الغرب» ؛ فهو يعلن بصراحة، وعلى رؤوس الأشهاد تحت عنوان: (السيناريو (1) المحتمل لتسلسل حوادث الفتن) ؛ فيقول (ص 141 وما بعد) :
«في عام 1998 يُشغل الناس باللعب واللهو في أولميباد باريس، ثم تفاجئهم علامات الساعة الكبرى، وهم في غفلتهم يلعبون ...
في 1/1/1999، وفي الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 15 رمضان 1419هـ، يتم ارتكاب العمل الكوني المفزع؛ وهو تفجير المسجد الأقصى، وفي نفس اليوم تصل طلائع القوات الغربية، وتنزل في الأردن، وتحاصر بيت المقدس» .
ويقول (ص 136) :
«بعد تفجير الأقصى مباشرة يتم دخول الجيوش الغربية الأردن وفلسطين، وتطوق القدس حماية لليهود، حتى يكملوا بناء الهيكل مكان المسجد» .
ويكتمل مسلسله بما صرّح به (ص 84) ؛ فقد زعم: أنّ المهدي يظهر في يوم الثلاثاء الموافق 25 محرم 1420هـ، ويحدد المدة بين ظهور المهدي
_________
= استشرت في مصر خصوصاً، ماذا يمكن أن يقول التاريخ عن أهل هذه الحقبة؟!
ومعذرة مرّة أُخرى على التطويل في النقل، وبقيت معذرتان ألتمسهما من كرم القراء عليَّ:
الأولى: قولي -هنا- «كتابه» ! ولكن «من صَنَّفَ فقد استُهدف» ، و «من صَنَّفَ فقد وضع عقله على طبق» ؛ فانظر أُخيَّ -رعاك الله- إلى ما في هذا الكتاب؛ لترى الكذب والجهل الصراح، والاسم المذكور؛ بالمسلسل و (الفيلم) السينمائي أليق وأجدر!
والأخيرة: أتركها لفطنة القارئ ونباهته، والله الهادي.
(1) نعم؛ يقرر ذلك -كما سيظهر لك في كلام له قريب -من الأحاديث-، ولكن بعبارات المُخْرِجين -بضم الميم، وسكون الخاء (وإيَّاك أن تفتحها) ، وكسر الراء الخفيفة (وإيَّاك أن تثقلها) -، والممثّلين!
ولعل السبب مكشوف، لا يعجز ذكي عن معرفته والوقوف عليه!(2/665)
ونزول عيسى -عليه السلام- بأنها ثمانية أشهر.
وزعم (ص 146) ما يلي:
في 1 ربيع الثاني 1420هـ، الموافق 14/7/1999م ينطلق صارو خ نووي من الخليج إلى أوروبا مستهدفاً الفاتيكان حسب الخطة المرسومة.
وزعم في الصفحة نفسها:
في أغسطس 1999م، الموافق 19 ربيع الثاني 1420هـ، تبسط إيران سيطرتها على معظم دول الخليج، وبعد ذلك يتم إلقاء قنبلة نووية أمريكية تدمر إيران بعد أن دمرت الخليج.
وزعم فيها -أيضاً- ما يلي:
في جمادى ورجب وشعبان (أي: 1420هـ) الموافق من شهر سبتمبر 1999م حتى نوفمبر؛ تبدأ الملحمة الكبرى من مقر قيادة المسلمين في دمشق تحت قيادة المهدي -عليه السلام-.
في 15 شعبان 1420هـ، الموافق 23 نوفمبر 1999م يخرج المسيح الدجال (1) بفتنته الكبرى؛ حيث يدعي الألوهية، ويظهر المعجزات لفتنة الناس.
وزعم في الصفحة التي بعدها (ص 147) أنه:
في يوم الجمعة 1/1/2000م، الموافق 25 رمضان 1420هـ تشرق الأرض بنور النبي والرسول العظيم عيسى -عليه السلام-، ينزل في القدس، والمسلمون بقيادة المهدي، يحاصرهم الدجال هناك.
يدعي أنّ عيسى -عليه السلام- ينزل إلى الأرض سنة 2000م، ثم
_________
(1) لمّح في (ص 39) من كتابه «الأسرار» أنّ الدجال يُعطى الرئاسة في إيران قبل ظهور المهدي، ويُصرّح بأنه (محمد خاتمي) ، ويسمّيه: (آية الله جوربا تشوف) !(2/666)
يقول:
«وهذه النتيجة تكاد تتفق تماماً مع ما يعلنه ويبشر به أهل الكتاب عن طريق الحساب الموجود في كتبهم، وهو ما يعتقده كثير من الرهبان والقادة الكبار في العالم الغربي، وقد توصلنا إلى ذلك -ولله الحمد- عن طريق الاعتماد على أحاديث رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم!!
وعندما يراه الدجال؛ يهرب من القدس متوجهاً إلى أكبر مطارات إسرائيل، وهو مطار اللد الدولي، ولكن عيسى يلحق به قبل أن يقلع بطائرته، ويقتله قرب باب اللد» .
ويدعي (ص 70) :
أنّ وفاة عيسى -عليه السلام- ستكون عام 2007م، وأنّ نهاية عمر الدنيا ستكون -بإذن الله- عند طلوع الشمس من مغربها في عام 2010م.
وأمّا جرأته على تعيين شخصيات هذه الأحداث؛ فأمر عجيب:
فهو يرى أنّ «الأبقع» هو ياسر عرفات، وأنّ الرجل «المشوه» هو الشيخ أحمد ياسين -حفظه الله-، وأنّ «الأصهب» حافظ الأسد، وأنّ «السفياني» هو ملك الأردن (الملك حسين) ، الذي سيبعث جيوشه إلى العراق والمدينة (1) ،
_________
(1) ذكر فهد سالم في كتابه «أسرار الساعة» (ص 78) ما نصُّه: «أنّ السفياني زعيم عربي معاصر يصنعه الغرب -الآن-؛ ليكون ملكاً للعرب في آخر هذا القرن، كما فعلوا مع جده في بداية القرن» .
ثم صرَّح بما ورّى به -هنا- في (ص 113) ، وفي (ص 130) ، وفي (ص 137) قال: «إنه ملك الأردن، وإنه (الملك حسين) » .
ثم يخترع (ص 137-138) تفاصيل عجيبة عن أنّ الملك حسيناً يَبُثُّ جيوشه -بعد موت صدام- إلى العراق، وإلى المدينة، ويتحوّل الشعب الأردني إلى عدوّ لدود، يطالب بمسح العراق من خارطة الوجود. انتهى. =(2/667)
وأنّ «صدام حسين» سيقتل في الكوفة (1) ، وأنّ «عمر البشير» حاكم السودان هو الحاكم العادل المقصود بحديث: «يكون بأفريقية أميراً اثنتي عشرة سنة، ثم تكون بعده فتنة، ثم يملك رجل أسمر يملؤها عدلاً، ثم يسير إلى المهدي، فيؤدي إليه الطاعة، ويقاتل عنه» رواه نعيم بن حمّاد في كتاب «الفتن» (2) .
ومن هذه المراهقة:
ما زعمه أبو محمد جمال بن محمد بن الشامي في كتابه «العالم ينتظر ثلاثاً» (ص 69-70) عن (الدجال) -وقال كلاماً هجراً-، ومما فيه مما يخالف العقل والمحسوس قوله:
«وجود صورة المسيح الدجال على ظهر فئة الواحد دولار» !!
وزعم مراهق آخر في (موقع القلعة العربي) بتاريخ 15/11/1421هـ، وسمى نفسه (نور الدين) ! أنها ستكون أحداث بين أمريكا والصين في وقت قريب، وتنتهي بظهور المهدي من (تايوان) ! هكذا ... المهدي (تايواني) ، قاتل الله الدّجالين!
_________
= قلتُ: من أراد أنْ يكذب، فلينظر في هذه النماذج، وليتعلّم؛ فكاتب هذه السطور أردني، ومن شعب الأردن، وهو ومَنْ حاوليه -كسائر المسلمين- يتأسفون ويتحرقون على ما جرى على أرض العراق، ولم يطالبوا -يوماً من الدهر- بالدعوى الكاذبة المذكورة.
و (الملك حسين) -رحمه الله تعالى- مات قبل صدام! وما بَثَّ جيشاً لمحاربة العراق، فضلاً عن المدينة النبوية، وهذا الكلام هراء، لا يخرج ألبتة من سليم عقل، صحيح رأي، ولكنها (المراهقة) الفكرية! وركوب الأمواج!! لسرقة أموال السذج من الناس بالترويج لهذه الآراء التي فيها اعتداء على الغيب، ولا تنسَ أخي القارئ الحبيب زعمه السابق أنه توَصَّل إلى ذلك (عن طريق الاعتماد على رسولنا العظيم - صلى الله عليه وسلم -) ؛ قاتل الله الأفّاكين!!!
(1) انظر: «أسراره» (ص 131، 137، 140، 141) .
(2) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 621-623) .(2/668)
فصل
في تفسير هذه الظاهرة مع الأدلّة
لا تفسير لهذه الظاهرة -على فرض صدق نوايا أصحابها- إلاَّ بما ورد في مجموعة من النصوص من نزع عقول الناس آخر الزمان عند هبوب الفتن.
أخرج أحمد (4/391-392، 406، 414) -واللفظ له-، والبخاري في «الأدب المفرد» (118) وفي «التاريخ الكبير» (2/12) ، وابن ماجه (3959) ، وأبو يعلى (7228، 7234) ، ونعيم بن حمّاد في «الفتن» (1/30، 41 رقم 10، 11، 48، 68) بسندٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنَّ بين يدي الساعة الهَرْج» ، قالوا: وما الهرج؟ قال: «القَتْل» ، قالوا: أكثر مما نَقْتُل؟ إنا لنقتلُ كلَّ عام أكثر من سبعين ألفاً، قال: «إنَّه ليس بقَتْلِكُم المشركين، ولكن قَتْل بعضكم بعضاً» ، قالو: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: «إنَّه لتُنزعُ عقولُ أهل ذلك الزمان، ويَخْلُفُ له هباءٌ من الناس، يَحْسَبُ أكثرُهُم أنّهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ» .
قال أبو موسى: والذي نفسي بيده، ما أجدُ لي ولكم منها مخرجاً إن أدركتني وإيَّاكم، إلاَّ أنْ نخرُجَ منها كما دَخَلْنا فيها، لم نُصِبْ منها دماً ولا مالاً.
وعزاه الهيثمي في «المجمع» (7/324) للطبراني في «الكبير» ، وقال: «وفيه من لم يُسمَّ» ! وفاته العزو إلى أبي يعلى وأحمد!
قلتُ: الحديث له طرق، وهو صحيح، كما تراه في «السلسلة الصحيحة» (1682) تحت عنوان: (من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم) .
وسبق (1) قول علي -رضي الله عنه-: «جعل الله -عزَّ وجلَّ- في هذه
_________
(1) (ص 539-540) .(2/669)
الأمة خمس فتن ... » وذكر الأخيرة، وقال: «ثم تجيء فتنة سوداء مظلمة؛ فيصير الناس فيها كالبهائم» .
ووصف حذيفة فيما ثبت عنه (1) هذه الفتنة بأنها: (دهماء مجلّلة) ؛ فهي سوداء مظلمة، تدهم الناس جميعاً، يعتريها غموض وخفاء، فكأنّها غُطّت وجُلِّلت، من أشخص إليها، وتعجّل أحداثها، أذهبت عقله، ونسفته نسفاً.
أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (11/359 رقم 20740) ، ومن طريقه نعيم بن حماد في «الفتن» (1/140، 177 رقم 343، 472) والطبراني، وعنه أبو نعيم في «الحلية» (1/273) ، والحاكم (4/448) : أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عُمارة بن عُمير (2) ، عن حذيفة، قال:
«إيّاكم والفتن؛ لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلاّ نسفته، كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة مقبلة، حتى يقول الجاهل: هذه تشبه ... ، وتبين مدبرة» .
وهذا إسناد رجاله ثقات، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فالفتنة: مظلمة، ودهماء، مجلّلة، مشبهة، مقبلة، تجعل الناس كالبهائم، والجاهل من الناس من يتعرض لإسقاط هذا النوع من الفتن على الأحداث، فتُشَبَّه عليه عند إقبالها بالذي يجري، وعند إدبارها تبين على حقيقتها! والسعيد
_________
(1) وتقدم تخريجه (ص 539) .
(2) تحرّف في مطبوع «الحلية» إلى «عمارة بن عبد الله» ، وصوابه المثبت، وهو كوفي ثقة، قال عنه أحمد: «ثقة وزيادة، يُسأل عن مثل هذا؟!» ، ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، وترجمه ابن حبان في «ثقاته» (5/243) ، وابن شاهين في «ثقاته» (891) ، ومات سنة اثنتين وثمانين، فأدرك حذيفة المتوفى سنة 36هـ. وانظر ترجمته في: «تهذيب الكمال» (21/256) ، و «إكمال تهذيب الكمال» (10/22) .(2/670)
من جنّبها، وحفظ عقله حتى يتبين ويتثبت؛ لأنها كالخمر.
أخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/274) عن حذيفة -رضي الله تعالى عنه-، قال: «ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتنة» .
وتأمل قول أبي موسى على إثر ما رفعه في الحديث المتقدم قريباً: «والذي نفسي بيده! ما أجد لي ولكم منها مخرجاً إن أدركتني وإياكم إلاّ أن نخرج منها كما دخلنا فيها» .
وهذا هو معيار السلامة منها، وأما من أُركس فيها، فعلامته:
ما أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/272-273) -أيضاً- بسنده إلى حذيفة على إثر حديث صحيح، قال: « ... فمن أحب منكم أنْ يعلم أَصَابَتْهُ الفتنةُ أم لا؟ فلينظر! فإنْ كان يرى حراماً ما كان يراه حلالاً، أو يرى حلالاً ما كان يراه حراماً؛ فقد أصابته الفتنة» ، وهذا ضابط كلي مهم، من خلاله يُعْرَفُ المفتونون، ويجب على العلماء وطلبة العلم النبهاء، والدعاة الصادقون العملُ على كشفهم، وتقويم اعوجاجهم، والتحذير من سمّهم.
فهم -كما في حديث أبي موسى- مَنْزُوعو العقول، و «يخلف لهم هَبَاء (1)
من الناس» ، وهم حثالة على كثرتهم -لا بارك الله فيهم، ولا رحم فيهم مغرز إبرة-، صفتهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «يحسب أكثرُهم أنهم على
_________
(1) الهباء: ما تسفي به الريح. قاله ابن عباس، علقه البخاري في «صحيحه» في كتاب التفسير (باب سورة الفرقان) بصيغة الجزم، ووصله ابن جرير (19/4) وغيره. وانظر: «تغليق التعليق» (4/270) ، و «فتح الباري» (8/409) .
وقال ابن شميل: الهباء التراب الذي تطيّره الريح؛ فتراه على وجوه الناس وجلودهم وثيابهم يلزق لزوقاً. كذا في «لسان العرب» مادة (هبا) .
قلتُ: وهباء الفتنة يلزق في القلوب لزوقاً، وتراه في المواقف، وعلى أسنّة الرماح، وعلى صفحات الكتب والجرائد والنشرات السيَّارة، وشبكات (الإنترنت) العالمية.(2/671)
شيء، وليسوا على شيء» .
فالفتن التي ستظهر آخر الزمان تُذهب عقولَ طائفة كبيرة من الرجال (1) ، وتصبح هذه العقول معوجَّة (2) ، لا اتّزان فيها، ولا عدل ولا إنصاف، تقتحم المهالك، وتخوض في الفتنة بالفتنة، دون علم ولا حلم، ورحم الله الحسن البصري القائل:
«إنّ الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل» (3) .
فـ «الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن تجيء تقارع المؤمن عن دينه» هكذا قال مطرف بن عبد الله بن الشخير، فيما أسند عنه أبو نعيم في «الحلية» (2/204) وغيره.
فغفل هؤلاء العابثون في أحاديث الفتن، الخائضون فيها للرُّكب عن هذه الحقيقة؛ فظنوا أنها جاءت لهدايتهم! وغفلوا عن أنها قرعت عقولهم، وأذهبتها وأضعفت دينهم وأوهنته، ولا قوه إلا بالله العلي العظيم!
فصل
في تحليل هذه الظاهرة وتأريخها
في أجواء الحوادث الجسام، والفتن العاصفات، تتحفّز القوى النفسيّة
_________
(1) أخرج نعيم بن حمّاد في «الفتن» (رقم 107) عن حذيفة -رفعه-: «تكون فتنة تعرج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً» ، وقال المتقي الهندي في «كنز العمال» (11/179 رقم 31126) : «وهو صحيح» .
قلتُ: ليس كذلك؛ فيه ليث بن أبي سليم -متروك-، وقال فيه: «حدثني الثقة عن زيد بن وهب، عن حذيفة ... » رفعه؛ ففيه جهالة، وأخشى أنْ تكون «تعرج» ، محرّفة عن «تعوّج» . وانظر الأثر الآتي.
(2) أخرج ابن أبي شيبة (15/51) ، ونعيم بن حماد في «الفتن» (رقم 80) ، والديلمي ... -كما في «الكنز» (11/181 رقم 31134) - بالسند السابق إلى حذيفة: «تكون فتنة، ثم تكون جماعة، ثم فتنة، ثم تكون جماعة، ثم فتنة تعوجُّ فيها عقول الرجال» .
(3) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/24) .(2/672)
لاسْتِكْناه الغيب، والوقوف على ما سيجري.
وفي السنة النبوية أحاديث صحيحة كثيرة عن الفتن، وفيها الكثير الكثير من الدّخيل، بل هذا النوع من الأحاديث (أحاديث الملاحم والفتن) كان سبباً لوضع الوضّاعين! لاشتراك الفتن مع الأسباب التي نشأ عنها الوضع؛ مثل: العصبية للفرق المبتدعه، وبعض البلدان أو الأشخاص، من حيث نصرة الآراء والدعاوى، أو الثلب في المناوئ، والرأي المخالف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «منهاج السنة النبوية» (1/306-308) :
« ... وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق، الموافق لصحيح المنقول، وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ووقعت الفتنة، فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة على حين فُرْقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (1) .
وكان مروقها لما حكّم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق.
وحدثت -أيضاً- بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلهية عليٍّ، والمدعين النص على عليٍّ -رضي الله عنه-، السابِّين لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ... ) .
ثم يقول -رحمه الله-: «فهاتان البدعتان؛ بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة.
ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية والمرجئة؛ فأنكر ذلك الصحابة والتابعون، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن
_________
(1) سبق تخريجه.(2/673)
عبد الله، وواثلة بن الأسقع ... » .
لقد تمخضت الفتنة عن شيعة ينتصرون لعليٍّ -رضي الله عنه-، وعثمانية ينتصرون لعثمان -رضي الله عنه-، وخوارج يعادون الشيعة وغيرهم، ومروانية ينتصرون لمعاوية وبني أمية.
فلما لم تسعفهم نصوص القرآن الكريم والحديث دائماً، استباح بعضهم انتحال الكذب، ولجؤوا إلى الوضع في الحديث الذي تأخر جمعه عن القرآن الكريم، حيث ما دون منه حتى نهاية الخلافة الراشدة كان أقل بكثير مما لم يدون، فكانت هذه ثغرة نفذ منها أهل الأهواء، وأولهم الشيعة إلى تحقيق أغراضهم، وكان أول باب طرقه الواضعون هو فضائل الأشخاص، ومثالبهم، ثم أوسعوا بعد ذلك في شتى المعاني» (1) .
والحديث في الوضع والوضّاعين كثير، ومثله الكلام على القصص والقصّاصين، وأُفردت لذلك مصنفات، والذي يهُمّني منها -هنا- في تحليل ظاهرة انتشار الكلام على (الملاحم) و (الفتن) التي برزت أخيراً.
والتركيز على «الدور الذي لعبه القُصّاص في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان كبيراً، والقصص التي تنقل عنهم تشعر بذلك حتى أدى ذلك إلى اتهام غالب القُصّاص، حيث جمْعُ المال غايتُهم، والكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداتُهم ووسيلتُهم، ولقد رويت عنهم أخبار تحاكي الخيال، وحوادث تشبه الخرافات والأساطير» (2) .
ومن الطرق التي ذكرها ابن حبان في مقدمة كتابه «المجروحين» (1/72) عن واحد منهم؛ ممن يختلق ويكذب، وعنده مستند في ذلك، قال:
_________
(1) انظر: «الوضع والوضّاعون في الحديث النبوي» (ص 61-62) .
(2) «الوضع في الحديث» (1/277) .(2/674)
«دخلت باجروان -مدينة بين الرقة وحران-، فحضرت مسجد الجامع، فلما فرغنا من الصلاة قام بين أيدينا شاب، فقال: حدثنا أبو خليفة، حدثنا الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى لمسلم حاجة فعل الله به كذا ... » وذكر كلاماً طويلاً، فلما فرغ من كلامه، دَعَوْتُه، فقلت: من أين أنت؟ قال: من أهل بردعة. قلت: دخلت البصرة؟ فقال: لا. قلت (1) : رأيت أبا خليفة؟ قال: لا. قلت: فكيف تروي عنه وأنت لم تره؟ فقال: إنّ المناقشة معنا من قلة المروءة، أنا أحفظ هذا الإسناد الواحد، فكلما سمعت حديثاً ضممته إلى هذا الإسناد فرويته، فقمت وتركته» (2) .
وأخبار القُصّاص التي ذكرها علماؤنا (3) تعكس مدى تجرئهم على الله ورسوله، ووقوعهم في الكذب والتخرص، ولم يكتف هؤلاء القصاص بالقيام عقب الصلوات، وإراقة ماء الوجه والاسترزاق بالكذب حتى طرقوا باب التأليف وصناعة الكتابة في تنفيق كذبهم ونشر أباطيلهم؛ فقد ذكر ابن الجوزي أنّ قَصّاصاً معاصراً (4) له صنف كتاباً في تلك الترّهات، وذكر من كذبه: أن الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهو مشغول، فلما فرغ من شغله، رفع رأسه، فرآهما، فقام فقبلهما، ووهب لكل واحد منهما ألفاً، وقال: اجعلاني في حل، فما عرفت دخولكما، فرجعا وشكرا بين يدي أبيهما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقال عليٌّ: سمعت
_________
(1) في الأصل: «قال» !
(2) وذكره ابن الجوزي في مقدمة «الموضوعات» (1/74) مختصراً، والسيوطي في «تحذير الخواص» (ص202) .
(3) صنّفوا في ذلك مؤلفات؛ منهم: ابن الجوزي في: «القُصّاص والمُذكّرين» ، والسيوطي في: «تحذير الخواص» ، والعراقي في: «الباعث على الخلاص من حوادث القُصّاص» ، ولابن تيمية: «أحاديث القصاص» ، وجميعها مطبوعة.
(4) سمّاه في كتابه «القصاص والمذكرين» (ص 417) : صهر العبادي.(2/675)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عمر بن الخطاب نور في الإسلام، وسراج لأهل الجنة» ، فرجعا فحدّثاه، فدعا بدواة وقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثني سيدا شباب أهل الجنة، عن أبيهما المرتضى، عن جدهما المصطفى أنه قال: «عمر نور في الإسلام في الدنيا، وسراج أهل الجنة» ، وأوصى أنْ تجعل في كفنه على صدره، فوضع، فلما أصبحوا وجدوه على قبره، وفيه: صدق الحسن والحسين، وصدق أبوهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمر نور الإسلام، وسراج لأهل الجنة» (1) .
ومن العجب أنْ تبلغ الوقاحة بمثل هؤلاء القصاص حتى يسودوا الصحائف بمثل هذا الكذب البارد، الذي يشير كل حرف منه على منزلة مؤلفه، وأعجب منه أنْ يتجرأ هذا الكاذب فيعرض كتابه على كبار فقهاء عصره ليكتبوا عليه تصويب ذلك المصنف، وصدق ابن الجوزي إذ يقول: «فلا هو عرف أن مثل هذا محال، ولا هم عرفوا، وهذا جهل متوفر عُلِم به أنه من أجهل الجهَّال الذين ما شمُّوا ريح النقل، ولعله قد سمعه من بعض الطُّرقيين» (2) .
هذه بعض بصمات القُصّاص التي يظهر فيها الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوضع في الحديث، وقد تركت أثراً سيئاً على المجتمع مما استنفذ جهد السلف في كشفها وبيان عوارها، كما حصل -تماماً- في هذا الزمان مع هذه الدراسات العابثة الغُثائية، غير الجادة، واللا مسؤولة، ورحم الله ابن الجوزي لما قال:
«معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصّاص؛ لأنهم
_________
(1) «الموضوعات» (1/44-45) .
(2) يريد: أصحاب الطرق من المتواطئين على ترويج مثل هذه السموم. وانظر: «الموضوعات» (1/45) ، و «تحذير الخواص» (208) .(2/676)
يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقلّ في هذا» (1) .
قال: «وما أكثر ما يعرض عليَّ أحاديث ذكرها قصاص الزمان، فأرُدّها عليهم، ويحقدون عليَّ، فأُرسل أقول لهم: ما يتهيّأ لكم مع وجود هذا الناقد إنفاقُ زائف» (2) .
قلتُ: هذا في زمان ابن الجوزي، والنقاد والعلماء متوافرون، وأما في زماننا، فواغوثاه! وقد امتنع شعبة بن الحجاج من تحديث القصاص، فلما سئل عن ذلك، أجاب بقوله: «يأخذون الحديث منّا شبراً فيجعلونه ذراعاً» (3) .
وقال أيوب السختياني: «ما أفسد على الناس حديثهم إلا القُصَّاص» (4) .
ومما يلحق بصنيع القَصَّاصين قديماً -إلقاءً وتصنيفاً- ما قام ويقوم به بعضهم من التنقير عن نصوص في كتب فيها تعدٍّ جريء على الغيب؛ مثل: «الجفر» (5) ، وكتب النبوءات، وما في الإسرائيليات، وإسقاطها على الواقع، دون وجود أدله صريحة صحيحة، وأمارات قوية رجيحة.
وصاحَبَ ذلك: شيوعُ المنكرات، وغربةُ الإسلام، وتحقُّقُ بعض ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي فيها ذكر الفساد الخلقي وغيره، والاضطهاد العالمي للمسلمين، والطمع في خيرات بلادهم، وتدهور حال الأمة، وتداعي الكفار عليهم؛ ففزع فريق من الناس -مع قلّة ضبط، وكثرة خبط- إلى أخبار يبحثون فيها عن حَلٍّ، وخروج من الأزمة!
_________
(1) «الموضوعات» (1/44) ، وإذا كان هذا قديماً؛ فإنا وجدناه حديثاً في كذب بعضهم لما ادّعى أنه نقل من مخطوطات لا وجود لها، كما سبق وأن بيّناه.
(2) «الموضوعات» (1/45) .
(3) «القصاص والمذكرين» (308) ، «تحذير الخواص» (277) .
(4) «الحلية» (3/11) ، «القصاص والمذكرين» (308) ، «تحذيرالخواص» (227) .
(5) انظر ما قدمناه عنه في التعليق على (ص 611) .(2/677)
وليس هذا الأمر وليد هذا العصر، بل هو قديم! وكم من راوٍ فضح أمره بمثل هذا الاعتداء على الغيب (1) ! وكم من مُدَّعٍ -قديماً- للمهدوية! وشكى منهم ابن خلدون (2) ، وذكر توقّعات أمثال هؤلاء ممن يتكهنون ويستشرفون الغيب، وقرر قاعدة مهمة، تنطبق على ما رأينا من خوض في أحاديث الفتن بالظنون، فقال بعد نقله نحو ما ذكرنا من نماذج سابقة -فيها تخرص وتكهن-: «إلى كلام من أمثال هذا، يُعَيِّنون فيه الوقت، والرجل، والمكان، بأدلة واهية، وتحكُّمات مختلفة، فينقضي الزمانُ، ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخرَ مُنْتَحل كما تراه من مفهومات لغوية، وأشياءَ تخيليّة، وأحكام نجوميّة، في هذا انقضت أعمارُ الأَوَّلِ منهم والآخر» (3) .
وهناك مظاهر عديدة تشترك في زماننا هذا مع ما ظهر قديماً من أحداث شبيهة تتنزل عليها النصوص؛ منها:
أولاً: أنها تنبؤات فردية وشخصية، تلازم أناساً معينين، لعوامل نفسية، وقد تكون مشبوهة، أو لأطماع دنيوية، تشغل عوام الناس.
وذكر ابن خلدون في مطلع «تاريخه» (1/418-420) نماذج عديدة من صنيع هؤلاء، وكُشِفوا بمضيّ الزمن، قال:
«ذكر شاذان البلخي: أنّ الملَّة تنتهي إلى ثلاث مئة وعشرين، وقد ظهر كذب هذا القول، وقال أبو مَعْشر: يظهر بعد المئة والخمسين منها اختلاف
_________
(1) ستأتيك -إنْ شاء الله تعالى- أمثلة على ذلك.
(2) مع ضرورة التنويه إلى خطئه في تضعيف أحاديث المهدي كلها، وقد رد عليه في ذلك غير واحد، ولأحمد الغماري رسالة مفردة بهذا الخصوص، ولابن خلدون في «تاريخه» ... -ولاسيما المجلد الأول- زَلاّت عقدية، تحتاج إلى تنبيه، مع القول بأن المصلحين والدعاة، وطلبة العلم في أثناء التحصيل بعد الاشتداد، وترسم معالم المنهج الصحيح بحاجة ماسة إلى كثير مما فيه!
(3) انظر الهامش السابق.(2/678)
كثير، ولم يصح ذلك» .
وذكر كلاماً طويلاً عن (الملاحم) ، ووضع بعض الناس مؤلفات لها: نظماً، وزجلاً، ونثراً، وأنها كانت -آنذاك- مشهورة عند أهل المغرب، بل قال (1/420) : «إنّ في بعضها تفصيلاً فيه مطابقة من تقدّم عن ذلك من حدثانه، وكذب ما بعده» .
فالسابقون للأحداث؛ يهمهم ما هم فيه، ويفصّلون فيما سيجري (1) ، ويخدعون الناس في ذلك؛ «لِمَا جُبلت عليه النفوس من حُبّ التنقّل في الأشياء المتجدّدة، التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة» (2) .
ثانياً: هذه النبؤات ليست قائمة على أصول علمية، وقواعد مطردة، ترجع إلى تعليل أو تحقيق، بل يقطع بها عابثون مراهقون، وقد تسبب زيادة طمع الأعداء، ووقوع التربص بهم وببلدانهم، وهي لا تظهر إلا في الساعات الحرجة من تاريخ الأمة، ولما تقف على مفترق الطرق، فهؤلاء يُمهّدون للأعداء بتهيئة النفوس وترويضها إلى نصر دون عناء، وفتح بلاد غير الأعداء! وكَشَفَ عن هذا ابن خلدون، فقال -بعد كلام عن استكناه الغيب، وتطلب معرفته، وبطلان ذلك من النصوص-:
«فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع، وضَعْفُ مداركها مع ذلك من طريق العقل، مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتّفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل، ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له، ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها، وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير
_________
(1) دون حياء، ولا تقوى، ويسحرون الناس في وقت الفتنة، وسرعان ما ينقلب السحر على الساحر.
(2) «البرهان في علوم القرآن» (3/28) للزركشي.(2/679)
خالقها.
ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع، وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء والمتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة، وقد شاهدنا من ذلك كثيراً، فينبغي أنْ تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران؛ لِمَا ينشأ عنها من المضار في الدين والدول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيّاً للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم.
فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما، وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما، فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه، ودفع أسباب الشر والمضار، هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضاره، ولْيَعلَمْ من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحداً من أهل الملّة تحصيلُ علمها ولا ملَكَتها، بل إنْ نَظَر فيها ناظِرٌ، وظن الإحاطة بها؛ فهو في غاية القصور في نفس الأمر؛ فإنّ الشريعة لما حَظَرَت النظر فيها، فُقِدَ الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها، وصار المولع بها من الناس -وهم الأقلّ، وأقلّ من الأقلّ- إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كِسْر بيته، متستراً عن الناس، وتحت رِبْقَة الجمهور، مع تشعب الصناعة، وكثرة فروعها واعتِياصِها على الفهم، فكيف يحصل منها على طائل؟! ونحن نجد الفقه الذي عمّ نفعه ديناً ودنيا، وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة، وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه، ثم بُعْدُ التحقيق والتجميع، وطول المدارسة، وكثرة المجالس، وتعدُّدُها إنما يحذُق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال، فكيف يُعلَمُ مهجور للشريعة مضروب دونه سَدُّ الخطر والتحريم، مكتومٌ عن الجمهور صعبُ المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه، إلى مزيد حَدْس وتخمين يكتنفان به من الناظر؟! فأين التحصيل والحِذقُ فيه مع هذه كلها؟! ومدعي ذلك من الناس مردود على عقبه، ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفنِّ بين أهل الملّة، وقلّة حمَلَته.(2/680)
فَاعْتَبِرْ ذلك؛ يتبيّن لك صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحداً.
ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العربُ عساكرَ السلطان أبي الحسن، وحاصروه بالقَيْروان، وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء، وقال في ذلك أبو القاسم الرُّوحِيُّ -من شعراء أهل تونس-:
أستغفر الله كل حين ... قد ذهب العيش والهناء
أُصبِحُ في تونس وأُمسي ... والصبح للَّه والمساء
الخوف والجوع والمنايا ... يُحدِثُها الهرج والوباء
والناس في مِريَةٍ وحرب ... وما عسى ينفع المِرَاء
فأحمديٌّ يرى عَليّاً ... حلَّ به الهُلْكُ والتَّوَّاء
وآخر قال سوف يأتي ... به إليكم صَباً رخَاء
واللهُ من فوق ذا وهذا ... يقضي لعبدَيْه ما يشاء
يا راصد الخُنَّس الجواري ... ما فعَلَتْ هذه السماء
مطَلْتُمونا وقد زعَمْتم ... أنكم اليوم أمِليَاء
مَرَّ خميسٌ على خميس ... وجاء سبتٌ وأربعاء
ونصف شهر وعُشْرُ ثان ... وثالث ضَمَّه القضاء
ولا نرى غيرَ زورِ قول ... أذاك جهلٌ أمِ ازدراء
إنا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يُستَدْفَع القضاء
رضِيتُ بالله لي إلهاً ... حسبُكُم البدرُ أو ذُكَاء
ما هذه الأنجُمُ السواري ... إلاَّ عَبَاديد أو إماء
يُقضَى عليها وليس تَقضِي ... وما لها في الورى اقتضاء(2/681)
ضلت عقول ترى قديماً ... ما شأنُهُ الجُرم والفناء
وحكَمَتْ في الوجود طبعاً ... يُحدِثُه الماء والهواء
لم تر حلواً إزاء مُرّ ... تغذُوهم تربة وماء
الله ربي ولست أدري ... ما الجوهر الفرد والخلاء
ولا الهَيُولى التي تنادي ... ما لي عن صورة عراء
ولا وجودٌ ولا انعِدام ... ولا ثُبوتٌ ولا انتفَاء
والكَسْب لم أدر فيه إلا ... ما جلَبَ البيع والشراء
وإنما مذهبي وديني ... ما كان للناس أولياء
إذ لا فصولٌ ولا أصول ... ولا جدال ولا رياء
ما تبِعَ الصَّدْر واقتفينا ... يا حبذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلَمُون منهم ... ولم يكن ذلك الهَذَاء
يا أشعَرِيَّ الزمان إني ... أشعَرَني الصيفُ والشتاء
لم أُجْزَ بالشر غير شر ... والخَيرُ عن مثله جزاء
وإنني إن أكن مطيعاً ... فلست أَعصِي ولي رجاء
وإنني تحت حُكْم بار ... أطاعه العرش والثراء
ليس انتصارٌ بكم ولكن ... أتاحه الحُكْم والقضاء
لو حُدِّث الأشعريُّ عَمَّن ... له إلى رأيه انتماء
لقال أخبِرْهُم بأني ... مما يقولونه براء» (1)
قال أبو عبيدة: فهذه التنبؤات لها صلة بالغيب، والمسلم يبرأ من التخرصات والرجم بالغيب، ويعتقد أنّ هذا خلل كبير في عقيدته، قد يخرجه
_________
(1) «تاريخ ابن خلدون» (1/716-719) .(2/682)
من ملّة الإسلام، وعليه؛ فلا دور للعقل في قبول هذه التنبؤات (1) ، وإنْ وقع صِدْقُ بعض المخبرين، فهو فَلْتَةٌ، وليس بناءً على قواعد علمية مطردة، قائمة على بحث وتعليل وتحليل.
ثالثاً: كثير من هذه التنبؤات لا مستند لها من الأخبار والآثار الصحيحة، بل هي منقولة من أخبار القَصَّاصين الأقدمين، وجاء المعاصرون، وتعاملوا معها على أساس غير علمي، سواء في الإسقاط وطريقته (2) ، فضلاً عن التثبت من صحة أصل هذه الأخبار.
ووجه الشبه -في زماننا- في هذه الظاهرة مع من قبلنا:
إنّ هذه الأحداث، تحت إلحاح سؤال العامة، وميل النفس البشرية بطبيعتها إلى معرفة المخبوء تفرز تصوّراً لمجريات ما سيحدث، ويتلمّس لهذا التصوّر صبغة القبول والإذعان وعدم ردّه أو المناقشة فيه، من خلال إلصاقه بالشرع بانضوائه تحت الأحاديث التي فيها ذكر للفتن، فيقع الكذب الصراح على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الرغم من أنّ هذا الدس الرخيص كاد أنْ يتوقّف، إلا أنّ أسبابه لما تجدّدت عاد فظهر في هذه الآونة، وبسبب انتشار القلم -اليوم-؛ فإنّ واضعي هذا الدس مطالبون بمستند، والكتب المطبوعة موجودة في المكتبات العامة، وبإمكان أي واحد الوقوف عليها، فلم يبق متعلَّق لهؤلاء إلا المخطوطات، وهي كثيرة، موزعة في أرجاء المعمورة، والخبراء بها قلّة من الباحثين، فتسلل بعض الكذابين المعاصرين لواذاً إلى هذا الميدان، واقتحموه بهلكة، واخترعوا أسماء مخطوطات ومؤلّفين (3) ، ما لهم وجود، ونقلوا منها
_________
(1) إلا البحث عن صحة الخبر الذي طرق سمعه؛ من خلال قواعد أهل الصنعة الحديثية.
(2) ستأتيك -قريباً- كلمة في اعوجاجهم في الإسقاط، وسقوطهم فيه بالكذب والتحكّم من غير انضباط.
(3) سبق ذكر أمثلة على ذلك.(2/683)
أخباراً صاغوها بعبارات ركيكة، بنوا عليها تنبؤات، سرعان ما ظهر كذبها.
ثمة أمر مهم؛ وهو: أنّ الكذابين طبقات؛ من حيث زمن الوجود، ومن حيث اصطناع الخبر، وتقصّده، وراج على متأخّريهم -دون قصد منهم للكذب- كذبُ متقدِّميهم.
قال ابن الجوزي: «وفي القُصّاص من يسمع الأحاديث الموضوعة فيرويها، ولا يعلم أنها كذب، فيؤذي بها الناس، وقد صنّف جماعة لا عِلْمَ لهم بالنقل كُتباً في الوعظ والتفسير ملؤوها بالأحاديث الباطلة» (1) .
قال: «وإذا كان القُصَّاص كذلك، فكيف لا يُذَمُّون» (2) .
قال: «وأكبر أسبابه: أنه قد يعاني هذه الصناعة جهّال بالنقل، يقبلون ما وجدوه مكتوباً، ولا يعلمون الصدق من الكذب، فهم يبيعون على سوق الوقت، واتّفق أنهم يخاطبون الجهّال من العوام، الذين هم في عداد البهائم، فلا ينكرون ما يقولون، ويخرجون فيقولون: قال العالم؛ فالعالم عند العوام من صعد المنبر» (3) .
قال أبو عبيدة: وقام العابثون الخائضون -هذه الأيام- في أحاديث الفتن مقام القصاصين قديماً، ولا نعلم لواحد من هؤلاء مشاركات جادة في العلم، والبحث عن الأسانيد، وتخريج الأحاديث، وِفْق قواعد أهل الصنعة الحديثية، وراجت بضاعتهم عند العوام، وظنوهم علماء العصر (4) ! فاشتدت الفتنة، وخرّ
_________
(1) «القصاص والمذكرون» (309) ، «تحذير الخواص» (277) .
(2) «القصاص والمذكرون» (309) ، «تحذير الخواص» (277) .
(3) «القصاص والمذكرون» (318) «تحذير الخواص» (277-278) .
(4) حالهم كحال من ترك مجالس العلماء الذين ملأت الدنيا علومُهم، وانتشرت تصانيفُهم، وعُرف تلاميذُهم، وخلد ذكرُهم، وأقبل على أُناس ما ذُكِروا إلا بالمقت والازدراء والبهت والكذب، ولله في خلقه شؤون، وهو -سبحانه- الواقي والهادي!(2/684)
بعضهم صريعاً على اليدين والفم!
ولعل منشأ اهتمام هؤلاء الخائضين بما وجدوه في بطون الكتب؛ توهمهم أنّ كل ما كُتِبَ وقَدُمَ عهده يصير مُسَلَّماً به، مقطوعاً بصحّته!
وهذا خطأ منهجي؛ فالصواب أنّ ما كتبه الناس في الزمان الماضي، هو كالذي يكتبونه الآن، والذي سوف يكتبونه في الزمن الآتي، منه الحق والباطل، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، ومنه ما يكتب عن علم، وما يكتب عن ظنٍّ، وعن جهل!
والقاعدة المقررة: أنّ المكتوب كالمسموع، لا يوثق به إلاّ إذا جاء بسند متّصل، يحتج برواته، ويوثق بهم للعلم بعدالتهم، فما عساه يوجد في الكتب التي ينقل منها هؤلاء الخائضون، من أحاديث وأحداث، تكشف عن المكنون، وتهتك حجب الغيب؟!
فما يوجد فيها -بعد التأكد من صحة ذلك- يعرض على المعلوم من ديننا، وعلى طرق الاستدلال، وصحة الخبر؛ فما وافقه كان له حكمه بقدره، وإلا ضربنا به عرض الحائط، ولا نراه شبهة على المعروف عندنا، بل ما عندنا يكون حجة قاطعة على ما في هذه الكتب من كذب، لا قيمة له في التاريخ فيما ظهر في شبهه ومثله!
«وكيف يثق القلب بنقل مَن كثر منهم الكذب، قبل أنْ يعرف صدق الناقل، وقد تعدى شر» (1) هؤلاء الخائضين إلى غيرهم من العامة، الذين لا يضبطون ولا يتقنون!
ومن أوجه الشبه بين هؤلاء الخائضين وأولئك القصاصين -وبضاعتهم واحدة، وسوقهم رائجة، لكن لا يفلحون، وسرعان ما ينكشفون-: عدم
_________
(1) «منهاج السنة النبوية» (2/467) .(2/685)
الواقعية والمعقولية في النقل والتوقع؛ فهما يغربون في الخيال إلى حدِّ تزييف الخبر وتشويهه، وهم لا يسلمون من الغموض والاضطراب (1) في أحداث الوقائع، أو المعلومات التاريخية، وهذا يجعلهم يخلطون الغثّ بالسمين، ولا يقتصرون على مصادر المعرفة المنهجية، التي تفرض على أصحابها المحافظة على سلامة المعتقد، وصيانة الشريعة من كل إفراط أو تفريط، أو اعوجاج يخرجهم عن جادة الطريق!
وهذه نماذج قليلة، أسوقها لإخواني القراء؛ ليعلموا صنيع علمائنا مع هؤلاء، وتصنيفهم لهم، وحكمهم عليهم؛ ليلحقوا النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه:
أخرج الخطيب في «الجامع» (2/162 رقم 1492) بسنده إلى ابن حبان، قال:
«وجدت في كتاب أَبِي بخطّ يده: قال أبو زكريا -يعني: يحيى بن معين-: كان أبو اليمان يقول لنا: «الحقوا ألواحاً؛ فإنه يجيء ههنا الآن خليفة بسَلَمْيَةَ (2) ، فيتزوج ابنة هذا القرشي الذي عندنا، ويفتح باب ههنا، وتكون فتنة عظيمة» .
قال أبو زكريا: «فما كان من هذا شيء، وكان كله باطل (3) ، قال زكريا: «وهذه الأحاديث كلها التي يحدثون بها في الفتن، وفي الخلفاء، تكون كلها كذب (4) وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء» » .
ثم ذكر بإسناد صحيح عن أحمد بن حنبل يقول: «ثلاثة كتب ليس لها
_________
(1) تقتضي الواقعية الوضوح والسلامة من الغموض والاضطراب. انظر: «في منهج البحث التاريخي» (ص33) ، «نقد الحديث» للعكايلة (ص90-91) .
(2) سَلَمْيَة: بلد معروف بالشام، شرقي مدينة حماة.
(3) هكذا رسمت في الأصل، ولها وجه صحيح، بأنْ تجعل (كان) تامة؛ بمعنى: (وجد) .
(4) هكذا رسمت في الأصل، ولها وجه صحيح، بأنْ تجعل (كان) تامة؛ بمعنى: (وجد) .(2/686)
أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير» (1) .
وقال: «وهذا الكلام محمول على وجه؛ وهو: أنّ المراد به كُتُبٌ مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير مُعْتَمَد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مُصَنِّفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القُصّاص فيها.
فأما كتب الملاحم؛ فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المُرْتَقبة، والفتن المُنْتَظرة غير أحاديث يسيرة اتّصَلَتْ أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضيّة، وطرق واضحة جليّة» .
فهذه الظاهرة قديمة، لها كتبها، ومُروّجوها، وأعلامها، وأساليبها، والعِلْم الصحيح -بقواعده ومنهجيته- بريء منها، وأعلامنا وعلماؤنا، وعلى رأسهم المحدِّثون منهم قالوا كلمتهم فيها، فها هو أبو الخطاب بن دحية يقول على إثر خبر من وضع هؤلاء:
«ومن أسند مثل هذا إلى نبي، عن غير ثقة أو توقيف من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فقد سقطت عدالته، إلاّ أن يبين وضعه؛ لتصح أمانته، وقد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم، وما كان من الحوادث، وسيكون، وجمع فيه التنافي والتناقض بين الضب والنون، وأغرب فيما أعرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يُكَذِّبُ آخِرُهَا أوَّلَها، ويتعذر على المتأول لها تأويلها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة، ومن تكذيب الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، أنّ في سنة ثلاث مئة يظهر الدجَّال من يهودية أصبهان، وقد طعنَّا في أوائل سبع مئة في هذا الزمان، وذلك شيء ما وقع ولا كان، ومن الموضوع فيه المصنوع، والتهافت الموضوع، الحديث الطويل الذي استفتح به كِتَابَهُ؛ فهلاّ اتقى الله، وخاف عِقَابَهُ، وإنّ من أفضح فضيحة في الدين نقلَ مثل هذه
_________
(1) هذه مقولة مشهورة لأحمد، ذكرها ابن تيمية عنه في غير ما كتاب من كتبه؛ مثل: «الرد على البكري» (17-18) ، «مقدمة في أصول التفسير» (21) .(2/687)
الإسرائيليات عن المتهودين؛ فإنه لا طريق فيما ذُكِرَ عن دانيال إلا عنهم، ولا رواية تُؤْخَذُ في ذلك إلا منهم» (1) .
ونحن نردّد خطاب أبي الخطاب، ونوجِّههه لصاحب كتاب «هرمجدون» وأمثاله، ومَنْ صدّق به في يوم من الأيام، لعلهم يرعوون! ونسوق جملةً من صنيع هؤلاء الممخرقين التي تذكرنا بكتاب بـ (هرمجدون) ، لعلهم يتوبون!
قال ابن خلدون بعد ذكره لمعرفة الناس بالمغرب جزءاً منسوباً يسمونه: «الجفر الصغير» ، وما ظهر في دولة بني العباس من المنجِّمين، مَن لهم عناية مميزة بـ (الملاحم) ، وما سيقع في قابل الأيام:
«ثم كتب الناس من بعد ذلك في حَدَثَان الدول منظوماً ومنثوراً ورَجَزاً -ما شاء الله- أن يكتبوه، وبأيدي الناس متفرقة كثير منها، وتسمى الملاحم.
وبعضها في حدثان الملّة على العموم، وبعضها في دولة على الخصوص، وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة، وليس منها أصل يُعتمَد على روايته عن واضعه المنسوب إليه.
فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مُرّانَة من بحر الطويل على رَوِيّ الراء، وهي مُتداوَلة بين الناس، وتحسب العامة أنها من الحدثان العام؛ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل، والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولةِ لِمْتُونَةَ؛ لأنّ الرجل كان قُبيل دولتهم، وذكر فيها استيلاءهم على سَبْتَةَ من يد موالي بني حَمُّود ومُلكِهم لِعُدْوة الأندلس، ومن الملاحم بيد أهل المغرب -أيضاً- قصيدة تسمّى التبعيّة أوّلها:
طربتُ وما ذاك مني طَرَب ... وقد يطربُ الطائرُ المغتَصَب
وما ذاك مني لِلَهْوٍ أراه ... ولكن لتذكار بعض السبب
_________
(1) «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» (716-717 - ط. السقا) .(2/688)
قريباً من خمس مئة بيت أو ألف فيما يقال، ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين، وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره، والظاهر أنها مصنوعة، ومن الملاحم بالمغرب -أيضاً- مُلَعِّبَة من الشِّعْرِ الزجَلي (1) منسوبة لبعض اليهود، ذكر فيها أحكام القِرَانات لعصره العَلَويين والنَّحْسَيْن وغيرِهما، وذكر ميتته قتيلاً بفاس، وكان كذلك فيما زعموه ... » (2) إلى قوله:
«ومن ملاحم المغرب -أيضاً- قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار.
وقال لي قاضي قُسَنْطينيَّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس، وكان بصيراً بما يقوله، وله قَدَم في التنجيم، فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مَقْتُولَ المستنصر، وإنما هو رجل خيّاط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ، وكان والدي -رحمه الله تعالى- يُنشِدُ هذه الأبيات من هذه الملحمة، وبقي بعضها في حفظي ... » (3) .
في كلام كثير له -فيه ذكر لكثير من الملاحم، التي وضعت لسرقة عقول الناس؛ لترويج أمرٍ ما في زمن الفتنة، مِن مثل قوله:
«ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص -هؤلاء- بتونس، فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذِكْرُ محمدٍ أخيه مِن بعده يقول فيها:
وبعد أبي عبدِ الإله شقيقُه ... ويُعرَف بالوثَّاب في نسخة الأصل
إلا أنّ هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه، وكان يمنِّي بذلك نفسه إلى أن
_________
(1) في نحو خمس مئة بيت، كما صرح بذلك في (1/422) .
(2) «تاريخ ابن خلدون» (1/421) .
(3) «تاريخ ابن خلدون» (1/422) .(2/689)
هلك ... » (1) .
رابعاً: قد يقول قائل: ليست جميع الأحاديث التي يستدل بها هؤلاء كما زعمتَ، فبعضها حكم عليها أصحاب الصنعة الحديثية بالصّحة؟!
فأقول: نعم؛ عندهم قليل من هذا الصنف، ولكنه مسوق في أجواء تلك الأخبار التي لا أزمّة لها ولا خطام، وموضوع بين ذاك الركام، على وجه فيه تحريف للكلام، ولعب على عقول السذج العوام، وهاكم معالم هذا التحريف على التمام:
أولاً: فَهِمَ هؤلاء الخائضون العابثون أحاديث الفتن على غير منهج السلف الكرام، وجعلوها أداةً للخنوع والاستسلام، وانتظار ما سيقع بالناس من الفتن العظام، وأخرجوها عن المقصد الأصلي لقائلها -عليه الصلاة والسلام-، من التحذير والحرص على عدم التلبّس بأسبابها، والوقوع في إرهاصاتها، والعمل على البُعد عنها وإبعادها، فقلبوها وغيّروها وحرفوها.
ثانياً: أما التحريف؛ فيشمل: تحريف الألفاظ، وتحريف المعاني.
أما تحريف الألفاظ؛ فواقع عند هؤلاء من أجل المعاني السابقة في أذهانهم، جاهزة الصنع في (مختبراتهم) ، وهذا المثال (2) -من القديم والحديث- ليتّضح المقال:
قال ابن خلدون في «تاريخه» (1/423) -وهو يتكلم عن (الملاحم) -:
«ومن الملاحم في المغرب -أيضاً- (المُلَعِّبَة) المنسوبة إلى (الهَوْثَنيّ) على لغة العامة في عرُوض البلد» وساق ستة من أبياتها، وقال عنها (1/423-424) :
_________
(1) «تاريخ ابن خلدون» (1/423) .
(2) على النوعين: الألفاظ والمعاني.(2/690)
«وهي طويلة ومحفوظة بين عامة المغرب الأقصى، والغالب عليها الوضع؛ لأنه لم يصح منها قولٌ إلاّ على تأويل تحرّفه العامّة أو الحَارِفُ فيه من ينتحلها من الخاصّة، ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلاَّ الله لتَحَلُّله إلى أوفاق عددية، ورموز مَلْغُوزة وأشكال حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة وتماثيل من حيوانات غريبة، وفي آخرها قصيدة على رَوِيِّ اللام، والغالب أنها كلها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي» .
فهذه (الملاحم) و (أصحابها) ، تشبه (الكتب) التي راجت أخيراً و (أصحابها) ؛ فلا يصحّ قولٌ فيها! إلا على تأويل تحرفه العامة، أو الحارف فيه من ينتحلها وينسبها إلى نفسه، ويسوق أحداثاً لم تنشأ عن أصل علمي في الاستدلال.
ومثّل ابن خلدون في «تاريخه» (1/424-425) على هذا بما كان في (المشرق) في زمانه، قال:
«ووقفت بالمشرق -أيضاً- على ملحمة من حدثان دولة الترك، منسوبة إلى رجل من الصوفية يُسمّى البَاجِرْبَقِيَّ، وكلها إِلْغَاز بالحروف، أوَّلها:
إن شئتَ تكسِفُ سر الجَفْر يا سائلي ... مِن عِلْم جَفْرٍ وَصِيٍّ والد الحسن
فافهم وكن واعياً حَرْفاً وجملَتَه ... والوصفَ فافْهَم كفعل الحاذِق الفَطِن
أما الذي قبل عصري لستُ أذكُره ... لكنني أذكُر الآتي من الزمن
بشَهْر بِيبَرْسَ يبقى بَعد خَمسَتِها ... بحاءٍ ميمٍ بَطِيشٌ نامَ في الكُنَن
شينٌ له أَثَر من تحت سُرّته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر والشام مع أرض العراق له ... وأذْرَبيجان في مُلْكٍ إلى اليمن
ومنها:
وآلُ بورانَ لما نال طاهِرُهم ... الفاتكُ الباتِكُ المعنيّ بالسِمَن(2/691)
لخلع سينٍ ضعيف السن سينٌ أتى ... لا لو فاقَ ونوت ذي قرن
قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاءٍ وأين بعدُ ذو سمن
ومنها:
من بعد باءٍ من الأعوام قَتْلتُه ... يلي المشورةَ ميمُ الملك ذو اللسن
ومنها:
هذا هو الأعرجُ الكلبيُّ فاعن به ... في عصره فتَنٌ ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدِّمُهم ... عارٍ عن القاف قاف جدَّ بالفتن
بقتل دال ومثلُ الشام أجمَعُها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن
إذا أتى زُلزِلت يا ويح مصر مـ ... ــن الزلزال ما زالَ حاءٌ غير مُقْتَطِن
طاءٌ وظاءٌ وعينٌ كلُّهم حُبِسوا ... هُلكاً ويُنْفِقُ أموالاً بلا ثمن
يسير القافُ قافاً عند جمعهم ... هَوِّنْ به إنَّ ذاك الحصنَ في سكن
وينصبون أخاه وهو صالِحُهم ... لا سَلَّمَ الألف سينٌ لذاك بُني
تمَّت ولايتُهم بالحاء لا أحد ... من السنين يُداني المُلْك في الزمن
ويُقال: إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هُجرته ... وطول غيبته والشَّظْفِ والزَرَن
وأبياتها كثيرة والغالبُ أنها موضوعة، ومثل صنعتها كان في القديم كثير، ومعروف الانتحال» .
قال أبو عبيدة: ويلحق بهذه (القائمة السوداء) الكتب التي سمَّيناها لك، وما هو على شاكلتها، مما فيه اعتداء على الغيب، ظاهر الصَّنعة، منحول، معروف الانتحال عند أهل العلم خلافًا للجهال!
ومن لطيف ما تُلفَت الأنظار إليه، قول هذا المنتحل في إلغازه:(2/692)
«هذا هو الأعرجُ الكلبيُّ فاعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدِّمُهم ... عارٍ عن القاف قاف جدَّ بالفتن
بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن» .
ونطلب من معاصرينا (1) توظيف هذه الأبيات، وإسقاطها على الأحداث؛ فإنها -وغيرها مثلها كثير كثير- فاتتهم، والأيام حبالى، ولا ندري ما هي نظرتهم إليها، وكيف يفهمونها؟!
ولكن؛ لا تعجل عليَّ -أخي القارئ- سأخبرك الخبر، اقرأ معي ما في كتاب «هرمجون» (ص 36) -تعليقًا وإسقاطًا على مقولةٍ لكعب الأحبار-:
«علامة خروج المهدي: ألوية تُقْبل من المغرب، عليها رجل أعرج من كندة» (2) ، قال -بالحرف-:
«ما كنت أظن أن يختار الأمريكان رجلاً أعرج فيجعلوه في منصب رئيس هيئة أركان القوات المشتركة، بل كنت أقول في نفسي: لعل المقصود بكلمة أعرج أي ضعيف -مثلاً-، أو رأيه عاجز؛ لأنه كان أبعد شيء في ظني أن يسوغ لهم أنْ يجعلوا قائد أعظم قوات عسكرية في العالم أعرج، حتى من باب التشاؤم أن تكون القوات عرجاء عاجزة كقائدها.
فلما رأيت الجنرال: «ريتشارد مايرز» يقبل على عكازين ليعلن للشعب الأمريكي بدء عمليات القوات المشتركة الجويّة والبريّة والبحريّة ضد أفغانستان، قلت: الله أكبر! صدقت يا رسول الله (!!) .
_________
(1) ليس جميعهم! وإنما أهل هذه المدرسة (الإسقاطيّة) فحسب، لا يخفى هذا على اللبيب!!
(2) أخرجه نعيم بن حمَّاد في «الفتن» (رقم 1/271 رقم 776) .(2/693)
إنّ خروج ألوية القوات المشتركة لجيش الغرب (الرايات الصليبية) تحت قيادة الأعرج الكندي لهو بدء الملاحم، وهو -لعمر الله- علامة خروج المهدي -عليه السلام-، وإنْ كنا قد عجبنا من رئيس الأركان الأمريكي الأعرج، فلنعجب من نص آخر رواه نعيم -أيضاً- (ص 174) يصف الأعرج -هذا- بأنه: «ثم يظهر الكندي (الأعرج) في شارة حسنة» ؛ فإذا نظرت إلى «الأعرج» بلباسه العسكرية (1) الحسنة، وما عليه من نياشين وشارات، لا تملك إلاَّ أنْ تقول: سبحان الله!
حقّاً ظهور المهدي على الأبواب؛ فقد ظهر القائد الكندي الجنرال الأعرج» .
قال أبو عبيدة: (الأعرج) هذا (مهم) عند (الخائضين) (المفتونين) ؛ فإنه يوافق مشربهم وطريقة تفكيرهم، فالأول: (كلبي) ، والثاني: (كندي) ! أي: عربي صليبة؛ فهو (كلبي) ، و «هذه النسبة إلى قبائل كلب اليمن (2) ، أو (كِنْدي) -بكسر الكاف وسكون النون (3)
-، و «هذه النسبة إلى كِنْدَة، وهي قبيلة مشهورة
_________
(1) كذا في الأصل!
(2) «الأنساب» (5/85) للسمعاني.
(3) لعل صاحب «هرمجدون» ظنه: (كَنَدي) -بفتح الكاف والنون-، من (كَنَدا) نسبة إلى (البلدة) ، وهذا الظن عندي -على ما فيه- أصوب من شرحه السابق، ولله في خلقه شؤون!
ولا ندري ما صلة هذا (الكندي) بـ (يعقوب بن إسحاق الكندي) (منجِّم الرشيد والمأمون) الذي قال عنه ابن خلدون في «تاريخه» (1/420) :
«وضَعَ في «القِرَانات الكائنة في الملة» كتاباً سمّاه الشيعة بـ: «الجفر» ، باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق، وذكر فيه -فيما يقال- حَدَثَانَ دولةِ بني العباس، وأنها نهايته، وأشار إلى انقراضِها، والحادثةِ على بغداد أنها تقع في انتصاف المئة السابعة، وأنه بانقراضها يكون انقراض الملة، ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب، ولا رأينا مَن وقف عليه، ولعله غَرِقَ في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد، وقَتْلِ المستعصم آخر الخلفاء، وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يُسمّونه «الجَفْر الصغير» ، والظاهر أنه =(2/694)
في اليمن، تفرّقت في البلاد» (1) !
فالخبر المذكور عن كعب -في أحسن أحواله- لا يعدو ذكره لمجرد الإخبار دون تصديق ولا تكذيب، أما اعتقاده، واعتباره حقيقةً مسلّمة، والبحث له عن محل في الحقبة التي نعيش؛ فهذا لا يمكن إلاّ بتحريف، وهكذا كان، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وهذا التحريف واللعب والعبث بالنصوص هو السّمة الظاهرة لهؤلاء، وهذه أمثلة تدلل على ذلك:
نقل الطبري في «تاريخه» (8/145-146) في (حوادث سنة 163) عن أبي بُدَيل -وكان من أصحاب صناعة الدولة-، قال: بعث إليَّ -أي: الربيع والحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه- قال: فجئتُ وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة.
قال: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سِني المهدي؛ فإذا هي عشر سنين، قال: فقلتُ: ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أنّ خبر هذا الغلام يخفى، وأنّ هذا الكتاب يستتر! قالا: كلاّ.
قلتُ: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنيه ما نقص، أفلستم أوّل من نعى إليه نفسه! قال: فتبلّدوا والله، وسُقط في أيديهما!
فقالا: فما الحيلة؟
قلتُ: يا غلام! عليّ بعنبسة -يعني: الوراق الأعرابي، مولى آل أبي بديل-، فأتى به، فقلت له: خطّ مثل هذا الخطّ، وورقة مثل هذه الورقة، وصيّر
_________
= وُضِع لبني عبد المؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحّدين فيه على التفصيل، ومطابقة مَن تقدّم عن ذلك من حَدَثَانه، وكذَّبَ ما بعده» .
(1) «الأنساب» (5/104) .(2/695)
مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقة.
قال: فوالله لولا أني رأيت العشر في تلك، والأربعين في هذه ما شككت أنّ الخطَّ ذلك الخط، وأنّ الورقة تلك الورقة.
قال أبو عبيدة: فهذا أبو بُديل لقَّن هؤلاء ما يُرضي أمير المؤمنين آنذاك، فزوّر (عشر سنين) إلى (أربعين سنة) ! وراجت الأُكذوبة بحسن تقليد الخطّ، فكان ماذا؟ حبلُ كذبٍ قصير، ظهر بعد مدة من التزوير، وشغل أصحابُه العامَّةَ بما يناسبهم من القال والقيل، وملأوا المجالس بالصراخ والنوح والعويل، كما ذكره أبو عثمان سعيد بن عمرو البَرْذَعي في «النصف الثاني من «الضعفاء والكذابين والمتروكين من رواة الحديث» (1) (2/565) ، قال:
«شهدت أبا زرعة، وأتاه أبو العباس الهسنجاني، فكلمه أنْ يَقْبَل يحيى ابن معاذ رجل كان بالري، يتكلم بكلام يشبه كلام منصور بن عمار، أو نحو ذلك، فقال: إنه يقول: أنا على مذهبك؛ فأنا رجل نواح أنوح.
فقال أبو زرعة: إنما النوح لمن يدخل بيته، ويغلق بابه، وينوح على ذنوبه؛ فأما مَن يخرج إلى أصبهان، وفارس، ويجول في الأمصار في النوح، فإنا لا نَقْبَل هذا منه، هذا من فعال المستأكلة الذين يطلبون الدراهم، والدنانير، ولم يقبله» .
فهذا هو منهج هؤلاء: أدعياء العلم والتحقيق، الحائزين على قصب السبق لما يطلبه المستمعون، لا لما يفيدهم، أو يعينهم على مواجهة الفتن بالعلم النافع، والعمل الصالح؛ فهم ينوحون، وترتفع أصواتهم، وتبحُّ حناجرهم بالويل والثبور، والنوح على ما سيقع بالمسلمين.
فهم يدّعون أنهم: ما زالوا مخلصين للإسلام، وهم في حقيقة أمرهم،
_________
(1) مطبوع ضمن كتاب «أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية» .(2/696)
وسوء صنيعهم وطريقة استدلالهم، ومنهجهم في التعامل مع النصوص مثل مَن يضرب بمعوله في أساس صرح شامخ، ثم يزعم أنه حريص على سلامته، عامل على رفع قواعده!
اسمع -بالله عليك- إلى واحدٍ من هؤلاء، وهو يقول -متهدّداً لمن لم يُصدّقه-:
«ومن لم يُصدّقني؛ فسيكون حاله ومآله كشعب (زرقاء اليمامة) ، حينما أبصرت ما لا يبصرون، فأنذرت وحذرت، وكُذِّبت، فكان ما كان مما يمكن أنْ يتكرر مع مطلع شمس يوم قادم، نسأل الله منه السلامة» (1) .
_________
(1) «احذروا المسيخ الدجال يغزو العالم من مثلث برمودا» (ص 97-98) ، ومؤلف هذا الكتاب هو محمد عيسى داود، وهو جريء فيه كجرأته التي نقلنا نماذجَ منها في كتبه الأخرى، فهو فيه صاحب تخريصات وظنون، وتخرصات وتكهنات، لا صلة لها بالعلم، ومنهجه وطرق البحث، وأصالة منهجيته، وهذه نقولات منه أسوقها لك -أخي القارئ- للتدليل على ما ذكرته:
- زعم (ص 23) : أنّ الدجال «من مواليد سوريا، لكنني أرجح أنه يَمَنيُّ المولد» مغالطات بالجملة! وأنه: «تولاه أكثر من شخص بالتبني من اليهود، ووجدوا فيه الطموح الدموي ... إلى أن تبنّته شخصية يهودية في (إنجلترا) ، ونقلته من أرض العرب إلى أرض الغرب؛ لينشأ هناك، ويدرس كل العلوم الحديثة» !
- وزعم (ص 27-30) : أنه متقدم تقدماً هائلاً في شتى العلوم، منها (الطب) ، وأنه: «تعلّم في (إنجلترا) وبرع في علوم الهندسة بكل فروعها، والطب بكل فروعه، وحتى علوم النبات والحيوان، والمعادن، والفيزياء، والكيمياء، والرسم» !
- وزعم (ص 33) أنه: «سيظهر في ثوب حاكم، أو رئيس دولة، وغالباً ستكون (الولايات المتحدة الأمريكية) » !!
- وزعم (ص 46) أنه: «لا يستعبد أبداً أنْ يكون (آدم وايزهاويت) -أستاذ قانون نصراني في جامعة انجولد شتات، ترك النصرانية، وتحالف مع اليهود، وقاموا بتأسيس (مؤسسة روتشيلد) ؛ لأجل تدمير الأديان والحكومات- هو المسيخ الدجال» .
- وقال (ص 112) : «المسيخ الدجال يعشق أمريكا، ويعشق شعبها، وأغلب أتباعه بها، وله قصر رهيب مهيب، لا أدري موضعه بالتحديد، ولكنني بالحدس الإسلامي أقول: إنه في =(2/697)
قلتُ: هذا التنويع والتلون -الذي شهدناه مؤخراً- في أسماء الكتب، وملاحقة الأحداث، ومسابقتها، وتطويع النصوص، وليّ أعناقها، مع التحريف والتغيير في المضمون أو الشكل إنما هو من أجل (الأكل) ليس إلا، وليس فيه نذارة أو تحذير، لا من قبيل ولا دبير، وإنما هو على نهج (الدَّاناليّ) ، وهذا خبره:
حَكَى المؤرّخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيّام المقتدر ورّاقٌ ذكيٌّ يُعرف بـ (الدَّاناليِّ) ؛ يَبِلُّ الأوراق ويكتب فيها بخط عتيق يرمزُ فيه بحروف من أسماء أهل الدولة، ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة والجاه، كأنها ملاحم، ويحصل على ما يريده منهم من الدنيا، وإنه وضع في بعض دفاتره ميماً مكرَّرة ثلاث مرات، وجاء به إلى مُفلِح مولى المقتدر، فقال له: هذا كناية عنك، وهو مفلح مولى المقتدر، وذكر عنه ما يرضَاه، وينالُه من الدولة، ونَصَبَ لذلك علامات يُمَوِّهُ بها عليه، فبذل له ما أغناه به، ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مُفلِح هذا، وكان معزولاً، فجاءه بأوراق مثلها، وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف، وبعلامات ذكرها، وأنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء، وتستقيم الأمور على يديه، ويقهر الأعداء، وتعمر الدنيا في أيّامه، وأوقف مُفْلحاً هذا على الأوراق، وذكر فيها كوائن أخرى، وملاحم من
__________
= (فلوريدا) ، وأعني الأغنياء على السواحل الأمريكية بالذات هم رجاله» !
أقول: سبحان الله! ما هذا الهجوم، وأنى لك أن تقنع القارئ بهذه المعلومات؟! ولو فكر ليقتنع، ماذا يقول عنك؟ وما هي الاحتمالات التي سترد على ذهنه! أترك الجواب للقراء الكرام.
- وزعم (ص 117 وما بعد) : أنّ أسرار (هوليوود) في قبضة رجل هو المسيخ الدجال، وسمّى بعض الممثلين مثل (برت لانكستر) و (كلينت ايستوود) من رجاله!
- وزعم (ص 126) : أنّ للدجال رجالاً أوعز إليهم بإعلان ضرورة هدم المسجد الأقصى للبحث عن هيكل سليمان، قال -بالحرف-: «لكن مهندسيه راحوا مع الحفريات يصنعون الأنفاق المكيفة، والمجهّزة للحياة تحت الأرض؛ لتجميع الأطفال بها، وعمل (كتائب) من الأطفال (اليهود) كرؤساء وقوّاد، والمخطوفين في أسواق رقيق الطفولة، والملقحين (كأطفال الأنابيب) كعسكر، مع تربية (عسكرية) ، لكن (حظائرية) على نهج (مسيخ الدجال) ... » إلخ هرائه وافترائه.(2/698)
هذا النوع مما وقع، ومما لم يقع، ونسب جميعه إلى دانيال؛ فأعجب به مفلحٌ، ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب، وكان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز، والظاهر أنّ هذه الحيلة التي ينسبونها إلى الباجَرْبِقِيّ من هذا النوع.
ولقد سألتُ (1) أكملَ الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالدّيار المصرية عن هذه الملحمة، وعن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية -وهو الباجربقيّ-وكان عارفاً بطرائقهم-، فقال: كان من القلَنْدَرِيَّة المُبتدعة في حَلْق اللحية، وكان يتحدّث عما يكون بطريق الكشف، ويومي إلى رجالٍ معيّنين عنده، ويُلغِزُ عليهم بحروف يُعيِّنُها في ضمنها لمن يراه منهم، وربما يظهر نظم ذلك في أبياتٍ قليلة كان يتعاهدها؛ فَتُنُوقِلَتْ عنه، وولع الناس بها، وجعلوها ملحمة مرموزة، وزاد فيها الخرّاصون من ذلك الجنس في كل عصر، وشغل العامة بفكّ رموزها، وهو أمر ممتنع؛ إذ الرّمزُ إنما يهدي إلى كشفه قانونٌ يُعرفُ قبلَه، ويُوضع له، وأما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم، لا يتجاوزوه.
فرأيت من كلام هذا الرجل الفاضل شفاءً لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة، {وَمَا كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} ، والله -سبحانه وتعالى أعلم-، وبه التوفيق» (2) .
فصل
تأريخ إسقاط النصوص على الحوادث في العصر الحديث وتقويمها
نعم؛ ظاهرةُ تنزيل النصوص -إنْ صحت، أو لم تصح عند وجودها، أو
_________
(1) القائل ابن خلدون، كما سيأتي توثيق ذلك عنه.
(2) «تاريخ ابن خلدون» (1/425-426) .(2/699)
اختراعها- على الحوادث والأشخاص البارزة قديمةٌ، ولكنها غابت في تاريخنا الحديث، وأخذت بالظهور التدريجي في العقد الأخير، ولا سيما في حرب الخليج الثانية (1) والثالثة، وكان لها مظاهر متعدّدة، بدأت بتناقل بعض الأخبار من كتب غير موثقة، كادت أنْ تنحصر في المجالس، مع زيادات -كالعادة- عليها من بعض الإخباريين! ثم دُعِّم ذلك بتوثيق هذه الأخبار من الكتب مع تحريفٍ في النقل، أو تطويع له على حسب ما يجري.
وكان أشهر مثال -آنذاك- ذكر (صادم) -ويراد به عند هؤلاء دون نقاش (صدام) -، وهو حاكم العراق المنخلع عند سقوط بغداد باحتلال أمريكا وحليفاتها في كتاب «الجفر» !
وعند الرجوع إلى النسخ الخطية من «الجفر» ، نجد أنّ الكلام كان في ذكر صفات سيف (علي) -رضي الله عنه-، ضمن بيت شعر، وأنه (صارم) (2) بالراء لا بالدال، فحُرِّف إلى الدال، ثم فسِّر به حاكم العراق.
ثم توالت الأخبار وتدفّقت على وجه مثير للغاية، تارة يذكرون (السفياني) وصفاته، ويتكهنون بإسقاطه على ما جرى من (احتلال الكويت) من قبل العراق برئاسة صدام، وإسقاط ذلك عليه!
وأخذوا يتلمّسون ذكر (أمير الكويت) في النصوص، وتعلّقوا بأشياء عدم (3) ، لا وزن لها في البحث المنهجي العلمي القائم على الجمع والسبر
_________
(1) باعتبار أنّ الحرب الواقعة بين العراق وإيران هي حرب الخليج الأولى.
(2) أفاد الدكتور محمد عويضة أنه تأكد من ذلك بنفسه من خلال الرجوع إلى مخطوطة «الجفر» ، صرّح بذلك في لقاء له مع قناة (الجزيرة) في 27/7/2003م، علماً بأنّ «الجفر» من أصله مكذوب على عليٍّ، وقدمنا بيان ذلك فيما مضى (ص 611) .
(3) سبق (ص 662-664) بيان بعضها، وعوار ما فيها.(2/700)
والفحص والفتش بمعايير أهل النَّقد، وتعدّى ذلك إلى شيء كاد (1) أنْ يستقر عليه هؤلاء الخائضون؛ وهو أنّ (صدام حسين) هو (السفياني) ، وأسهبوا وأفاضوا في ذكر ذلك، وهذه متعلّقاتهم وشبهاتهم (2) :
أولاً: ينسب صدام حسين إلى خالد بن يزيد بن أبي سفيان -كما صرح هو بهذا صراحة-، ولذلك فإنه سيطلق عليه السفياني.
وأما أمه؛ فهي من قبيلة كلب، ويلقب بالأزهر؛ لأنه سيعيد كرامة المسلمين انتقاماً من اليهود، ومن ضمن ما يطلق عليه من الأسماء في كتب السنة أي السفياني، وبالرغم من أن أحاديث السفياني معظمها ضعيفة، ولكن ليست موضوعة؛ فأخذها بعين الاعتبار لا يضر أصلاً من الأصول، وخصوصاً في التوسمات وعِلْم توضيح المستقبل حتى لا نقع في حفر الفتن، وما حذرت منه النصوص، وأحاديث الفتن لها أسباب من عدم قوتها، لا بد أنْ تؤخذ في الاعتبار بسبب قلة الصحابة الذين رووا أحاديث الفتن وعلامات الصحابة؛ أمثال حذيفة -رضي الله عنه-، وعبد الله بن عمرو؛ الذين كانوا يقولون عما أخبر به المصطفى من المغيبات: ... فحفظه من حفظه، ونسيه من نسيه! وأنّ معظم الصحابة كان يهتم بالأعمال؛ لأنهم كانوا في خير القرون وخير الأزمان، وكانوا يدركون ذلك، وأنهم لم يدركوا زمن الفتن العظام.
ومنهم مَن أمسك عن أحاديث، ولم يحدث بها إلا عند موته؛ إشفاقاً على الأمة، وأنهم في كل الأحوال كانوا في زمن الرضوان، وعلّمهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كل شيء إلى أن تقوم الساعة.
_________
(1) نعم؛ كاد، إذ ادّعى بعضهم -زوراً وبهتاناً- أنّ (صدام) هو المهدي، وقدمنا ذلك وبيان ما فيه من فساد. راجع (ص 654) .
(2) من مقال منشور بعنوان: (الرئيس العراقي (صدام حسين) هو (السفياني) المذكور في «كتب السنة» و «التوراة» ، وهل سيحرر الأقصى في معركة (هرمجدون)) .(2/701)
إذاً؛ فالحديث الضعيف يختلف اختلافاً كبيراً عن الحديث الذي لا أصل له، أو الموضوع، أو غير الموجود في كتب الحديث والسنة؛ لأنّ تضعيف العلماء للحديث قد يكون بسبب نسيان أحد رواته، أو شيخوخته، أو كِبَر سنه وخرفه، أو لشروط جامع الحديث أو غيره.
ثانياً: ولد صدام حسين في تكريت، وهي منطقة آشور سابقاً، والذي هو منها كما كان بختنصر، ومذكور -أيضاً- أنه يعظم مدينة ملك بابل، وقد أعاد صدام بناءها عام 1987م - 1407هـ!!!
ثالثاً: اسمه مكون من 8 حروف -كما ورد- ... يُطلق عليه: الجابر، ومنصور، وسيدوس اليهود كطين الأزقة، وهو اسم السفياني، وهو اسم صدام حسين، وهو 8 حروف!!!
رابعاً: يغير مجرى نهرالفرات -كما ورد- ... وقد حدث أنْ غير مجرى الفرات عام 1993م - 1413هـ!!!
خامساً: يخرج عليه رجل من أهل بيته كاسم أبيه -كماورد- ... وقد خرج عليه ابن عمه وزوج ابنته حسين كامل ... وسيعدمهما (1) جميعاً، ثم ينتقم من ابن عمه، وقد حدث بالفعل!!!
سادساً: يحدث حصار العراق في زمنه -كما ورد - ... وهذا ما حصل منذ سنة 1990م - 1411هـ!!!
سابعاً: من أوصافه الجسديه -كما ورد-: أنه عريض الجبهة، أبيض اللون مع اصفرار قليل، جعد الشعر، في إحدى عينيه كسل، وبوجهه بعض آثار الجدري -وتأمل صورته لترى العجب-!!!
ثامناً: يخرج سابع سبعة -كما ورد- ... وهو بالفعل قد خرج في سبعة
_________
(1) في الأصل: «وسيعدمها» !(2/702)
عند قيام ثورة 1968م - 1388هـ بالعراق، منهم: حسن البكر أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة!!!
تاسعاً: ترقى في عهده (1) الظلمة -كما ورد- ... وبالفعل ملئت سماء الكويت أياماً وليالي (2) من اشتعال آبار البترول، وتحولت السماء إلى دخان كثيف تحجب الشمس أثر ظلمه، وعدوانه على الكويت، وبمكيدة لصوص الأقصى!!!
عاشراً: ولقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن السفياني: يدخل الأقصى، وهو شديد الحقد غضبان، فيُمعن فيهم قتلاً، ويعمل فيهم ما لم يحدثه ملك بابل الذي دخلها أول مرة كما ذكر في القرآن.
حادي عشر: يتعرض لحرب أربعينة؛ تظل هذه الحرب أربعين يوماً، يجمع له منها من بلاد العالم، ثم تنفض الحرب بلا خاسر أو رابح، ثم يلتحموا مرةً أخرى، قد يستخدم فيها أعداءه ما لا يعرفه العقل من الأسلحة، فيحدثون دماراً شديداً في العراق، لكن لن يهدأ لهم بال إلا بعد أنْ يظفروا به في شخصه، فإذا نزلوا أرض العراق برّاً والتحم الجيشان أمده الله بالنصر عليهم.
ثاني عشر: وتقع بينه وبينهم معركتان:
[الأولى] : بمنطقة اسمها (عاقركوف) :
وهي محل [في] بغداد الآن، وهي مدينة الزوراء الآن، وسيضرب الروم فيها ضربةً شديدةً حتى يظنوا أنّ السفياني ليس له أثر، وكذبوا، وسيضربون بغداد مدينة يقسمها النهر فينظر أحدهما فلا يجد ما كان في الجهة الأخرى فيقولون: كان هنا بالأمس مدينة. ولكن سيعقد الله في لوائه النصر توطيداً
_________
(1) في الأصل: «عهد» !
(2) في الأصل: «وليالياً» !(2/703)
لتسليمها للمهدي في آخر الزمان، وستصطلح الأمة على المهدي بعد خسف جيش السفياني.
ثالث عشر: في آية عظيمة يأتيه بعدها كل أجناس الأرض: عصائب أهل العراق، ونجباء مصر، وأبدال الشام، حتى يأتيه من أوربا من بني إسحاق سبعين ألف (1) ، يفتحون رومية بالتكبير والتهليل.
رابع عشر: و [الثانية] : (قرقيساء) :
وهي تقع على الحدود السورية العراقية الأردنية عند نهر الخابور؛ فيفتح الله عليه، وينصره عليهم في معركة يقتل فيها أكثر من مئة ألف.
خامس عشر: ثم يدخل عمّون، ويقتل الهاشمي القصير، ويلتف، ويدخل الأقصى في يوم واحد؛ فيقضي على من يقابله من اليهود في معركة ليس فيها أسرى، ويقتلهم قتل عاد؛ فيستعيد القدس، ويأتلف هذا الجيش الصنديد، وينتقم من بني إسرائيل -كما وعدهم الله-.
وفي التوراة تفصيل كثير عن علوّهم وفسادهم في الأرض مرتين، وتسليط أهل بابل عليهم (2) ، ولكن ذكر الله لنا ذلك في سورة الإسراء بنص عام، والتفصيل كما ذكرالله في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ... } الآيات.
ولذلك فإنّ عجوزاً يهودية كانت تبكي بكاءً شديداً عام 1948م - 1368هـ، في حين كان اليهود يرقصون باحتفال إنشاء وطن لهم، فسألوها عن بكائها، فجائت بالتوراة، وقالت: بدأ -الآن- العدّ التنازلي لزوال بني إسرائيل، وحسبت من هذا التاريخ (60) عاماً.
_________
(1) كذا في الأصل!!
(2) في الأصل: «عليه» .(2/704)
وفي التوراة: (وأنت يا ابن إسرائيل عيّن لنفسك طريقين لمجيء الملك من أرض واحدة تخرج الاثنتان ... ) .
ولذلك فإنّ اليهود يعرفون صدام حسين جيداً، وقد ذكروا في مذكرات حرب الخليج ما استطاعوا من إشعال هذه الحرب عن طريق الروس اليهود -الذين كانوا في الجيش العراقي-، واليهود الأمريكان في الكويت من إشعال فتيل الحرب حتى يتخلصوا منه لخوفهم من تحقيق النبوءة المذكورة عندهم!!!
إنه لا يستطيع بشر أنْ يصف حرب (هرمجدون) ؛ فهي حرب لا يتخيلها عقل ... سيُضرب صدام ضربة عنيفة، وتضرب بغداد ضربة لم تخطر على بال!!! ولكن هل سيقضون على صدام؟ الجواب: لا لا؛ لأنهم يعرفون أنه بلحمه وشحمه وصفاته هو الذي سيدوسهم كطين الأزقة، وهو البابلي الذي سيأتي من نفس مكان من انتقم منهم شر انتقام وهو بختنصر: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ... } الآية.
والسؤال الذي يطرح نفسه -الآن- هو: إذا كان بختنصر كافراً، ويعبد النار، وسلّطه الله عليهم، فلا يمانع أنْ يسلط الله على اليهود رجلاً جبّاراً فاجراً يُحدِث فيهم القتل بغير رحمة ولا شفقة، ما لم يتصوره عقل، حتى يدفنوا فيهم شهراً.
وسيشهد التاريخ أنّ الملك الجبار-سبحانه وتعالى- سيسلط على الصهاينة صداماً، ولم يفلحوا هذه المرة -كما اعترفوا سابقاً- توجيهه إلى الدول العربية ليُمضي الله قدره، وما تخبئه الأيام ليس ببعيد!!!
وسيفعل بهم مذابح، وقتلاً في معركة ليس فيها أسرى، وسيمثل بهم أشد مما فعل بهم بختنصر، وأشد مما فعل بهم هتلر هو وأهل بابل، والمذكور عندهم في الكتاب، وستزداد شعبية صدام لما يتلهف الناس عليه من مخلص(2/705)
يخلصهم من الذل الذي لم يحدث للأمة من قبل.
وينصر هذا الدين بكل بر وفاجر! «وإنّ الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (1) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.
وما شاء الله لا راد لقضائه في الكتاب، ولا معقب لحكمه، ولا لقدره، ولا لِمَا أخبر به في كتبه وعلى لسان رسله -سبحانه- كيف شاء وبما شاء، فإذا كان ورقة بن نوفل أخبر الرسول بأشياء في الكتاب، وأنه هو رسول الله، وأنّ جبريل هو الناموس الذي أُنزل على موسى وعيسى، وقال له: (ليتني كنت فيها جذعاً ... ليتني معك إذ يخرجك قومك ... ) ؛ فكذلك السفياني الذي أخبرت عنه التوراة والنبوءات، والتي تنطبق على صدام حسين، وتؤيدها الأحاديث التي ضعفت بسبب ضعف بعض الرواة، والوعد والقدر قبل أنْ يخلق الله السماوات والأرض.
قال أبو عبيدة: هكذا الاستدلال؟! يورد معلومات عن السفياني على أنها أحاديث، وإسقاط دون خجل على شخصية ما (2)
على حسب ما يعنّ للمستدِلّ! وذَكَر عمومات: أحاديث ضعيفة، وتقرير أنها غير الأحاديث
_________
(1) أخرجه البخاري (3062، 4203، 6606) من حديث أبي هريرة، وخرجته في تحقيقي لـ «أحاديث منتخبة من مغازي موسى بن عقبة» (رقم 12) لابن قاضي شهبة.
(2) أذكر أنّ قريباً اتَّصل بي في أزمة الخليج الأولى، وطلب مني بإلحاح أنْ أنظر إلى القمر، فسألته عن الخبر، فأبى أنْ يذكر شيئاً، ففعلتُ ما طلب، ثم سألتُه، فأخبرني أن صورة (صدام) على (القمر) !! وقال مُستنكراً: ألم ترها!
فأصبحتُ في دروسي أمتثل مقولة الشافعي لما تعقب مقولة الليث بن سعد: لو رأيتم الرجل يسير على الماء، فلا تسمعوا له حتى تعرضوا عمله على الكتاب والسنة. فقال: رحم الله الليث؛ فإنه قصَّر، أما أنا فأقول: لو رأيتم الرجل يسير على الماء، ويطير في الهواء، فلا تسمعوا له حتى تعرضوا عمله على الكتاب والسنة.
فأصبحتُ أزيد -على الأمرين المذكورين-: «ولو رأيتم صورته على القمر» تنزُّلاً وعلى افتراض أنّ ما يقوله صحيح! وأنَّى له ذلك!!(2/706)
الموضوعة! وينسى المُسَيْكين أنّ الصفات الواردة جُلها لم ترد في أحاديث أصلاً! وإنْ وردت فهي في أحاديث موضوعة، ولا أصل لها، والتطويل في إثبات ذلك يحتاج إلى تصنيف مفرد (1) .
وهؤلاء عابثون غير جادين، تراه مرة يقرر، ومرة يظن، وإنْ رددت عليه يقول: أنا قلتُ: ربما، لعله، أظن، ومع ذلك يتطاولون، ويردّون على من يناقشهم، فواحد يقول: «لا أُريد أن أُطيل، فهذا الكتاب بين أيديكم، وقد كفيتكم الرد عليه بأفصح لغة علمية، وهي لغة الأرقام، وبأقوى وأصدق المواعيد وهي التاريخ (2) ، وليس على المرجفين أو المتشككين إلا الانتظار لعدة شهور فقط، وتظهر الحقيقة أمام الجميع، إما مع الكتاب أو ضده، فعليهم بالصمت والترقب حتى لا يحرموا غيرهم من فائدة مرجوّة قبل ظهور آية الدخان ... » (3) ، هكذا بكل وقاحة، يكتب هذا عام 1998م، ومضى نحو ست سنوات، وظهر زيفه ودجله، وبعدها سكوت وسكوت (4) ، لا مراجعة؛ لأنّ الناس ينسون، ولا حسيب ولا رقيب!
إنّ من أسوء ما يُصاب به المرء: أنْ لا يشعر بما مُنيَ به من الشذوذ والخطأ، فيزداد سقوطاً بتمرّده واستكباره عن قبول الحق، وبرميه جماعة أهل
_________
(1) الواقع اليوم يردّ عليهم، وجعل احتمالاتهم هباءً، لا وزن لها، وظفرتُ بمقالة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) بعنوان: (بُطلان كون صدام حسين هو السفياني) تنظر على عنوان: www.saaid.net/doat/altnanabi/38.htm.
(2) صدقتَ في هذه؛ فالتاريخ أصدق وأقوى المواعيد، وفُضِحْتَ بهذا، ولا تنسى أخي القارئ ما نقلناه عنه (ص 664-668) ؛ فهناك الأحداث المرتبطة بالمواعيد، بالتأريخين الهجري والميلادي، وأحاط الكذب بأهله من كل مكان.
(3) «أسرار الساعة» (ص 16) .
(4) العجيب أني زوّرتُ حشد طائفة من العابثين بالتراث لفضحهم في كتابي: «كتب حذر منها العلماء» ، ففجأني بعض المخضرمين من الناشرين من أهل الديانة والخير -فيما أظن، ولا أُزكي على الله أحداً- أنّ كثيراً من هؤلاء أسماء وهمية، وراءها ناشرون لا يتقون الله!(2/707)
العلم بدائه، قاعداً تحت المثل السائر: (أوسعتُهم سبّاً، وأَوْدَوا بالإبل) ، وهو مطمئن إلى أننا لا نستطيع أن نساجله في ذلك، وله الحق في هذا الاطمئنان!
وآخر يقول: «لم يعرف العالم كله -بفضل الله- كاتباً أو مُفكراً قال بنظرية وجود المسيخ الدجال في مثلث برمودة، وأنه صاحب الأطباق الطائرة، سوى الكاتب الصحفي محمد عيسى داود» ، وهذه الاختراعات لها (حق) و (براءة) مسجلة، وقد اعتدى عليها بعضهم؛ فقام بسرقتها، وانتحلها لنفسه، وذلك ثابت بكتابين له، تم إبلاغ النيابة العامة عنهما، والويل لك إن لم تصدِّق، فالذي يرفض هذه الاختراعات (الأغبياء والضالون) ، كما صرح بذلك في مقال له نشر في جريدة «صوت آل البيت» عدد شعبان/سنة 1421هـ، (ص 5) ، وفي كتابه «احذروا المسيخ الدجال» (ص 142) .
وليس الحكم على أُناس بأنهم (أغبياء ضالون) من شأن الغبي الضال، والغبي الضال إنما يعلم ذلك منه الذكي العارف، بيد أن الجاهل جهلاً مكعباً -بجهله للشيء، وبجهله لجهله له، وبحسبانه مع ذلك أنه يعلمه فوق علم كل عالم- لا يتحاشى عن تجهيل الأمة بأسرها من صدر الإسلام إلى اليوم، وشذّ هو عن قواعد أهل العلم وتطبيقات العلماء.
وهذا الرجل؛ مهّد المناخ لقبول الناس بفكرة المهدي المنتظر هذه الأيام، ويعمل جهده -مع فريق العمل من البارعين والهواة والمقلدين (1) - لتكريس هذا المعتقد، ويدعمه في ذلك الرافضة، والمحور الذي تدور كتبه عليه تركب على هذا المعتقد، ومن آخرها كتاب: «القنبلة» ، وقرأتُ عنه في شبكة (الإنترنت) ، ما يلي:
«أخيراً سمحت السلطات المصرية بإصدار الكتاب الذي يحمل اسم (القنبلة) (الذي لا يتجاوز عدد صفحاته 260 صفحة - مطبعة مدبولي صغير)
_________
(1) هكذا نعتهم في مقاله المذكور.(2/708)
للمفكر الأديب محمد عيسى داود المتخصص في دراسة الآثار، والتبحر في الإسرائيليات، وتمكنه من عدة لغات منها العبرية، والمستشار الرسمي للمجلس الأعلى لرعاية آل البيت -عليهم السلام- في مصر، والذي يستعد حاليّاً لرئاسة تحرير جريدة صوت آل البيت -عليهم السلام- التي يرأس مجلس إدراتها السيد محمد الدريني.
ويتناول الكتاب قضية الإمام المهدي المنتظر -عجل الله -تعالى- فرجه الشريف-، ونجاح فدائيون (1) من فلسطين وخبراء آثار من تصوير اليهود الذين مسخهم الله في كهف بأم الرشراش المصرية (إيلات المحتلة من قبل إسرائيل) ، ويؤكد الكاتب المفكر إن أم الرشراش هي القرية الوارد ذكرها في القرآن الكريم (القرية التي كانت حاضرة البحر) !
ومرفق مع الكتاب إسطوانة كمبيوترية تتضمن تصوير الكهف من الداخل.
وتعود أهمية هذا العمل المتقن إلى كون كاتبه من الشخصيات اللامعة، والمتخصصة في حقل تعود إلى الجهات الرسمية، (فهو مكتشف نظرية الأطباق الطائرة، والمسيخ الدجال، ومؤلف سلسلة كتب عن الإمام المهدي -عجل الله فرجه الشريف-، ومن أبرزها: (المهدي على الأبواب) ، واكتشاف أمريكا جبل الذهب بنهر الفرات، كما يؤكد أن صدام حسين هو السفياني عدو آل البيت -عليهم السلام-، وله مؤلف في غاية الأهمية عن علم الجفر، وتستضيفه جامعات عالمية لإلقاء محاضرات في هذا الشأن.
هذا؛ وقد ذكر في (العدد الأخير للجيل) ، أنّ الكيان الصهيوني عرض في الأسابيع الماضية على شركات السياحة المصرية لاستخدام ميناء أم الرشراش التي تطلق عليه (إيلات) ، بدلاً من استخدام ميناء العقبة.
_________
(1) كذا في الأصل! والصواب: «فدائيين» .(2/709)
والجدير بالذكر، أنه تشكلت في مصر منذ سنوات جبهة من كافة القوى الوطنية، ومن المجلس الأعلى لرعاية آل البيت -عليهم السلام- من خلال ملتقى بواشق الحسين -عليه السلام- لاستعادة أم الرشراش المصرية المحتلة (إيلات) » .
فهؤلاء الخائضون غالوا في إسقاط الأحاديث على الوقائع، وتعسّفوا في ذلك؛ خدمة لمآرب مشبوهة، واعتمدوا في ذلك على حساب الجُمَّل، ومرويات الرافضة (1) ، والإسرائيليات القديمة والحديثة.
وبقي الأمر على هذا الحال، تُلقى بين الفينة والفينة على مسامع الناس أشياء تدهشهم، وهم على أقسام: المكذِّب -وهم خيرهم وأكثرهم علماً وحلماً-، والمتردد المتشكك، والمُصدّق؛ ومنهم من كان يتنطح في المجالس، ويهرف بما لا يعرف، ويردد غير الذي قرأ أو سمع (2) !
وتشبّع المصدِّقون بمنامات (3) ،..........................................
_________
(1) لا تستغرب أخي القارئ إذا علمت أنّ لـ (ابن داود) كتاباً بعنوان: «أسرار الهاء في الجفر» .
(2) من لطيف ما يذكر بهذا الصدد هذا الخبر -وهو يذكّرني بحال هؤلاء-:
وصف رجلٌ رجلاً، كان يغلط في علمه من وجوه أربعة: كان يسمع غيرَ ما يُقال، ويحفظ غيرَ ما يسمع، ويكتبُ غيرَ ما يحفظ، ويحدِّث بغير ما يكتب. أورده ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (2/146) ، والدينوري في «المجالسة» (رقم 1889، 3050 - بتحقيقي) .
(3) كان أشهرها -تمهيداً للتصديق بالمهدي- رؤيا إرضاع القمر، التي اشتهرت في 7/3/2004م، ووقفت على هذا الخبر في (شبكة الإنترنت) ، أسوقه للفائدة:
«علينا انتظار القيامة قريباً ... هذا ما أكدته شائعة سرت في مصر كالنار في الهشيم ...
مفادها أنّ «المهدي المنتظر» قد ولد في إحدى المدن المصرية، وقد ترتب على تلك الشائعة وقف بثّ برنامج كان يُقدّمه التلفزيون المحلي المصري، لشبهة تورطه في هذه الشائعة، حيث نسب للمتحدث فيه الشيخ محمود الحنفي تفسير رؤيا قصتها عليه سيدة على أنها تعني أن «المهدي المنتظر» قد ولد بالفعل، وأنّ يوم القيامة أصبح وشيكاً، والشائعة مجهولة المصدر تقول: =(2/710)
وتقوى بها الخائضون العابثون (1) ، وكانوا من خلال ذلك كلِّه يُروِّجون لنصر واقعٍ لا محالة للعراق، وخاب الأمل -للأسف-، ووقعت الكارثة، وسقطت بغداد (2) ،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
_________
= إنّ سيدة مصرية اتصلت على الهواء مباشرة بالبرنامج، وقالت: إنها رأت في منامها أنها وضعت طفلاً، ثم شاهدته يصعد إلى السماء، ويرضع من القمر، فطلب منها الشيخ أنْ تقسم بالله ثلاثاً أنّ ما قالته صحيحاً، فأقسمت السيدة، فانبرى الشيخ قائلاً بصوت جهوري: إنّ إرضاع القمر في الرؤيا يعني أمراً واحداً، هو أنّ «المهدي المنتظر» قد ولد بالفعل، وعلينا انتظار يوم القيامة قريباً، ورغم نفي الشيخ الحنفي، وكلٍّ من معدِّ البرنامج والمذيعةِ التي تقدمه (شيرين الشايب) لواقعة اتصال هذه السيدة المزعومة بالبرنامج جملة وتفصيلاً، إلاّ أنّ الناس تعاملت مع الشائعة على أنها حقيقة، التي تحاول السلطات المصرية التعتيم عليها، ونشرت عدة صحف مصرية تحقيقات موسعة حول الموضوع لنفي هذه الشائعة» .
نقلاً عن: «مجلة الوليد» . وانظر هذا الموقع:
(http://www.walid.de/modules.php?name = News&file = article&sid = 481)
(1) قال صاحب «هرمجدون» (ص 56) ما نصه:
«من القرائن التي أعتبرها -بل وأعتز بها- ما أخبرني به رجل مسلم فاضل من «البحيرة» ، لا أعرفه ولا يعرفني، فقد اتصل بي عبر الهاتف بعد ظهور كتابي: «عمر الأمة» ببضعة أشهر، وبشّرني قائلاً: إنه قد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رؤيا يبتسم له ويعطيه كتاب: «عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي -عليه السلام-» ، وقد حلف الرجل بالله أنّ هذه الرؤيا كانت قبل صدور الكتاب بتسعين يوماً، فحكى الرؤيا لصديق له، فلما صدر الكتاب وظهر في الأسواق، أتاه به ذلك الرجل، فأقسم بالله أنه هو هو الكتاب الذي أعطاه له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا، وذكر له كلاماً يسرُّني، إلا أنني أحتفظ به لنفسي، فقد اكتفيت بذكر الشاهد من الرؤيا، وهي أنّ الكتاب وما به من أدلة على قرب النهاية حق -بإذن الله-، دل عليه رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحق، وإنّ آخر الزمان تكثر رؤيا المؤمن، يراها أو تُرى له» .
هكذا «رجل مسلم فاضل» ، لكنه «لا يعرفه» ، وعبر الهاتف، والأمر حتم لازم!!!
(2) كنتُ في مجالسي مع بعض خواصي، أذكر نصر الله -عزَّ وجلَّ- ومقوّماته، وأستبعد وقوعه مع ما ينهى إلى مسامعنا من ظهور المنكرات، وتبنِّي أفكار حزب البعث الكافر! ومع هذا؛ فالتيار والإعصار الذي أمامنا من جيوش الناس قويّ، وأذكر أني أنكرتُ على إمام كان يدعو في قنوته لنصرة (صدام) ، فلما قمتُ بذلك، ثار وثوّر، وأرغى وأزبد، وأصبح يلغز في دعائه على =(2/711)
ولا يسعنا إلاّ أنْ نردد مع ابن الأثير قوله في «الكامل في التاريخ» (12/358-359) :
«لقد بقيتُ عدّة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها؛ فأنا أقدّم إليه رجلاً، وأُؤخّر أخرى، فمَن الذي يسهل عليه أنْ يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومَن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟!
فيا ليت أمّي لم تلدني، ويا ليتني مِتّ قبل حدوثها، وكنتُ نَسياً منسيّاً، إلا أني حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا مُتوقّف، ثم رأيت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمّن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقّت الأيّام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق،
__________
= أمثالي، فالله حسيبه، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا خيراً من هؤلاء الأئمة.
وجمعني مع أقارب لي مجلس يوم الإثنين قبل سقوط بغداد بيومين، وكان جُل الحاضرين يهددون أمريكا بالويل والثبور إن تجرأت على الوصول إلى بغداد، وأنا ساكت، فلما طُلب مني الكلام؛ قلتُ -واللهِ-: افرحوا يوماً أو يومين! ولما وقع ما وقع، أخذتُ أقلّب كتب التاريخ وأنظر فيها، فوجدتُ كلاماً لابن الأثير في «الكامل» (12/495) حوادث (سنة 628هـ) عن الملك (جلال الدين ابن خوارزم شاه) ، قال عنه:
«كان سيئ السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلاّ عاداه، ونازعه الملك، وأساء مجاورته ... وقَتَل في أصفهان فأكثر» ، وقال (12/497-498) :
«لما رأى جلال الدين ما يفعله (التتر) في بلاد ... ، وأنهم مقيمون بها يقتلون، وينهبون، ويأسرون، ويخرّبون البلاد، ويجبون الأموال، عازمون على قصده ... فلما فعل التتر بهم ذلك، ومضى منهزماً منهم، ... لم يعلموا أين قصد، ولا أيّ طريق سلك، فسبحان من بدّل أمنهم خوفاً، وعزّهم ذُلاًّ، وكثرتهم قلّة، فتبارك الله رب العالمين الفعَّال لما يشاء» ، وقال (12/502) في أحداث السنة التي بعدها:
«وخرجت هذه السنة، ولم نتحقق لجلال الدين خبراً، ولا نعلم هل قُتل، أو اختفى، لم يُظهر نفسه خوفاً من التتر، أو فارق البلاد إلى غيرها، والله أعلم» ، وهكذا يعيد التاريخ نفسه، ولله في خلقه شؤون، ثم -بعد تنضيد حروف الكتاب وفي أثناء مراجعته المراجعة النهائية- أُعلن خبر إلقاء القبض على (صدام) ! ولا قوة إلا بالله!(2/712)
وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إنّ العالم مذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم وإلى الآن، لم يُبْتَلَوا بمثلها، لكان صادقاً، فإنّ التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يُدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث: ما فعله بخْت نَصّر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدّس، وما البيت المقدّس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدّس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى مَن قتلوا، فإنّ أهل المدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.
وأمّا الدجال؛ فإنه يُبقي على مَن اتّبعه، ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم» .
وقال عن مجيء (التتر) في (12/375-376) :
«ولقد جرى لهؤلاء ما لم يُسمَع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة (1) حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان، وتالله لا شكّ أنّ من يجيء بعدنا، إذا بَعُد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة يُنكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك، فلينظر أننا سطّرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسّر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دُفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين
_________
(1) ماذا نقول نحن الآن؟! اللهم لطفك وحنانيك!!(2/713)
إلى من لا تتعدّى همّته بطنه وفرجه، ولم ينل المسلمين أذًى وشدّة مُذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دُفعوا إليه الآن» .
فصل
ظاهرة إسقاط الأحاديث الواردة في الفتن على وقائع معينة:
تكييفها، وضوابطها، والتحذير من عبث الخائضين فيها، وتقويم أشهر دراساتهم (1) التي ظهرت حديثاً في فتنة العراق بأزمنتها المتلاحقة
الذي رأيتُه من خلال تتبعي لظاهرة إسقاط الأحاديث على أحداث الفتن: إنّ أصوب الناس فيها أصحاب الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب؛ كان تعامله مع هذه الظاهرة أصوب، وكلما كان عن الحديث أبعد؛ ازداد تورّطاً، وتخبُّطاً، وانكسافاً، وانخسافاً، ونزولاً، وتردّياً، وجهلاً.
* معنى الإسقاط ومرادنا من هذه الظاهرة
الإسقاط في اللغة مأخوذ من سقط الشيء، يسقط سقوطاً، فهو ساقط وسقوط (2) ، والإسقاط تأتي بمعان عديدة؛ منها:
1- بمعنى الخطأ في القول والحساب والكتاب: والسَّقَطُ والسَّقاطُ: الخطأ في القول والحساب والكتاب، وأسقط وسقط في كلامه وبكلامه سقوطاً: أخطأ.
وتكلم بكلام فما أسقط كلمة، وما أسقط حرفاً، وما أسقط في كلمة وما سقط بها؛ أي: ما أخطأ فيها. يقال: أسقط في كلامه، وتكلم بكلام فما سقط
_________
(1) لا تنس ما سمّيناه منها آنفاً، واكتفينا هنا منها بأمثلة قليلة.
(2) «لسان العرب» (7/316) ، و «معجم مقاييس اللغة» (3/86) .(2/714)
بحرف، وما أسقط حرفاً (1) .
2- بمعنى العثرة والزلة: والسَّقطة: العثرة والزلة، وكذلك السِّقاطُ، يقال: لا يخلو أحد من سقطة، وفلان يتتبع السقطات ويعد الفرطات، والكامل من عدت سقطاته وهو مجاز، ويقال: فلان قليل السقاط، كما يقال: قليل العثار (2) .
3- بمعنى عثر: سقط على ضالته: عثر على موضعها ووقع فيها، كما يقع الطائر على وكره. وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله -عز وجل- أفرحُ بتوبة عبدِه مِن أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة» (3) ؛ معناه: يعثر على موضعه ويقع عليه؛ أي: صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به (4) .
4- بمعنى النزول: سقط القوم إليَّ سقوطاً: نزلو عليَّ وأقبلوا، ومنه حديث: «فأما أبو سَمَّال فسقط إلى جيران له» ؛ أي: أتاهم فأعاذوه وستروه.
وسقط الحَرُّ يسقُطُ سُقُوطاً: يكنى به عن النزول، قال النابغة الجعدي:
إذا الوحشُ ضمَّ الوحشَ في ظُلُلاتها ... سواقطُ من حَرٍّ، وقد كان أظهرا (5)
5- بمعنى وقع: سقط الشيء من يدي سُقوطاً بالضم، ومَسقطاً بالفتح، وقع على الأرض، وكل من وقع في مهواة يقال: وقع وسقط (6) .
_________
(1) «لسان العرب» (7/317) ، و «تاج العروس» (19/359 - ط. الكويتية) .
(2) «تاج العروس» (19/363) ، و «مختار الصحاح» (ص 128) .
(3) أخرجه البخاري (6309) ، ومسلم (2747) عن أنس بن مالك.
(4) «فتح الباري» (11/108) .
(5) «لسان العرب» (7/317) ، و «تاج العروس» (19/355) .
(6) «تاج العروس» (19/355) .(2/715)
وفي المثل السائر (على الخبير سقطت) ؛ أي: على العارف به وقعت.
ويقال: سقط الشيء سقوطاً: وقع من أعلى إلى أسفل، كسقوط الإنسان من السطح، ويقال: سقط من كذا في كذا، كسقوط الشخص في حفرة حفرها الغير في طريق عام، وفي المثل: (سقط العشاءُ به على سِرحان) . يضرب للرجل يبغي البُغية فيقع في أمر يهلكه (1) .
6- بمعنى الرفع والإزالة: أسقط اسمه من الديوان: رفعه وأزاله، ويقال: سقط عنا الحر: إذا زال وأقلع، وسقط الرجل: إذا وقع اسمه من الديوان. وقول الفقهاء: سقط الفرض؛ أي: سقط طلبه والأمر به، ومنه قولهم: سقوط الحد بالشبهة؛ أي: امتناع إقامته بسبب الشبهة (2) .
بالنظر في هذه المعاني؛ نجد أن المعنى الرابع (3) والخامس يدلان على معنى الظاهرة التي نتكلّم عنها؛ إذ مرادنا منها: إيقاع الأحاديث والآثار التي فيها إخبار عن أحداث ووقائع مستقبليّة على واحدة نازلة منها، بحيث لا يكون المراد بها إلا هذه النازلة دون سائرها، وكأن هذه النازلة رفعت وأزالت المعاني المتوقعة عن المحل الذي يُنزَّل فيه النص.
ويمكن أن نعرف هذه الظاهرة بتنزيل الأحاديث وما في حكمها، على أحداث لم تقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وقعت بعد موته -عليه الصلاة والسلام-، سواء كان هذا التنزيل على حادثة تم وقوعها، أو ظهرت مخايل ذلك.
وتكون هذه (النازلة) أو (الحادثة) عامة تصيب أمّة أو قطراً، وينجم عنها آثار ظاهرة، ونتائج مهمّة، وقد تكون هذه النتائج -إن صدق التنزيل- منصوصاً
_________
(1) «لسان العرب» (7/317) .
(2) «لسان العرب» (7/316) .
(3) قال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» (3/86) : « (سقط) السين والقاف والطاء، أصل واحد، يدلُّ على الوقوع، وهو مطّرد» .(2/716)
عليها، معروفة بالخبر، إذ المراد من هذا التنزيل غالباً استشراف مجريات أحداث بدت مقدماتها، وظهرت على السطح، وخفيت غالباً حال التنزيل ثمارها وما تتمخّض عنه، استجابة لقوة مركوزة في النفس، تتطلع لمعرفة ما يقع وما سيجري في المستقبل.
ولا صلة لمعنى هذه الظاهرة في مبحثنا هذا بـ (الإسقاط) المذكور في كتب الفقهاء من «إزالة الملك أو الحق لا إلى مالك ولا إلى مستحق، وتسقط بذلك المطالبة به» (1) .
* أهمية المعالم والضوابط لهذه الظاهرة
هنالك معالم وضوابط لا بُدّ من معرفتها في التعامل مع الفتن الحادثة؛ حتَّى يصح الزعم أنّ النصوص تشملها، أو تراد بها؛ وهذه المعالم والضوابط هي المبادئ والخطوات المنهجيّة المترابطة المنبثقة عن خصائص النصّ الشرعي، وطريقة تنزيله؛ بغية الوصول إلى فهم سديد لمراد الله -عز وجل- من النصّ، مع حُسن التعامل مع النصوص بما لا يخرجنا عن المعتقد الصحيح، والمسلّم الثابت في النصوص، ولا يبعدنا عن المقاصد الشرعية، ولا بُد من هذه الضوابط والمعالم لتوفير أرضيّة تعصم -بإذن اللَّه- من الزلل والتعسف والتكلف في فهم مراد الشارع من هذه النصوص.
* تكييف (الإسقاط) وبيان أنه من (ملح) العلم لا من (صلبه)
عمليّة الإسقاط اجتهاد، تشبه تماماً (الاجتهاد التنزيلي) (2) في مباحث (أصول الفقه) ، مع التنويه بأنّ المعاني في المسائل الاجتهادية ظاهرة،
_________
(1) «الموسوعة الفقهية الكويتية» (4/226) ، ونحوها في «موسوعة الفقه الإسلامي» (8/ 233) ، وللدكتور أحمد الصويعي شيلبك «أحكام الإسقاط في الفقه الإسلامي» وهو مطبوع.
(2) عالجه من ناحية أصولية: د. بشير بن مولود جحيش في دراسة مطبوعة ضمن سلسلة «كتاب الأمة» العدد (93) بعنوان: «في الاجتهاد التنزيلي» .(2/717)
والمقاصد غير خفيَّة، والأشباه والنظائر -غالباً- متوفّرة، والجهود قائمة، بخلاف الغيب المطلق الذي تتفاوت أحداثه وحوادثه؛ فيعسُر -أو يستحيل- حصرها في قواعد كليَّة مضبوطة، وهذا النوع من العلوم سمَّاه الشاطبيُّ: (ملح العلم) (1) ،
وهو ما لم يكن قطعيّاً، ولا راجعاً إلى أصل قطعيٍّ، بل إلى ظنّيٍّ، أو
_________
(1) جعل الشاطبي في (المقدمة التاسعة) (1/107 وما بعد - بتحقيقي) من كتابه «الموافقات» العلمَ ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صُلْب العلم: وهو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، والشريعة منزلة على هذا الوجه؛ فهي مطردة وثابتة وحاكمة يُبنى عليها، وهي قواعد معللة مطردة.
والقسم الثاني: المُلَح؛ وهو الذي تكلمنا عنه.
والثالث: ما ليس من صلب العلم، ولا من ملحه؛ وهو ما لا يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يرجع على أصله، أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها، مثل ما انتحله الباطنية، وما يتلمس من علوم الحرف، وعلم النجوم من التكهنات والغيبيات.
وقرر أنَّه قد يعرض للقسم الأول مَن يُعَدّ من الثاني، ويُعرض للقسم الأول أن يصير من الثالث، قال (1/123) : «ويتصوّر ذلك فيمن يتبجَّح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقلُه إلا صغارها على ضد التربية المشروعة» ، وقال (1/124) :
«وإذا عرض للقسم الأول أن يُعدَّ من الثالث؛ فأولى أن يعرض للثاني أن يُعدَّ من الثالث؛ لأنَّه أقرب إليه من الأول» .
قال أبو عبيدة: هذا بيت القصيد؛ فإنّ جماعة عبثوا وخاضوا في أحاديث أشراط الساعة والملاحم والفتن، وصنيعهم فيها صنيع أهل الباطن، وأصبح جهدهم بحاجة إلى تقويم، وانطبق عليهم تأصيل الشاطبي هذا؛ فأخرجوها من (الملح) التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس، إذ ليس يصحبها مُنفِّر، ولا هي مما تُعادي العلوم؛ لأنها ذاتُ أصل مبنيٍّ عليه في الجملة إلى ما ليس من (الصُّلب) ولا من (الملح) ، وإن مالوا بالعوام؛ فاستحسنوا صنيعهم وطلبوه، لا لذاته، ولا لبهائه، وإنما للملابسات التي يعيشونها، ولشُبَهٍ عارضةٍ انقدحت عندهم، واشتباه بينه وبين صنيع الأفذاذ من العلماء ممن تكلموا على أشراط الساعة؛ فربما عدّ بعض المتعجِّلين المتحمِّسين من المطّلعين على كتابات ومؤلفات هؤلاء على أصل؛ فمالوا إليه من هذا الوجه، وحقيقة أصله -كما سيتبرهن لك مما سيأتي قريباً -إن شاء الله تعالى- وَهْم وتخييل، لا حقيقة له، وزاد الطين بِلَّة: =(2/718)
كان راجعاً إلى قطعي؛ إلا أنَّه تخلَّف عنه خاصة من خواص القطعي، أو أكثر من خاصَّة واحدة، فهو مُخَيَّل، ومما يستفزّ العقل ببادئ الرأي والنَّظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلالٌ بأصله، ولا بمعنى غيره، فإذا كان هكذا؛ صحَّ أن يُعَدَّ في (الملح) لا في (الصلب) ؛ لتخلّف خواصِّ (الصلب) في مثله، ومن أهم ذلك:
أولاً: عدم الاطِّراد والعموم؛ فمفردات الحوادث التي قد يصدق عليها نصٌّ ثابت في الفتن ليست مطَّردة ولا عامة في سائرها، وهذا قادح في عدّه من (صلب) العلم؛ لأنّ عدم الاطّراد يقوِّي جانب الإبعاد، ويُضعف جانب الاعتبار، ويقرّبه من الأمور الواقعة فلتة، فلا يوثق به بحيث يُبنى عليه.
ثانياً: عدم الثبوت؛ فإنه إذا حُكم في مفردة أو حادثة صَدَقَ عليها النّص في زمان أو قضيّة أو بلدة، فإنّه لا يطرد في كل حادثة إلا بقرينة، ومن فعل فقد أخطأ، وصنع باطلاً؛ إذ أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عمّ فيما ليس كذلك، فالقيود والأوصاف والأزمنة والأمكنة لها اعتبار في أحاديث الفتن، بها تخص وتقيّد وتعتبر، ولذا فالناظر في أحاديث الفتن يعدم الوثوق بثبوت الحكم واطّراده، وذلك معنى خروجها عن (صلب) العلم.
ثالثاً: عدم الحكم والبناء عليه؛ فالصلب يكون حاكماً لا محكوماً عليه، ويُبنى ويُخرَّج ويُفَرَّع عليه، أما مفردات الوقائع من الحوادث فتفيد الواقف عليها فائدة حاضرة، لا يمكن من خلالها أن يجعلها حاكمة، أو يتوصل إلى مثيلاتٍ لها من خلال ما يمكن أن يتفرع عنها؛ فإنها أصالة ليست موضوعة لذلك.
__________
= ما انضاف إلى ذلك الصنيع من الأغراض والأهواء؛ كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجَعْجَعَة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتّبجّح بأن وراء هذه الأمور مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص، وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يرجع منه صاحبه إلا بالافتضاح عند الامتحان.
وستأتيك (ص 760 وما بعد) كلمة عن آلية الإسقاط عندهم، وأنها قائمة على (التخيل) ، وهناك تفصيل لمعناه وأنواعه، ويظهر منه تخلف خواص (الصلب) عنه، واللَّه الموفّق.(2/719)
* الإسقاط يعتريه خفاء وغموض، وبيان خطورته
من خلال ما مضى؛ يتبيَّن لنا أن الإسقاط لا يكون إلا من مجتهد، وهذا الاجتهاد يجري في محلٍّ فيه غموض وخفاء، ويحتاج إلى علم واسعٍ بالرواية، واستحضار لألفاظ المرويات، دون خلط بين النّص وحقيقته من جهة، والحدث الواقع من جهة أخرى؛ فقد يمكن أن يكون الغرضُ من الإسقاط مدروساً لصنع تصوّر ما، أو يتّخذ وسيلة لتثبيت تصور وقناعة للوصول إلى هدف معين مدروس، وغرض مقصود (1) ، فبدلاً من أن يستنار بهذه الأحاديث في ظلمات الأحداث، إذ تُستبدل لتوظّف في صنع الظلمات، والوقوع في البلبلة والجهالات، وتمرر من خلالها المخططات والمؤامرات!
والأمر المريب فيما قرأنا وسمعنا من أعمال المراهقين العابثين الخائضين: الحزم والجزم بما سيقع على هيئة (بيانات) ، وتجريدها عن الكشف وصحة البحث عما سيقع، واستسلام السذج المطلق لها، وصنع نفسيَّة معيّنة بناءً عليها، وليس مجرد التحفظ، أو حصول حدث ما، ثم البحث عن النص -بعد وقوع الحدث- وإسقاطه عليه، لا؛ إنما هو تخرص وتكهن بالغيب، وبثّ أخبار مصنوعة بين أبناء المسلمين القارئين غير الواعين العالمين، وعزوها إلى مراجع وهمية، غير حقيقية (2) ، وخروجها فجأة، إن كان
_________
(1) ويمكن أنْ يكون من باب إشغال المسلمين الصادقين، وصرفهم بمَلْء مجالسهم بتقرير هذه الترهات، على مبدأ ما حكاه التفتازاني في «شرح المواقف» : «إنّ طائفة من المجوس تذاكروا ما كان لسلفهم من السطوة والملك، وقالوا: لا سبيل إلى مغالبة المسلمين بالسيف؛ لقوة شوكتهم وسعة ممالكهم، لكنا نقاتلهم بتأويل شريعتهم إلى ما يطابق قواعد ديانتنا، ونستدرج به الضعفاء حتى تختلف كلمتهم ويختل نظام وحدتهم، وأول ما وضعوا في مبادئهم أنّ للقرآن ظاهراً؛ وهو المعلوم في اللغة، وباطناً؛ وهو المراد» .
(2) مضت بك أمثلة يعرفها جيداً من يعاني النظر في المخطوطات ويتطلبها من دورها المبثوثة في أرجاء الدنيا، وهذه الأمثلة مضحكة مبكية، ولعلها هي التي أثارت لديّ الدوافع النفسيّة -بعد إعداد العدة العلمية- لتدوين هذه الورقات عن الإسقاط.(2/720)
لها وجود -أي وجود- بالتحريف (1) ، أو التشويه، أو الحذف والبتر، وسبق أن ذكرتُ لك أمثلة على ذلك.
لا يظنّ أحد أنني أتّهم كل من استعجل فأسقط حدثاً على حديث، أو أنني أُبرّئ الصادقين من الوقوع في مثل هذا الخطأ، ولكني أشير بأصابع الاتّهام لمن يؤصّل لذلك على فهم سقيم، واستدلال أعوج بين يدي الأحداث الجسام، وقامت القرائن القوية على تقصد كذبه، وحصول تخطي النصوص عنده دائماً على محور محصور، وإخضاعها لما يجري دون أي معايير علمية، من غير مبالاة لتقويم ما أظهرته الأحداث بمضي الزمان من أخطاء؛ فهذه مظاهر تدعو إلى القلق والانزعاج، وتكدّر صفاء الرؤية الشرعية العقدية، وتشذّ عن مألوف الدين ومعروفه، وما عليه الصادقون من أهل العلم في تعاملهم مع هذه النصوص؛ لأنها جعلت النصوص الشرعية المتعلّقة بعالم الغيب، خاضعة لمحك الواقع، وربطته بعامِلَي الزمان والمكان، وحوّلت النص بقداسته وصدقه إلى واقع محسوس متجسد بواقعة معينة، فإن خاب الظن، وأخطأ الهجس والحدس، فإن ضعاف الإيمان والعقول ينكرون النص؛ إذ قام في مخيلتهم بناء على التسليم بهذا التنزيل، أن مصداقية النص خاضعة لسلطان الواقع، وكانوا أسارى له بفعل قوته الوهمية لا الحقيقية، القائمة على التخيّل، فكيف إنْ صاحب ذلك دعوى إلى حد التهور إلى ضرورة قبول بعض الأخبار المحكوم عليها بالبطلان (2) من غير اعتبار قواعد أهل الصنعة الحديثية، ففي
_________
(1) قد يقع من الصادقين فلتة، ولكن الأصول صحيحة، والتصور بالجملة مضبوط بالنصوص وتأصيلات العلماء، والذي أُراه ضرورة الاستفادة من كتب التاريخ والتراجم في تطبيق قواعد العلم النظرية؛ مثل: مباحث (الردة) وغيرها، فإنه من خلالها نحسن التطبيق، وتتقوى الملكات، ونتجنب العثرات والزلات.
(2) ولكنها -عند مُسقطيها- لها قوة بقوّة تخيّلها، التي قد تصل في بعض الأحايين -لبعض الملابسات- إلى درجة التواتر!(2/721)
هذا كله دعوة إلى التعامل مع النصوص -إثباتاً واستنباطاً- دون منهج علمي، ودعوة إلى الافتئات على النصوص، وربطها بأمور تجريبية تتأثر بالضغوط والقناعات المذهبية، والتصورات الشخصية.
فصل
قيود وضوابط الإسقاط
إن نتيجة مهمة يمكن استخلاصها مما سبق؛ وهي: إنّ هناك قيوداً وضوابطَ، يمكن مِن خلالها القول بجواز إسقاط النص على الحدث، أحصرها في النقاط الآتية:
أولاً: لا بُدّ من التحقق من صحة النّص، والتثبت من ألفاظه وحصر مروياته؛ لتمكن معرفة معانيه على ضوء ذلك.
ومهما بذل الناظر من جُهدٍ في فهم النص، وأخلص وتفانى في سعيه إلى التوصل إلى المراد منه، أو إسقاطه على حدث ما؛ فإنّ سعيَه كلَّه يظلُّ جهداً غير معتبر ولا مفيد، إذا تبيّن أن النّصّ غير ثابت، ولذلك؛ فلكي يستفيد الباحث من وقته وجهده فلا بُدّ له من مراعاة هذا الضابط المهم، وهو أساس كل شيء.
وهكذا يقال في ضرورة جمع الألفاظ والروايات؛ فإن المنصوص عليه مقدّم على الاستنباط، ومهما سعى واجتهد الشارح في توجيه النص وتنزيله؛ فإنه بمجرد ثبوت لفظة أو جملة في رواية أخرى تخالف هذا التوجيه والتنزيل، تجعله في حكم العدم، وهو على أحسن حالاته: اجتهاد مخالف للنص؛ فلا عبرة به، ولا يفرح له!
ونستطيع أنْ نقرر هنا: أنّ هذا الضابط المنهجي مغيَّب تماماً عن كثير من الدراسات التي ظهرت أخيراً عن أشراط الساعة والملاحم؛ إذ رام(2/722)
أصحابها إسقاط هذه الأحاديث على وقائع معيّنة قام في ذهنهم أنها هي المعنية بالنصوص (1) ، فأخذوا يفتشون في بطون الكتب بغية الإسقاط، فأقاموا بناءً على مقدمات غير مسلم بها، ولم يتم -بعدُ- التحقيق في صحتها وثبوتها، فأضاعوا جزءاً وفيراً من أوقاتهم، وأوقات الرادِّين عليهم، المنبِّهين على اعوجاج طريقتهم بسبب عدم مراعاة هذا الضابط الأساس.
ومما ينبغي التأكيد عليه بخصوص هذا (الضابط) ، أنه عند التأكد من عدم ثبوت النص، فإن عمليه الإسقاط تلغى ولا يقام لها وزن.
ثانياً: ترك الاستدلال باللوازم وغير الظاهر، والبعد عن الاجتهاد في ترتيب الأحداث الواردة في النصوص دون دليل، إذ الإسقاط من (ملح العلم) ، مُتخلِّف عنه الثبوت والاطّراد والحكم والبناء عليه، كما قدمناه قريباً.
ومن الواجب: عدم الاعتماد على ترتيب الحوادث التي صحت فيها الأحاديث على تنبؤات الكهنة، وكتب الرافضة، والإسرائيليات؛ فالحوادث شيء، وترتيبها دون دليل بتسلسل معين، شيءٌ آخر، لا بُدّ من التفرقة بينهما، وهذا ملحظ لم ينتبه له كثير من الخائضين، فضلاً عمن لهم مشاركة، ولا سيما في المقالات أو المقابلات عبر (الفضائيات) ، وهذا (الضابط) يناقش فرضية رفض إعطاء مسوّغات ضعيفة وهزيلة باسم عدم تحقق شروط التنزيل لوقائع ظاهر الأمر فيها عدم الالتزام بمفهوم النص، وليس لعدم توفر شروط التنزيل (2) .
ثالثاً: أن يبقى هذا الإسقاط في دائرة التوقّع المظنون، دون أن نتكلَّف إيجادها بإجراءات من عند أنفسنا؛ لأن الوقائع والأحداث أمور كونية قدرية واقعة لا محالة، ولم نخاطب باستخراجها من عالم الغيب إلى عالم
_________
(1) كانت قاعدتهم في ذلك: (اعتقد، ثم استدل) ، والجادة العكس: (استدل، ثم اعتقد) .
(2) انظر: «البعد الزماني والمكاني وأثرهما في التعامل مع النص الشرعي» (ص 167) .(2/723)
الشهادة (1) .
رابعاً: أن لا يؤثّر هذا الإسقاط، والترقّب الذي يترتب عليه، على أداء واجب الوقت، وتكاليف الشرع (2) .
وهذا -مع الذي قبله- تحصيل حاصل، وثمرة حتمية لكون (الإسقاط) من (الملح) لا من (الصلب) ، ويتأكد (القيد الرابع) بحال الصحابة -رضوان الله عليهم-، وسيأتيك قريباً تحت عنوان (كيف ينبغي أن نفهم أحاديث الفتن؟) مزيد إيضاح وبيان.
وأما (القيد الثالث) فهو ثمرة لكون الإسقاط هو (تنزيل) ، كما ذكرناه عند الكلام على (تكييف الإسقاط) ، وبالتالي هو استنتاج قابل للخطأ والصواب، و «لأن أحاديث الفتن لا تحدد الزمان لخروجها، فلو حددت الأحاديث سنوات خروجها لما أصبحت فتناً، ولما وقع فيها الناس وامتحنوا، ولهذا فإن (الفتن) لا تُعرف إلا بعد حدوثها، أما خلال فترة الوقوع فلا يتم تميّزها ومعرفة حقيقتها؛ لهذا يقع الإنسان فيها من حيث لا يدري، ويتم امتحانه، وبالتالي تتحقق سنة الله التي جعلها غاية لوجود هذه الفتن» (3) .
خامساً: الذي يقوم بالإسقاط عالِم مشهود (4) له، إذ الإسقاط أدقّ تفسيرٍ وشرحٍ للنَّص، فهو حصرٌ لمعنىً في حادثة معيّنة، ولهذه الحادثة نظائر فيما مضى، وقد يتخلّف عنها وصف، أو ذكر زمان أو مكان، أو شخص له ذكر في النص؛ فالهجوم بمجرد المشابهة والتخيُّل دون التأنّي ليس من المنهج العلمي، ولا سيما أنّ الحوادث لا تنتهي!
_________
(1) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 696) .
(2) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 697) .
(3) «مختارات من أحاديث الفتن» (ص 45) .
(4) انظر ما سيأتي قريباً بخصوص صفاته.(2/724)
وينبغي أنْ يراعي مَن يقوم بذلك: التزام التجرد والموضوعية في فهم النصوص؛ بمعنى: «يجب أنْ لا يخضع [النص] لأيّة مقررات سابقة، أو رواسب قديمة، أو مواقف ممهّدةٍ سلفاً، بل يجب أن ينطلق فهم هذا النص من النص نفسه، وينبغي أنْ يستمد أيُّ فهمٍ صلاحيتَه وسلامتَه من النظر الأمين فيه، وليس مقبولاً أنْ يكونَ فهمُ هذا النص أسيرَ المواقف والرواسب والمقررات السابقة القديمة؛ وذلك لأنّ الأفهامَ التي تنطلق في أساسها من مواقف موافقةٌ، أو مناوئةٌ، من النادر أنْ يُوفَّق إلى الوصول إلى المراد الإلهي من نصّه، بل كثيراً ما تتميز بالإسقاطات والتكلف، ولهذا فإنه لكي يسلم الاجتهاد في فهم النص الشرعي؛ فإنّ على المجتهد أنْ يلتزم بهذا الضابط المنهجي: التجرّد والموضوعيّة.
ومرادنا من (التجرد) : هو تخلي المجتهد عن جميع مقرراته السابقة، ومواقفه المتعددة، وتوجهُه إلى النص الشرعي بعقلية نزيهة، تهدف إلى التوصل إلى المراد الإلهي بغض النظر أن يكون ذلك المراد الذي سيتوصل إليه موافقاً لمقرراته السابقة، أو مناوئاً لها.
وأمّا مرادنا بـ (الموضوعية) : فهي تجرّد المجتهد مِن الذّاتية، ومِن التحيّز لآرائه السابقة، ومقرراته القديمة، وتميزه بالأمانة والاستقامة عند الاجتهاد في فهم نص من النصوص؛ بحيث يجعل التوصل إلى المراد الإلهي من نصه هدفه ومرماه في اجتهاده.
وتكمن أهمية هذا الضابط المنهجي في كونه الضابط المظلوم (1) ضمن ضوابط الاجتهاد في فهم النص المنهجية، إذ إنه كثيراً ما يُغْفَل، ويُهْمَل ولا يُذكرُ إلا نادراً، وبسبب إهماله شاع التفسير السياسيّ والمذهبيّ للنص الشرعي
_________
(1) يمكن أن تعتبر الدراسات الحديثة التي فيها إسقاطات سخيفة؛ أنموذجاً بارزاً، ومَعْلماً ظاهراً لهذا الظلم، ويتبرهن لك ذلك بأمثلة مضت.(2/725)
-قرآناً وحديثاً-، ولو استُحْضِر هذا الضَّابط المنهجي المهمّ عند الاجتهاد في فهم نص من نصوص الوحي -كتاباً وسنة-؛ لما انتشر بين المسلمين التفاسير الخادمة للتوجهات، والأفكار، والمذاهب، والمشارب ... ، بل إنّ أهمية هذا الضابط تتجلى أكثر في كونه المنهج الذي التزمه الأصحاب -رضي الله عنهم- عند تعاملهم مع النص الشرعي، ممّا جعل فهمهم له فهماً لا يُدارى، ولا يُضاهى؛ إذ كان الصحابي يبذل ما وَسِعَه من جهد في فهم النص الشرعي، دون أنْ يجعل مواقفه أو اتجاهه حاكماً على فهمه، بل كان النص الشرعي هو الذي يكوِّن له مواقفه، ومقرراته، وهو الذي على ضوئه يتخير مذهباً، أو ينتهج منهجاً معيَّناً (1) ، ولذلك سلم فهمُهُم لمراد الشارع من نصوصه، ولم يظهر في أيامهم ولا في تفاسيرهم أيُّ لون من ألوان التفسير السياسي، أو المذهبي للنص القرآني أو النبوي، وإنّما ظلّت أفهامُهم للآيات غيرَ متأثرةٍ بأيِّ موقف من المواقف المؤيدة أو المناوئة ...
وعليه؛ فإذا ما تجاوز المجتهد في اجتهاده هذا الضابط المنهجي، فحدِّثْ ولا حرج عن التأويلات الجائرة الخائرة في البُعْد عن مراد الشارع من نصوص وحيه -كتاباً وسنةً-، بل إنّ مجتهداً يأتي إلى النص الشرعي ورأسُه مليء بطائفة من التصورات والمواقف والمقررات والرواسب؛ فإن الفهم الذي يتوصل إليه لا يعدو سوى أنْ يكون جملة مِن تصوراته، أو طائفة مِن مقرراته، ولا يمكن أنْ يَهدِيَه ذلك الفهمُ إلى مراد الشارع -جلَّ جلاله-.
إنَّ هذا الأمر مُشاهد على مستوى الكتب البشرية؛ نعني: أنه لو أنّ مؤلفاً نظر في كتاب -وفي خلده أفكارٌ، وتصوراتٌ مقررة- فإنّ فهمه لذلك الكتاب سيتأثر بطريقة مباشرة وغير مباشرة بأحكامه الأولية المقررة، وتصوراته الموجّهة لتفكيره ومنهجه، مما يُفقده القدرة على التوصل إلى حقائق ما يحمله
_________
(1) هذا مرادنا من (استدل، ثم اعتقد) .(2/726)
ذلك الكتاب. وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان، فما بالك لو كان ذلك النص الذي ينظر فيه الإنسان نصّاً شرعيّاً يتميز بأسلوب مرن يمكن للمرء أن يخضعه تعسفاً لمقرراته وتصوراته، ويمكن لغيره -هو الآخر- أنْ يجعله مؤيِّداً وسَنَداً لاتجاهاته وأفكاره.
لذا؛ فإنّنا نرى أنّه لا مَفَرَّ للمجتهد الذي يسعى إلى التوصل إلى حسن فهم الوحي -كتاباً وسنةً- من التقيد والالتزام بهذا الضابط المنهجي، ولا سبيل إلى الوصول إلى المراد الإلهي من النص سوى اتباع هذا الضابط، وسوى تجريد الفهم والاستنباطات من الذاتية، والتحيز، والاستدلالية، وبهذا وحده يجد المجتهد نصّاً قادراً على انتشال البشرية من براثن الضياع والتخلف، والأمراض الخلقية والنفسية، والأزمات الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية!
إنَّ غياب هذا الضابط في تعاملات كثير من متعصبي الفرق والمذاهب والاتجاهات مع النصوص الشرعية، أدَّى إلى استجرار النص الشرعي إلى جميع ساحات الصراع الفكرية والعلمية والسياسية ... إلخ استجراراً تعسفيّاً لتأييد مذهبٍ، أو منهجٍ فكري، أو عقدي، أو فقهي، وما ذلك إلا بسبب عدم تجرد المتفهّم من الذاتية والتحيز والتعصب» (1) .
ويجد المتمعِّن في كثير من دراسات المعاصرين في إسقاط الأحاديث على الأحداث، أو على ما استجد من اختراعات؛ أنّ أصحابها ما استناروا بهذا الضابط المنهجي، ولم يجرِّدوا أنفسهم من صبواتهم ورغباتهم، ولذا نجدهم أخضعوا النصوص لتصورات ومُنْطَلَقات وأفكار وتخرّصات راجت في أوقاتهم بتأويل جائر خائر بائر حائر، خالفت المقاصدَ الشرعيّة الكليّة، والضوابط المنهجيّة للتعامل مع النص، ولم يحققوا الغاية المأمولة من تجسيد
_________
(1) «في ضوابط منهجية للتعامل في النص الشرعي» (ص 33-34) .(2/727)
معاني هذه النصوص بحسن تصوّر، وإنما كان ديدنهم وشعارهم إسقاطاً لشيء بيّتوه في أنفسهم في وقت صعب بتهوّر.
ومن الأهمية بمكان: أنْ يراعي المجتهدُ العدلَ في فهمه؛ بحيث يُبقي على مراتب النصوص كما وصلتنا، وأن يلحظ تعدد الأفهام والاجتهادات في تفسير النصوص التي ربّما قد تتدخل الظروف والبيئات في تكوينها وإفرازها، كما سبق بيانه.
«وبما أنّ الظروف والبيئات والحياة نفسها في تغيُّر مستمر، وتطوّر دائم، فإنه ليس من المقبول منهجيّاً إلباس فهم متأثر بظروفه وبيئته بلباس الديمومة، والعصمة، والأبدية، والحيلولة دون أي فهم آخر منبثق عن بيئة وظروف متغايرة، ومختلفة عن ظروف وبيئة الفهم الأول، ولن يكون للمرونة والسَّعة أيُّ معنًى إذا تحول النص الظنيُّ -بسبب اجتهادٍ- إلى نصّ قطعيٍّ في حق غير المجتهد ... وبالمقابل ينبغي الإبقاء على النصوص القطعية قطعيّةً؛ فلا ينالها يد التغيير والتبديل فيتحول بسبب اجتهادٍ إلى نصوص ظنيّة، بعد أن كانت في أصلها نصوصاً قطعيةً.
والسبب في هذا هو أن القطعي من النصوص الشرعية ثابتٌ وغير متغير، ولا يحقُّ لسُنَّة التغيّر والتبدُّلِ والتّحوُّرِ والتطوُّر لأن تجري عليه؛ لأنه من وراء تلك السنة، وجيء به مخاطباً وراء البيئات والظروف والأحوال والعوائد، ولذلك لا يؤثر فيه أي من هذه الأمور، وإذا ما تعامل معه المجتهد مثل تعامله مع الظني من النصوص، فإن مآلَ ذلك إعادةُ النظر في جميع أحكام الدين، ونقضُه من أساسه، والانتهاءُ في نهاية المطاف إلى المروق من هذا الدين، وتبديله بشطحات العقول، وبائسات الأفكار والتأويلات الجائرة الحائرة الخائرة!
إنّ إدراك هذا الضابط المنهجي في فهم النص الشرعي ينبغي أنْ يقوم على إدراك البعد الزمنيّ للأفهام، والتمييز بين ما كان من الأفهام ظرفيّاً، وما(2/728)
كان منها فوق ظرفيّ، وما لم يتمكن المجتهد من إدراك هذا الأمر؛ فإنّ اجتهاده يظل ذا صفة تخبطية غير موضوعيّة، ولا منهجيّة» (1) .
ونُقرر هنا بكل أريحية؛ أنّ كثيراً مِن الدراسات التي اعتنت أخيراً ... -وسبق ذكرٌ لبعضها- في إسقاط الأحداث على الأحاديث -أو العكس- بعيدةٌ عن هذا الضابط: (الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا) ، ولذا وجدنا فيها تخبطاً ولا موضوعية، والأمثلة السابقة أكبر شاهد على ذلك، واللَّه الموفّق.
إذا عُلِمَ هذا؛ تقرر تعذُّر الرسم التفصيلي لمعرفة مجريات الأحداث آخر
_________
(1) «في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 36) ، ومراعاة ما سبق تعصم المجتهد من تسليط سيف الإجماع على الآراء المخالفة، وتمنع من دعاوى غلق باب الاجتهاد والعكوف على آراء مذهبية والتعصب لها، والجمود في شروح أحاديث (الفتن) على كلام السابقين! وحصر الحق فيها!
ومما ينبغي أن يذكر هنا شبيه ونظير لما نحن بصدده، يظهر لنا من خلاله تأكيد المراد من سوق هذا الكلام هنا، وهو يتعلّق ببعض الأمكنة التي خصها الشرع بأحكام لا نزاع فيها؛ أعني: تخصيص قدر معين من الأرض المحيطة بالمسجدين: الحرام والنبوي، بأحكام لا تسري إلى ما جاورها، فهذا الظرف المكاني يشبه ما نحن بصدده من الظرف الزماني، فالكلام في هذا المقدار يدور مع التسليم، والتلقِّي، ويقول في هذا الفيروزآبادي في كتابه «المغانم المطابة في معالم طابة» (1/290-291) :
«ثم اعلم أن العقول البشرية عموماً قاصرة عن إدراك حقيقة معنى الأحكام المتلقاة عن النبوة؛ لأنها واردة عن طور فوق العقول البشرية، وإنما تظهر لائحةً من أنوارٍ شوارقُ مطالعها مخصوصٌ من صنائن الله -تعالى-، وذلك بإدراك القلوب الربانية والفهوم الإيمانية، لا بالأفكار العقلية والنفوس البشرية، ولذلك يرى أهل التوقيف من علماء الظاهر إذا مروا بشيء من ذلك أضربوا عن الخوض في سبيله، وتجنبوا طرق تعليله، وتلقَّوه حُكماً مقبولاً عن الله -تعالى- ورسوله، فافتخروا بقبوله، ومن أراد غير ذلك لم يبرح في تحيُّره وخموله» .
وهكذا يقال في أحاديث الفتن، فلا بد لنا من النصوص للتّسليم، بالمقدار والصفة التي وردت، دون تجاوز ذلك، والله الموفق.(2/729)
الزمان، وبالتالي لا يمكن التخطيط وفق ما سيقع، إلا فلتات يكون لمن وصَفَهم حذيفة بـ: «قلوبهم من ذهب» (1) ، من غير إشغال الأمة بهذا، أو جعله من المسلَّمات (2) ! ومنه يُعلم غلوُّ جماعةٍ من الغيورين لَمّا راحوا يُقرِّرون ضرورة امتداد الاجتهاد إلى جميع مجالات الحياة، واستشراف المستقبل من خلالها (3) ، وهذا أنموذج من ذلك:
يقول بعض الباحثين بعد إيراده مجموعة من أحاديث الفتن:
«فإنّي لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أنْ أستقصي أو أنْ أستوعب، وإنّما هي شذرات منها أردت أنْ أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه أحاديث الفتن، وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.
لقد ألف كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ولكن مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل مَن أوتي فهماً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصيرةً في أحداث التاريخ والواقع.
لقد ربط ابن كثير في «البداية والنهاية» بين أحاديث الفتن، ولكنّه وقف في ذلك على عصره، وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل قائلاً يقول: أيُّ فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط والتنظيم الدقيق؟! أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع، أو الاستنامة على نبؤاتٍ، الله أعلم بها متى تقع؟!
_________
(1) صحَّ ذلك عنه، وانظر تخريجه (ص 631) .
(2) بل هو قابل للفحص من خلال الانتظار، والأخذِ بالأحكام الشرعية التي تخصّ النازلة.
(3) انظر: «في الاجتهاد التنزيلي» (ص 14-15) ، وكلامه فيه أمر تصوّري محض!(2/730)
وأقول: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقل تلك الأحاديث عبثاً، ولم يُلحَّ في الحديث عن الفتن لتُسَوَّد بها صفحاتٌ من كتب الحديث، أو لتفرد في مؤلفات تُقرَأ للبركة، وتبين صدق نبوته -عليه الصلاة والسلام-فحسب-!
وإنما قالها ليفقهها عنه المسلمون المعنيّون بها في كل عصر من العصور؛ أنَّها جزء من الرسالة التي حمَّلَها وأشهد عليها بقوله: «ألا هل بلغت؟» ، والمطلوب من المسلمين فهمها كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ تُفهم، والعمل بالوصايا التي ضمّنها إيّاها.
إنّ كثيراً مِنَ الأحاديث إنّما هي أشبه بالرؤيا، ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا مَن آتاه الله علمَ تأويل الأحاديث، وهذا الصنف هو المرشح لدراسة هذه الأحاديث وفقه ما فيها، وبثّ هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم، ويعرفوا مواطئ أقدامها، فيعرف المسلم متى يعتزل الناس، ويتبع بغنمه شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفرّ بدينه من الفتن.
وعلينا أنْ نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون بدينهم، ولا يحول بينهم وبينه حائل، فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم وبينه السدود، وحالت بينهم وبينه القيود، فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون به؟
إنّ البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده، بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام؛ لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها، وأي عمل إسلاميّ لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظلّ -في رأيي- غائمَ الوجهة والأساليب، بل إنّ فقهَ أحاديث الفتن ضروريٌّ للدولة التي تلتزم بالإسلام، وقد مرّ بنا من قريبٍ الحديثُ الذي بين أنّ المسلمين في آخر الزمان يتحالفون مع الروم في قتال عدو مشترك، وإنّ مَن يفقه أحاديث الفتن يستطيع مِن خلال إدراكه لروح العصر أنْ يمتلك وعياً سياسيّاً يتنبأ به بما يخالف الرأي السائد.(2/731)
وأضرب على ذلك مثلاً سمعته من أحد الثقات يحدّث عن رجل صالح كان في الأردن؛ هو الشيخ الدبّاغ، لقد كان هذا الشيخ يقول للناس -ويقسم-: إنّ بريطانيا وحلفاءَها سينتصرون في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك، بل لقد أسرّ إليه بعض المقربين أنّ الشكوك بدأت تحوم حوله.. بأنه يقوم بالدعاية لبريطانيا!!!
وقد بين الشيخ -رحمه اللَّه- الأساس الذي بنى عليه يقينه؛ وهو أنه ربط بين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بيّن أنّ المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة، وبين أحداث عصره؛ فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور، وما تلا ذلك من أحداث، ولن تقوم لليهود دولة إلا إذا انتصرت بريطانيا، ولو انتصرت ألمانيا لتبدد الحلم اليهودي في الدولة.
وقد كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسّر به أحداث عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أنْ يكون.
وأقول في ضوء هذا: إننا بحاجة إلى مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرةَ الروم (أي: النصارى) في آخر الزمان، وقتال المسلمين لهم، ومواضعَ هذا القتال، ثم فتح القسطنطينية وروميّة، ونصر اليهود للدجّال، وقتل المسيح ابن مريم -عليه السلام- له في باب اللدّ في فلسطين، ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام -أفراداً، وجماعاتٍ، ودُولاً-.
إنّ البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل، وليس من باب الترف العلمي، أو الخدر العقلي، بل هو جزء من التخطيط، والتفكير، والتدبير المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
والنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث، وما فيها من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن، مما سبق ذكره، ومما(2/732)
هو مفصل في كتب الصحاح ... ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نُوكَل إلى نفوسنا، وتخطيط عقولنا، أم نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟!
فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي، والتاريخ، وفقه الواقع المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين؛ ليكون هداية لهم، وليعرفوا مدى حب النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وحرصه على نجاتهم من الفتن، ويجدوا -وهم يقرؤون- ذلك تفسيراً عمليّاً لقول الله -عزَّ وجلَّ- في وصف نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيه مَا عَنِتم حَريصٌ عَلَيكم بِالمُؤمنين رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] » (1) .
قال أبو عبيدة: أُطَمْئنُ الأخ الكاتب أنه لن يجد من أهل العلم والتبصر من يتصدّى لما اقترحه، نعم؛ ذلك ممكن ومتصوّر لو كان (الإسقاط) و (التخطيط) و (التفكير) و (التدبير) المبنيّ عليها من صلب (2) (العلم) ، والأمر -كما قدمناه- ليس كذلك، ولا بُدّ من التنويه بأمور مهمّة تخصّ مقاله:
الأول: قوله: «ربط ابن كثير في «البداية والنهاية» بين أحاديث الفتن، ولكنّه وقف في ذلك على عصره، وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم» غير دقيق؛ وها هو «البداية والنهاية» و «نهاية النهاية» -وهو «الملاحم والفتن» له- لم نجد الربط المذكور، ولا يُتَصوَّر إطلاقُه، وجاء بعده كثير من العلماء، فلم يفعل أحد قبله ولا بعده ذلك، وإنّما هي فكرةٌ استقرت في ذهن صاحبها، وأخذ يُدلل عليها قبل أنْ يفحصها، وتعلّق بما لا يصح متعلَّقاً، ومثّل بشيء لا يصلح أنْ يكون مثالاً.
_________
(1) مجلة «البيان» العدد (33) ربيع الثاني/سنة 1411هـ، مقالة بعنوان: (أحاديث الفتن والفقه المطلوب) للدكتور مأمون فريز جرار -حفظه الله تعالى- (ص 14-18) .
(2) لاتّصافه بما يمكن أن يبنى عليه كما فصّلناه.(2/733)
ثانياً: نعم؛ هنالك ومضات وإفاضات من كلام ابن كثير تدلل على حرصِه، وتخوُّفِه على قومه، وهي مِن إفاضاته فيما يخص حوادثَ عصره، تفيد توسع مدلول النصوص الواردة في الفتن، ولكن الربط المدّعى غير واقع أصلاً، فضلاً عن الزعم -فيما يبدو للقارئ- أنّه فعل ذلك من البداية إلى عصره، فهذا غير واقع من غير دافع، وهذا نقل عنه يصلح أنْ يكون أنموذجاً في الإسقاط الصحيح، بضوابطه المعتبرة.
قال -رحمه الله تعالى- في «البداية والنهاية» (13/119) عند كلامه عن (فتنة التتر) :
«وقد قَتَل جنكيزخان من الخلائق ما لا يَعْلَمُ عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من «خوارزم شاه» ؛ فإنه لما أرسل جنكيزخان تُجَّاراً من جهته معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه؛ هل وقع هذا من الأمر عن رضًى منه، أو أنه لا يعلم به؟ فأنكره.
وقال فيما أرسل إليه: «من المعهود من الملوك أنّ التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارةُ الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إنّ هؤلاء التّجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإنْ كان أمراً أمرتَ به؛ طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنْكِرُهُ وتقتصُّ من نائبك» ، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان، لم يكن له جوابٌ سوى أنه أمر بضرب عُنُقِهِ؛ فأساء التدبير، وقد كان خَرَّفَ وكَبُرَتْ سِنُّه، وقد ورد الحديث: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم» (1) ، فلما بلغ ذلك جنكيزخان، تجهز لقتاله، وأَخْذِ بلاده؛ فكان بقَدَر الله -تعالى- ما كان من الأمور التي لم يُسْمَعْ بأغربَ منها، ولا أبشعَ» .
_________
(1) مضى تخريجه.(2/734)
فذكر ابن كثيرٍ رحمه الله -تعالى- لفتةً دقيقةً، وهي أنّ المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أُصيبوا بفاجعة فظيعة، وكانت العاقبة مريرة، حيث اجتاح التتار ديارهم في صورة بشعة لم يشهد التاريخ لها مثيل، وقدّمنا كلام العلماء ونقولاتهم في ذلك (1) ، والله الواقي من المهالك.
واللفتة نفسها نبّه عليها في (حوادث سنة ثلاث وأربعين وست مئة) ، قال في (13/168) : «وفي هذه السنة كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين جيش الخليفة وبين التتار -لعنهم اللَّه-؛ فكسرهم المسلمون كسرةً عظيمةً، وفَرَّقوا شملهم، وهُزِمُوا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم، ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم» .» .
وهذا الأمر ليس خاصّاً به، وإنما هو منهج تَلَقّاه عن علماء عصره، وعلى رأسهم شيخه ابن تيمية؛ فها هو يقول:
«ثبتَ للشامِ وأهلِه مناقبُ بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي للمسلمين على غزو التتار، وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي للعسكر المصري إلى الشام، وتثبيت العسكر الشامي فيه، وقد جرت في ذلك فصول متعددة» (2) .
ثالثاً: الذي غرَّ الكاتب ما عنون عليه ابن كثير في «البداية والنهاية» (6/199-212) (فصل: في ترتيب الأخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم) (3) ، و (6/214-221) (باب: إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة في أيام عثمان وخلافة علي -رضي الله عنهما-) ، و (6/221) (إخباره صلى الله عليه وسلم عن الحَكَمين اللذَيْن بُعثا في زمن علي) ، و (6/222-223) (إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم) ،
_________
(1) انظر: ما مضى (ص 369) .
(2) «مناقب الشام وأهله» (ص 73) .
(3) نقل فيه جل ما عند البيهقي في «الدلائل» (6/312 - فما بعد) .(2/735)
و (6/223-224) (إخباره بمقتل علي بن أبي طالب فكان كما أخبر) ، وما أشبه هذا، واقتصر على ذكر النصوص، وتكلّم على الواهي منها، ولم يفعل (1) ما طلبه الكاتب الفاضل من العلماء، ولم يعمل على إسقاط النصوص على الحوادث قبل وقوعها.
رابعاً: هذه الظاهرة لو كانت مطردةً وكليةً وثابتةً لكثُرت فيها جهودُ الأقدمين، ولما تركوها لخوض العابثين من المعاصرين (2) ، ولكنها تُذكر وتوظَّفُ عندهم على نحو إيجابيٍّ، وتعطي النصوص شمولاً (3)
في المعاني من
_________
(1) وكلامه فيه على (الفتن) محصور، وهو ليس موضوعاً لها أصالة.
(2) مضت نماذج من كلامهم وعبثهم، يقول العاقل عندها: اللهم يا مُقلّب العقول! قلِّب عقلي على دينك!!
(3) ما فهمه الشيخ الدَّبَّاغ -فيما نقلناه عن الكاتب عنه فيما مضى- من مجريات الأحداث في الحادثة المنوّهِ بها سابقاً من انتصار بريطانيا وحلفائها على الألمان في الحرب العالمية الثانية، هو في حقيقة أمره ليس إسقاطاً لنص على واقعة! وإنما توسُّعٌ في إرهاصات لمقدماتِ أحداثٍ قد يترتب عليها حصولُ تَمَكُّنِ اليهود في فلسطين، ويترتب على هذا التمكن قتالٌ بعد مئات السنوات! فالصِّلة موجودة، ولكنها ضعيفة، والحسنُ به أنه أخبر عن شيء انقدح في نفسه، ولم يرح يبحث له عن مستند في نبوءات كذاب، أو أخبارٍ سرابٍ، منقولةٍ عن أهل الكتاب، مجانباً منهج أهل العلم والصواب، كما فعل العابثون الخائضون! ولله في خلقه شؤون.
ومما ينبغي أنْ يذكر: أنّ قبولَ قولِ الشيخ الدَّبَّاغ ممكن، وليس بحجة، إذ يمكن أن تصبح ألمانيا حليفةً لليهود -أيضاً-، ويمكن -أيضاً- أن تنتصر في هذه الحرب، ثم تهزم فيما بعد؛ فهذه الاحتمالات واردة غير بعيدة، ولكنه شيء قذفه الله في قلب عبد -نحسبه مؤمناً- فأصاب، وإصابته إلهام أُلقِيَ في قلبه ظهرَ صدقُه بعد وقوعِه، أمّا الاعتماد والتعويل عليه فلا، ولا سيما إن كان صاحبه فاسقاً، أو مغضوباً عليه؛ فمن الجرأة التي ليست في مكانها ما ذكره بعضهم في محاضرة له بعنوان: «النظام العالمي الجديد» ، قال: «عندما أُعلِنَ عن قيام دولة إسرائيل (!!) ، دخلت عجوز يهودية على أم ذلك الداعية، وهي تبكي، فلما سألتها عن سبب بكائها، وقد فرح اليهود، قالت: إنّ قيام هذه الدولة سيكون سبباً في ذبح اليهود» ، ثم يقول الداعية: «إنه سمعها تقول: إنّ هذه الدولة ستدوم 76 سنة» . وعندما كبر رأى أنّ الأمر قد يتعلق بدورة المُذَنّب (هالي) ، إذ أن مذنب (هالي) مرتبط بعقائد اليهود. ونحوه في «زوال إسرائيل 2022هـ» لبسام جرار. =
فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعَرْضه على العقل يتبيَّنُ ما بينه وبين ما هو من صلب العلم» .
والقصة أوردها الشاطبي -أيضاً- في كتابه «الإفادات» (ص 110) ، وسمَّى شيخه، وهو المقّري.(2/736)
غير الزعم أنها محصورةٌ في حادثة معينة، وهذا ما لمسناه من صنيع ابن كثير الماضي، ومن قبله شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنه عالج (فتنة التتار) في رسالة وجهها إلى الملك الناصر تدلل على فهم عميق لأحاديث الفتن، لا تلغي المحكم من الواجبات الشرعيّة المنوطة بالراعي والرعية، وها أنذا أسوق الرسالة على طولها لأهميتها:
فصل
رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار
«إلى سلطان المسلمين؛ نصرَ الله به الدين، وقمعَ به الكفّار والمنافقين، وأعزَّ به الجند المؤمنين، وأدالَهم به على القوم المفسدين.
__________
= ومذنب (هالي) هذا قال فيه أبو تمام في (بائيته) المشهورة:
وخوَّفوا الناس من دَهياءَ مظلمةٍ ... إذا بدا الكوكبُ الغَربيُّ ذو الذَّنَبِ
وسبحان الله! متى يعتمد على (عجائز اليهود) في أخبار الغيب، وكيف يربط ذلك بدورة كوكب، وهل التنجيم إلا ربط الأحداث التي تجري على الأرض بحركة الكواكب والنجوم! ألا فليتق الله هؤلاء، المفتئتون على الشرع بلسان الشرع! وأشبِّه ما وقع للشيخ الدَّبَّاغ بما حكاه الشاطبي في «الموافقات» (1/120 - بتحقيقي) ، قال:
«ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدَّثناه بعضُ الشيوخ: أنَّ أبا العباس ابنَ البَنَّاء سُئل، فقيل له: لِمَ لم تَعْمل (إنَّ) في {هَاذَانِ} من قوله -تعالى-: {إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ} الآية [طه: 63] ؟
فقال في الجواب: لمَّا لم يُؤثِّر القولُ في المقول؛ لم يؤثر العمل في المعمول.
فقال السائل: يا سيدي! وما وجه الارتباط بين عمل (إن) وقولِ الكفار في النبيِّين؟
فقال له المجيب: يا هذا! إنما جئتُك بنُوَّارةٍ يحسن رونقُها، فأنت تريدُ أن تحكَّها بين يديك، ثم تطلب منها ذلك الرونق -أو كلاماً هذا معناه-!(2/737)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسألُه أن يُصلِّيَ على محمدٍ عبدِهِ ورسولِهِ، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليماً.
أمَّا بعد؛ فإنَّ الله قد تَكفَّل بنَصْر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهوره على الدين كلِّه، وشهد بذلك، وكفى باللَّه شهيداً، وأخبر الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفةٌ من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلهم إلى يوم القيامة (1) ، وأخبر أنهم بالناحية الغربية عن مكة والمدينة (2) ، وهي أرضُ الشام وما يليها.
كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعةُ حتى تقاتلوا التُّركَ، قوماً صِغارَ الأعينِ دُلْفِ الآنُفِ، ينتعلون الشَّعْرَ، كأن وجوههم المِجَانُّ المُطرقة (3) .
وأخبر أنّ أمتَه لا يزالون يقاتلون الأُمم حتى يقاتلوا الأعورَ الدجَّال (4) ، حين ينزل عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شَرْقِيَّ دمشق، فيَقتُل المسلمون جُنْدَه القادمَ معه من يهود أصبهان وغيرهم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مئة سنة مَن يُجَدِّدُ دينَها (5) ، ولا يكون التجديد إلاّ بعد استهدام.
_________
(1) أخرجه مسلم (1920) عن ثوبان، وفي الباب عن المغيرة بن شعبة، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية، وعقبة بن عامر، وغيرهم، خرّجتُ أحاديثَهم في تعليقي على «الاعتصام» .
(2) في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه مسلم (1925) : «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» ، وسبق تخريجه والكلام عليه.
(3) أخرجه البخاري (2928) ، ومسلم (2912) من حديث أبي هريرة، وسبق بيان طرقه بالتفصيل، ولله الحمد والمنة.
(4) كما في حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم (2937) وغيره.
(5) أخرجه أبو داود (4291) وغيره من حديث أبي هريرة، وهو صحيح كما بيّنتُه في تعليقي على «إعلام الموقعين» (4/32 - بتحقيقي) .(2/738)
وقال: «سألتُ ربّي أنْ لا يُسلِّطَ على أمتي عدوّاً من غيرهم فيجتاحُهم، فأعطانيها، وسألتُه أنْ لا يُهلِكهم بسَنةٍ عامَّةٍ، فأعطانيها» (1) .
وما زالت دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم تَظهر شيئاً بعد شيءٍ، وقد أظهر الله في هذه الفتنة (2) من رحمته بهذه الأمة وجُنْدِها ما فيه عبرةٌ، حيث ابتلاهم بما يُكفِّر به من خطاياهم، ويُقبِل بقلوبهم على ربهم، ويجمع كلمتهم على وليّ أمرِهم، ويَنزِعُ الفُرقةَ والاختلافَ من بينهم، ويُحرِّكُ عَزَماتِهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله.
فإنّ هذه الفتنة التي جَرتْ -وإن كانت مُؤلمةً للقلوب- فما هي -إن شاء اللَّه- إلاّ كالدواء الذي يُسقَاه المريضُ ليحصل له الشِّفاءُ والقوة، وقد كان في النفوس من الكِبْر والجهل والظلم ما لو حَصَل معه ما تشتهيه من العِزّ لأعقَبها ذلك بلاءً عظيماً.
فرحم الله عبادَه برحمتِه التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شَرْقاً وغَرْباً حقيقةُ حال هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام، وإن تكلَّموا بالشهادتين، وعَلِمَ مَن لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبُعد عن شرائع الإسلام ومناهجه، وحَنَّتْ إلى العساكر الإسلامية نفوسٌ كانت مُعرِضةً عنهم، ولاَنَتْ لهم قلوبٌ كانت قاسيةً عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته ما لم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابت نفوسُ أهل الإيمان ببَذْلِ النفوس والأموال للجهاد في سبيل اللَّه، وأعدُّوا العدَّة لجهاد عدوِّ الله وعدوِّهم، وانتبهوا من سِنَتِهم،
_________
(1) أخرجه مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص، وانظر الكلام عليه وعلى شواهده ومعانيه في «السر المكتوم» للسخاوي - بتحقيقي.
(2) يشير بها إلى وقعة قازان سنة 699هـ، التي انكسر فيها جيش السلطان الملك الناصر أمام التتار بوادي الخزندار، وقُتل فيها جماعة من الأمراء وخلقٌ كثير من العوام، وأبلوا بلاءً حسناً. انظر: «نهاية الأرب» (31/384) ، و «البداية والنهاية» (17/718) .(2/739)
واستيقظوا من رَقْدَتِهم، وحمدوا الله على ما أنعمَ به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله.
فإنّ الله فَرَضَ على المسلمين الجهادَ بالأموال والأنفس، والجهادُ واجبٌ على كل مسلم قادرٍ، ومَن لم يَقْدِرْ أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بماله إن كان له مالٌ يتسع لذلك؛ فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس، ومَن كَنَزَ الأموالَ عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجار أو الصُّنَّاع أو الجند أو غيرهم؛ فهو داخلٌ في قوله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35] ، خصوصاً إن كانت الأموالُ من أموال بيت المال، أو أموالٍ أُخِذتْ بالربا ونحوه، أو لم تُؤدَّ زكاتُها ولم تُخرَج حقوقُ الله منها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحضُّ المسلمين على الإنفاق في سبيل اللَّه، حتَّى إنه في غَزَاة تبوك حَضَّهُم، وكان المسلمون في حاجةٍ شديدة، فجاء عثمان بن عفان بألفِ راحلة من ماله في سبيل الله بأَحْلاسِها وأَقْتابِها، وأعوزَتْ خمسين راحلة فكمَّلها بخمسين فرساً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ضَرَّ عثمانَ ما فَعَلَ بعدَ اليوم» (1) .
وذمَّ الله المخلَّفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذّمِّ حين قال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بَأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ، وقال: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}
_________
(1) خرجته بتفصيل في تعليقي على «السر المكتوم» للسخاوي.(2/740)
[التوبة: 39] .
فمن ترك الجهاد عذَّبه اللهُ عذاباً أليماً بالذُّلِّ وغيره، ونزعَ الأمرَ منه فأعطاه لغيره؛ فإنّ هذا الدِّين لمن ذَبَّ عنه.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجهاد؛ فإنه بابٌ من أبواب الجنة، يُذهب الله به عن النفوس الهمَّ والغمَّ» (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يُغلَب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ وقتالٍ، واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العُسْر يُسراً» (2) .
ومتى جاهدَتِ الأمَّةُ عدوَّها؛ ألَّف الله بين قلوبها، وإنْ تركتِ الجهادَ؛ شَغَلَ بعضَها ببعض.
ومن نِعَمِ الله على الأمة؛ أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إنّ المؤمنين مِن أهل المشرق قد تحرَّكت قلوبهم انتظاراً لجنود الله، وفيهم من نوى أنه يخرج مع العدوِّ إذا جمعوا، ثُمَّ إمَّا أنْ يقفز عنهم، وإمَّا أنْ يُوقع بهم.
والقلوبُ الساعةَ محترقةٌ مهتزَّةٌ لنصر الله (3) على القوم المفسدين، حتى إنّ بالموصل والجزيرة وجبال الأكراد خَلْقاً عظيماً مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء تحرك العدوُّ أو لم يتحرك.
_________
(1) أخرجه أحمد (5/319) ، والشاشي (1174) ، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (7) ، والحاكم (2/74-75) ، والبيهقي (9/20-21) عن عبادة بن الصامت، والحديث حسن.
(2) أخرجه أحمد (1/294، 299) ، وعبد بن حميد (652) ، وأبو داود (2611) ، والترمذي (1555) ، والدارمي (2438) ، وأبو يعلى (2587) ، وابن خزيمة (2538) ، والطحاوي في «المشكل» (1/238) ، وابن حبان (4717) ، والحاكم (1/443 و2/101) ، والبيهقي (9/156) من طرقٍ عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس.
(3) بعدها في المطبوع: «ورسوله» !!(2/741)
وكذلك قدمت بنتُ بَيْدَرَا (وكان من ملوك التتار) ، وكانت مأسورةً في بيت قازان، فأخبرتْ بما جرى بينه وبين أخيه وأمّه مما يؤيّد ذلك، وهي الساعة في نِيَّتِها تذهبُ إلى مصر، وقد أقامت في بيتهم مدَّةً إلى نصف شوَّال على ما ذكرتْ.
وسواءٌ ألقَى الله بينهم الفرقةَ والاختلافَ وأهلكَ رؤساءَهم أو لم يكن؛ فإنّ الأمر إذا كان كذلك فهذا عونٌ عظيمٌ من الله للمسلمين، وقد اتصل بالداعي أخبارٌ صادقةٌ من جهاتٍ يُوثَقُ بها بما قد مال مع المسلمين من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولا بُدّ أنّ السلطان يُطالعُ بذلك من تلك البلاد؛ فإنّ هناك قومٌ صالحون ساعون في مصالح المسلمين؛ كشيخ الجزيرة الشيخ أحمد.
وجاءتنا أخبارٌ مع غير واحد بأنّ الخَرْبَنْدا أخا قازان قد قَدِمَ الرومَ وهو يجمع العساكر للقدوم، وقدمتْ بنتٌ لبَيْدَرا كانت مأسورةً في بيت قازان، وذكرتْ أحوالاً من الكلام بين قازان وأخيه الخَرْبَنْدا وأمّه، تَدُلُّ على ذلك، وأنّ الخربندا هو في نية فاسدة للمسلمين، وأمُّه تنهاه عن ذلك، وهو لا يقبل، ويُوقع بينهم فتنةً.
فليس من الواجب أنْ يُترك نَصْرُ الله (1) والجهادُ في سبيل الله إذا كان عدوُّ الله وعدوُّ المسلمين قد وقع البأسُ بينهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ولا يَحِلّ للمسلمين أنْ ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أوّل؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إلاّ ذُلُّوا» (2) .
_________
(1) بعدها في المطبوع: «ورسوله» !!
(2) هو معروف من كلام علي ضمن خطبة له في «البيان والتبيين» (2/53) ، و «الكامل» للمبرد (1/30) ، و «العقد الفريد» (4/70) ، و «الأغاني» (16/267) ، و «نهج البلاغة» (ص 69) وغيرها.(2/742)
واللَّه قد فرضَ على المسلمين الجهاد لمَن خرجَ عن دينه وإنْ لم يكونوا يقاتلونا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يُجهّزون الجيوش إلى العدوّ وإن كان العدوُّ لا يَقصِدُهم، حتى إنَّه لما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، نَفَّذَ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- جيشَ أسامة بن زيد الذي كان قد أمَّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك في غاية الضعف، فلمّا رآهم العدوُّ فَزِعوا، وقالوا: لو كان هؤلاء ... (1) ما بعثوا جيشاً.
وكذلك أبو بكر الصديق لما حضرتْه الوفاةُ قال لعمر بن الخطاب: «لا يَشغلكم مصيبتكم بي عن جهادِ عدوِّكم» (2) ، وكانوا هم قاصدين للعدو لا مقصودين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته وهو يقول: «نَفِّذوا جيش أسامة، نَفِّذوا جيش أسامة» ، لا يَشغلُه ما هو فيه من البلاء الشديد عن مجاهدة العدوّ، وكذلك أبو بكر.
والساعةَ لما ذهب أميرٌ بحلب بعسكرٍ إلى الجزيرة وتصيَّد هناك، طارَ الصيتُ في تلك البلاد بمَجِيءِ العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي رعباً، حتى صاروا يريدون أنْ يُظهِروا زيَّ المسلمين لئلاّ يُؤخَذوا، وفي قلوب العدوّ رُعبٌ لا يعلمه إلاّ اللَّه، وقد هُيِّئ لهم في البلاد إقاماتٌ كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك يدعون الله أنْ يكون رزقَ المسلمين.
وأقلُّ ما يجب على المسلمين أنْ يجاهدوا عدوَّهم في كلّ عام مرةً، وإن
_________
(1) بياض في الأصل بقدر كلمة، ولعلها: «ضعافاً» ، أو ما في معناها، وانظر عن تنفيذ جيش أسامة وما كان فيه من المصالح: «البداية والنهاية» (9/421-424) ، و «تاريخ دمشق» (30/315) .
(2) انظر: «تاريخ الطبري» (3/414) .(2/743)
تركوه أكثر من ذلك فقد عَصَوا الله ورسولَه، واستحقوا العقوبة، وكذلك إذا تقاعدوا حتى يطأ العدوُّ أرضَ الإسلام، والتجربةُ تدل على ذلك؛ فإنه لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نَوبتَيْ حمص الأولى والثانية لمّا مَكّنُوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبةِ أنْ ينكسروا لولا أنْ ثَبَّتَ الله، وجَرى في هذه المدة ما جرى، وما قَصَدَهم المسلمون قَطُّ إلا نُصِروا، كنوبةِ عين جالوت والفرات والروم، ونحن نرجوا أنْ يستأصلهم الله -تعالى-، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه؛ فإنّ البشارات متوفّرةٌ على ذلك.
وقد حدثنا أبي -رحمه الله- أنه كان عندهم كتاب عتيق (1) وقف عليه من أكثر من خمسين سنة قبل مجيء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: «والتتار يُقلِعهم المصريون» ، وقد رأى المسلمون أنواعاً من المبشرات بنصر الله (2) ، وهذا لا شكّ منه -إن شاء الله-.
وليست هذه النوبة كتلك؛ فإنّ تلك المرة كان فيها أمورٌ لا يليق ذكرُها -عفا الله عنها-، وما فعلَه الله بالمسلمين كان أحمدَ في حقّهم.
ثمَّ لا شك أنّ الله يَنصُر دينَه، وينتقمُ من أعدائه، وقد قال -تعالى-: {وَلَوْ شَاءَ الله لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبْعَضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 4-7] .
_________
(1) الحمد لله الذي لم يطلع الخائضون العابثون على مثل هذا النَّقل، ولو ظفروا به لفرحوا وطاروا به أي مطار! فهذه الأخبار تذكر -كما قررناه- من باب (الملح) ، وتُوظَّف لنصرة الله ودينه، ولا تكون سِهاماً مسمومةً تطعن في جسد الأمة لتخدَّر! ولا يعتمد عليها ويركن إليها بمعزل عن وظيفة الأمة وعلمائها وأبنائها!
(2) بعدها في المطبوع: «ورسوله» !!(2/744)
ثم في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:
إحداها: طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا، وإلا فما دامت القلوب خائفة لا يستقيم الحال.
الثانية: أنّ البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خيرٌ كثيرٌ ورزقٌ عظيمٌ ينتفع به العسكر.
الفائدة الثالثة: أنّه يُقوِّي قلوبَ المسلمين في تلك البلاد من الأعوان والنصحاء، ويزداد العدوُّ رُعباً، وإنْ لم تَحصُلْ حركةٌ فَتَرت القلوب، وربما انقلب قومٌ فصاروا مع العدوّ؛ فإنّ الناس مع القائم.
ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى الثَّغْر كان في غاية الجودة.
الفائدة الرابعة: أنهم إنْ ساروا أو بعضهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم الفوائد، وإنْ ساروا قاطنين متمكنين نَزَلتْ إليهم أمراءُ تلك البلاد من أهل الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة؛ فإنّ غالب أهل البلاد قلوبهم مع المسلمين، إلا الكفار من النصارى ونحوهم، وإلاّ الروافض؛ فإنّ أكثر الروافض ونحوهم مِن أهل البدع هواهم مع العدوّ؛ فإنّهم أظهروا السرور بانكسار عسكر المسلمين، وأظهروا الشماتة بجمهور المسلمين، وهذا معروفٌ لهم من نَوبةِ بغداد وحلب (1) ، وهذه النوبة -أيضاً- كما فعلَ أهل الجبلِ الجرد والكِسْرَوان، ولهذا خَرَجنا في غزوهم لما خَرَجَ إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرةٌ عظيمةٌ للمسلمين.
فإذا كانت عامّةُ القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه
_________
(1) سبق كلام لشيخ الإسلام بهذا الصدد، انظره؛ فإنه مهم.(2/745)
الله -سبحانه- وأيَّده وأمدَّه بنعمته على محمد وأمته، وقلوب العدوّ في غاية الرعب منه، واللهِ! لقد رأى الداعي من رُعْبِهم ما يوصف، حتى إنّ وزيرَهم يحيى قال قُدَّام الداعي ومولاي يسمع: واحدٌ منكم يغلب ستةً من هؤلاء، وهكذا يُخبر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدّاً، فمن نعمة الله على المسلمين أنْ يُيسِّر غزاةً ينصر الله بها دينَه هنا وهناك، وما ذلك على الله بعزيز.
وليس من شريعة الإسلام أنّ المسلمين ينتظرون عدوَّهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر اللهُ به ولا رسولُه ولا المسلمون، ولكنْ يجب على المسلمين أنْ يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإنْ بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينُهم حتى يَعبُروا ديار المسلمين، بل الواجبُ تقدُّمُ العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله -تعالى- يختار للمسلمين في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلَّى الله على محمد عبده ورسوله.» انتهى.
فصل
الجهاد في زمن الفتنة
قال أبو عبيدة: فما في هذه الرسالة هو تقرير المحكم من الدين، وما أوجبه الله علينا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا؛ فإنه ذكر واقعة التتار وجعلها كالدواء المؤلم الذي يحصل به الشفاء، وبيان ما استفاد المسلمون منها، ومع هذا فهو -رحمه الله تعالى- ما تنكّب أحاديث الفتن، ولم يهمل ما يجب أنْ يُراعَى عند وجودها، وقد كشف عن ذلك بكلام يفرح به المتعقّلون من المصلحين ممن يعمل من وراء تقريرات العلماء، قال في(2/746)
«الاستغاثة في الرد على البكري» (2/631) -وهو يتكلم عن حال المسلمين عند قدوم التتر عليهم، مصوّراً مخالفاتهم العقدية-:
«وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنّما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه؛ فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إنّ العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر» .
قال:
«فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد؛ فإنه كان قد قضى أنّ العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك ولحكمة كانت لله -عزَّ وجلَّ- في ذلك» .
ثم قال -وهذا هو موطن الشاهد-:
«ولهذا كان أهل المعرفة بالدِّين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولِمَا يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، لمن عرف هذا وهذا، وإنْ كان كثيرٌ من المقاتلين الذين اعتقدوا(2/747)
هذا قتالاً شرعيّاً أُجرُوا على نياتهم (1) .
_________
(1) هذا من دقّة شيخ الإسلام ابن تيمية المتناهية في المسائل الفقهية؛ فالجهاد في الظروف الصعبة، والأحوال غير الطبيعية يحتاج إلى أحكام تُراعَى فيه ظروفه، وما يحيط به من مستجدات، وهو ليس كالصلاة، لا بد من أدائه على أية حال! كما يعتقد بعض الداعين إليه، والمتحمسين له! ولستُ مبالغاً إنْ قلتُ: إنّ أبرز آثار (الفوضى) في (الفتوى) اليوم تظهر علينا في (الجهاد) وأحكامه!
والعجب من المفتين التناقض الشديد بينهم في هذا الميدان، واختلافهم في الجملة على حسب البلدان، ويدور مع مصالحهم دون النظر إلى مآلات الأفعال، وقد بلونا جملة من الوقائع، سمعنا فيها عجباً من أُناسٍ يشار لهم بالبنان، يتكلمون على أنهم علماء الأمة ويطلقون التكفير بمراهقة الشبان، وهم كبار كبار؛ في أسنانهم، ودعواتهم، ومناصبهم، ولكنهم -واللهِ! - ليسوا كذلك في تقعيدات العلماء وأصولهم! وأكبر مثال وأشهره -وهو مازال ماثلاً للعيان-: الجهاد في العراق لصد العدوان الأمريكي؛ فكثيرٌ من الناس أفتى بالوجوب العيني على الشباب، بناءً على أن أمريكا هي أصل الشر، و ... ، و ... ، و ... ، دون اعتبار جميع الأوصاف والقيود التي لها أثر في الفتوى؛ فالنتائج محسومة، والأمور محسوبة، والأمن للمجاهدين غير حاصل، والنظام القائم بَعثِيٌّ لا شرعي، ولو قيل بالجواز لهان الخطب، أمَّا الوجوب، والوجوب العيني؛ فهذا -واللهِ! - غفلة عما نبه ابن تيمية على ما هو دونه، ووصف غير المقاتلين للتتر آنذاك «أهل المعرفة بالدين» !
وهذا الأمر ليس خاصّاً بابن تيمية، فقد سبقه إلى نحوه العز بن عبد السلام، قال السبكي في «معيد النعم» (ص 45-46) :
«طلب الملك المظفر سيف الدين نظر شيخ الإسلام وسلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، بحضرة الملك الظاهر بيبرس والملك المنصور قلاوون وغيرهما من الأمراء، وحادَثَهُ في الخروج إلى لقاء العدو من التتار، لما دهموا البلاد، ووصلوا إلى عين جالوت، فقال له: أخرج وأنا أضمن لك على الله النصر. فقال: إن المال في خزائني قليل، وأريد الاقتراض من التجار. فقال: إذا أحضرت أنت وجميع العسكر كل ما في بيوتكم وعلى نسائكم من الحلي الحرام، وضربته على السكة، وأنفقته على الجيش، وقصر عن القيام بكلفتكم، أنا أسأل لكم الله -تعالى- في إظهار كنز من الكنوز، يكفيكم ويفضل عنكم، وأما أنكم تأخذون أموال المسلمين وتخرجون إلى لقاء العدو، وعليكم المحرمات من الأطرزة المزركشة والمناطق المحرمة، وتطلبون من الله -تعالى- النصرة، فهذا لا سبيل إليه. فوافقوه وأخرجوا ما عندهم، ففرقه وكفى، وخرجوا وانتصروا» . فعلم أن الناس لو اتقوا ربهم -عز وجل- باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وكفوا عن =(2/748)
فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال -تعالى- يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُم} [سورة الأنفال: 9] ... » ، وقال:
__________
= الظلم، وردوا المظالم إلى أهلها، وأحيوا السنن، وأخمدوا نيران البدع والفتن؛ لفتح الله عليهم باب الجهاد، وقاتلوا كما أمروا؛ كفاهم الله كل مؤونة، وأمدهم بجنود لا يرونها، كما أمد أصحاب نبيه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ووقاهم شر عدوهم، وهذا من الأمور المشاهدة.
انظر: «نصيحة أهل الإسلام» (ص 144) .
والخلط والخبط في الأزمات يشتدّ، ولا سيما في أحكام الجهاد؛ فهذا قائل بوجوب القتال مع العراق، وآخر بوجوب القتال ضدّه، وكلا الصنفين ينعت وجوبه بـ: «الشرعي» ، وتكرر هذا الخلط عدة مرات، ابتداءً من الحرب ضد إيران، ومروراً باحتلال الكويت، وأخيراً عند قدوم الأمريكان! -والله أعلم بما سيكون في قابل الزمان- ووراء كل صنف أعلام ومؤسسات وهيئات للفتوى!
و (الشباب) متحمِّس ومتوثب ومتثبِّت، ومواقفهم -ما لم يعصمهم اللَّه- متذبذبة، وسماع الوجوب العيني مع عدم فعله له آثار تربوية سيّئة مدمرة! لا يقدّره إلا الراسخون المربون من العلماء.
أَمَا آن للمفتين قبل استدعاء النصوص -التي يعرفها كل طالب علم- فحص المكان والواقع الذي سَتُنزَّل عليه، والنظر إلى المآلات؟!
وأخيراً ... إنّ إماتة لفظة (الجهاد) من مشاعر المسلمين، سواء بسوء استخدامها، ووضعها في غير مكانها، أو بإيجابها على عاجزين، لا يقل سُوءاً عن صنيع تلك الثلة التي تعمل على إخماد نورها وإطفاء لهيبها! والمحصّلة والثمرة واحدة، فهل من مدكر؟!
والذي أراه ضرورةً؛ مراعاة المفتين إعادة (الهيبة) إلى هذا (المصطلح) ؛ بترك ابتذاله، وسوء إسقاطه، وكذا من الخطباء والوعاظ؛ بترك استخدامه زينةً -فحسب- لخطب رنانة، وكذا من الدعاة والأحزاب؛ بترك توظيفه للوصول إلى أعناق الجماهير، والمجالس النيابيّة، وتزيينه بالبيانات الحزبية، وإنما العمل على التكامل بينهم للنهوض بواجب الوقت، والوصول بالأمة إلى ذروة السنام، وترك التآكل، والبُعد عن السذاجة وتفويت فرص التربّص، والتربية الشرعية الجادة الموصلة للولاية لله ورسوله والمؤمنين.(2/749)
«فلما أصلح الناسُ أمورَهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم؛ نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً، لِمَا صحَّ من تحقيق توحيده، وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك؛ فإنّ الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» (1) . انتهى.
فصل
كيف ينبغي أنْ نفهم أحاديث الفتن؟
ظاهرة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن (المغيبات) و (النبوءات) تستدعي شغف وانتباه أي مطالع لكتب السنة: ماذا تعني؟ ما غاياتها؟ ما آثارها التربوية في النفس الإنسانية؟ ما أثرها في العقيدة الإسلامية، وانطلاقة المسلم نحو الدعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ-، والتزام الإسلام في الحياة؟
لمعرفة شيءٍ من هذا كله؛ لا بُدَّ من تحليل هذه الظاهرة تحليلاً شرعيّاً نابعاً من المبادئ القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية، والتصورات الإسلامية الأصيلة، ومِن ثَمَّ تخريجها على تلك الأصول الكلية، وتحليل غاياتها في بناء الشخصية الإسلامية.
هذه الظاهرة تلفت نظرنا باستمرار لمعرفة ماذا يمكن أنْ نستفيد من هذا الحشد الهائل من الأحاديث النبوية التي تحدثت عن الفتن وأشراط الساعة، ولعله من السابق لأوانه أنْ نسارع فنقول: إنّ هذه الظاهرة تحتاج لدراسة تحليلية قيمة يقوم بها مختصون مهتمون بالعلوم الاجتماعية والإنسانية
_________
(1) «الاستغاثة والرد على البكري» (2/623) ، ورأيت بعد تدوين هذه السطور رسالة بعنوان: «صفحات من تاريخ الأمة في مواجهة التتار» للأستاذ خالد أبي صالح، أنصح بقراءتها والاستفادة منها.(2/750)
والنفسية.
ولكن؛ هذا لن يمنعنا في هذه العجالة من إلقاء بعض الضوء على بعض النقاط المتصلة بسبب ما نحن بصدده، والتلميح إلى مزالق خطيرة يقع فريستها كثير من المسلمين -اليوم- بفهمهم الخاطئ لمعاني الأحاديث والنبوءات.
إنها مسألة خطيرة لما وجدناه عند كثير من الشباب المسلم -الذين كان الأجدر بهم أنْ يكونوا أبعد المسلمين عن هذه المزالق الفكرية الخطيرة- من تسويغ للواقع، وتسليم للأقدار -كما يقولون-، وبُعْد عن البحث والتنقيب في الأسباب الحقيقية والعوامل الخفية التي تُسيّر حركة التاريخ، وتغير مسار الحركة الاجتماعية في أي مجتمع كان.
كثير من المسلمين اليوم -خاصة عند قراءة هذه الأحاديث أو النبوءات- يصاب بعقم وسلبية وانعزال في العمل الإسلامي.
عقم في مجال البحث والاستقصاء، والتتبع والكشف عن المجهول.
وسلبية في الحركة والدعوة والعمل.
وانعزال عن الواقع والمجتمع والاكتفاء بالادعاء بإصلاح النفس، ذلك الإصلاح البارد السلبي التقَوْقعي، الذي هو أقرب إلى الهروب من الواقع منه إلى الإصلاح.
وهؤلاء القاعدون الذين لم يحددوا أسباب الواقع المرير، ولم يعرفوا العوامل والسنن في تغيير المجتمع والأنفس ليسوا بأفضل حالاً منهم أولئك الخائضون في متاع الحياة الدنيا وزينتها، أولئك الذين أحبطوا في مجال التغيير النفسي والاجتماعي فانصرفوا إلى تفجير طاقاتهم الفعالة في مجال التنافس على الدنيا والاهتمام بلذاتها، بعد أنْ رأوا الأمور فوق طاقتهم حسب زعمهم.
ولعلنا لا نصاب بالدهشة إنْ رأينا أنّ أصحاب تلك القناعات الفكرية في(2/751)
البُعْد عن الفتنة -حسب تعبيرهم- المنعزلين عن الحياة، إذا رأيناهم يلقون كل شيء على القضاء والقدر، فلا قوة عندهم على مقاومة الواقع السيئ؛ لأن ذلك -حسب ما تربوا عليه- هو فتن حتمية تحدّث عنها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للخروج عليها؛ لأنها من إرادة الله -تعالى-.
ولا نعجب -أيضاً- إذا علمنا أنّ أولئك المسوغين المتواكلين هم من مخلفات عصور الانغلاق الفكري، الذين لم يتربوا على الأسس الصحيحة للتصورات الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآثار الصحابة الكرام، ولم يتفهموا عوامل التغيير التاريخية الإنسانية عامة، والإسلامية خاصة.
وإنّما عاشوا يتلقفون أحاديث متناثرة عن القضاء والقدر، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، والدجال،.... إلخ، مع بُعد كامل عن تفهم المقاصد الحقيقية للشريعة الإسلامية، وحركة التغيير في حياة الصدر الأول من الصحابة -رضي الله عنهم-.
إنّ أولَ ما يلفت نظري -وأنا بصدد أحاديث الفتن والملاحم- هو التركيزُ الشديدُ على فاعلية الإنسان في هذه الحياة، وأثرِه الكبير في عملية التغيير، وتعمير الكون واستعماره.
ويتجلى ذلك في فهمنا الحقيقي لمعاني الجهاد في الإسلام، الجهاد بمعناه الواسع العريض، وتعيين المهمة الأساسية للإنسان المسلم في الحياة: وهي بذل الجهد -كل الجهد- لإعلاء كلمة الله في الأرض.
ثم التركيز القرآني على إيجاد اليقين الجازم بعقيدة التوحيد (لا إله إلا اللَّه) ، والقناعة التامة أنّ التبعة يوم القيام إنما هي تبعة فردية، وإن كل إنسان مأخوذ بعمله.
وكل ذلك إنما يشكل جزءاً كبيراً من الوسائل للوصول إلى الشخصية(2/752)
الإسلامية المؤثرة؛ الشخصية التي لا تعتذر بالواقع السيئ وتدعي أنّ هذا هو أوان (أنْ يعض المسلم على جذع شجرة ويبتعد عن الفتن) ... ، ومِن ثم يحكم على نفسه بالإعدام قبل أنْ يحكم أحدٌ عليه، ولا الشخصية المتواكلة المترددة المنهزمة داخليّاً.
الشخصية التي لا ترد كل شيء إلى الظروف والبيئة، وكأنها بريئة هي من العيوب والنقائص.
الشخصية التي لا تعطل القوى التي وهبها الله إياها بدورها في إعمار هذا الكون وإصلاحه.
بل الشخصية المتفاعلة في مواقع الحياة، الآخذة والمعطية، البانية الهادفة، إنها شخصية تقتبس من نور الله، وتستلهم خطوات الأنبياء والمجددين، وتنير دربها بنماذج حيّةٍ من حياة الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومن حياة كل الترجمات العملية للعقيدة الإسلامية عبر تاريخ المسلمين الطويل (1) .
وإنّ الفتن التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ليست نوعاً من الجبر، أو القدرية الإلزامية التي تحيق بالناس دون أنْ يكون لهم ذنب فيها، أو دون أنْ يقدِّموا من الأسباب والبدايات ما يجعلها تصيبهم بنتائجها، لا ليس الفتن إلاَّ بما كسب الناس أنفسهم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، ومن ثَمَّ فإنّ عمليّة التغيير وإنكار المنكر وقيام الناس بدفع أسباب الفتن وعللها سيساعد كثيراً في الاعتصام منها والبُعد عنها.
إنّ الفتن التي تحدّث عنها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست نوعاً من الجبر
_________
(1) انظر ما قدمناه قريباً عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على ما فعل التتر بالمسلمين، وتأمله جيّداً؛ لترى الفهم النيِّر الشرعي للأحداث والأحاديث.(2/753)
بقدر ما هي إخبار بمغيبات ستقع تبعاً لعوامل نفسية داخلية، وعوامل اجتماعية؛ أي: بمثابة قوانين وسنن وقع الناس في أتونها فكان لزاماً عليهم أنْ تنطبق عليهم نتائجها.
وقناعتنا أنّ هذه العوامل محددة فعلاً وواقعية، هذا هو الذي يملي علينا نوعية العمل المطلوب منّا تنفيذه لنعصم أنفسنا من مواطن عقوبة الله وسخطه.
وبهذا الفهم لحقيقة السنن الكونية ولطلاقة المشيئة الإلهية -أيضاً- يمكن أنْ نرسم الخطَّ الذي يجب أنْ نسير عليه، خاصة وأنه غالباً لا توجد عندنا الدلائل الكافية -العلمية- التي تؤكِّد أنّ تلك الأسباب واقعة فعلاً؛ لنجزم مِن ثم بوقوع نتائجها من الفتن والبلايا والمصائب بشكل حتمي قاطع.
من هناك يظهر سخف تلك النظرة التشاؤمية البعيدة عن واقع الحياة المنعزلة عن إصلاح تيار الحياة البشرية.
ومن هنا؛ فلا مجال لتلك النفسية المترددة، خاصةً وأنّ الرؤية غير سليمة ...
ورغم هذا كله ... وهَبْها كانت واقعة فعلاً، ولنفرض أنّ العوامل كلها تشير إلى الفتنة الآتية القريبة، وأنّ الناس قد تُوُدِّع منهم، ولنفرض جدلاً أننا تحققنا -من خلال المقدمات- حتميةَ وقوع النتائج؛ فهل يعني ذلك التسليم للفتن والاستسلام لها، وركوبَ أمواجها بلا سفينة أو شراع، وبلا مقاومة أو اعتراض؟! وهل ننصاع لتياراتها الصاخبة بلا أدنى مقاومة؟!!
هل هي هذه مهمة المسلم التي كلفه الله بها؟! وهل يعذر أمام ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!! وهل يرضى منه الله هذه السلبية القاتلة، حتى يصل المستوى بنا لعدم القدرة حتى على تغيير أنفسنا على أقل تقدير؟!!!
إنَّه لم يعد بمقدور المسلم أنْ يغير مجتمعه ذلك التغيير الجذري(2/754)
المنشود، فلا أقل من أنْ يلتزم هو في خاصة نفسه بسنن ذلك التغيير، ويسعى جاهداً للحفاظ على أقرب الأقربين منه، ويحميهم من غوائل الفتنة.
أما السلبية والقعود والاستسلام للمخالفات الشرعية وضغط الواقع ثم الانصياع لمطالبها والغرق في أحوالها؛ فهذا ليس من هذا الدين في قريب أو بعيد.
وبَعْدُ؛ لعل في هذا كله ما يقنع أولئك المسوغين المتقاعسين أنْ يعودوا لممارسة دورهم الخطير في حياة الناس والبشرية قاطبة وينتشلوهم من هذه الهوّة السحيقة التي ينحدرون إليها، ولعلنا في ضوء ذلك نفهم معنى الفتنة، وكيف تحيق بالناس، وأنها إنّما تحيق بهم وِفْقَ سنن وقوانين، وأنها إنما تحيق بهم لنسيانهم حقائق كثيرة، أو لتجاهلهم إياها، ولغفلتهم عنها أنها تعمل بقوة في واقع حياتهم؛ فالفتنة والفتن كما أنها من قدر الله كأي حدث على ظهر هذه الأرض؛ إلاّ أنّ لها ارتباطاً على قاعدة العلة والمعلول بمقدمات أدّت إلى تلك النتائج {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} .
بهذا الفهم لهذا الدين ولمعنى الفتنة؛ نعصم أنفسنا من أنْ نكون ككثيرٍ من العوام الذين لا يحركون ساكناً، زاعمين أنهم في مواجهة فتنة عمياء، ولا (أبو بكر) لها، وليس للمسلم أمامها إلاّ العزلة والتقوقع والاستسلام.
وهذا الفهم لمعنى الإيمان، وطريق عمل هذا الدين في حياة البشر يطالبنا بالصمود أمام الفتن، وليس هذا فحسب، بل تغيير الواقع الاجتماعي، وقبله النفسي؛ لتغيير اتجاه هذه الحال، ورد الواقع البشري إلى ما يرضي الله -سبحانه-.
وسواءٌ فشلنا أم نجحنا؛ فالمهم أننا نؤدي مهمتنا التي خُلِقْنا من أجلها؛ أي: أنْ لا نكون سلبيين في مواجهة الواقع، أنْ نعمل ونعمل، وإنْ لم نقطف ثمار عملنا هنا؛ فثمار عملنا نقطفها في الجنة.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] .(2/755)
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] .
والفتن التي حدثت قديماً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ولن تكون مسوغاً للمتقاعسين ليقنعونا بالقعود والتواكل؛ فالمنهج هو الأصل، والتاريخ الإسلامي ليس إلاّ تطبيقاً للمنهج، قد يوافقه كثيراً، ويخالفه ويخرج عنه أحياناً.
وقد كان لا بُدّ -في الختام- من هذا الكلمة على هذه الصورة حتى لا يُساء فهم النصوص والاستفادة منها عند البعض، ولتكون عاملاً للتنبه والحذر، والعمل المعاكس لتيار الفتن لا الانقياد لها، والتسليم والإذعان.
وهي إنما كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم إخباراً بمغيبات، ودليلاً على صدق نبوته، وتحذيراً للمسلمين عن الانحطاط في الفتنة، أو التمهيد لها، أو المساعدة على نشوئها واستمرارها، ولكي يأخذ الصحابة -رضي الله عنهم- حذرهم لكل طارئ، وتدبيراً لهم على الاحتياط والإعداد لكل مفاجئ (1) .
فصل
عودة إلى ظاهرة إسقاط الأحاديث على الأحداث،
ودوافعها الجديدة، وبيان بعض المعالم الشرعية لها
مما ينبغي أنْ يذكر تجاه هذه الظاهرة أنّ الدراسات الجذرية المعتنية بها قليلة، وذكرها المعاصرون في معرض الأخذ والرد (2) ، وإنَّ ربطنا إياها بالنوع الثاني من العلوم عند الشاطبي -وهو (الملح) - جعلنا نقرر قبولها بضوابط
_________
(1) بتصرف من «أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين» (مقدمة فكرية: الفتن وعوامل التغيير) (ص ز-خ) .
(2) انظر: كلام الشيخ صالح آل الشيخ (ص 52-53) ، وما نُقل عنه (ص 619) ، وما قدمناه -أيضاً- عن بعض الغيورين (ص 730) .(2/756)
ومعالم، وقد أشار إليها بعض المعاصرين بإجمال، فقال تحت عنوان: (لا يمكن إسقاط النصوص التي يَطْرُقُها الاحتمال على واقعٍ مُعيّن إلاّ بعد وقوعها وانقضائها) ما نصه:
«فقد كان من هدي السلف -رحمهم الله- أنهم لا يُنَزِّلون أحاديث الفتن على واقع حاضر، وإنما يرون أصدق تفسير لها، ووقوعها مطابقة لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نلاحظ أنّ عامّة شارحي الأحاديث الشريفة كانوا يُفيضون في شرحها، واستنباط الأحكام منها، حتى إذا أتوا على أبواب الفتن وأشراط الساعة أمسكوا أو اقتصدوا في شرحها للغاية، وربما اقتصروا على تحقيق الحديث، واكتفوا بشرح غريبه، بخلاف ما يحصل من بعض المتعجلين المتكلفين اليوم؛ فإنه بمجرد ظهور بوادر لأحداث معينة -سياسية كانت، أو عسكرية؛ محلية، أو عالمية- تستخفهم البُداءات، وتستفزهم الانفعالات، فيُسقطون الأحاديث على أشخاص معينين، أو وقائع معينة، ثم لا تلبث الحقيقة أنْ تبين، ويكتشفوا أنهم تهوروا وتعجلوا.
وربما كان دافعهم نبيلاً؛ فَهُم يحسبون أنّ إسقاط النبوءات على الواقع مما يزيد يقين المسلمين، ويقوي إيمانهم، ويمكنهم من إقامة الحجة على المكذبين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تأييدٌ لدين الحق!
نقول: نعم؛ ولكن بالشرط المذكور آنفاً؛ لأنّ العجلة في مثل ذلك قد تأتي بعكس ما يشتهون؛ إذ لو خيبت الأحداث -إذا اكتملت- ظنهم؛ ربما كانت النتيجة عكسية عند الكفار، وعند ضعاف المسلمين.
ولا بُدّ من أنْ تكون النصوص التي يطبق عليها هذا الضابط مما يطرق دلالته الاحتمالُ، بخلاف النصوص المحكمة التي دلَّ الدليل على المراد منها؛ بحيث لا تلتبس على أحد، فإنها لا تخضع لهذا الضابط؛ مثل نزول المسيح -عليه السلام- من السماء عند المنارة البيضاء بدمشق، وصلاته الصبح خلف(2/757)
المهدي؛ ومثل خروج الدجال بصفته التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم» (1) .
ويقول باحث آخر عن الموضوع نفسه ضمن (التوصيات والمقترحات) التي توصل إليها بحثه المعنون بـ «موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنة» (ص 574) ما نصه:
«عدم تطبيق ما ورد في الفتن -من نصوص- على الواقع المعاصر:
تزداد شهوة الكلام عند حلول الفتن، وتظهر جرأة كثير من ضغام الناس وقتها، فيحلو لهم آنذاك استرجاع أحاديث الفتن وتقليب صفحاتها، ويربو ذلك ويزداد في اجتماعاتهم في المنتديات والمجالس، فتجدهم ينزِّلون تلك الأحاديث على واقعهم الآني، ويلوون أعناقها لتوافق ما يعتريهم ويصيبهم من فتن، فيقولون: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم ... كذا ... هو المراد بهذه الفتنة التي نحن فيها الآن، أو المراد به الفتنة التي حدثت في الوقت الفلاني أو البلد الفلاني ... وهكذا يفسرون ويطلقون المراد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه عن الفتن، بتحديد أزمانها وأماكنها وتطبيقها على واقعهم وزمنهم الآني، كل ذلك ليس عندهم فيه من الله برهان.
وهذا خطأ فادح، على خلاف منهج السلف الصالح -من أهل السنة والجماعة-؛ فإن منهجهم إبَّان حلول الفتنة، هو عدم تنزيل أحاديثها على واقع حاضر، وإنما يتبين ويظهر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنبأ وحدث به أمته من حدوث الفتن عقب حدوثها واندثارها، مع تنبيه الناس وتحذيرهم من الفتن عامة، ومن تطبيقها على الواقع الحالي خاصة» .
قال أبو عبيدة: كَشْفُ خطأ الكذّابين عند أهل النقد والصَّنعة الحديثية سهل ميسور، أمّا الصعب الذي يحتاج إلى دقة فهم، وكثرة جمع وعرض، وقدح ذهن؛ فهو خطأ الثقة.
_________
(1) «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 705-706) .(2/758)
وهكذا يقال عن إسقاط الحدث قبل إتمام وقوعه، وبمجرد وجود إرهاصاته، أو مقدماته، أو تخييلاته، فضلاً عن التنبؤ والتكهن به؛ فهذا النوع سرعان ما يظهر كذبه (1) ، وهو منهج دخيل على أهل العلم؛ أعني: جعله مطرداً كليّاً ثابتاً حاكماً يُبنى عليه.
وأما إسقاط الأحاديث على حدثٍ قد وقع فعلاً، فممكن، وقد سبق بيان بعض الضوابط التي يجب مراعاتها عند ذلك، وأنه لا بُدّ لمن يضطلع بهذه المهمة من الاطلاع الواسع على الحديث، وجمع ألفاظه وطرقه، وإذا أردت أنْ تقف على أهمية هذا الأمر؛ فتأمل ما أسنده الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/212 رقم 1640) عن أحمد بن حنبل، قال:
«الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً» .
وما أخرجه -أيضاً- (2/212 رقم 1641) عن علي بن المديني، قال: «الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيَّن خطؤه» .
كما أنه لا بُدّ لمن يضطلع بهذه المهمة من معرفة وقائع التاريخ وأحداثه، وما ثبت منها أو كان منتحلاً، ولا بُدّ له من مراعاة العربية، ومعرفة أساليبها، وطرق دلالاتها، وفهم النصوص على ضوء ذلك، فالمولعون بالإسقاط اليوم أهملوا ذلك، ومضت نماذج من أخطائهم، يمكن أنْ يكون بعضها ملحقاً بـ (بدع التفسير) ، و (مسالك أهل البدع في الاستنباط) ، بل لا أجاوز الحقيقة إنْ قلت: إنّ بعضها يصح أنْ يكون ملحقاً بكتاب «أخبار الحمقى والمغفّلين» !
_________
(1) وهو يشبه من هذه الحيثية تسليط الثابت من المعلومات التاريخية على الرواية حين الشك فيها؛ فاستعمال ميزان التاريخ في محاكمة الرواة أمر معلوم، ينظر له بتفصيل: «منهج النقد عند المحدثين» للدكتور محمد مصطفى الأعظمي (ص 50-79) ، و «نقد الحديث بالعَرْض على الوقائع والمعلومات التاريخية» للدكتور سلطان العكايلة.(2/759)
ولا بُدّ بهذا الصدد من التذكير بـ (ضرورة إثبات صحة الواقعة التاريخية إثباتاً يقينيّاً جازماً) ، «وذلك يعني: اتفاق المؤرخين الثقات على الواقعة التاريخية» (1) ، ولو توافقت الواقعات، أو تشابهت، فلا بُدّ من التروِّي وعدم التسرع في الإسقاط، حتى يتبرهن عنده شدة الانطباق، ويزول الشك، ولقد سبق القول مني: إنّ الإسقاط اجتهاد، وقد تختلف وجهات الأنظار، وهذا ما نجده في كتب الشروح.
ومما ينبغي التركيز عليه هنا: إنّ إسقاط النصوص على وقائع متخيَّلةٍ، غير واقعة بعد، لا يمتّ بصلة إلى منهج علمي مطرد، وإنما هي أشياء تنقدح في أذهان البشر، وتجري على أفهامهم، والخطأ فيها أكثر من الصواب.
وأزيد الأمر وضوحاً؛ فأقول:
في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، أو قبل وقوعها، وتجدد إحساس الإنسان للصور المودعة في هذه القوة، تسمى تصوراً أو تخيّلاً.
وللتخيل أسباب، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس: المماثلة (أنْ يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة) ، ويليه التضاد (أنْ يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل) ، ثم (الوحدة المكانية، والوحدة الزمانية) .
والوحدة الزمانية: أنْ تحس الشيئين في زمن واحد؛ فإذا وقع بصر الإنسان على شيئين في وقت واحد، ثم رأى أحدهما بَعدُ؛ تذكَّرَ الآخرَ، بل إذا حدّثَ عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورةٌ في قوته الحافظة، ثم رأى أحدهما، أو جرى ذكرُه في المجلس، حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر.
_________
(1) «نقد الحديث بالعَرْض على الوقائع والمعلومات التاريخية» (ص 73) .(2/760)
ويدخل في هذا الباب تذكر الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند ذكر أسبابها؛ كتذكر النار عند ذكر الحرارة أو الدخان، وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عد علماء البلاغة من علاقات المجاز السببية والمسببية.
وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط؛ ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة آخر، ومن هذه الصورة إلى غيرها، وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصورة المماثلة، أو المتضادة، أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد.
فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة وما يقع الانتقال منها إليها، وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقهما في أسباب ارتباط هذه الحلقات، ثم يفترقان في غيرها من الحلقات، فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر.
وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء، فأفكار البدو لا يطول تسلسلها؛ لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور، بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلته صارت بعيدة المدى؛ فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور، ويتفاضلون في التخيل -أيضاً- من جهة قوة الانتباه لما بين الأشياء من المناسبات.
وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تُحسُّ أحدَهما ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر ما في ذلك الأمر الذي أحسَّتْه من معنى يجلب اهتماماً شديداً، وتأثراً بالغاً.
ثم إنّ المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى من غير قصد إلى غرض، ومن غير أنْ تكون تحت رعاية العقل؛ فتسمى مخيلة آلية، وقد يكون انتقالها(2/761)
صادراً عن إرادة ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقة؛ فتسمى مخيلة علمية، وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة؛ فتسمى مخيلة إبداعية.
فالمخيلة الآلية هي التي تسير دون قصد إلىجهة خاصة أو غرض معين؛ كأن يحصل للإنسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى إلى آخر، ويجول في جملة من صور الأشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام ولا قصد إلى استنتاج.
ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة، حيث يزول الانتباه ولا يبقى للإرادة سلطان؛ فتجري المخيلة طَلِقةً من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبةً، أو لذيذةً، أو مؤلمة، ومن المرائي ما هو إلهام إلهي، كما ثبت في نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة.
والمخيلة العلمية هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها، حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها -على قانون المنطق إدراك- حقيقة كانت خافية، ويقول المتحدثون عن العالم «نيوتن» : إنّ مخيلته العلمية قد انتقلت به ... من مشاهدة تفاحة سقطت على الأرض وانساقت به إلى النظر في قانون الجاذبية.
والمخيلة الإبداعية يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة؛ إمّا محسوسة -كما يفعل الصانع الماهر-، أو معنوية -كما يفعل الشاعر المجيد-، فالصانع يفسح المجال لمخيلته فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء، ويساعده ذوقه على أنْ ينتقي من تلك الصور ما يركب منه صورة جديدة (1) .
_________
(1) انظر: «رسائل الإصلاح» للشيخ محمد الخضر حسين (2/30-34) (قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية) ، فما ذكرناه سابقاً مأخوذ منه باختصار.(2/762)
وكذلك حصل مع هؤلاء الخائضين؛ فإنهم بعثوا مخيلتهم، وأطلقوا لها العنان، وما زالت تقع على تصور بعد آخر من الحوادث، حتى اجتمعت عندهم ما مكّنهم من تركيب مسلسل لا عهد لأحد به من قبل.
واجتمعت عندهم جميع أنواع المخيلات السابقة: العلمية؛ إذ راحوا يستدلون ويبحثون وينظرون ويوثقون من غير منهج، وبطريقة غريبة لا علمية، وإبداعية بإسقاط ما حصلوا عليه من أحاديث وأخبار في زعمهم على أحداث وأشخاص، وآلية سارت بهم إلى جهة خاصة، وغرض معين، ولكن بقصدٍ، بحكم التداخل الحاصل.
وهذا يؤكد ما قدّمناه من أنّ الإسقاط القائم على التصور هو من (ملح العلم) ، إذ هو غير محكوم بقواعد مطردة، ولا هي ثابتة ولا عامة.
ويؤكد -أيضاً- الخلاف الجذري بين هؤلاء الخائضين في بعض الإسقاطات؛ مثل: شخصية السفياني، وكذا في تحديد كثير من الأوقات؛ مثل: وقت ظهور المهدي، وانتهاء دولة اليهود.
ولا بُدّ -من جهة أخرى- من مراعاة التطابق والتشابه بين فريق من هؤلاء الخائضين (1) ، ولا يعود هذا إلى كون ما بحثوه من (صلب العلم) ، وتوفر خصائصه في أبحاثهم، لا واللهِ! وإنّما لأسباب أخرى؛ مِن أهمها:
1- الذين أشغلوا الناس، وأثاروا الضجيج في الإسقاط نفر يسير، لا يتجازون عدد أصابع اليد الواحدة.
2- أنّ اللاحق يتبع السابق.
_________
(1) في بلادنا واحد من هؤلاء، لا همَّ له في الآونة الأخيرة إلا تهيئة المناخ لخروج (المهدي) ، ويقسم في خطبه أيماناً مغلظة أنّ خروجه سيكون قبل عشر سنوات، ثم نقصت المدة، وبدّل اليمين بطلاق زوجته، ثم غيَّره إلى حلق شاربه، ولله في خلقه شؤون!(2/763)
3- التواطؤ المسبق بينهم (1) ، مما يثير الريبة في صنيعهم، ولا سيما عند تكرار الكذبات التي لا نصيب لها من الصحة بمعايير النقد.
4- الهمُّ في كثير من هذه الدراسات الربح المادي، والسبق الصحفي، ولذا أخذ بعضها من بعض، بل صرح بعضهم أنه حصل اعتداء وسرقة على كتبه، وصرح بأنه مختَرِع وله سبْقٌ في هذا الباب (2) !
5- جُلُّ الخائضين من بلدة واحدة -وهي: مصر-، وظهرت تخرصاتهم في أوقات متقاربة حول أحداث متلاحقة محورها (العراق) ، وما عداها فيخص (فلسطين) والغاصبين لها، وبعضهم ربط بينهما، وزاد آخرون المهديَّ وصلتَه بما يجري، وأضاف بعضهم عنصراً آخر، وهو تأريخ زوال دولة (يهود) (3) !!
وإذا استعمل المحدِّثون قديماً المعلومات التاريخية الثابتة مقياساً لتمييز المقبول من المردود من الروايات؛ فإنّ هذا يفيدنا جدّاً في محاكمة نفرٍ من هؤلاء الخائضين العابثين، الذين قرروا وقوع أحداث، وعيَّنوا لها تأريخاً من عند أنفسهم، وجاء وقتها، وتبرهن عدم وقوعها (4) ، وأسقط هؤلاء أنفسهم
_________
(1) على المسلم الفطن أن يعلم في الحقبة الزمنية الحرجة التي يعيش فيها، أنّ له عدوّاً في الملّة والنّحلة، وأنه يكيد له في الخفاء، وصدور هذا الكيد أمر ضروري التصور، محتوم الوقوع، ما لم يكن للأمة المسلمة الوسائل الكافية التي تأمن بها -بعد الله- الوقوع في الأحبولة، وليس من الضروري أنْ نعلم كيف يكيدون في الخفاء!! المهم أنْ لا نكون (الأضحية) ! ولا (الفريسة) !! ولا (أداة الكيد) !!! ونحن لا نشعر.
(2) انظر عبارته بالحرف (ص 640، 708) .
(3) ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات كثيرة في هذا الموضوع، تدلل على مدى القهر في نفوس الصادقين، فراحوا يبحثون عن تنفيس، فخرجت معهم بتقميش، حتى ولو من كلام العجائز من اليهود!
(4) علماً بأنهم لا يد لهم في تكوينها أو تعديلها أو التغيير فيها، ولا يتصور ذلك، وتلعب المعاينة والمشاهدة دوراً أساسيّاً في تقويم ما قالوه، ولا مجال بعد ذلك إلا صدقها أو كذبها، =(2/764)
والناس في فتنة، وازدادت أتونها بعدم وجود ضوابط ومعالم كليّة للتعامل مع أحاديث الفتن وأشراط الساعة عند الخاصة فضلاً عن العامة، ويا للأسف! لم تظهر هذه الضوابط -أيضاً- على صفحات كثير من الردود التي تصدّت لهؤلاء الخائضين، وكان القارئ لها بتمعن يخرج منها وقد ظهر له الكذب الذي فيها (1) ، دون تحصيله لضوابط علمية، وهذه الضوابط -بالجملة- موجودة في تطبيقات علمائنا الثقات الربانيين، وهي متفرعة عن أصول الأقدمين العلمية المنهجيّة، ولكنها مبعثرة في كتبهم، وليست حاكمة على جميع أجزاء الأحداث المستقبليَّة، وتسلل الخائضون بغفلةِ أهل المراقبة والتقويم إلى مساحاتٍ الأضواءُ فيها خافتة، والجهودُ غير مركّزة، وكان عندهم شَرَهٌ في التقميش دون التفتيش، ووجدوا بغيتهم في الانتقاء من ركامٍ كثير، ومزجوه بتصريحات الساسة، وما هو متداول في وسائل الإعلام، ومع تأزّم الأحداث صنعت (سيناريو) (2)
لها، وشارك هؤلاء -بقصد أو دون قصد- فيها، وانتهت الأحداث (3) ، وأسقطت غربال النقد عنها (4) ، وأسهم ذلك عن ضرورة
_________
= ورجل يجعل نفسه عرضة لميدان الكذب؛ جريء على الغيب، قليل التوفيق، بعيد عن منهجية العلم وطريق العلماء.
(1) إذا كان طالب علمٍ، أمّا إنْ كان من العوام، فلعله يناطح وينافح ويدافع! بترّهات وجعاجع!
(2) هكذا وقعت هذه الكلمة (سيناريو) عند (أمين) في «هرمجدون» (ص 66) ، قال: «وهنا قد يحدث أحد (السناريوهات) الآتية حتى تقع واقعة هرمجدون ... » ،. وقال (ص 67) : «وفي كل الأحوال وعلى كل (السناريوهات) سيستعين الروم بالمسلمين ... » ، وقال في الصفحة نفسها: «ولن أجهد نفسي في توقع (سناريوهات) أخرى» و «هو يقطع علينا كل استرسال في التوقع والتصور، ووضع (السناريوهات) المحتملة» .
(3) التي خاض فيها العابثون، وإلا فمن (العراق) تُهيَّج (الفتن) -كما قدمناه-، اللهم لطفك وحنانيك بالمسلمين عامة، وبدار التوحيد والخير منها خاصة، اللهم احفظها من كيد الكائدين، ونجِّها من مؤامراتهم وتخطيطاتهم.
(4) إذ ظهر للعيان كذب ما حددوه وعيّنوه، واشتركت الحواس العديدة من البصر =(2/765)
تقويم الدراسات التي ظهرت، ولا شك أن الأخطاء المنهجية فيها قد أثقلت العبء على الصادقين في ضرورة ترسّم المعالم التي تضبط السير في المهيع الصحيح.
وسبق أن ذكرتُ شيئاً من هذه الضوابط، وأذكر هنا بعض المعالم التي تزيد الأمر وضوحاً؛ فأقول:
مما ينبغي أنْ يُعلم بهذا الصدد:
1- إنّ الإسقاط أمرٌ يمكن القول به، وتقرير صحته، ولكنا من خلال تتبع وقوعه عند العلماء نجدهم يقولون به -في الغالب- من غير جزم ويقين، وإنما على وجه الظن والتّخمين.
2- إنّ عباراتهم ليس فيها إلزام أنّ النص لا يحتمل إلا هذه الحادثة، ولا اعتبروا مخالفيهم مخالفين للدين، بل غايته أنه معنًى انقدح في نفوسهم، وعرضوه على ما عندهم من علمٍ، وما في مخيلاتهم من أحداث، فوجدوه حقّاً وصدقاً، فذكروه على هذا الوجه، وعرضوه على أنه معنًى محتمل لاحَ لهم، وخيَّروا الواقفين عليه بين القبول والردّ، وعلى تتابع الزمان، وكثرة النظر فيه بإمعان، من قِبَلِ أهل الشأن، يتمحص الحقّ، ويظهر الخير، ويزول الشرّ.
3- لم يقم في تصوّر علمائنا الأقدمين ألبتة أنهم ملزمون بإجراء هذا الإسقاط (1) !
_________
= والسمع واللمس في ضبط ما وقع على عكس ما زعموه، وهذا أقوى بألف مرّة من أخبارٍ وُظّفت على جهة تنقصها الدقة والأمانة والنزاهة!
(1) وإلا لكثر ذكره، واشتهر التمثيل عليه، والأمر ليس كذلك، ويمكننا القول: إنّ هذا النوع من الإسقاط لم يكن مقصوداً عندهم بالتأليف، ولا يعرف له عندهم تأصيل، وإنما مجرد تمثيل، ويقع لهم عَرَضاً، ويأتون به ضمن شروحاتهم للأحاديث، بخلاف بعض المعاصرين حديثاً، فقد خاضوا وأكثروا بجرأة، وخبطوا وخلطوا بقحّة!(2/766)
4- لقلّة التوفيق في هذا الإسقاط، ولكون هذا النوع (الإسقاط) من (الملح) (1) لا من (الصلب) ؛ لم نجد عنايةً متميزةً به من حيث ذكر الضوابط (2) ، ولكثرة عبث الخائضين فيه أخيراً؛ ارتفعت أصوات بعض المعاصرين (3) من المخلصين بذمه، وضرورة نبذه وهجره، وتجد -بالتتبع- في كلام الأقدمين استعماله بقدره، وهذا حق، وهذا حق؛ إنْ رُوعيت الشروط والضوابط، وجوداً وعدماً.
5- من نافلة القول: إنّ عدم توفر شروط تنزيل النص على حادثة ومحل في الواقع؛ لا يفهم منه البطلان والضعف (4) .
_________
(1) من دقّة صنيع الشاطبي في «الموافقات» (1/113) ، أنه ذكر تسعة أمثلة على (الملح) ، وقال:
«فهذه أمثلة تُرشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بيِّنةٍ فيما يأتي من العلوم وَيَذَر؛ فإنَّ كثيراً منها يستفزُّ الناظرَ استحسانُها ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمداً في عمل ولا في اعتقاد، فيخيبُ في طلب العلم سعيُه، والله الواقي» .
قلتُ: فإلحاق هذا النوع بـ (الملح) -إنْ أصبتُ فيه- فهو بناءً على تأصيل الشاطبي وتقريره، وهو من ثمراته، ومن بركة العلم عزوه إلى قائله، والله الهادي.
(2) لا القواعد، فتأمّل!
(3) انظر ما قدمناه قريباً.
(4) هذه النقطة هي عقدة (العقلانيين) في التعامل مع (أحاديث الفتن) ، والتفصيل فيها لا يحتمله المقام، ووجدت رسالة مطبوعة بعنوان: «العقلانيون ومشكلتهم مع أحاديث الفتن» جيدة في الجملة، وعليها مؤاخذة منهجية؛ إذ تورط صاحبها في الإسقاط، فها هو يقرر فيها (ص 7) أن (فتنة الدهيماء) الواردة في حديث صحيح هي: «وقف الكمبيوتر فجأة، والناس يعودون إلى مئة عام إلى الوراء، لكن الفرق هنا أشد، حتى سقوط الحكومات لهذه الفاجعة المذهلة، سيعيث الفساد في الأرض، وتكون الدنيا في ظلام، لا كهرباء، ولا مواصلات، ولا أمن، والقوي سيأكل الضعيف ... -بلا شك-؛ بحثاً عن الطعام أولاً، والأموال ثانياً، وهذا في أنحاء الأرض كلها، حيث يوجد أفراد الأمة الإسلامية» ، قال: «وهذا أنسب تفسير لهذا الحديث، نسأل الله العافية» !
قلتُ: أقام هذا التفسير بناء على ما شاع في فترة ما قبل سنة (2000) ميلادية من وجود =(2/767)
6- إنّ الجزم بعدم وقوع الحادثة الواردة في النَّص (1) -بعد- أمر
_________
= مشكلة الصفر في الكمبيوتر، ولا أدري ما العلاقة بين هذا -الذي ظهر خطؤه- والوارد في الحديث؟! (نسأل الله العافية) !
وهذا الإسقاط يذكرني بغلوّ العقلانيين في استخراجهم الحقائق العلمية من القرآن الكريم والحديث النبوي، وهذه الظاهرة شبيهة بالظاهرة التي نحن بصدد علاجها من بعض الأوجه:
1- كل من النوعين يدفع الخطر عن كون الدين ليس مُنزّلاً من عند الله رب العالمين؛ فما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - وسيقع، وما أثبته العلم مما جاء في القرآن -على زعم هؤلاء وأولئك- يؤكد لهم أنّ القرآن والسنة حق من عند الله -عزَّ وجلَّ-.
2- جُلُّ الباحثين في هذا المضمار أو ذاك على وجه تفصيلي إسقاطي من غير العلماء المتخصصين في علوم الشريعة.
3- يكثر الخطأ عند الفريقين بغلوّهم وكثرة إسقاطهم مع عجلة وتهوّر، ويتبرهن الخطأ على ذلك بمضيّ الزمان، ويكون على وجه ظاهراً للعيان، بعيداً عن قواعد العلماء، إذ كلاهما محلّه (الملح) لا (الصلب) ! والخطأ في هذا النوع يُتندّر به، و (مضروب به الطبل) ، ومضت أمثلة من كتب شاعت وذاعت، وأقبل عليها -في فترة الفتن العاصفات- أُلوف، وهي اليوم عند المنصفين أقرب إلى الخيالات والعبث، وإن احمرت أُنوف!
وصنيع هؤلاء شبيه بما حكاه الشاطبي في «الموافقات» (2/127 - بتحقيقي) : «إنّ كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدّمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها» .
قلتُ: وهكذا يقال في الخائضين في الفتن والملاحم من القصاصين قديماً ومن لفَّ لفَّهم حديثاً.
4- هذان النوعان قد يصدق الخائضون فيهما قليلاً، وقد يكشف مضي الزمان على صدق تقريرهما، ولكن -على التحقيق- لا يكون للنص صلة بهما؛ فقد يفصل باحثٌ الكلام على نظرية ويكون الكلام حقّاً، ولكن النزاع معه في إسقاطها على النص، وهكذا في الوقائع؛ فإنه لا تناقض بين العلم والدين، ولا بين النصوص وما سيكون بقدرة الله -عزَّ وجلَّ-، ولكن أن يقال: إنّ الآية كذا، أو الحديث كذا، هو المراد بهذا الإعجاز، أو تلك الحادثة؛ فهذا أمر لا يُقبل إلا من أهل العلم وبالمنهجية العلمية.
(1) تقسيم أشراط الساعة إلى صغرى ووسطى وكبرى غير دقيق -في نظري-؛ إذ =(2/768)
مستقيم، كثير الوجود عند علمائنا، ومثله نفي تنزيل حديث ما على واقعة ما (1) .
7- تنزيل أكثر من حادثة على نص واحد أمر موجود في كلام الشراح، ويبقى الأمر في عداد الاحتمال، ما لم تظهر أمارة لائحة على تحديد المراد، ومثاله ما قدمناه من أقوال الشراح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق ... » الحديث.
8- يمكن أنْ يستفاد مِن الوقائع الحادثة، ولا سيما تلك التي لم يكن لها شبيه عند السلف في توسيع مدلول النصوص، مع ضرورة مراعاة عدم التعسف ولا التكلف في ذلك، وضرورة عدم قصر النص على هذا المدلول (2) ، فضلاً عن حصره في واقعة معينة؛ قابلة للخطإ والصواب، والتعديل والتبديل (3) ؛ فإنّ بعض المتعجلين يسارعون إلى المطابقة على حوادث محصورة محدودة، بقصد بيان ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من تنبؤات! فيرغمون النصوص على أنْ تحمل معاني وتأويلات بعيدة عن مدلولها، ولا
_________
= الصغرى اليوم قد تكون الوسطى أمس، وهكذا، وعجلة الزمان تدور، وتقسيمها إلى ما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - ووقع، وما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - ووقع شطره، وينتظر وقوع الشطر الآخر منه، وما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - ولم يقع، أدق وأحسن، وهو الذي مشى عليه ابن كثير في «الفتن والملاحم» وغيرُه.
(1) الأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها:
عن عوف بن مالك -في طاعون عمواس-: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعدد ستّاً بين يدي الساعة ... » الحديث، وأصله عند البخاري، قال: فقد وقع منهن ثلاث (يعني: موته - صلى الله عليه وسلم -، وفتح بيت المقدس، والطاعون) ، قال: وبقي ثلاث، فقال له معاذ: إنّ لها أمداً. هذه رواية الحاكم، وقال ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 132) : «وقد وقعت إفاضة المال في زمن عثمان -رضي الله عنه-، والفتنة العظمى بقتله، والسادسة لم تقع إلى الآن» . وانظر: «فتح الباري» (6/278-279) .
(2) بل فيه ما قد يشير إليه فحسب!
(3) كما وقع للمتتبع للكتب التي ظهرت حديثاً! وعالجت المستجدات من غير أصول علمية!(2/769)
يفهمها العرب ألبتة، ولا يمكن أن تجتمع العقول الصحيحة ولا الأفهام السليمة التي تعرف الدلالات الشرعية عليها!
وأرى أنّ هذه النقطة تحتاج إلى مزيد تجلية (1) ؛ فأقول:
إنّ الذي أراه سائغاً؛ أنْ تكون العلاقة بين بعض (النصوص) وما (يستجدُّ من أحداث) علاقة أمر كلي: (النص) ، بأمر آخر جزئي: (الحدث) ؛ بمعنى: أنّ النص كلي في مضامينه، ولكن ما استجد من نوازل ارتبط بأمر جزئي في مضامينه؛ بمعنى: أنه ما كان ورود النص يتوقف على وجود هذا الحدث الجزئي، وهذه الوجهة تختلف تماماً عن وجهة أولئك الخائضين المطابقين بين (النص) و (الحدث) ، الزاعمين أنّ ورود النص أصالة جاء لهذا الحدث، محصوراً فيه، غير متجاوز إيّاه (2) .
ولا يخفى أنّ الذي ذهبنا إليه، يجعل النص متعالياً على الأشخاص، والزمان، والمكان، ويجعل الحدث داخلاً ضمن المضامين الكلية، والمعاني العامة الشاملة لمفردات كثيرة، وحوادث غير متناهية، يمكن أنْ تنطبق عليها النصوص.
فمثلاً؛ أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن (الهرج) في آخر الزمان، فلو رحنا نعدد الوقائع التي يشملها النص، لوجدناها كثيرة، وكلها داخلة في مضامينه الكلية، وأما أنْ يزعم شخص ما أنَّ هذا (الهرج) هو واقعة معينة، يحصره فيها،
_________
(1) إذ التفريق بين (السائغ) و (الممنوع) غير واضح في أذهان الخائضين، ومزجوا بين الأمرين، وخرجوا علينا بنتائج لم يسبقوا إليها، بل بطريقة (مبتدعة) من الجمع والتقميش.
(2) ونردد مع صاحب «فقه التدين فهماً وتنزيلاً» (1/98) قوله -وإنْ كان وضعه في غير هذا المكان- أنّ عند هؤلاء «نزعة نلحظ فيها رواجاً لدى مَن يرومون المروق من بدء الاستمرارية في الهدي النبوي، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية» ، قال: «ومن البيِّن أنّ هذه النزعة كفيلة بأنْ تهدم الدّين أصلاً، وحيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويؤول به إلى العطالة الكاملة» .(2/770)
ويطابقه عليها، من غير قرائن معيّنة لهذه الواقعة؛ فهذا أمر بعيد عن الموضوعية والعلمية، فإنّ النصوص فوق ذات التاريخ، ولا تخضع لما تخضع له الأسباب التاريخية؛ من النسبية والجزئية الحقيقية، وإلاّ لانتهى بنا الأمر إلى إلغاء النصوص باعتبار أنها وقعت وانتهت، ويتوقف إدراكها إدراكاً حسناً على ما يستجد من أحداث، ولعلها تكون في يوم من الأيام أدوات معينات ومساعدات مهمات على حسن فهم النص، وإدراك مراميه وأبعاده.
ويعجبني كلام ابن عقيل الظاهري (1) ، ظفرت به بعد تدوين هذه السطور (1) ، قال: «أنه سيكون للأمة تمكين وقوة قبل أوان الملاحم التي يتعجل محاضرو الأشرطة بربطها بأحداث جزئية في الرقعة، مع أنّ سياق تلك الأحاديث بخلاف واقع الأحداث الجزئية.
قال أبو عبد الرحمن: ومع الحذر من حمل أحاديث الملاحم على الأحداث الجزئية في مثل الوضعية التي ذكرتها؛ فهذا لا يعني إلغاء الدلالة إذا وجدت.
ألا ترون كثرة القتل في الأمة بأيدي المضلين من أبناء جلدتنا باسم الثورة الانقلابية، أو الثورة التصحيحية، أو القانون العلماني، أو الهمجي كقانون العقوبات الذي يذبح به (صدام حسين) أبناء الأمة» .
9- ينبغي أن يكون في الحسبان أنّ الحوادث التي نعيش؛ لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى ما مضى، وما سيأتي، ولعل هذا يعطينا الأمان في التمهل والتروِّي.
_________
(1) وهو يلتقي مع ما زبرناه، وكلامه في كتابه الجيد «التفريغ أولاً.. والتغيير ثانياً، أو الهوية العربية بين زوابع الابتلاء» (ص 122-123) ، والكتاب دراسة تأصيلية لحزب البعث وأطروحاته، وبيان مزالقها وخطورتها، بتتبع جيد لكلام رؤسائه ومؤسسيه، والمروّجين له من الأدباء والشعراء.(2/771)
10- ينبغي عدم الخلط -ولا سيما في وقت الفتن والأزمات- بين النص الذي فيه عصمة، وهو ثابت النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند المحققين من المحدثين، وغيره مما اعتراه تغيير أو تحريف من كتب الديانات الأُخرى، فضلاً عن الكتب المفتراة على آل البيت، أو كتب التنبؤات، وهي أشبه بكلام الكهنة والمشعوذين، وتأتيهم به الشياطين، وهم «ليسوا بشيء» (1) .
والعجب من صنيع الخائضين أخيراً، فيا ليتهم اقتصروا على الخلط المذكور، ولكنهم زادوا إليه تصريحات بعض الساسة في الغرب أو في الشرق، وكلام بعض الصحفيين، ونزعوا منه -وهو كثير قليل البركة (2) - ما تخيّلوه، ووجدوا ضالتهم فيه مجموعاً! ولو أنهم تثبتوا، ولم يخلطوا، لأراحوا واستراحوا.
11- الواجب عند الإسقاط فحص الأحداث وسبرها مع ما يحتف بها من أمور، وليس الفحص فقط لصحة وقوعها، وإنما يشمله -أيضاً- معرفة الوقائع السابقة والمجريات المشابهة، وسنن الله الجارية في الكون، وألمح ابن خلدون إلى ذلك بقوله:
«إنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم على مجرد النقل؛ غثّاً أو
_________
(1) ثبت في «صحيح البخاري» (رقم 5762) عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ناسٌ عن الكهان؟ فقال: «ليس بشيء» ، فقالوا: يا رسول الله! إنهم يحدّثونا أحياناً بشيء فيكون حقّاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الكلمة من الحقّ يخطفها من الجني فيقرها في أُذن وليّه، فيخلطون معها مئة كذبة» .
(2) عدا الذي فيه عصمة.(2/772)
سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعايير الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار» (1) .
وهذا الكلام متين رزين، ومهم غاية، ويوظّفه المتبصّرون في الأزمات في كشف الانتحال والتهور والكذبات، والعمل على إبعاد الآفات والنكبات على شخوصهم ومجتمعاتهم قدر مكنتهم، والله الواقي من الشرور والمنكرات، والموفق والهادي للصالحات.
ويتأكد لك ما قلناه، وتتبرهن صحة دعواه بعرض ما سطرناه على ما في كتب الشروح حول (الهرج) -مثلاً- ومداه.
قال ابن بطال (المتوفى سنة 449هـ) في شرح ما أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب ظهور الفتن) ب (رقم 7061) بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقَّى الشّح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» :
«هذا كله إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأشراط الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عياناً، وأدركناها؛ فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وأُلقي الشح في القلوب، وعمّت الفتن، وكثر القتل» (2) .
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (المتوفى سنة 852هـ) معلقاً على قول ابن بطال هذا:
«قلتُ: الذي يظهر أنّ الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله،
_________
(1) «مقدمة ابن خلدون» (ص 9) .
(2) «شرح ابن بطال على صحيح البخاري» (10/13) ، ويعجبني ما قاله المناوي في «فيض القدير» (2/444) عند شرحه: «وفيه حث على اقتباس العلوم الدينية قبل هجوم تلك الأيام الدنيئة الرديئة» !(2/773)
والمراد من الحديث: استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلاّ النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك ... ، وكذا القول في باقي الصفات، والواقع أنّ الصفات المذكورة وُجدت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاث مئة وخمسين سنة، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث الباب الذي بعده: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» (1) » (2) .
وإذا كان الحافظ -رحمه الله- قد ذكر أنّ كلام ابن بطال -والمتضمن أنّ جميع الصفات المذكورة في هذا الحديث قد وقعت ورؤيت عياناً- قد مضى عليه نحواً من ثلاث مئة وخمسين سنة، ثم ذكر أنّ هذه الصفات في ازدياد، وذلك حسبما ظهر في عصره وازداد، فما بالك في عصرنا هذا المُحْزِن الذي تدمع له الأعين وتدمى له القلوب، وبينه وبين عصر ابن حجر مدة مديدة، وأزمنة بعيدة؛ فإنّ الحافظ -رحمه الله- قد توفي في منتصف القرن التاسع؛ وبالتحديد في سنة 852هـ، ونحن الآن في أواخر سنة 1424هـ، فتبين أنّ بين عصره -رحمه الله- وعصرنا بون شاسع، وفرق واسع، يقرب من نحو خمسة قرون ونصف القرن؛ وبالتحديد اثنتان وسبعون وخمس مئة سنة (572) ، والله المستعان، وعليه التكلان.
والشاهد من هذا: أنّ (الهرج) -على اختلاف الأمصار والأعصار-
_________
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه) (رقم 7068) .
(2) «فتح الباري» (13/18-19) .(2/774)
يشمله عموم الحديث، وليس محصوراً بواقعة معينة، وبهذه النظرة نحسن ربط ما توصّلنا إليه بخصائص النص الشرعي؛ من الإيجاز والإعجاز في أسلوبه، وما فيه من خاصية المرونة والسَّعة.
12- لا بُدَّ من معرفة شخصية مَن يكتب في هذا الباب، وجمع المعلومات العلمية عنه، وعن كتبه، وإنْ كان المؤرّخون لا يثقون بالخبر إلا بتعيين شخص المؤلف الذي دوّن الواقعة، ويعتبرون ذلك من «إحدى أهم قواعد التحقيق العلمي الصحيح» (1) ، فلا جرم أن هذا الباب أولى بهذه العناية، ولا سيما أنَّا وجدنا أخباراً مختلقة، أو محرفة (2) ؛ صنعت -أو حُرِّفت- خصيصاً لهذا الإسقاط.
ويعجبني كلام لبعض المؤرخين المعاصرين، قال فيه: «إنّ قيمة المعلومات التي يوردها المؤلف ترتبط كل الارتباط بشخصيته، ومدى فهمه للحوادث، وبكل الظروف التي تحيط به على وجه العموم» (3) .
13- وأخيراً ... من الضرورة بمكان أنْ نتيقّن على أنّ الأحاديث الصحيحة في الفتن إنّما هي من الغيب الذي أطلعنا الله عليه، وبالتالي هي تتصف بصفة كونها من الله -عزَّ وجلَّ-، ومعنى أنّ هذا: إن الله -عزَّ وجلَّ- لمَّا أوحاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن غافلاً عما سيؤول إليه الأمر، وهو يورد جزءاً من نصٍّ كليٍّ يُمهِّد به إيراد جميع أجزاء النصّ في مرحلة معينة، وذلك لأنه لا يخفى عليه ما كان، وما يكون، وما سيكون، وليس ثمَّ صاحب نص يتصف بهذا الأمر، بل جُلُّ النصوص البشرية المصدر تأتي إما لوصف أمر
_________
(1) انظر: «مناهج البحث وتحقيق التراث» (126-131، 142-143) لأكرم العمري، و «نقد الحديث بالعرض على الوقائع والمعلومات التاريخية» (ص 85) .
(2) مضى التمثيل على ذلك فيما سبق.
(3) «منهج البحث التاريخي» (ص 100) لحسن عثمان.(2/775)
مضى، أو لوصف أمر قائم، أو استشراف أمر مستقبل، ولكنه لا يستطيع أنْ يأخذ في الاعتبار هذه الأمور الثلاثة في آنٍ واحد، ويتحقق كلها كما توقعها وافترضها.
وعليه؛ فإنَّ متفهّم النص الشرعي، ينبغي له أن يُراعي هذه الخاصية، وينظر في النصوص نظرةً موضوعيّة شموليّة تكامليّة؛ بحيث يفصِّل ما ورد مجملاً بما ورد مفصّلاً، ويخصّص ما ورد عامّاً بما ورد خاصّاً، ويحمل ما ورد مطلقاً على ما ورد مُقيّداً، وبهذا ينجو المرء من ضرب النصوص بعضها ببعض، ومن التعسف في فهم مقاصد الشريعة وراء التنجيم والتفاوت في التنزيل والورود» (1) .
ولو أنّ الخائضين المتعسفين انتبهوا إلى هذه الخاصية؛ لأقلعوا عن صنيعهم بالجملة، ولساروا في قافلة الخير؛ باتباعهم منهج العلماء، وطريقتهم في التعامل مع أحاديث الفتن، وشروحها، وربطها بما يجري من واقعات.
ولقد كنتُ -واللهِ- بصدد الإعراض عن الخوض والكلام في هذه المسألة؛ لأنّ متقدّمي علمائنا قد كفونا مؤنة الاستفادة من الأحاديث، والذي نحتاجه: أنْ نتبع طريقتهم، متيقنين أنّ عجلة الزمان تدور، والأحداث -سواء التي تشملها النصوص، أو التي تعنيها بخصوصها- لم تتوقف، ولكن الرغبة في أنْ لا ينخدع الناس بما جاء به الخائضون الجدد (2) ، والحرص على أنْ لا يفهم مَن يميل إليهم ممن غلبت عليهم العجمة؛ أنّ مجتهدي وعلماء هذه
_________
(1) «في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 5) .
(2) خاضوا في الكلام في الأحاديث دون أساس متين؛ لأنهم ليسوا ذوي أهلية، ولا كفاية، لا في الإثبات ولا في الاستنباط، فكان إثمهم أكبر من نفعهم، بل لا أكون مجاوزاً للحقيقة إنْ قلت: إنّ خوضهم أفضى بهم إلى مخالفة ما أجمع عليه المسلمون، وإلى إشاعة الفوضى في الاستدلال، ومسايرة الهوى باسم الشرع! ولعل بعضهم يستبين بما سطرناه أنه تحمس، ودوّن شيئاً مأخوذاً من غير أصل، ويقول لقارئيه -في صرامة! -: قد تعجلنا أو أخطأنا في الفهم، أو خرجنا على ما تقتضيه أصول العلم.(2/776)
الأمة، وسلفها الصالح لم يلتفتوا إلى ما التفت هؤلاء إليه.
كل ذلك دعانا إلى العناية بهذه الضوابط والمعالم، وبيان وجه الصواب فيها، ومِن الله -سبحانه- العصمةُ والتوفيقُ.
«جعلنا الله ممن تكلّف الجهد في حِفظ السُّنن ونشرِها، وتمييزِ صحيحِها من سقيمها، والتّفقهِ فيها، والذَّبِّ عنها، إنّه المَانُّ على أوليائه بمنازل المقرّبين، والمتفضّلُ على أحبابه درجة الفائزين، والحمدُ لله رب العالمين» (1) .
_________
(1) «ثقات ابن حبان» (9/297) .(2/777)