينقص القوي عن أقل الحيض (يوم وليلة) ، وألا يعبر أو يجاوز أكثره (وهو خمسة عشر يوماً) لأن الحيض لا يزيد عن ذلك، وبشرط ألا ينقص الضعيف إن استمر عن أقل الطهر (وهو خمسة عشر يوماً) أي بأن يكون ولاء متتابعاً خمسة عشر يوماً فأكثر متصلة.
فإن نقص القوي عن أقل الحيض، أو عبر أكثره، أو نقص الضعيف عن أقل الطهر أو لم يكن ولاء متتابعاً، كما لو رأت يوماً أسود، ويوماً أحمر، فهي فاقدة شرطاً من شروط التمييز، يعرف حكمها من الصورة الثانية.
__________
(1) مغني المحتاج:113/1-118، حاشية الباجوري:114/1 ومابعدها.
(2) سبق بيان ترتيب الدماء بحسب قوتها، فأقواها السواد، ثم الحمرة، ثم الشقرة ثم الصفرة، ثم الكُدرة.(1/564)
2ً - المبتدأة غير المميزة: وهي أول ما ابتدأها الدم، ولكنها ترى الدم بصفة واحدة. ومثلها المميزة التي فقدت شرطاً من شروط التمييز.
وحكمها: أن حيضها يوم وليلة، وطهرها تسع وعشرون إن عرفت وقت ابتداء الدم، وإلا فهي متحيرة سيأتي حكمها.
3ً - المعتادة المميزة: المعتادة: هي التي سبق لها حيض وطهر، والمميزة: هي التي ترى قوياً وضعيفاً، كما تقدم. والأصح أن العادة تثبت بمرة.
وحكمها: العمل بالتمييز، لا بعادة مخالفة للتمييز في الأصح، إن لم يتخلل بين القوي والضعيف أقل الطهر. فلو كانت عادتها خمسة من أول الشهر، وبقيته طهر، ثم لما استحيضت ونزل عليها الدم واستمر، فرأت عشرة أيام أسود من أول الشهر، وبقيته أحمر، كان حيضها العشرة، لا الخمسة فقط، للحديث المتقدم «دم الحيض أسود يعرف» ولأن التمييز أقوى من العادة؛ لأن التمييز علامة في الدم، والعادة علامة في صاحبته.
فإن كانت العادة متفقة مع التمييز، كما لو كانت عادتها خمسة أيام من أول الشهر، فجاء التمييز كذلك، حكم لها بهما معاً. وإن تخلل بين نوعي الدم أقل الطهر: كأن رأت بعد خمستها العادية عشرين يوماً ضعيفاً، ثم خمسة قوياً، ثم ضعيفاً، فقدر العادة حيض للعادة، وقدر التمييز حيض آخر للتمييز.
4ً - المعتادة غير المميزة الذاكرة لعادتها قدراً ووقتاً: وهي التي سبق لها حيض وطهر، ولكنها ترى الدم بصفة واحدة، وتذكر مقدار عادتها ووقته.
وحكمها: أن ترد إلى العادة قدراً ووقتاً، فلو حاضت في شهر خمسة أيام من أوله مثلاً، ثم استحيضت، فحيضها هو الخمسة من أول الشهر، وطهرها بقية الشهر، عملاً بعادتها، وإن لم تتكرر؛ لأن العادة تثبت بمرة إن لم تختلف، فإن اختلفت فلا تثبت بمرة.
5ً - المعتادة غير المميزة الناسية لعادتها قدراً ووقتاً: بأن سبق لها حيض وطهر، ولم تعلم عادتها قدراً ووقتاً.(1/565)
حكمها: كحائض في أحكام كحرمة الاستمتاع بها وقراءة القرآن في غير الصلاة، ومس المصحف، احتياطاً؛ لأن كل زمن يمر عليها يحتمل الحيض. وهي أيضاً كطاهر في أحكام كالصلاة فرضاً أو نفلاً في الأصح والصوم، احتياطاً؛ لأن كل زمن يمر عليها يحتمل الطهر. وتغتسل لكل فرض في وقته، لاحتمال انقطاع الدم حينئذ إن جهلت وقت الانقطاع.
فإن علمته كأن عرفت أنه كان ينقطع عند الغروب، فلا يلزمها الغسل، إلا عند الغروب، وتتوضأ لباقي الفرائض لاحتمال الانقطاع عند الغروب، دون ما عداه، وتصوم رمضان، ثم شهراً كاملاً، ويبقى عليها يومان، لاحتمال أن يطرأ عليها الحيض في أثناء اليوم الأول، واحتمال كونها تحيض أكثر الحيض (51 يوماً) فيفسد صومها في اليوم السادس عشر؛ لأنه يطرأ الدم في أثناء يوم، وينقطع في أثناء يوم، ويحسب لها أربعة عشر من كل من الشهرين، بثمانية وعشرين يوماً، فيبقى لها يومان، تصوم لهما من ثمانية عشر ثلاثة أولها، وثلاثة آخرها، فيحصلان، علماً بأن أقل الطهر 51 يوماً.
6ً - المعتادة غير المميزة الذاكرة لعادتها قدراً لا وقتاً: كأن تقول: كان حيضي خمسة في العشر الأول من الشهر، لا أعلم ابتداءها، وأعلم أني في اليوم الأول طاهر بيقين، فالسادس حيض بيقين، والأول طهر بيقين، كالعَشْرين الأخيرين، والثاني إلى آخر الخامس محتمل للحيض والطهر، دون الانقطاع، والسابع إلى آخر العاشر محتمل للحيض والطهر والانقطاع.
فلليقين من حيض وطهر حكمه، وهي في المحتمل كناسية لهما (الحيض والطهر) كما في الصورة الخامسة.
ومعلوم أنه لا يلزمها الغسل إلا عند احتمال الانقطاع.
ويسمى ما يحتمل الانقطاع طهراً مشكوكاً فيه، وما لا يحتمله حيضاً مشكوكاً فيه.
7ً - المعتادة غير المميزة، الذاكرة لعادتها وقتاً لا قدراً، كأن تقول: كان حيضي يبتدئني أول الشهر، ولا أعلم قدره.
حكمها: يوم وليلة منه حيض بيقين، ونصفه الثاني طهر بيقين، وما بين ذلك محتمل للحيض والطهر والانقطاع.(1/566)
فلليقين من حيض وطهر حكمه، وهي في المحتمل كناسية لهما، كما مر في التي قبلها. والخلاصة: يطلق على الصور الثلاث الأخيرة اسم المتحيرة: وهي التي نسيت عادتها قدراً ووقتاً، أو نسيت القدر دون الوقت، أو بالعكس. والمشهور في حكمها: وجوب الاحتياط، فيحرم الوطء ومس المصحف، والقراءة في غير الصلاة، وتصلي الفرائض كلها، وكذا النفل في الأصح. وتغتسل لكل فرض، وتصوم رمضان، ثم شهراً كاملاً، فيحصل من كل منهما أربعة عشر يوماً، ثم تصوم ثمانية عشر: ثلاثة أولها، وثلاثة آخرها، فيحصل اليومان الباقيان.
وما عدا المتحيرة: تعمل أولاً بالتمييز إن كانت مميزة، سواء أكانت مبتدأة أم معتادة. وإن لم تكن مميزة وتعلم عادتها قدراً ووقتاً، ترد إلى عادتها في ذلك، وإن كانت مبتدأة لا مميِّزة، أو فقدت شرط تمييز، فالأظهر أن حيضها يوم وليلة، وطهرها تسع وعشرون.
مذهب الحنابلة (1) :
المستحاضة إما مبتدأة أو معتادة، وكل منهما إما مميزة أولا، فإن كانت المبتدأة مميزة عملت بتمييزها، وإن كانت غير مميزة قدر حيضها بيوم وليلة، وتغتسل بعد ذلك، وبقية الشهر طاهرة، وذلك في الشهور الثلاثة الأولى، ثم تنتقل في الشهر الرابع إلى غالب الحيض وهو ست أو سبع باجتهادها. وتفصيل كلامهم فيما يأتي:
1ً - المبتدأة غير المميزة: يقدر حيضها بيوم وليلة؛ لأنه المتيقن، وما زاد مشكوك فيه كغير المستحاضة، ثم تغتسل وتصلي احتياطاً لبراءة ذمتها، ولكن يحرم وطؤها في مدة خمسة عشر يوماً إن استمر بها الدم هذه المدة. فإن انقطع الدم قبل هذه المدة اغتسلت عند انقطاعه غسلاً ثانياً، ويباح وطؤها حينئذ.
تفعل هكذا في ثلاثة أشهر، في كل شهر مرة؛ لأن العادة لا تثبت بدون التكرار ثلاث مرات في ظاهر المذهب أو أكثر الروايات عن أحمد.
__________
(1) كشاف القناع:234/1-246، المغني:310/1-332،351 ومابعدها.(1/567)
وفي الشهر الرابع تنتقل إلى غالب الحيض وهو ستة أيام أو سبعة باجتهادها وتحريها، ورأيها، فتعمل بما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها، أو عادة نسائها، أو ما يكون أشبه بكونه حيضاً. وإن جاوز دمها أكثر الحيض (51 يوماً) فهي مستحاضة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما ذلك عرق، وليس بحيضة» ولأن الدم كله لا يصلح أن يكون حيضاً.
2ً - المبتدأة المميزة: بأن ميزت الدم الأسود أو الثخين أو المنتن عن الرقيق الأحمر غير المنتن، فتعمل بالتمييز، ويكون حيضها زمن الأسود أو زمن الثخين، أو زمن المنتن إن لم ينقص عن أقل الحيض (يوم وليلة) ولم يجاوز أكثره (خمسة عشر يوماً) لحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش بلفظ النسائي: «إذا كان الحيض، فإنه أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو دم عرق» ، فإن نقص عن يوم وليلة فهو استحاضة، وإن جاوز الخمسة عشر، بأن كان الأسود عشراً، والأحمر ثلاثين مثلاً، فحيضها زمن الدم الأسود، وما عداه استحاضة؛ لأنه لا يصلح حيضاً.
3ً - المعتادة غير المميزة: ترجع إلى عادتها، لتعمل بها، لما يأتي في الصورة التالية.
4ً - المعتادة المميزة: بأن ترى بعض دمها أسود أو ثخيناً أو منتناً، فتقدم العادة على التمييز، سواء اتفق تمييزها وعادتها، بأن تكون عادتها أربعة مثلاً من أول الشهر، وكان دم هذه الأربعة الآن أسود، ودم باقي الشهر أحمر، أو اختلفا أي العادة والتمييز، بأن تكون عادتها ستة أيام، وترى الآن أربعة أسود، وباقي الشهر أحمر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» ولأن العادة أقوى؛ لأنها لاتبطل دلالتها، بخلاف اللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته.(1/568)
5ً - المعتادة المميزة الناسية لعادتها: تعمل كالمبتدأة بالتمييز الصالح؛ لأنه يكون حيضاً. والتمييز الصالح: هو ألا يكون الدم ناقصاً عن يوم وليلة، وألا يجاوز خمسة عشر يوماً. وذلك عملاً بحديث فاطمة بنت أبي حبيش: «إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو عرق» .
6ً - المتحيرة: وهي التي تحيرت في حيضها بجهل العادة، وعدم التمييز، ولها أحوال ثلاثة:
أـ الناسية لوقت عادتها وعددها: يكون حيضها في كل شهر ستة أيام أو سبعة بحسب اجتهادها ورأيها فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها أو عادة نسائها، أو ما يكون أشبه بكونه حيضاً، ثم تغتسل، وتعتبر فيما بعد ذلك مستحاضة، تصوم وتصلي وتطوف، عملاً بحديث حمنة بن جحش: «فتحيَّضي ستة أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي ... » .
ب ـ الناسية عدد عادتها، وتذكر وقتها: كالتي تعلم أن حيضها في العشر الأول من الشهر، ولا تعلم عدده، حكمها كالحالة الأولى، ترد إلى غالب الحيض: ست أو سبع، في أصح الروايتين.
جـ ـ الناسية لوقتها دون عددها: أي أنها عالمة بالعدد ناسية للموضع، كأن تعلم عدد أيام حيضتها، وتنسى موضعها بأن لم تدر أكانت تحيض في أول الشهر أو أوسطه أو آخره؟ حكمها: أن تجعل أيام حيضتها من أول كل شهر هلالي؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم (جعل حيضة حمنة من أول الشهر، والصلاة في بقيته) ولأن دم الحيض هو الأصل، والاستحاضة عارضة، فيقدم دم الحيض.(1/569)
البَابُ الثَّاني: الصَّلاة (1)
وفيه عشرة فصول:
الفصل الأول ـ تعريف الصلاة، مشروعيتها وحكمة تشريعها، فرضيتها وفرائضها، حكم تارك الصلاة.
الفصل الثاني ـ أوقات الصلاة، وفيه بحث: متى تدرك الصلاة أداء؟
الفصل الثالث ـ الأذان والإقامة.
الفصل الرابع ـ شروط الصلاة (شروط التكليف بها أو الوجوب، وشروط بحث صلاة المريض.
الفصل الخامس ـ أركان الصلاة (أو فرائضها) وواجباتها عند الحنفية وفيه بحث صلاة المريض.
الفصل السادس ـ سنن الصلاة ومندوباتها وصفتها (كيفيتها) ومكروهاتها، والأذكار الواردة عقبها، وفيه بحث أمور مستقلة ثلاثة وهي: سترة المصلي، والقنوت، والوتر.
الفصل السابع ـ مفسدات أو مبطلات الصلاة.
الفصل الثامن ـ النوافل أو صلاة التطوع وترتيب أفضليتها.
الفصل التاسع ـ أنواع خاصة من السجود (سجود السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر) ، وقضاء الفوائت.
الفصل العاشر ـ أنواع الصلاة:
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول ـ صلاة الجماعة وأحكامها (الإمامة والاقتداء) وفيه بحث صلاة المسبوق، والاستخلاف والبناء على الصلاة.
المبحث الثاني ـ صلاة الجمعة وخطبتها.
المبحث الثالث ـ صلاة المسافر (الجمع والقصر) .
المبحث الرابع ـ صلاة العيدين.
المبحث الخامس ـ صلاة الكسوف والخسوف.
المبحث السادس ـ صلاة الاستسقاء.
المبحث السابع ـ صلاة الخوف.
المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور.
صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم:
هذه صفة واضحة لصلاة النبي صلّى الله عليه وسلم، أثْبتها هنا قبل تفصيل الكلام عن الصلاة، كما رواها المحدِّثون الثقات،
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعديّ في عشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ـ منهم أبو قتادة ـ قال أبو حميد:
__________
(1) الطهارة وسيلة، والصلاة مقصد وغاية، فتبحث بعدها مباشرة.(1/570)
أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: فلِمَ؟ فوالله ما كنتَ بأكثرنا له تَبَعاً، ولا أقدمنا له صحبةً، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، يرفع يديه حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبيه، ثم يُكَبِّر حتى يَقِرَّ كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا يَنْصِبُ رأسه ولا يُقْنِعُ (1) ، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يَهْوي (2) إلى الأرض، فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع أسه، ويُثْني رجله اليسرى فيقعد عليها (3) ، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع، ويُثْني رجله اليسرى فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الآخر مثل ذلك.
ثم إذا قام من الركعتين، كبَّر ورفع يديه حتى يحاذيَ بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته.
حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرَّ رجله، وقعد مُتَورِّكاً (4) على شِقِّه الأيسر، قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي صلّى الله عليه وسلم.
وفي رواية قال: «كنت في مجلس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: اذكروا صلاته، فقال أبو حميد ـ فذكر بعض هذا الحديث ـ فتذكر: فإذا ركع أمْكَن كفّيه من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه، وهَصَر (5) ظهره، غير مُقْنِع رأسه، ولا صافِحٍ بخدِّه (6) ، وقال: فإذا قعد في الركعتين، قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كان في الرابعة أفضى بوَرِكه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة» .
__________
(1) يقنع: أي لا يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره.
(2) الهويّ: السقوط من علو إلى أسفل.
(3) هذه تسمى قعدة الاستراحة.
(4) التورك في الصلاة: القعود على الورك اليسرى، والوركان فوق الفخذين كالمنكبين فوق العضدين.
(5) هصر ظهره: أماله.
(6) أي غير مُبْرز خده ولا مائل في أحد الشِّقَّين.(1/571)
وفي رواية أخرى: قال: «إذا سجد وضع يديه غير مُفْترش (1) ولا قابِضهما، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة» .
وفي رواية قال: «ثم رفع رأسه ـ يعني من الركوع ـ فقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ورفع يديه» .
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه حديثاً علَّم فيه النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً بدوياً كيفية الصلاة، حينما صلى فأخَفَّ صلاته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنه لا تتم صلاةُ أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء ـ يعني مواضعه ـ ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل، ويُثْني عليه، ثم يقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصلُه، ثم يرفع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائماً، ويقول: الله أكبر، ثم يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلُه، ويرفع ثانية ليكبِّر، فإذا فعل ذلك تمت صلاته» .
الفَصْلُ الأوَّل: تعريف الصَّلاة، ومشروعيَّتها وحكمة تشريعها
فرضيَّتها وفرائضها، حكم تارك الصَّلاة
حقيقة الصلاة: الصلاة لغة: الدعاء أو الدعاء بخير، قال تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سَكَن لهم} [التوبة:9/301] أي ادع لهم. وشرعاً: هي أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
مشروعيتها: الصلاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع:
__________
(1) الافتراش المنهي عنه: هو أن يبسط ذراعيه في السجود ولا يرفعهما عن الأرض.(1/572)
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيِّمة} [البينة:5/89] وقوله سبحانه: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير} [الحج:22/87] ، مع آي كثيرة مثل: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء:4/301] .
وأما السنة: فأحاديث متعددة، منها: حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» (1) ، وفي معناه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (2) .
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة.
تاريخها ونوع فرضيتها وفرائضها: فرضت الصلاة ليلة الإسراء قبل الهجرة بنحو خمس سنين على المشهور بين أهل السير، لحديث أنس، قال: «فرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم الصلوات ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً، ثم نودي: يا محمد، إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمسة خمسين» (3) . وقال بعض الحنفية: فرضت ليلة الإسراء قبل السبت سابع عشر من رمضان قبل الهجرة بسنة ونصف. وجزم الحافظ ابن حجر بأنه ليلة السابع والعشرين من رجب، وعليه عمل أهل الأمصار.
وهي فرض عين على كل مكلف (بالغ عاقل) ، ولكن تؤمر بها الأولاد لسبع سنين، وتضرب عليها لعشر، بيدٍ، لا بخشبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مُروا صبيانكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع» (4) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي. وفي الصحيحين: «فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمساً في كل يوم وليلة» .
(4) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والترمذي والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار:298/1) .(1/573)
والصلوات المكتوبات خمس في اليوم والليلة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها إلا بنذر، للأحاديث السابقة، ولحديث الأعرابي: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال الأعرابي: «هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا تطَّوع» (1) ولقوله صلّى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «أخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» (2) .
وقال أبو حنيفة رحمه الله: الوتر واجب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قد زادكم صلاة، وهي الوتر» (3) وهذا يقتضي وجوبه، وقال عليه السلام: «الوتر واجب على كل مسلم» (4) .
حكمة تشريع الصلاة: الصلاة أعظم فروض الإسلام بعد الشهادتين، لحديث جابر: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» (5) .
وقد شرعت شكراً لنعم الله تعالى الكثيرة، ولها فوائد دينية وتربوية على الصعيدين الفردي والاجتماعي.
فمن فوائدها الدينية: عقد الصلة بين العبد وربه، بما فيها من لذة المناجاة للخالق، وإظهار العبودية لله، وتفويض الأمر له، والتماس الأمن والسكينة والنجاة في رحابه، وهي طريق الفوز والفلاح، وتكفير السيئات والخطايا، قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون23/1-2]
__________
(1) متفق عليه، تتمة الحديث: «فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال الرسول: أفلح إن صدق» (نيل الأوطار:286/1) .
(2) متفق عليه عن ابن عباس: وكانت تلك البعثة سنة عشر قبل حج النبي صلّى الله عليه وسلم (سبل السلام:120/2) .
(3) ورواه ثمانية من الصحابة: خارجة بن حذافة، وعمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وأبو بصرة الغفاري، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو سعيد الخدري، وكلها معلولة (نصب الراية:109/1) .
(4) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أيوب (نصب الراية:112/1) .
(5) رواه مسلم.(1/574)
{إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} [المعارج:70/19-20] .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نَهَراً بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يَبْقى من دَرَنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فكذلك مَثَل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» (1) .
وفي حديث آخر عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تُغْشَ الكبائر» (2) . وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «إن العبد إذا قام يصلي، أُتي بذنوبه فوضعت على رأسه أو على عاتقه، فكلما ركع أو سجد، تساقطت عنه» (3) أي حتى لا يبقى منها شيء إن شاء الله تعالى.
ومن فوائدها الشخصية: التقرب بها إلى الله تعالى ومعراج النفس إلى ربها، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:51/56] وفيها تقوية النفس والإرادة، والاعتزاز بالله تعالى دون غيره، والسمو عن الدنيا ومظاهرها، والترفع عن مغرياتها وأهوائها، وعما يحلو في النفس مما لدى الآخرين من جاه ومال وسلطان، قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة:2/45] .
كما أن في الصلاة راحة نفسية كبيرة، وطمأنينة روحية، وبعداً عن الغفلة
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، ورواه ابن ماجه من حديث عثمان (الترغيب والترهيب:233/1) .
(2) رواه مسلم والترمذي وغيرهما (المصدر السابق) .
(3) رواه ابن حبان في صحيحه.(1/575)
التي تصرف الإنسان عن رسالته السامية الخالدة في هذه الحياة، قال صلّى الله عليه وسلم: «حُبِّب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة» (1) ، وكان عليه السلام ـ فيما رواه أحمد ـ إذا حَز به أمر (أي نزل به هم أو غم) قال: «أرحنا بها يا بلال» (2) .
وفي الصلاة: تدرب على حب النظام والتزام التنظيم في الأعمال وشؤون الحياة، واحترا م الوقت وتقديره لأدائها في أوقات منظمة، وبها يتعلم المرء خصال الحلم والأناة والسكينة والوقار، ويتعود على حصر الذهن في المفيد النافع، لتركيز الانتباه في معاني آي القرآن وعظمة الله تعالى ومعاني الصلاة.
كما أن الصلاة مدرسة خلقية عملية انضباطية تربي فضيلة الصدق والأمانة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، قال الله سبحانه: {وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت:92/54] .
ومن فوائدها الاجتماعية: إقرار العقيدة الجامعة لأفراد المجتمع، وتقويتها في نفسهم، وفي تنظيم الجماعة في تماسكها حول هذه العقيدة، وفيها تقوية الشعور بالجماعة، وتنمية روابط الانتماء للأمة، وتحقيق التضامن الاجتماعي، ووحدة الفكر والجماعة التي هي بمثابة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وفي صلاة الجماعة: فوائد عميقة وكثيرة، من أهمها إعلان مظهر المساواة، وقوة الصف الواحد، ووحدة الكلمة، والتدرب على الطاعة في القضايا العامة أو المشتركة باتباع الإمام فيما يرضي الله تعالى، والاتجاه نحو هدف واحد وغاية نبيلة سامية هي الفوز برضوان الله تعالى.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك، وهو حديث حسن.
(2) رواه أبو داود.(1/576)
كما أن بها تعارف المسلمين وتآلفهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وتغذية الاهتمام بأوضاع وأحوال المسلمين العامة، ومساندة الضعيف والسجين والملاحَق بتهمة والغائب عن أسرته وأولاده. ويعد المسجد والصلاة فيه مقراً لقاعدة شعبية منظمة متعاونة متآزرة، تخرِّج القيادة، وتدعم السلطة الشرعية، وتصحح انحرافاتها وأخطاءها بالكلمة الناصحة والموعظة الحسنة، والقول الليِّن، والنقد البناء الهادف؛ لأن «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) .
والصلاة تميِّز المسلم عن غيره، فتكون طريقاً للثقة والائتمان، وبعث روح المحبة والمودة فيما بين الناس، جاء في الحديث: «من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم» (2) .
حكم تارك الصلاة: اتفق المسلمون على أن الصلاة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل طاهر، أي غير ذي حيض أو نفاس، ولا ذي جنون أو إغماء، وهي عبادة بدنية محضة لا تقبل النيابة أصلاً، فلا يصح أن يصلي أحد عن أحد، كما لا يصح أن يصوم أحد عن أحد.
وأجمع المسلمون على أن من جحد وجوب الصلاة، فهو كافر مرتد، لثبوت فرضيتها بالأدلة القطعية من القرآن والسنة والإجماع، كما أبنت. ومن تركها تكاسلاً وتهاوناً فهو فاسق عاص، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة.
وترك الصلاة موجب للعقوبة الأخروية والدنيوية، أما الأخروية فلقوله تعالى: {ما سلككم في سَقَر؟ قالوا: لم نك من المصلين} [المدثر:74/42-43]
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري والترمذي، وأبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه (جامع الأصول: 158/1 وما بعدها) .(1/577)
{فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون:107/4-5] ، {فخلَف من بعدهم خَلْف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيّاً} [مريم:19/59] . وقال صلّى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمداً، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله» (1) .
وأما عقوبتها الدنيوية لمن تركها كسلاً وتهاوناً، فلها أنماط عند الفقهاء.
فقال الحنفية (2) : تارك الصلاة تكاسلاً فاسق يحبس ويضرب ـ على المذهب ـ ضرباً شديداً حتى يسيل منه الدم، حتى يصلي ويتوب، أو يموت في السجن ومثله تارك صوم رمضان، ولا يقتل حتى يجحد وجوبهما، أو يستخف بأحدهما كإظهار الإفطار بلا عذر تهاوناً، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (3) .
وأضاف الحنفية: أنه يحكم بإسلام فاعل الصلاة بشروط أربعة: أن يصلي الوقت، مع جماعة، أو يؤذن في الوقت، أو يسجد للتلاوة عند سماع آية سجدة، ولا يحكم بإسلام الكافر في ظاهر الرواية إن صام أوحج أو أدى الزكاة.
وقال الأئمة الآخرون (4) : تارك الصلاة بلا عذر ولو ترك صلاة واحدة. يستتاب ثلاثة أيام كالمرتد (5) ، وإلا قتل إن لم يتب، ويقتل عند المالكية والشافعية
__________
(1) رواه أحمد بإسناده عن مكحول، وهو مرسل جيد.
(2) الدر المختار:326/1، مراقي الفلاح: ص60.
(3) متفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) القوانين الفقهية: ص42، بداية المجتهد:87/1، الشرح الصغير:238/1، مغني المحتاج:327/1 ومابعدها، المهذب:51/1، كشاف القناع:263/1 ومابعدها، المغني:442/2.
(5) الاستتابة عند الشافعية والجمهور مندوبة هنا، أما استتابة المرتد فواجبة لأن الردة تخلد في النار، فوجب إنقاذه منها، بخلاف ترك الصلاة كسلاً لا يكفر.(1/578)
حداً، لا كفراً، أي لا يحكم بكفره وإنما يعاقب كعقوبة الحدود الأخرى على معاصي الزنى والقذف والسرقة ونحوها، وبعد الموت يغسل ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين. ودليلهم على عدم تكفير تارك الصلاة قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:4/48] ، وأحاديث متعددة منها: حديث عبادة بن الصامت: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن لم يضيِّع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يُدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفَر له» (1) .
وحديث أبي هريرة: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: الصلاة المكتوبة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع، أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثلُ ذلك» (2) فلا يكفر بترك الصلاة؛ لأن الكفر بالاعتقاد، واعتقاده صحيح، ويكفر إن تركها جاحداً وجوبها. وتأولوا الأحاديث الآتية التي استدل بها الحنابلة بأنها محمولة على المستحل أو المستحق عقوبة الكافر وهي القتل.
وقال الإمام أحمد رحمه الله (3) : يقتل تارك الصلاة كفراً أي بسبب كفره، لقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم} [التوبة:9/5] ، فمن ترك الصلاة، لم يأت بشرط التخلية، فيبقى على إباحة القتل، فلا يخلى من لم يقم الصلاة.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:294/1) .
(2) رواه الخمسة، وهناك أحاديث أخرى في موضوع هذين الحديثين (نيل الأوطار:295/1 ومابعدها) .
(3) المغني:442/2-447.(1/579)
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر: ترك الصلاة» (1) فهويدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر.
ومثله حديث بُرَيْدة: «العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (2) وهو يدل على أن تارك الصلاة يكفر.
ورجح الشوكاني هذا الرأي، فقال: والحق أنه كافر يقتل. ولا يمنع بعض أنواع الكفر من المغفرة واستحقاق الشفاعة.
وإني أميل إلى الرأي الأول وهو الحكم بعدم كفر تارك الصلاة، للأدلة الكثيرة القاطعة بعدم خلود المسلم في النار بعد النطق بالشهادتين، قال صلّى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله» (3) وقال عليه السلام أيضاً: «يخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرَّة من خير، ويخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال ذرة من خير» (4) .
وطريقة قتل تارك الصلاة عند الجمهور (غير الحنفية) : هو ضرب عنقه بالسيف، إن لم يتب.
دوام فرضية الصلاة طوال العمر: لا تسقط الصلاة بحال حضراً أو سفراً أو مرضاً، فيلزم المسلم بالصلاة ما دام حياً، ولم يصبح في حال غيبوبة أو فقد الوعي، وإنما يسر الإسلام كيفية أداء الصلاة كما في صلاة الخوف، وصلاة المريض بحسب القدرة من قيام أو قعود أو على جنب أواستلقاء أو بالرأس أو بالأعين أو إجراء الأركان على القلب. ومن كان ملطخاً بالدم إثر عملية جراحية، أو مربوطاً بكيس يصب فيه الدم مثلاً، أو مجبَّر الكسور، يصلي على هذه الحال بوضوء أو تيمم بحسب القدرة، ثم يعيد الصلاة، بعد الشفاء احتياطاً.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي (نيل الأوطار:291/1) .
(2) رواه الخمسة، وابن حبان والحاكم، وصححه النسائي والعراقي، وهناك أحاديث أخرى في موضوعه (انظر نيل الأوطار:293/1 ومابعدها) .
(3) أخرجه مسلم عن طارق الأشجعي رضي الله عنه (جامع الأصول:161/1) .
(4) أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه. والبرة مفرد البُرّ من القمح.(1/580)
الفَصْلُ الثَّاني: أوقاتُ الصَّلاة
الأوقات في السنة:
حددت السنة النبوية مواقيت الصلاة تحديداً دقيقاً لأول الوقت (1) وآخره، روى جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام، فقال له: قم، فصلِّهْ، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلِّه، فصلى العصر، حين صار ظل كل شيء مثلَه، ثم جاءه المغرب، فقال: قم فصله، فصلى المغرب حين وَجَبت الشمس (غربت) ، ثم جاءه العشاء، فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشَّفَق، ثم جاءه الفجر، فقال: قم فصله، فصلى الفجر حين بَرَق الفجر، أو قال: سطع الفجر.
ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم فصلِّهْ، فصلى الظهر، حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلِّهْ، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً، لم يزُل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلث الليل، فصلى العشاء، ثم جاءه حين أسفر جداً، فقال: قم فصَلِّهْ، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت» (2) وهو يدل على أن للصلوات وقتين، إلا المغرب.
__________
(1) الوقت: هو الزمان المقدر للعبادة شرعاً، المختار.
(2) رواه أحمد والنسائي، والترمذي بنحوه، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت (نيل الأوطار:300/1) .(1/581)
وهناك حديث آخر في تحديد وقت المغرب عن عقبة بن عامر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا تزال أمتي بخير، أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب، حتى تشتبك النجوم» (1) وهو يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب، وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم.
وقد أوضح الفقهاء بناء على ذلك وقت كل صلاة على النحو الآتي (2) ، وأجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، ثبتت في أحاديث صحاح جياد، وتجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسعاً إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها فيضيق الوقت حينئذ. وفي المناطق القطبية ونحوها يقدرون الأوقات بحسب أقرب البلاد إليهم، أو بميقات مكة المكرمة.
1 ً - وقت الفجر:
يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. والفجر الصادق: هو البياض المنتشر ضوءه معترضاً في الأفق. ويقابله الفجر الكاذب: وهو الذي يطلع مستطيلاً متجهاً إلى الأعلى في وسط السماء، كذنب السِرْحان (3) ، أي الذئب، ثم تعقبُه ظُلْمة. والأول: هو الذي تتعلق به الأحكام الشرعية كلها من بدء الصوم ووقت الصبح وانتهاء وقت العشاء، والثاني: لا يتعلق به شيء من الأحكام،
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك (نيل الأوطار:3/2) .
(2) فتح القدير:151/1-160، الدر المختار:331/1-343، اللباب:59/1-62، القوانين الفقهية: ص43 ومابعدها، الشرح الصغير:219/1-238، الشرح الكبير:176/1-181، مغني المحتاج:121/1-127، المهذب:51/1-54، بجيرمي الخطيب:354/1، المغني:370/1-395، كشاف القناع:289/1-298.
(3) السرحان مشترك بين الذئب والأسد، والمراد أنه يشبه ذنب السرحان الأسود، لأن الفجر الكاذب بياض مختلط بسواد، والسرحان الأسود: لونه مظلم، وباطن ذنبه أبيض.(1/582)
بدليل قوله عليه السلام: «الفجر فجران: فجر يحرِّم الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة ـ أي صلاة الصبح ـ ويحل فيه الطعام» (1) .
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم: «ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس» وما بعد طلوع الشمس إلى وقت الظهر يعتبر وقتاً مهملاً لا فريضة فيه.
2 ً - وقت الظهر:
من زوال الشمس إلى مصير ظل كل شيء مثله، سوى ظل أو فيء الزوال. وهذا رأي الصاحبين المفتى به عند الحنفية والأئمة الثلاثة. وظاهر الرواية وهو رأي أبي حنيفة: أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مِثْليْه، إلا أن هذا الوقت هو وقت العصر بالاتفاق، فتقدم الصلاة عن هذا الوقت؛ لأن الأخذ بالاحتياط في باب العبادات أولى.
وزوال الشمس: هو ميلها عن وسط السماء، ويسمى بلوغ الشمس إلى وسط (أو كبد) السماء: حالة الاستواء، وإذا تحولت الشمس من جهة المشرق إلى جهة المغرب حدث الزوال.
ويعرف الزوال: بالنظر إلى قامة الشخص، أو إلى شاخص أو عمود منتصب في أرض مستوية (مسطحة) ، فإذا كان الظل ينقص فهو قبل الزوال، وإن وقف لايزيد ولا ينقص، فهو وقت الاستواء، وإن أخذ الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت.
فإذا زاد ظل الشيء على ظله حالة الاستواء، أو مالت الشمس إلى جهة المغرب، بدأ وقت الظهر، وينتهي وقته عند الجمهور بصيرورة ظل الشيء مثله في القدر والطول، مع إضافة مقدار ظل أو فيء الاستواء، أي الظل الموجود عند الزوال.
__________
(1) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه (سبل السلام:115/1) .(1/583)
ودليل الجمهور: أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلّى الله عليه وسلم في اليوم التالي حين صار ظل كل شيء مثله، ولا شك أن هذا هو الأقوى. ودليل أبي حنيفة قوله عليه السلام: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (1) . وأشد الحر في ديارهم كان في هذا الوقت يعني إذا صار ظل كل شيء مثله. ودليل الكل على بدء وقت الظهر قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:17/78] أي زوالها.
3 ً - وقت العصر:
يبدأ من خروج وقت الظهر، على الخلاف بين القولين المتقدمين، وينتهي بغروب الشمس، أي أنه يبدأ من حين الزيادة على مثل ظل الشيء، أدنى زيادة عند الجمهور، أو من حين الزيادة على مثلي الظل عند أبي حنيفة، وينتهي الوقت بالاتفاق قبيل غروب الشمس، لحديث: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» (2) .
ويرى أكثر الفقهاء: أن صلاة العصر تكره في وقت اصفرار الشمس لقوله صلّى الله عليه وسلم: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْني الشيطان، قام فنَقَرها أربعاً، لا يذكر الله إلا قليلاً» (3) وقوله عليه السلام: «وقت العصر مالم تصفر الشمس» (4) .
وصلاة العصر: هي الصلاة الوسطى عند أكثر العلماء، بدليل ما روت عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ: {حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى} [البقرة:2/238] ، والصلاة الوسطى: صلاة العصر (5) وعن ابن مسعود وسمرة قالا: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصلاة الوسطى: صلاة العصر» (6) وسميت وسطى لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وصلاتين من صلاة النهار.
__________
(1) رواه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ «إذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (نصب الراية:228/1) .
(2) رواه الأئمة الستة في كتبهم، وهذا اللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة (المرجع السابق) .
(3) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. عن أنس رضي الله عنه (نيل الأوطار:307/1) وقوله بين قرني الشيطان إما حقيقة أو مجاز عن سلطانه وغلبة أعوانه.
(4) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وفي معناه حديث آخر عن أبي هريرة، ويؤيده فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث بريدة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى العصر في اليوم الثاني، والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة» .
(5) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث صحيح.
(6) قال الترمذي: حسن صحيح. هذا وقد أورد الشوكاني ستة عشر قولاً في بيان الصلاة الوسطى (نيل الأوطار:311/1) .(1/584)
والمشهور عند مالك: أن صلاة الصبح هي الوسطى، لما روى النسائي عن ابن عباس قال: «أدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم عرّس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى وهي صلاة الوسطى، والرأي الأول أصح لصحة الأحاديث فيه» .
4 ً - وقت المغرب:
من غروب الشمس بالإجماع، أي غياب قرصها بكامله، ويمتد عند الجمهور (الحنفية والحنابلة والأظهر عند الشافعية وهو مذهب الشافعي القديم) إلى مغيب الشَّفَق، لحديث: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» (1) .
والشفق عند الصاحبين والحنابلة والشافعية: هو الشفق الأحمر، لقول ابن عمر: «الشفق: الحمرة» (2) والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، وقد رجع الإمام إليه، وهو المذهب.
وعند أبي حنيفة: هو البياض الذي يستمر في الأفق ويبقى عادة بعد الحمرة، ثم يظهر السواد، وبين الشفقين تفاوت يقدر بثلاث درجات، والدرجة أربع دقائق.
ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق» (3) وهو ما روي عن أبي بكر وعائشة ومعاذ وابن عباس.
__________
(1) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو (سبل السلام:106/1) .
(2) رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر، وتمام الحديث «فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر مرفوعاً: «ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق» (سبل السلام:114/1) قال النووي: والصحيح أنه موقوف على ابن عمر.
(3) نص الحديث هو ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «وإن آخر وقتها - أي المغرب - حين يغيب في الأفق» وغيبوبته بسقوط البياض الذي يعقب الحمرة. لكنه حديث لم يصح سنداً (نصب الراية:230/1) وروي عن ابن مسعود أنه قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي هذه الصلاة حين يسود الأفق» .(1/585)
والمشهور عند المالكية ومذهب الشافعي الجديد غير الأظهر المعمول به لدى الشافعية: أن وقت المغرب ينقضي بمقدار وضوء وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات، أي أن وقته مضيق غير ممتد؛ لأن جبريل عليه السلام صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليومين في وقت واحد، كما ذكر في حديث جابر المتقدم، فلو كان للمغرب وقت آخر لبينه، كما بين وقت بقية الصلوات. ورد بأن جبريل إنما بين الوقت المختار، وهو المسمى بوقت الفضيلة، وأما الوقت الجائز وهو محل النزاع فليس فيه تعرض له.
5 ً - وقت العشاء:
يبدأ في المذاهب من مغيب الشفق الأحمر على المفتى به عند الحنفية إلى طلوع الفجر الصادق، أي قبيل طلوعه لقول ابن عمر المتقدم: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» ولحديث أبي قتادة عند مسلم: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى» . فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا الفجر، فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع.(1/586)
وأما الوقت المختار للعشاء فهو إلى ثلث الليل أو نصفه، لحديث أبي هريرة: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتُهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» (1) ، وحديث أنس: «أخر النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى» (2) وحديث ابن عمرو: «وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل» (3) .
وأما حديث عائشة «أعتم النبي صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، حتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» (4) فهو وإن كان فيه إشعار بامتداد وقت اختيار العشاء إلى ما بعد نصف الليل. ولكنه مؤول بأن المراد بعامة الليل: كثير منه، وليس المراد أكثره.
وأول وقت الوتر: بعد صلاة العشاء، وآخر وقتها مالم يطلع الفجر.
الوقت الأفضل أو المستحب:
للفقهاء آراء في بيان أفضل وقت كل صلاة أو الوقت المستحب، فقال الحنفية (5) : يستحب للرجال الإسفار بالفجر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» (6) والإسفار: التأخير للإضاءة. وحد الإسفار: أن يبدأ بالصلاة بعد انتشار البياض بقراءة مسنونة، أي أن يكون بحيث يؤديها بترتيل نحو ستين أو أربعين آية، ثم يعيدها بطهارة لو فسدت. ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وفي التغليس تقليلها، وما يؤدي إلى التكثير أفضل، وليسهل تحصيل ما ورد عن أنس من حديث حسن: «من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت كأجر حجة تامة، وعمرة تامة» .
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه (نيل الأوطار:11/2) .
(2) متفق عليه (المرجع السابق: ص12) .
(3) رواه أبو داود وأحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار:306/1) .
(4) رواه مسلم والنسائي (المرجع السابق: 12/1) وأعتم: دخل في العتمة أي آخرها.
(5) اللباب:61/1 ومابعدها، فتح القدير والعناية:156/1 وما بعدها.
(6) رواه سبعة من الصحابة وهم رافع بن خديج عند أصحاب السنن الأربعة، وبلال، وأنس، وقتادة بن النعمان، وابن مسعود، وأبو هريرة، وحواء الأنصارية. قال الترمذي: حديث حسن صحيح (نصب الراية:235/1) .(1/587)
وأما النساء: فالأفضل لهن الغَلَس (الظلمة) ؛ لأنه أستر، وفي غير الفجر يَنْتَظِرْن فراغ الرجال من الجماعة. وكذلك التغليس أفضل للرجل والمرأة لحاج بمزدلفة.
ويستحب في البلاد الحارة وغيرها الإبراد بالظهر في الصيف، بحيث يمشي في الظل، لقوله صلّى الله عليه وسلم السابق: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» ويستحب تعجيله في الشتاء والربيع والخريف، لحديث أنس عند البخاري: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة» (1) .
ويستحب تأخير العصر مطلقاً، توسعة لأداء النوافل، ما لم تتغير الشمس بذهاب ضوئها، فلا يتحير فيها البصر، سواء في الشتاء أم الصيف، لما فيه من التمكن من تكثير النوافل، لكراهتها بعد العصر.
__________
(1) نصب الراية:244/1.(1/588)
ويستحب تعجيل المغرب مطلقاً، فلا يفصل بين الأذان والإقامة إلا بقدر ثلاث آيات أو جلسة خفيفة؛ لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود، ولقوله عليه السلام: «لا تزال أمتي بخير أو قال: على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» (1) .
ويستحب تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل الأول، في غير وقت الغيم، فيندب تعجيله فيه، للأحاديث السابقة: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» .
ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل ويثق بالانتباه: أن يؤخر الوتر إلى آخر الليل، ليكون آخر صلاته فيه، فإن لم يثق من نفسه بالانتباه أوتر قبل النوم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من خاف ألا يقوم آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل، فليوتر آخره، فإن صلاة الليل مشهودة، وذلك أفضل» (2) .
وقال المالكية (3) : أفضل الوقت مطلقاً لظهر أو غيره، لفرد أو جماعة، في شدة الحر أو غيره أوله، فهو رضوان الله، لقوله صلّى الله عليه وسلم لمن سأله: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها» (4) أو «الصلاة في أول وقتها» وعن ابن عمر مرفوعاً: «الصلاة في أول الوقت: رضوان الله، وفي آخره عفو الله» (5) فالأفضل تقديم الصبح والعصر والمغرب.
لكن الأفضل على المشهور تأخير الظهر لربع القامة بعد ظل الزوال صيفاً وشتاء، أي التأخير بمقدار ذراع بأن يصيرظل الشخص بمقدار ربع قامته زيادة على ظل الزوال، وندب التأخير لربع القامة لمن ينتظر أداء الصلاة جماعة أو كثرتها، لتحصيل فضل الجماعة، وإذا كان الوقت وقت شدة الحر ندب تأخير الظهر للإبراد، أي الدخول في وقت البرد.
كما أن الأفضل في قول ضعيف في المدونة تأخير العشاء قليلاً في المساجد، والراجح كما حقق الدسوقي ندب تقديم العشاء للجماعة مطلقاً.
والخلاصة: أن المبادرة في أول الوقت مطلقاً هو الأفضل، إلا في حال انتظار الفرد جماعة للظهر وغيره، وفي حال الإبراد بالظهر أي لأجل الدخول في وقت البرد.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه (نصب الراية:246/1) .
(2) أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (نصب الراية:249/1) .
(3) الشرح الصغير:227/1 ومابعدها، الشرح الكبير والدسوقي:179/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص43.
(4) رواه البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن مسعود، وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين، ولفظ الصحيحين: «الصلاة لوقتها» .
(5) رواه الترمذي: وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: رضوان لله إنما يكون للمحسنين والعفو يشبه أن يكون للمقصرين.(1/589)
وقال الشافعية (1) : يسن تعجيل الصلاة ولو عشاء لأول الوقت، إلا الظهر، فيسن الإبراد بالظهر في شدة الحر، للأحاديث السابقة المذكورة في مذهب المالكية، والحنفية، والأصح: اختصاص التأخير للإبراد ببلد حار، وجماعة مسجد ونحوه كمدرسة، يقصدونه من مكان بعيد.
ويكره تسمية المغرب عشاء والعشاء عتْمة للنهي عنه (2) ، ويكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها إلا في خير، لما رواه الجماعة عن أبي بَرْزة الأسلمي أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العَتْمة، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها» .
وقال الحنابلة (3) : الصلاة في أول الوقت أفضل إلا العشاء، والظهر في شدة الحر، والمغرب في حالة الغيم، أما العشاء فتأخيرها إلى آخر وقتها المختار وهو ثلث الليل أو نصفه أفضل، ما لم يشق على المأمومين أو على بعضهم، فإنه يكره، عملاً بقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» ولأنه صلّى الله عليه وسلم «كان يأمر بالتخفيف رفقاً بهم» .
__________
(1) مغني المحتاج:125/1 وما بعدها، المهذب:53/1.
(2) أما النهي عن الأول في خبر البخاري: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب، وتقول الأعراب: هي العشاء» وأما النهي عن الثاني ففي خبر مسلم: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يُعتمون بالإبل» وفي رواية «بحلاب الإبل» معناه أنهم يسمونها العتمة لكونهم يعتمون بحلاب الإبل، أي يؤخرونه إلى شدة الظلام. وروى الحديث الثاني أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه. (نيل الأوطار:16/2) .
(3) المغني:385/1-395، كشاف القناع: 291/1-295.(1/590)
وأما الظهر فيستحب الإبراد به على كل حال في وقت الحر، ويستحب تعجيلها في وقت العشاء، عملاً بالحديث السابق: «إذا اشتد الحر فأبردوا، فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
وأما حالة الغيم: فيستحب تأخير الظهر والمغرب أثناءه، وتعجيل العصر والعشاء؛ لأنه وقت يخاف منه العوارض من المطر والريح والبرد، فيكون في تأخير الصلاة الأولى من أجل الجمع بين الصلاتين في المطر، وفي تعجيل الثانية دفع للمشقة التي قد تحصل بسبب هذه العوارض.
ولا يستحب عند الحنابلة تسمية العشاء العتمة، وكان ابن عمر إذا سمع رجلاً يقول (العتمة) صاح وغضب، وقال: (إنما هو العشاء) .
والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على أن الوقت الأفضل هو أول وقت كل صلاة، واستحب الحنفية الإسفار بصلاة الصبح، وقال الجمهور: التغليس بها أفضل، واستحب الكل الإبراد بالظهر، واستحب الحنفية تأخير العصر، واستحب المالكية للفرد التأخير رجاء إدراك صلاة الجماعة، واستحب الحنابلة تأخير العشاء، وتأخير الظهر والمغرب للجمع بين الصلاتين في حالة الغيم بسبب المطر.
متى تقع الصلاة أداء في الوقت؟
من المعلوم أن الصلاة إذا أديت كلها في الوقت المخصص لها فهي أداء، وإن فعلت مرة ثانية في الوقت لخلل غير الفساد فهي إعادة، وإن فعلت بعد الوقت فهي قضاء، والقضاء: فعل الواجب بعد وقته.
أما إن أدرك المصلي جزءاً من الصلاة في الوقت فهل تقع أداء؟ للفقهاء رأيان: الأول للحنفية، والحنابلة على الراجح، والثاني للمالكية والشافعية.(1/591)
الرأي الأول ـ للحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد (1) : تدرك الفريضة أداء كلها بتكبيرة الإحرام في وقتها المخصص لها، سواء أخرها لعذر كحائض تطهر، ومجنون يفيق، أو لغير عذر، لحديث عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها» (2) وللبخاري «فليتم صلاته» وكإدراك المسافر صلاة المقيم، وكإدراك الجماعة، ولأن بقية الصلاة تبع لما وقع في الوقت.
الرأي الثاني ـ للمالكية، والشافعية (3) في الأصح: تعد الصلاة جميعها أداء في الوقت إن وقع ركعة بسجدتيها في الوقت، وإلا بأن وقع أقل من ركعة فهي قضاء، لخبر الصحيحين: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» (4) أي مؤداة. ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لا يدرك الصلاة مؤداة، والفرق بين الأمرين: أن الركعة مشتملة على معظم أفعال الصلاة، وغالب ما بعدها كالتكرار لها، فكان تابعاً لها. وهذا الرأي فيما يظهر أصح لأن المراد بالسجدة الركعة، بدليل ما ذكر مسلم، وبدليل ما رواه الجماعة بلفظ «من أدرك من الصبح ركعة ... » الخ.
الاجتهاد في الوقت:
من جهل الوقت بسبب عارض غيم أو حبس في بيت مظلم (5) ، وعدم ثقة يخبره به عن علم، ولم يكن معه ساعة تؤقت له، اجتهد بما يغلب على ظنه دخوله بوِرْد من قرآن ودرس ومطالعة وصلاة ونحوه كخياطة وصوت ديك مجرَّب، وعمل على الأغلب في ظنه.
والاجتهاد يكون واجباً إن عجز عن اليقين بالصبر أو غيره كالخروج لرؤية الفجر أو الشمس مثلاً، وجائزاً إن قدر عليه.
__________
(1) الدر المختار:677/1، كشاف القناع:298/1، المغني:378/1.
(2) رواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه، لكن ذكر مسلم: والسجدة إنما هي الركعة.
(3) الشرح الصغير:231/1، القوانين الفقهية: ص46، مغني المحتاج:136/1، المهذب:54/1، نهاية المحتاج:280/1.
(4) نيل الأوطار:151/3.
(5) انظر مغني المحتاج:127/1، المغني:386/1،395، بجيرمي الخطيب:355/1 ومابعدها، نهاية المحتاج: 281/1 ومابعدها.(1/592)
وإن أخبره ثقة من رجل أو امرأة بدخول الوقت عن علم، أي مشاهدة، عمل به؛ لأنه خبر ديني يرجع في المجتهد إلى قول الثقة كخبر الرسول صلّى الله عليه وسلم. أما إن أخبره عن اجتهاد فلا يقلده؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً آخر.
وإذا شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن دخوله، أو يغلب على ظنه ذلك، وحينئذ تباح له الصلاة، ويستحب تأخيرها قليلاً احتياطاً لتزداد غلبة ظنه، إلا أن يخشى خروج الوقت.
وإن تيقن أن صلاته وقعت قبل الوقت، ولو بإخبار عدل مقبول الرواية عن مشاهدة، قضى في الأظهر عند الشافعية وعند أكثر العلماء، وإلا أي إن لم يتيقن وقوعها قبل الوقت، فلا قضاء عليه. ودليل القضاء: ما روي عن ابن عمر وأبي موسى أنهما أعادا الفجر؛ لأنهما صلياها قبل الوقت، ولأن الخطاب بالصلاة يتوجه إلى المكلف عند دخول وقتها، فإن لم تبرأ الذمة منه بقي بحاله.
تأخير الصلاة: يجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن جرير بن عبد الله: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» ولأنا لو لم نجوز التأخير لضاق على الناس، فسمح لهم بالتأخير. لكن من أخر الصلاة عمداً، ثم خرج الوقت وهو فيها، أثم وأجزأته (1) .
الأوقات المكروهة:
ثبت في السنة النهي عن الصلاة في أوقات خمسة، ثلاثة منها في حديث، واثنان منها في حديث آخر.
أما الثلاثة ففي حديث مسلم عن عقبة بن عامر الجُهَني: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلِّي فيهن، وأن نقبُر فيهن موتانا: حين تطلعُ الشمس بازغة حتى ترتفع (2) ، وحين يقوم قائم الظهيرة (3) حتى تزول الشمس (4) ، وحين تتضيَّف (5) الشمس لغروب» .
__________
(1) المهذب:53/1، المحرر في الفقه الحنبلي:28/1.
(2) بين حديث عمرو بن عبسة قدر ارتفاعها بلفظ «وترتفع قَيْس - أي قدر-رمح أو رمحين» رواه أبو داود والنسائي. وطول الرمح:50،2م أو سبعة أذرع في رأي العين تقريباً، وقال المالكية: اثنا عشر شبراً.
(3) ورد في حديث ابن عبسة «حتى يعدل الرمح ظله» ومعنى قوله (قائم الظهيرة) : قيام الشمس وقت الاستواء.
(4) أي تميل عن كبد السماء أي وسطها.
(5) أي تميل (راجع الحديثين في سبل السلام:111/1 وما بعدها) .(1/593)
وهذه الأوقات الثلاثة تختص بأمرين: دفن الموتى والصلاة.
وأما الوقتان الآخران ففي حديث البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» ولفظ مسلم: «لا صلاة بعد صلاة الفجر» وهذان الوقتان يختصان بالنهي عن الصلاة فقط.
فالأوقات الخمسة هي ما يأتي:
1ً - ما بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس كرُمح في رأي العين.
2ً - وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رُمح أي بعد طلوعها بمقدار ثلث ساعة.
3ً - وقت الاستواء (1) إلى أن تزول الشمس، أي يدخل وقت الظهر.
4ً - وقت اصفرار الشمس حتى تغرب.
5ً - بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
والحكمة من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وتحريم النوافل فيها: هي أن الأوقات الثلاثة الأولى ورد تعليل النهي عن الصلاة فيها في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم وأبي داود والنسائي: وهو أن الشمس عند طلوعها تطلع بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار، وعند قيام قائم الظهيرة تسجر (توقد) جهنم وتفتح أبوابها، وعند الغروب تغرب بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار. فالحكمة هي إما التشبه بالكفار عبدة الشمس، أو لكون الزوال وقت غضب.
__________
(1) التعبير به أولى من التعبير بوقت الزوال؛ لأن وقت الزوال لا تكره فيه الصلاة إجماعاً؛ لأن زوال الشمس يحدث عقب انتصاف النهار.(1/594)
وأما حكمة النهي عن النوافل بعد الصبح وبعد العصر فهي ليست لمعنى في الوقت، وإنما الوقت كالمشغول حكماً بفرض الوقت، وهو أفضل من النفل الحقيقي.
وأما نوع الحكم المستفاد من النهي:
فهو حرمة النافلة عند الحنابلة في الأوقات الخمسة، وعند المالكية في الأوقات الثلاثة، والكراهة التنزيهية في الوقتين الآخرين.
والكراهة التحريمية عند الحنفية في الأوقات الخمسة، وهو المعتمد عند الشافعية (1) في الأوقات الثلاثة، والكراهة التنزيهية في مشهور مذهب الشافعية في الوقتين الآخرين.
والحرمة أو الكراهة التحريمية (2) تقتضي عدم انعقاد الصلاة على الخلاف الآتي.
وأما نوع الصلاة المكروهة ففيها خلاف بين الفقهاء.
أولاً ـ الأوقات الثلاثة (الشروق والغروب والاستواء) قال الحنفية (3) : يكره تحريماً فيها كل صلاة مطلقاً، فرضاً أو نفلاً، أو واجباً، ولو قضاء لشيء واجب في الذمة، أو صلاة جنازة أو سجدة تلاوة أو سهو، إلا يوم الجمعة على المعتمد المصحح، وإلا فرض عصر اليوم أداء.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص31، الدر المختار:343/1، الشرح الصغير:241/1، مغني المحتاج:128/1، حاشية الباجوري:196/1، كشاف القناع:528/1، المغني:107/1 وما بعدها.
(2) بالرغم من أن كلاً من الحرام والمكروه تحريماً يقتضي الإثم، إلا أن الحرام: هو ما ثبت بدليل قطعي لا يحتمل التأويل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. وكراهة التحريم: ما ثبتت بدليل يحتمل التأويل.
(3) فتح القدير مع العناية:161/1-166، مراقي الفلاح: ص31، الدر المختار:1/343-349.(1/595)
والكراهة تقتضي عدم انعقاد الفرض وما يلحق به من الواجب كالوتر، وينعقد النفل بالشروع فيه مع كراهة التحريم، فإن طرأ الوقت المكروه على صلاة شرع فيها فتبطل إلا صلاة جنازة حضرت فيها، وسجدة تليت آيتها فيها، وعصر يومه، والنفل والنذر المقيد بها، وقضاء ما شرع به فيها ثم أفسده، فتنعقد هذه الستة بلا كراهة أصلاً، في الأولى منها، ومع الكراهة التنزيهية في الثانية، والتحريمية في البواقي.
ودليلهم عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات. وأما عدم صحة القضاء؛ فلأن الفريضة وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص.
ولا يصح أداء فجر اليوم عند الشروق، لوجوبه في وقت كامل فيبطل في وقت الفساد، إلا العوام فلا يمنعون من ذلك؛ لأنهم يتركونها، والأداء الجائز عند البعض أولى من الترك.
ويصح أداء العصر مع الكراهة التحريمية، لحديث أبي هريرة: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» (1) .
ويصح مع الكراهة التنزيهية أداء سجدة التلاوة المقروءة في وقت النهي أو أداء صلاة منذورة فيه أو نافلة شرع بأدائها فيه، لوجوبها في هذا الوقت. كذلك تصح صلاة الجنازة إذا حضرت في وقت مكروه لحديث الترمذي: «يا علي ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت لها كفؤاً» .
__________
(1) رواه الجماعة بلفظ «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» (نيل الأوطار:21/2)(1/596)
وقد رد الحنفية على التفرقة بين العصر والصبح مع أن هذا الحديث يسوي بينهما: بأن التعارض لما وقع بينه وبين النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، رجعنا إلى القياس، كما هو حكم التعارض، فرجحنا حكم هذا الحديث في صلاة العصر، وحكم النهي في صلاة الفجر (رد المحتار:346/1) والحق أن هذه التفرقة لدي غير مقبولة، لأنه يلزم عليها العمل ببعض الحديث وترك بعضه. ودليل المصحح المعتمد، وهو قول أبي يوسف، في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال: هو حديث أبي هريرة في مسند الشافعي رحمه الله: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة» (1) .
ثانياً ـ الوقتان الآخران (بعد صلاتي الفجر والعصر) : يكره تحريماً أيضاً التنفل فيهما، ولو بسنة الصبح أو العصر إذا لم يؤدها قبل الفريضة أو بتحية مسجد، أو منذور، وركعتي طواف، وسجدتي سهو، وصلاة جنازة؛ لأن الكراهة كانت لشغل الوقت بصاحب الفريضة الأصلية، فإذا أديت لم تبق كراهة بشغله بفرض آخر أو واجب لعينه، لكن عدم الكراهة في القضاء بما بعد العصر مقيد بما قبل تغير الشمس، أما بعده فلا يجوز فيه القضاء أيضاً، وإن كان قبل أن يصلي العصر.
وقال المالكية (2) :
يحرم النفل لا الفرض في الأوقات الثلاثة، ويجوز قضاء الفرائض الفائتة فيها وفي غيرها، ومن النفل عندهم: صلاة الجنازة، والنفل المنذور، والنفل المفسد، وسجود السهو البعدي، لأن ذلك كله سنة، عملاً بمقتضى النهي السابق الثابت في السنة.
ويكره تنزيهاً النفل في الوقتين الآخرين (بعد طلوع الفجر وبعد أداء العصر) إلى أن ترتفع الشمس بعد طلوعها قدر رمح (3) ، وإلى أن تصلي المغرب، إلا صلاة الجنازة وسجود التلاوة بعد صلاة الصبح قبل إسفار الصبح، وما بعد العصر قبل
__________
(1) لكن سنده ضعيف (سبل السلام:113/1) .
(2) الشرح الصغير:241/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص46، الشرح الكبير:186/1 ومابعدها.
(3) المقصود رمح من رماح العرب،،وقدره اثنا عشر شبر بشبر متوسط.(1/597)
اصفرار الشمس فلا يكره بل يندب، وإلا ركعتي الفجر، فلا يكرهان بعد طلوع الفجر، لأنهما رغيبة كما سيأتي.
ويقطع المتنفل صلاته وجوباً إن أحرم بوقت تحرم فيه الصلاة، وندباً إن أحرم بوقت كراهة، ولا قضاء عليه.
وقال الشافعية (1) :
تكره صلاة النافلة تحريماً على المعتمد في الأوقات الثلاثة، وتنزيهاً (2) في الوقتين الآخرين. ولا تنعقد الصلاة في الحالتين؛ لأن النهي إذا رجع لذات العبادة أو لازمها اقتضى الفساد، سواء أكان للتحريم أم للتنزيه. ويأثم الفاعل في الحالتين أيضاً؛ لأن الكراهة التنزيهية وإن كانت لا تقتضي الإثم عموماً، لكنها في هذه الحالة يأثم بها المصلي، بسبب التلبس بعبادة فاسدة. ويعزر من صلى في الأوقات المنهي عنها.
واستثنى الشافعية حالات لا كراهة فيها وهي ما يأتي:
1ً - يوم الجمعة: لا تكره الصلاة عند الاستواء يوم الجمعة، لاستثنائه في خبر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة» (3) وخبر أبي داود عن أبي قتادة نحوه، ولفظه: «وكره النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة» (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 128/1 ومابعدها، حاشية الباجوري: 196/1 ومابعدها.
(2) الفرق بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه: أن الأولى تقتضي الإثم، والثانية لاتقتضيه.
(3) لكنه ضعيف (سبل السلام:113/1 ومابعدها) .
(4) قال أبو داود: إنه مرسل، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، إلا أنه أيده فعل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم حث على التبكير إليها، ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص ولا استثناء (سبل السلام: 114/1) .(1/598)
والأصح عندهم جواز الصلاة في هذا الوقت، سواء أحضر إلى الجمعة أم لا.
2ً - حرم مكة: الصحيح أنه لا تكره الصلاة في هذه الأوقات في حرم مكة لخبر جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (1) ولما فيه من زيادة فضل الصلاة فلا تكره بحال، لكنها خلاف الأولى خروجاً من الخلاف.
3ً - الصلاة ذات السبب غير المتأخر، كفائتة، وكسوف، وتحية مسجد، وسنة الوضوء وسجدة شكر؛ لأن الفائتة وتحية المسجد وركعتي الوضوء لها سبب متقدم، وأما الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة وركعتا الطواف فلها سبب متقدم، وأما الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة وركعتا الطواف فلها سبب مقارن. والفائتة فرضاً أو نفلاً تقضى في أي وقت بنص الحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» (2) وخبر الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، وقال: هما اللتان بعد الظهر» والكسوف وتحية المسجد ونحوهما معرضان للفوات، وفي الصحيحين عن أبي هريرة «أنه صلّى الله عليه وسلم قال لبلال: حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفَّ نعليك (3) بين يدي في الجنة؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي» .
__________
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان، وأخرجه الشافعي والدارقطني وابن خزيمة والحاكم أيضاً (المصدر السابق) .
(2) متفق عليه.
(3) الدَّف: صوت النعل وحركته على الأرض والمراد: تحريكه كما قال البخاري في صحيحه (386/1 ط البغا) .(1/599)
وفي سجدة الشكر: ورد في الصحيحين أيضاً توبة كعب بن مالك: «أنه سجد سجدة للشكر بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس» .
أما ما له سبب متأخر كركعتي الاستخارة والإحرام: فإنه لا ينعقد، كالصلاة التي لا سبب لها.
وقال الحنابلة (1) :
يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها، لعموم الحديث السابق: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ولحديث أبي قتادة: «ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها» (2) .
ولو طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح أتمها، خلافاً للحنفية، للحديث السابق: «إذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته» .
ويجوز فعل الصلاة المنذورة في وقت النهي، ولو كان نذرها فيه، خلافاً للحنفية؛ لأنها صلاة واجبة، فأشبهت الفريضة الفائتة وصلاة الجنازة.
ويجوز فعل ركعتي الطواف، للحديث السابق عند الشافعية: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» .
وتجوز صلاة الجنازة في الوقتين (بعد الصبح وبعد العصر) وهو رأي جمهور الفقهاء، ولا تجوز صلاة الجنازة في الأوقات الثلاثة (الشروق والغروب والاستواء) إلا أن يخاف عليها فتجوز مطلقاً للضرورة، ودليلهم على المنع قول
__________
(1) المغني:107/2-122، كشاف القناع:528/1-531.
(2) رواه النسائي والترمذي وصححه، وأبو داود (نيل الأوطار:27/2) . عقبة بن عامر السابق: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا» .(1/600)
وتجوز إعادة جماعة في أي وقت من أوقات النهي بشرط أن تقام وهو في المسجد، أو يدخل المسجد وهم يصلون، سواء أكان صلى جماعة أم وحده، لما روى يزيد بن الأسود، قال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فلما قضى صلاته، إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلِّيا معهم، فإنها لكم نافلة» (1) وهذ نص في الفجر، وبقية الأوقات مثله، ولأنه متى لم يعد لحقته تهمة في حق الإمام.
ويحرم التطوع بغير الصلوات المستثناة السابقة في شيء من الأوقات الخمسة، للأحاديث المتقدمة، سواء أكان التطوع مما له سبب كسجود تلاوة وشكر وسنة راتبة كسنة الصبح إذا صلاها بعد صلاة الصبح، أو بعد العصر، وكصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد وسنة الوضوء، أم ليس له سبب كصلاة الاستخارة، لعموم النهي، وإنما ترجح عمومها على أحاديث التحية وغيرها، لأنها حاظرة وتلك مبيحة، والحاظر مقدم على المبيح، وأما الصلاة بعد العصر فمن خصائصه صلّى الله عليه وسلم. لكن تجوز فقط تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل والإمام يخطب، فيركعهما، للحديث السابق «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة» .
ويجوز في الصحيح قضاء السنن الراتبة بعد العصر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعله، فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(1/601)
والصحيح في الركعتين قبل العصر أنها لا تقضى، لما روت عائشة «أن النبيصلّى الله عليه وسلم صلاهما، فقلت له: أتقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» (1) ويجوز قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى خروجاً من الخلاف.
والمشهور في المذهب أنه لا يجوز قضاء السنن في سائر أوقات النهي.
ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي، لعموم النهي.
كما لا فرق في وقت الزوال بين الجمعة وغيرها، ولا بين الشتاء والصيف، لعموم الأحاديث في النهي.
كراهة التنفل في أوقات أخرى:
كره الحنفية والمالكية التنفل في أوقات أخرى هي ما يأتي (2) ، علماً بأن الكراهة تحريمية عند الحنفية في كل ما يذكر هنا:
1 ً - ما بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح:
قال الحنفية: يكره تحريماً التنفل حينئذ بأكثر من سنة الفجر، وقال بعض الشافعية بكراهة التنزيه في هذا الوقت، والمشهور في المذهب خلافه، كما أن الصحيح عند الحنابلة جواز التنفل في هذا الوقت؛ لأن أحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر، وإنما فيه حديث ابن عمر، وهو غريب، فيجوز بناء عليه صلاة الوتر قبل الفجر.
وقال المالكية: يكره تنزيهاً الصلاة تطوعاً بعد الفجر قبل الصبح، ويجوز فيه قضاء الفوائت وركعتا الفجر، والوتر، والوِرْد، أي ما وظفه من الصلاة ليلاً على نفسه.
__________
(1) رواه ابن النجار في الجزء الخامس من حديثه.
(2) الدر المختار:349/1-351، مراقي الفلاح: ص31، فتح القدير:166/1، القوانين الفقهية: ص46، الشرح الكبير: 187/1، الشرح الصغير:242/1 ومابعدها، 511، 513، 531، مغني المحتاج:129/1 ومابعدها، 313، المحلي على المنهاج مع قليوبي وعميرة:119/1، الحضرمية:32 ومابعدها، المغني:116/2-119، 129، 135، 387، كشاف القناع:47/2، 63.(1/602)
ودليل الحنفية والمالكية على الكراهة حديث ابن عمر: «لا صلاة بعد الفجر إلا الركعتين قبل صلاة الفجر» (1) .
2 ً - ما قبل صلاة المغرب:
يكره التنفل عند الحنفية والمالكية قبل صلاة المغرب، للعمومات الواردة في تعجيل المغرب، منها حديث سلمة بن الأكوع: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غَرَبَتْ الشمس وتوارت بالحجاب» (2) وحديث عقبة بن عامر: «لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» (3) والتنفل يؤدي إلى تأخير المغرب، والمبادرة إلى أداء المغرب مستحبة.
وقال الشافعية على المشهور: يستحب صلاة ركعتين قبل المغرب، وهي سنة غير مؤكدة، وقال الحنابلة: إنهما جائزتان وليستا سنة، ودليلهم: ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين» وقال أنس: «كنا نصلي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب» (4) وعن عبد الله بن مُغَفَّل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة» (5) .
قال الشوكاني: والحق أن الأحاديث الواردة بشرعية الركعتين قبل المغرب مخصصة لعموم أدلة استحباب التعجيل.
3 ً - أثناء خطبة الإمام في الجمعة والعيد والحج والنكاح والكسوف والاستسقاء:
__________
(1) رواه الطبراني في معجمه الوسط، لكن تفرد به عبد الله بن خراش، فهو غريب كما قال الترمذي، ورواه الدارقطني بلفظ: «ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين» . وفيه شخص مختلف فيه، ورواه أبو داود والترمذي بلفظ: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» لكنه حديث غريب (نصب الراية:255/1 ومابعدها) .
(2) رواه الجماعة إلا النسائي (نيل الأوطار: 2/2) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم (المصدر السابق: 3/2) .
(4) رواه مسلم وأبو داود (المصدر السابق:6/2)
(5) رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة، لمن شاء» رواه الجماعة (المصدر السابق: ص7) .(1/603)
يكره لدى الحنفية والمالكية التنفل عند خروج الخطيب حتى يفرغ من الصلاة، لحديث أبي هريرة: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت» (1) ، وأضاف المالكية أنه يكره التنفل بعد صلاة الجمعة أيضاً إلى أن ينصرف الناس من المسجد.
وكذلك يكره التنفل تنزيهاً في هذه الحالة عند الشافعية والحنابلة إلا تحية المسجد إن لم يخش فوات تكبيرة الإحرام، ويجب عليه أن يخففهما بأن يقتصر على الواجبات، فإن لم يكن صلى سنة الجمعة القبلية نواها مع التحية إذ لا يجوز له الزيادة على ركعتين، ولا تنعقد صلاة غير التحية عند الشافعية. ودليلهم خبر الصحيحين: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» فهو مخصص لخبر النهي. وروى جابر، قال: «جاء سُلَيك الغطفاني، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب، فقال: ياسليك قم، فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما» (2) أي خفف فيهما.
4 ً - ما قبل العيد وبعده:
يكره التنفل عند الحنفية والمالكية والحنابلة قبل صلاة العيد وبعده، لحديث أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله، صلى ركعتين» (3) وأضاف الحنابلة: لا بأس بالتنفل إذا خرج من المصلى.
والكراهة عند الحنفية والحنابلة سواء للإمام والمأموم، وسواء أكان في المسجد أم المصلى، وأما عند المالكية فالكراهة في حال أدائها في المصلى لا في المسجد.
__________
(1) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (سبل السلام:50/2) .
(2) رواه مسلم. ورواية البخاري: «دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلّى الله عليه وسلم يخطب، فقال: صَلَّيْتَ؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين» (سبل السلام:51/2) .
(3) رواه ابن ماجه بإسناد حسن (سبل السلام:67/2) وأخرجه أيضاً الحاكم وأحمد، روى الترمذي عن ابن عمر نحوه.(1/604)
وقال الشافعية: يكره التنفل للإمام قبل العيد وبعده، لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفته فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها» (1) .
ولا يكره النفل قبل العيد بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام، لانتفاء الأسباب المقتضية للكراهة، كذلك لا يكره النفل بعد العيد إن كان لا يسمع الخطبة، فإن كان يسمع الخطبة كره له.
5 ً - عند إقامة الصلاة المكتوبة:
قال الحنفية: يكره تحريماً التطوع عند إقامة الصلاة المفروضة، لحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» (2) إلا سنة الفجر إن لم يخف فوت جماعة الفرض ولو بإدراك تشهده، فإن خاف تركها أصلاً، فيجوز الإتيان بسنة الفجر عند الإقامة، لشدة تأكدها، والحث عليها، ومواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليها، قال عليه السلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (3) وقالت عائشة: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر» (4) . وروى الطحاوي وغيره عن ابن مسعود: «أنه دخل المسجد، وأقيمت الصلاة، فصلى ركعتي الفجر في المسجد إلى أسطوانة» .
وكذلك يكره التطوع عند ضيق وقت المكتوبة، لتفويته الفرض عن وقته.
وقال الشافعي والجمهور (5) : يكره افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة، سواء أكانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر، أم غيرها كتحية المسجد.
__________
(1) أخرجه السبعة (سبل السلام:66/2) .
(2) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهو صحيح.
(3) رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن عائشة، وهو صحيح (نيل الأوطار:19/3) .
(4) متفق عليه (سبل السلام: 4/2) .
(5) شرح مسلم للنووي: 221/5 ومابعدها، المجموع:273/3،550، المغني:456/1.(1/605)
وقد عنون النووي لهذا البحث بقوله: «باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، سواء السنة الراتبة كسنة الصبح والظهر وغيرها، سواء علم أنه يدرك الركعة مع الإمام أم لا» ودليل الجمهور على كراهة افتتاح النافلة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وفي الرواية الأخرى: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر برجل يصلي، وقد أقيمت صلاة الصبح، فقال: يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً» ومعناه أنه لا يشرع بعد الإقامة للصبح إلا الفريضة (1) ،فإذا صلى ركعتين نافلة بعد الإقامة، ثم صلى معهم الفريضة، صار في معنى «من صلى الصبح أربعاً» لأنه صلى بعد الإقامة أربعاً.
والصحيح في حكمة النهي عن صلاة النافلة بعد الإقامة: أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام مع الإمام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها. وفيه حكمة أخرى هو النهي عن الاختلاف على الأئمة.
إلا أن الإمام مالك قال: إن لم يخف فوات الركعة ركعهما خارج المسجد.
__________
(1) وفي هذا الرد على الحنفية الذين أجازوا الشروع في صلاة ركعتي سنة الصبح بعد الإقامة في المسجد إن لم يكن صلاهما.(1/606)
الفَصْلُ الثَّالث: الأذان والإقامة
أولاً ـ معنى الأذان، ومشروعيته وفضله، حكمه، شروطه، كيفيته، سننه ومكروهاته، إجابة المؤذن، ما يستحب بعد الأذان.
ثانياً ـ صفة الإقامة أو كيفيتها، وأحكامها
أولاً ـ الأذان:
معنى الأذان:
الأذان لغة: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس} [التوبة:9/3] ، أي إعلام {وأذِّن في الناس بالحج} [الحج:22/27] أي أعلمهم.
وشرعاً: قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة (1) . أو هو الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة (2) .
مشروعيته وفضله:
دل القرآن والسنة والإجماع على شرعية الأذان؛ لأن فيه فضلاً كثيراً وأجراً عظيماً.
فمن القرآن: قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة ... } [المائدة:5/58] .
ومن السنة: أحاديث كثيرة، منها خبر الصحيحين: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمّكم أكبركم» (3) ، ودل حديث عبد الله بن زيد على كيفية الأذان المعروف بالرؤيا التي أيده فيها عمر بن الخطاب في حديث طويل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فإنه أندى صوتاً منك» (4) .
وليس مستند الأذان الرؤيا فقط، بل وافقها نزول الوحي، فقد روى البزار: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أُري ليلة الإسراء، وأسمعه مشاهدة فوق سبع سموات، ثم قدّمه جبريل، فأمَّ أهل السماء، وفيهم آدم ونوح عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأكمل له الله الشرف على أهل السموات والأرض، لكنه حديث غريب، والخبر الصحيح أن بدء الأذان كان بالمدينة كما أخرجه مسلم عن ابن عمر (5) . وعلى هذا كانت رؤيا الأذان في السنة الأولى من الهجرة، وأيده النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) مغني المحتاج:133/1.
(2) نيل الأوطار:31/2، اللباب شرح الكتاب:62/1، كشاف القناع:266/1.
(3) من رواية مالك بن الحويرث (نيل الأوطار:32/2) .
(4) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار:35/2 ومابعدها) .
(5) انظر نصب الراية:260/1 ومابعدها.(1/607)
وفي الأذان ثواب كبير، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتهموا عليه، لا ستهموا عليه» (1) وقوله عليه السلام: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة» (2) .
وفي حديث آخر: «المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة» (3) .
واعتبر الأذان مع الإقامة عند الشافعي في الأصح والحنابلة أفضل من الإمامة، لقوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً} [فصلت:33/41] قالت عائشة: هم المؤذنون، وللأخبار السابقة في فضيلته، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين» (4) والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد، ولم يتوله النبي صلّى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه لضيق وقتهم عنه (5) .
وقال الحنفية: الإقامة والإمامة أفضل من الأذان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وخلفاءه تولوا الإمامة، ولم يتولوا الأذان.
حكم الأذان:
الأذان والإقامة عند الجمهور (6) (غير الحنابلة) ومنهم الخرقي الحنبلي: سنة مؤكدة للرجال جماعة في كل مسجد للصلوات الخمس والجمعة، دون غيرها، كالعيد والكسوف والتراويح وصلاة الجنازة، ويقال فيها عند أدائها جماعة: «الصلاة جامعة» لما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو وقال: «لما انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نودي: الصلاة جامعةٌ»
__________
(1) متفق عليه عن أبي هريرة، والنداء: هو الأذان، والصف الأول: يراد به المبادرة إلى الجماعة، والاستهام: الاقتراع.
(2) أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري.
(3) رواه مسلم وأحمد وابن ماجه عن معاوية (نيل الأوطار:33/2) وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً: «من أذن سبع سنين محتسباً، كتبت له براءة من النار» .
(4) رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة عن أبي هريرة (المصدر السابق) وروى الحاكم بإسناد صحيح: «إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله» .
(5) المغني:403/1، كشاف القناع:267/1، مغني المحتاج:138/1.
(6) فتح القدير:167/1،172،178، الدر المختار:356/1، البدائع:146/1 ومابعدها، اللباب:62/1-63، الشرح الصغير:133/1 ومابعدها، المهذب:55/1، بداية المجتهد: 103/1، نهاية المحتاج:300/1، المجموع:82/3، 131.(1/608)
أما الأذان والإقامة، فلأن المقصود منهما الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، والقيام إليها. ولاتسن للنافلة والمنذورة. ودليلهم على السنية الحديث السابق: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، لاستهموا عليه» ولأنه صلّى الله عليه وسلم لم يأمر بهما في حديث الأعرابي، مع ذكر الوضوء والاستقبال وأركان الصلاة. وبناء عليه: لم يأثم أهل بلدة بالاجتماع على ترك الأذان إذا قام به غيرهم ولم يضربوا ولم يحبسوا.
وأضاف الشافعية والمالكية أنه يستحب الإقامة وحدها لا الأذان للمرأة أو جماعة النساء، منعاً من خوف الفتنة برفع المرأة الصوت به. وقال الحنفية: إنه تكره الإقامة كالأذان للنساء؛ لما روي عن أنس وابن عمر من كراهتها لهن، ولأن مبنى حالهن على الستر، ورفع صوتهن حرام.(1/609)
الأذان للفائتة وللمنفرد:
المعتمد عند الشافعي: أنه يستحب أيضاً الأذان والإقامة للمنفرد أيضاً أداء أو قضاء بالرغم من سماع أذان الحي أو المسجد، ويرفع صوته بالأذان إلا إذا كان بمسجد وقعت فيه جماعة، لئلا يتوهم السامعون دخول وقت صلاة أخرى، والأذان للفائتة هو المذهب القديم للشافعي وهو الأظهر كما أبان النووي، لما ورد في فضل الأذان من الأحاديث السابقة، ومنها ما رواه البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صًعْصعة: «أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد لك يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (1) . وإن اجتمع على المصلي فوائت، أو جمَع تقديماً أو تأخيراً أذن للأولى وحدها، لما روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه: «أنه صلّى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين» والمستحب عند الشافعي أن يكون للجمعة أذان واحد بين يدي الإمام عند المنبر؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي صلّى الله عليه وسلم إلا بلال.
__________
(1) رواه أحمد والشافعي ومالك والبخاري والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:45/2) .(1/610)
هذا مذهب الشافعية في الفوائت. وقال الحنفية: يؤذن المصلي للفائتة ويقيم؛ لأنها بمنزلة الحاضرة، فإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام، وكان مخيراً في الباقية بعدها: إن شاء أذن وأقام لكل واحدة، وهو أولى؛ لأن ما سن للصلاة في أذانها، سن في قضائها كسائر المسنونات. وإن شاء اقتصر فيما بعد الأولى على الإقامة؛ لأن الأذان للاستحضار، وهم حضور، والأولى الأذان والإقامة لكل فريضة، بدليل حديث ابن مسعود عند أبي يعلى حينما شغل المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عن الصلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر النبي بلالاً بالأذان والإقامة لكل صلاة (1) .
وقال مالك: إنه يقيم ولا يؤذن، لما روى أبو سعيد قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل، قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالاً، فأمره فأقام الظهر فصلاها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها» ولأن الأذان للإعلام بالوقت، وقد فات. وعلى هذا قال المالكية: يكره الأذان لفائتة، ولصلاة ذات وقت ضروري (أي المجموعة مع غيرها جمع تقديم أو تأخير) ولصلاة جنازة ونافلة كعيد وكسوف.
وقيد المالكية سنية الأذان في كل مسجد ولو تلاصقت المساجد: بجماعة طلبت غيرها، سواء في حضر أو سفر، ولا يسن لمنفرد أو جماعة لم تطلب غيرها، بل يكره لهم إن كانوا في حضر. ويندب لمنفرد أو لجماعة لا تطلب غيرها في أثناء السفر، ولو لمسافة دون مسافة القصر (89 كم) .
__________
(1) مجمع الزوائد: 4/2 ورواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله بن مسعود (نيل الأوطار:60/2) .(1/611)
أما أكثر الحنابلة (1) فقالوا: الأذان والإقامة فرضا كفاية للصلوات الخمس المؤداة والجمعة دون غيرها، للحديث السابق: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» والأمر يقتضي الوجوب على أحدهم، وعن أبي الدرداء مرفوعاً: «ما من ثلاثة لا يؤذنون، ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» (2) ، ولأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانا فرضي كفاية كالجهاد، فإذا قام به البعض، سقط عن الباقين، وبناء عليه يقاتل أهل بلد تركوهما.
ويكره ترك الأذان والإقامة للصلوات الخمس، ولا يعيد المصلي.
ويكفي أذان واحد في المصر، ويكتفي بقية المصلين بالإقامة.
وهو رأي الحنفية والمالكية أيضاً، خلافاً للشافعية كما بينت، ودليلهم أن ابن مسعود وعلقمة والأسود صلوا بغير أذان، قال سفيان: كفتهم إقامة المصر، لكن قال الحنفية: من صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة ليكون الأداء على هيئة الجماعة، وإن تركهما جاز، لقول ابن مسعود: «أذان الحي يكفينا» لكنه غريب كما قال الزيلعي.
ومن فاتته صلوات، أو جمع بين صلاتين في وقت أولاهما: استحب له أن يؤذن للأولى، ثم يقيم لكل صلاة إقامة، وهو موافق لقول الشافعية. ودليلهم على ذلك حديث أبي سعيد المتقدم: «إذا كنت في غنمك..» وحديث أبي قتادة «أنهم كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فناموا حتى طلعت الشمس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فأذن الناس بالصلاة» (3) .
ومن دخل مسجداً قد صلي فيه، فإن شاء أذن وأقام، لما روى الأثرم وسعيد ابن منصور عن أنس: «أنه دخل مسجداً قد صلوا فيه، فأمر رجلاً فأذن وأقام، فصلى بهم في جماعة» وإن شاء صلى من غير أذان ولا إقامة.
__________
(1) كشاف القناع: 268/1،278، المغني:417/1-422، غاية المنتهى: 87/1.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد (نيل الأوطار:31/2) .
(3) متفق عليه، ورواه عمران بن حصين أيضاً، قال: «فأمر بلالاً، فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام، فصلينا» متفق عليه.(1/612)
وليس على النساء أذان ولا إقامة، خلافاً للشافعية والمالكية في الإقامة، لما روى النجاد بإسناده عن أسماء بنت بريد، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة» .
والخلاصة: أنه يؤذن للفائتة عند الجمهور، ويكره ذلك عند المالكية، ويسن الأذان للرجال دون النساء، بالاتفاق، وتسن الإقامة للمرأة سراً عند الشافعية والمالكية، وتكره عند الحنفية، ولا تشرع عند الحنابلة. ويكفي عند الجمهور أذان الحي، ولا يكفي عند الشافعية.
شروط الأذان:
يشترط في الأذان والإقامة ما يأتي (1) :
1ً - دخول الوقت: فلا يصح الأذان ويحرم باتفاق الفقهاء قبل دخول وقت الصلاة، فإن فعل أعاد في الوقت؛ لأن الأذان للإعلام، وهو قبل دخول الوقت تجهيل. ولذا يحرم الأذان قبل الوقت لما فيه من التلبيس والكذب بالإعلام بدخول الوقت، كما يحرم تكرير الأذان عند الشافعية، وليس منه أذان المؤذنين المعروف في كل مسجد.
__________
(1) الدر المختار:362/1-365، البدائع:149/1 - 151، فتح القدير:170/1،176 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص32، اللباب:64/1، الشرح الصغير: 251/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص47 ومابعدها، بداية المجتهد:104/1 ومابعدها، مغني المحتاج:137/1-139، الحضرمية: ص34، المهذب:55/1، 57، المغني: 409/1، 411، 413-415، 424 ومابعدها، كشاف القناع:271/1-279، غاية المنتهى:87/1، الشرح الكبير مع الدسوقي:194/1 ومابعدها، 198، المهذب: 57/1 ومابعدها، تحفة الطلاب: ص54، المجموع:136/3.(1/613)
لكن أجاز الجمهور غير الحنفية، وأبو يوسف: الأذان للصبح بعد نصف الليل، ويندب بالسَّحَر وهو سدس الليل الأخير، ثم يعاد استناناً عند طلوع الفجرالصادق (1) ، لخبر الصحيحين عن عبد الله بن عمرو: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم» زاد البخاري: «وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال: أصبحت أصبحت» لكن ينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يؤذن في وقت واحد في الليالي كلها، منعاً للالتباس على الناس. ويشترط في المرتب (الموظف) للأذان علمه بالمواقيت، أما غير الموظف فلا يشترط علمه بالمواقيت، فمن أذن لنفسه أو لجماعة مرة، أو كان أعمى، صح أذانه إذا علم من غيره دخول الوقت.
2ً - أن يكون باللغة العربية، فلا يصح بغيرها إن أذن لجماعة، فإن أذن غير العربي لنفسه وهو لا يحسن العربية، جاز عند الشافعية، ولم يجز مطلقاً عند الحنابلة والحنفية لوروده بلسان عربي كالقرآن.
3ً - يشترط في الأذان والإقامة إسماع بعض الجماعة، وإسماع نفسه إن كان منفرداً.
__________
(1) ما سوى التأذين قبل الفجر ويوم الجمعة من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك في المآذن أو غيرها، فليس بمسنون، وما أحد من العلماء قال: إنه يستحب، بل هو من جملة البدع المكروهة، لأنه لم يكن في عهده صلّى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه، وليس له أصل (كشاف القناع:281/1، غاية المنتهى:91/1) .(1/614)
4ً - الترتيب والموالاة بين ألفاظ الأذان والإقامة: اتباعاً للسنة كما روى مسلم وغيره، ولأن ترك الموالاة بين كلمات الأذان يخل بالإعلام، فلا يصح الأذان إلا مرتباً، كما لا يصح بغير المتوالي ويعاد غير المرتب وغير المتوالي، ولا يضر فاصل يسير بنوم أو إغماء أو سكوت أو كلام، ويبطل بالردة عند الفقهاء، فإن ارتد بعد انتهاء الأذان لم يبطل. وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة. وقال الحنفية والمالكية: يسن ترتيب كلمات الأذان والإقامة، والموالاة بينها، ويصح بغير الترتيب والموالاة، مع الكراهة، والأفضل أن يعيد الأذان والإقامة.
ويرى بعض الحنابلة أن الأذان يبطل بالكلام المحرم ولو يسيراً كالسب ونحوه، وفي وجه آخر لا يبطل كالكلام المباح.
5ً - كونه من شخص واحد: فلو أذن مؤذن ببعضه، ثم أتمه غيره لم يصح، كما لايصح إذا تناوبه اثنان بحيث يأتي كل واحد بجملة غير التي يأتي بها الآخر؛ لأن الأذان عبادة بدنية، فلا يصح من شخصين يبني أحدهما على الآخر.
أما اجتماع جماعة على الأذان، بحيث يأتي كل واحد بأذان كامل، فهو صحيح. وأضاف المالكية: أنه يكره اجتماع مؤذنين بحيث يبني بعضهم على ما يقول الآخر. ويكره تعدد الأذان لصلاة واحدة.
ويلاحظ أن أول من أحدث أذانين اثنين معاً هم بنو أمية، والأذان الجماعي غير مكروه كما حقق ابن عابدين.
6ً - أن يكون المؤذن مسلماً عاقلاً (مميزاً) ، رجلاً، فلا يصح أذان الكافر، والمجنون والصبي غير المميز والمغمى عليه والسكران؛ لأنهم ليسوا أهلاً للعبادة، ولا يصح أذان المرأة؛ لحرمة أذانها ولأنه لا يشرع لها الأذان، فلا تصح إمامتها للرجال، ولأنه يفتتن بصوتها؛ ولا يصح أذان الخنثى، لأنه لا يعلم كونه رجلاً.(1/615)
وهذا شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة. ويقرب منهم مذهب الحنفية، لأنهم قالوا: يكره تحريماً أذان هؤلاء الذين لم تتوافر فيهم هذه الشروط، ويستحب إعادته. وعلى هذا: يسن عند الحنفية: أن يكون المؤذن رجلاً عاقلاً تقياً عالماً بالسنة وبأوقات الصلاة. ولا يشترط عند الجمهور (غير المالكية) البلوغ والعدالة، فيصح أذان الصبي المميز، والفاسق، لكن يستحب أن يكون المؤذن بالغاً أميناً، لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة والصيام، فلا يؤمن أن يغرهم أذانه إذا لم يكن كذلك.
وقال الحنفية: يكره أذان الفاسق ويستحب إعادته.
وقال المالكية: يشترط العدالة والبلوغ في المؤذن، فلا يصح أذان الفاسق، والصبي المميز إلا إذا اعتمد في دخول الوقت على بالغ.
واشتراطهم العدالة لحديث ابن عباس: «ليؤذن لكم خياركم، ويؤمكم قراؤكم» (1) .
ولا يشترط النية عند الحنفية، والشافعية في الأصح، لكن يشترط الصرف (أي عدم قصد غير الأذان) فلو قصد به تعليم غيره، لم يعتد به.
وتشترط النية عند الفقهاء الآخرين، فإن أتى بالألفاظ المخصوصة بدون قصد الأذان لم يصح.
ولا يشترط في الأذان والإقامة عند جمهور الفقهاء: الطهارة، واستقبال القبلة، والقيام، وعدم الكلام في أثنائه، وإنما يندب ذلك، ويكره الأذان عند الجمهور للمحدث، وللجنب أشد كراهة، والإقامة أغلظ، والكراهة تحريمية عند الحنفية بالنسبة للجنب، ويعاد أذانه عندهم وعند الحنابلة، ولا يكره عند الحنفية أذان المحدث على المذهب.
------------------------------
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والطبراني في معجمه (نصب الراية:279/1)(1/616)
ودليل ندب الطهارة حديث: «لا يؤذن إلا متوضئ» (1) . ويكره الأذان قاعداً، مستدبراً القبلة، كما يكره الكلام فيه.
ويسن عند المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة أن يتولى الإقامة من تولى الأذان، اتباعاً للسنة (2) ، فإن أقام غير المؤذن جاز؛ لأن بلالاً أذن، وعبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في المنام أقام، بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم (3) . وبناء على هذه الشروط: يبطل الأذان والإقامة بردة وسكر وإغماء ونوم طويل وجنون وترك كلمة منهما، ووجود فاصل طويل من سكوت أو كلام. والمذهب عند الشافعية أنه إن ارتد في الأذان، ثم رجع إلى الإسلام في الحال، فله أن يبني على أذانه السابق.
كيفية الأذان أو صيغته:
اتفق الفقهاء على الصيغة الأصلية للأذان المعروف الوارد بكيفية متواترة من غير زيادة ولا نقصان وهو مثنى مثنى، كما اتفقوا على التثويب، أي الزيادة في أذان الفجر بعد الفلاح وهي (الصلاة خير من النوم) مرتين، عملاً بما ثبت في السنة عن بلال (4) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لأبي محذورة ـ فيما رواه أحمد وأبو داود ـ «فإذا كان أذان الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين»
واختلفوا في الترجيع: وهو أن يأتي بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً، فأثبته المالكية والشافعية، وأنكره الحنفية والحنابلة، لكن قال الحنابل: لو أتى بالترجيع لم يكره.
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة (نصب الراية:292/1) وهو ضعيف (سبل السلام:129/1) .
(2) روى الترمذي عن زياد بن الحارث الصُدائي (إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم» لكنه ضعيف وأخرج الأثرم أن أبا محذورة أذن ثم أقام (سبل السلام:129/1، المغني:416/1) .
(3) رواه أحمد وأبو داود، لكن قال الحاكم: هذا في متنه ضعف (سبل السلام:129/1، نيل الأوطار:57/2، المغني:415/1-416) .
(4) رواه الطبراني وغيره (نصب الراية:264/1) .(1/617)
قال الحنفية والحنابلة على المختار (1) : الأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه، كما جاء في خبرعبد الله بن زيد (2) السبق، وهي: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» .
وذلك ـ كما جاء في البدائع ومراقي الفلاح ـ بجزم الراء في التكبير، وتسكين كلمات الأذان، والإقامة كما قال المالكية. وجاء في الدر المختار: بفتح راء «أكبر» (3) كما قال الشافعية، أي أنه يجمع كل تكبيرتين بنَفَس ويفتح الراء في الأولى في قوله (الله أكبر الله أكبر) ويسكِّن في الثانية. وقال بعض الشافعية: يسن الوقف على أواخر الكلمات في الأذان؛ لأنه روي موقوفاً.
وقال المالكية والشافعية (4) : إن كلمات الأذان مشهورة، وعدتها بالترجيع تسع عشرة كلمة، عملاً بالأذان المسنون وهو أذان أبي محذورة (5) ، وفيه الترجيع: أي أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين.
معاني كلمات الأذان:
معنى ألفاظ الأذان: هو أن قوله (الله أكبر) أي من كل شي، أو أكبر من أن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو هو بمعنى كبير.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب:62/1 ومابعدها، البدائع:147/1، فتح القدير:167/1 ومابعدها، الدر المختار:358/1 ومابعدها، المغني: 404/1 كشاف القناع:273/1.
(2) وهو حديث أذان الملك النازل من السماء، رواه أبو داود في سننه (نصب الراية:259/1) .
(3) الأصل إسكان الراء فحركت فتحة الألف من اسم الله تعالى في اللفظة الثانية لسكون الراء قبلها ففتحت.
(4) الشرح الصغير:248/1-250، القوانين الفقهية: ص47، مغني المحتاج:135/1 ومابعدها، المهذب:55/1 ومابعدها، المجموع: 97/3.
(5) رواه الجماعة عن أبي محذورة، وفي بعض ألفاظه: علمه الأذان تسع عشرة كلمة، وذكرها بتربيع الشهادتين كتربيع التكبير (نصب الراية:263/1، نيل الأوطار:43/2) .(1/618)
وقوله: (أشهد) أي أعلم. وقوله (حي على الصلاة) أي أقبلوا إليها، أو أسرعوا. والفلاح: الفوز والبقاء؛ لأن المصلي يدخل الجنة إن شاء الله، فيبقى فيها ويخلَّد. والدعوة إلى الفلاح معناها: هلموا إلى سبب ذلك. وختم بـ (لا إله إلا الله) ليختم بالتوحيد وباسم الله تعالى، كما ابتدأ به (1) .
سنن الأذان:
يسن في الأذان ما يأتي (2) :
1ً - أن يكون المؤذن صيِّتاً (عالي الصوت) ، حسن الصوت، يرفع صوته بالأذان، على مكان مرتفع وبقرب المسجد، لقوله صلّى الله عليه وسلم في خبر عبد الله بن زيد المتقدم: «ألقه على بلال، فإنه أندى منك صوتاً» أي أبعد، ولزيادة الإبلاغ، وليرقّ قلب السامع، ويميل إلى الإجابة، ولأن الداعي ينبغي أن يكون حلو المقال، وروى الدارمي وابن خزيمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر عشرين رجلاً، فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة، فعلّمه الأذان.
__________
(1) كشاف القناع: 273/1.
(2) البدائع:149/1-152، الدر المختار: 359/1-361، فتح القدير:170/1-176، اللباب:63/1، مراقي الفلاح: ص32، الشرح الصغير:252/1 ومابعدها، الشرح الكبير:195/1-198، القوانين الفقهية: ص47 ومابعدها، مغني المحتاج:138/1، المهذب:57/1،59، المغني:407/1، 412، 415، 422، 426،429، كشاف القناع:270/1-282، المجموع:105/3-117،126، 129ومابعدها، الحضرمية: ص35.(1/619)
أما رفع الصوت: فليكون أبلغ في إعلامه، وأعظم لثوابه، كما ذكر حديث أبي سعيد: «إذا كنت في غنمك..» ولما رواه الخمسة إلا الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المؤذن يغفر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» ، ولكن لا يجهد نفسه في رفع صوته زيادة على طاقته، لئلا يضر بنفسه، وينقطع صوته. ويسن رفع الصوت بالأذان لمنفرد فوق ما يسمع نفسه، ولمن يؤذن لجماعة فوق ما يسمع واحداً منهم، ويخفض صوته في مصلى أقيمت فيه جماعة.
وكونه على مرتفع، ليكون أيضاً أبلغ لتأدية صوته، روى أبو داود عن عروة ابن الزبير عن امرأته من بني النجار، قالت: «كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحَر (وهو السدس الأخير من الليل) ، فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا صلى رآه تمطى، ثم قال: اللهم إني أستعينك وأستعديك على قريش: أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن» (1) وكونه بقرب المسجد؛ لأنه دعاء إلى الجماعة وهي فيه أفضل (2)
2ً - أن يؤذن قائماً على حائط أو منارة للإسماع: قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن السنة أن يؤذن قائماً. وجاء في حديث أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لبلال: «قم فأذن» (3) ، وكان مؤذنو رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤذنون قياماً. فإن كان له عذر كمرض، أذن قاعداً. كذلك يسن أن يقيم قائماً.
__________
(1) نصب الراية: 292/1.
(2) وقال ابن سعد بالسند إلى أم زيد بن ثابت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ماأذن، إلى أن بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسجده، فكان يؤذن بعد، على ظهر المسجد، وقد رفع له شيء فوق ظهره.
وأول من رقى منارة مصر للأذان: شرحبيل بن عامر المرادي. وبنى سلمة المناير للأذان بأمر معاوية، ولم تكن قبل ذلك (رد المحتار:360/1) .
(3) متفق عليه وانظر نصب الراية:292/1.(1/620)
3ً - أن يكون المؤذن حراً بالغاً أميناً صالحاً عالماً بأوقات الصلاة، لحديث ابن عباس السابق: «ليؤذن لكم خياركم ويؤمكم قراؤكم» . وهذا سنة عند الجمهور غير المالكية، أما المالكية فيشترطون العدالة، كما أن الشافعية يشترطون في موظف الأذان العلم بالوقت.
4ً - أن يكون متوضئاً طاهراً، للحديث السابق: «لا يؤذن إلا متوضئ، وفي حديث ابن عباس: «إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر» (1) .
5ً - أن يكون المؤذن بصيراً؛ لأن الأعمى لا يعرف الوقت، فربما غلط، فإن أذن الأعمى صح أذانه، فإن ابن مكتوم كان يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلم، قال ابن عمرو فيما روى البخاري: «كان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت» وقال المالكية: يجوز أذان الأعمى إن كان تبعاً لغيره أو قلد ثقة في دخول الوقت.
6ً - أن يجعل أصبعيه في أذنيه، لأنه أرفع للصوت، ولما روى أبو حنيفة «أن بلالاً أذن، ووضع إصبعيه في أذنيه» (2) ، وعن سعد مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: إنه أرفع لصوتك» (3) .
7ً - أن يترسَّل (يتمهل أو يتأنى) في الأذان بسكتة بين كل كلمتين، ويحدُر (يسرع) في الإقامة، بأن يجمع بين كل كلمتين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: «إذا أذنت فترسَّل، وإذا أقمت فاحدر» (4) ، ولأن الأذان لإعلام الغائبين بدخول الوقت، والإعلام بالترسل أبلغ، أما الإقامة فلإعلام الحاضرين بالشروع في الصلاة، ويتحقق المقصود بالحدر.
8ً - أن يستقبل القبلة في الأذان والإقامة: لأن مؤذني النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة ولأن فيه مناجاة فيتوجهه بها إلى القبلة.
__________
(1) سبل السلام:129/1.
(2) متفق عليه.
(3) أخرجه ابن ماجه والحاكم والطبراني وابن عدي (نصب الراية:278/1) .
(4) أخرجه الترمذي، وإسناده مجهول (نصب الراية:275/1) .(1/621)
ويستحب في الحيعلتين (حي على الصلاة، حي على الفلاح) : أن يدير أو يحول وجهه يميناً في الأولى، وشمالاً في الثانية، من غير أن يحول قدميه؛ لأن فيه مناداة فيتوجه به إلى من على يمينه وشماله، ولما روى أبو جحيفة قال: «رأيت بلالاً يؤذن، فجعلت أتَتبَّع فاه ههنا وههنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأصبعاه في أذنيه» (1) وفي لفظ قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أَدَم (جلد) فخرج بلال، فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، التفت يميناً وشمالاً، ولم يستدر» (2) ويصح عند الشافعية الإدارة في المنارة واستدبار القبلة إن احتيج إليه، وعند الحنابلة في ذلك روايتان عن أحمد: إحداهما ـ لا يدور للخبر السابق في استقبال القبلة، والثانية ـ يدور في مجالها، لأنه لا يحصل الإعلام بدونه. والرواية الثانية هي الصواب.
ويستحب بعد انتهاء الأذان: أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر ما يحضر المصلون، مع مراعاة الوقت المستحب، وفي المغرب بقدر قراءة ثلاث آيات قصار. ودليل هذا الاستحباب قوله عليه السلام: «يا بلال، اجعل بين أذانك وإقامتك نَفَساً يفرغ الآكل من طعامه في مهل، ويقضي حاجته في مهل» (3) .
ولأن الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن، وقعد قعدة أي لانتظار الجماعة، حتى يتحقق المقصود من النداء.
وقال الحنفية: يستحب بعد الأذان في الأصح أن يثوِّب في جميع الأوقات، كأن يقول: الصلاة الصلاة يامصلين، لظهور التواني في الأمور الدينية.
__________
(1) أصله متفق عليه في الصحيحين، ورواه أيضاً أحمد والترمذي وصححه (سبل السلام:122/1، نيل الأوطار:46/2) .
(2) رواه أبو داود (المرجعان السابقان) .
(3) رواه أحمد بإسناده عن أبي بن كعب، وروى أبو داود والترمذي عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» .(1/622)
وقال الشافعية: يسن أن يقول المؤذن بعد الأذان أو الحيعلتين في الليلة الممطرة أو ذات الريح أو الظلمة: (ألا صلوا في الرحال) .
9ً - أن يؤذن محتسباً، ولا يأخذ على الأذان والإقامة أجراً باتفاق العلماء.
ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك عند الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب؛ لأنه استئجار على الطاعة، وقربة لفاعله، والإنسان في تحصيل الطاعة عامل لنفسه، فلا تجوز الإجار ة عليه كالإمامة غيرها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» (1) .
وأجاز المالكية والشافعية في الأصح الاستئجار على الأذان؛ لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الأجر عليه كسائر الأعمال. وأفتى متأخرو الحنفية وغيرهم ـ كما سيأتي في بحث الإجارة ـ بجواز أخذ الأجرة على القربات الدينية، ضماناً لتحصيلها بسبب انقطاع المكافآت المخصصة لأهل العلم من بيت المال.
كما أن الحنابلة قالوا: إن لم يوجد متطوع بالأذان والإقامة، أعطي من يقوم بهما من مال الفيء المعد للمصالح العامة.
10ً - يستحب عند الجمهور غير الحنفية أن يكون للجماعة مؤذنان، لا أكثر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان له مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم» (2) ، ويجوز الاقتصار على مؤذن واحد للمسجد، والأفضل أن يكون مؤذنان لهذا الحديث، فإن احتاج إلى الزيادة عليهما، جاز إلى أربعة؛ لأنه كان لعثمان رضي الله عنه أربعة مؤذنين، ويجوز إلى أكثر من أربعة بقدر الحاجة والمصلحة عند الحنابلة والشافعية.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن.
(2) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.(1/623)
وإذا تعدد المؤذنون فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد؛ كما فعل بلال وابن أم مكتوم، كان أحدهما يؤذن بعد الآخر، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام.
ويصح في حالة تعدد المؤذنين: إما أن يؤذن كل واحد في منارة، أو ناحية، أو يؤذنوا دفعة واحدة في موضع واحد.
11ً - يستحب أن يؤذن المؤذن في أول الوقت ليعلم الناس، فيستعدوا للصلاة، وروى جابر بن سمرة قال: «كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» (1) وفي رواية قال: «كان بلال يؤذن إذا مالت الشمس لا يؤخر، ثم لا يقيم، حتى يخرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام حين يراه» (2) .
12ً - يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة، لما روت عائشة رضي الله عنهما أن بلالاً جاء، فقال: السلام عليك يا رسول الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما كان يسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
13ً - يستحب ألا يقوم الإنسان قبل فراغ المؤذن من أذانه، بل يصبر قليلاً إلى أن يفرغ أو يقارب الفراغ؛ لأن في التحرك عند سماع الأذان تشبهاً بالشيطان.
__________
(1) رواه ابن ماجه.
(2) رواه أحمد في المسند.(1/624)
مكروهات الأذان:
للأذان مكروهات هي ما يأتي (1) :
1ً - يكره الأذان إذا لم تتوافر السنن السابقة، وقد عدد الحنفية أحوال الكراهة إذا لم تتحقق السنن، فقالوا:
يكره تحريماً أذان جنب وإقامته، ويعاد أذانه، وإقامة المحدث على المذهب، وأذان مجنون ومعتوه وصبي لا يعقل، وامرأة وخنثى، وفاسق، وسكران، وقاعد إلا إذا أذن لنفسه، وراكب إلا المسافر.
2ً - يكره التلحين وهو التطريب أو التغني أو التمديد الذي يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان، أو الزيادة والنقص فيها، أما تحسين الصوت بدون التلحين فهو مطلوب. ويصح أذان ملحَّن على الراجح عند الحنابلة، لحصول المقصود منه كغير الملحن. ويكره أيضاً اللحن أو الخطأ في النحو أو الإعراب.
3ً - يكره المشي فيه؛ لأنه قد يخل بالإعلام، والكلام في أثنائه، حتى ولو بردّ السلام، ويكره السلام على المؤذن (2) ويجب عليه أن يرد عليه بعد فراغه من الأذان. ولا يبطله الكلام اليسير، ويبطله الكلام الطويل، لأنه يقطع الموالاة المشروطة في الأذان عند الجمهور غير الحنفية. وأشار الحنابلة: أنه يجوز رد السلام في أثناء الأذان والإقامة.
4ً - يكره التثويب في غير الفجر، سواء ثوب في الأذان أو بعده، لما روي عن بلال أنه قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» (3) ، ولأن التثويب مناسب لصلاة الفجر حيث يكون الناس نياماً، فاحتيج إلى قيامهم إلى الصلاة عن نوم.
5ً - قال الحنابلة: يحرم ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، لعمل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، قال أبو الشعثاء: «كنا قعوداً مع أبي هريرة في المسجد، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم (4) ، وقال عثمان بن عفان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج، لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق» (5) .
__________
(1) فتح القدير:176/1، الدر المختار:264/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص32، القوانين الفقهية: ص48، الشرح الصغير: 248/1، الشرح الكبير: 194/1،196، 198، مغني المحتاج:138/1، المهذب:57/1 ومابعدها، المغني:408/1،411، 414، 424،428، 430، كشاف القناع:276/1، 279،281،283.
(2) قال المالكية: ويكره السلام أيضاً على ملب في حج أو عمرة، وقاضي حاجة، ومجامع، وأهل بدع، ومشتغل بلهو وأهل المعاصي، وشابة، فإن كان أهل المعصية في حال المعصية أو شابة يخشى فتنتها حرم السلام، ولا يكره على مصل ومتطهر وآكل وقارئ قرآن (الشرح الكبير: 198/1) .
(3) رواه ابن ماجه.
(4) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) رواه ابن ماجه.(1/625)
أما الخروج لعذر فمباح، بدليل أن ابن عمر خرج من أجل التثويب في غير حينه.
وقال الشافعية: يكره الخروج من المسجد بعد الأذان من غير صلاة إلا لعذر.
6ً - قال الحنابلة: يكره الأذان قبل الفجر في شهر رمضان مقتصراً عليه، لئلا يغتر الناس به، فيتركوا السحور. ويحتمل ألا يكره في حق من عرف عادته بالأذان في الليل؛ لأن بلالاً كان يفعل ذلك، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وقوله عليه السلام: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، فإنه يؤذن بليل لينبه نائمكم، ويرجع قائمكم» . ويكره عندهم القول قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ولا بأس بنحنحة قبلها، كما يكره عندهم النداء بالصلاة بعد الأذان في الأسواق وغيرها، مثل أن يقول: الصلاة، أو الإقامة، أو الصلاة رحمكم الله. وقال النووي: تسن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم قبل الإقامة.
إجابة المؤذن والمقيم:
يجب في الراجح عند الحنفية لمن سمع الأذان وندباً لمن سمع الإقامة، ويسن عند غيرهم لمن سمع المؤذن أو المقيم: أن يقول مثلما يقول مثنى مثنى عقب كل جملة، إلا في الحيعلتين، فيحوقل فيقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى ذلك: أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته، كما قال ابن مسعود.
وإلا في التثويب، فيقول: (صدقتَ وبررت) فالإجابة إنما هي باللسان وهو الظاهر عند الحنفية (1) .
__________
(1) البدائع:155/1، فتح القدير:173/1، الدر المختار:367/1 ومابعدها، الشرح الصغير:253/1، الشرح الكبير:196/1، القوانين الفقهية: ص48، المجموع:124/3، مغني المحتاج:140/1 ومابعدها، المهذب:58/1، كشاف القناع:284/1 ومابعدها، المغني:426/1-428.(1/626)
وقال بعض الحنفية: بالقدم أي بالمشي إلى الصلاة، وهو مشكل لأنه يلزم عليه وجوب الأداء في أول الوقت في المسجد.
واكتفى المالكية بأن يقول السامع لمنتهى الشهادتين، ولو كان في صلاة نفل، ويكره ولا يحاكي المؤذن في بقية الأذان (على الراجح المشهور المعتمد) ، ولا في قوله (الصلاة خير من النوم) قطعاً، ولا في قوله (صدقت وبررت) أي صرت ذا بر أي خير كثير، إلا في الإقامة، فيقول بعدها: (أقامها الله وأدامها) .
والدليل على الإجابة: ما روى أبو سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (1) لكن قال المالكية: المتبادر من قوله «سمعتم» : ولو البعض، خصوصاً وقد قال: فقولوا مثل ما يقول، ولم يقل: مثل ما قال. وهذا في تقديري تعسف واضح في التأويل، والظاهر كما قال بعض المالكية: أن يحكي الأذان كله. والأمر في الحديث عند الحنفية للوجوب وعند غيرهم للندب كالأمر بالدعاء عقب الصلاة.
وروى مسلم عن عمر في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (2) وروى ابن خزيمة: عن أنس رضي الله عنه قال: «من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم» (3) .وأخرج أبو داود عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم «أن بلالاً أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت
__________
(1) متفق عليه رواه الجماعة عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، وابنه، وأم حبيبة. وروى مسلم وأبو داود عن عمر كيفية الإجابة (نيل الأوطار:51/3،53) .
(2) سبل السلام:126/1.
(3) المصدر السابق:120/1.(1/627)
الصلاة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها» (1) وفي التثويب ورد خبر أيضاً كما قال ابن الرفعة، ولكن لا يعرف من قاله.
ويستحب لمن كان يقرأ ولو قرآناً أن يقطع القراءة، ليقول مثلما يقول المؤذن أو المقيم، لأنه يفوت، والقراءة لا تفوت، لكن إن سمعه في الصلاة، لم يقل مثل قوله، لئلا يشتغل عن الصلاة بما ليس منها، وقد روي «إن في الصلاة لشغلاً» وعلى هذا ينبغي عند الحنفية ألا يتكلم ولا يشتغل بشيء حال الأذان أو الإقامة.
وتشمل الإجابة عند الجمهور كل سامع، ولو كان جنباً أو حائضاً أو نفساء، أو كان في طواف فرضاً أو نفلاً، ويجيب بعد الجماع والخلاء والصلاة ما لم يطل الفصل بينه وبين الأذان.
وقال الحنفية: تشمل الإجابة من سمع الأذان ولو كان جنباً، لا حائضاً ونفساء وسامع خطبة وفي صلاة جنازة، وجماع، ومستراح في بيت الخلاء، وأكل، وتعليم علم وتعلمه، لكن في أثناء قراءة القرآن يجيب لأنه لا يفوت، وتكرار القراءة للأجر.
ويندب عند الحنفية القيام عند سماع الأذان، والأفضل أن يقف الماشي للإجابة ليكون في مكان واحد.
ويجيب المؤذن سواء سمع الآذان كله أم بعضه. فإن لم يسمعه لبعد أو صمم لا تسن له الإجابة.
__________
(1) المصدر السابق:127/1 وفي خبر آخر عند أبي داود بسند ضعيف يقول: «أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض» ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أيضاً أنه يقول: «اللهم أقمها وأدمها واجعلني من صالح أهلها» .(1/628)
وينبغي تدارك إجابة المؤذن إن لم يطل الفصل، وإن طال فلا (1) .
وإذا تكرر الأذان أجاب ـ كما ذكر في الدر المختار ـ الأول، سواء أكان مؤذن مسجده أم غيره، لكن قال ابن عابدين: ويظهر لي إجابة الكل بالقول، لتعدد السبب وهو السماع، كما اعتمده بعض الشافعية. وقال النووي في المجموع: وإذا سمع مؤذناً بعد مؤذن، فالمختار أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع، إلا أن الأول متأكد يكره تركه (2) .
قال الشافعية والحنابلة: وإذا دخل المسجد، والمؤذن قد شرع في الأذان، لم يأت بتحية ولا بغيرها، بل يجيب المؤذن واقفاً حتى يفرغ من أذانه ليجمع بين أجر الإجابة والتحية.
وقال الحنفية: إذا دخل المسجد، والمؤذن يؤذن أو يقيم، قعد حتى ينتهي الأذان أو الإقامة، ويقوم الإمام إلى مصلاه.
ما يستحب بعد الأذان:
يستحب بعد الأذان وبعد الإقامة ما يأتي (3) :
1 - أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك عند الشافعية والحنابلة مسنون بعد الفراغ من الأذان لكل من المؤذن والسامع، للحديث الآتي. وقد استحدث الصلاة على النبي بعد الأذان في أيام صلاح الدين الأيوبي سنة (781 هـ) في عشاء ليلة الاثنين، ثم يوم الجمعة، ثم بعد عشر سنين حدث في الكل إلا المغرب، ثم فيها مرتين، قال الفقهاء: وهو بدعة حسنة.
__________
(1) رد المحتار:368/1، مغني المحتاج:140/1.
(2) رد المحتار:369/1، مغني المحتاج:140/1.
(3) فتح القدير:74/1 ومابعدها، الدر المختار:362/1، مراقي الفلاح: ص33، القوانين الفقهية: ص48، مغني المحتاج:141/1، المهذب:58/1، المغني:427/1، كشاف القناع:286/1.(1/629)
2 - أن يدعو بالدعاء المأثور: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلَّت عليه الشفاعة» (1) .
وعن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولاً، غفر له ذنبه» (2) .
وعن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (3) .
وإذا كان الأذان للمغرب قال: «اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك،
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن ابن عمرو مرفوعاً. ومعنى الحديث: اللهم أصله: يا الله، حذف منه (يا) وعوض عنه الميم ولهذا لا يجمع بينهما. الدعوة التامة: دعوة التوحيد؛ لأنه لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم القيامة، أو هي دعوة الأذان والإقامة، سميت تامة لكمالها وعظمةموقعها وسلامتها من نقص يتطرق إليها. الصلاة القائمة: التي ستقوم، وتفعل بصفاتها. والوسيلة: القرب من الله تعالى، وقيل: هي منزلة في الجنة، كما ثبت في صحيح مسلم، والمتعين هذا المعنى لتفسيرها بنص الحديث. والفضيلة: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق. والمقام المحمود: الشفاعة العظمى في يوم القيامة، لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون، لقوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا ً} [الإسراء:79/17] . والحكمة في سؤال ذلك مع كونه واجب الوقوع بوعد الله تعالى: إظهاركرامته، وعظم منزلته (نيل الأوطار: 2 /55) .
(2) رواه مسلم.
(3) رواه الجماعة إلا مسلماً (نيل الأوطار:54/2 ومابعدها) .(1/630)
وأصوات دعاتك، وحضور صلواتك، فاغفر لي» ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول ذلك (1) ويقول بعد الصبح: (اللهم هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك وأصوات دعاتك فاغفر لي) .
3 - يدعو عند فراغ الأذان بينه وبين الإقامة، وسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (2) .
والمستحب أن يقعد المؤذن بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة، كما أبنت في سنن الأذان.
ثانياً ـ الإقامة:
صفة الإقامة أو كيفيتها:
الإقامة سنة مؤكدة في الفرائض الوقتية والفائتة، على المنفرد والجماعة، للرجال والنساء عند المالكية والشافعية. أما الحنابلة والحنفية فقالوا: ليس على النساء أذان وإقامة.
واختلف العلماء في صفة الإقامة على آراء ثلاثة (3) :
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي، وانظر المهذب:59/1.
(2) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والضياء في المختارة، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (نيل الأوطار:55/2، سبل السلام:130/1) .
(3) البدائع:148/1، الدر المختار:360/1، اللباب:63/1، فتح القدير:169/1، الشرح الصغير:256/1، القوانين الفقهية: ص48، بداية المجتهد:107/1، مغني المحتاج:133/1،136، المهذب:54/1،57، المغني:406/1، كشاف القناع:267/1.(1/631)
فقال الحنفية: الإقامة مثنى مثنى مع تربيع التكبير مثل الأذان، إلا أنه يزيد
فيها بعد الفلاح: (قد قامت الصلاة مرتين) فتكون كلماتها عندهم سبع عشرة كلمة، بدليل ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم أن عبد الله ابن زيد الأنصاري جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، رأيت في المنام، كأن رجلاً قام وعليه بُردان أخضران، فقام على حائط، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى» (1) .
وروى الترمذي عن عبد الله بن زيد، قال: «كان أذان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة» (2) .
وعن أبي محذورة قال: «علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة» (3) .
وقال المالكية: الإقامة عشر كلمات، تقول: «قد قامت الصلاة» مرة واحدة، لما روى أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» (4) .
وقال الشافعية والحنابلة: الإقامة فرادى، إحدى عشرة كلمة، إلا لفظ الإقامة: «قد قامت الصلاة» فإنها تكرر مرتين، لما روى عبد الله بن عمر أنه قال: «إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة» (5) . ويظهر لي أن هذا أصح الآراء، أو أن الأمر على التخيير بين هذا الرأ ي ورأي الحنفية. وأما حديث أنس فمقيد بحديث ابن عمر.
__________
(1) رجاله رجال الصحيح، وهو متصل لأن الصحابة عدول، وجهالة أسمائهم لاتضر، ورواه البيهقي. وروي مثله عند أبي داود وغيره (نصب الراية:266/1-267) .
(2) نصب الراية:267/1. أما الأذان فهو عندهم15 كلمة.
(3) أخرجه الخمسة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح (المصدر السابق، نيل الأوطار:43/2) وكون الأذان (19) أي بالترجيع، والإقامة (17) أي بلفظ الإقامة.
(4) رواه الجماعة عن أنس (نيل الأوطار:40/2) .
(5) رواه أحمد والنسائي وأبو داود، والشافعي وأبو عوانة والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (نيل الأوطار:43/2) .(1/632)
أحكام الإقامة:
أحكام الإقامة كأحكام الأذان السابقة، ويزاد عليها ما يأتي (1) :
1ً - يسن إدراج الإقامة أو حدرها: أي الإسراع بها مع بيان حروفها، فيجمع بين كل كلمتين منها بصوت، والكلمة الأخيرة بصوت، عملاً بالحديث السابق عن جابر: «إذا أذَّنت فترسّل ـ أي تمهل ـ وإذا أقمت فاحدُر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرُغ الآكل من أكله» .
2ً - الأفضل في المذاهب الأربعة أن يتولى الإقامة من أذَّن، اتباعاً للسنة: (من أذن فهو يقيم) ، كما تقدم في شروط الأذان، فإذا أذن واحد وأقام غيره جاز.
لكن قال الحنفية: يكره أن يقيم غير من أذن إن تأذى بذلك؛ لأن اكتساب أذى المسلم مكروه، ولا يكره إن كان لا يتأذى به.
3ً - يستحب عند الحنابلة أن يقيم في موضع أذانه؛ لأن الإقامة شرعت للإعلام، فشرعت في موضعه، ليكون أبلغ في الإعلام، إلا أن يؤذن في المنارة أو مكان بعيد من المسجد، فيقيم في غير موضعه، لئلا يفوته بعض الصلاة.
وقال الشافعية: يستحب أن تكون الإقامة في غير موضع الأذان، وبصوت أخفض من الأذان.
__________
(1) الدر المختار:361/1،371، فتح القدير:170/1، البدائع:151/1، بداية المجتهد:145/1، الشرح الصغير:255/1 ومابعدها، المهذب:59/1، مغني المحتاج:136/1،138 ومابعدها، المغني:415/1-417،458 ومابعدها، كشاف القناع:275/1 ومابعدها،279،281.(1/633)
ولا يقيم حتى يأذن له الإمام، فإن بلالاً كان يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: «فجعلت أقول للنبي صلّى الله عليه وسلم أقيم أقيم؟» وقال صلّى الله عليه وسلم: «المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة» (1) .
4ً - لا يقوم المصلون للصلاة عند الإقامة حتى يقوم الإمام أو يقبل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» (2) .
وأما تعيين وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة: فقال المالكية: يجوز للمصلي القيام حال الإقامة أو أولها أو بعدها، فلا يطلب له تعيين حال، بل بقدر الطاقة للناس، فمنهم الثقيل والخفيف. وقال الحنفية: يقوم عند «حي على الفلاح» وبعد قيام الإمام.
وقال الحنابلة: يستحب أن يقوم عند قول المؤذن (قد قامت الصلاة) لما روي عن أنس «أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة» .
وقال الشافعية: يستحب أن يقوم المصلي بعد انتهاء الإقامة إذا كان الإمام مع المصلين في المسجد (3) ، وكان يقدر على القيام بسرعة، بحيث يدرك فضيلة تكبيرة الإحرام، وإلا قام قبل ذلك بحيث يدركها.
5ً - يسن كما في الأذان أن يقيم قائماً متطهراً، مستقبل القبلة، ولا يمشي في أثناء إقامته، ولا يتكلم، ويشترط ألا يفصل بين الإقامة والصلاة بفاصل طويل،
__________
(1) رواه ابن عدي وهو الحافظ الكبير أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، ويعرف بابن القصار، صاحب كتاب الكامل في الجرح والتعديل (279-365هـ) (سبل السلام:130/1) .
(2) متفق عليه.
(3) سبل السلام:131/1، الحضرمية: ص74، المجموع:237/3، المغني: 458/1، الدر المختار:447/1.(1/634)
وينبغي إن طال الفصل أو وجد ما يعد قاطعاً كأكل أن تعاد الإقامة. ويسن أن يحرم الإمام عقب فراغ الإقامة، ولا يفصل إلا بمندوب كأمر الإمام بتسوية الصفوف. ولا تجزئ إقامة المرأة للرجال. ويسن عند الشافعية لمن كان أهلاً أن يجمع بين الأذان والإقامة. وكذلك قال الحنفية: الأفضل كون الإمام هو المؤذن، لأنه عليه السلام ـ كما في الضياء ـ أذن في سفر بنفسه وأقام وصلى الظهر.
ولا يسن في الإقامة كونها في مكان مرتفع، ولا وضع الأصبع في الأذن، ولا الترجيع فيها والترتيل.
6ً- إذا أذن المؤذن وأقام، لم يستحب لسائر الناس أن يؤذن كل منهم أو يقيم، وإنما يقول مثل ما يقول المؤذن،؛ لأن السنة وردت بهذا.
7ً - يستحب للإمام تسوية الصفوف، يلتفت عن يمينه وشماله، فيقول: استووا رحمكم الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» (1) .
ملحق ـ الأذان لغير الصلاة.
هذا ويندب الأذان لأمور غير الصلاة:
منها الأذان في أذُن المولود اليمنى عند ولادته، كما تندب الإقامة في اليسرى لأنه صلّى الله عليه وسلم ْذَّن في أذ ُن الحسن حين ولدته فاطمة (2) .
ومنها الأذان وقت الحريق ووقت الحرب، وخلف المسافر.
ومنها الأذان في أذن المهموم المصروع وللغضبان ولمن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة، وإذا تغولت الغيلان (3) أي سحرة الجن والشياطين، وذلك لدفع شرها بالأذان، فإن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر.
ولا يسن عند إدخال الميت القبر على المعتمد عند الشافعية.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
(3) أي تلونت في صور.(1/635)
الفَصْلُ الرَّابع: شروطُ الصَّلاة
تتوقف صحة الصلاة على توافر شروط وأركان معينة لها.
أما الشرط في اللغة: فهو العلامة، وفي الشريعة: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان خارجاً عن حقيقته أو ماهيته.
وأما الركن في اللغة: فهو الجانب الأقوى، وفي الاصطلاح: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءاً ذاتياً تتركب منه الحقيقة أو الماهية. ويطلق على كل من الشرط والركن وصف الفرضية، فكل منهما فرض، لذا عنون بعض الفقهاء لهذا البحث بفروض الصلاة.
والشرطان نوعان: شروط تكليف أو وجوب، وشروط صحة أو أداء، وشروط الوجوب: هي ما يتوقف عليها وجوب الصلاة كالبلوغ عاقلاً، وشروط الصحة: هي ما يتوقف عليها صحة الصلاة كالطهارة.
شروط وجوب الصلاة:
تجب الصلاة على كل مسلم بالغ عاقل، لا مانع عنده كالحيض والنفاس، فتكون شروط وجوب الصلاة ثلاثة (1) :
1 ً - الإسلام: تجب الصلاة على كل مسلم ذكر أو أنثى، فلا تجب على كافر عند الجمهور وجوب مطالبة بها في الدنيا، لعدم صحتها منه، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها باعتناق الإسلام؛ لأن الكافر عند الجمهور مخاطب بفروع الشريعة أو الإسلام في حال كفره.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص28، القوانين الفقهية: ص44، الشرح الصغير:231/1، 233،260-265، الشرح الكبير:201/1، مغني المحتاج:130/1-132، المهذب:53/1 ومابعدها، المغني:396/1-401،615، كشاف القناع:306/1،364، المحرر في الفقه الحنبلي:29/1-33.(1/636)
ولا تجب عند الحنفية على الكافر، بناء على مبدئهم في أن الكافر غير مطالب بفروع الشريعة، لا في حكم الدنيا ولا في حكم الآخرة.
ولا قضاء بالاتفاق على الكافر إذا أسلم، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفَر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الإسلام يجبُّ ما قبله» (1) أي يقطعه، والمراد أنه يذهب أثر المعاصي التي قارفها حال كفره. أما المرتد فيلزمه عند غير الحنفية قضاء الصلاة بعد إسلامه تغليظاً عليه، ولأنه التزمها بالإسلام، فلا تسقط عنه بالجحود كحقوق الآدميين المالية. ولا قضاء عليه عند الحنفية كالكافر الأصلي.
وأما الطاعات وأفعال الخير التي يفعلها الكافر: فلا تنفعه في الآخرة إن مات كافراً لقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثوراً} [الفرقان:23/25] .
وأما في الدنيا فتنفعه في سعة رزقه ومعيشته.
وإن أسلم يثاب عليها ولا يجُبُّها (يقطعها) الإسلام، لحديث حكيم بن حزام عند مسلم وغيره: أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير» وقال عليه السلام: «إذا أسلم العبد، فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كل سيئة كان زَلِفها ـ أي قدمها ـ وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، والسيئة
__________
(1) رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن العاص. وأخرج مسلم في صحيحه معناه من حديث عمرو أيضاً بلفظ: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» (نيل الأوطار:299/1) .(1/637)
بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها» (1) .
وقال النووي: الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم الإجماع فيه أن الكافر إذا فعل أفعالاً جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام، أن ثواب ذلك يكتب له (2) .
2 ً - البلوغ: لا تجب الصلاة على الصبي، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم» (3) .
ولكن يؤمر الصغير ذكراً أو أنثى بالصلاة، تعويداً له، إذا بلغ سبع سنين أي صار مميزاً، ويضرب ـ باليد لا بخشبة بما لا يزيد عن ثلاث ضربات إن أفاد وإلا فلا ـ على تركها لعشر سنين زجراً له، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» (4) أي بحيث لا يشملهم ساتر واحد مع التجرد، فإن استقل كل منهم بساتر فلا يمنع والتفريق لعشر أمر مندوب، ويحرم تلاصق البالغين بعورتيهما بقصد اللذة، ويكره من غير لذة كتلاصقهم بالصدر.
__________
(1) رواه البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري.
(2) نيل الأوطار: (300/1) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر، وهو صحيح. ورواه أحمد وأبو داود والحاكم والنسائي وابن ماجه أيضاً عن عائشة بلفظ: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر» (نيل الأوطار:298/1 ومابعدها) .
(4) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح (نيل الأوطار:298/1) . والأمر موجه للولي لا للصغير، لقوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه:132/20] ، {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ... } [التحريم:6/66] .(1/638)
3 ً - العقل: فلا تجب الصلاة عند الجمهور غير الحنابلة على المجنون والمعتوه ونحوهما كالمغمى عليه إلا إذا أفاقوا في بقية الوقت؛ لأن العقل مناط التكليف، كما ثبت في الحديث السابق: «عن المجنون حتى يبرأ» لكن يسن لهم القضاء عند الشافعية. وقال الحنابلة: يجب القضاء على من تغطى عقله بمرض أو إغماء أو دواء مباح، لأن ذلك لا يسقط الصوم، فكذا الصلاة.
ولا تطلب الصلاة ولا تقضى من حائض ونفساء، ولو طرّحت نفسها بضرب أو دواء ونحوها.
ويجب القضاء على السكران، لتعديه بالسكر.
ويجب القضاء على نائم ويجب إعلامه إذا ضاق الوقت، ودليل القضاء حديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» (1) وهذا دليل على وجوب قضاء الصلوات المفروضة المتروكة عمداً أو سهواً، مهما طال الزمان.
قال النووي في المجموع: ويسن إيقاظ النائم للصلاة ولا سيما إذا ضاق وقتها، ففي سنن أبي داود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج يوماً إلى الصلاة، فلم يمر بنائم إلا أيقظه» وكذا إذا رآه أمام المصلين، أو كان نائماً في الصف الأول، أو محراب المسجد، أو كان نائماً على سطح لا حجاز له، لورود النهي عنه، أو كان نائماً
بعضه في الشمس وبعضه في الظل، أو كان نائماً بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، أو كان نائماً قبل صلاة العشاء، أو بعد صلاة العصر، أو نام خالياً وحده، أو كانت المرأة نائمة مستلقية ووجهها إلى السماء، أو نام الرجل منبطحاً فإنها ضجعة يبغضها الله، ويستحب أن يوقظ غيره لصلاة الليل، وللتسحر، والنائم بعرفات، وقت الوقوف؛ لأنه وقت طلب وتضرّع. قال الإسنوي: وهذا بخلاف ما لو رأى شخصاً يتوضأ بماء نجس، فإنه يلزمه إعلامه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.(1/639)
زوال الأعذار أو الموانع في أثناء وقت الصلاة:
إذا زالت هذه الأسباب المانعة من وجوب الصلاة، فبلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض أوالنفساء، أو أسلم الكافر، وبقي من الوقت عند الحنابلة والشافعية في الأظهر قدر تكبيرة الإحرام، فأكثر، وجب قضاء الصلاة. كما يجب عند جمهور الفقهاء غير الحنفية قضاء الصلاة الأخرى التي يمكن جمعها مع الصلاة التي زال المانع في وقتها.
فإن زال المانع بمقدار تكبيرة الإحرام عند الشافعية والحنابلة في آخر وقت العصر، وجب قضاء الظهر أيضاً، وإن زال المانع في آخر وقت العشاء، وجب قضاء المغرب أيضاً؛ لاتحاد وقتي الظهر والعصر، ووقتي المغرب والعشاء في العذر، ففي الضرورة أولى. وذلك بشرط أن يخلو الشخص من الموانع قدر الطهارة، والصلاتين أخف ما يجزئ، كركعتين في صلاة المسافر.
أما المالكية فقالوا: إن أدرك قدر خمس ركعات في الحضر، وثلاث في السفر من وقت الثانية وجبت الأولى أيضاً؛ لأن قدر الركعة الأولى من الخمس وقت للصلاة الأولى في حال العذر، فوجبت بإدراكه، كما لو أدرك ذلك من وقتها المختار، بخلاف ما لو أدرك دون ذلك. وإن أدرك قدر ركعة فقط، وجبت الأخيرة وسقطت الأولى.
وإن بقي من الوقت ما يسع أقل من ركعة، سقطت الصلاتان.
وقال الحنفية: لا تجب إلا الصلاة التي زال المانع في وقتها وحدها؛ لأن وقت الأولى خرج في حال العذر، فلم تجب، كما لو لم يدرك من وقت الثانية شيئاً. وهذا في تقديري هو المعقول؛ لأن الصلاة تجب بوقت معين، فإذا فات الوقت، سقط الوجوب.(1/640)
حدوث الأعذار في وقت الصلاة بعد مضي قدر ما يسعها:
وهذا يتصور في الجنون والإغماء والحيض والنفاس، ولا يتصور في الكفر والصبا، فلو جن البالغ أو أغمي عليه، أو حاضت المرأة أو نُفست في أول الوقت أو أثناءه بحيث يمكنه أداء الصلاة، وجب عليه عند الجمهور غير الحنفية قضاء تلك الصلاة، إن مضى قدر الفرض مع الطهر، ولا تجب الصلاة الثانية التي تجمع معها؛ لأن وقت الأولى لا يصلح للثانية إلا إذا صلاهما جمعاً، بخلاف العكس.
ودليل الجمهور على وجوب قضاء الصلاة صاحبة الوقت؛ أن أول أجزاء الوقت هو سبب الإيجاب، أي علامة توجه الخطاب الشرعي، فمتى ابتدأ صار المكلف مطالباً بالفعل، مخيراً في جميع أجزاء الوقت، إذا كان أهلاً للتكليف أول الوقت، لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78/17] فقد جعل الدلوك علامة على توجه الخطاب إلى المكلف، ولما بينت السنة أوائل الأوقات وأواخرها وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «الوقت ما بين هذين» كما سبق، دل ذلك على التوسع على المكلف. ومتى وجب الواجب في الذمة استقر ولم يسقط. وهذا الرأي هو الأصح لدي. وقال الحنفية (1) : لاتجب صلاة ذلك الوقت على أصحاب الأعذار هؤلاء؛ لأن سبب إيجاب الصلاة: هو الجزء الذي يتصل به الأداء من الوقت، فإن لم يؤد تعين الجزء الأخير الذي يسع الواجب للسببية، وبعد خروج الوقت تضاف السببية إلى جملة الوقت.
شروط صحة الصلاة:
يشترط لصحة الصلاة: الإسلام والتمييز والعقل، كما يشترط ذلك لوجوب الصلاة، فتصح الصلاة من المميز، لكن لا تجب عليه، وهناك أحد عشر شرطاً أخرى متفق عليها بين الفقهاء: وهي دخول الوقت، والطهارة عن الحدثين، والطهارة عن النجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، والنية، والترتيب في أداء الصلاة، وموالاة فعلها، وترك الكلام إلا بما هو من جنسها أو من مصالحها، وترك الفعل الكثير من غير جنس الصلاة، وترك الأكل والشرب (2) .
__________
(1) هذا الخلاف بين الرأيين أمر أصولي معروف يرجع إليه في كتب الأصول في بحث الواجب الموسع.
(2) مراقي الفلاح: ص 33، 39، 53، فتح القدير:179/1-191، البدائع:114/1-146/1، تبيين الحقائق:95/1-103، الدر المختار:372/1-410، اللباب:64/1-68، 86، القوانين الفقهية: ص50-57، بداية المجتهد:105/1-114، الشرح الصغير:265/1-302، مغني المحتاج:142/1-150، 184-199، المهذب:59/1-69، الحضرمية: ص49-55، المغني:431/1-453، 577-508، 6/2، كشاف القناع:287/1-374، المحرر في الفقه الحنبلي:29/1، حاشية الباجوري:141/1-149.(1/641)
الشرط الأول - معرفة دخول الوقت:
لا تصح الصلاة بدون معرفة الوقت يقيناً أو ظناً بالاجتهاد، فمن صلى بدونها لم تصح صلاته، وإن وقعت في الوقت، لتكون عبادته بنية جازمة، لاشك فيها، فمن شك لم تصح صلاته؛ لأن الشك ليس بجازم. والدليل: هو قوله تعالى:
{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء:103/4] ، أي فرضاً مؤقتاً محدوداً بوقت. وقد سبق بحث مواقيت الصلاة، والاجتهاد في الوقت.
الشرط الثاني ـ الطهارة عن الحدثين (1) :
الأصغر والأكبر (الجنابة والحيض والنفاس) ، بالوضوء والغسل، أو التيمم. لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} ... إلى قوله سبحانه: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايقبل الله صلاة بغير طهور» (2) «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (3) .
والطهارة عن الحدث شرط في كل صلاة، مفروضة أو نافلة، كاملة أو ناقصة كسجدة التلاوة، وسجدة الشكر.
فإذا صلى بغير طهارة، لم تنعقد صلاته.
__________
(1) الحدث لغة: الشيء الحادث، وشرعاً: ما نعية شرعية تقوم بالأعضاء إلى غاية وصول المزيل لها.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عمر.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة، وهو صحيح.(1/642)
وإذا تعمد الحدث بطلت الصلاة بالإجماع، إلا في آخر الصلاة فلا تبطل عند الحنفية، وإن سبقه الحدث بطلت صلاته حالاً عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته» (1) . وقال الحنفية: لا تبطل في الحال وإنما تبطل بمكثه قدر أداء ركن بعد سبق الحدث مستيقظاً بلا عذر. فإن وجد عذر كرعاف مثلاً بنى على صلاته إن شاء (أي أكملها من بعد وقت العذر) بعد استكمال الطهارة، وإن شاء استأنف الصلاة، أي ابتدأها من جديد، ويخرج من الصلاة واضعاً يده على أنفه تستراً.
وقال المالكية كالحنفية: يجوز البناء على الصلاة في حالة الرعاف بشروط ستة بعد أن يخرج من الصلاة ممسكاً أنفه من أعلاه وهو مارنه، لا من أسفله من الوترة لئلا يبقى الدم في طاقتي أنفه، وهذه الشروط هي:
الأول: إن لم يتلطخ بالدم بما يزيد على درهم، وإلا قطع الصلاة.
الثاني: ولم يجاوز أقرب مكان ممكن، لغسل الدم فيه، فإن تجاوزه بطلت الصلاة.
الثالث: أن يكون المكان الذي يغسل فيه قريباً، فإن كان بعيداً بعداً فاحشاً بطلت.
الرابع: ألا يستدبر القبلة بلا عذر، فإن استدبرها لغير عذر بطلت.
الخامس: ألا يطأ في طريقه نجساً، وإلا بطلت.
السادس: ألا يتكلم في مضيه للغسل، فإن تكلم ولو سهواً بطلت.
__________
(1) رواه الخمسة وصححه ابن حبان عن علي بن طلق (سبل السلام:131/1) .(1/643)
الشرط الثالث ـ الطهارة عن الخبث: أي النجاسة الحقيقية.
يشترط لصحة الصلاة الطهارة عن النجس الذي لا يعفى عنه في الثوب والبدن والمكان حتى موضع القدمين واليدين والركبتين، والجبهة على الأصح عند الحنفية، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/74] ، قال ابن سيرين: هو الغسل بالماء، ولخبر الصحيحين السابق: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» ولحديث الأعرابي المتقدم الذي بال في المسجد: «أريقوا على بوله ذ َنوباً ـ دلواً ـ من ماء» فالآية دلت على وجوب طهارة الثوب، والحديث الأول دل على وجوب طهارة البدن، والحديث الثاني دل على وجوب طهارة المكان. ومشهور مذهب المالكية: أن الطهارة من النجس سنة مؤكدة. والذي اعتبره شرطاً كالشيخ خليل وشراحه جرى على القول بأنها فرض مع الذكر والقدرة.
مسائل متفرعة على طهارة الثوب والبدن والمكان:
أولاً ـ طهارة الثوب والبدن:
أـ لو وقعت ثياب المصلي كالعباءة على أرض نجسة عند السجود: لا يضر ذلك عند الحنفية؛ لأن المفسد للصلاة عندهم أن يكون النجس في موضع قيامه أو جبهته أوفي موضع يديه أو ركبتيه.
وتفسد الصلاة عند الشافعية والحنابلة، فلا تصح صلاة ملاقٍ بعضُ لباسه أو بدنه نجاسة؛ لأن ثوب المصلي تابع له، وهو كعضو سجوده (1) .
ب - جهل النجاسة: لو صلى حاملاً نجاسة غير معفو عنها، ولا يعلمها: تبطل صلاته في المذاهب الثلاثة (غير المالكية) وعليه قضاؤها، لأن الطهارة مطلوبة في الواقع، ولو مع جهله بوجود النَّجِس أو بكونه مبطلاً، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/74] والمشهور عند المالكية: أن الطهارة من الخبث أو إزالة النجاسة واجبة في حال الذكر والقدرة، فمن صلى بها ذاكراً قادراً، أعاد، ويسقط الوجوب بالعجز والنسيان، فلا يعيد إن صلى ناسياً أو عاجزاً (2) .
جـ ـ الثوب المتنجس أو المكان النجس: إن لم يجد المصلي غير ثوب عليه نجاسة غير معفو عنها ولم يتيسر غسل النجاسة، أو وجد الماء ولم يجد من يغسلها
__________
(1) رد المحتار:374/1-585، مغني المحتاج:190/1، الشرح الكبير لابن قدامة:475/1.
(2) فتح القدير:179/1، الدر المختار:373/1، مغني المحتاج: 188/1، الشرح الصغير:64/1،293، كشاف القناع:22/1، المغني:109/1، المهذب:59/1 ومابعدها، المجموع:163/1.(1/644)
وهو عاجز عن غسلها، أو وجده ولم يرض إلا بأجرة ولم يجدها، أو وجدها ولم يرض إلا بأكثر من أجرة المثل، أو حبس على نجاسة، واحتاج إلى فرش السترة عليها، لم يجز لبس الثوب النجس عند الشافعية لأنه سترة نجسة، وجاز لبسه عند الحنفية والمالكية والحنابلة، والصلاة به، وصلى عند المالكية قائماً عُرْياناً إن لم يجد ثوباً يستر به عورته، لأن ستر العورة مطلوب عند توفر القدرة على سترها، والمعتمد الإعادة في الوقت إن وجد ثوباً طاهراً، إن صلى بنجس أو بحرير أو بذهب ولو خاتماً، أو صلى عرياناً.
ويصلي في حال فقد الساتر جالساً، يومئ إيماءً عند الحنابلة والحنفية، عملاً بفعل ابن عمر، روى الخلال بإسناده عن ابن عمر في قوم انكسرت مراكبهم، فخرجوا عراة، قال: «يصلون جلوساً، يومئون إيماءً برؤوسهم» وروى عبد الرزاق عن ابن عباس، قال: «الذي يصلي في السفينة، والذي يصلي عرياناً، يصلي جالساً» . أما في حالة وجود الساتر النجس فيصلي فيه، ولا يعيد، ولا يصلي عرياناً؛ لأن الستر آكد من إزالة النجاسة، فكان أولى، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «غطِّ فخذك» وهذا عام، ولأن السترة متفق على اشتراطها، والطهارة من النجاسة مختلف فيها، فكان المتفق عليه أولى.
ويصلي عند الشافعية عرياناً متماً الأركان، ولا إعادة عليه على المذهب عندهم، لأن الصلاة مع العري يسقط بها الفرض. لكن لو كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها، ولم يجد ما يغسل به، صلى وأعاد كفاقد الطهورين؛ لأن الصلاة مع النجاسة لا يسقط بها الفرض.
وفصل الحنفية (1) في الأمر فقالوا:
__________
(1) تبيين الحقائق:98/1.(1/645)
إن كان ربع الثوب فأكثر طاهراً، صلى فيه حتماً، ولم يصل عرياناً؛ لأن الربع كالكل، يقوم مقامه في مواضع منها كشف العورة (1) ، ويتحتم عليه تقليل النجاسة بقدر الإمكان، ويلبس أقل ثوبيه نجاسة.
وإن كان أقل من ربعه طاهراً، ندب صلاته فيه بالقيام والركوع والسجود، وجاز أن يصلي عارياً بالإيماء، والصلاة في ثوب نجس الكل أحب من الصلاة عرياناً. وهذا رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف (2) . وإذا لم يجد المسافر ما يزيل به النجاسة أو يقللها، صلى معها، أو عارياً، ولا إعادة عليه، والقاعدة عندهم: أن فاقد ما يزيل به النجاسة يصلي معها، ولا إعادة عليه، ولا على فاقد ما يستر عورته. والصلاة عُرْياناً: أن يمد رجليه إلى القبلة لكونه أستر، ويومئ إيماء بالركوع والسجود وهو أفضل من الصلاة قائماً؛ لأن الستر آكد.
د ـ جهالة محل النجاسة في الثوب: إذا وجد ثوب متنجس، ولكن خفي عليه موضع النجاسة:
يكفي عند الحنفية غسل طرف من الثوب، ولو من غير تحر، ويطهر. ويغسل الثوب كله أو البدن كله عند الشافعية إن كان الخفاء في جميعه، وكذلك يغسل كله على الصحيح إن ظن طرفاً، لأن الثوب والبدن واحد. ولو اشتبه عليه طاهر ونجس من ثوبين أو بيتين، اجتهد فيهما للصلاة (3) .
هـ ـ طرف الثوب على نجاسة: لو كان على المصلي ثوب أو غيره وطرفه واقع على نجاسة كطرف عمامته الطويلة أو كمه الطويل المتصل بنجاسة:
__________
(1) أقام الشرع الربع مقام الكل في كثير من المواضع، كما في حلق المحرم ربع رأسه، ومسح ربع الرأس في الوضوء، وكشف العورة، إذ الموضع موضع احتياط.
(2) الدر المختار:183/1 ومابعدها، البدائع:117/1، الشرح الصغير:283/1 ومابعدها، مغني المحتاج:186/1، حاشية الباجوري:144/1، المهذب:60/1-61، المغني:587/1،592،594، فتح القدير:184/1، اللباب:66/1، مراقي الفلاح: ص38.
(3) المهذب: 61/1، مغني المحتاج:189/1.(1/646)
لم تصح صلاته عند الشافعية كالمسألة الأولى، وإن لم يتحرك الطرف الذي يلاقي النجاسة بحركته أثناء قيامه وقعوده أو ركوعه وسجوده؛ لأن اجتناب النجاسة في الصلاة شرع للتعظيم، وهذا ينافيه هنا. وذلك بخلاف ما لو سجد على متصل بالنجاسة حيث تصح الصلاة إن لم يتحرك بحركته؛ لأن المطلوب في السجود كونه مستقراً على غيره، لحديث «مكّن جبهتك» فإذا سجد على متصل بنجس لم يتحرك بحركته، حصل المقصود، وعلى هذا لا يضر في صحة الصلاة نجس يحاذي صدر المصلي في الركوع والسجود وغيرهما على الصحيح، لعدم ملاقاته له.
وقال الحنفية: تصح صلاته إن لم يتحرك الطرف النجس بحركته، فإن تحرك لم تصح؛ لأن الشرط عندهم طهارة ثوب المصلي وما يتحرك بحركته، أو يعد حاملاً له، كما سيأتي. وذلك بخلاف ما لم يتصل كبساط طرفه نجس، وموضع الوقوف والجبهة طاهر، فلا يمنع صحة الصلاة (1) .
وـ إمساك حبل مربوط بنجس: إذا أمسك المصلي حبلاً مربوطاً بنجس، كالحبل الذي يمسك به كلب بقلادة في عنقه، أو دابة أو مركب صغير يحملان نجساً:
لم تصح صلاته عند الشافعية في الأصح؛ لأن الكلب سواء أكان صغيراً أم كبيراً نجس العين عندهم، ويصبح المصلي في هذه الحالة حاملاً نجساً، لأنه إذا مشى انجر معه. بخلاف السفينة الكبيرة التي لا تنجر بجره، فإنها كالدار، تصح الصلاة بحبل متصل بها.
وتصح صلاته عند الحنفية كالحالة السابقة في حالة إمساك الكلب بناء على الراجح عندهم أنه ليس بنجس العين، بل هو طاهر الظاهر، كغيره من الحيوانات سوى الخنزير، فلا ينجس إلا بالموت. وذلك إذا لم يسل من الكلب ما يمنع الصلاة (2) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:373/1، مغني المحتاج:190/1، المهذب: 61/1، مراقي الفلاح: ص38.لكن لو جعل طرف الحبل تحت رجله، صحت صلاته في جميع الصور عند الشافعية.
(2) الدر المختار رد المحتار: 374/1، مغني المحتاج، والمهذب: المكان السابق، المجموع:155/3 ومابعدها.(1/647)
ز ـ حمل بيضة صار مُحُّها (2) دماً: لو صلى المصلي حاملاً بيضة مَذِرة (فاسدة) صار محها دماً، جاز عند الحنفية، كمسألة الكلب، لأن الدم في معدن البيض، والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم النجاسة، بخلاف ما لو حمل قارورة فيها بول، فلا تجوز صلاته؛ لأنه في غير معدنه.
ولا تصح صلاته في الحالتين عند الشافعية في أصح الوجهين في البيضة، وفي الصحيح في القارورة؛ لأنه يكون حاملاً نجاسة (2)
ح ـ حمل صبي صغير في الصلاة: لو حمل المصلي صبياً صغيراً عليه نجس: تبطل صلاته عند الحنفية إن لم يستمسك بنفسه؛ لأنه يعد حاملاً للنجاسة، ويشترط عندهم طهارة ما يعد حاملاً له أي باستثناء ما يكون في الجوف كمسألة الكلب والبيضة السابقة. وتصح صلاته إن كان الصغير يستمسك بنفسه؛ لأنه لا يعد حاملاً للنجاسة.
وقال الشافعية كالحنفية وغيرهم اتفاقاً لا خلاف فيه: لا يضر حمل الصبي الذي لا تظهر عليه نجاسة، فلو حمل حيواناً طاهراً في صلاته، صحت صلاته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته (3) ، ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدن النجاسة هو كالنجاسة التي في جوف المصلي (4) .
ط ـ وصل العظم بنجس: قال الشافعية: لو وصل عظمه المنكسر بنجس لفقد الطاهر، فهو معذور تصح صلاته معه للضرورة (5) .
ثانياً ـ طهارة المكان:
تشترط طهارة مكان المصلي مباشرة، فإن لم تباشره النجاسة جازت الصلاة كما في الصور الآتية:
__________
(1) المح: خالص كل شيء. والمراد هنا صفرة البيض أو كل ما في البيض.
(2) رد المحتار، المكان السابق، المهذب: المكان السابق، المجموع:157/3.
(3) حديث أمامة رواه البخاري ومسلم.
(4) رد المحتار، المهذب، المكان السابق، المجموع:156/3.
(5) مغني المحتاج: 190/1.(1/648)
أـ الصلاة على بساط عليه نجاسة: إذا صلى على بساط عليه نجاسة: فإن صلى على الموضع النجس، فلا تصح صلاته بالاتفاق؛ لأنه ملاق للنجاسة، ووضع العضو على النجاسة بمنزلة حملها. وإن صلى على موضع طاهر، صحت صلاته اتفاقاً أيضاً، ولو كان البساط صغيراً في الأصح عند الحنفية؛ لأنه غير ملاق للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بالنجاسة (1) .
ب ـ الصلاة على موضع نجس بحائل: إن فرش على الأرض النجسة شيئاً وصلى عليه، جاز بالاتفاق إن صلح الفرش ساتراً للعورة؛ لأنه غير مباشر للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بها. فإن لامس النجاسة من ثقوب الفرش، بطلت صلاته (2) ، وأضاف الحنفية: أنه تجوز الصلاة على لِبْد (فرش سميك) وجهه الأعلى طاهر، والأسفل نجس، وعلى ثوب طاهر وبطانته نجسة إذا كان غير مخيط بها، لأنه كثوبين فوق بعضهما.
جـ ـ النجاسة في بيت أو صحراء: إذا كانت النجاسة في بيت أو صحراء وعرف مكانها، صلى في المواضع الخالية عن النجاسة.
وإن خفي عليه موضعها: تحرى المكان الطاهر وصلى عند الحنفية.
وقال الشافعية (3) : إن كانت الأرض واسعة كصحراء، فصلى في موضع منها جاز؛ لأنه غير متحقق لها، ولأن الأصل فيها الطهارة، ولا يمكن غسل جميعها.
وإن كانت الأرض صغيرة كبيت، لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله، كما في حالة الشك بنجاسة جزء من الثوب؛ لأن البيت ونحوه يمكن غسله وحفظه من النجاسة، فإذا نجس أمكن غسله، وإذا خفي موضع النجاسة منه غسله كله كالثوب.
وإن كانت النجاسة في أحد البيتين واشتبها عليه، تحرى، كما يتحرى في الثوبين.
وإن حبس في موضع نجس ـ حُش (هو الخلاء) ، وجب عليه أن يصلي عند جمهور العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم» (4) وقياساً على المريض العاجز عن بعض الأركان.
__________
(1) رد المحتار، المكان السابق، مغني المحتاج:190/1، المهذب:62/1، مراقي الفلاح: ص38.
(2) رد المحتار، المهذب، المكان السابق.
(3) المهذب:62/1، المجموع:160/1 ومابعدها.
(4) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة بلفظ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم..» .(1/649)
وإذا صلى يجب عليه أن يتجافى عن النجاسة في قعوده بيديه وركبتيه وغيرهما القدر الممكن، ويجب عليه أيضاً الإيماء أو الانحناء في السجود إلى القدر الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة، ولا يسجد على الأرض، على الصحيح؛ لأن الصلاة قد تجزئ مع الإيماء، ولا تجزئ مع النجاسة.
وتجب عليه الإعادة في موضع طاهر على الجديد الأصح، ومستحبة على القديم، لأنه ترك الفرض لعذر نادر غير متصل، فلم يسقط عنه الفرض، كما لو ترك السجود ناسياً. والذي يعتبر فرضاً هو الصلاة الثانية في أصح الأوجه عند الشافعية.
الشرط الرابع ـ ستر العورة:
العورة لغة: النقص، وشرعاً: ما يجب ستره وما يحرم النظر إليه، والمعنى الأول هو المراد هنا في الصلاة. يشترط ستر العورة عن العيون، ولو كان خالياً في ظلمة عند القدرة في رأي الجمهور. وقال الحنفية: يجب الستر بحضرة الناس إجماعاً، وفي الخلوة على الصحيح، فلو صلى في الخلوة عرياناً، ولو في بيت مظلم، وله ثوب طاهر، لا يجوز (1) .
ويجب ستر العورة في الصلاة وغيرها ولو في الخلوة إلا لحاجة كاغتسال وتغويط واستنجاء.
والدليل على وجوب الستر: قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف7/31] قال ابن عباس: المراد به: الثياب في الصلاة.
__________
(1) رد المحتار:375/1.(1/650)
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (1) والخمار: ما يغطى به رأس المرأة، وقوله عليه السلام: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (2) .
وأجمع العلماء على وجوب سترة المرأة مطلقاً، في الصلاة وغيرها.
شروط الساتر:
1ً - يجب أن يكون صفيقاً كثيفاً: فالواجب الستر بما يستر لون البشرة ولايصفها من ثوب صفيق أو جلد أو ورق، فإن كان الثوب خفيفاً أو رقيقاً يصف ما تحته أو يتبين لون الجلد من ورائه، فيعلم بياضه أو حمرته، لم تجز الصلاة به؛ لأن الستر لا يحصل بذلك. وإن كان يستر لونها، ويصف الخلقة أو الحجم؛ جازت الصلاة به؛ لأن هذا مما لا يمكن التحرز منه، حتى ولو كان الساتر صفيقاً، لكنه عند الشافعية للمرأة مكروه، وللرجل خلاف الأولى.
وقال الشافعية: شرط الساتر: ما يمنع لون البشرة، ولو ماء كدراً أو طيناً، لاخيمة ضيقة وظلمة، ويجب عندهم أن يكون الساتر طاهراً، وقال المالكية: إن ظهر ما تحته فهو كالعدم، وإن وصف فهو مكروه (3) .
2ً - والشرط عند الشافعية والحنابلة: أن يشمل المستور لبساً ونحوه، فلا تكفي الخيمة الضيقة والظلمة. وتكفي الظلمة عند الحنفية والمالكية للضرورة؛ لأن
__________
(1) رواه الحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، ورواه أيضاً الخمسة إلا النسائي وصححه ابن خزيمة عن عائشة. والمراد بالحائض: البالغ التي بلغت سن الحيض؛ لأن الحائض في زمن حيضها لاتصح صلاتها، بخمار ولا غيره (نيل الأوطار:67/2) .
(2) رواه أبو داود عن عائشة، وهو حديث مرسل (نصب الراية:299/1) .
(3) القوانين الفقهية: ص54. الواجب عندهم هو ستر العورة عن غيره، ولو حكما كمكان مظلم، لا سترها عن نفسه، على المفتى به.(1/651)
3ً - والمطلوب هو ستر العورة من جوانبها، على الصحيح عند الحنفية، وغيرهم من الفقهاء، فلا يجب الستر من أسفل أو من فتحة قميصه، فلو صلى على زجاج يصف ما فوقه، جاز.
وإن وجد مإ يستر بعض عورته، يجب سترها ولو بيده في الأصح عند الشافعية، لحصول المقصود، فإن كفى الساتر سوأتيه أو الفرجين تعين لهما، وإن كفى أحدهما تعين عليه ستر القُبُل ثم الدبر عند الشافعية، وبالعكس عند الحنفية والمالكية. ويجب أن يزر قميصه أو يشد وسطه إن كانت عورته تظهر منه في الركوع أو غيره.
الصلاة في الثوب الحرام: يصح الستر مع الحرمة عند المالكية والشافعية، وتنعقد الصلاة مع الكراهة التحريمية عند الحنفية: بما لا يحل لبسه كثوب حرير للرجل، ويأثم بلا عذر، كالصلاة في الأرض المغصوبة.
وقال الحنابلة: لا تصح الصلاة بالحرام كلبس ثوب حرير، أو صلاة في أرض مغصوبة ولو منفعتها أو بعضها، أو صلاة في ثوب ثمنه كله أو بعضه حرام أو كان متختماً بخاتم ذهب، إن كان عالماً ذاكراً (1) ، لما روى أحمد عن ابن عمر: «من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة، ما دام عليه» ثم أدخل أصبعيه في أذنيه وقال: «صُمَّتا إن لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم سمعته يقوله» (2) ، ولحديث عائشة: «من عمل عملاً ليس عليه
__________
(1) كشاف القناع: 313/1، المغني:587/1 ومابعدها.
(2) لكن في إسناده رجلان: هاشم وبقية، قال البخاري: هاشم غير ثقة، وبقية: مدلّس.(1/652)
أمرنا فهو رد» (1) ، ولأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم منهي عنه، فلم يقع عبادة كالصلاة في زمن الحيض، وكالنجس.
فإن جهل كونه حريراً أو غصباً، أو نسي كونه حريراً أو غصباً، أو حبس بمكان غصب أو نجس، صحت صلاته؛ لأنه غير آثم.
وأجاز المالكية والحنفية الصلاة بثوب نجس كما أوضحت سابقاً.
واتفق علماء المذاهب: أن ستر العورة واجب ولو بإعارة، فإن صلى عرياناً مع وجود ثوب عارية، أو مع وجود ثوب من حرير طاهر عند الجمهور غير الحنابلة، بطلت صلاته. ولو وُعد به، ينتظر ما لم يخف فوات الوقت، وهو الأظهر عند الحنفية، ويلزمه الشراء بثمن المثل (2) كالمقرر في شراء الماء سابقاً.
عادم الساتر: من لم يجد ساتراً لعورته: صلى عرياناً عند المالكية؛ لأن ستر العورة مطلوب عند القدرة، ويسقط بالعجز.
وصلى قاعداً يومئ إيماء عند الحنابلة، عملاً بفعل ابن عمر كما أبنت سابقاً في الشرط الثالث.
ويجب عليه أن يصلي عند الشافعية والحنفية ولو بطين يتطين به يبقى إلى تمام صلاته، أو بماء كدر غير صاف، وتكفيه الظلمة للاضطرار عند الحنفية والمالكية، وباليد عند الشافعية في الأصح وعند الحنابلة لحصول المقصود كما تقدم، ويصلي قائماً عند الشافعية متمماً الأركان، ولا إعادة عليه على المذهب عندهم كما أوضحت. ويصلي قاعداً مومياً بركوع وسجود عند الحنفية والحنابلة، وهو أفضل من الصلاة قائماً بإيماء أو بركوع وسجود؛ لأن الستر أهم من أداء الأركان.
قال الحنابلة: ومن كان في ماء وطين ولم يمكنه السجود على الأرض إلا بالتلوث بالطين والبلل بالماء صلى على دابته، يومئ بالركوع والسجود (3) .
انكشاف العورة فجأة: إن انكشفت عورة المصلي فجأة بالريح مثلاً عن غير عمد، فستره في الحال، لم تبطل صلاته عند الشافعية والحنابلة لانتفاء المحذور، وإن قصر أو طال الزمان، بطلت بسبب تقصيره، ولأن الكثير يفحش انكشاف العورة فيه، ويمكن التحرز منه، فلم يعف عنه (4) .
وقال المالكية: تبطل الصلاة مطلقاً بانكشاف العورة المغلظة.
وقال الحنفية: إذا انكشف ربع العضو من أعضاء العورة، فسدت الصلاة إن استمر بمقدار أداء ركن، بلا صنعه، فإن كان بصنعه فسدت في الحال.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم عن عائشة، وهو صحيح.
(2) الدر المختار: 382/1، المجموع:193/3....
(3) المغني:599/1.
(4) مغني المحتاج:188/1، المغني:580/1.....(1/653)
صلاة العراة جماعة: الجماعة مشروعة للعراة، فلهم عند الشافعية والحنابلة أن يصلوا فرادى أو جماعة، وفي حال الصلاة جماعة يقف الإمام معهم في الصف وسطاً، ويكون المأمومون صفاً واحداً، حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض، فإن لم يمكن إلا صفين، صلوا وغضوا الأبصار.
وإن اجتمع نسوة عراة، استحب لهن الجماعة، وتقف المرأة الإمام وسطهن في كل حال لأنهن عورات؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، كما هو الثابت في السنة. ويصلون قياماً مع إتمام جميع الأركان عند الشافعية، ويومئون إيماء، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم عند الحنابلة.
وهل الأفضل أن يصلوا جماعة أو فرادى؟
قال الشافعية: إن كانوا عُمْياً أو في ظلمة بحيث لا يرى بعضهم بعضاً، استحبت الجماعة بلا خوف، ويقف إمامهم قُدَّامهم. وإن كانوا بحيث يرون، فأصح الأقوال أن الجماعة والانفراد سواء.
وإن وجد مع إنسان كسوة، استحب أن يعيرهم، فإن لم يفعل، لم يغصب منه؛ لأن صلاتهم تصح من غير سترة.
وقال المالكية والحنفية: يصلون فرادى، ويتباعد بعضهم من بعض، وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم إمامهم (1) . وإن لم يمكن تفرقهم صلوا جماعة قياماً صفاً واحداً مع ركوع وسجود، إمامهم وسطهم، غاضين أبصارهم وجوباً.
حد العورة: يشترط عند أئمة المذاهب لصحة الصلاة ستر العورة كما تقدم، لكن الفقهاء اختلفوا في حد العورة للرجل والأمة والمرأة الحرة، فما آراؤهم تفصيلاً؟
مذهب الحنفية (2) :
أـ عورة الرجل: هي ما تحت سرته إلى ما تحت ركبته، فالركبة من الفخذ عورة في الأصح، عملاً بالمأثور عندهم: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» أو «مادون سرته حتى يجاوز ركبته» (3) ولحديث ضعيف عند الدارقطني: «الركبة من
__________
(1) المجموع:191/3 ومابعدها، المهذب:6/1، المغني:596/1،598، الشرح الكبير مع الدسوقي: 221/1.
(2) الدر المختار ورد المحتار:375/1-397، تبيين الحقائق للزيلعي:95/1-97.....
(3) هذا مأخوذ من أحاديث ثلاثة: الأول - حديث الدارقطني وأحمد وأبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «.. فإذا زوج أحدكم أمته، عبده أو أجيره، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة، فإن تحت السرة إلى الركبة من العورة» وهو ضعيف. والثاني - حديث الحاكم عن عبد الله بن جعفر «مابين السرة إلى الركبة عورة» وهو موضوع، الثالث ـ حديث الدارقطني عن أبي أيوب: «ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل السرة من العورة» وهو غريب (نصب الراية:296/1-297) .(1/654)
: العورة» (1) .
ب ـ الأمَة (الرقيقة) : كالرجل في العورة، مع ظهرها وبطنها وجنبها، لقول عمر رضي الله: «ألق عنك الخمار يا دفار، أتتشبهين بالحرائر» (2) ، ولأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة، فاعتبرت كالمحارم في حق الأجانب عنها دفعاً للحرج.
جـ ـ المرأة الحرة ومثلها الخنثى: جميع بدنها حتى شعرها النازل في الأصح، ما عدا الوجه والكفين، والقدمين ظاهرهما وباطنهما على المعتمد لعموم الضرورة، والصوت على الراجح (3) ليس بعورة، لكن ظهر الكف عورة على المذهب، والأصح أن باطن الكفين وظاهرهما ليسا بعورة. والقدمان ليسا بعورة في حق الصلاة على المعتمد، والصحيح أنهما عورة في حق النظر والمس. واستدلوا بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/24] والمراد محل زينتهن، وما ظهر منها: الوجه والكفان، كما قال ابن عباس وابن عمر، وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» (4) وبحديث عائشة السابق: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفه» (5) .
__________
(1) نصب الراية:297/1
(2) قال عنه الزيلعي: غريب وبمعناه روى عبد الرازق عن عمر، ورواه البيهقي، وقال: الآثار بذلك عن عمر صحيحة (نصب الراية:300/1) .
(3) لكن نغمة المرأة، وتليينه أي تمطيط الصوت عورة في الأذان وغيره، فلا يحل سماعه.
(4) رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود، وقال: حديث حسن صحيح غريب، ورواه ابن حبان أيضاً (نصب الراية:298/1) .
(5) أخرجه أبو داود، وهو حديث مرسل.(1/655)
وبحديث عائشة المتقدم أيضاً: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» والخمار: ما يغطى به رأس المرأة.
وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، أي الفجور بها، أو الشهوة. والمعنى أنها تمنع من الكشف خوفاً أن يرى الرجال وجهها، فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة.
ولا يجوز النظر إلى وجه المرأة والفتى الأمرد بشهوة، إلا لحاجة، كقاض أو شاهد أو للشهادة عليها، وخاطب يريد زواجها، فينظر ولو عن شهوة، بنية العمل بالسنة، لا قضاء الشهوة، وكذا في حال المداواة إلى موضع المرض بقدر الضرورة.
والمعتمد عند الحنفية: أن كشف ربع عضو من أعضاء العورة (الغليظة وهي القبل والدبر وما حولهما، أو المخففة: وهي ما عدا السوأتين) (1) إن استمر بمقدار أداء ركن، بدون تعمد، وإنما سهواً، يبطل الصلاة؛ لأن ربع الشيء له حكم الكل، كما تقدم سابقاً. ولا تبطل بما دون ذلك، فمن كشف ربع بطن أو فخذ أو شعر نزل من الرأس، أو دبر، أو ذكر، أو أنثيين، أو فرج بطلت صلاته، إن استمر مقدار أداء ركن، وإلا لا يبطل.
مذهب المالكية (2) :
يجب ستر العورة عن أعين الناس إجماعاً، أما في الصلاة فالصحيح من المذهب وجوب ستر ما يأتي:
__________
(1) لا فرق بين العورتين إلا من حيث أن حرمة النظر إلى الغليظة أشد.
(2) الشرح الصغير:285/1، بداية المجتهد:111/1، القوانين الفقهية: ص53، الشرح الكبير: 211/1-217، شرح الرسالة:98/1.(1/656)
أـ عورة الرجل في الصلاة: هي المغلظة فقط وهي السوأتان وهما من المقدم: الذكر مع الأنثيين، ومن المؤخر: ما بين الأليتين. فيجب إعادة الصلاة في الوقت لمكشوف الأليتين فقط، أو مكشوف العانة. فليس الفخذ عورة عندهم، وإنما السوأتان فقط، لحديث أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر حَسَر الإزار عن فخذه، حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه» (1) .
ب ـ عورة الأمة هي السوأتان مع الأليتين، فإذا انكشف منها شيء من ذلك أو كشفت فخذاً كله أو بعضه، أعادت أبداً في الوقت، كالرجل. ووقت الإعادة في الظهر والعصر للاصفرار، وفي المغرب والعشاء: الليل كله، وفي الصبح لطلوع الشمس.
جـ ـ عورة الحرة المغلظة: جميع البدن ما عدا الصدر والأطراف من رأس ويدين ورجلين. وما قابل الصدر من الظهر كالصدر. فإن انكشف من العورة المخففة شيء من صدرها أو أطرافها، ولو ظهر قدم لا باطنه، أعادت في الوقت الضروري السابق بيانه: في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين الليل كله، وفي الصبح للطلوع.
هذا بالنسبة للصلاة. أما بالنسبة للرؤية والصلاة أيضاً فيجب ولا يشترط ستر عورة الرجل وعورة الأمة. أما عورة الحرة أمام امرأة أخرى مسلمة أو كافرة، فهي للرؤية ما بين السرة والركبة.
كما يجب على الحرة أمام رجل أجنبي، أي ليس بمحرم لها ستر جميع البدن
__________
(1) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار:64/2) ويؤيده حديث آخر رواه أحمد عن عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان جالساً كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه..» (نيل الأوطار:63/2) .(1/657)
غير الوجه والكفين، أما هما فليسا بعورة، وإن وجب عليها سترها لخوف الفتنة، ولا يجوز للرجل أن يرى من المرأة المَحْرم ولو بمصاهرة ورضاع صدرها ونحوه غير الوجه والأطراف وإن لم يلتذ، خلافاً للشافعية وغيرهم الذين أجازوا رؤية ما عدا ما بين السرة والركبة، وذلك فسحة، والأطراف تشمل العنق والرأس وظهر القدم.
يتبين من ذلك أن العورة في الرجل والمرأة بالنسبة للصلاة: مغلظة ومخففة. فالمغلظة للرجل: السوأتان (القبل وحلقة الدبر) ، والمخففة له: ما زاد على السوأتين مما بين السرة والركبة. والمغلظة للأمة: الأليتان وما بينهما من فم الدبر، والفرج وما والاه من العانة. والمخففة: الفخذ وما فوق العانة للسرة.
والمغلظة للحرة: جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر وما حاذاه من الظهر، والمخففة لها: هي جميع البدن ما عدا الوجه والكفين.
فمن صلى مكشوف شيء من العورة المغلظة مع الذِّ كْر والقدرة على الراجح ولو بشراء أو إعارة، بطلت صلاته، ويعيد أبداً على المشهور.
ومن صلى مكشوف شيء من العورة المخففة، لا تبطل صلاته، وإن كان كشفها مكروهاً ويحرم النظر إليها، ولكن يستحب لمن صلى مكشوف العورة المخففة أن يعيد الصلاة في الوقت الضروري (في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين: الليل كله، وفي الصبح للطلوع) .
ويحرم النظر للعورة ولو بلا لذة إذا كانت غير مستورة، أما النظر إليهما مستورة فهو جائز بخلاف جسها من فوق الساتر، فإنه لا يجوز.(1/658)
والعورة بالنسبة للرؤية: للرجل ما بين السرة والركبة، وللمرأة أمام رجل أجنبي جميع بدنها غير الوجه والكفين، وأمام محارمها جميع جسدها غير الوجه والأطراف: وهي الرأس والعنق واليدان والرجلان، إلا أن يخشى لذة، فيحرم ذلك، لا لكونه عورة. والمرأة مع المرأة أو مع ذوي محارمها كالرجل مع الرجل: ترى ما عدا ما بين السرة والركبة، وأما المرأة في النظر إلى الأجنبي فهي كحكم الرجل مع ذوات محارمه وهو النظر إلى الوجه والأطراف (الرأس واليدين والرجلين) .
مذهب الشافعية (1) :
أـ عورة الرجل: ما بين سُرَّته وركبته (2) في الصلاة والطواف وأمام الرجال الأجانب والنساء المحارم، لما روى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «عورة المؤمن ما بين سرته إلى ركبته» وروى البيهقي «وإذا زوج أحدكم أمته ـ عبده أو أجيره ـ فلا تنظر ـ أي الأمة ـ إلى عورته» وروي في ستر الفخذ أحاديث، منها: «لا تُبرز فخِذاك، ولا تنظر إلى فخذي حي ولا ميت» (3) ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم لجَرْهد الأسلمي: «غطِّ فخذك، فإن الفخذ عورة» (4) .
فالسرة والركبة ليستا من العورة على الصحيح، لحديث أنس السابق في مذهب المالكية المتضمن إظهار النبي صلّى الله عليه وسلم فخذه. لكن يجب ستر شيء من الركبة لستر الفخذ، ومن السرة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أبان الشافعية والحنابلة والمالكية في الأصول (5) .
__________
(1) مغني المحتاج:185/1، المهذب:64/1، المجموع:170/3-176.
(2) السرة: الموضع الذي يقطع من المولود، والركبة: موصل ما بين أطراف الفخذ وأعالي الساق.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبزار، وفيه علة (نيل الأوطار:62/2) .
(4) رواه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن، وصححه ابن حبان (المصدر السابق:63/1) .
(5) شرح الإسنوي:127/1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص61، مختصر ابن الحاجب: ص38.(1/659)
وأماعورة الرجل أمام النساء الأجانب بالنسبة للنظر، فجميع بدنه، وفي الخلوة: السوأتان فقط.
وقد رد على استدلال المالكية بحديث أنس وعائشة المتضمنين أن الفخذ ليست بعورة، بوجوه أربعة:
الأول: أنه حكاية فعل، وطرف الفخذ قد يتسامح في كشفه، لا سيما في مواطن الحرب ومواقف الخصام، والمقرر في الأصول: أن القول أرجح من الفعل.
والثاني: أن حديث أنس وعائشة لا يقويان على معارضة تلك الأقوال الصحيحة العامة لجميع الرجال.
والثالث: حديث عائشة في رواية مسلم فيه تردد: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه» والساق ليس بعورة إجماعاً، فهو مشكوك في المكشوف.
والرابع: غاية ما في هذه الواقعة بكشف الفخذ: أن يكون ذلك خاصاً بالنبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يظهر فيها دليل يدل على التأسي به في مثل ذلك، فيكون الواجب التمسك بالأقوال الناصعة على أن الفخذ عورة (1) .
ب ـ عورة الأمة كالرجل في الأصح، إلحاقاً لها بالرجل بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة، ولأن الرأس والذراع مما تدعو الحاجة إلى كشفه.
جـ ـ عورة الحرة ومثلها الخنثى: ما سوى الوجه والكفين، ظهرهما وبطنهما من رؤوس الأصابع إلى الكوعين (الرسغ أو مفصل الزند) لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/24] ، قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم: «هو الوجه والكفان» ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المرأة الحرام (المحرمة بحج أو عمرة) عن لبس
__________
(1) نيل الأوطار:64/2، المجموع:176/3.(1/660)
القفازين والنقاب (1) ، ولو كان الوجه عورة لما حرم سترهما في الإحرام، ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء، فلم يجعل ذلك عورة.
وإذا انكشف بعض العورة في الصلاة مع القدرة على سترها بطلت صلاته، إلا إن كشفها ريح أو سهواً، فسترها في الحال فلا تبطل، كما تقدم سابقاً. وإن كشفت بغير الريح أو بسبب بهيمة أو غير مميز فتبطل.
ولا يجب على الرجل ستر عورته عن نفسه، لكنه يكره نظره إليها.
وعورة المرأة الحرة بالنسبة للنظر: خارج الصلاة جميع بدنها أمام الرجال الأجانب، وأمام النساء الكافرات ما عدا ما يبدو عند المهنة أي الخدمة والاشتغال بقضاء حوائجها. وأما أمام النساء المسلمات والرجال المحارم: فعورتها كالرجل ما بين السرة والركبة.
ودليل العلماء كافة على وجوب ستر العورة وعدم جواز نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة: حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة في الثوب الواحد» (2) وحديث بَهْز بن حََكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتُنا ما نأتي منها، وما نَذَر؟ قال: احفظ عورتَك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قلتُ: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد، فلا يَرَينَّها، قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحقُ أن يُسْتَحيا منه» (3) فهو يدل على أن التعري في الخلاء غير جائز. ويؤيده حديث ابن عمر عند الترمذي بلفظ: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط» ، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم» .
واستدل البخاري على جواز التعري في الغسل بقصة موسى وأيوب.
مذهب الحنابلة (4) :
أـ عورة الرجل: ما بين سرته وركبته، للأحاديث السابقة التي استدل بها الحنفية والشافعية، وليست سرته وركبتاه من عورته، لحديث عمرو بن شعيب السابق: «.. فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة» وحديث أبي أيوب الأنصاري بلفظ: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» (5) ، ولأن الركبة حد، فلم تكن من العورة كالسرة. والخنثى المشكل كالرجل، إذ لا نوجب عليه الستر بأمر محتمل متردد.
ويجب بالإضافة لذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب: أن يستر الرجل أحد منكبيه، ولو بثوب خفيف يصف لون البشرة؛ لأن وجوب ستر المنكبين بالحديث، ولفظه: «لا يصلي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء» (6) وهذا نهي يقتضي التحريم، ويقدم على القياس، وروى أبو داود عن بريدة قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف، ولا يتوشح به» .
__________
(1) في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» .
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي (نيل الأوطار:61/2) .
(3) رواه الخمسة إلا النسائى (المصدر السابق) .
(4) المغني:577/1-582، 601-606، كشاف القناع: 306/1-315، غاية المنتهى: 97/1-99.
(5) رواه أبو بكر بإسناده.
(6) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة.(1/661)
لكن من لم يجد إلا ما يستر عورته فقط أو منكبيه فقط، ستر عورته وصلى قائماً وجوباً، وترك ستر منكبيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان الثوب واسعاً، فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاشدده على حَقْوك» (1) أي خصرك.
وعلى الرجل أن يستر عورته في الصلاة عن النظر، حتى عن نفسه، فلو رأى عورته من جيب واسع لقميصه، إذا ركع أو سجد، وجب زره ونحوه ليسترها، لعموم الأمر بستر العورة.
كما يجب عليه سترها ولو في خلوة أو ظلمة، لحديث بَهْز بن حكيم السابق «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك ... » .
ولا يجب سترها بحصير وحفيرة وطين وماء كدر؛ لأن ذلك لا يثبت، وفي الحفيرة حرج.
__________
(1) رواه أبو داود.(1/662)
وإن انكشف من العورة يسير، لم تبطل صلاته، لما رواه أبو داود عن عمرو ابن سلمة الذي كانت تنكشف عنه بردته لقصرها إذا سجد.
وإن انكشف من العورة شيء كثير، تبطل صلاته. والمرجع في التفرقة بين اليسير والكثير إلى العرف والعادة.
لكن إن انكشف الكثير من العورة عن غير عمد، فستره في الحال، من غير تطاول الزمان، لم تبطل؛ لأن اليسير من الزمان أشبه اليسير في القَدْر. فإن طال كشفها، أو تعمد كشفها، بطلت الصلاة مطلقاً.
ب ـ عورة الأمة كالرجل: ما بين السرة والركبة على الراجح، لحديث عمرو ابن شعيب السابق مرفوعاً: «إذا زوج أحدكم عبده ـ أمَتَه أو أجيره ـ فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى ركبته عورة» .
هذا بالنسبة لعورة الأمة في الصلاة، بقصد التخفيف عنها، ودفع الحرج والتيسير عليها وعلى الآخرين، لانشغالها بخدمة سيدها، ولأن من شأن الأمة الابتذال والقيام بالأعمال، ولضعف الميل إليها غالباً، أما بالنسبة للنظر فيحرم على الناس غير السيد إدمان النطر إلى الإماء، منعاً من الفتنة، وللأمر بغض البصر عن جميع النساء.
جـ ـ عورة الحرة البالغة: جميع بدنها سوى وجهها، وكفيها على الراجح ـ عند جماعة ـ من الروايتين، لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ماظهر منها} [النور:31/24] ، قال ابن عباس وعائشة: «وجهها وكفيها» (1) وليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها في الصلاة، بدليل الأحاديث السابقة عند الشافعية. والدليل على وجوب تغطية القدمين: ما روت أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله، أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: نعم، إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» (2) وهذا يدل على وجوب تغطية القدمين، ولأنه محل لا يجب كشفه في الإحرام، فلم يجز كشفه في الصلاة كالساقين.
__________
(1) رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود.
(2) رواه أبو داود، وقال: وقفه جماعة على أم سلمة، ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. وروى الترمذي حديثاً عن ابن عمر في موضوعه، وقال: حديث حسن صحيح.(1/663)
ويجزئ المرأة من اللباس ما سترها الستر الواجب، لحديث أم سلمة السابق والمستحب أن تصلي المرأة في دِرْع (قميص سابغ يغطي قدميها) وخمار يغطي رأسها وعنقها، وجلباب تلتحف به من فوق الدرع. وحكم انكشاف شيء من عورة المرأة غير الوجه والكفين بالتفرقة بين اليسير والكثير، كحكم الرجل سابقاً.
وعورة المرأة مع محارمها الرجال: هي جميع بدنها ما عدا الوجه والرقبة واليدين والقدم والساق.
وجميع بدن المرأة حتى الوجه والكفين خارج الصلاة عورة كما قال الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم السابق: «المرأة عورة» .
ويباح كشف العورة لنحو تداوٍ وتخل في الخلاء، وختان، ومعرفة بلوغ، وبكارة وثيوبة، وعيب.
عورة المسلمة أمام الكافرة: عورة الحرة المسلمة أمام الكافرة عند الحنابلة والمالكية كالرجل المحرم: ما بين السرة والركبة. وقال الحنفية والشافعية: جميع البدن ماعدا مايظهر عند المهنة أي الأشغال المنزلية.
ومنشأ الخلاف تفسير المراد من آية النور {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} .. إلى أن قال: {أو نسائهن} [النور:31/24] فال الحنابلة وآخرون: المراد بهن: عموم النساء، بلا فرق بين المسلمات والكافرات، فيجور للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة.
وقال الحنفية والشافعية: إن المراد بهن خصوص النساء المسلمات، أي المختصات بهن في الصحبة والأخوة في الدين، وعلى هذا فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئاً من زينتها الباطنة للكافرة (1) .
العورة المنفصلة: يحرم النظر إلى عورة الرجل عند الحنفية والشافعية متصلة كانت أو منفصلة من شعر أو ذراع أو فخذ.
__________
(1) تفسير آيات الأحكام بالأزهر:164/3.(1/664)
وقال الحنابلة: العورة المنفصلة لا يحرم النظر إليها لزوال حرمتها بالانفصال.
وقال المالكية: يجوز النظر إلى العورة المنفصلة حال الحياة، ويحرم النظر إلى العورة المنفصلة بعد الموت كالمتصلة.
صوت المرأة: صوت المرأة عند الجمهور ليس بعورة؛ لأن الصحابة كانوا يستمعون إلى نساء النبي صلّى الله عليه وسلم لمعرفة أحكام الدين، لكن يحرم سماع صوتها بالتطريب والتنغيم ولو بتلاوة القرآن، بسبب خوف الفتنة.
وعبارة الحنفية: الراجح أن صوت المرأة ليس بعورة.
والخلاصة: أن العلماء اتفقوا على أن الفرجين عورة، وأن السرة ليست بعورة وأن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وأن عورة المرأة في الصلاة ما عدا الوجه والكفين، وما عدا القدمين عند الحنفية، وأن عورتها خارج الصلاة جميع بدنها. واختلفوا في الركبة، فقال الحنفية: إنها عورة، وقال الجمهور: إنها ليست بعورة، ولكن يجب ستر شيء منها ومن السرة، لأنها مقدمة الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأما عورة المرأة أمام أقاربها المحارم أو النساء المسلمات، فهي ما بين السرة والركبة عند الحنفية والشافعية، وقال المالكية: جميع بدنها ما عدا الوجه والأطراف: وهي الرأس والعنق واليدان والرجلان. وقال الحنابلة: جميع بدنها ما عدا الوجه والرقبة والرأس واليدين والقدم والساق فالقدم ليس بعورة عند الحنابلة والحنفية.
حد عورة الصغير: اختلف الفقهاء في بيان حد عُمره الصغير والصغيرة، بين متشدد كالشافعية، ومخفف كالمالكية، ومتوسط كالحنابلة والحنفية.(1/665)
قال الحنفية (1) : لا عورة للصغير جداً وهو من عُمره أربع سنين فأقل، فيباح النظر إلى بدنه ومسه. ثم ما دام لم يشته فعورته القُبُل والدبر، ثم تغلظ عورته إلى عشر سنين، أي تعتبر عورته: الدبر وما حوله من الأليتين والقبل وما حوله. وبعد العاشرة تعتبر عورته كعورة البالغ في الصلاة وخارجها، سواء أكان ذكراً أم أنثى.
وقال المالكية (2) : يفرق بين الذكر والأنثى:
أـ في الصلاة: عورة الصغير الذكر المأمور بالصلاة وهو بعد تمام السبع: هي السوأتان والأليتان والعانة والفخذ، فيندب له سترها كحالة الستر المطلوب من البالغ.
وعورة الصغيرة المأمورة بالصلاة: ما بين السرة والركبة، ويندب لها سترها كالستر المطلوب من البالغة.
ب ـ خارج الصلاة: ابن ثمان سنين فأقل لا عورة له، فيجوز للمرأة النظر إلى جميع بدنه وتغسيله ميتاً. وابن تسع إلى اثنتي عشرة سنة يجوز لها النظر إلى جميع بدنه، ولكن لا يجوز لها تغسيله. وابن ثلاث عشرة سنة فأكثر عورته كعورة الرجل.
وبنت سنتين وثمانية أشهر لا عورة لها. وبنت ثلاث سنين إلى أربع لا عورة لها في النظر، فينظر إلى بدنها، ولها عورة في المس فليس للرجل أن يغسلها، والمشتهاة كبنت ست كالمرأة، لا يجوز للرجل النظر إلى عورتها ولا تغسيلها.
وقال الشافعية (3) : عورة الصغير ولو غير مميز كالرجل: ما بين السرة والركبة. وعورة الصغيرة كالكبيرة أيضاً في الصلاة وخارجها.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:378/1.
(2) الشرح الصغير:267/1، الشرح الكبير مع الدسوقي:216/1.
(3) مغني المحتاج:185/1.(1/666)
وقال الحنابلة (1) : الصغير الذي لم يبلغ سبع سنين: لا عورة له، فيباح النظر إليه ومس جميع بدنه. وابن سبع إلى عشر عورته الفرجان فقط في الصلاة وخارجها، وبنت سبع إلى عشر عورتها في الصلاة: ما بين السرة والركبة، وأما خارج الصلاة فمثل الكبيرة: أمام المحارم عورتها ما بين السرة والركبة ويستحب لها الاستتار وستر الرأس كالبالغة احتياطاً، وأمام الأجانب: عورتها جميع بدنها إلا الوجه والرقبة والرأس، واليدين إلى المرفقين، والساق والقدم. وابن عشر كالكبير تماماً. ويظهر لي أن هذا الرأي ورأي الحنفية أولى لاتفاقه مع حديث الأمر بالصلاة لسبع، والضرب عليها لعشر.
الشرط الخامس ـ استقبال القبلة:
اتفق الفقهاء على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، لقوله تعالى: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:150/2] إلا في حالتين: في شدة الخوف، وصلاة النافلة للمسافر على الراحلة. وقيد المالكية والحنفية شرط الاستقبال بحالة الأمن من عدو وسبع وبحالة القدرة، فلا يجب الاستقبال مع الخوف، ولا مع العجز كالمربوط والمريض الذي لا قدرة له على التحول ولا يجد من يحوله، فيصلي لغيرها إلى أي جهة قدر، لتحقق العذر.
واتفق العلماء على أن من كان مشاهداً معايناً الكعبة: ففرضه التوجه إلى عين الكعبة يقيناً. ومثله عند الحنابلة: أهل مكة أوالناشئ بها وإن كان هناك حائل محدث كالحيطان بينه وبين الكعبة.
__________
(1) كشاف القناع:308/1 وما بعدها.(1/667)
وأما غير المعاين للكعبة ففرضه عند الجمهور (غير الشافعية) إصابة جهة الكعبة (1) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (2) وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الفرض إصابة عين الكعبة، لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها. وهذا هو الأرجح لدي.
وقال الشافعي في الأم: فرضه ـ أي الغائب عن مكة ـ إصابة العين أي عين الكعبة؛ لأن من لزمه فرض القبلة، لزمه إصابة العين، كالمكي، ولقوله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:150/2] ، أي أنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين (3) .
والمطلوب عند أئمة المذاهب في إصابة جهة الكعبة محاذاتها ببدنه وبنظره إليها (4) ، بأن يبقى شيء من الوجه مسامتاً (محاذياً) للكعبة، أو لهوائها عند الجمهور غير المالكية، بحيث لو امتد خط من وجهه في منتصف زاوية قائمة، لكان ماراً على الكعبة أو هوائها، والكعبة: من الأرض السابعة إلى العرش، فمن صلى في الجبال العالية والآبار العميقة السافلة، جاز، كما يجوز على سطحها وفي جوفها، ولو افترض زوالها، صحت الصلاة إلى موضع جدارها.
__________
(1) الدر المختار:397/1-406، الشرح الصغير:292/1-296، الشرح الكبير:222/1،228، القوانين الفقهية: ص55، كشاف القناع:350/1،364، المغني:350،364، المغني:431/1-452، اللباب: 67/1، مراقي الفلاح: ص34، تبيين الحقائق:100/1 ومابعدها.
(2) رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، عن أبي هريرة. وهذا في قبلة أهل المدينة والشام.
(3) المجموع:194/3، 212، المهذب:67/1، حاشية الباجوري: 147/1 ومابعدها.
(4) قال الشافعية: يجب استقبالها حقيقة في الواقف والجالس، وحكماً في الراكع والساجد، ويجب استقبالها بالصدر والوجه لمن كان مضطجعاً، وبالوجه والأخمصين إن كان مستلقياً.(1/668)
وقال المالكية: الواجب استقبال بناء الكعبة، ولا يكفي استقبال الهواء لجهة السماء.
الاجتهاد في القبلة:
يجب التحري والاجتهاد في القبلة أي بذل المجهود لنيل المقصود بالدلائل على من كان عاجزاً عن معرفة القبلة، واشتبهت عليه جهتها، ولم يجد أحداً ثقة يخبره بها عن علم أي يقين ومشاهدة لعينها، فمن وجده اتبعه؛ لأن خبره أقوى من الاجتهاد.
والدليل على وجوب التحري: ما روى عامر بن ربيعة أنه قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت {فأينما تولوا فثَمَّ وجه الله} [البقرة:115/2] » (1) .
ومن لم يجد ثقة يقلده اعتمد على الدلائل كالفجر والشفق والشمس والقطب وغيره من الكواكب، والريح الشرقي أو الغربي أو الجنوبي، وغيرها كثير، وأضعفها الرياح وأقواها نجم القطب في الليل.
والقطب: نجم صغير من بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي، ويختلف باختلاف الأقاليم، ففي مصر يكون خلف أذن المصلي اليسرى، وفي العراق يكون خلف اليمنى، وفي أكثر اليمن يكون قبالته مما يلي جانبه الأيسر، وفي الشام وراءه.
__________
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه، لكن قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذا ك، وفيه ضعيف. وفيه حديث آخر ضعيف عن جابر رواه الحاكم والبيهقي والدارقطني (نصب الراية:304/1) .(1/669)
الخطأ في الاجتهاد:
إن تيقن الخطأ في اجتهاده، فقال الحنفية: إن كان في الصلاة استدار وبنى عليها أي أكمل صلاته، فلو صلى كل ركعة لجهة، جاز. وإن كان بعد الصلاة صلى الصلاة القادمة، ولا إعادة عليه لما مضى، لإتيانه بما في وسعه، قال علي: «قبلة المتحري جهة قصده» ومن صلى بلا تحرٍ وأصاب، لم تصح صلاته، لتركه فرض التحري، إلا إذا علم إصابته بعد فراغه، فلا يعيد بالاتفاق عندهم.
ومن أمَّ قوماً في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة وصلى إلى جهة أخرى، وتحرى من خلفه، وصلى كل واحد منهم إلى جهة، وكلهم خلف الإمام، فمن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته، ومن لم يعلم ما صنع الإمام، صحت صلاته وأجزأه، لوجود التوجه إلى جهة التحري، ومخالفة المأمومين لإمامهم لا تمنع صحة الصلاة، كالصلاة في جوف الكعبة.
وقال المالكية: إن تبين المجتهد في القبلة خطأ: يقيناً أو ظناً، في أثناء الصلاة، قطعها إن كان بصيراً منحرفاً كثيراً، بأن استدبر أو شرّق أو غرب، وابتدأها بإقامة، ولا يكفي تحوله لجهة القبلة.
وإن كان أعمى، أو كان منحرفاً انحرافاً يسيراً، فلا إعادة عليه. وإن كان بصيراً منحرفاً كثيراً أو ناسياً للجهة التي أداه اجتهاده إليها، أو التي دله عليها العارف، أعاد في الوقت على المشهور.
وقال الشافعية: إن تيقن الخطأ في الصلاة أوبعدها، استأنفها أي أعادها من جديد؛ لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فلم يعتد بما مضى، كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه. وإن تغير اجتهاده للصلاة الثانية، فأداه اجتهاده إلى جهة أخرى، صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، ولا يلزمه إعادة ما صلاه إلى الجهة الأولى، كالحاكم إذا حكم باجتهاده، ثم تغير اجتهاده، لم ينقض ما حكم فيه بالاجتهاد الأول.
ويجتهد لكل فرض، فإن تحير، صلى كيف شاء، ويقضي وجوباً لأن ذلك أمر نادر.(1/670)
وقال الحنابلة: إن بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة، استدار إلى جهة الكعبة، وبنى على ما مضى من الصلاة، كما قرر الحنفية؛ لأن ما مضى منها كان صحيحاً، فجاز البناء عليه، كما لو لم يبن له الخطأ. وكذلك تستدير الجماعة مع الإمام إن بان لهم الخطأ في حال واحدة.
وإن تبين خطأ اجتهاده بعد الصلاة، بأن صلى إلى غير جهة الكعبة يقيناً لم يلزمه الإعادة، ومثل المجتهد في هذا: المقلد الذي صلى بتقليده، وهذا موافق لمذهب الحنفية.
أما من صلى في الحضر إلى غير الكعبة سواء أكان بصيراً أم أعمى، ثم بان له الخطأ، فعليه الإعادة؛ لأن الحضر ليس بمحل الاجتهاد؛ لأن من فيه يقدر على معرفة القبلة بالمحاريب، ويجد من يخبره عن يقين غالباً، فلا يكون له الاجتهاد، كالقادر على النص في سائر الأحكام.
والخلاصة: أن الحنفية والحنابلة يقررون البناء على الصلاة في أثنائها، ولا يوجبون الإعادة في حال الاجتهاد. وتبين الخطأ بعد الفراغ من الصلاة إلا المقيم في الحضر عند الحنابلة. والمالكية والشافعية يقررون قطع الصلاة إذا عرف الخطأ فيها، وإعادة الصلاة إذا عرف الخطأ بعدها، لكن المالكية يوجبون الإعادة في الوقت الضروري فقط. والشافعية يوجبون الإعادة مطلقاً في الوقت وبعده، لتبين فساد الأولى.
هذا ويتعلق بشرط الاستقبال بحث أمرين: الصلاة في الكعبة، وصلاة المسافر على الراحلة.
الصلاة في الكعبة:
عرفنا أنه لا بد شرعاً من استقبال جزء من الكعبة، وعند غير المالكية: أو استقبال هوائها إلى السماء، والثابت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه دخل الكعبة المشرفة يوم فتح مكة مرة واحدة وصلى فيها، روى ابن عمر أنه قال لبلال: هل صلى النبي صلّى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين السَّاريتين عن يسارك إذا دخلتَ، ثم خرج، فصلى(1/671)
في وجهة الكعبة ركعتين» (1) .
وإذا كان ابن عباس عند البخاري وغيره روى «أنه صلّى الله عليه وسلم كبَّر في البيت ولم يصل فيه» فإنه يقدم حديث ابن عمر، لأنه مثبت، وحديث ابن عباس لأنه نافي، والمقرر عند جمهور الفقهاء غير الشافعية: أنه إذا تعارض المثبت والنافي قدم المثبت، لأنه يشتمل على زيادة علم (2) ولأن ابن عمر كان مع النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يكن ابن عباس معه، وأما نفي أسامة الصلاة فلأنه نقل ما لاحظه من اشتغال النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعاء في ناحية وأسامة في ناحية، وذلك في حال الظلمة بسبب إغلاق باب الكعبة (3) .
__________
(1) رواه أحمد والبخاري: ورواه البخاري ومسلم أيضاً عن ابن عمر، وفيه بيان الأشخاص الذين معه، وهم أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة (نيل الأوطار:140/2) .
(2) مسلم الثبوت:162/2، المستصفى:129/2، التلويح على التوضيح:109/2، الإحكام للآمدي186/3.
(3) راجع نيل الأوطار:141/2 وما بعدها.(1/672)
وقد أقر الفقهاء مشروعية الصلاة في جوف الكعبة، فقال الحنفية (1) : يصح أداء الصلاة فرضاً أو نفلاً ولوجماعة في الكعبة أو على سطحها وإن لم يتخذ سترة، لكنه يكره الصلاة فوقها، لإساءة الأدب، باستعلائه عليها، وترك التعظيم المطلوب لها، ونهي النبي عنه. وإن صلى الإمام بجماعة، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن جعل منهم ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته، لتقدمه على الإمام.
وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام، تحلَّق الناس حول الكعبة، وصلوا بصلاة الإمام، فمن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام؛ لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب.
وقال الشيخ خليل من المالكية (2) : يجوز لأي جهة الصلاة في الكعبة وعلى سطحها نفلاً غير مؤكد، ومنه سنن الرواتب كأربع ركعات قبل الظهر والضحى والشفْع (سنة العشاء) ، كما يجوز النفل مستقبل القبلة في الحِجْر أي حجر إسماعيل. ولا تصح عندهم الفرائض في داخل الكعبة.
وتكره السنن المؤكدة كالوتر والعيدين وركعتي الفجر وركعتي الطواف.
ولا تجوز صلاة الفرض في الكعبة أو في الحِجْر، فإن وقع، أعاده بوقت ضروري (وهو في الظهرين للاصفرار وفي العشاءين الليل كله، وفي الصبح حتى طلوع الشمس) . وتبطل صلاة الفرض على ظهر الكعبة، ويعاد أبداً؛ لأن الواجب استقبال البناء، ولا يكفي استقبال الهواء لجهة السماء.
والخلاصة: إن هذا التفصيل الذي قرره العلامة خليل والقول بجواز هذه الصلاة هو حكم ضعيف عند المالكية، كما صرح شارح خليل. وقال ابن جزي المالكي: تكره الصلاة على ظهر الكعبة، وتمنع في المذهب الفرائض داخل الكعبة.
وقال الشافعية (3) : تجوز الصلاة فرضاً أو نفلاً في الكعبة أو على سطحها إن استقبل من بنائها أوترابها شاخصاً (سترة) ثابتاً كعتبة وباب مردود أو عصا مسمَّرة أو مثبتة فيه، قدر ثلثي ذراع تقريباً فأكثر بذراع الآدمي، وإن بعد عنه ثلاثة أذرع فأكثر.
وإنما صح استقبال هوائها لمن هو خارج عنها، فلأنه يعد حينئذ متوجهاً إليها كالمصلي على أعلى منها كأبي قبيس، بخلاف القريب منها المصلي فيها أو عليها.
__________
(1) البدائع:115/1، فتح القدير:479/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص70، اللباب:138/1 ومابعدها.
(2) الشرح الصغير:297/1، القوانين الفقهية: ص49.
(3) المجموع:197/3، الحضرمية: ص52، المهذب:67/1.(1/673)
وأجاز الحنابلة (1) أيضاً صلاة النافلة في الكعبة أو على سطحها، ولا تصح صلاة الفريضة لقوله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:150/2] ، والمصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة بدليل صلاتها قاعداً، أو إلى غير القبلة في السفر على الراحلة.
صلاة النافلة على الراحلة للمسافر:
يجوز التطوع على الراحلة للمسافر باتجاه مقصده بإجماع العلماء، ولما ثبت في السنة، عن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو على راحلته يسبِّح، يومئ برأسه، قِبَل أي وِجْهة توجَّه، ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة (2) .
وللفقهاء آراء وشروط في صلاة النافلة على الراحلة:
قال الحنفية (3) : إن قبلة العاجز لمرض أو ركوب على دابة جهة قدرته، ولو مضطجعاً، ويصلي بإيماء أي يتوجه العاجز إلى أي جهة قدر، سواء أكان مسافراً أم خائفاً من عدو أو سبع أو لص، أم هارباً من العدو. لكن يشترط في الصلاة على الدابة إيقافها إن قدر، وإلا بأن خاف الضرر، كأن تذهب القافلة وينقطع، فلا يلزمه إيقافها ولا استقبال القبلة، حتى في ابتداء الصلاة بتكبيرة الإحرام.
والجائز هو صلاة النفل والسنن المؤكدة إلا سنة الفجر، فلا تجوز صلاة الفرض، والواجب بأنواعه كالوتر، والمنذور، وصلاة الجنازة، أي لا يجوز ذلك على الدابة بلا عذر لعدم الحرج.
والنافلة تجوز للمقيم الراكب خارج المصر لمسافة يجوز القصر فيها (وهي 98كم) كما تجوز للمسافر بالأولى، فالأول في حكم الثاني.
__________
(1) كشاف القناع:354/1، المغني:73/2.
(2) متفق عليه (نيل الأوطار:144/2) والراحلة في الأصل: الناقة التي تصلح للرحل، والمراد كل حيوان وإن لم يكن من الابل.
(3) الدر المختار ورد المحتار:402/1،654-658.(1/674)