لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.
والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة; وهو يظهر أنه أراد وجه الله، وإنما صلى، أو صام، أو تصدق، أو طلب العلم، لأجل أن الناس يمدحونه ويجل في أعينهم، فإن الجاه من أعظم أنواع الدنيا.
"ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، بكى معاوية بكاء شديدا، ثم قرأ هذه الآية".
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة، ومقصده بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة" إلخ.
وكما يتعلم العلم لأجل مدرسة أهله، أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة، لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا; وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها; والذين قبلهم(13/220)
عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل.
والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة.
النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله، مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر، يخرجهم عن الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم؛ فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره؛ وكان السلف يخافون منه.
قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة آية: 27] . فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله، أو أكثره، فصارت الدنيا أكبر قصده.
فلذلك قيل قصد الدنيا، وصار ذلك القليل كأنه لم(13/221)
يكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: " صل فإنك لم تصل ". والأول أطاع الله ابتغاء وجهه، لكن أراد من الله الثواب في الدنيا; وخاف على الحظ والعيال، مثل ما يقول الفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا. والثاني والثالث واضح.
لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا كثيرة أو قليلة قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو الواقع كثيرا.
فالجواب: أن هذا عمل للدنيا والآخرة، ولا ندري ما يفعل الله في خلقه; والظاهر: أن الحسنات والسيئات تدافع، وهو لما غلب عليه منهما; وقد قال بعضهم: إن القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله; ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال. وأما الفرق بين الحبوط والبطلان، فلا أعلم بينهما فرقا بينا، والله أعلم.
[المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} ]
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله عز وجل لما ذكر قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة هود آية: 49] : إذا تأمل الإنسان حاله أولاً، وما تعلم من العلوم من أهله، ثم تفكر في هذه القصة، هل علم منها زيادة على ما عنده أو لا؟ عرف مسائل:(13/222)
الأولى: عظمة الشرك، ولو قصد صاحبه التقرب إلى الله، وذلك مما فعل الله بأهل الأرض لما عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.
الثانية: شدة بطش الله وعقوبته، حيث أرسل الطوفان فأهلك الطيور والدواب وغير ذلك.
الثالثة: معرفة آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وافق ما قصه مع كونه لم يعلم.
الرابعة: التحقيق يكون المخلوق ليس له من الأمر شيء، ولو كان نبيا مرسلا، بسبب ما فيها من قصة ابن نوح.
الخامسة: تبيين الله الحجج الباطلة والتحذير منها; مع أنها عندنا أوهام، وعند أكثر الناس حجج صحيحة.
السادسة: تبرؤ الرسل من دعوى أن عندهم خزائن الله وعلم الغيب، مع أن الطواغيت في زمننا ادعوا ذلك، وصدقوا وعبدوا لأجل ذلك.
السابعة: التحذير من استحقار الفقراء والضعفاء، لقوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة هود آية: 31] ، مع أنه سائغ ممن يدعي العلم، ويستحسنه الناس منهم.
الثامنة: وهي من أعظم الفوائد: التحذير من الشبهة التي أدخلت أكثر الناس النار، وهي السواد الأعظم، والنفرة من القليل، لقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] .
التاسعة: معرفة شيء من عظمة الله في تأديبه الرسل، لما قال لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة هود آية:(13/223)
46] .
العاشرة: وهي من أهمها: أن فيها شاهدا لقول الحسن: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا، وقال: لا أغفر لكم، وذلك من قوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [سورة هود آية: 36] مع سخريتهم منه.
الحادية عشر: التحذير من اتباع رؤساء الدنيا، وقبول حججهم، لقوله: {فَقَالَ الْمَلأ} . وهم الأشراف والرؤساء.
الثانية عشر: بيان الله تعالى لتلك الحجج، فقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنَا} فيه القياس الفاسد، وقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} احتجاج بما ليس حجة.
وقولهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: ليسوا بأهل دقة نظر في أمور الدنيا، احتجاج بما ليس بحجة; وقولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} احتجاج برأيهم، وهو من أفسد الحجج; وقولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} احتجاج بالظن.
الثالثة عشر: أنهم لم يصرحوا بأن هذا الذي عليه نوح وأتباعه أمر الله، ثم جاهروا بعصيانه، قالوا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [سورة هود آية: 27] وقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [سورة المؤمنون آية: 24] وغير ذلك; وأنت ترى الذين يكونون من أهل العلم والعبادة، كيف يقرون ويجاهرون بالكفر {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 37] .
[ما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ]
قال بعض تلامذة الشيخ: هذه صفة مذاكرة جرت عند الشيخ محمد رحمه الله تعالى، سأله الإمام عبد العزيز بن(13/224)
محمد بن سعود رحمه الله، عن هذه الآيات من آخر هود، من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [سورة هود آية: 110] إلى آخرها، وتكلم عليها كلاما حسنا، أحببت أن أنقله لكم.
ومحصل الكلام: أنه تكلم على صورة الاختلاف الذي ذمه الله في الكتاب، أنه مثل كون الخوارج يستدلون بآيات على كفر العاصي، كقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 44] الآية، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] ، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، ويعرضون عن الآيات التي فيها عدم كفره، أو يتأولونها.
وعكسهم المرجئة: يستدلون بالآيات التي فيها أن من آمن دخل الجنة كقوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد آية: 21] ، والإيمان عندهم مجرد التصديق فقط، ويعرضون عن الآيات المصرحة بأن الأعمال من الإيمان كقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور آية: 47] ، وقوله: {ِإنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنفال آية: 2] ، وما لا يحصى إلا بكلفة، وأمثالهم من أهل البدع كالجهمية، والأشعرية.
وذكر أن الله عظم هذاالأمر بقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [سورة يونس آية: 19] ، فلولا أن الله سبق منه كلام بتأخير العذاب، لكان الحكمة تقتضي تعجيل العذاب، بسبب كبر ذنبهم.(13/225)
وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 110] ، ذكر رحمه الله: أن هذه مشكلة عليَّ، ولا فهمت كلام أهل التفسير فيها، لو كان الرجل يوهم عليها لأجل أن التوراة عند بني إسرائيل مثل القرآن عندنا، يشهدون أنها كلام الله، وليس عندهم في هذا شك; ولا أدري ما هذا الشك.
وقوله: {وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة هود آية: 111] الآية، ذكر سبحانه أنه سيجازى كلا بعمله، وأنه خبير بأعمالهم دقيقها وجليلها، فلما كان الإنسان إذا عرف عيب غيره، الغالب عليه أنه يذمه ويشتغل به وينسى عيب نفسه، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [سورة هود آية: 112] الآية، وذكر أن هذه من آيات الخوف.
ثم قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 113] الآية: بعض الكفار قد يكون فيه أخلاق، مثل حاتم وعبد المطلب، فإن كان كفره بالله وإشراكه لا يشينه عندك ويغطي محاسنه، فهو من الركون إليهم، كما قال أبو العالية في الآية: لا ترضوا بأعمالهم، انتهى.
مثل كون المرأة إذا كانت زانية فسدت عند الناس، ولو كان فيها أخلاق حسنة، وفيها جمال وبنت رجال، وهذا العيب يغطي محاسنها كلها عند الناس; والإنسان قد يكون له قريب، أو رجل ينفعه، فتوعد على الركون إليهم بالنار مع أنه يقع عندنا، ولا يستنكر ولا ينتقد على فاعله.
وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [سورة هود آية:(13/226)
114] الآية:
إذا عرفت سبب نزولها، عرفت الجهل الكثير في أكثر الناس، وعرفت أنها من عجائب القرآن، إذا جمعت بينها وبين ما ذكر الله قبلها في الركون، وتوعده عليه بالنار; فعظم الله أمر الركون؛ وأمره عندنا يسير هين، ولا يعاب على فاعله.
وفعل هذا الرجل الذي ذكر أنها نزلت فيه، لو يفعله عندنا رجل جيد عاب 1 عند الناس ولو تاب؛ فينبغي للإنسان أن يعظم ما عظم الله ورسوله، ولو كان عند الناس أمره هينا. وأيضا يعرف المؤمن عظم شأن الصلوات الخمس عند الله.
وقوله: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة هود آية: 115] : لما كان ما تقدم من الأمر والنهي خلاف طبع الإنسان، ذكر أنه لا يقدر على ذلك إلا بالصبر ورجاء ما عند الله.
وقوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} [سورة هود آية: 116] الآية: لولا بمعنى: هلا، وهذه الآية يستدل بها العلماء على أن الدين غريب، لأن هذه الأمة تفعل ما فعلت الأمم قبلها، وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 116] الآيتين لما كان الإنسان يتباعد هذا، ويقول: كيف أن العلماء لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فذكر سبحانه أن الآفة استحباب الدنيا على الآخرة،
__________
1 كذا بالأصل.(13/227)
واتباع ما أترفوا فيه; فالعلماء لهم مدارس ومواكل، ولو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قطعت مواكلهم، فآفتهم ليست عدم العلم، بل ما ذكر الله.
وذكر أن ملكا من الملوك أراد أن يأمر بشيء في رعيته على خلاف الشرع، فجمع العلماء والفقهاء من أهل بلده يشاورهم، فلم يقولوا شيئا وسكتوا، فتبين منهم رجل وأنكر عليه، وقال: هذا لا يجوز، فقال الملك: اقطعوا علائق هذا المتفقه; فقالوا: إنه يأكل من غزل أمه; قال: فلذلك اجترأ علينا.
وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [سورة هود آية: 118] : ذكر سبحانه: أن المعرضين عن كتاب الله هم أهل الاختلاف إلى يوم القيامة; ولا يتصور أنهم يجتمعون على دين واحد، ولو كانوا علماء أذكياء كأهل الكلام، يتناقضون ويختلفون في دينهم أعظم تناقض واختلاف; وقد سمعتم من ذلك شيئا; وأهل السنة هم أهل الجماعة، ودينهم دين واحد من أولهم إلى آخرهم; وهذا مما يبين لك شيئا من قدرة الله عز وجل.
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 119] فيها ثلاثة أقوال، ومعناها واحد: فمن قال: إنهم خلقوا للاختلاف; ومن قال: خلقوا للرحمة; ومن قال: خلقوا لهذا وهذا; ومعناها واحد.
وقوله: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [سورة هود آية: 120] الآية، في هذا دليل على عدم معرفة أكثر القراء(13/228)
بالقرآن، إذا كان في قصص الرسل، ما يثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟.
وقوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [سورة هود آية: 121] ، قيل في هذه السورة; وهذه السورة لها شأن عند السلف; {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة هود آية: 122] الآيتين: فهم ينتظرون زواله، وهو ينتظر زوالهم؛ وهذه لها أشباه; وقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة هود آية: 123] الآية، مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الحجرات آية: 18] ، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123] الآية: تقتضي عبادة الله والتوكل عليه; وهذا يجمع الدين كله، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
[تفسير قوله تعالى {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن معنى قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118-119] : قال أبو البقاء: الاستثناء من ضمير الفاعل في {وَلا يَزَالُونَ} وهو الواو، وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: للرحمة، فاسم الإشارة راجع إلى الرحمة، لأنه أقرب مذكور، قوله: {وَلِذَلِكَ} أي: للرحمة {خَلَقَهُمْ} .
قلت: وهذا الذي عليه أكثر المفسرين; قال ابن جرير ما معناه: اسم الإشارة راجع للاختلاف، أي: مختلفين، وهو ضعيف عند المحققين من المفسرين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبي البقاء وغيرهما.(13/229)
وروي عن طاووس: "أن رجلين اختصما إليه فأكثروا، فقال طاووس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاووس: كذبت أليس يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة" وقال ابن عباس: "للرحمة خلقهم، ولم يخلقهم للعذاب"; وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة.
وعلى هذا الإشكال، فيكون كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، قال العماد ابن كثير، رحمه الله: ويدل على ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة آية: 185] ، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 27] .
وأما قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] فاللام للتعليل بلا ريب، وهو قول أهل السنة والجماعة قديما وحديثا; فدلت الآية على أن حكمة الرب في خلقه الثقلين ليعبدوه وحده.
فإنه ربهم وخالقهم ومليكهم، وهم تحت قهره وقدرته، وهو المنعم عليهم وحده، فوجب لذلك وغيره من صفات الله وعظمته أن يكون هو معبدوهم وحده دون كل ما سواه، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ(13/230)
الَّذِي خلقكم} . إلى آخر الآيات. [سورة البقرة آية: 21 - 24]
والمراد بالحكمة في هذه الآية: الدينية الشرعية; لكن من الناس من وافق هذه الحكمة بإرادته وعلمه وعمله، ومنهم من خرج عنها لعدم قبوله لما أراده الله به، وذلك بقضاء الرب وقدره، لعلمه السابق في خلقه.
لأنه تعالى يعلم ما هم عاملون قبل خلقه لهم، وهو الذي يهدي من يشاء بفضله وإحسانه، ويضل من يشاء بعدله وقدرته ومشيئته; فالأول: فضله. والثاني: عدله; قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [سورة الزخرف آية: 76] .
وقد مكن عباده بأسباب يقتدر بها العبد على طاعة ربه، كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء آية: 36] وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] .
ونظير هذه الآية، قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى; فالفضل فضله تعالى، والحجة له بالبيان والفطرة والعقول، والعلم الذي أنزل في كتبه وعلى ألسن رسله، وبالله التوفيق.(13/231)
وعلى العبد أن يتسبب بالإقبال على ذلك، وطلب ما يحبه منه ويرضاه، ويترك ما يسخطه ويأباه، وأن يكون ذلك هو أهم الأشياء لديه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد" فالمراد بالأمر الأمر الديني الشرعي، فيسأل الله تعالى الثبات عليه، بتحصيل أسبابها، فمنها معرفة الهدف بدليله، وذلك عن يقين وحسن قبول، وانقياد ومحبة، وصبر وخشية الله وخوف منه، ونحو ذلك؛ فإن الطباع البشرية تصرف القلب عن الثبات في الأمر الشرعي الديني، فيخالفه هواه.
واتباع الهوى له أسباب كثيرة، لا يدفعها عن العبد إلا قوة داعي الإيمان بالله ورسله، وتدبر كتابه، وعدم الإعراض عنه إلى غيره، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [سورة الكهف آية: 57] ونحو ذلك في عدة مواضع من القرآن، يحذر تعالى عباده عن الإعراض، لأنه يمنع العبد من الخير كله، ويوقعه في الشر كله، ويجمع على العبد شرور نفسه وسيئات أعماله.
نسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة; فمن أعظم أسباب الثبات، محبة الهدى والرغبة فيه، وطلبه بجهده، لما تقدم، والضد بالضد.
وأما قوله: "والعزيمة على الرشد"، فالعبد محتاج إلى(13/232)
ذلك أيضا بمعرفة ما يصلحه، في معاشه ومعاده والعزيمة عليه؛ ولكن الناس اختلفوا في هذا كما اختلفوا فيما قبله، فقد يعرف رشده وقد لا يعرفه، والذي يعرفه قد يعزم عليه وقد لا يعزم، فحصل التفاوت؛ فالخير لا يحصل إلا بطلب وعمل، واستعانة بالله على ذلك، وافتقار إليه وإنابة إليه وتوكل عليه؛ ومن ضيع أسباب الثبات ضاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(13/233)
سورة يوسف
ذكر ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله، على سورة يوسف من المسائل:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 1-3] : روى ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال: "أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتلاه زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا،" فنَزل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [سورة الزمر آية: 23] الآية.
وله عن عون بن عبد الله قال: "مل الصحابة ملة، فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فنزل: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ، ثم ملوا ملة، فقالوا: يا رسول، حدثنا ما فوق الحديث، ودون القرآن - يعنون القصص -، فأنزل الله أول هذه السورة، إلى قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ".
ومما يدل على ان القرآن كاف عما سواه من الكتب:(13/233)
" أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فقرأ عليه فغضب، فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " رواه أحمد.
وفي لفظ: " أنه استكتب جوامع من التوراة، وقال: ألا أعرضها عليك؟ وفيه: لو أصبح فيكم موسى حيا، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ". وقد انتفع عمر بهذا، فقال للذي نسخ كتاب دانيال: "امحه بالحميم والصوف الأبيض، وقرأ عليه أول هذه السورة، وقال: لئن، بلغني أنك قرأته، أو أقرأته أحدا من الناس، لأنهكنك عقوبة".
والمراد بأحسن القصص القرآن، لا قصة يوسف وحدها، وقوله: {تِلْكَ} أي: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} الواضح الذي يوضح الأشياء المبهمة، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون معانيه; والقصص: مصدر قص الحديث يقصه قصصا، أي: بإيحائنا إليك هذا القرآن.
وقوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي: الجاهلين به، وهذا مما يبين جلالة القرآن، لأن فيه دلالة على أن علمه صلى الله عليه وسلم من القرآن; وفيه دلالة على جلالة الله وقدرته، ودلالة على عظيم نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وفيه دلالة على كذب من ادعى أن غيره من الكتب أوضح منه.(13/234)
قوله عز وجل {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا {سورة يوسف آية: 4-5] أبوه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام; والكواكب عبارة عن إخوته، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه.
ووقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل ثمانين، حين رفع أبويه على العرش، وخروا له سجدا، ولما كان تعبيرها خضوعهم له، خشي إن حدثهم أن يحسدوه، فيبغون له الغوائل; وثبت: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من رأى ما يحب أن يحدث به، ولا يحدث إلا من يحب; وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، ويتفل عن يساره ثلاثا، ويتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره ".
وفيها: عدم الوثوق بنفسك وبغيرك; قيل للحسن أيحسد المؤمن؟ قال: "أنسيت إخوة يوسف؟ " وفيها: التنبيه على السبب، وهو عداوة الشيطان للإنسان. وفيها: كتمان النعمة ما لم يؤمر بإظهارها. وفيها: كتمان السر.
قوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة يوسف آية: 6] أي: كما اختارك لهذه الرؤيا، كذلك يختارك(13/235)
لنبوته {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ (، قال مجاهد وغيره: عبارة الرؤيا. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإرسالك {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْل ُ (، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة يوسف آية: 6] أي: عليم بمن يصلح للاجتباء، حكيم يضع الأشياء في مواضعها; وهذا من أنفع العلوم، يعني: معرفة الله تعالى؛ ولا يعتني به إلا من عرف قدره.
وفيها: البشارة بالخير، وأنه ليس من مدح الإنسان المنهي عنه. وفيها: تولية النعمة مسديها سبحانه وتعالى. وفيها: سؤال الله تعالى تمام النعمة، وأن علم التعبير علم صحيح يمن الله به على من يشاء من عباده.
وقوله عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ قْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [سورة يوسف آية: 7-10] .
يعني: أن في ذلك عبرا وفوائد لمن يسأل; فإنه خبر يستحق السؤال {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} شقيقه، {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة; وقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: تقديمهما علينا; وقوله: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: ألقوه في أرض بعيدة {يَخْلُ لَكُمْ} وحدكم {وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ(13/236)
بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [سورة يوسف آية: 9] أي; تتوبون.
وقوله: {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي: أسفله. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي: المارة من المسافرين. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي: إن كنتم عازمين على ما تقولون; قال ابن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم، يغفر الله لهم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
وفيها مسائل: منها: ما نبه الله تعالى عليه أن هذه القصة فيها عبر؛ قال بعضهم: فيها أكثر من ألف مسألة; وفيها: أن الذي ينتفع بالعلم، هو الذي يهتم به ويسأل عنه; وأعظم ما فيها تقرير الشهادتين بالأدلة الواضحة.
وفيها: أن الوالد يعدل بين الأولاد، لئلا تقع بينهم القطيعة، وأن ذلك ليس مختصا بالمال. وفيها: غلط العالم في الأمر الواضح; وتغليطه من لا ينبغي تغليطه، لقولهم: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} الآية. وفيها: أن الإنسان لا يغتر بالشيطان، إذا زين له المعصية ومناه التوبة.
وفيها: شاهد للمثل المعروف: بعض الشر أهون من بعض. وفيها: شاهد لقوله: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على قدر دينه " 1. وسيأتي بعض ما فيها من المسائل في مواضعه إن شاء الله تعالى.
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة يوسف آية: 11-12] ، قال ابن عباس وغيره:" {يَرْتَعْ
__________
1 الترمذي: كتاب الزهد (2398) ، ومسند أحمد (1/172) ، ومسند الدارمي: كتاب الرقاق (2783) .(13/237)
وَيَلْعَبْ} :
يسع وينبسط"، وفي قراءة: {نرتع ونلعب} فيه الرخصة في بعض اللعب خصوصا للصغار، وفيه التحفظ على الأولاد، وفيه إرسالهم مع الأمناء الناصحين، وفيه عدم الاغترار بحسن الكلام.
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ [سورة يوسف آية: 13-14] ، قال: إنه ليشق علي مفارقته وقت ذهابكم به، لفرط محبته {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [سورة يوسف آية: 13] أي: تشتغلون عنه برميكم ورعيكم، فأخذوها منه، وجعلوها عذرهم; ومن الأمثال: البلاء موكل بالمنطق.
وفيه: أنه لم يتهمهم بما أرادوا، ولكن خاف من التقصير في حفظه. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ} [سورة يوسف آية: 14] أي: إن عدا عليه فأكله ونحن جماعة، إنا إذا لعاجزون; فيه: الذم لمن ترك الحزم؛ وفيه: أن العجز هلكة.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة يوسف آية: 15] هذا فيه تعظيم لما فعلوا أنهم اتفقوا على إلقائه في الجب، وقد أخذوه من أبيه بذلك الكلام; وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قيل: كان قد أدرك، وقيل: أوحى إليه كما أوحى إلى عيسى ويحيى.
وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: "لا يشعرون بأنك(13/238)
يوسف"، كذا روي عن ابن عباس، وقيل: لا يشعرون بإيحائنا ذلك إليه، وفيه: جواز الذنوب على الصالحين; وفيه: رجاء رحمة الله; وفيه: أن لله سبحانه وقت البلاء نعما عظيمة; وفيه: أن الماكر يصير وبال مكره عليه، ولكن لا يشعر ولو شعر لما فعل.
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين َوَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة يوسف آية: 16-18] .
لما رجعوا إليه باكين إظهارا للحزن على يوسف، اعتذروا باستباقهم وهو الترامي {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ (. وقوله:
{عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: ثيابنا وأمتعتنا; وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: لست بمصدقنا ولو كنا صادقين عندك، فكيف مع التهمة؟
وقوله: {بِدَمٍ كَذِبٍ} : نسوا أن يخرقوا القميص، فعرف كذبهم; قوله: {سَوَّلَتْ} أي: زينت أو سهلت; والصبر الجميل الذي لا شكوى معه، وقوله: {تَصِفُونَ} أي: تذكرون.
وفيه من الفوائد: عدم الاعتذار ببكاء الخصم، وعدم الاغترار بزخرف القول، وما يجعل الله على الباطل من العلامات، وفيه: الاستدلال بالقرائن; وفيه: ما ينبغي(13/239)
استعماله عند المصائب، وهو الصبر الجميل، والاستعانة بالله؛ وأن التكلم بذلك حسن.
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [سورة يوسف آية: 19-20] السيارة: الرفقة السائرون، والوارد: الذي يرد الماء يستسقي للقوم، وقوله: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: أظهروا أنهم أخذوه بضاعة من أهل الماء.
وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} أي: باعوه في مصر بثمن قليل، لأنهم لم يعلموا حاله; وفيه من الفوائد: أن الله يبتلي أحب الناس إليه بمثل هذا البلاء العظيم عليه وعلى أبيه; ومن ذلك البلاء: أنه سلط عليه من يبيعه بيع العبد. وفيه: أنه لا ينبغي للعاقل أن يستحقر أحدا، فقد يكون زاهدا فيه وهو لا يعلم.
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] قال ابن مسعود: "أفرس الناس ثلاثة: العزيز حيث تفرس في يوسف; والمرأة حين قالت: يا أبت استأجره؛ وأبو بكر في عمر".
وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي: كما أنجيناه من كيد إخوته، ومن الجب، وجعلناه عند من يكرمه، مكنا له.(13/240)
{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: إنما فعلنا ذلك لحكمة، وهي: إعطاؤنا إياه العلم والعمل.
وقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: الذي يجري ما أراد، لا ما أراد العباد، كما لم يعمل كيدهم في يوسف; وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] ما أعظمها من فائدة لمن فهمها!
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} [سورة يوسف آية: 22] : تقول العرب: بلغ أشده، أي: منتهى شبابه، قيل: الحلم; وقيل: أكثر من ذلك. قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} (: العلم: معرفة الأشياء، والحكم: العمل به، وإصابة الحق.
وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يعني أن هذا ليس مختصا بيوسف، بل الله سبحانه يجازي المحسنين بخير الدنيا والآخرة، ومن ذلك أنه يجازي المحسنين بإعطائه العلم والحكمة.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [سورة يوسف آية: 23] :
فيه مسائل:
الأولى: قوله: {إِنَّهُ رَبِّي} أن هذا جائز في شريعتهم، بخلاف شريعتنا، لأنها لو كانت سمحة في العمل فهي حنيفية في التوحيد.
الثانية: مراعاة حق المخلوق.
الثالثة: شكر نعمة المخلوق، لقوله: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} .(13/241)
الرابعة: القاعدة الكلية {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .
الخامسة: التنبيه على عدم مخالطة الخدم للنساء، خصوصا إذا كان في الخادم داعية.
السادسة: معرفة كمال يوسف عليه السلام، فإن صبره لا يعرف له نظير.
السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم من الحول والقوة، لقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ (: أعوذ بالله، {إِنَّهُ رَبِّي} أي: سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أكرمني.
الثامنة: أن الاعتذار بحق المخلوق لا بأس به; ولو كان في القضية حق الله; ومعنى: {هَيْتَ لَكَ} أي: أقبل.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف آية: 24] :
فيه مسائل: الأولى: أن الهم الذي لا يقترن به عمل ولا قول، لا يعد ذنبا، كما في الحديث "إن الله تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل". الثانية: أن الذي صرفه عن ذلك، فضل تفضل الله عليه به تلك الساعة، غير إيمانه الأول؛ وهذه من أعظم ما يعرف الإنسان نفسه.
الثالثة: أن هذا الفضل سببه ما تقدم له من العمل الصالح، فمن ثواب العمل حفظ الله للعبد، كما في قوله: "احفظ الله يحفظك". الرابعة: معرفة قدر الإخلاص، حيث أثنى الله على يوسف أنه من أهله. الخامسة: السابقة التي(13/242)
سبقت من الله، كما قال أبو عثمان: لأنا بأول هذا الأمر أفرح مني بآخره.
السادسة: أن العباد المضافين إليه، غير الذين قال فيهم: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] . السابعة: صرف الله عنه السوء والفحشاء، فيه رد على ما ذكر بعض المفسرين. الثامنة: أن الصارف له آية من آيات الله أراه إياها. التاسعة: عطف الفحشاء على السوء، قيل: إن السوء الذنوب كلها.
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 25] : تبادرا إلى الباب، إن سبق يوسف خرج، وإن سبقته أغلقت الباب لئلا يخرج، وقوله: {مِنْ دُبُرٍ} أي: من خلف. {وَأَلْفَيَا} أي: وجدا; سيدها، أي: زوجها، {لَدَى الْبَابِ} أي: عنده.
فيها مسائل: الأولى: حرصه عليه السلام على البعد عن الذنب، كما حرصت على الفعل. الثانية: لطف الله تعالى في تيسيره شق القميص من دبر. الثالثة: كشف الله ستر العاصي فيما يستبعد. الرابعة: شدة مكر النساء، كيف قويت على هذا في هذا الموضع.
الخامسة: التحرز من تظلم الشخص، فربما أنه هو الظالم; والدواء: التأني وعدم العجلة. السادسة: تسمية الزوج سيدا في كتاب الله. السابعة: ما عليه الكفار من(13/243)
استعظام الفاحشة. الثامنة: الغيرة على الأهل.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة يوسف آية: 26-27] قوله: {مِنْ أَهْلِهَا} أي من أقاربها، وإن كان مع زوجها.
فيه مسائل: الأولى: القيام بالقسط في الشهادة، قد يكون من الكفار، والعجب أنه في مثل هذه الحادثة. الثانية: أن الشاهد إذا كان من قرابات المشهود عليه، فهو أبلغ. الثالثة: الحكم بالدلالات والقرائن.
الرابعة: ذكر الله تعالى ذلك على سبيل التصويب، فيفيد قبول الحق ممن أتى به كائنا من كان. الخامسة: أن مثل هذه القرينة يصح الحكم بها. السادسة: ألطافه تبارك وتعالى في البلوى. السابعة: أن ذكر الخصم مثل هذا عن صاحبه، لا يذم بل يحمد.
{فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [سورة يوسف آية: 28] .
فيه مسائل: الأولى: كون زوجها قبل الحق وصار مع يوسف عليها. الثانية: قلة الغيرة على أهله. الثالثة: أن قوله هذه القضية الجزئية، خارجة عن قضايا كلية. الرابعة: عظمة كيد النساء، وذكره تعالى ذلك غير منكر له، مع قول(13/244)
النبي صلى الله عليه وسلم:" إنكن لأنتن صواحب يوسف ". الخامسة: أنه لم يحكم عليها إلا بعد ما رأى القد. السادسة: أمره ليوسف بكتمان السر، مع ما أنزله الله في ذلك من التغليظ إلا بأربعة شهداء. السابعة: أمره لها بالاستغفار من الذنب، مع عدم الإسلام. الثامنة: حكمه عليها أنها صارت من هؤلاء المذمومين عندهم.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة يوسف آية: 30] : قوله: {فَتَاهَا} أي: عبدها، وقوله: {شَغَفَهَا} الشغاف داخل القلب، أي: دخل حبه في داخل قلبها.
فيه مسائل: الأولى: أن هذا قبيح في عرفهن، ولو لم يكن مسلمات. الثانية: حب المرأة حبا عظيما من هو دون مرتبتها مما يعينه. الثالثة: أنها لم تكتم بل سعت في طلب الفاحشة بالمراودة. الرابعة: أن هذا من مثلها ضلال مبين عندهن.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [سورة يوسف آية: 31] .
فيه مسائل:
الأولى: بيان كمال عقلها الذي ينقص عنه أكثر عقول الرجال.
الثانية: ما أعطي يوسف عليه السلام، من جمال الصورة التي تبهر الناظر.
الثالثة: غيبة عقولهن(13/245)
وعدم إحساسهن بقطع أيديهن، وهذه من أعجب ما سمع.
الرابعة: معرفتهن بالملائكة.
الخامسة: جلالة الملائكة عندهن، وأنهم أكمل من البشر.
السادسة: معنى {حَاشَ لِلَّهِ} في هذا المقام.
السابعة: وصفهن الملك بالكرامة.
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [سورة يوسف آية: 32] .
فيه مسائل:
الأولى: إظهار عذرها لما أصابهن ما ذكر.
الثانية: إقرارها أنها ستعود.
الثالثة: كما أخبرتهن بجماله الظاهر بالحسن، أخبرتهن بجماله الباطن بالعفة.
الرابعة: إخبارها أنها لا صبر لها عنه، فإن لم يفعل سعت في سجنه ومهونته.
الخامسة: معنى {استعصم} امتنع وأبى.
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة يوسف آية: 33] .
فيه مسائل:
الأولى: فضيلة يوسف عليه السلام، كيف اختار السجن على ما ذكر، مع قوة الدواعي وصرف الموانع، ولا يعرف لأحد نظير هذا.
الثانية: التصريح بأن النسوة دعونه من غير امرأة العزيز.
الثالثة: معرفته عليه السلام بنفسه وبربه; وأن القوة التي فيه لا تنفع إلا أن أمده الله بمدد منه.(13/246)
الرابعة: أن هذا الكلام دعاء ولو كان بهذه الصيغة.
الخامسة: أن الله سبحانه ذكر أنه استجاب دعاءه، فدعاؤه عليه السلام سبب لصرف ذلك عنه.
السادسة: ختمه سبحانه ما ذكر بوصف نفسه بأنه السميع العليم.
السابعة: استفتاحه الدعاء بربه، وقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} .
الثامنة: إثبات المكر أولا والكيد بعده لهن.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [سورة يوسف آية: 35] :
الآية قيل: سبب ذلك أن الحديث شاع في الناس، فأرادوا سجنه إظهارا للناس أنه المذنب {إِلَى حِينٍ} قيل: إلى أن تسكن القضية.
فيه مسائل:
الأولى: أنهم تمالؤوا على ذلك، ليس رأيا لزوجها خاصة.
الثانية: أن تلك الحيلة لم تنفع، بل أظهر الله ما يكرهونه على الرغم منهم.
الثالثة: ابتلاء الله أحب الخلق إليه وهم الأنبياء، بالسجن. الرابعة: أن السبب الذي أظهروا أكبر بلية من السجن، عند أهل المروءات. الخامسة: أن رؤية الآيات، والقطع على المسألة، لا يستلزم اتباع الحق وترك الباطل.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف آية: 36] .
فيه مسائل، ونذكر القصة قبل ذلك.
قيل: إن الملك بلغه أن الخباز يريد أن يسمه، وأن(13/247)
صاحب شرابه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعا، وذلك قوله: {دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [سورة يوسف آية: 36] ، فقال الساقي: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [سورة يوسف آية: 36] أي: أعصر عنبا خمرا، وقال صاحب الطعام: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف آية: 36] بتفسيره {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تأتي الأفعال الجميلة; وقيل: ممن يحسن تعبير الرؤيا.
فيه مسائل:
الأولى عبارة الرؤيا علم صحيح، ذكره الله في القرآن; ولأجل ذلك قيل: لا يعبر الرؤيا إلا من هو من أهل العلم بتأويلها، لأنها من أقسام الوحي.
الثانية: تعبير أكل الطير من الخبز الذي فوق رأس الرجل بما ذكر.
الثالثة: تعبير عصير الخمر بسلامة الذي رآه ورجوعه إلى مرتبته.
الرابعة: فيه دلالة على قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأى أحدكم ما يكره فلا يذكرها "، وقوله: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت".
الخامسة: أن التأويل في كلام الله ولغة العرب، غير التأويل في عرف المتأخرين، ومعناه ما يؤول الأمر إليه.
السادسة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن مسائل العلم، إلا من رآه يحسن ذلك.
{َقالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون َوَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا(13/248)
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 37-40] .
يقول عليه السلام: إني عليم بتعبير الرؤيا هذه وغيرها، فـ {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف آية: 37] قبل إتيانه، فكيف بغير ذلك؟
ففيه مسائل:
الأولى: ذكر العالم أنه من أهل العلم عند الحاجة، ولا يكون من تزكية النفس.
الثانية; إضافة هذه النعمة العظيمة إلى معطيها سبحانه وتعالى، لا إلى فهم الإنسان واجتهاده.
الثالثة: ذكر سبب إكرام الله له بهذا الفضل، وهو الترك والفعل: فترك الشرك الذي هو مسلك الجاهلين، واتبع التوحيد الذي هو سبيل أهل العلم، من الأنبياء وأتباعهم.
الرابعة: ذكره أنه من هؤلاء الأكرمين، فانتسب إلى البيت الذي هو أشرف بيوت أهل الأرض؛ وهذا جائز على غير سبيل الافتخار، خصوصا عند الحاجة.
الخامسة: أنه صرح لهم بأنهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب. السادسة: أن الجد يسمى أبا، كما ذكر ابن عباس، واحتج بالآية على زيد بن ثابت.
السابعة: قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}(13/249)
[سورة يوسف آية: 38] :
قيل معناه: أن الله عصمنا؛ وهذه الفائدة من أكبر الفوائد وأنفعها لمن عقلها، والجهل بها أضر الأشياء وأخطرها.
الثامنة: قوله: {مِنْ شَيْءٍ} عام كل ما سوى الله؛ وهذه المسألة هي التي غلط فيها أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، كما قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] .
التاسعة: ذكر سبب معرفتهم بالمسألة، وعلمهم بها، وثباتهم عليها; وهو مجرد فضل الله فقط عليهم.
العاشرة: أن فضله سبحانه ليس مخصوصا بنا، بل عام للناس كلهم، لكن منهم من قبله ومنهم من رده، وذلك أنه أعطى الفطر ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب.
الحادية عشر: إزالة الشبهة عن المسألة التي هي أكبر الشبه; وذلك أن الله إذا تفضل بهذا كله، خصوصا البيان، فما بال الأكثر لم يفهم ولم يتبع؟ فما أكثر الجاهلين بهذا! وما أكثر الشاكين فيه! فقد ذكر تعالى أن السبب: أن جمهور النار لم يشكر؛ فأما من عرف النعمة فلم يلتفت إليها فلا إشكال فيه، وأما من لم يعرف فذلك لإعراضه، ومن أعرض فلم يطلب معرفة دينه فلم يشكر.
الثانية عشر: دعوته إياهما عليه السلام إلى التوحيد في تلك الحال، فلم تشغله عن النصيحة والدعوة إلى الله، فدعاهما أولا بالعقل، ثم بالنقل، وهي: الثالثة عشر، الرابعة عشر: قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ(13/250)
الْقَهَّارُ} [سورة يوسف آية: 39] :
فهذه حجة عقلية، شرحها في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر آية: 29] الآية.
الخامسة عشر: أن الذي في الجانب الآخر، هو الذي جبلت القلوب، وأقرت الفطر أنه ليس له كفو.
السادسة عشر: أنه هو القهار، مع كونه واحدا، وما سواه لا يحصيهم إلا هو، فهذه قوته; وهذا عجزهم فكيف يعدل به واحد منهم أو عشرة أو مائة؟ ! .
السابعة عشر: بيان بطلان ما عبدوا من دونه، بأنها أسماء لا حقيقة لها.
الثامنة عشر: التنبيه على بطلانها بكونها بدعة ابتدعها من قبلكم فتبعتموهم.
التاسعة عشر: بيان الواجب على العبد في الأديان، السؤال عما أمر الله به ونهى عنه، وهو السلطان المنزل من السماء؛ لا يعبد بالظن وما تهوى الأنفس.
العشرون: القاعدة الكلية التي تفرع عنها تلك الجزئية، وهي: أن أحكام الدنيا إلى الله، لا إلى آراء الرجال، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] .
الحادية والعشرون: إذا ثبت أن الحكم له وحده، دون الظن وما تهوى الأنفس، فإنه سبحانه حكم بأن العبادة كلها محصورة عليه، ليس لأحد من أهل السماء وأهل الأرض منها شيء.
الثانية والعشرون: أن هذه المسألة هي الدين القيم، وكل ما خالفها أو ليس منها فليس بقيم، بل أعوج; فعلامة(13/251)
الحق: أن العقول السليمة تعرف اعوجاجه بالفطرة; ومع هذا أنزل الله السلطان من السماء، بتحقيق هذا والإلزام به، وتبطيل ذلك، وتغليظ الوعيد عليه.
الثالثة والعشرون: المسألة الكبيرة العظيمة، التي لو تجعلها نصب عينيك ليلا ونهارا، لم يكن كثيرا، وأيضا تبين لك كثيرا من المسائل التي أشكلت على الناس، وهي: أن الله بين لنا بيانا واضحا، أن الأكثر والجمهور الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، من أهل الكتاب والأميين، لا يعلمون هذه المسألة، مع إيضاحها بالعقل والنقل والفطرة، والآيات النفسية والأفقية.
الرابعة والعشرون: أنه ينبغي للعالم إذا سأله العامي عما لا يحتاج إليه، أو سأله عما غيره أهم منه، أن يفتح له بابا إلى المهم.
الخامسة والعشرون: أنك لا تحقر عن التعليم من تظنه أبعد الناس عنه، ولا تستبعد فضل الله، فإن الرجلين من خدام الملوك الكفرة، بخلاف من يقول: ليس هذا بأهل للعلم; تعليمه إضاعة للعلم.
وقال رحمه الله، على قوله حكاية عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [سورة يوسف آية: 39] الآية، دعاهم يوسف عليه السلام إلى التوحيد بأنواع من الأدلة.
أحدها: أنه ذكر أن هذا العلم الذي تميز به عليهما وعلى غيرهما أنه من تعليم ربه إياه، فالذي يعطي ويمنع، هو الذي يستحق العبادة.
الثاني: أنه حكيم يضع العطاء مواضعه،(13/252)
فشرفني بسبب ترك الشرك وفعل التوحيد.
الثالث: أن ذلك الفعل والترك، هو ملة الأنبياء.
الرابع: أن الشرك لم يرخص فيه لأحد من الأنبياء، كما قد يرخص في غيره.
الخامس: أنه منفي عما سوى الله، فليس يصح منه شيء لغيره، ولو علت درجته.
السادس: أن الهداية إلى ذلك مجرد منة الله على العبد، وهو أفضل النعم.
السابع: أن الله إذا يسر لك المعلم لذلك، فهو من فضله عليك.
الثامن: أن الإسلام واتباع ملة الأنبياء، هو العلم بذلك والعمل به، لا مجرد العلم.
التاسع: أنه ذكر لهم ما يحرضهم على القبول، وهو: أن الداعي من أهل ذلك البيت.
العاشر: أن مع هذا البيان الواضح، أكثر الناس لا يشكر.
ثم قرره بالأدلة العقلية، وذلك من وجوه:
الأول: أن الله خير من المخلوق.
الثاني: أنه واحد، وأولئك أرباب متفرقون.
الثالث: أنه قهار وهم عاجزون.
الرابع: العجب العجاب إعراضكم عنه، وإقبالكم على أسماء لا حقيقة لها.
الخامس: أن تلك الأسماء، أنتم ابتدعتموها.
السادس: نفي الأدلة عنها، وهي: إنزال الله الحجة بذلك.
السابع: تقرير القاعدة الكلية، أن أمر التشريع إلى الله، لا إلى غيره.
الثامن: إثبات أن الذي له الحكم، حكم بهذا وألزم به، واختص به عن جميع ما سواه.
التاسع: أن هذا هو الدين الصحيح فقط.
العاشر: أنه مع(13/253)
وضوحه بالنقل والعقل وغير ذلك، لا يعلمه إلا القليل.
وأما الآية التي بعدها، ففيها مسائل:
الأولى: التنبيه على الحكمة فيما تقدم.
الثانية: أن الإسلام بعض الإيمان.
الثالثة: أن هذه الدعوة فيها من الحسن والوضوح، أمر لا يتولى عنه إلا المشاق.
الرابعة: الوعيد لمن فعل.
الخامسة: أن ملاطفة الخصم، والدخول معه فيما لعلك تكرهه، قد يكون سببا لهدايته.
السادسة: أن ذلك قد يكون سببا لنصرك عليه إن لم يهتد.
السابعة: أنه سبب لكفاية الله إياك أمره.
الثامنة: أن المثل هو الشيء بعينه.
التاسعة: ختم ما تقدم بالصفات.
وأما التي بعدها، ففيها مسائل:
الأولى: إضافة الصبغة إلى الله.
الثانية: أن صبغتة لا أحسن منها.
الثالثة: أن ذلك لا يستلزم التشبيه.
الرابعة: ما فيه من البرهان الواضح.
الخامسة: ما فيه من إزالة الشبه الفواضح.
السادسة: أن هذا من القول الذي أمرنا به.
السابعة: ذكر العبادة بعد ذكر الإسلام.
الثامنة: إخلاصها.
وأما التي بعدها، ففيها مسائل:
الأولى: الأمر بقول ماذا لهم.
الثانية: أن الكفار يدعون التقرب إلى الله بما هو أقبح شيء.
الثالثة: أنهم يعتقدون في أحسن الأشياء أنها قبيحة، لا يتقرب بها إليه.
الرابعة: الرجوع إلى العقل الصريح، الذي لا يجادل فيه إلا مكابر; وهو أنا إذا تساوينا في هذه الحجة في الأوليين، واختلفنا في الثالثة، فكيف(13/254)
يشكل عليكم؟ أو كيف تجسرون على المكابرة؟ .
الخامسة: الإتيان باستفهام الإنكار.
وقال أيضا: قال شيخ الإسلام، قوله: {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [سورة النجم آية: 23] إلخ: أخبر أنهم ابتدعوا أسماء لا حقيقة لها، فيعبدون أسماء لا مسميات; لأنه ليس في المسميات من الألوهية ولا العزة والتقدير شيء، ولم ينزل الله بهذه الأسماء سلطانا.
وقال رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [سورة يوسف آية: 41] : سبق ما في هذا من المسائل. لكن فيه ما لم يذكر، منها: أن المفتي يجوز له أو يستحب أن يفتى السائل بما لا يحتاج إليه. ومنها: أنه يجيب السائل بما يسوؤه إذا كانت الحال تقتضيه. ومنها: تأكيد الفتيا بما يسوء، بما ذكر من قضاء الله على ذلك.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [سورة يوسف آية: 42] يعني: قال يوسف للساقي الذي ظن نجاته; قيل: الظن هنا هو اليقين; وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الملك. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} أي: أنسى الشيطان يوسف ذكر الله; والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع.
فيه مسائل: الأولى: أن الرب كما يطلق على المالك،(13/255)
يطلق على المخدوم.
الثانية: أن مثل هذا مما يعاقب به الأنبياء، مع كونه جائزا لغيرهم.
الثالثة: أن المقرب قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به من دونه.
الرابعة: أن الشيطان قد يتوصل إلى الأنبياء بمثل هذا.
الخامسة: أن ترك هذا القول والاستغناء بالله، من التوكل.
السادسة: أن من المقامات ما يحسن من شخص، ويلام في تركه ويذم من شخص آخر، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الاقتداء به في الوصال، وقال: " إني لست كهيئتكم ".
السابعة: أن هذا من أبين أدلة التوحيد لمن عرف أسباب الشرك بالمقربين، وهو أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا " وتمامها بمعرفة
الثامنة: وهي أن الله عاقبه باللبث في السجن هذه المدة الطويلة، مع أن لبث الإنسان فيه سنة واحدة من العذاب الأليم، فكيف بشاب ابن نعمة؟.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي(13/256)
أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [سورة يوسف آية: 43-49] .
فيه مسائل:
الأولى: تسمية الله ذلك الرجل بالملك.
الثانية: أن الذي سأله عنه هو البقر، والسنابل.
الثالثة: أنه استفتى الملأ وهم الأشراف، ولكن بشرط إن كان عندهم علم.
الرابعة: جوابهم بقولهم: {أضغاث أحلام} [سورة يوسف آية: 44] يدل على: أن مما يراه النائم فيه رؤيا حق، وفيه أضغاث أحلام باطلة; وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الخامسة: إقرارهم بعدم العلم بالتعبير، ولم يأنفوا مع أنهم الملأ.
السادسة: كلام الساقي وحذقه: كونه قطع أنها رؤيا، وأن عند يوسف تعبيرها.
السابعة: قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [سورة يوسف آية: 45] أي: دهر; فيه: أن الدهر يسمى أمة.
الثامنة: أنه لم يذهب مع تحققه ما طلب الملك، إلا بعد الاستئذان.
التاسعة: قوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [سورة يوسف آية: 46] يدل على أنه يعرف معنى الصديقية; وأنه عرف اتصاف يوسف بذلك.
العاشرة: أنه ذكر ليوسف العلة، وهي: علم الناس بما أشكل عليهم.
الحادية عشر: أنه عبر البقر السمان بالسنين المخصبة، والبقر العجاف بالسنين المجدبة، وأكلها السمان كون غلة(13/257)
السنين المخصبة يأكلها الناس في السنين المجدبة، وكذلك السنابل الخضر واليابسات، قيل: إنه رأى سبع سنابل خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليهن.
الثانية عشر: أنه أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه، خلافا لمن جعل هذا من عدم الأدب.
الثالثة عشر: كرمه وطيب أخلاقه عليه السلام، كما قال بعض السلف: لو كنت المسؤول، ما أجبتهم إلا بكذا وكذا.
الرابعة عشر: معرفته عليه السلام بأمور الدنيا، وأن الحب إذا كان في سنبله لم تأته الآفة ولو لبث سنين.
الخامسة عشر: أنه أمرهم بتدبير المعيشة لأجل السنين الجدب، ولا يأكلون إلا قليلا.
السادسة عشر: أنه فهم من الرؤيا أن الخصب يأتي بعد سبع سنين.
السابعة عشر: ادخار الطعام للحاجة، وأنه لا يصير من الاحتكار المذموم؛ وكان صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة.
الثامنة عشر: النصيحة ولو لغير المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر"، وأما المسلم فنصحه من الفرائض.
التاسعة عشر: أن الرؤيا الصحيحة، قد تكون من كافر، كما استدل بها البخاري في صحيحه.
العشرون: الفرق بين الحلم والرؤيا كما قال: " الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان ".(13/258)
الحادية والعشرون: التعبير عن الماضي بالمضارع; والعجاف ضد السمان; والملأ كبار القوم ورؤوسهم، و {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} : أخلاط وأباطيل. {وَادَّكَرَ} تذكر شأن يوسف {دَأَبًا:} .متوالية {تُحْصِنُونَ (: تخزنون. {يَعْصِرُونَ} قيل: من العنب عصيرا، ومن الزيتون زيتا، ومن السمسم دهنا، للخصب الذي أتاهم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة يوسف آية: 50-53] .
فيه مسائل:
الأولى: أمر الملك بالإتيان به، ليأخذ عنه مشافهة، وكذلك يفعل العقلاء والسفهاء، في الأمر الذي يهتمون به.
الثانية: أن طلب العلم الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة، أحق بالحرص من جميع المهمات.
الثالثة: هذا الأمر العظيم الذي لم يسمع بمثله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ".
الرابعة: قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} .
الخامسة: قوله: {النِّسْوَةِ} قيل: لم يفرد امرأة العزيز،(13/259)
أدبا وحفظا لحق الصحبة.
السادسة: قوله في هذا الموطن: {رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 50] .
السابعة: قوله: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فيه رد لبعض الأقوال التي قيلت في الهم.
الثامنة: قوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} .
التاسعة: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} هذا علة لما جرى، سواء كان رد الرسول أو إقرارها; فإن كان الأول، فالضمير للعزيز زوج المرأة; وإن كان الثاني فالضمير ليوسف.
العاشرة: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي: لا يرشد كيد من خان أمانته، قيل: يفتضح في العاقبة.
الحادية عشر: قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ما أجلها من مسألة، وما أصعب فهمها! سواء كان هذا من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف عليه السلام.
الثانية عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: أن هذا حال النفس.
الثالثة عشر: الاستثناء من ذلك، وهو من رحمه الله فأجاره من شر نفسه، كذلك ما أجلها من مسألة لمن فهمها!
الرابعة عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قوله: {فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} قيل معناه: اسأله أن يكشف عن الخبر حتى يعلم الحقيقة، ففيه المسألة.
الخامسة عشر: وهي حرص المخلص لله على براءة(13/260)
عرضه عند الناس، وأن ذلك لا يناقض الإخلاص، بل قد يكون واجبا، ولم يعتب عليه في هذا كما عتب عليه، في قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قيل: إن {ما} في هذا الموضع بمعنى "عن" قوله: {مَا بَالُ} ما شأن النسوة {ما خطبكن} ما أمركن وقصتكن؟ قوله: {حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر وتبين {الآنَ} أي هذا الوقت.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم} [سورة يوسف آية: 54-55] .
فيه مسائل:
الأولى: {أستخلصه لنفسي} أي: أجعله خالصا لي دون غيري، كما يقال: الرفيق قبل الطريق; وكما قال: "لينظر أحدكم من يخالل".
الثانية: وهي أعجب، قوله: {فلما كلمه} وبيانه: لما دخل بعض العلماء على بعض الملوك، وكان دميما فضحك الملك من دمامته، فذكر له هذه الآية، واستحسن الملك جوابه، ومعنى هذا: أن الملك لم يتمكن من قلبه، لما رأى جمال صورته; بل لأجل علمه الذي تبين له لما كلمه.
الثالثة: قوله: {إنك اليوم لدينا} أي: عندنا {مكين} أي: مكنتك من ملكي تصرف فيه {أمين} أي: عرفت صحة أمانتك، فأمنتك على ما تحت يدي؛ وهذا معنى قول أبي العباس: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما في الآية(13/261)
الأخرى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} .
الرابعة: قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} هذا فيه طلب الولاية، كما قال عمر بن الخطاب لبعض الصحابة، لما عرض عليه ولاية فأبى، فقال: "طلبها من هو خير منك" يعني يوسف عليه السلام; ولا يخالف هذا ما ورد من النهي عن طلب الإمارة، لأن هذا في غير شدة الحاجة، كما أن خالدا لما أخذ الراية يوم مؤتة من غير إمرة، مدح على ذلك.
الخامسة: قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فليس هذا مما نهي عنه من تزكية النفس; بل يذكر الإنسان ما فيه من الفضائل عند الحاجة، إذا لم يقصد التزكية، كما ورد عن جماعة من الصحابة. قوله: {خَزَائِنِ الْأَرْضِ} أي: أرض مصر; وقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ} أي: أحفظ ما وليتني عليه {عَلِيمٌ} بأمره وحسابه واستخراجه.
{وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} [سورة يوسف آية: 56-57] .
فيه مسائل:
الأولى: قوله {وكذلك مكنا ليوسف في الارض} قيل معنى ذلك: كما أنعمنا عليه بنعم الدين، أنعمنا عليه بنعم الدنيا.
الثانية: أن ذلك تمكينه في أرض مصر،(13/262)
يحل وينزل منها ما أراد، بعد ذلك الحبس الضيق.
الثالثة: تسمية الله سبحانه ذلك رحمة، في قوله: {نصيب برحمتنا من نشاء} وهذه من أشكل المسائل على أكثر الناس؛ بعضهم يظن أن هذا كله نقص، أو مذموم، وأن التجرد من المال مطلقا هو الصواب; وبعض يظن أن عطاء الدنيا يدل على رضى الله، وكلاهما على غير الصواب; وذلك: أن من أنعم الله عليه بولاية أو مال، فجعلها طريقا إلى طاعة الله فهو ممدوح، وهو أحد الرجلين الذين يغبطهم المؤمن; وإن كان غير هذا فلا.
الرابعة: أن هذه الأمور وإن جلت وصارت أعلى المراتب، وأصعبها طريقا، فتحصيلها مردود إلى محض المشيئة، لا إلى الأسباب.
الخامسة: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} .
السادسة: أن من عدم إضاعته، أنه يعجل في الدنيا بعضه لمن أراد الله، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} .
السابعة: أن الأجر الثاني لمن أحسن، خير من ملك يوسف وسليمان بن داود.
الثامنة: قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (: فالإيمان يدخل فيه الدين كله; وأيضا يدخل كله في التقوى; وأما إذا فرق بينهما كما هنا، فالإيمان الأمور الباطنة، والتقوى(13/263)
الأمور الظاهرة; وإذا قلت: الإيمان فعل الواجبات، والتقوى ترك المحرمات، فقد أصبت.
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [سورة يوسف آية: 58-61] .
قيل: لما اطمأن يوسف في ملكه، ومضت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة، وأصاب الشام من القحط ما أصاب غيرهم، فأرسل يعقوب بنيه إلى مصر، وأمسك بنيامين عنده. {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} قيل: كان بين دخولهم عليه وإلقائه في الجب أربعون سنة، فلذلك لم يعرفوه.
فقال: أخبروني ما أمركم؟ فقالوا: نحن قوم من أرض كنعان، جئنا نمتار طعاما، قال: كم أنتم؟ قالوا عشرة، قال: أخبروني خبركم؟ قالوا: إنا إخوة بنو رجل صديق، وإنا كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا معنا في البرية فهلك فيها، وكان أحب إلى أبينا منا. فقال: فإلى من يسكن أبوكم بعده؟ قالوا: أخ لنا أصغر منه، فذلك قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} يقال: جهزت القوم إذا هيأت لهم جهاز السفر; وحمل لكل رجل منهم بعيرا، وقال: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ(13/264)
الْمُنْزِلِينَ}
المضيفين; قيل: إنه أحسن ضيافتهم، ثم أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} .
وقوله: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [سورة يوسف آية: 62] إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الرحل: كل ما يعد للرحيل، من وعاء المتاع، ومركب للبعير، وحلس وغير ذلك; قيل مراده: أنهم يعرفون كرمه، فيحملهم على العود; وقيل: خاف أن لا يكون عندهم ما يرجعون به.
فيه مسائل:
الأولى: كون القحط عم البلاد، لم يكن على مصر خاصة.
الثانية: إنكارهم إياه، ومعرفته لهم.
الثالثة: حيلته في التوصل إلى إتيان أخيه.
الرابعة: كونه ما فعل معهم حثهم على الإتيان به.
الخامسة: أن هذا ليس من تزكية النفس المذموم.
السادسة: أن هذا ليس من المن والأذى المذموم.
السابعة: أن قوله: {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} ليس من منع المضطر المذموم.
الثامنة: ما صنع الله له من إذلالهم بين يديه، وذلك أنه وعدوه أنهم يراودون أباه، وأكدوا ذلك له بالعزم على الفعل.
التاسعة: أمره الفتيان بجعل بضاعتهم في رحالهم، والحكمة في ذلك: أنهم إذا رجعوا إلى أهلهم، وفتحوا المتاع، ووجدوها ردت إليهم، رجعوا.
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ(13/265)
فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة يوسف آية: 63-64] .
فيه مسائل:
الأولى: أنهم وفوا ليوسف بما وعدوه.
الثانية: أنهم ذكروا لأبيهم ما يقتضي الإجابة، وهو منع الكيل.
الثالثة: أن هذا مما يدل على أنهم لا غناء لهم عن التردد إلى الميرة.
الرابعة: أنهم وعدوه حفظه، وأكدوه بإن واللام.
الخامسة: جوابه عليه السلام لهم، فيدل على قوله: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ".
السادسة: أن من أساء فعله ساء الظن فيه، ولو لم يكن كذلك.
السابعة: أنهم لما ذكروا له أنهم يحفظونه أكدوا، فأجابهم بقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} .
الثامنة: أنه أجابهم أيضا بكون الله أرحم الراحمين.
التاسعة: ذكرك للممنوع سبب منعك إياه.
العاشرة: أنه فعلكم، كقوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} .
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [سورة يوسف آية: 65] إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة يوسف آية: 66] .
فيه مسائل:
الأولى: استعطاف الممتنع بالخصال التي توجب إجابته.
الثانية: أنهم لم يعلموا أنها ردت إليهم، حتى وصلوا إلى أهلهم وفتحوا المتاع.
الثالثة: ذكرهم له(13/266)
حاجة الضعفاء والذرية إلى الكيل.
الرابعة: أنهم يزدادون حملا آخر على ما أتوا به.
الخامسة: ذكرهم الثناء على يوسف، بأن الحمل عليه يسير لكرمه، مع شدة حاجتنا إليه وغلاء ثمنه.
السادسة: أنه عليه السلام لما ذكروا له ذلك رجع عن رأيه الأول، ورأى إجابتهم.
السابعة: أنه شرط عليهم هذا الشرط الثقيل.
الثامنة: أنهم أعطوه إياه على ثقله.
التاسعة: أنهم لما آتوه الموثق، وعظهم وأكده عليهم، بقوله: {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل} .
العاشرة: أن هذا يدل على أنهم في جوع وضراء عظيمة، وهم أكرم أهل الأرض على الله، وابتلاهم بذلك لا لهوانهم عليه. وقوله: {مَا نَقُولُ} قيل: أي شيء نريد، وقد ردت بضاعتنا؟ {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نأت لهم بالطعام، يقال: مار أهله إذا أتاهم بطعام، قوله: {إِلاّ أَنْ يُحَاطَ} أي: يأتيكم أمر يهلككم.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [سورة يوسف آية: 67] إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 68] .
فيه مسائل:
الأولى: خوفه عليهم من العين.
الثانية: أمره لهم بالسبب الذي يمنع، ونهيهم عما قد يكون سببا لوقوعها.
الثالثة: أنه مع فعل السبب تبرأ من الالتفات إليه.
الرابعة: أنه دلهم على عدم الالتفات إلى التهمة.(13/267)
الخامسة: أنه دلهم على التوكل على الله.
السادسة: أنه أخبرهم أنه توكل عليه وحده لا شريك له، لا على علمه وفطنته; ولا على السبب الذي أمرهم به.
السابعة: أنه أخبرهم أن توكل المتوكلين كلهم على الله، فمن توكل على غيره فليس منهم.
الثامنة: خبره تعالى أنهم قبلوا وصية أبيهم وعملوا بها، فتفرقوا على الأبواب لما أرادوا دخول البلد.
التاسعة: أن ذلك لا يغني عنهم شيئا من الله لو يريد بهم شيئا.
العاشرة: الاستثناء، وهو: أن ذلك التعليم من الرجل الحكيم المصيب، وقبول المنصوح وعمله بالنصيحة التي هي سبب، لو أراد الله أن العين تصيبهم أصابتهم ولو تفرقوا على الأبواب، حضا للعباد على الاعتماد عليه لا على الأسباب.
الحادية عشر: ثناؤه على يعقوب بأنه ذو علم لما علمناه، قيل معناه: عامل بما علمه; وهو يدل على أن العلم الذي لا يثمر العمل لا يسمى علما.
الثانية عشر: ذكره أن {أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [سورة يوسف آية: 69] الآية قيل: إنه قال لهم: يصير كل اثنين جميعا، فبقي أخاه وحده فآواه إليه، فقال له: {إني أناأخوك} [سورة يوسف آية: 69] قيل: إنه أخبره الخبر; وقيل: المراد أخوة المحبة. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ}(13/268)
إلى قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 70-76] .
فيه مسائل:
الأولى: كونه عليه السلام احتال بهذه الحيلة; ولا حجة في هذا لأهل الحيل الربوية، لأن ذلك مما أذن الله فيه ليوسف عليه السلام; وإلا لو يفعل ذلك الآن رجل مع أبيه وإخوته حرم إجماعا.
الثانية: قوله: {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [سورة يوسف آية: 70] المنادي بصوت رفيع يسمى مؤذنا; قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [سورة يوسف آية: 70] قيل: فيه جواز المعاريض، إن أراد بذلك أنهم سرقوه من أبيه، فإنه لم يقل سرقتم الصواع.
الثالثة: قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [سورة يوسف آية: 72] : فيه جواز بذل الأجرة لمن جاء بالسرقة.
الرابعة: وهي قوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف آية: 72] : استدل به على صحة الضمان ولزومه.
الخامسة: قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [سورة يوسف آية: 73] فيه جواز الحلف على مثل هذا، مع أن العلم في القلب، لكن بعض ما في القلب يعرف بالقرائن، أي: ما جئنا بهذا; وما هذا بفعلنا; وما يصلح منا، ولسنا أهلا له.
السادسة: أن السرقة ونحوها من الفساد في الأرض; قوله: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [سورة يوسف آية: 74] قيل في شرعهم: استعباد السارق هو لهم كالقطع في شرعنا، فلهذا {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [سورة يوسف آية: 75] .
السابعة: بداءته بأوعيتهم إبعادا عن تهمته، وذلك من كيد الله له.
الثامنة: قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ(13/269)
الْمَلِكِ} [سورة يوسف آية: 76] .
أي: حكمه على السارق غير ذلك، ولكن الله دبر ما جرى نصرة ليوسف؛ لأنهم ظلموه، فكاد له كما كادوا أباهم.
التاسعة: قوله: {إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة يوسف آية: 76] أي: ما جرى على ألسنتهم من ذلك القول الذي حكموا به على أنفسهم، فأخذه بفتياهم، وذلك من مشيئة الله.
العاشرة: كونه سبحانه فاوت بين عباده تفاوتا عظيما، حتى الأنبياء، ورفع بعضهم فوق بعضهم درجات.
الحادية عشر: التنبيه على أن ذلك لا يكون إلا بمشيئة الله.
الثانية عشر: أن رفع الدرجات الذي ينافس فيه، هو رفعها بالعلم.
الثالثة عشر: أنه ذكر أن كل عالم فوقه أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [سورة يوسف آية: 77] إلى قوله: {تَصِفُونَ} : فيه مسائل:
الأولى: إبطال قياس التشبيه.
الثانية: أن تعيير غيرك بذنب قد فعلت أكبر منه غير صواب، كما في قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [سورة البقرة آية: 217] الآية.
الثالثة: كون المظلوم المرمى بشيء خفي، يتعزى بعلم الله تعالى.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [سورة يوسف آية: 78] إلى قوله: {إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} [سورة يوسف آية: 79] .(13/270)
فيه مسائل:
الأولى: بيان مبالغتهم في حفظ أخيهم.
الثانية: جواب يوسف يدل على أن السرقة تثبت بوجود المسروق عند الرجل.
الثالثة: أن من وجب عليه الحد، لو بذل غيره نفسه عنه، لم يحل.
الرابعة: أن الرجل يثبت أنه ظالم بفعلة واحدة.
الخامسة: أنهم عرفوا فيه من العدل والإحسان، ما فهموا أنه من المحسنين.
السادسة: استشفاعك على غيرك بما فيه من الخصال الحميدة.
السابعة: المعاريض، فإنه عليه السلام لم يقل إنه سارق.
الثامنة: إبطال استدلال أهل الحيل المحرمة، فإن هذا يدل على أنه إنما أخذه برضاه، أو بوحي خاص.
التاسعة: أن المظلوم يجوز له أن يعامل من ظلمه بما لا يحل أن يعامل به غيره.
العاشرة: أن هذا يدل على أن أهل مصر لم يعرفوا يعقوب معرفة تامة.
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [سورة يوسف آية: 83] .
فيه مسائل:
الأولى: أنهم بالغوا حتى استيأسوا منه.
الثانية: ثقل الأمر عليهم، كما فعل كبيرهم.
الثالثة: أنه ذكر أنه على هذه الحال، إلى أن يأذن له أبوه، أو يحكم الله له; فإنه سبحانه يحكم لك أو عليك.
الرابعة: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي: معرفة أن الله خير الحاكمين.
الخامسة: الشهادة على(13/271)
الرجل بالسرقة، إذا وجد المسروق عنده.
السادسة: أن هذه شهادة بعلم، مع كونهم ما علموا إلا القرينة.
السابعة: الاعتذار بعدم علم الغيب.
الثامنة: الرجوع إلى الجيران، وأهل الخبرة في الأمور الخفية.
التاسعة: تسميته المدينة قرية.
العاشرة: اتهام المتهمين، كما ذكر النعمان بن بشير.
الحادية عشر: التعزي بالعزم على الصبر الجميل، عند توالي المصائب.
الثانية عشر: الرجوع إلى الله في تفريج الكرب.
الثالثة عشر: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف آية: 84] إلى قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 86] : فيه مسائل:
الأولى: التولي عن مثل هؤلاء، كما قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [سورة الصافات آية: 174] .
الثانية: قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف آية: 84] أن الكلام إذا لم يكن فيه جزع، لم يناف الشكوى.
الثالثة: ذكر الله تعالى كبر مصيبته: أنه ابيضت عيناه من البكاء، وابتلي بسنين كثيرة.
الرابعة: العبرة فيما ذكر، كما قال الحسن: لقد ابتلي بهذا تلك المدة الطويلة; وإنه لأكرم أهل الأرض على الله.
الخامسة: تسمية البكاء حزنا، لأنه نشأ عنه.
السادسة: وصفه بأنه كظيم، أي: أنه كاظم لحرارة المصيبة لا يشكو.
السابعة: معاتبتهم له على الحزن، مع مصيبة طال العهد بها.(13/272)
الثامنة: جوابه لهم عليه السلام، وهو يدل على أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، بل هي ممدوحة، كما ذكر عن أيوب.
التاسعة: إخبار الرجل بنيتة الصالحة، إذا احتاج أو انتفع السامع، ولا محذور في ذلك.
العاشرة: قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 86] كيف صار هذا جوابا لهم.
الحادية عشر: قيل معناه: أعلم من صفات الله ورحمته ولطفه ما لا تعلمون; وقيل: إن يوسف لم يمت.
الثانية عشر: أن هذا في مثل هذا المقام ليس من الفخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر" 1.
{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف آية: 87] الآية.
فيه مسائل:
الأولى: أمره لهم بالتحسس عن يوسف، مع استبعادهم ذلك; والتحسس: البحث والطلب.
الثانية: نهيهم عن اليأس من روح الله.
الثالثة: وهي العظيمة، أنه قد يقع اليأس من روح الله في مثل هذه القضية.
الرابعة: إخباره بقدر هذا الذنب، بأنه لا يصدر من مسلم، بل لا يكون إلا من كافر. وروح الله: رحمة الله.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [سورة يوسف آية: 88] إلى قوله: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} سورة يوسف آية: 93] .
فيه مسائل:
الأولى: قولهم {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أن الإخبار بالحال من غير شكوى لا يذم.
الثانية: ما ابتلى الله به أهل هذا البيت من الجوع المضر، وهم أكرم أهل الأرض
__________
1 ابن ماجه: الزهد (4308) .(13/273)
على الله.
الثالثة: ذكرهم قدر السلعة التي معهم أنها ناقصة رديئة، وليس هذا من ازدراء النعمة المذموم.
الرابعة: سؤالهم عند الحاجة، فيدل على أن مثل هذه الحال لا يذم.
الخامسة: سؤالهم الصدقة، فيدل على أنها غير محرمة عليهم.
السادسة: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي:
السابعة: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} .
الثامنة: قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} الآية، يدل على أن مثل هذا التقريع ليس بمذموم.
التاسعة: أنه عليه السلام ذكر في التقريع ما يهونه عليهم.
العاشرة: استثباتهم أنه يوسف مع رؤيتهم له، وذلك لاستبعادهم ذلك.
الحادية عشر: قوله: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي (: يدل على أنهم فعلوا مع أخيه ما لا يحسن.
الثانية عشر: وهي قوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا (: إسناد النعمة إلى مسديها في مثل هذا الموطن.
الثالثة عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
الرابعة عشر: الجمع بين التقوى والإيمان، ومعرفة الإيمان، ومعرفة الفرق بينهما.
الخامسة عشر: أن من جمع بينهما فهو من المحسنين.
السادسة عشر: قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} الآية; أقروا باثنتين: بفعل الله مع يوسف، وفعلهم من أنفسهم.
السابعة عشر: انتصار الله له هذا الانتصار العظيم.(13/274)
الثامنة عشر: إذلاله إياهم هذا الإذلال العجيب.
التاسعة عشر: قوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا تعيير عليكم، يعني: إني عفوت، ومن عفوي أني لا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم.
العشرون: استغفاره لهم، لما غفر لهم حقه، سأل الله لهم المغفرة.
الحادية والعشرون: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: الثانية والعشرون.
الثالثة والعشرون: تصديق القلب بأن الله أرحم الراحمين.
الرابعة والعشرون: أن الذي خافوا منه، واشتد عليهم حتى فعلوا بأخيهم وأبيهم ما فعلوا، وظنوا أنه عليهم مضرة كبيرة، وهو كون يوسف أرفع منهم، صار أكبر المصالح لهم في دنياهم وفي دينهم، يبينه:
الخامسة والعشرون: وهي قوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} الآية، ذكر أنه قميص هبط به جبريل على إبراهيم حين ألقي في النار، فلما ولد إسحاق جعله عليه، فجعله إسحاق على يعقوب، وجعله يعقوب على يوسف، ونسيه إخوته لما ألقوه في الجب، فأمرهم أن يذهبوا به فيلقونه على وجه يعقوب، ليرتد إليه بصره.
السادسة والعشرون: ما جعله الله من الأسباب الباطنة في بعض مخلوقاته.
السابعة والعشرون: أن التبرك بذلك، وإمساكه، والتداوي به، ليس من الشرك، كما كانوا يفعلون، ويتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذلك حسن مطلوب.
الثامنة والعشرون: أنه أمرهم بالإتيان بأهلهم(13/275)
كلهم، والانتقال عنده، فأعطاهم الله هذا الخير، والفرج من الشدة، بسبب ارتفاعه الذي كرهوه كراهية شديدة.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [سورة يوسف آية: 94] إلى قوله: {ِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يوسف آية: 98] .
فيه مسائل:
الأولى: كونه أدرك الريح من مكان بعيد.
الثانية: أنه عرف أنه ريح يوسف، قيل: إنه عرف ريح القميص، وأنه ليس إلا مع يوسف.
الثالثة: قوله: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} والفند: ذهاب العقل; ففيه الإخبار بما تعلم أن المخبر يكذبك، إذا كان في ذلك مصلحة.
الرابعة: قولهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [سورة يوسف آية: 95] لا ينبغي لمن حدث بغريب أن يغضب، إذا كذب أو شتم.
الخامسة: الآية في رد بصره عليه بسبب إلقاء القميص.
السادسة: تقريره لهم ما أنكروا من تفاصيل القاعدة الكلية.
السابعة: طلبهم الاستغفار من المظلوم.
الثامنة: عفو المظلوم، ودعاؤه لمن طلب ذلك منه.
التاسعة: الاعتراف منهم بالذنب.
العاشرة: رد المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [سورة يوسف آية: 99] إلى قوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [سورة يوسف آية: 101] فيه مسائل:
الأولى: أنهم لما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه كما آوى إليه أخاه، يدل على أنه لم يفعل ذلك(13/276)
بإخوته. الثانية: قوله لهم: {أدخلوا مصر} [سورة يوسف آية: 99] الآية.
الثالثة: تعليقه ذلك بالمشيئة.
الرابعة: رفع أبويه على العرش.
الخامسة: سجودهم كلهم له.
السادسة: قوله لأبيه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف آية: 100] .
السابعة: شكر نعمة الله عليه، حيث جعلها حقا.
الثامنة: شكر نعمة الله في إخراجه من السجن.
التاسعة: شكر نعمة الله في إتيانه بأهله من البدو.
العاشرة: شكر نعمة الله أنه بعدما نزغ الشيطان بينهم، صير الله العاقبة إلى خير، ولم يضرهم نزغ الشيطان.
الحادية عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: أن ربه تبارك وتعالى لطيف لما يشاء، فلذلك أجرى ما أجرى.
الثانية عشر، والثالثة عشر: رد ذلك إلى القاعدة الكلية أيضا، وهي: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة يوسف آية: 100] وهي:
الرابعة عشر، الخامسة عشر: كرمه عليه السلام، في قوله: {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [سورة يوسف آية: 100] ، ولم يقل من الجب.
السادسة عشر: كرمه في قوله: {نَزَغَ} ولم يقل: بعدما ظلموني.
السابعة عشر: أن إخراج الله الآدمي من البدو نعمة تشكر; ففيه فضل الحاضرة على البادية.
الثامنة عشر: دعاؤه بهذا الدعاء، وهو في غاية نعيم الدنيا.
التاسعة عشر: شكر نعمة الملك.
العشرون: شكر نعمة التعبير.
الحادية والعشرون: ثناؤه على ربه بأنه فاطر(13/277)
السماوات والأرض.
الثانية والعشرون: إقراره لله بكونه وليه في الدنيا والآخرة.
الثالثة والعشرون: توسله بذلك كله إلى هذه الحاجة، وهي: وفاته على الإسلام وإلحاقه بالصالحين.
قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 102] إلى قوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة يوسف آية: 107] .
فيه مسائل:
الأولى: تنبيه الله على آية الرسالة، بأن هذه القضية غيب لا يتوصل إليه الرسول إلا بالوحي، لكونه لا يقرأ ولا يخط، ولا أخذ عن عالم.
الثانية: تقريره هذه الحجة، بقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} لأن هذا لا سبيل إلى العلم به إلا بالوحي، أو بحضوره.
الثالثة: أن مكرهم خفي، لو حضرهم أحد لخفي عليه.
الرابعة: ذكره سبحانه حقيقة الحال، أن الأكثر لا يقبلون الحق، ولو تبين لهم بالأدلة.
الخامسة: ذكر حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان الناس.
السادسة: أنه لا مانع مع هذا البيان، مثل سؤال الأجر.
السابعة: أنه ذكر لهم مع شدة كراهتهم له، كما كره الإخوة ارتفاع يوسف.
الثامنة: أن الذي أتاهم من الآيات ليست هذه وحدها، بل كم وكم من آية من الآيات السماوية والأرضية يمرون عليها ويعرضون عن الانتفاع بها، وليس في هذا قصور في البيان، فإنه مشاهد، بل القلوب غير قابلة.
التاسعة:(13/278)
المسألة العظيمة، وهي: إخباره تبارك وتعالى أن أكثر هذا الخلق لو آمن أفسد إيمانه بالشرك، فهذه فساد القوة العملية؛ والتي قبلها فساد القوة العلمية.
العاشرة: التنبيه على الاحتراز من اجتماع الإيمان مع الشرك المفسد له، خصوصا لما ذكر أن هذا حال الجمهور.
الحادية عشر: احتقارهم هذا العصيان العظيم، كيف أمنوا عقوبة الدنيا؟ ! وهو يدل على جهالة من أمن ذلك.
الثانية عشر: كيف أمنوا أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون؟ !.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] إلى قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف آية: 109] .
فيه مسائل:
الأولى: أمره سبحانه نبيه بإخبار الناس بدينه مجملا.
الثانية: أن هذا أيضا سبيل من اتبعه.
الثالثة: أن ذلك هو الدعوة إلى الله وحده لا شريك له.
الرابعة: أن ذلك هو الدعوة إلى الله على بصيرة، خلافا لمن اتبع الحق ودعا إلى الله على غير بصيرة.
الخامسة: أن دينه الذي أنكره الأكثر، هو تنْزيه الله من السوء، والإنكار في ذلك.
السادسة: أن الذي حملهم على إنكاره كونه غريبا مخالفا لما عليه السواد الأعظم، وذلك لا يوجب رده، لأن اتباع الحق إذا ظهر هو الحق، وإذا ظهر الباطل لم يزينه فعل الأكثر له، مثل الربا والكذب والخيانة.(13/279)
السابعة: رد شبهتهم في كونه بشرا، وذا واضح، لأنهم إن كانوا ممن يقر بالرسالة في الجملة كأهل الكتاب والمشركين، فواضح، وإن أنكروها كالمجوس، فالنكال الذي أوقع الله بمن خالف الرسل، الذي سمعوه وشاهدوه، حجة عليهم.
الثامنة: الرد عليهم في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 118] أو نحو ذلك; لأن الرسل ما أتوا الأمم إلا بالوحي.
التاسعة: أنهم كلهم رجال; ففيه الرد على من يزعم أن في الجن رسلا، أو في النساء.
العاشرة: قوله {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ففيه: الرد على من انتقص أهل القرى; أو فضل البدو، أو ساواهم بهم.
الحادية عشر: استجهال الله إياهم، حيث لم يسيروا في الأرض، فيعتبروا بمن قبلهم; فدل على أن فهم ذلك مقدور لهم.
الثانية عشر: إخبار أن ما يعطي الله من أطاع الرسل خيرا مما أعطى يوسف وسليمان وأيوب، وغيرهم، من حسن عاقبة الطاعة.
الثالثة عشر: أن سنة الله في الرسل ومن اتبعهم، وسنته فيمن خالفهم، في الدنيا قبل الآخرة، من أظهر البينات للكفار الجهال؛ فمن لم يفهمها يقال له: كيف زال عقلك؟ !.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [سورة يوسف آية: 110] إلى آخر السورة. فيه مسائل:
الأولى: تأخير النصر على الرسل، حتى(13/280)
استبطؤوا، ولا يعجل الله لعجلة أحد.
الثانية: إذا عرف أن هذه سنة، فكيف يستعجل من يزعم أنه متبع لهم؟ كما قال صلى الله عليه وسلم:" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ".
الثالثة: أن ما يقع في القلب من خواطر الشيطان لا يضر، بل هو صريح الإيمان، إذا كان مع الكراهة.
الرابعة: أن العادة أن الشدة إذا تمت وتضايقت جدا، فهو من علامات حضور الفرج.
الخامسة: أنه سبحانه ينجي من يشاء، ولو كان مع المهلكين في المكان.
السادسة: أنه إذا جاء أمر الله، لم يقدر على دفعه أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.
السابعة: أنه سبحانه لا يظلم أحدا، وأن ذلك بسبب إجرامهم.
الثامنة: الثناء على قصص الرسل، وأن فيه عبرة.
التاسعة: أن ما يفهم هذه العبرة - مع وضوحها - إلا أولو الألباب.
العاشرة: تعريضه سبحانه بالأحاديث المفتراة، وإقبال الأكثر عليها، واشتراء الكتب المصنفة فيها بغالي الأثمان، وتكبر من اشتغل بها، وظنه أنه أفضل ممن لم يشتغل بها، وزعمه أنها من العلوم الجليلة، ومع هذا معرض عن قصص الأنبياء مستحقر له، زاعم أنه علم العوام الجهال.
الحادية عشر: أن من أكبر آياته تصديقه لما بين يديه من العلوم، التي جاءت بها الرسل، التي هي العلم النافع في الحقيقة.
الثانية عشر: أن هذا فيه تفصيل كل شيء يحتاج إليه، ففيه العلم النافع، وفيه الإحاطة بالعلوم الكثيرة، ومع(13/281)
هذا يفصلها، أي: يبينها.
الثالثة عشر: أنه هدى يعتصم به من الضلالة.
الرابعة عشر: أنه رحمة يعتصم به من الهلكة، فلا يضل من اتبعه ولا يشقى.
الخامسة عشر: أن هذا ليس لكل أحد، بل لقوم مخصوصين.
السادسة عشر: أن سبب ذلك الإيمان، ففيه شاهد لقوله: "من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم".(13/282)
[ومن سورة إبراهيم]
قال الشيخ محمد رحمه الله تعالى، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [سورة إبراهيم آية: 24] الآية: فالكلمة الطيبة التوحيد، وهي كالشجرة، والأعمال ثمارها في كل وقت؛ وكذلك السيئة، هي العمل لغير الله، وهذا هو الشرك; فإن الإنسان حارث همام، لا بد له من عمل، ولا بد له من مقصود يعمل لأجله، وإن عمل له ولغيره فهو مشرك; والذنوب من الشرك، فإنها طاعة للشيطان.
قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [سورة إبراهيم آية: 22] إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [سورة إبراهيم آية: 22] الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [سورة يس آية: 60] الآية، والحديث: "ومن شر الشيطان وشركه" لكن إن كان موحدا وفعل بعض الذنوب، نقص توحيده كما(13/282)
قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ، ومن ليس بمؤمن فليس بمخلص. وفي الحديث: " تعس عبد الدينار " إلخ; وحديث أبي بكر: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم " إلخ، لكن إذا لم يعدل بالله غيره فيحبه مثل حب الله، بل الله أحب إليه، وأخوف عنده، وأرجى من كل مخلوق، فقد خلص من الشرك الأكبر.(13/283)
[مسائل مستنبطة من سورة الحجر]
وقال أيضا الشيخ محمد، قدس الله روحه: هذه مسائل مستنبطة من سورة الحجر.
الآية الأولى: فيها الترغيب في القرآن، بجمعه بين الوصفين.
الثانية: وصفه بالبيان.
الثالثة: معنى الكتاب المعرف بالألف واللام.
الرابعة: معنى القرآن.
الآية الثانية: فيها الرد على الخوارج.
الثانية: الرد على المعتزلة.
الثالثة: النظر في العواقب.
الرابعة: عدم الاغترار بالحال الحاضرة.
الخامسة: إثبات عذاب القبر.
الآية الثالثة: تعزية المؤمن عما هم فيه من النعيم.
الثانية: أن الاغترار بذلك من وصف الكفار.
الثالثة: أن الأمل سبب ترك الخير.
الرابعة: أن ذلك من وصفهم.
الخامسة: الوعيد الشديد.
الآية الرابعة: فيها الآية العظيمة الباهرة، وهي: إهلاك القرى المكذبة.
الثانية: أن ذلك الأجل لا يتقدم، ولا يستعجل الله لعجلة أحد.
الثالثة: التعزية.
الرابعة: أنه إذا(13/283)
جاء لا يؤخر لحظة، ففيه الوعيد.
الآية الخامسة والآيتان بعدها: فيها أن الذكر هو القرآن.
الثانية: كلامهم على سبيل الاستهزاء.
الثالثة: وصفهم أكمل الناس عقلا - عندهم - بالجنون.
الرابعة: أن الذي دلهم على جنونه، عدم إتيانه بالملائكة.
الخامسة: عدم تصريحهم بالمعاتبة، بل تعللوا بتكذيبه.
السادسة: أنه سبحانه لا ينزل الملائكة لمثل ذلك.
السابعة: أنه لا ينزلهم إلا بالحق.
الثامنة: أنهم سألوه شيئا لو أجابهم إليه هلكوا.
التاسعة: فيها تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل.
العاشرة: أن الذكر هو القرآن.
الحادية عشر: حفظ الله إياه عن شياطين الجن والإنس.
الثانية عشر: كون ذلك الحفظ آية كافية عن إنزال الملائكة.
الآية الثامنة وثلاث بعدها: فيها أن الرسالة عمت بني آدم.
الثانية: هذا الخبر العجب، مع انقيادهم للكذابين.
الثالثة: لم يكفهم الامتناع والتكذيب حتى استهزؤوا.
الرابعة: أن ذلك بسبب إجرامهم.
الخامسة: الإيمان بالقدر.
السادسة: أن العقوبة بالذنب تكون بذنب أكبر منه.
السابعة: ذكر الآية الكبرى، وهي إهلاك أمم لا يحصيهم إلا الله.
الثامنة: أن مع هذا الأمر القاطع لم ينتفع به أمة واحدة.
التاسعة: خبر الصادق أنهم لو جاءتهم آية ملجئة لم يؤمنوا.
العاشرة: مع هذا العتو العظيم، يعتذرون(13/284)
تسكرا وسحرا، ولم يصرحوا بأنه الحق، ولكنه باطل.
الآية الثانية عشر، وأربع بعدها: فيها ما جعل الله في البروج من الآيات، سواء قيل: إنها النجوم أو الكبار منها.
الثانية: تزيين السماء.
الثالثة: حفظها من الشياطين.
الرابعة: ذكر الاستراق.
الخامسة: ذكر عقوبته.
السادسة: مد الأرض.
السابعة: الرواسي.
الثامنة: إنبات النبات.
التاسعة: كثرته وكونه من كل شيء.
العاشرة: كونه موزونا.
الحادية عشر: ذكر المعايش.
الثانية عشر: ذكر الأنعام.
الثالثة عشر: كوننا لا نرزقهم مع كونهم لنا.
السابعة عشر: فيها أن كل شيء خزائنه عنده.
الثانية: إنزاله بقدر معلوم.
الثامنة عشر، وثلاث بعدها: فيها ذكر إنعامه بإرسال الرياح.
الثانية: أنها تلقح السحاب والشجر.
الثالثة: إنزال الماء من السماء.
الرابعة: تسهيل تناوله.
الخامسة: عجزهم عن خزانته.
السادسة: تفرده بالإحياء والإماتة.
السابعة: أنه الوارث.
الثامنة: علمه بالمستقدم والمستأخر، في الزمان وفي الطاعة.
التاسعة: تفرده بحشر الجميع.
العاشرة: ذكر حكمه وعلمه مع ذلك.
الثانية والعشرون، وتسع عشرة آية بعدها: فيها ذكر المادة التي خلق منها آدم.
الثانية: ذكر المادة التي خلق منها إبليس.
الثالثة: إخبار الله للملائكة بمادته وأنه بشر.
الرابعة: أنه سواه.
الخامسة: أنه نفخ فيه من روحه.(13/285)
السادسة: أن السجدة لآدم.
السابعة: أنها سجدة وقوع.
الثامنة: أنهم سجدوا كلهم، لم يستثن إلا إبليس.
التاسعة: الدليل على شدة عيبه أنه لم يدخل مع هذا الجمع، ولم يتخلف إلا هو.
العاشرة: أن اسمه إبليس من ذلك الوقت.
الحادية عشر: تخلف الإنسان عن العمل الصالح وحده أكبر، لقوله: {مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [سورة الحجر آية: 32] .
الثانية عشر: تعذره بأصله وبكونه بشر.
الثالثة عشر: علم الملائكة بالبعث قبل خلق بني آدم.
الرابعة عشر: لا يسمى المسلم من أتباعه ولو عصى، لقوله: {إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الحجر آية: 42] .
الخامسة عشر: كل من اتبعه فهو غاو.
السادسة عشر: التنويه بآدم قبل خلقه.
السابعة عشر: وقوع ما أخبر الله به من قوله: {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} لأنه لم يتب.
الثامنة عشر: كونه رجيم.
التاسعة عشر: كونه من ساكني الجنة.
العشرون: خلق الجنة والنار قبل ذلك الوقت.
الثانية والأربعون، وخمس بعدها: فيها وعد أهل التقوى.
الثانية: ما يقال لهم عند دخولها.
الثالثة: أن الغل الذي بينهم لا يخرج من التقوى.
الرابعة: أن من نعيم أهل الجنة الأخوة الصافية.
الخامسة: التنبيه على أكبر عيوب الدنيا، وهو النصب والإخراج.
السادسة: أمره رسوله بتعليم عباده بهذه المسألة.
السابعة: أنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن المؤمن لو يعلم ما عنده من(13/286)
العقوبة ... إلى آخره.
الثامنة: أن المغفرة والرحمة وصف بها نفسه، وأما العذاب الأليم فوصف به عذابه.
التاسعة: تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل، وتعريف العذاب.
العاشرة: وجوب تعلم هذه المسألة على المؤمن.
الثامنة والأربعون، وثلاثون آية بعدها: فيها أمره رسوله بتعليم عباده بالقصة، فدل على شدة حاجتهم إليها.
الثانية: تسمية الملائكة أضيافا.
الثالثة: تشريف إبراهيم عليه السلام بضيافتهم.
الرابعة: قولهم: {سَلامًا} استدل به على إجزائه في السلام.
الخامسة: جواز مخاطبة الأضياف بمثل هذا عند الحاجة.
السادسة: أن مثل هذا الخوف لا يذم.
السابعة: البشارة بالغلام، وبكونه عليهم.
الثامنة: أن استبعاد مثل هذا ليس من القنوط.
التاسعة: أنه مظنة القنوط، لقوله: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [سورة الحجر آية: 55] .
العاشرة: مثل هذا لا يخرج من التوكل.
الحادية عشر: لا يخرج من معرفة قدرة الله.
الثانية عشر: معرفة كبر القنوط.
الثالثة عشر: معرفته - عليه السلام - أن البشارة ليست حاجتهم وحدها.
الرابعة عشر: معرفة نقمة الله ممن خالف الرسل.
الخامسة عشر: معرفة التوحيد من قصة امرأة لوط.
السادسة عشر: لم يعرفهم لوط أول مرة.
السابعة عشر: معرفه جواز قول مثل هذا للأضياف عند الحاجة، الثامنة(13/287)
عشر: معرفة أنه خوفهم عقوبة الدنيا، لقوله: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} [سورة الحجر آية: 63] .
التاسعة عشر: معرفة أن التأكيد وتكرير المسألة على الطالب، ليس نقصا في حقه، لقوله بعده: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [سورة الحجر آية: 64] .
العشرون: أن اليقين يتفاضل حتى في حق الأنبياء، يوضحه ما تقدم من قولهم: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الآية.
الحادية والعشرون: معرفة الأمر بالهجرة.
الثانية والعشرون: تفضيله عليه السلام بالهجرة مرتين.
الثالثة والعشرودن: معرفة أنهم أمروا بها إلى مكان معين.
الرابعة والعشرون: معرفة قدر كونه آخر الرفقة في السفر، كما كان صلى الله عليه وسلم يتخلف في آخرهم.
الخامسة والعشرون: عدم الرأفة على أعداء الله، لقوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} .
السادسة والعشرون: معرفة إخباره أن هذا قضي فلا مراجعة فيه، كما أخبر إبراهيم عليه السلام.
السابعة والعشرون: معرفة قرب وقته.
الثامنة والعشرون: معرفة الأمر العظيم، وهو فرح الإنسان بما لعله هلاكه.
التاسعة والعشرون: قوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي} إلخ، يدل على توقيرهم إياه، يوضحه قولهم: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
الثلاثون: أن طلب الستر وخوف الفضيحة من أعمال الأنبياء.
الحادية والثلاثون: كونك تأمر بالتقوى ولو أفجر الناس.
الثانية والثلاثون: خوف الخزي.
الثالثة والثلاثون: شدة مدافعته عن ضيفه بعرض بناته.(13/288)
الرابعة والثلاثون: كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم بحياته.
الخامسة والثلاثون: تأمل ما أخبر الله به من سكر الشهوة.
السادسة والثلاثون: الجمع بين قلبها وإمطار الحجارة.
السابعة والثلاثون: معرفة تنبيه الله على هذه الآية.
الثامنة والثلاثون: تخصيص المتوسمين.
التاسعة والثلاثون: توضيح الآية بكونها على الطريق.
الأربعون: إقامتها.
الحادية والأربعون: تخصيص المؤمنين بالآية.
الثانية والأربعون: توضيح الآية بكونها على الطريق الواضح.
الثالثة والأربعون: الآية في أصحاب الأيكة.
الرابعة والأربعون: ذكر السبب، وأنه ظلمهم.
الخامسة والأربعون: ذنب أصحاب الحجر.
السادسة والأربعون: أن من كذب رسولا، فقد كذب الرسل.
السابعة والأربعون: ذكر إنعامه عليهم بالآيات.
الثامنة والأربعون: ذكر ما عاملوها به من الإعراض.
التاسعة والأربعون: ما أعطوا من القوى، حتى نحتوا الجبال بيوتا.
الخمسون: أمنهم.
الحادية والخمسون: ذكر عقوبتهم، وهي أخذ الصيحة صباحا.
الثانية والخمسون: ذكر أن ذلك العطاء الذي غرهم، ما أغنى عنهم وقت البلاء، كما أغنت الأعمال الصالحة عن أهلها.
السبعون، وسبع بعدها: فيها التنبيه على تنْزيهه عن مضاد الحكمة.
الثانية: كونه ما خلق ذلك إلا بالحق; ففيه إثبات الحكمة.
الثالثة: أن من الحكمة في ذلك الإيمان به(13/289)
وتوحيده.
الرابعة: الإيمان بإتيان الساعة.
الخامسة: أن العلم بإتيانها، فيه تعزية للمظلوم.
السادسة: أن العلم بكونه الخلاق العليم، فيه تعزية أيضا.
السابعة: أن فيه الوعيد للظالم.
الثامنة: المنة بإتيان السبع المثاني والقرآن العظيم، وفيه التعزي عما أصابه به وعما صرف عنه.
التاسعة: نهيه عن مد العين إلى دنياهم.
العاشرة: كون ذلك من نتائج ذلك الإيتاء.
الحادية عشر: نهيه عن الحزن عليهم ولو كان الملأ.
الثانية عشر: أمره بخفض الجناح لمن آمن; ولو كان عندهم حقيرا.
الثالثة عشر: قوله لهم: {إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} وما في هذه الكلمة من التأكيد.
الرابعة عشر: ذكر آياته في انتقامه منهم.
الخامسة عشر: رجاء المؤمن إذا نظر إلى ذلك.
السادسة عشر: وصفهم بالاقتسام، ففيه جدهم في الباطل.
السابعة عشر: وصفهم القرآن بهذه الصفة، ففيه شدة الجراءة، وفيه وضوح ضلالهم.
الثامنة عشر: الإقسام على هذا الأمر العظيم.
التاسعة عشر: معرفة أن لا إله إلا الله عمل به.
العشرون: أن ذلك شرع للكل.
الثمانون، وأربع بعدها إلى آخر السورة: فيها أن الصدع فيه زيادة على الإنذار.
الثانية: أنها ناسخة.
الثالثة: جمعه بين ذلك وبين الإعراض عنهم.
الرابعة: ذكر الآية في(13/290)
تلك الكفاية.
الخامسة: في ذلك تشجيع على الصدع والتوكل.
السادسة: وصفهم بالاستهزاء بما لا يستهزأ به.
السابعة: وصفهم بالشرك.
الثامنة: ذكر أنهم يجعلون مع الله إلها، فلم يتركوا.
التاسعة: تقبيح ذلك في جعلهم معه ذلك كائنا من كان.
العاشرة: الوعيد.
الحادية عشر: لا يناقضه الإمهال لقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
الثانية عشر: تعزيته بعلم الله.
الثالثة عشر: تنبيهه على الدواء.
الرابعة عشر: أن ذلك بالجمع بين التسبيح والحمد.
الخامسة عشر: تنبيهه على السجود، أنه مع ما تقدم هو الدواء.
السادسة عشر: التحريض على ذلك، بتذكر عباد الله الساجدين، وكونه منهم.
السابعة عشر: ختم السورة بهذه المسألة الكبيرة.
وتكلم أيضا الشيخ محمد رحمه الله، على قصة إبليس، فقال: عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والحزن، والخبيث، والطيب ".
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [سورة الحجر آية: 26] قال ابن عباس في رواية الوالبي: "الصلصال الطين اليابس;" وفي رواية: "الذي إذا نقر صوت; والحمأ الطين الأسود المتغير اللون" والمسنون:(13/291)
المتغير الرائحة، يقال: سن الماء فهو مسنون إذا تغير; وقال سيبويه: المسنون: المصور على صورة ومثال.(13/292)
سورة النحل
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
قوله {َتَى أَمْرُ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 1] أي الذي يفصل بين المؤمنين والمشركين، فسر بالنصر في الدنيا، وبالقيامة، ففيها:
الأولى: إتيانه سبحانه بصيغة الماضي، للتحقيق والبشارة والنذارة.
الثانية: النهي عن الاستعجال به.
الثالثة: تسبيحه نفسه، وتعاليه عن شركهم، ففيه التنبيه على عظمة قبحه لكونه مسبة له.
الثانية: الأولى: فيها تنزيله الملائكة.
الثانية: تسمية المنزل روحا، لكونه يحيي القلوب.
الثالتة: أن ذلك الروح من أمره.
الرابعة: أن التخصيص بمن ينزل عليه بمشيئته، لا بالاقتراح.
الخامسة: أن المخصوص بذلك من جملة عباده.
السادسة: ذكر الحكمة في هذا، وهو: إنذار الخلق عن الشرك.
السابعة: أنه إذا ثبت ذلك فخصوه بالتقوى، لكونه المتفرد بالضر والنفع.
الثالثة: الأولى: فيها الاستدلال بخلق السماوات والأرض.
الثانية: أنه بالحق.
الثالثة: ذكر تعاليه عن شركهم، ذكره(13/292)
عند بدء الخلق، وعند الوعد بالفصل.
الرابعة: الأولى: فيها الاستدلال بخلق الإنسان: ذكر أولا الخلق العام، ثم الخاص.
الثانية: كونه من نطفة.
الثالثة: صيرورته إلى هذا الحال، بعد تلك الحال، وهو تفضيله بالعقل والبيان.
الرابعة: على تفسير مجاهد ذكر هذا الكفر، بعد ما أعطاه من النعمة، وبين له من القدرة.
الخامسة: والآيتان بعدها:
الأولى: فيها الاستدلال بخلق الأنعام على اختلافها.
الثانية: أن ذلك لنا.
الثالثة: التنبيه على ما فيها من المصالح.
منها: الدفء، والأكل، والجمال، وحمل الأثقال إلى ما ذكره، وغير ذلك من المنافع.
الرابعة: التنبيه على رأفته ورحمته بنا.
الثامنة: الأولى: ذكر الخيل والبغال والحمير في الاستدلال.
الثانية: ذكر نعمته أن الحكمة في ذلك لركوبنا.
الثالثة: زينة لنا. الرابعة: التنبيه على خلق ما لا نعلم.
التاسعة: الأولى: فيها أن السبيل منها قاصد.
الثانية: أنه يوصل إلى الله.
الثالثة: أن منها جائرا، فينزل على الطلب والنظر.
الرابعة: ذكر القدرة بعد ما ذكر الشرع.
العاشرة: الأولى: فيها الاستدلال بإنزال المطر.
الثانية: على أن غيره لا يقدر عليه.
الثالثة: التنبيه على النعمة، بقوله: {لَكُمُ} .
الرابعة: ما يحصل به من الشراب والمرعى.
الخامسة: إنبات الزرع والأشجار الخاصة.
السادسة: من كل الثمرات.
السابعة: أن ذلك الإنبات لنا.
الثامنة: ذكره أن في هذا لآيات.(13/293)
التاسعة: كونها مخصوصة بالمتفكرين.
الحادية عشر: الأولى: الاستدلال بخلق الليل والنهار والعلويات.
الثانية: أن تسخيرها لنا.
الثالثة: قوله: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} .
الرابعة: ذكر الآيات في ذلك.
الخامسة: أنها مخصوصة بالذين يعقلون.
الثانية عشر: الأولى: الاستدلال بخلق ما في الأرض لنا على اختلافه وكثرته.
الثانية: ذكر النعمة في كونه لنا.
الثالثة: ذكر الآيات في ذلك.
الرابعة: تخصيص المتفكرين بفهمها.
الثالثة عشر: الأولى: تسخير البحر.
الثانية: أنه الذي فعله لا غيره.
الثالثة: التنبيه على ما فيه من مصلحتنا، من أكل اللحم الطري، واستخراج الحلية ولبسها، وجريان الفلك فيه والابتغاء من فضله.
الرابعة: أن الحكمة في ذلك ليستخرج منكم الشكر في هذه الأمور التي فيها الآيات والنعم.
الرابعة عشر: الأولى: الاستدلال بخلق الجبال.
الثانية: ذكر الحكمة.
الثالثة: ذكر الأنهار.
الرابعة: ذكر السبل.
الخامسة: ذكر الحكمة، وهي الاهتداء.
السادسة: ذكر الحكمة الثانية وهي العلامات، فالجبال علامات النهار; ثم ذكر حكمة ثالثة، وهي الاهتداء بالنجوم في الليل.
الخامسة عشر: لأولى: ذكر الدليل القاطع البديهي الفطري الضروري.
الثانية: دعاؤهم إلى التذكر.
الثالثة: أتى باستفهام الإنكار، ولكن لتأمل التذكر ما هو، لقوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} .
الرابعة: دعاؤهم إلى الطاعة بذكر نعمه، وأنها(13/294)
على الإجمال، وأنها لا تحصى.
الخامسة: ختمه الآية بالاسمين.
السادسة عشر: الأولى: ذكر سعة علمه، وإحاطته بالسر والجهر.
الثانية: أن الذين يدعون غيره ليس لهم قدرة ولا لهم علم، فلا يخلقون شيئا، ولا يدرون متى يبعثون.
الثالثة: أنهم أموات غير أحياء.
السابعة عشر: الأولى: ذكر توحيد الإلهية.
الثانية: أنه مع تكاثر هذه الأدلة ووضوحها، أنكرته قلوب هؤلاء.
الثالثة: أن سببه عدم الإيمان بالآخرة، لا خفاء الأدلة.
الرابعة: أن الشرك وعدم الإيمان بالآخرة متلازمان.
الخامسة: أنهم مع هذا الجهل العظيم، الذي لا أخسر منه، متكبرون.
السادسة: جمعوا بين الإنكار والاستكبار.
السابعة: ذكر علمه سرهم وعلانيتهم، وهو صريح في الوعيد.
الثامنة: كونه لا يحب المستكبرين.
الثامنة عشر: الأولى: ذكر وصفهم أعظم نعمة جاءتهم من الله.
الثانية: إقرارهم بالربوبية.
الثالثة: ذكر عاقبة ذلك.
الرابعة: ذكر حملهم أوزار من أضلوا.
الخامسة: أنهم جهال، ولو ظن الأتباع غيره.
السادسة: تهويل ذكر الجزاء.
التاسعة عشر، وأربع آيات بعدها:
الأولى: ذكر ما فعل بمن قبلهم لما مكروا.
الثانية: أنه أتاه من القواعد.
الثالثة: أنهم خر عليهم الذي بنوا.
الرابعة: أن الخرور من فوقهم.
الخامسة: إتيان العذاب من طرق لم يعلموا بها،.(13/295)
السادسة: الخزى يوم القيامة.
السابعة: هذا العذاب الشديد.
الثامنة: ما فيه من قبح الشرك.
التاسعة: ما فيه من فتنة المشرك بالشرك.
العاشرة: مشاقتهم الله وأولياءه.
الحادية عشر: ذكره أن ذلك لأجل الشركاء.
الثانية عشر: ما فيه من تعزية المؤمن وتبشيره.
الثالثة عشر: شرف العلم في الآخرة.
الرابعة عشر: جمعه بين الخزي والسوء.
الخامسة عشر: كونه على من كفر.
السادسة عشر: ذكره موتهم على هذه الحال.
السابعة عشر: كونهم ما ظلموا إلا أنفسهم.
الثامنة عشر: كون ملك الموت له أعوان يتوفون.
التاسعة عشر: كونهم ألقوا له حين لا ينفعهم.
العشرون: تفسير ذلك بقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} .
الحادية والعشرون: جوابهم.
الثانية والعشرون: عقابهم.
الثالثة والعشرون: هؤلاء أهل الأبواب.
الرابعة والعشرون: عظمة الكبر عند الله.
الرابعة والعشرون، وآيتان بعدها:
الأولى: قول المتقين في المنزل.
الثانية: الوعد بحسنة الدنيا.
الثالثة: أن حسنات الآخرة خير.
الرابعة: أنها دار المتقين. الخامسة: وصفها بهذه الصفات العظيمة.
السادسة: أن الجزاء بهذا مما يوصف الله به في حق المتقين.
السابعة: وصفهم بحالهم عند الوفاة، وما يقال لهم.
السابعة والعشرون، وآية بعدها: الأولى: الموعظة عن(13/296)
التسويف. الثانية: الفرق بين إتيان الملائكة أو أمر الله.
الثالثة: أن هذا كفعل من قبلهم.
الرابعة: تنْزيهه سبحانة عن الظلم.
الخامسة: إثبات ظلمهم لأنفسهم.
السادسة: أن علمهم هو الذي أصابهم.
السابعة: كون الذي استهزؤوا به حاق بهم.
التاسعة والعشرون: الأولى: أن الاحتجاج بالقدر من كلام الكفار.
الثانية: اعترافهم أنهم يعبدون من دونه، مع قولهم هؤلاء شفعاؤنا عنده.
الثالثة: اعترافهم أنهم يحرمون من دونه، مع زعمهم أنهم يتقربون إليه.
الرابعة: ذكره سبحانه أن هذا كفعل المتقدمين.
الخامسة: ذكره الواجب على الرسل.
الثلاثون: الأولى: عموم الرسالة لكل أمة.
الثانية: أن كل أمة لها رسول يخصها.
الثالثة: أن بعثة الكل لأجل هاتين الكلمتين.
الرابعة: أنه لا بد مع الإثبات من النفي.
الخامسة: ذكر حسن الأولى بالإضافة إليه.
السادسة: ذكر قبح الشرك، وحسن النهي عنه.
السابعة: أنهم افترقوا.
الثامنة: أن من أعطي خيرا فالله أعطاه.
التاسعة: أن الضلالة حقت على الضالين.
العاشرة: ذكر الأمر بالسير في الأرض لأجل النظر في عاقبتهم.
الحادية عشر: ذكر أن حرص الرسول لا يجدي على من أضل الله.
الثانية عشر: ما لهم من ناصرين.
الحادية والثلاثون: الأولى: كونهم يقسمون بالله.
الثانية: أن(13/297)
القسم بالله عندهم أجل من القسم بالآلهة.
الثالثة: اجتهادهم في اليمين على ما لا يعلمون.
الرابعة: كون هذا على نفي ما قامت الأدلة الواضحة على ثبوته.
الخامسة: تأليهم على الله أن لا يفعل.
السادسة: رده عليهم بقوله: {بَلَى} .
السابعة: أنه لا يخلف الميعاد.
الثامنة: أنه جعل ذلك حقا عليه.
التاسعة: إخباره أن السواد الأعظم لا يعلمون.
العاشرة: ذكره الحكمة في ذلك، وهي: تبيينه لهم ما اختلفوا فيه; ومعرفة الكافرين أنهم أهل الكذب، لا خصومهم.
الحادية عشر: ذكره تعظيم قدرته وأنها على غير القياس، وهم نفوا لما نظروا إلى عظمة الأمر، ولم يعرفوا عظمة الله.
السادسة والثلاثون: الأولى: ذكر الهجرة.
الثانية: ذكر نية أهلها.
الثالثة: ذكر الظلم الذي أصابهم وصبروا.
الرابعة: الوعد بحسنة الدنيا.
الخامسة: أن أجر الآخرة أعظم.
السادسة: أن هذا الخير العظيم لا يعلمه الأكثر، ولو علموه لاستبقوا إليه.
السابعة: وصفهم بالصبر.
الثامنة: وصفهم بالتوكل.
السابعة والثلاثون: الأولى: ذكر الحجة الدامغة لإنكارهم لإرسال البشر، مع تسليمهم بنبوة المتقدمين.
الثانية: أن الإرسال بالوحي.
الثالثة: أن هذا مسلم عند كل من عرف العلم النازل من الله.
الرابعة: تنبيه الجاهل أنه لا يعذر، لأنه يمكنه السؤال.(13/298)
الخامسة: أن كل الرسل رجال، لا جني فيهم ولا أنثى.
السادسة: أن كل رسول لا يرسل إلا ببينات.
السابعة: لا يرسل إلا ومعه كتاب.
الثامنة: ذكر الحكمة في إنزال القرآن على محمد، وأنها لبيان المنزل، ولتفكرهم.
التاسعة: تسميته الذكر.
الثامنة والثلاثون: الأولى: ذكر مكر السيئات.
الثانية: أنهم مستحقون لتعجيل العقوبة.
الثالثة: كيف أمنوا ذلك.
الرابعة: ذكر أنواع العذاب الأربعة.
الخامسة: أنهم لا يعجزون بعد ذكر الثالث.
السادسة: ذكر الرأفة والرحمة بعد الرابع.
التاسعة والثلاثون، والآيتان بعدها: الأولى: فيها ذكر الآية التي في المخلوق.
الثانية: تقرير عدم رؤيتهم ذلك مع وضوحه.
الثالثة: تفيؤ الظلال يمينا وشمالا.
الرابعة: سجودهم لله.
الخامسة: حال الدخول.
السادسة: ذكر جميع دواب السماء والأرض.
السابعة: سجود جميع الملائكة.
الثامنة: عدم استكبارهم مع شرفهم.
التاسعة: مع ذلك خوفهم منه.
العاشرة: ذكر الفوقية.
الحادية عشر: ذكر كونهم مع ذلك الخوف، كاملي الانقياد فيما أمروا به.
الثانية والأربعون، وآية بعدها: الأولى: فيها النهي عن اتخاذ إلهين.
الثانية: بيان أن الإله واحد.
الثالثة: بيان أن من لوازم ذلك إفراده بالرهبة.
الرابعة: الاستدلال على ذلك بملك السماوات والأرض.
الخامسة: الاستدلال بأن دينه(13/299)
واصب.
السادسة: الإنكار عليهم في تقوى غيره مع هذه الأدلة.
الرابعة والأربعون، وآيتان بعدها:
الأولى: فيها التذكير بأن كل ما بنا من نعمة فهو المتفرد بها.
الثانية: اللجأ إليه وحده إذا نزل الضر بالجأر.
الثالثة: فعلهم القبيح بعد كشفه وبعد الإخلاص.
الرابعة: ذكر عاقبة فعلهم أنه الكفر بالنعم.
الخامسة: ذكر العاقبة الثانية: وهي التمتع.
السادسة: الوعيد.
السابعة والأربعون: الأولى: جعلهم حقا من الذي أعطاهم الله لغيره.
الثانية: أنهم لا يعلمون.
الثالثة: الوعيد.
الرابعة: أنه بالقسم.
الثامنة والأربعون: الأولى: جعلهم لله الأوكس.
الثانية: جعلهم لأنفسهم الأعلى.
الثالثة: إذا بشروا بما جعلوا لله، جرى منهم ما ذكر.
الرابعة: أنه لشدته يتوارى.
الخامسة: أنه يتردد هل يمسكه على هون أم يدسه.
السادسة: التسجيل على سوء هذا الحكم.
الخمسون: الأولى: ذكر مثل السوء لمن لا يؤمن بالآخرة.
الثانية: إثبات المثل الأعلى لله سبحانه.
الثالثة: ذكر عزته.
الرابعة: ذكر حكمته.
الحادية والخمسون: الأولى: ذكر حلمه.
الثانية: ذكر استحقاقهم.
الثالثة: إهلاك من لا ذنب له بسبب كبر الجريمة.
الرابعة: ذكر أنه مع ذلك لا يهمل.
الخامسة: أن التأخير إلى أجل مسمى.
السادسة: أنه إذا جاء لا يستأخرون ساعة،
السابعة: أنهم لا يستقدمون قبله.(13/300)
الثانية والخمسون: الأولى: ذكر فعلهم العجيب.
الثانية: ذكر اغترارهم مع ذلك.
الثالثة: ذكر الصواب فيما يستحقون.
الرابعة: أنهم مفرطون.
الثالثة والخمسون: الأولى: القسم.
الثانية: ذكر أنه أرشدهم إلى ما ينفعهم.
الثالثة: ذكر السبب الذي صدهم.
الرابعة: ذكر ثمرة اليوم.
الخامسة: الوعيد بغيره.
الرابعة والخمسون: الأولى: ذكر الحكم في إنزال الكتاب عليه.
الثانية: الحصر في ذلك.
الثالثة: أنها ثلاثة أنواع: الأول عام، والثاني والثالث خاص.
الرابعة: ذكر سبب الخصوص.
الخامسة والخمسون: الأولى: ذكر الآية الشهيرة.
الثانية: أن فيها آية، الثالثة: لقوم مخصوصين.
الرابعة: أنهم أهل السمع.
السادسة والخمسون: الأولى: ذكر الآية في الإنعام باللبن.
الثانية: تفصيل الإنعام.
السابعة والخمسون: الأولى: ذكر ثمرات النوعين.
الثانية: اتخاذ النوعين منها.
الثالثة: ذكر الآية التي في ذلك.
الرابعة: أنها لأهل العقل خاصة.
الثامنة والخمسون: الأولى: ذكر أن الإلهام من أقسام الوحي.
الثانية: إلهامها اتخاذ تلك البيوت من تلك الأمكنة.
الثالثة: إلهامها مأكولها، الرابعة: سلوك سبل ربها.
الخامسة: كونها ذللا، السادسة: خروج ذلك الشراب من بطونها.
السابعة: اختلاف ألوانه، الثامنة: ما فيه من الشفاء.
التاسعة: الآية التي فيه.
العاشرة: كونها للمتفكرين.(13/301)
التاسعة والخمسون: الأولى: الآية في خلقهم.
الثانية: توفيهم.
الثالثة: رد من شاء إلى أرذل العمر.
الرابعة: لكيلا يعلم من بعد علم شيئا.
الخامسة: علمه.
السادسة: قدرته.
الستون: الأولى: تفضيلهم في الرزق.
الثانية: أن المفضلين لا يرضون لأنفسهم بهذا، خصوصا مع التساوي.
الثالثة: استفهام الإنكار.
الحادية والستون: الأولى: جعل الأزواج من الأنفس.
الثانية: جعل منها بنين.
الثالثة: حفدة، الرابعة: الرزق من الطيبات.
الخامسة: استفهام الإنكار في هذا الأمر الباهر.
الثانية والستون: الأولى: عبادة من لا يملك نفعا.
الثانية: أنهم لا يستطيعون.
الثالثة: النهي عن ضرب المثل له.
الرابعة: التنبيه على علمه وجهلهم.
الثالثة والستون، والتي بعدها: فيهما المثلان العظيمان القاطعان.
الخامسة والستون: الأولى: ذكره تفرده بعلم الغيب.
الثانية: ذكر أمر الآخرة.
الثالثة: ذكر قدرته على كل شيء، فلا تستبعد شيئا.
السادسة والستون: الأولى: ذكر إخراجنا من البطون هكذا.
الثانية: وهب الآيات.
الثالثة: ذكر مراده في ذلك.
السابعة والستون: الأولى: ذكر آيات الطير.
الثانية: كيف لم يفهموها؟
الثالثة: أن فيها آيات.
الرابعة: لقوم مخصوصين.
الثامنة والستون: الأولى: ذكر السكن من البيوت.
الثانية: جعل البيوت من جلود الأنعام.
الثالثة: استخفافها(13/302)
ظعنا وإقامة.
الرابعة: من الأصواف والأوبار أثاثا.
الخامسة: المتاع إلى حين.
التاسعة والستون: الأولى: ذكر الظلال مما خلق.
الثانية: الأكنان من الجبال.
الثالثة: سرابيل الحر.
الرابعة: سرابيل البأس.
الخامسة: إتمام النعمة.
السادسة: الحكمة في ذلك.
السبعون، والتي بعدها: الأولى: ذكر الوعيد.
الثانية: التعزية.
الثالثة: التعليم أن ذلك ليس عليه.
الرابعة: ذكر ما عليه.
الخامسة: نعمته بالبيان.
السادسة: العجب العجاب، وهو: جمعهم بين الضدين.
السابعة: أن أكثرهم عدم القوة العملية.
الحادية والسبعون، وآيتان بعدها: الأولى ذكر بعثه الشهداء.
الثانية: أنه من كل أمة شهيدا.
الثالثة: تخلف أسباب النجاة في الدنيا، وهو الأذن والاستعتاب.
الرابعة: تخلف التخفيف والإنظار.
الرابعة والسبعون: الأولى: قول المشركين لشركائهم.
الثانية: معرفة أنهم يدعون من دونه.
الثالثة: تكذيب معبوديهم لهم.
الرابعة: إلقاء السلم إلى الله حينئذ.
الخامسة: زوال الافتراء.
الخامسة والسبعون: الأولى: من جمع الكفر والصد، جمع له ما ذكر.
الثانية: ذكر الحكمة.
السادسة والسبعون: الأولى: ذكر بعث الشهيد في كل أمة من أنفسهم.
الثانية: بعثته صلى الله عليه وسلم على أمته.
الثالثة: تنْزيل الكتاب عليه.
الرابعة: بيانه لكل(13/303)
شيء.
الخامسة: كونه هدى.
السادسة: كونه رحمة.
السابعة: كونه بشرى لقوم مخصوصين.
الثامنة: الثناء على الإسلام.
السابعة والسبعون: الأولى: الأمر بالعدل.
الثانية: الأمر بالإحسان.
الثالثة: الأمر بإيتاء ذي القربى.
الرابعة: النهي عن الفحشاء.
الخامسة: النهي عن المنكر.
السادسة: النهي عن البغي.
السابعة: ذكر أن الأمر والنهي موعظة.
الثامنة. ذكر الحكمة في ذلك.
التاسعة: أن التذكير مستلزم العمل.
الثامنة والسبعون: الأولى الأمر بالوفاء بالعهد.
الثانية: نسبته إلى الله، الثالثة: النهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها.
الرابعة: التنبيه على قبح ذلك، بجعلهم الله كفيلا عليهم.
الخامسة: الموعظة بعلمه بأعمالهم.
التاسعة والسبعون، وأربع بعدها: الأولى نهيه عن مشابهة الخرقاء.
الثانية: تبيين ذلك باتخاذ الأيمان دخلا بينهم.
الثالثة: أنه لأجل كون أمة أربى من أمة.
الرابعة: ذكر أن ذلك اختبارا منه سبحانه.
الخامسة: وعظهم بالبيان، للاختلاف ذلك اليوم.
السادسة: أنه لو شاء لجعلهم أمة واحدة.
السابعة: بيان المشيئة.
الثامنة: الرد على القدرية.
التاسعة: الرد على الجبرية.
العاشرة: توعده بسؤالهم.
الحادية عشر: نهيه عن اتخاذها دخلا.
الثانية عشر: ذكر العقوبة.
الثالثة عشر: أنها نوعان.
الرابعة عشر: أن ذلك مما صدوا عن سبيله.(13/304)
الخامسة عشر: ذكر العذاب المهين.
السادسة عشر: نهيهم عن الاشتراء بالعهد ثمنا قليلا.
السابعة عشر: ذكره بعض الخيرية، وهو نفاد هذا وبقاء هذا.
العشرون: وعد الصابرين.
الحادية والعشرون: أن ذلك بأحسن أعمالهم.
الرابعة والثمانون: الأولى إلزام العمل الإيمان وبالعكس.
الثانية: ذكر الجزاء بالحياة الطيبة، وما بعدها أكبر، وهو: جزاؤهم بأحسن أعمالهم.
الثالثة: أنه عام لمن فعل، ذكرا كان أو أنثى.
الرابعة: التنبيه على طيب الحياة.
الخامسة والثمانون وآيتان بعدها:
الأولى: الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند القراءة.
الثانية: أن القراءة غير المقروء، الثالثة: التنبيه على التوحيد.
الرابعة: الإخبار أنه لا سلطان له على هؤلاء.
الخامسة: عطف التوكل على الإيمان مع أنه منه.
السادسة: أن نفي سلطانه عنهم لا ينافي فعلهم الأسباب، مثل الاستعاذة.
السابعة: إثبات سلطانه على هؤلاء.
الثامنة: عطف توليهم على شركهم.
الثامنة والثمانون: الأولى ذكر النسخ.
الثانية: ذكر الفتنة به، الثالثة: جوابهم.
الرابعة: سببه عدم العلم.
الخامسة: أن روح القدس جبرائيل.
السادسة: أنه من ربك.
السابعة: أنه لا ينافي كون الله نزله.
الثامنة: أنه الحق.
التاسعة: ذكر الحكمة، وهي: تثبيت هؤلاء.
العاشرة: ذكر الحكمة الأخرى، أنه هدى لهؤلاء.
الحادية عشر: ذكر الحكمة الأخرى، أنه بشرى لهم.
الثانية عشر: مدح الإسلام.(13/305)
التاسعة والثمانون: الأولى: ذكر إفكهم.
الثانية: ذكر علمه به.
الثالثة: بيان فساد إفكهم بأوضح حجة.
الرابعة: الرد على الأشعرية.
الخامسة: الرد على من زعم أنه لا يمكن معرفته.
التسعون: الأولى ذكر عقوبة من لم يؤمن بآيات الله.
الثانية: أن ذلك منعهم الخير الذي هو الهداية، وإيصال الشر وهو العذاب.
الثالثة: أن الهداية نعمة منه.
الحادية والتسعون: الأولى: تعظيم أمر الكذب، بكونه ينافي الإيمان.
الثانية: أن الإيمان بآيات الله يستلزم العمل، ومنه ترك الكذب.
الثالثة: حصر الكذب فيمن لم يؤمن بآيات الله.
الثانية والتسعون، وأربع بعدها:
الأولى: ذكر تعظيم الكفر بعد الإيمان.
الثانية: استثناء المكره المطمئن.
الثالثة: أن الرخصة لمن جمع بينهما، بخلاف المكره فقط.
الرابعة: أن الردة المذكورة كلام أو فعل من غير اعتقاد.
الخامسة: أنها تكون مع شدة المعرفة بالدين.
السادسة: أنها تكون مع شدة المعرفة بالباطل.
السابعة: أنها تكون مع محبة الدين.
الثامنة: أنها تكون مع بغض الباطل.
التاسعة: أنها تكون مع شدة الخوف.
العاشرة: تكون أيضا مع شدة حاجته لما بذل له، أو لما يرجوه.
الحادية عشر: كون من فعل ذلك كفر، ولو كان أفضل الأولياء.
الثانية عشر: يكفر بذلك ولو كان ببلد المشركين تحت أيديهم.
الثالثة عشر: من فعل ذلك فقد شرح بالكفر صدرا ولو كره ذلك، لأنه لم يستثن إلا من(13/306)
ذكر.
الرابعة عشر: فيه أنه يتصور أنه مؤمن ولم يطمئن.
الخامسة عشر: ذكر العقوبة، وهي نوعان.
السادسة عشر: وهي استحباب الدنيا على الآخرة، لا مجرد الاعتقاد أو الشك.
السابعة عشر: ذكر السبب الآخر، وهو من الصفات.
الثامنة عشر: أن سبب فعلهم الطبع المذكور.
التاسعة عشر: ذكر حصر الغفلة فيهم.
العشرون: حصر الخسران في الآخرة فيهم.
الحادية والعشرون: ذكر قبول توبة هؤلاء.
الثانية والعشرون: ذكر صفة توبتهم، وهي: الهجرة والجهاد والصبر.
الثالثة والعشرون: أن المغفرة لما صدر منهم من الأعمال المذكورة.
السابعة والتسعون: الأولى. تعظيم ذلك اليوم.
الثانية: ذكر الأمر الهائل في كل نفس.
الثالثة: كشف الشبهة بقوله: {عن نفسها} .
الرابعة: توفية كل نفس عملها.
الخامسة: نفي الظلم ولو عن الأشرار.
الثامنة والتسعون والتي بعدها: الأولى: ذكر ما أعطى القرية.
الثانية: الفرق بين الأمان والطمأنينة.
الثالثة: إتيان الرزق لها رغدا.
الرابعة: من كل مكان.
الخامسة. أن النعمة بما خرق العادة أظهر.
السادسة: أن ترك الشكر، له عقوبة عاجلة.
السابعة: أن العقوبة تأتي من حيث لا يحتسب.
الثامنة: ذكر الجمع بين هاتين العقوبتين.
التاسعة: أن ذلك لباس.
العاشرة: كونه بصنيعهم.
الحادية عشر: كون النعمة أتتهم ولم يطلبوها.
الثانية عشر: كونه منهم.
الثالثة(13/307)
عشر: تكذيبه مع هذا.
الرابعة عشر: كون العذاب أخذهم بهذا السبب.
الخامسة عشر: كونهم في تلك الحالة الظالمين.
المائة: الأولى: قاعدة الشريعة: أن الأصل الحل.
الثانية: أمره يالشكر.
الثالثة: تنبيهه على ذكر الغلو.
الرابعة: أن كل حلال فهو طيب.
الخامسة: الشكر للنعمة من الفرائض، لكونه من شروط العبادة الخاصة.
الحادية بعد المائة، الأولى: ذكر تحريم الأربع.
الثانية: ذكر (إنما) التي تفيد الحصرة.
الثالثة: الرخصة للمضطر.
الرابعة: شروط ذلك.
الخامسة: ختم الحكم بالصفتين.
الثانية بعد المائة: الأولى: نهيه عن التحليل والتحريم بلا علم.
الثانية: أن ذلك وصف السنة بالكذب.
الثالثة: لام كي في قوله: {لتفتروا} .
الرابعة: وعيد الفاعل.
الخامسة. إزالة الشبهة بقوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} .
الثالثة بعد المائة: الأولى: تحريمه على اليهود ما ذكر.
الثانية: أنه سبب ظلمهم.
الثالثة. تسمية ما حرم عليهم طيبات.
الرابعة: تنْزيه نفسه عن الظلم.
الخامسة. إثبات الظلم على من ظلم نفسه.
الرابعة بعد المائة: الأولى: ذكر توبته عن العاصين.
الثانية: قوله: {بجهالة} .
الثالثة: ذكره الإصلاح مع التوبة.
الرابعة: ذكر الربوبية في أول الكلام وآخره.
الخامسة: ختم الحكم.
الخامسة بعد المائة وثلاث بعدها:
الأولى: ذكر تعظيمه(13/308)
إبراهيم بما لا يعلم له نظير، الثانية. كونه أمة.
الثالثة: قنوته.
الرابعة: كونه حنيفا.
الخامسة: تنْزيهه عن هذه الطائفة.
السادسة: كونه شاكرا.
السابعة: كونه اجتباه.
الثامنة: هداه إلى صراط مستقيم.
التاسعة. إعطاؤه في الدنيا حسنة.
العاشرة: كونه في الآخرة مع هذه الطائفة.
الحادية عشر. كون سيد المرسلين مأمورا باتباع ملته.
التاسعة بعد المائة: ذكر فرض السبت عليهم.
الثانية: ذكر الحصر بإنما.
الثالثة: ذكر اختلافهم فيه.
الرابعة: ذكر الوعيد.
الخامسة: ذكر فصل جميع الاختلاف في ذلك اليوم.
العاشرة بعد المائة: كونه مأمورا بالدعوة إلى سبيل ربه لا غير.
الثانية: كونه بالحكمة.
الثالثة: كونه بالموعظة الحسنة.
الرابعة: المجادلة بالتي هي أحسن.
الخامسة: تعزية المؤمن بعلمه سبحانه، بالمهتدي والضال.
الحادية عشر بعد المائة: ذكر العدل حتى في حق الكفار.
الثانية: ذكر أن الصبر أفضل ولو على الكفار.
الثانية عشر بعد المائة، والتي بعدها: الأمر بالصبر.
الثانية: لا يكون إلا بالله.
الثالثة: نهيه عن الحزن عليهم.
الرابعة: نهيه عن الضيق من مكرهم.
الخامسة: تنبيهه أن الله مع الذين جمعوا بين الوصفين.
وقال أيضا، رحمه الله تعالى: السادسة: قوله عز وجل في حق إبليس: {إِنَّمَا(13/309)
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [سورة النحل آية: 100] .
مع قوله في الآية الأخرى، إخبارا عن اللعين، أنه قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [سورة إبراهيم آية: 22] ما معنى السلطان المثبت في الآية الأولى؟ والسلطان المنفي في الثانية؟ .
فأجاب: أنه عنى بالسلطان المثبت هن: الولاية والاستيلاء على القلب، بحيث يكون في طاعته دائما؛ وهذا بخلاف الآية الأخرى، وهي قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إ} [سورة الحجر آية: 42] قال أهل المعاني: يعني أن عبادي المنقادين لأمري {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الحجر آية: 42] فلا تقوى قلوبهم، لتصدهم عن ذكري.
وقد سئل سفيان بن عيينة عن معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الحجر آية: 42] "تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي; وهذه الإضافة للتشريك، لأن الله هداهم واجتباهم، وإلا الكل عبيد لله الصالح والطالح، لكن أولئك اختاروا طاعة إبليس على طاعة ربهم، وانقادوا له، فاستولى على قلوبهم" وأما معنى قوله، في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [سورة إبراهيم آية: 22] معناه أني لم يكن لي عليكم قهر وغلبة، فهذا استثناء منقطع، لكن دعوتكم من غير حجة على دعواي، ولا ولاية قهر وغلبة مني إليكم. {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة إبراهيم آية: 22] في طواعيتها وانقيادها إلي، من غير حجة ولا غلبة.(13/310)
وقال رحمه الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [سورة النحل آية: 120] لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين، {قَانِتًا لِلَّهِ} لا للملوك ولا للتجار المترفين، {حنيفا} لا يميل يمينا ولا شمالا، كفعل العلماء المفتونين {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل آية: 120] خلافا لمن كثر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين.
{شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} [سورة النحل آية: 121] ليس كمن نسي النعم، ونسبها إلى نفسه، فصار من المتكبرين {ِ اجْتَبَاهُ} [سورة النحل آية: 121] ليعلم أنه المتفرد بالفضل والتمكين {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة النحل آية: 121] لتعرف الاستقامة من الاعوجاج عن الحق المبين {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [سورة النحل آية: 122] ليعلم أن الدنيا مع الآخرة في اتباع الدين {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة النحل آية: 122] ترغيبا في زمرة الصالحين.
ثم ختم هذا الثناء العظيم بالأمر الكبير والعصمة والقاعدة الكلية; فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123] تبيينا للناجين من الهالكين، وفرقانا بين المحققين والمبطلين، وبين الموحدين من المشركين.(13/311)
سورة الإسراء
وسئل بعضهم: عن قول عائشة رضي الله عنها، في هذه الآية: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 110] :"نزلت في الدعاء".
ما معنى تنْزيل لفظ الآية على دعاء الله، مع أن إخفاء الدعاء أفضل؟ والذي نفهم في معنى الآية كلام ابن عباس: "أنها نزلت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بأصحابه، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله ... الحديث".
فأجاب: كلام ابن عباس رضي الله عنهما، هو الذي عليه جمهور العلماء، أن النّزول كان بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاته، فنهاه الله بهذه الآية عن الجهر بالقراءة في صلاته، لئلا يسمعه كفار قريش، فيسبون القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، ولا يخافت به مخافتة لا يسمع بها نفسه، بل يكون بين ذلك بحيث يسمع نفسه، هكذا قال ابن عباس، وموافقوه من العلماء.
وقالت عائشة، رضي الله عنها إنها نزلت في الدعاء، الذي هو الصلاة اللغوية لا الشرعية، وهذا الدعاء داخل في الشرعية، ولكن لم تنزل هذه الآية إلا بسبب الدعاء، فلا يجهر به جهرا مسمعا خارجا عن العادة، ولا يخافت به مخافتة لا يسمعه نفسه; بل يكون بين ذلك; وكلا المعنيين حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع بالقراءة، حتى نهاه الله عن السماع الجهري.(13/312)
وكذلك دعاء الله سبحانه وتعالى، لا يجهر به جهرا مسمعا; بل يخفيه إخفاء بحيث يسمع نفسه كبقية الذكر الذي في الصلاة وغيرها، وليس المقصود من فضيلة إخفاء الدعاء أنه لا يسمع نفسه; هذا المعنى لم يعنه أحد.
وقد قال تعالى في الذكر، الذي هو أعم من القرآن والدعاء وغيرهما: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [سورة الأعراف آية: 205] ، قال العلماء: معناه: سرا بحيث تسمع نفسك {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة الأعراف آية: 205] فدلنا ذلك على أن الأمر في الدعاء الوسط، وهو بقدر ما يسمع الداعي نفسه، ما لم يكن الداعي إماما قانتا، والمأموم خلفه، فإنه يجهر بحيث يسمع من خلفه، كما جاء فيه الأثر.(13/313)
سورة الكهف
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: ومن أول سورة الكهف، ذكر ابن عباس أن سبب نزولها:"أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة، فقالوا: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، فإنهم أهل الكتاب الأول، ففعلوا.
فقالوا: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر(13/313)
الأول، ما أمرهم؟ فإن لهم حديثا عجيبا. وسلوه عن طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح. فأقبلا، فقالا: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فسألوه عن الثلاث، فقال: أخبركم، ولم يستثن. فمكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه جبرائيل، فشق ذلك عليه، حتى جاءه بالسورة فيه المعاتبة على حزنه عليهم، وخبر مسائلهم" ففي الآية الأولى مسائل:
الأولى: حمده نفسه على إنزال الكتاب، الذي هو أكره شيء أتاهم في أنفسهم; مع كونه أجل ما أعطاهم من النعم.
الثانية: أن الإنزال على عبده، ففيه: إبطال مذهب النصارى والمشركين; وفيه: نعمته عليهم، حيث أنزل على رجل منهم.
الثالثة: أنه أنزله معتدلا لا اعوجاج فيه; ففيه: معنى قوله: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [سورة المؤمنون آية: 71] .
الرابعة: أن الأعداء والمشبهين لا يجدون فيه مغمزا، بل ليس فيه إلا ما يكسرهم.
وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [سورة الكهف آية: 2] ذكر الفائدة في إنزاله، فذكر ثلاثا:
الأولى: لينذر عذاب الله، فيصير سببا للسلامة منه.
الثانية: بشارة من انقاد له بالحظ المذكور.
الثالثة: الإنذار عن الكلمة العظمى التي تفوه بها من تفوه، تقربا إلى الله بتعظيم الصالحين.
الرابعة: الدليل على أن كلامهم لم يصدر عن علم،(13/314)
لا منهم ولا ممن قبلهم.
الخامسة: تعظيم الكلمة، كما قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [سورة مريم آية: 90] .
السادسة: أن الكذب يسمى كذبا، ويسمى صاحبه كاذبا، ولو ظن أنه صادق، ويصير من أكبر الكذابين المفترين.
وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [سورة الكهف آية: 6] أي: قاتلها أسفا على هلكتهم، ففيه: ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشفقة عليهم، وتسلية الله سبحانه له.
وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [سورة الكهف آية: 7] فيه مسائل:
الأولى: التسلية للمؤمن عمن أدبر.
الثانية: أن حكمة الله التزيين، ليبين الأحسن عملا من غيره.
الثالثة: أن جميعها يصير {صَعِيداً جُرُزاً} [سورة الكهف آية: 8] أي: لا نبت فيه.
وقوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [سورة الكهف آية: 9] يعني: أن قصتهم مع كونها عجيبة، فيها مسائل جليلة، أعظمها: الدلالة على التوحيد، وبطلان الشرك; والدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ومن قبله; والدلالة على اليوم الآخر.
ففي الآيات المشاهدة من خلق السماوات والأرض، وغير ذلك مما هو أعجب وأدل على المراد من قصتهم، مع إعراضهم عن ذلك؛ فأما دلالتها على التوحيد وبطلان الشرك فواضح، وأما دلالتها على النبوات فكذلك، كما جعلها أحبار يهود آية لنبوته.(13/315)
وأما دلالتها على اليوم الآخر، فمن طول مكثهم لم يتغيروا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [سورة الكهف آية: 21] ، وقوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 10] الآية، فيه مسائل:
الأولى: كونهم فعلوا ذلك عند الفتنة، وهذا هو الصواب عند وقوع الفتن، الفرار منها.
الثانية: قولهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [سورة الكهف آية: 10] من عندك، لا نحصلها بأعمالنا، ولا بحيلنا.
الثالثة: قولهم: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [سورة الكهف آية: 10] طلبوا من الله أن يجعل لهم من ذلك العمل رشدا، مع كونه عملا صالحا، فما أكثر ما يقصر الإنسان فيه، أو يرجع على عقبيه، أو يثمر له العجب والكبر، وفي الحديث: " وما قضيت لي من قضاء، فاجعل عاقبته رشدا " 1.
وقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [سورة الكهف آية: 13] إلى قوله: {مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [سورة الكهف آية: 16] فيه مسائل.
الأولى: من آيات النبوة، وإليه الإشارة بقوله: {بالحق} .
الثانية: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} وهم الشبان، وهم أقبل للحق من الشيوخ، عكس ما يظن الأكثر.
الثالثة: قوله: {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} فلم يسبقوا إلا بالإيمان بالله.
الرابعة: ما في الإضافة إلى ربهم من تقرير التوحيد.
الخامسة: في قوله: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [سورة الكهف آية: 13] أن من ثواب
__________
1 أحمد (6/146) .(13/316)
الحسنة الحسنة بعدها، ومن عمل بما يعلم، أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم.
السادسة: أن المؤمن أحوج شيء إلى أن يربط الله على قلبه، ولولا ذلك الربط افتتنوا.
السابعة: قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الكهف آية: 14] فهذه الربوبية هي الألوهية.
الثامنة: المسألة الكبرى، أن من ذبح لغير الله أو دعا غيره فقد كذب بقول: لا إله إلا الله، وقد دعا إلهين اثنين، واتخذ ربين.
التاسعة: المسألة العظيمة المشكلة على أكثر الناس، أنه إذا وافقهم بلسانه، مع كونه مؤمنا حقا، كارها لموافقتهم، فقد كذب في قوله لا إله إلا الله، واتخذ إلهين اثنين; وما أكثر الجهل بهذه، والتي قبلها!
العاشرة: أن ذلك لو يصدر منهم، أعني: موافقة الحاكم فيما أراد من ظاهرهم، مع كراهتهم لذلك، فهو قوله: {شططا} والشطط: الكفر.
الحادية عشر: قوله: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [سورة الكهف آية: 15] فهذه المسألة مفتاح العلم، وما أكبر فائدتها لمن فهمها!
الثانية عشر: قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 15] ففيه: أن مثل هذا من افتراء الكذب على الله، وأنه أعظم أنواع الظلم، ولو كان صاحبه لا يدري، بل قصد رضى الله.
الثالثة عشر: قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ [سورة الكهف آية: 16] فيه اعتزال أهل الشرك، واعتزال معبوديهم، وأن ذلك لا يجرك إلى ترك ما معهم من الحق، كما قال تعالى:(13/317)
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا} [سورة المائدة آية: 8] .
الرابعة عشر: قوله: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 16] فيه شدة صلابتهم في دينهم، حيث عزموا على ترك الرياسة العظيمة، والنعمة العظيمة، واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل.
الخامسة عشرة: حسن ظنهم بالله، ومعرفتهم ثمرة الطاعة، ولو كان مباديها ذهاب الدنيا، حيث قالوا: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [سورة الكهف آية: 16] .
السادسة عشر: الدليل على الكلام المشهور أن التعب يثمر الراحة، والراحة تثمر التعب.
السابعة عشر: عدم الاغترار بصورة العمل الصالح، فرب عمل صالح في الظاهر لا يثمر خيرات، أو عمل صالح يهيئ لصاحبه مرفقا.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [سورة الكهف آية: 19] فيه مسائل:
الأولى: كما أماتهم لحكمة، بعثهم لحكمة.
الثانية: أن الصواب في المسائل المشكلة عدم الجزم بشيء، بل قول: الله أعلم، فالجهل بها هو العلم.
الثالثة: التورع في المأكل.
الرابعة: كتمان السر.
الخامسه: المسألة العظيمة، وهي قوله: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] : عرفوا أنه لا بد من أحد الأمرين; إما الرجم، وإما الإعادة في الملة، فإن وافقوا على الثانية لم يفلحوا أبدا، ولو كان في قلوبهم محبة الدين وبغض الكفر.(13/318)
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [سورة الكهف آية: 21] الآية فيه مسائل:
الأولى: أن الإعثار عليهم لحكمة.
الثانية: معرفة المؤمن إذا أعثر عليه {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} كما رد سبحانه موسى إلى أمه، لتعلم أن وعد الله حق؛ فتأمل هذا العلم ما هو.
الثالثة: أن الساعة آتية لا ريب فيها لما وقع بينهم النّزاع; وذلك أن بعض الناس يزعم أن البعث للأرواح خاصة، فأعثر عليهم ليكون دليلا على بعث الأجساد.
الرابعة: أن الذين غلبوا على أمرهم قالوا: لنتخذن عليهم مسجدا. فإذا تأملت ما قالوا، وأن الذي حملهم عليه محبة الصالحين، ثم ذكرت قوله صلى الله عليه وسلم " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " 1 عرفت الأمر.
وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [سورة الكهف آية: 22] الآية فيه مسائل:
الأولى: الإخبار بالغيب.
الثانية: بيان الجهل والباطل بالتناقض.
الثالثة: الإنكار على المتكلم بلا علم.
الرابعة: إسناد الأمر في هذه المسائل إلى علم الله سبحانه.
الخامسة: الرد على أهل الباطل بالإسناد إليه.
السادسة: أن من العلماء من يعرف عدتهم لكنهم قليل.
__________
1 البخاري: الصلاة (434) ، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) ، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) .(13/319)
السابعة: النهي عن المراء في شأنهم.
الثامنة: الاستثناء.
التاسعة: النهي عن استفتاء أحد من هؤلاء فيهم.
وقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إلا أن يشاء الله} [سورة الكهف آية: 23-24] فيه مسائل:
الأولى: النهي عن مثل هذا الكلام.
الثانية: الرخصة مع الاستثناء.
الثالثة: الأمر بذكر الله عند النسيان.
الرابعة: أن الاستثناء يقع في مثل هذا.
الخامسة: هذا الدعاء عند النسيان، إن صح التفسير بذلك.
وقوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} سورة الكهف آية: 25] إلى آخر الكلام فيه مسائل:
الأولى: النص على مدة لبثهم.
الثانية: الرد على المخالف، بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [سورة الكهف آية: 26] .
الثالثة: الرد عليه بقوله: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الكهف آية: 26] .
الرابعة: الرد عليه بقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [سورة الكهف آية: 26] .
الخامسة: قوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [سورة الكهف آية: 26] .
السادسة: كونه: {لا يشرك في حكمه أحدا} [سورة الكهف آية: 26] .
السابعة: النهي عن إشراك مخلوق في حكم الله، على قراءة الجزم.
الثامنة: الحث على تلاوة الوحي، وإن عارضه لشبهة أو شهوة.
التاسعة: تقريره ذلك بقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [سورة الكهف آية: 27] .
العاشرة: تقرير ذلك بقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الكهف آية: 27] .
الحادية عشر: الكبيرة، وهي: أمره نبيه أن يصبر نفسه مع من ذكر.
الثانية عشر: أنه لا يضر المؤمن كراهة نفسه لذلك إذا جاهدها.(13/320)
الثالثة عشر: أن بلوغهم هذه المرتبة، بسبب فعلهم ما ذكر.
الرابعة عشر: أن صلاة البردين بالإخلاص توصل إلى المراتب العالية.
الخامسة عشر: فيه قوله: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره " 1.
السادسة عشر: النهي عن طلوع العين عنهم، إرادة لمجالسة الأجلاء.
السابعة عشر: المسألة الكبرى، وهي: اختلاف أمر الدنيا والآخرة عند الله.
الثامنة عشر: أنه لما ذكر المحثوث على مجالستهم، ذكر ضدهم.
التاسعة عشر: نهيه عن طاعة الضد.
العشرون: سبب ذلك.
الحادية والعشرون: ذكر الخصال الثلاث، إغفال القلب عن ذكر الله، واتباع الهوى، وانفراط الأمر.
الثانية والعشرون: إثبات القدر، وهو الإغفال.
الثالثة والعشرون: لا يخرجه من الذم أن قلبه يفهم غير ذلك فهما جيدا.
الرابعة والعشرون: قوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الكهف آية: 29] الآية.
وقال في قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] تنْزيهه عن الفقر والحاجة، والجهل والخساسة، ولكونه الغني القوي.
الثانية: كونه سبحانه هو الحكيم لنَزاهته عن الجهل والنقص، ولكونه القدوس السلام.
وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام مسائل: فالأولى: ما يتعلق بجلال الله وعظمته، وفيه مسائل:
__________
1 الترمذي: المناقب (3854) .(13/321)
الأولى: معرفة سعة العلم، لقوله: "ما نقص علمي وعلمك" وهذا من أعظم ما سمعنا من عظمة الله.
الثانية: الأدب مع الله، لقوله: "فعتب الله عليه".
الثالثة: الأدب معه أيضا في قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [سورة الكهف آية: 79] وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [سورة الكهف آية: 82] .
الرابعة: معرفة أنواع سعة جود الله تعالى، ومن ذلك العلم اللدني.
الخامسة: الأدب معه تعالى، بمعرفة أن له أسرارا في خلقه تخفى على الأنبياء، فلا ينبغي الغفلة عن هذه المهمة.
السادسة: الأدب معه في تعليق الوعد بمشيئة الله، مع العزم.
السابعة: معرفة شيء من عظيم قدرة الله: من إحياء الموتى، وجعله سبيل الحوت في الماء طريقا، وغير ذلك، ومعرفة هذه مع الأولى هما اللتان خلق العالم العلوي والسفلي لأجل معرفتنا بهما.
الثاني: ما يتعلق في أحوال الأنبياء، وفيه مسائل.
الأولى: أن النبي يجوز عليه الخطأ.
الثانية: أنه يجوز عليه النسيان.
الثالثة: فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة، لقوله: "موسى بني إسرائيل".
الرابعة: ما جبل عليه موسى عليه السلام من الشدة في أمر الله.
الخامسة: أنه لا ينكر إصابة الشيطان للأنبياء بما لا يقدح في النبوة، لقوله: {نسيا حوتهما} مع قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ} [سورة الكهف آية: 63] .
السادسة: ما عليه الإنسان من البشرية، ولو كان نبيا، وذلك من أدلة التوحيد، وذلك من(13/322)
وجوه: منها قوله: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [سورة الكهف آية: 77] .
الثالث: مسائل الأصول، وفيه مسائل، أعظمها التوحيد، ولكن سبق آنفا، فنقول:
الأولى: الدليل على اليوم الآخر، لأن من أعظم الدلالة: إحياء الموتى في دار الدنيا.
الثانية: إثبات كرامات الأولياء، على القول بعدم نبوة الخضر.
الثالثة: أنه قد يكون عند غير النبي من العلم ما ليس عند النبي.
الرابعة: إذا احتمل اللفظ معاني، فأظهرها أولاها، كما قال الشافعي.
الخامسة: إثبات الصفات، كما هو مذهب السلف.
الرابع. ما فيها من التفسير:
الأولى: أن المذكور هو الخضر، لا كما قال الحر بن قيس.
الثانية: أن موسى هو المشهور عليه السلام، خلافا لنوف 1.
الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم ألفاظ القرآن كما بلغها.
الرابعة: أن قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} أبلغ من قوله: (ألم أقل) .
الخامسة: أن قوله: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف آية: 79] المراد سفينة سالمة من العيب السادسة: أن غداهما هو الحوت.
السابعة: أن قوله: {عجبا} أي: لموسى وفتاه.
الثامنة:
__________
1 ابن فضالة البكالي.(13/323)
أنه لا يجوز تفسير القرآن بما يؤخذ من الإسرائيليات، وإن وقع فيه من وقع.
التاسعة: أن السلف يشددون في ذلك تشديدا عظيما، لقوله كذب عدو الله.
العاشرة: أن الوعد على العمل الصالح ليس مختصا بالآخرة; بل يدخل فيه أمور الدنيا، حتى في الذرية بعد موت العامل.
الخامس: آداب العالم والمتعلم، ففيه مسائل:
الأولى: تسمية التلميذ الخادم: فتى.
الثانية: أن تلك الخدمة مما يرفع الله بها، كما رفع يوشع.
الثالثة: تعلم العالم ممن دونه.
الرابعة: اتخاذ ذلك نعمة يبادر إليها، لا نقمة يبغضها.
الخامسة: التعلم بعد الرياسة.
السادسة: الرحلة في طلب العلم.
السابعة: رحلة الفاضل إلى المفضول.
الثامنة: ركوب البحر لطلب العلم.
التاسعة: شروط الشيخ على المتعلم.
العاشرة: التزام المتعلم للشروط.
الحادية عشر: الاعتذار بالنسيان.
الثانية عشر: قبول الاعتذار.
الثالثة عشر: أدب المتعلم، لقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} إلى آخره.
الرابعة عشر: قبول نصيحة الشيخ لعلمه منك ما لا تعلمه من نفسك، وإن كنت أفضل منه.
الخامسة عشر: أن من المسائل ما لا يجوز السؤال عنه.
السادسة عشر: أن من المسائل ما لا ينبغي للمسؤول أن يجيب عنها.
السابعة عشر: إعفاء المعلم مما يكره.
الثامنة(13/324)
عشر: مفارقة المتعلم إذا خالف الشرط.
التاسعة عشر: احتمال المشاق في طلب العلم، لقوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [سورة الكهف آية: 62] .
السادس: ما فيها من مسائل الفقه:
فالأولى: عمل الإنسان في مال الغير بغير إذنه، إذا خاف عليه الهلاك.
الثانية: ليس من شروط الجواز خوف الهلاك، بل قد يجوز للإصلاح، لقصة الجدار.
الثالثة: أنه ليس من شروط المسكين في الزكاة أنه لا مال له.
الرابعة: أنه استدل بها على أنه أحسن حالا من الفقير.
الخامسة: أنه لا بأس بالسؤال في بعض الأحوال، لقوله: {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [سورة الكهف آية: 77] .
السادسة: أن من لم يعط يتعز بهذه القصة، وكم ممن هان على الناس وهو جليل عند الله، وقد قيل:
فإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضر
السابعة: أن الإجازة تجوز بغير بعض الشروط التي شرط بعض الفقهاء.
الثامنة: أنه يجوز أخذ الأجرة على العمل الذي لا يكلف، خلاف ما توهمه بعضهم.
التاسعة: الترحم على الأنبياء، وأنه لا ينقص من قدرهم، بل هو من السنة.
العاشرة: أن تمني العلم ليس من التمني المذموم.
الحادية عشر: أن السلام ليس من خصائص هذه الأمة.
الثانية عشر: كيف الجواب إذا سئل أي الناس أعلم.
الثالثة عشر:(13/325)
خطأ من قال بخلو الأرض من مجتهد.
الرابعة عشر: التعزي باختيار الله، وحسن الظن فيما تكره النفوس.
الخامسة عشر: الخوف من مكر الله عند النعم.
السادسة عشر: أن قوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [سورة الكهف آية: 62] لا يعد من الشكوى.
السابعة عشرة: الفرق بين المسألة المأمور بها والمنهي عنها، وإن كان معذورا بل مأجورا.
الثامنة عشر: سفر الاثنين من غير ثالث للحاجة.
التاسعة عشر: أن الخضر معروف عندهم في ذلك الزمان، لقوله: "لما عرفوه حملوه بغير نول" 1.
العشرون: أن احتمال المنة في مثل هذا لا بأس به.
الحادية والعشرون: شكره نعمة الخلق.
السابع: المنثور والجامع:
الأولى: القصة بجملتها من أعجب ما سمع، ولا يعرف في نوعها مثلها.
الثانية: عين الحياة وما لله من الأسرار في بعض المخلوقات.
الثالثة: ما ابتلي به موسى عليه السلام مما لا يحتمل، مع وعده الصبر، وتعليقه بالمشيئة.
الرابعة: نسيان الفتى الحوت في ذلك اليوم وتلك الليلة وبعض اليوم الثاني، مع أنه لم يكلف إلا ذلك، ومع أنه زادهما يحمل على الظهر.
الخامسة: الآية العظيمة في الماء
__________
1 النول: جعل السفينة وثمن ركوبها.(13/326)
لما صار طاقا، 1 حتى قيل: إن هذا لم يقع إلا له منذ خلقت الدنيا.
السادسة: أن الشيطان يتسلط تسلطا لا يعرف، لكونه تسلط على يوشع بالنسيان العجيب.
السابعة: الفرق بين العبودية الخاصة والعبودية العامة.
الثامنة: الرد على منكري الأسباب، لأنه سبحانه قادر على إنجاء السفينة، وتثبيت أبوي الغلام، وإخراج أهل الكنْز له بدون ما جرى.
التاسعة: الرد على من قال: إن موسى لا يجوز له السكوت عنه، لأنه اعتذر بالنسيان، ولأنه لا يعد من نفسه ترك واجب.
العاشرة: الحكم بالظاهر، لقوله عليه السلام: {نَفْسًا زَكِيَّةً} .
الحادية عشر: تسمية المدينة قرية.
الثانية عشر: أن التأويل في كلام الله وكلام العرب غير ما يريد المتأخرون.
الثالثة عشر: أن المال قد يكون رحمة وإن كان مكنوزا.
الرابعة عشر: أن فائدة طلب العلم للرشد.
الخامسة عشر: نصيحة العالم المتعلم إذا أراد السؤال عن ما لا يحتمله.
السادسة عشر: أن ذلك الممنوع قد يكون أفضل ممن يعرف ذلك.
السابعة عشر: أن الكلام قد يقتصر فيه على المتبوع، لقوله: {فانطلقا} كما في قوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} [سورة البقرة آية: 38] .
__________
1 أي: حين انجاب الماء، فصار طاقة مفتوحة ... إلخ انظر صفحة: 168/ج/1 من فتح الباري.(13/327)
وقوله عز وجل قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
فيها خمس مسائل:
الأولى: كون الله فرض على نبيه أن يخبرنا عن نفسه الخبر الذي تصديقه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] .
الثانية: فرض عليه إخبارنا بتوحيد الألوهية، وإلا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه.
الثالثة: تعظيمه بقوله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [سورة الكهف آية: 110] كما تقول لمن خالفك: كلامي مع من يدعي أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الرابعة: أن من شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا؛ ففيه التصريح بأن الشرك في العبادة ليس في الربوبية؛ وفيه الرد على من قال: أولئك يستشفعون بالأصنام، ونحن نستشفع بالصالحين، لأنه قال: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] فليس بعد هذا بيان; وافتتح الآية بذكره، براءة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وختمها بقوله: {أحدا} .
اعلم رحمك الله: أنه لا يعرف هذه الآية المعرفة التي تنفعه، إلا من يميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية تمييزا تاما; وأيضا يعرف ما عليه غالب الناس، إما طواغيت ينازعون الله في توحيد الربوبية الذي لم يصل شرك المشركين إليه، وإما مصدق لهم تابع لهم، وإما رجل شاك(13/328)
لا يدري ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يميز بين دين الرسول ودين النصارى، والله أعلم.(13/329)
سورة طه
سئل رحمه الله، عن معنى هذه الآية: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [سورة طه آية: 125] .
فأجاب: اعلم رحمك الله أن الله سبحانه عالم بكل شيء، يعلم ما يقع على خلقه، وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانا لكل شيء وتفصيلا لكل شيء، وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر ومن بعدهم، كما جعله هدى لأهل القرن الأول ومن بعدهم.
ومن أعظم البيان الذي فيه: بيان جواب الحجج الصحيحة، والجواب عما يعارضها، وبيان الحجج الفاسدة ونفيها، فلا إله إلا الله، ماذا حرمه المعرضون عن كتاب الله من الهدى والعلم؟ ! ولكن لا معطي لما منع الله.
وهذه التي سئلت عنها، فيها بيان بطلان شبه يحتج بها بعض أهل النفاق والريب في زماننا. وهذا في قضيتنا هذه; وبيان ذلك: أن هذه في آخر قصة آدم وإبليس، وفيها من العبر والفوائد العظيمة لذريتهما ما يجل عن الوصف.
فمن ذلك: أن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولو فعل لكان فيه طاعة لربه وشرف له; ولكن سولت له نفسه أن(13/329)
ذلك نقص في حقه إذا خضع لواحد دونه في السن، ودونه في الأصل على زعمه، فلم يطع الأمر، واحتج على فعله بحجة وهي: أن الله خلقه من أصل خير من أصل آدم، ولا ينبغي أن الشريف يخضع لمن دونه، بل العكس.
فعارض النص الصريح بفعل الله الذي هو الخلق، فكان في هذا عبرة عظيمة لمن رد شيئا من أمر الله ورسوله واحتج بما لا يجدي، فلما فعل لم يعذره الله بهذا التأويل; بل طرده، ورفع آدم وأسكنه الجنة.
وكان مع عدو الله من الحذق والفطنة ودقة المعرفة ما يجل عن الوصف، فتحيل على آدم حتى ترك شيئا من أمر الله، وذلك بالأكل من الشجرة، واحتج لآدم بحجج؛ فلما أكل لم يعذره الله بتلك الحجج، بل أهبطه إلى الأرض، وأجلاه عن وطنه.
ثم قال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [سورة طه آية: 123] يقول تعالى: لما أجليتكم عن وطنكم، فإن بعد هذا الكلام، وهو أني مرسل إليكم هدى من عندي، لا أكلكم إلى رأيكم، ولا رأي علمائكم، بل أنزل ربكم العلم الواضح الذي يبين الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] ومعلوم: أن الهدى هو هذا القرآن.
فمن زعم: أن القرآن لا يقدر على الهدى منه إلا من(13/330)
بلغ رتبة الاجتهاد، فقد كذب الله في خبره أنه هدى؛ فإنه على هذا القول الباطل لا يكون هدى إلا في حق واحد من الآلاف المؤلفة، وأما أكثر الناس فليس هدى في حقهم؛ بل الهدى في حقهم أن كل فرقة تتبع ما وجدت عليه الآباء، فما أبطل هذا من قول! وكيف يصح لمن يدعي الإسلام: أن يظن في الله وكتابه هذا الظن؟ ولما عرف الله سبحانه أن هذه الأمة سيجري عليها ما جرى على من قبلها، من اختلافهم على أكثر من سبعين فرقة، وأن الفرق كلها تترك هدى الله، إلا فرقة واحدة، وأن الفرق كلها يقرون بأن كتاب الله هو الحق لكن يعتذرون بالعجز، وأنهم لو يتعلمون كتاب الله ويعملون به لم يفهموه لغموضه، قال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [سورة طه آية: 123] : وهذا تكذيب لهؤلاء الذين ظنوا في القرآن ظن السوء; قال ابن عباس: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة" وبيان هذا: أن هؤلاء يزعمون أنهم لو تركوا طريقة الآباء واقتصروا على الوحي، لم يهتدوا، بسبب أنهم لا يفهمون، كما قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فرد الله عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [سورة البقرة آية: 88] فضمن لمن اتبع القرآن أنه لا يضل كما يضل من اتبع الرأي، فتجدهم في المسألة الواحدة يحكون سبعة أقوال أو ستة ليس منها قول(13/331)
صحيح، والذي ذكر الله في كتابه في تلك المسألة بعينها لا يعرفونه.
والحاصل، أنهم يقولون: لم نترك القرآن إلا خوفا من الخطأ، ولم نقبل على ما نحن فيه إلا للعصمة، فعكس الله كلامهم، وبين أن العصمة في اتباع القرآن إلى يوم القيامة. وأما قوله تعالى: {وَلا يَشْقَى (: فهم يزعمون أن الله يرضى بفعلهم ويثيبهم عليه في الآخرة ولو تركوه واتبعوا القرآن لغلطوا وعوقبوا، فذكر الله أن من اتبع القرآن أمن من المحذور، الذي هو الخطأ عن الطريق وهو الضلال، وأمن من عاقبته وهو الشقاء في الآخرة.
ثم ذكر الفريق الآخر الذي أعرض عن القرآن، فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] : وذكر الله هو القرآن الذي بين الله فيه لخلقه ما يحب ويكره، كما قال تعالى: {َمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] الآيتين.
فذكر الله لمن أعرض عن القرآن، وأراد الفقه من غيره عقوبتين: إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين: الأول: ضنك الدنيا; وهو: أنه إن كان غنيا سلط الله عليه خوف الفقر، وتعب القلب والبدن في جمع الدنيا، حتى يأتيه الموت ولم يتهن بعيش; والثاني: الضنك في البرزخ وعذاب القبر.
وفسر الضنك في الدنيا أيضا بالجهل; فإن الشك(13/332)
والحيرة لها من القلق وضيق الصدر ما لها; فصار في هذا مصداق قوله في الحديث عن القرآن: " من ابتغى الهدى من غيره أضله الله " 1 عاقبهم بضد قصدهم.
فإنهم قصدوا معرفة الفقه، فجازاهم بأن أضلهم; وكدر عليهم معيشتهم بعذاب قلوبهم بخوف الفقر، وقلة غناء أنفسهم، وعذاب أبدانهم بأن سلط عليهم الظلمة والغبرة; وأغرى بينهم العداوة والبغضاء؛ فإن أعظم الناس تعاديا، هؤلاء الذين ينتسبون إلى المعرفة. ثم قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} والعمى، نوعان: عمى القلب، وعمى البصر; فهذا المعرض عن القرآن، لما عميت بصيرته في الدنيا عن القرآن، جازاه الله بأن حشره يوم القيامة أعمى.
قال بعض السلف: أعمى عن الحجة، لا يقدر على المجادلة بالباطل، كما كان يصنع في الدنيا. {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [سورة طه آية: 125] فذكر الله أنه يقال له: هذا بسبب إعراضك عن القرآن في الدنيا، وطلبك العلم من غيره.
قال ابن كثير في الآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [سورة طه آية: 124] أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه; وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح ولا تنعم; ظاهره: أن قوما أعرضوا عن الحق، وكانوا في سمعة من الدنيا، فكانت معيشتهم ضنكا؛ وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن (2906) ، والدارمي: فضائل القرآن (3331) .(13/333)
لهم معاشهم، مع سوء ظنهم بالله; ثم ذكر كلاما طويلا، وذكر ما ذكرته من أنواع الضنك، والله أعلم.
[جواب الشيخ إبراهيم عن رسالة عبد الله آل جريس]
قال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى الأخ المحب الشيخ: عبد الله بن على آل جريس، سلمه الله تعالى، وجعله من الدعوة إليه وحسن البيان بمقام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو - وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير - على ما أولاه من سوابغ نعمائه، وجزيل فضله وعطائه; والخط وصل، وصلك الله بالرضى والكرامة، وسلك بنا وبك سبل البر والاستقامة، وجعلنا وإياك ممن صدق في رضاه بالله ربا، وذاق طعم الإيمان بذلك، ووجده لديه عذبا.
واعلم وفقك الله، أنك في زمان كثر شوكه، وقل ثمره، وأفلت شمس الحق فيه، وكسف قمره، وغلب على الأكثر الجهل بالحقائق الإيمانية، والأصول الإسلامية، وبعد العهد بآثار النبوة والرسالة، واندرست معالم العلم، وتكلم الجاهل بمحض الجهالة، واستصوب أكثر المنتسبين ما ذهب إليه وقاله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحينئذ يبكي الإسلام،(13/334)
من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأوصيك بتقوى الله، والتماس ما يقرب إليه، والتمسك بالأثر عند فساد الزمان، والعض بالنواجذ عليه، وإن رغب عنه الأكثرون وهجره الأحقرون.
وما ذكرت مما كتبه البعض، قولة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تصدر من ذي فطرة سليمة; بل لا تصدر ممن عرف الله تعالى، وعرف ما تفرد به من الربوبية، والملك والتدبير، وما تنزه به وتقدس من أن يحتاج إلى عوين وظهير، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] وكلام المفسرين على هذه الآية، لا يخفى على من له أدنى إلمام بطلب العلم; وتكلم عليها تقي الدين بما فيه كفاية.
والغرض التنبيه على المتكلم في التعبير، وإلا ففساد هذا وقبحه من أظهر شيء في الوجود، وعوام المسلمين بحمد الله يعلمون بطلان ذلك، بمجرد الفطرة، فضلا عن ذوي العلم والفكرة; وكذلك أهل الشرك معترفون بذلك.
وأما ما ذكرت من قوله في المذاكرة: أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنك أنكرت عليه نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبت وأحسنت، لأن ذلك جهل عظيم ومقال ذميم، وإضافة مثل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول به(13/335)
مسلم يعقل ما يقول، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم من أن يشرك بربه تعالى وتقدس.
وإنما ذلك إلقاء من الشيطان على لسانه في نفس التلاوة ولم يعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أمسى وأتاه جبريل، فقال: يا محمد ما صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل. فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا عظيما، فأنزل الله عليه آية الحج تعزية له وتسلية، وكان به رحيما فأخبره جل وعلا: أن هذا ليس خاصا به، بل كل رسول ونبي قبله {إِذَا تَمَنَّى} أي: حدث وتلا {لْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج آية: 52] أي: في تلاوته; فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وجده من الخوف والحزن، هذا ملخص ما ذكره أهل التفسير.
ولم يقل أحد منهم: أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكمال معرفتهم، وعظيم علمهم; ومن عدم العلم والخشية، وتكلم بجهل وظلم، فجنايته على الإسلام كبيرة؛ وفي مثل هؤلاء، قال قتادة: "والله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا". وبالجملة: فالمتكلم بهذا يحمل على الجهل، فينبغي أن يعرف بخطئه، ويبين له برفق ولين، فإن رجح وأقر فهو المطلوب، والحق ضالة المسلم أينما وجده تبعه، وإن أبى إلا المكابرة والتعصب لصحة ما قاله والمثابرة، فيجب حينئذ على من عنده علم أن يقوم لله تعالى،(13/336)
ويذكر بآياته، ويتكلم بحججه وبيناته لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال آية: 42] ؛ ولولا ما علم من تفصيل الحكم في المخطئ والجاهل، لكان لنا شأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(13/337)
[ومن سورة المؤمنون]
قال الشيخ: محمد رحمه الله تعالى، قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [سورة المؤمنون آية: 51] الآيات.
فيه مسائل:
الأولى: أن الله أمر الرسل بهذا مع اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، فيدل على أنه من عظيم الأمور.
الثانية: أن الرسل إذا أمروا بذلك، فغيرهم أولى بالحاجة إلى ذلك، فأفاد أن هذا يحتاج إليه أعلم الناس حاجة شديدة.
الثالثة: إذا فرض هذا على الرسل، مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، فكيف بأمة واحدة، نبيها واحد، وكتابها واحد.
الرابعة: أن الخطاب للرسل عام للأمم، بدليل قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} .
الخامسة: الأمر بالأكل من الطيبات، ففيه رد على الغلاة الذين يمتنعون عنها؛ وفيه رد على الجفاة الذين لا يقتصرون عليها.
السادسة: الأمر بإصلاح العمل مع الأكل من الطيبات، ففيه رد على ثلاث طوائف.
أولهم: الآكلون من الطيبات بلا شكر، والشكر هو العمل المرضي.
وثانيهم: من يعمل(13/337)
العمل غير الخالص، مثل المرائي وقاصد الدنيا. وثالثهم: الذي يعمل مخلصا، لكنه على غير الأمر.
السابعة: المسألة العظيمة التي سيق الكلام لأجلها؛ وهي: فرض الاجتماع في المذهب، وتحريم الافتراق، فإذا فرضه على الأنبياء مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، فكيف بأمة واحدة، ونبيها واحد، وكتابها واحد؟
الثامنة: ذكره سبحانه فعلهم الذي صدر منهم، بعد ما عرفوا الوصية العظيمة بالاجتماع، والنهي عن الافتراق، وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون؛ فذكر أنهم قابلوا الوصية بعدما سمعوها بما يضادها غاية المضادة; وهو أنهم تركوا الاجتماع وتفرقوا؛ ثم بعد ذلك كل فرقة صنفت لها كتبا غير كتب الآخرين، ثم كل فرقة فرحت بما تركت من الهدى، وفرحت بما ابتدعته من الضلال، كما قيل:
حلفت لنا أن لا تخون عهودها ... فكأنها حلفت لنا أن لا تفي
[ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب على سورة النور]
ومن كلامه رحمه الله، على سورة النور.
فيه مسائل:
الأولى: حد الزانية.
الثانية: النهي عن الرأفة.
الثالثة: قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور آية: 2] .
الرابعة: تحريم نكاح الزانية.
الخامسة: ما ذكر الله في رمي المحصنات ما لم يأتوا بالبينة.
السادسة: رد شهادتهم.
السابعة: كون الله سبحانه استثنى التوبة والإصلاح.
الثامنة: ما ذكر الله في رمي الإنسان زوجته، وفيها من(13/338)
الأحكام أنها إذا لم تلاعن ترجم.
التاسعة: قوله {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} [سورة النور آية: 11] أن ما يبتلى به الإنسان قد يكون خيرا له.
العاشرة: أن هذه المسألة قد تشكل على أعلم الناس، حتى يبين له ذلك، كما أشكل على أبي بكر; وقوله: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [سورة النور آية: 11] إلى آخره; أن الإنسان يفرح بالشيء وهو شر له.
الحادية عشر: حسن الظن بالمسلم إذا سمع فيه مثل هذا الكلام; وأن يقول السامع: هذا إفك مبين، ولو من توري الإنسان.
الثانية عشر: ما ذكر الله من الشرط، وهي من أجل المسائل: أن لا بد من أربعة شهداء.
الثالثة عشر: أنهم إن لم يأتوا بهذا الشرط، أنهم عند الله هم الكاذبون.
الرابعة عشر: تعظيم هذا النوع، ولو لم يكن فيه إلا التلقي بالألسن.
الخامسة عشر: أنه من القول بما ليس له به علم.
السادسة عشر: أن الذنب قد يكون عند الله عظيما، ويخفى على أكثر الناس.
السابعة عشر: أن الواجب عليهم، أن يقولوا: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [سورة النور آية: 16]
الثامنة عشر: أن الله عظم هذه، وشرط فيها الإيمان؛ وخفي على أولئك.
التاسعة عشر: أن الله توعد من أحب تشييع الفاحشة في الذين آمنوا، وإن لم يعلموا.
العشرون: أنه توعده بعذاب الدنيا قبل الآخرة.
الحادية والعشرون: أنه نهى عن اتباع خطوات الشيطان، فيدل على أن المحذور الذي وقعوا فيه، من خطوات الشيطان.
الثانية:(13/339)
والعشرون: أن {لا يأتل} أن لا يعمل معروفا في الظالم، إذا كان من أهل هذه الخصال.
الثالثة والعشرون: الأمر بالعفو والصفح.
الرابعة والعشرون: النهي عن رمي المحصنات، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات
الخامسة والعشرون: قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [سورة النور آية: 26] الآية، إن فسرت الخبيثات بالكلمات، كان هذا من أعظم الخوف.
السادسة والعشرون: النهي عن دخول بيت الغير إلا بهذا الشرط، وهو الإذن.
السابعة والعشرون: إذا كان البيت خاليا يدخل.
الثامنة والعشرون: إذا قيل له ارجع، فيرجع وهو أزكى; فلا يجوز له أن يغضب، أو يظنه منقصة.
التاسعة والعشرون: الرخصة في دخول البيت، إذا كان فيه متاع للمسافر.
الثلاثون: الأمر بغض البصر.
الحادية والثلاثون: الأمر بحفظ الفرج.
الثانية والثلاثون: أمر النساء بغض البصر.
الثالثة والثلاثون: أمرهن بحفظ الفرج.
الرابعة والثلاثون: النهي عن إبداء الزينة، إلا للأصناف المذكورة.
الخامسة والثلاثون: النهي عن الضرب بالأرجل ليسمع صوت الخلخال.
السادسة والثلاثون: الأمر بالتوبة، وإن كانت عامة فهي في هذا الموضع خاصة.
السابعة والثلاثون: الأمر بإنكاح الأيامي.
الثامنة والثلاثون: الأمر بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء.
التاسعة والثلاثون: الأمر بموافقة العبيد في المكاتبة، إذا علمت فيه(13/340)
خيرا.
الأربعون: الأمر بمعاونتهم ببعض المال.
الحادية والأربعون: النهي عن إكراه الفتيات على البغاء.
الثانية والأربعون: إخباره سبحانه أنه غفور رحيم، من بعد إكراههن.
الثالثة والأربعون: مثل النور الذي أنزله الله في قلوب العبيد بهذا المثل العظيم.
الرابعة والأربعون: قوله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [سورة النور آية: 36] تعظيما.
الخامسة والأربعون: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [سورة النور آية: 36] .
السادسة والأربعون: قوله {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة النور آية: 37] يبيعون ويشترون، لكن إذا جاء أمر الله قدموه.
السابعة والأربعون: تمثيل أعمال الكافر بالسراب، الذي يحسبه الظمآن ماء.
الثامنة والأربعون: ذكر المثل الثاني {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} الآية.
التاسعة والأربعون: قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [سورة النور آية: 47] ، ولم يأتوا بشروطه.
الخمسون: ذكره أنهم إذا دعوا إلى الله ورسوله أعرضوا، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين.
الحادية والخمسون: ذكر الشرط في قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة النور آية: 51] الآية.
الثانية والخمسون: ذكره النهي عن القسم، لقوله: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [سورة النور آية: 53] .
الثالثة والخمسون: الأمر بطاعته وطاعة رسوله، ومن تولى فإنما على رسوله ما حمل وعليكم ما حملتم.
الرابعة والخمسون:، قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ(13/341)
تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ،
وذكر أن الهدى في طاعتة، إلى قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور آية: 54] .(13/342)
[ومن سورة النمل]
قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل آية: 18] : ذكر بعضهم أنها تشتمل على عشرة أحكام، أفيدونا أثابكم الله الجنة.
أجاب الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: الحمد لله وحده، قال ابن القيم رحمه الله تعالى، على هذه الآية - بعد كلام ذكره -: فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بينه من اسم الجنس إرادة للعموم; ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم، فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم معرة الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك ... إلى أن قال:
ثم أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم; فقد عرفت النمل أن لكل طائفة منها مسكنا لا يدخل عليهم فيه سواهم. ثم قالت: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل آية: 18] فجمعت بين اسمه وعينه، وعرفته بها، وعرفت جنوده وقائدها؛ ثم قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة النمل آية: 18] .(13/342)
فكأنها جمعت بين الاعتذار عن معرة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ويدخلوا مساكنهم؛ فهذه عشر جمل، وقد ذكرها في "مفتاح دار السعادة" على التفصيل فليراجع. والله أعلم.
[تفسير الشيخ ابن تيمية لآيات أشكلت من سورة النمل]
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله في تفسير آيات أشكلت: ومنها قوله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [سورة النمل آية: 89] الآية: ذكر أن المشهور عن السلف: أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك; ثم ذكر عن السدي، قال: ذلك عند الحساب ألفي بدل; كل حسنة عشر سيئات، فإن بقيت سيئة واحدة فجزاه النار، إلا أن يغفر الله له.
قلت: تضعيف الحسنة إلى عشر، وإلى سبعمائة، ثابت في الصحاح; وأن السيئة مثلها; وأن الهم بالحسنة حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب; فأهل القول الأول قالوه لأن أعمال البر داخلة في التوحيد، فإنه عبادة لله بما أمر به، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112] الآية.(13/343)
سورة القصص
وقال أيضا: الشيخ محمد، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
{طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِنَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة القصص آية: 1-3] .
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على جلالة القرآن وعظمته.
الثانية: التنبيه على وضوحه; وقوله: {بِالْحَقِّ} فيه علامة النبوة.
الثالثة: أن العلم بين يعرفه أهل القرآن والإيمان، وإن جهله غيرهم.
وقوله: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [سورة القصص آية: 4] إلى آخره:
فيه: ذم العلو في الأرض.
الثانية: ذم جعل الرعية شيعا.
الثالثة: التنبيه على كبر هذا الظلم.
الرابعة: التسجيل عليه أنه من هذه الطائفة; فمن أراد من الرؤساء أن يكون مثله فهذا فعله، ومن أراد اتباع الخلفاء الراشدين، فقد بان فعلهم. وقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [سورة القصص آية: 5] إلى آخره: هذه الإرادة القدرية بخلاف قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ [سورة الأحزاب آية: 33] وأمثالها، فهي: إرادة شرعية.
الثانية: أن ابتلاءهم بالاستضعاف سبب المنة عليهم،(13/344)
وكونهم أئمة، وكونهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وتعريف عدوهم بما يحذره، فهذه خمس فوائد نتيجة تلك البلوى.
الثالثة: تبيين قدرته العظيمة لعباده.
الرابعة: أن الحذر لا يفك من القدر.
وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [سورة القصص آية: 7] إلى آخره: هذا وحي إلهام، ففيه: إثبات كرامات الأولياء.
الثانية: أنها أمرت بإلقائه في اليم، وبشرت بأربع; وقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [سورة القصص آية: 8] فيه: حكمة هذا الالتقاط.
الثانية: أن الإنسان قد يختار ما يكون هلاكه فيه.
الرابعة: أن ذلك القدر بسبب خطايا سابقة.
وقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [سورة القصص آية: 9] إلى آخره: فيه أن المرأة الصالحة قد يتزوجها رجل سوء.
الثانية: قولها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [سورة القصص آية: 9] فيه: محبة الفأل.
الثالثة: ذكر الترجي.
الرابعة: عدم الشعور.
وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [سورة القصص آية: 10] الآية: فيه: ما ابتليت به.
الثانية: لولا منة الله عليها بالربط.
الثالثة: لتكون من المؤمنين.
الرابعة: أن الإيمان يزيد وينقص.
وقوله: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [سورة القصص آية: 11] الآية: فيه: أن التوكل واليقين، لا ينافي السبب.
الثانية: تسبب الأخت أيضا.
الثالثة: عدم شعورهم، مع ذكائهم وظهور العلامات.
وقوله: {وحرمنا عليه المراضع} الآية: [سورة القصص(13/345)
آية: 12]
هذا التحريم قدري; وأما قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [سورة النساء آية: 160] وأمثالها، فتحريم شرعي.
الثانية: أن هذه العلامة الظاهرة في كلامها، ولم يفهموه مع فطنتهم.
وقوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} [سورة القصص آية: 13] إلى آخره فيه الرد لثلاث فوائد.
الثانية: تفاوت مراتب العلم، لقوله {وَلِتَعْلَمَ} .
الثالثة: أن بعض المعرفة لا يسمى علما، فيصح نفيه من وجه، وإثباته من وجه.
الرابعة: المسألة العظيمة الكبيرة: تسجيل الله تبارك وتعالى على الأكثر أنهم لا يعلمون أن وعده حق.
وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [سورة القصص آية: 14] فيه: أن ذلك الإيتاء بعد بلوغ الأشد والاستواء.
الثانية: الفرق بين العلم والحكم.
الثالثة: ذكره أنه يفعل ذلك بالمحسنين، كما فعل ضده مع الذين كانوا خاطئين.
الرابعة: ترغيب عباده في الإحسان.
الخامسة: أن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها.
السادسة: فيه سر من أسرار القدر.
وقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} [سورة القصص آية: 15] إلى آخره فيه: أن الرجل الصالح قد يسخر له الفاجر، وينشأ في حجره.
الثانية: أنه قد ييسر الله الكمال العظيم بسبب أعظم المكروهات.
الثالثة: أن قتل الرجل صار ذنبا.
الرابعة: نسبة ذلك إلى عمل الشيطان.
الخامسة: قوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [سورة القصص آية: 15] .(13/346)
السادسة: ذكر توبته عليه السلام.
السابعة: ذكر مغفرة الله له.
الثامنة: ذكر سبب المغفرة.
التاسعة: شكر نعمة الخلق، العاشرة: كون شكرها عدم مظاهرة المجرمين.
وقوله: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ} [سورة القصص آية: 18] إلى آخره: فيه: أن هذا الخوف غير المذموم في قوله: {َلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللَّهَ} [سورة الأحزاب آية: 39] .
الثانية: أن ذلك الترقب لا يذم.
الثالثة: ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الشدة.
الرابعة: قوله لذلك الرجل: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [سورة القصص آية: 18] أن مثل ذلك لا يذم.
الخامسة: العمل بالقرائن.
السادسة: الفرق بين إرادة الصلاح بالقوة، وبين إرادة الفساد في الأرض بالتجبر.
وقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ} إلى آخره:
فيه: قوة ملكهم.
الثانية: ما عليه الرجل من محبة الحق وأهله.
الثالثة: تأكيده عليه بالأمر بالخروج، وذكره له أنه له من الناصحين بعد النذارة.
وقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [سورة القصص آية: 21] .
فيه: أن ذلك الخوف والترقب لا يذم.
الثانية: استغاثته بالله، مع فعله السبب.
الثالثة: أن كراهة الموت لا تذم.
الرابعة: أن الظالم يوصف بالظلم، وإن كان في تلك القضية غير ظالم.
وقوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ} إلى آخره: فيه: أنه توجه من غير سبب.
الثانية: سؤاله الله أن يدله الطريق.
الثالثة: أن عسى في هذا الموضع سؤال.
وقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [سورة القصص(13/347)
آية: 23] إلى آخره: فيه: ما أعطى عليه السلام من القوة.
الثانية: إحسانه إليهما في هذه الحال.
الثالثة: مخاطبة النساء لمثله.
الرابعة: ظهور النساء في خدمة أموالهن للحاجة.
الخامسة: تأدبها في عدم مزاحمة الرجال.
السادسة: ذكر إهماله السبب.
السابعة: أن المانع له عدم القوة، لا الترتيب.
الثامنة: سؤاله ربه القوت.
التاسعة: تأدبه في السؤال بذكر حاله للاستعطاف.
العاشرة: أن الشكوى إلى الله لا تذم.
وقوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} إلى آخره:
فيه: التنبيه على الحياء.
الثانية: الثناء على المرأة.
الثالثة: إرسالها إلى الرجل المجهول حاله للحاجة.
الرابعة: عدم إنكاره للأجرة على العمك الصالح.
الخامسة: قوله: {لا تَخَفْ} لأنهم ليس لهم سلطان عليهم.
السادسة: كونهم معروفين بالظلم عندهم.
وقوله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} [سورة القصص آية: 26] إلى آخره.
فيه: أن المرأة قد تصيب وجة الرأي.
الثانية: ما أعطيت من الذكاء.
الثالثة: أن طاعتها في مثل هذا لا تذم.
الرابعة: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، فالأمانة ترجع إلى خشية الله، والقوة ترجع إلى تنفيذ الحق.
الخامسة: أن الاحتياط للمال لا يذم.
وقوله: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ} إلى آخره:
فيه: أن هذه الإجارة صحيحة، بخلاف قول كثير من(13/348)
الفقهاء من منعهم الإجارة بالطعام والكسوة، للجهالة.
الثانية: أن المنفعة يصح جعلها مهرا للمرأة، خلافا لمن منع ذلك.
الثالثة: أن هذه المهنة لا نقص فيها، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم." 1.
الرابعة: أنها صفة كمال، لا يكمل الإنسان إلا بها.
الخامسة: أن ذكر مثل هذا في الإجارة، وهي قوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [سورة القصص آية: 28] لا يبطل الإجارة.
السادسة: المسألة الكبيرة الدقيقة، وهي: قوله صلى الله عليه وسلم: "قضى أطيب الأجلين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل.
السابعة: تأكيد العقد بقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة القصص آية: 28] .
وقوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [سورة القصص آية: 29] ؛ فيه: أنه أقام هذه المدة، أجرته فيها طعام بطنه وعفة فرجه.
الثانية: تسمية ذلك النور نارا.
الثالثة: هذا الفرج بعد الشدة، الذي أفرد بالتصنيف، ولم يذكروا لهذه نظيرا ولا ما يقاربها.
الرابعة: أنهم مع هذه الشدة بالبرد، ولا نار معهم.
الخامسة: أنهم ضلوا الطريق.
السادسة: جواز مثل هذا السفر للحاجة.
السابعة: ذكر الموضع الذي ناداه منه.
الثامنة: إثبات الصفات.
التاسعة: الرد الواضح على الجهمية في قولهم: هذا عبارة.
العاشر: تقريبه نجيا، فذكر النداء والمناجاة.
الحادية
__________
1 البخاري: الإجارة (2262) ، وابن ماجه: التجارات (2149) .(13/349)
عشر: اختصاص موسى بهذه المرتبة، ولذلك ذكرها إبراهيم عليه السلام، إذا طلبت منه الشفاعة الثانية عشر: كونه أمر بإلقاء العصا، فصارت آية.
الثالثة عشر: كونه أمر بإدخال اليد، فتكون آية أخرى.
الرابعة عشر: كونه {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} [سورة القصص آية: 31] .
الخامسة عشر: قوله {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [سورة القصص آية: 31] .
السادسة عشر: تبشيره أنه من الآمنين.
السابعة عشر: كونه أمر بضم جناحه من الرهب.
الثامنة عشر: تسميتهما برهانان.
التاسعة عشر: كونه من ربك.
العشرون: كونها إلى فرعون وملئه.
الحادية والعشرون: التعليل بأنهم قوم ظالمون.
الثانية والعشرون: هذه العطية العظيمة، في هذه الشدة العظيمة.
الثالثة والعشرون: اعتذاره بقتل النفس، والخوف منهم.
الرابعة والعشرون: اعتذاره برثاثة لسانه.
الخامسة والعشرون: طلبه الاعتضاد بأخيه.
السادسة والعشرون: طلبه الرسالة.
السابعة والعشرون: تعليله بخوف تكذيبهم.
الثامنة والعشرون: إجابة الله إياه.
التاسعة والعشرون: تبشيره أنه يجعل لهما سلطانا فلا يصلون إليهما.
الثلاثون: تبشيره بغلبته وغلبة أتباعه.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا} [سورة القصص آية: 36] إلى آخره: فيه: أنه أتاهم بآيات منسوبة إلى الله، وأنها بينات.
الثانية: أنهم قابلوها بما ذكر.
الثالثة: أنهم(13/350)
احتجوا لقولهم فيها بعدم سماعهم بهذا في آبائهم.
الرابعة: جواب موسى عليه السلام.
وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ} [سورة القصص آية: 38] إلى آخره: فيه: هذا الإنكار، الذي هو غلبة الكفر.
الثانية: قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ} [سورة القصص آية: 38] كيف تصرف الله في عقول العاصين.
الثالثة: استدل بها الأئمة على الجهمية.
وقوله: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ سورة القصص آية: 39] : وصفهم بأن فيهم المهلك، وأنهم عدموا المنجى، ولذلك أخذهم بما ذكر.
الثانية: أمر المؤمن بالنظر في عاقبتهم.
الثالثة: أنه أتى بلفظ الظالمين، ليبين أن ذلك ليس مختصا بهم.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [سورة القصص آية: 41] هذا الجعل القدري; وأما قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [سورة المائدة آية: 103] وأمثاله فهذا الجعل الشرعي.
الثانية: أن معرفة هذا يوجب الحرص على النظر في الأئمة، إذا كان منهم من جعله الله يدعو إلى النار، ومنهم من قال فيه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [سورة الأنبياء آية: 73] .
الثالثة: ذكر ما لهم في القيامة.
الرابعة: ما أبقى لهم على ألسنة الناس في الدنيا.
الخامسة: مآلهم في الآخرة.
[الزيادة التي في سورة طه في قصة سيدنا موسى]
وأما الزيادة التي في سورة (طه) 1.
__________
1 أي: على ما في سورة القصص، من المسائل في قصة موسى وفرعون وقومه ... إلخ.(13/351)
فالأولى: استفهام التقرير، الدال على عظمة القصة، والتحريض على فهمها.
الثانية: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} [سورة طه آية: 10] دليل على أنه ضل الطريق.
الثالثة: أمره بخلع النعلين.
الرابعة: إخباره أنه بذلك الوادي.
الخامسة: الإخبار بأنه مطهر.
السادسة: تبشيره بأن الله اختاره.
السابعة: أمره بالاستماع.
الثامنة: أن أول ذلك أكبر المسائل على الإطلاق، وهو: تفرده بالإلهية.
التاسعة: أمره بلازم التوحيد; وهو: إفراده بالعبادة.
العاشرة: أمره بإقامة الصلاة.
الحادية عشر: تعليل ذلك.
الثانية عشر: وقت الإقامة.
الثالثة عشر: قوله: {إن الساعة آتية} [سورة طه آية: 15] إلى آخره لما ذكر الإيمان بالله، ذكر الإيمان باليوم الآخر.
الرابعة عشر: أنه علة الإيمان بالله.
الخامسة عشر: مبالغته سبحانه في إخفائها.
السادسة عشر: ذكر الحكمة في إقامتها.
السابعة عشر: تحذيره من صاحب السوء.
وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [سورة طه آية: 17] إلى آخره: فيه: سؤاله عنها وهو أعلم.
الثانية: جوابه عليه السلام.
الثالثة: أمره بأخذها ولا يخاف، فإنه سيعيدها.
الرابعة: أن ذلك من الآيات الكبرى.
الخامسة: تعليله الذهاب إلى فرعون بطغيانه.
السادسة: سؤاله عليه السلام.
السابعة: أنه لم يسأل حل لسانه، بل عقدة منه.
الثامنة: أن مراده ليفقهوا كلامه.(13/352)
التاسعة: أنه علل ما سأله لأجل يسبحانه كثيرا، ويذكرانه كثيرا.
العاشرة: تعليله بقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [سورة طه آية: 35] .
الحادية عشر: إجابة سؤاله.
الثانية عشر: ذكره منته عليه من قبل بثمانية أمور.
الثالثة عشر: نهيهما أن لا ينيا في ذكره.
الرابعة عشر: رفقه سبحانه ومحبته للرفق.
الخامسة عشر: تعليل الرفق.
السادسة عشر: الفرق بين التذكر والخشية.
السابعة عشر: شكواهما إلى الله.
الثامنة عشر: جواب الله لشكواهما.
وقوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [سورة طه آية: 47] إلى آخره: فيه: من الرفق والتلطف أمور; أحدها: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [سورة طه آية: 47] فإن أطعت ما أطعت إلا هو.
الثاني: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [سورة طه آية: 47] فالمطلوب: أن يرسل جيرانه ورعيته، ولا يعذبهم.
الثالث: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [سورة طه آية: 47] فربك قد قطع عذرك.
الرابع: إضافته إلى الله.
الخامس: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [سورة طه آية: 47] أي: هذا هو الذي فيه السلامة، التي هي مطلوبة لكل أحد، خصوصا الملوك.
السادس: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} [سورة طه آية: 48] الآية: أي: كما دللناك على أمور السلامة، بينا لك طريق الهلاك.
السابع: لم يقولا إن العذاب لك إذا توليت، بل كلام عام.
الثامن: ذكر سبب العذاب.
التاسع: الفرق بين التكذيب والتولي.
وقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [سورة طه آية: 49] إلى آخره: هذا جواب اللعين، بهذا الكلام اللين.
الثانية:(13/353)
جواب موسى عليه السلام، الجواب الباهر.
الثالثة: التفكر في الخلق والهداية، الرابعة: جواب اللعين عن هذا.
الخامسة: جواب موسى عليه السلام عن شبهته، وهي من أجل الفوائد عند المناظرة.
السادسة: ذكر العلم والكتاب، ليس لخوف نسيان أو خطأ.
السابعة: الاستدلال بالآيات الأرضية والسماوية.
الثامنة: ذكر إسباغ نعمته.
التاسعة: ذكرإن في ذلك لآيات، لكن لهذه الطائفة.
العاشرة: لما ذكر الأرض ذكر ما جرى لنا، وما يجري لنا فيها.
وقوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [سورة طه آية: 56] فيه الفرق بين التكذيب والإباء، الثانية: ما أكثر الله له ولقومه من الآيات.
الثالثة: مكابرته في تسمية ذلك سحرا.
الرابعة: رميه موسى بنية طلب الملك.
الخامسة: معارضته آيات الله بالسحر.
السادسة: اهتمامه بذلك الموعد.
السابعة: ادعاء الإنصاف بقوله: {سوى} .
الثامنة: إجابة موسى إياه.
التاسعة: ذكر جميع كيده قبل إتيانه.
العاشرة: وعظ موسى إياهم.
الحادية عشر: كونه يقول: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة طه آية: 61] .
الثانية عشر: قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} سورة طه آية: 61] كلمة جامعة.
الثالثة عشر: سرهم بينهم بما ظنوه في موسى(13/354)
وأخيه.
الرابعة عشر: اغترارهم بطريقتهم.
الخامسة عشر: ذكرهم الاجتماع والإتيان صفا.
السادسة عشر: قولهم: {َقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [سورة طه آية: 64] .
السابعة عشر: ادعاؤهم الإنصاف في الخصومة.
الثامنة عشر: كونه اختار إلقاءهم أولا.
التاسعة عشر: هذا السحر العظيم.
العشرون: أمره له بإلقاء العصا.
الثالثة والعشرون: ما فعلت العصا.
الرابعة والعشرون: القاعدة الكلية {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [سورة طه آية: 69] .
الخامسة والعشرون: ما فعل السحرة من سرعة انقيادهم لما عرفوا، وفعلهم، وقولهم.
السادسة والعشرون: كون الإيمان برب هارون وموسى.
السابعة والعشرون: قوله لهم، وما ذكر أنه يفعل بهم.
الثامنة والعشرون: جوابهم لهذا الطاغي القادر، وهي سبع جمل كل جملة مستقلة.
[الزيادة التي في سورة الأعراف في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة الأعراف من الزيادة:
قوله عليه السلام: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاّ الْحَقَّ} [سورة الأعراف آية: 105] الآيتين.
الثانية: استعظام الله سحرهم.
الثالثة: قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} الآيتين.
الرابعة: قوله لهم اِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [سورة الأعراف آية: 123] لهذا.
الخامسة: قولهم: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 125] .
السادسة: قولهم {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [سورة الأعراف آية: 126] إلى آخره.(13/355)
السابعة: سؤالهم الله هذه المسألة.
الثامنة: كلام الملأ له.
التاسعة: جوابه لهم.
العاشرة: نصيحة موسى لقومه، فيها أمران، وثلاثة أخبار.
الحادية عشر: ردهم على موسى.
الثانية عشر: جوابهم لهم.
الثالثة عشر: إخبار الله أنه أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات.
الرابعة عشر: ذكر الحكمة في ذلك.
الخامسة عشر: أنهم لم يفهموا مراد الله بالحسنة والسيئة التي تأتيهم، بل عكسوا الأمر.
السادسة عشر: قوله {َلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة الأعراف آية: 131] .
السابعة عشر: كون الأكثر لا يعلمون هذه المسألة.
الثامنة عشر: شدة عنادهم.
التاسعة عشر: ذكره إرسال الآيات عليهم.
العشرون: كونهم مع ذلك استكبروا.
الحادية والعشرون: قوله: {وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [سورة الأعراف آية: 133] .
الثانية والعشرون: كلامهم لموسى لما وقع عليهم الرجز.
الثالثة والعشرون: نكثهم ما قالوا.
الرابعة والعشرون: قوله {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالفاء.
الخامسة والعشرون: ذكره السبب.
السادسة والعشرون: ذكر فضله على الضعفاء.
السابعة والعشرون: أن ذلك سبب صبرهم.
الثامنة والعشرون: تدمير ما صنعوا، وما كانوا يعرشون.
[الزيادة التي في سورة الشعراء في قصة سيدنا موسى]
وأما ما في سورة الشعراء من الزيادة:
قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [سورة الشعراء آية: 18]
الثانية: جواب موسى عليه السلام.
الثالثة: قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية:(13/356)
23] .
الرابعة: جواب موسى عليه السلام.
الخامسة: قوله: {لِمَنْ حَوْلَهُ} [سورة الشعراء آية: 27] .
السادسة: جواب موسى عليه السلام.
السابعة: قوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ} [سورة الشعراء آية: 39] إلى آخره.
الثامنة: جواب موسى عليه السلام.
التاسعة: كونه فزع إلى القدرة لما بهرته الحجة.
العاشرة: جواب موسى عليه السلام.
الحادية عشر: عناده بعدما أتته الآيات.
الثانية عشر: قوله: {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [سورة الشعراء آية: 39] .
الثالثة عشر: توسلهم بعزة فرعون.
الرابعة عشر: قولهم: {لا ضَيْرَ} [سورة الشعراء آية:50] .
الخامسة عشر: قولهم: {إِنَّا نَطْمَعُ} [سورة الشعراء آية:51] الآية.
السادسة عشر: كونه أمره أن يسري بهم.
السابعة عشر: كونه ذكر لهم أنهم متبعون.
الثامنة عشر: إرساله في المدائن حاشرين.
التاسعة عشر: ذكره لرعيتة لما حشرهم.
العشرون: ذكره المقام والنعيم والكنوز والجنات التي سلبوا.
الحادية والعشرون: كونه أورث الجميع بني إسرائيل.
الثانية والعشرون: اتباعهم إياهم مشرقين.
الثالثة والعشرون: قولهم: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [سورة الشعراء آية: 61] .
الرابعة والعشرون: جواب موسى عليه السلام لهم.
الخامسة والعشرون: ذكره أنه أمره أن يضربهض(13/357)
بعصاه، فكان ما كان.
السابعة والعشرون: ذكره نجاة هؤلاء، وهلاك هؤلاء.
الثامنة والعشرون: تنبيه العباد على فائدة القصة.
التاسعة والعشرون: هذا العجب العجاب، عدم إيمان الأكثر مع ذلك.
التاسعة والعشرون: ذكره نفسه.
الثلاثون: أنه هو العزيز الرحيم.
[الزيادة التي في سورة النمل في قصة سيدنا موسى]
وأما ما في سورة النمل من الزيادة:
فقوله: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [سورة النمل آية: 8] .
الثانية: تسبيحه نفسه في هذا المقام.
الثالثة: قوله: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [سورة النمل آية: 10] .
الرابعة: الاستثناء.
الخامسة: ذكره أن اليد في جملة تسع آيات.
السادسة: جحدهم الآيات مع اليقين.
السابعة: أن سببه الظلم والعلو.
وأما ما في سورة يونس من الزيادة، قول موسى: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} [سورة يونس آية: 77] إلى آخره.
الثانية: قولهم: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة يونس آية: 78] .
الثالثة: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [سورة يونس آية: 78] .
الرابعة: قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} [سورة يونس آية: 81] .
الخامسة: القاعدة الكلية إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [سورة يونس آية: 81] .
السادسة: كونه {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [سورة الشورى آية: 24] .
السابعة: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [سورة يونس آية: 82] .
الثامنة: ما آمن لموسى إلا من ذكر.
التاسعة: أنه على خوف من فرعون(13/358)
وملئهم.
العاشرة: وصف فرعون بالعلو والإسراف.
الحادية عشر: نصيحة موسى لقومه.
الثانية عشر: كون التوكل من لوازم الإسلام والإيمان.
الثالثة عشر: جوابهم وقبولهم النصح.
الرابعة عشر: دعاؤهم وما فيه من الفوائد.
الخامسة عشر: قوله: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا} [سورة يونس آية: 87] إلى آخره.
السادسة عشر: دعاء موسى، وما فيه من الفوائد.
السابعة عشر: كون المؤمن داعيا.
الثامنة عشر: قوله في هذا المقام: {فاستقيما} إلى آخره.
التاسعة عشر: كلام فرعون عند الغرق.
العشرون: ما أجيب به.
الحادية والعشرون: ذكر غفلة الكثير عن آياته.
[الزيادة التي في سورة هود في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة هود قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [سورة هود آية: 97] .
الثانية: كونه يوم القيامة يقدمهم، ويوردهم النار.
[الزيادة التي في سورة الإسراء في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة الإسراء: ذكر أن التسع كلها بينات.
الثانية: أمره نبيه عليه السلام بسؤال بني إسرائيل.
الثالثة: قول فرعون له.
الرابعة: جوابه له.
الخامسة: أنه عوقب بنقيض قصده.
السادسة: قوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الإسراء آية: 104] إلى آخره.
[الزيادة التي في سورة الحج في قصة سيدنا موسى] .
وفي سورة الحج: {َكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} [سورة الحج آية: 44] إلى آخره.
وفي سورة الصافات: كون فعل فرعون معهم كرب عظيم.(13/359)
[الزيادة التي في سورة المؤمن في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة المؤمن، قوله: {بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [سورة غافر آية: 23] .
الثانية: إلى الثلاثة.
الثالثة: جوابهم له.
الرابعة: ما قالوه لما جاءهم الحق من عند الله.
الخامسة: أن ذلك الكيد في ضلال مبين.
السادسة: قوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [سورة غافر آية: 26] .
السابعة: قول موسى.
الثامنة: كلام المؤمن وما فيه من الفوائد.
التاسعة: جواب فرعون.
العاشرة: قول المؤمن الثاني، وما فيه من الأصول; ووصف القيامة، وتذكيرهم برسالة يوسف، وما فعلوا.
الحادية عشر: قوله: {َعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [سورة غافر آية: 36] إلى آخره.
الثانية عشر: كون كيده في تباب.
الثالثة عشر: قول المؤمن الثالث، وما فيه من المعارف.
الرابعة عشر: وقاية الله له مكرهم.
الخامسة عشر: كونهم يعرضون على النار.
السادسة عشر: استدلال العلماء على عذاب القبر.
[الزيادة التي في سورة الزخرف في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة الزخرف: مقابلتهم آيات الله بالضحك منها.
الثانية قوله: {وما نريهم من آية} إلى آخره. [سورة الزخرف آية: 48]
الثالثة، قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 48] .
الرابعة: خطبة فرعون وما فيها من استدلاله على النفي والإثبات.
الخامسة: قوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} إلخ [سورة الزخرف آية: 54] .
السادسة: قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} إلخ. [سورة الزخرف آية:56](13/360)
وفي سورة الدخان {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [سورة الدخان آية: 18] .
الثانية: وصفه نفسه بالأمانة لله.
الثالثة: نهيه إياهم عن العلو على الله.
الرابعة قوله: {َإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} [سورة الدخان آية: 20] إلى آخره.
الخامسة: قوله: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} [سورة الدخان آية: 24] .
السادسة: ذكر العلة في تركه رهوا.
السابعة: {َمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [سورة الدخان آية: 29] .
الثامنة: عدم الإنظار.
التاسعة: ذكر أن فعله بهم عذاب مهين.
[الزيادة التي في سورة المؤمنون في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة المؤمنون [الآيات: 46 – 48] :كونهم كلهم قوما عالين.
الثانية: حجتهم على عدم الإيمان لهما.
الثالثة: التنبيه على أنهم من جملة من أهلك، ليس مختصا بهم.
[الزيادة التي في سورة الذاريات في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة الذاريات {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} ، الثانية قوله: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [سورة الذاريات آية: 39]
[الزيادة التي في سورة القمر في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة القمر [الآيات: 41 - 43] : تكذيبهم بالآيات كلها.
الثانية: تكذيبهم بالنذر.
الثالثة: ذكر العبرة لهذه الأمة فيهم.
[الزيادة التي في سورة المزمل في قصة سيدنا موسى]
وفي سورة المزمل [الآيات: 16- 18] المسألة الكبيرة لهذه الأمة.
[الزيادة التي في سورة النازعات في قصة سيدنا موسى]
وفي النازعات قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [سورة النازعات آية: 18] إلى آخره.
الثانية قوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى} [سورة النازعات آية: 22] .
الثالثة: الكلمة العظيمة.
الرابعة: الجمع(13/361)
بين نكال الآخرة والأولى.
الخامسة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [سورة النازعات آية: 26] .
[ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المسائل في سورة القصص]
وقال أيضا الشيخ محمد، رحمه الله تعالى: في سورة القصص: قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [سورة القصص آية: 58] : فيه: التنبيه على الاعتبار بإهلاك الله وعذابه لمن خالف أمره، مع قوتهم وكثرتهم. وفيه: عدم الاغترار بعطاء الدنيا. وفيه: كبر شؤم المعصية في المساكن.
الثانية: قوله تعالى: {َمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [سورة القصص آية: 59] : فيه: معرفة الله بالعدل والإعذار والإنذار، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] وفيه: الخوف من الظلم، وليس على الإنسان معرة أكبر منه.
الثالثة: قوله: {وما أوتيتم من شئ فمتاع الدنيا وزينتها} [سورة القصص آية: 60] وفيه: التزهيد في الدنيا ولو عظمت عند الناس، كما زهد تعالى فيها في غير موضع من كتابه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: " مثل الدنيا في الآخرة، كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع به " 1.
الرابعة: قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة القصص آية: 60] : فيه: الترغيب في الآخرة، كما قال: {مَا عِنْدَكُمْ
__________
1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2858) ، والترمذي: الزهد (2323) ، وابن ماجه: الزهد (4108) ، وأحمد (4/229، 4/230) .(13/362)
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [سورة النحل آية: 96] .
وكما قال: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 17] فرد سبحانه على من اختار الدنيا على الآخرة بالعقل، كيف يختارون القليل الأدنى الفاني، على النعيم الأعلى الدائم، لو كانوا يعقلون؟ ولكن كما قال تعالى عن أهل النار: {َقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك آية: 10] .
الخامسة: قوله: {فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [سورة القصص آية: 61] : فيه: أن من أعطي الإيمان ولو بما يكره، وليس بينه وبين الوعد إلا قليلا، وذكر قصة "مصعب"والشواهد لهذه كثيرة، مثل: لو أن رجلا يعطى في يوم ما يحب، وبعده يقتل; ورجل يحبس يوما، وبعده يعطى من النعم ما يحب، هل يستوي هذا وهذا؟ والله أعلم. وفقنا الله وإخواننا للاعتبار والإيمان.
[المراد بأهل البيت في قوله تعالى "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ"]
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] ، من هم أهل البيت؟ .
فأجاب: إن أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة، كما تقدم عن زيد بن أرقم؛ وأولهم دخولا في هذه الآية أهل الكساء، وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين، كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدخل فاطمة(13/363)
وعليا والحسن والحسين في مرط مرحل عليه من شعر أسود، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] 1"، وفي حديث أم سلمة: أنه عليه السلام، جللهم بكسائه، وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " 2 أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح.
والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وتخصيص الشيعة بذلك، وكون إجماعهم حجة، ضعيف، بل باطل، لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها; والحديث يقتضي الدعاء لهم، بأن يذهب الله عنهم الرجس، ويطهرهم تطهيرا.
وغاية ذلك أن يكون دعاء لهم أن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس ; واجتناب الرجس والطهارة، مأمور بها كل المؤمنين، ويريدها سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [سورة المائدة آية: 6] ، وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [سورة التوبة آية: 103] : غاية هذا أن يكون دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور.
وأيضا: فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، لا بد أن يكونوا فعلوا
__________
1 مسلم: فضائل الصحابة (2424) ، والترمذي: الأدب (2813) ، وأبو داود: اللباس (4032) ، وأحمد (6/162) .
2 الترمذي: المناقب (3871) ، وأحمد (6/298) .(13/364)
المأمور، وتركوا المحظور؛ فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما ينال بذلك.
وحينئذ: فيكون ذهاب الرجس عنهم، وتطهيرهم من الذنوب، بعض صفاتهم، فما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأولين; دعا لغير أهل الكساء أن يصلي الله عليهم، ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة، وغير ذلك مما هو أعظم من الدعاء بذلك. ولا يلزم أن يكون من دعا له بذلك أن يكون أفضل من السابقين الأولين; ولكن أهل الكساء، لما أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير، دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به، لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب، ولينالوا المدح والثواب.
والآية ليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت، وذهاب الرجس عنهم، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم، وذهاب الرجس عنهم. فإن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [سورة الأحزاب آية: 33] كقوله: {َما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [سورة المائدة آية: 6] ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة النساء آية: 26] .
والإرادة هنا متضمنة الأمر والمحبة والرضى، ليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ; فإنه لو كان كذلك لكان(13/365)
قد طهر من أراد الله طهارته، وهذا على قول القدرية الشيعة أوجه. فإنه عندهم: أن الله يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد; فقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب آية: 33] الآية، إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور، كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم؛ فإن فعلوا ما أمروا به طهروا، وإلا فلا; وهم يقولون: الله لا يخلق أفعالهم، ولا يقدر على تطهيرهم وذهاب الرجس.
وأما أهل السنة والجماعة، المثبتون للقدر، فيقولون: الله قادر على ذلك، فإذا ألهمهم فعل ما أمر وترك ما حظر، حصلت الطهارة وذهاب الرجس. ومما ينبئ: أن هذا مما أمروا به، لا مما أخبر بوقوعه، ما ثبت في الصحيح: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الكساء على علي وفاطمة، وحسن وحسين، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا ".
وهو يدل على فساد قول الشيعة من وجهين; أحدهما: أنه دعا لهم بذلك، وهو دليل على أنه لم يخبر بوقوع ذلك، فإنه لو كان قد وقع لكان يثني على الله بوقوعه، ويشكره على ذلك، لا يقتصر على مجرد الدعاء به; الثاني: أن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم، وذلك يدل أنه خالق أفعال العباد.
وأيضا: مما يدل أن الآية متضمنة الأمر والنهي(13/366)
قوله في سياق الكلام: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [سورة الأحزاب آية: 30] إلى قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [سورة الأحزاب آية: 32] إلى قوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] .
وهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهي، ويدل على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته؛ فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن; ويدل على أن قوله: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب آية: 33] عمت غير الزوجة، لعلي وفاطمة وحسن وحسين؛ لأنه ذكره بصيغة التذكير، لما اجتمع المذكر والمؤنث; وهؤلاء خصوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه، فلهذا خصهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء، كما كان مسجد قباء أسس على التقوى، ومسجده أيضا أسس على التقوى، وهو أكمل في ذلك؛ لأن قوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [سورة التوبة آية: 108] بسبب مسجد قباء، فيتناول اللفظ لمسجد قباء، ولمسجده بطريق الأولى؛ فتبين بما ذكرنا أنه ليس في الآية والحديث متعلق لأعداء الله، الرافضة، والزيدية؛ فليعلم ذلك، وبالله التوفيق.(13/367)
[ما يستفاد من قوله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ]
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ، عن قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [سورة الأحزاب آية: 40] هل هذه الآية قطعت كون رسول الله صلى الله عليه وسلم والدا للحسن والحسين، مع ما ورد من الأحاديث الدالة على تسميتهما ابنين له؟
فأجاب: سبب نزول الآية يزيل هذا الإشكال; وذلك أنه ذكر المفسرون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب، قال الناس: تزوج امرأة ابنه، وأنزل الله هذه الآية - يعني: زيد بن حارثة - يعني: لم يكن أبا لرجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده، من حرمة الصهر والنكاح. فإن قيل: قد كان له أبناء: القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم، وقال للحسن: "إن ابني هذا سيد " 1؟
فالجواب: أنهم قد خرجوا من حكم النفي، بقوله: {من رجالكم} وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال; وأجاب بعضهم: بأنه ليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه، بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين، بأنهما كانا طفلين، وإضافة {رجالكم} إلى المخاطبين، يخرج من كان من بنية، لأنهم رجاله لا رجال المخاطبين.
__________
1 البخاري: الصلح (2704) ، والترمذي: المناقب (3773) ، والنسائي: الجمعة (1410) ، وأبو داود: السنة (4662) ، وأحمد (5/37، 5/44، 5/49، 5/51) .(13/368)
[ومن سورة الزمر]
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هذه مسائل مستنبطة من سورة الزمر.
الآية الأولى: فيها: منّه بالكتاب.
الثانية: إنزاله من السماء.
الثالثة: منه سبحانه.
الرابعة: ذكر عزته في هذا الموضع.
الخامسة: ذكر حكمته فيه.
الثانية: فيها الأولى والثانية.
الثالثة: إنزاله بالحق، فيفيد الرد على أكثر الناس في مسائل كثيرة.
الرابعة: تخصيصه الرسول بإنزاله، فالنعمة عليه أكبر، وعليه من الشكر أكثر؛ وكذلك من خص بما يشابه ذلك.
الخامسة: نتيجة إنزاله بالحق، ونتيجة الإنعام، وهو عبادة الله بالإخلاص; وهذه الخامسة هي الدين كله; وجعلها بين الرابعة والسادسة; وهي: أن الدين الخالص لله، وغير الخالص ليس له: وهما قاعدتان عظيمتان.
الثالثة: فيها إبطال اتخاذ الأولياء من دونه.
الثانية: إبطال ما غرهم به الشيطان، أن قصدهم وجه الله لا غير; وما أجلها من مسألة!
الثالثة: الوعيد الشديد على ذلك.
الرابعة: ذكره تكفير من فعل ذلك.
الخامسة: تكذيبه.
السادسة: ذكره أنه لا يهدي هذا، وهي من مسائل الصفات.
الرابعة: فيها نفي اتخاذ الولد على سبيل الاصطفاء.
الثانية: ذكر خطئهم في القياس، لأنه لو يفعله لم يكن مما(13/369)
قالوا، الثالثة: أنه مسبة لله، بقوله: {سُبْحَانَهُ} .
الرابعة: ذكره الوحدانية في هذا.
الخامسة: ذكره القهر فيه.
السادسة: الاستدلال بالأسماء والصفات على النفي والإثبات، وهي مسألة كبيرة عظيمة.
الخامسة: ذكر البراهين على ما تقدم من الدين الحق وضده:
الأولى: خلق السماوات والآرض.
الثانية: أنه بالحق.
الثالثة: تكوير المكورين.
الرابعة: تسخير النيرين.
الخامسة: ذكر عزته في هذا.
السادسة: ذكر مغفرته.
السادسة: في البراهين أيضا:
الأولى: خلقنا من نفس واحدة مع هذه الكثرة.
الثانية: خلقه منها زوجها.
الثالثة: إنزاله لنا من الأنعام هذه النعم العظيمة.
الرابعة: خلقنا في البطون.
الخامسة: أنه خلق من بعد خلق.
السادسة: أنه في الظلمات الثلاث.
السابعة: كلمة الإخلاص.
الثامنة: التعجب من الغلط في هذا، مع كثرة هذه البراهين ووضوحها.
السابعة: فيها سبع جمل كل واحدة مستقلة.
الثامنة: فيها ذكر حال الإنسان مع ربه.
الثانية: هذه المسألة العجيبة من حاله.
الثالثة: برهان التوحيد.
الرابعة: حلمه سبحانه.
الخامسة: أن الكافر مقر بتوحيد الربوبية.
السادسة: أنه يخلص لله وينيب في الضر.
السابعة: أن الإجابة في هذا لا تدل على المحبة.
الثامنة: تدل على أن الحق عليه أكبر.
التاسعة: أن الذنب(13/370)
بعده أكبر.
العاشرة: معرفة قدر الدنيا.
الحادية عشر: شدة الوعيد على هذا.
الثانية عشر: أن الحجة عليه أكبر.
الثالثة عشر: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها.
الرابعة عشر: ما كفاه النسيان حتى جعل الشكر جعل الأنداد.
الخامسة عشر: أمر المؤمن يعظ الفاعل.
التاسعة: الأولى: الفرق الظاهر بين النائم واليقظان.
الثانية: الفرق بين العالم والجاهل، والسؤال عن المسألتين سؤال تقرير.
الثالثة: أن مع شدة الوضوح، لا يفطن له إلا من له لب.
الرابعة: أن القنوت هو الطاعة، ليس مخصوصا بالدعاء قائما.
الخامسة: أن آناء الليل ساعاته.
السادسة: أحب العمل إلى الله أدومه.
السابعة: الرد على من قال: ما عبدتك خوفا وطمعا.
الثامنة: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله.
التاسعة: أشرف أحوال الصلاة.
العاشرة: النظر في العواقب.
الحادية عشر: الرجاء، لقوله: {رحمة ربه} [سورة الزمر آية:9] .
الثانية عشر: أمر المؤمن أن يقول هذه الخصومة الواضحة.
الثالثة عشر: مدح التذكر كالتفكر.
الرابعة عشر: ليس هو التذكر في لغتنا.
الخامسة عشر: أنه مقام الخاصة.
العاشرة: الأولى: وعد المحسنين بتعجيل ثواب الدنيا.
الثانية: بيان سهولة ما يظن صعوبته.
الثالثة: ما في(13/371)
إضافة الأرض إلى الله من الفوائد،.
الرابعة: في ذكر سعتها.
الخامسة: لا عذر للعاصي في التعلل بالوطن.
السادسة: هذا الثواب الجزيل للصبر.
السابعة: أن هذا من التقوى.
الثامنة: أن إضافة العباد إليه، الإضافة الخاصة لا العامة.
التاسعة: أن هذا من مقتضيات تلك العبودية،.
العاشرة: أنه من مقتضى الإيمان.
الحادية عشر: الأمر بوعظهم بهذا.
الحادية عشر: الأولى: قوله للخصم واللائم، أين أمرت بهذا؟
الثانية: قوله لهما: أمرت بهذا.
الثالثة: قوله لهما: إني أخاف هذا.
الرابعة قوله لهما: " الله اعبد " هكذا {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 15] .
الخامسة قوله لهما: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} إلخ.
الثانية عشر: الأولى: تبشير الذين جمعوا بين الترك والفعل.
الثانية: التنبيه على أن من شروطه أن يكون إلى الله وحده.
الثالثة: الأمر بتبشير هؤلاء، ففيه قوله: " بشروا ولا تنفروا " 1.
الرابعة: الاستماع ثم الاتباع.
الخامسة: صفة الاتباع، ففيه قوله: "يسروا ولا تعسروا " 2.
السادسة: أن فيه حسن وأحسن، خلافا لمن منعه.
السابعة: الرد على طريقة الذين في قلوبهم زيغ.
الثامنة: التحذير من فتنة جدال منافق بالقرآن.
التاسعة: التحذير من طريقة المعرضين.
العاشرة: تخصيص
__________
1 مسلم: الجهاد والسير (1732) ، وأبو داود: الأدب (4835) ، وأحمد (4/399) .
2 مسلم: الجهاد والسير (1732) ، وأبو داود: الأدب (4835) ، وأحمد (4/399) .(13/372)
هؤلاء بالهداية.
الحادية عشر: التحذير من العجب، لإضافة الهداية إليه.
الثانية عشر: أتباع النقل هم أهل العقل، لا غيرهم.
الثالثة عشر: الأولى: فيها الإيمان بالقدر.
الثانية: صفة الكلام.
الثالثة: تعريف الفرق بين الطائفتين بالعقل.
الرابعة: تقرير التوحيد بقوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة الزمر آية: 19] .
الخامسة: تعزية المؤمن.
السادسة: الوعد الذي لا نظير له في القرآن.
السابعة: إضافة الوعد إلى الله.
الثامنة: وصف نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.
الرابعة عشر: الدلالة الواضحة على التوحيد،.
الثانية: الدلالة على سعة الجود.
الثالثة: إحاطة العلم.
الرابعة: القدرة التامة.
الخامسة: استفهام التقرير.
السادسة: مع هذا الوضوح البين، فمحجوب إلا عن أولي الألباب.
الخامسة عشر: استفهام التقرير.
الثانية: أنه سبحانه هو الذي يشرحه للإسلام.
الثالثة: التنبيه على الأدلة العقلية، بالفرق بين العالم والجاهل، والحب والبغض.
الرابعة: أن ذلك بالنور المضاف إلى ربه.
الخامسة: ذكر الضد، وهم القاسية قلوبهم عن ذكر الله.
السادسة: أنهم أصحاب الجهل الواضح.
السادسة عشر: أنه أحسن الحديث، فمن طلب الحديث دل عليه.
الثانية: أن هذا الحديث كتاب.
الثالثة: أن ذلك الكتاب متشابه.
الرابعة: أنه مثاني.
الخامسة: تأثيره هذا(13/373)
الأثر في قلوب هؤلاء وجلودهم.
السادسة: الجمع بين الخوف والرجاء.
السابعة: حصر الهدى فيه.
الثامنة: أن ذلك الهدى مضاف إلى الله.
التاسعة: أن الله سبحانه هو الذي ينفع بمشيئته وإحسانه، لا بقوة الفهم.
العاشرة: إثبات القدر.
الحادية عشر: فيه إشارة إلى قوله: "ألقى عليهم من نوره; فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" 1، ولو كان أفهم الناس وأحرصهم.
السابعة عشر، والآيتان بعدها: اتقاء سوء العذاب بالوجه.
الثانية: استفهام التقرير مع الحذف.
الثالثة: أن عقوبة الشيء تسمى باسمه.
الرابعة: الإخبار بعذابهم من حيث لا يشعرون، بضد من يرزقه من حيث لا يحتسب.
الخامسة: التصريح بالعقوبة في الدارين.
السادسة: أن العقوبة الأولى ليست من جنس عقوبة المسلم التي لا تعاد عليه.
السابعة: نفي العلم عنهم.
العشرون، والتي بعدها:
الأولى: ما ذكر الله أنه ضرب فيه من كل مثل.
الثانية: أن ذلك للناس كلهم، لا يستثنى أحد.
الثالثة: أن الحكمة تذكرهم.
الرابعة: أنه قرآن.
الخامسة: أنه عربي.
السادسة: نفي العوج عنه.
السابعة: أن الحكمة حصول التقوى منهم.
الثانية والعشرون، والتي بعدها: فيها: ضرب المثل الجلي في بيان التوحيد.
الثانية: بيان الشرك.
الثالثة: حمده
__________
1 الترمذي: الإيمان (2642) ، وأحمد (2/176، 2/197) .(13/374)
نفسه على هذا البيان.
الرابعة: أن الأكثر جهال، مع وضوح هذا الدليل.
الرابعة والعشرون، والتي بعدها:
الأولى: تسلية المحق.
الثانية: وعظ المبطل.
الثالثة: الاختصام فيما وقع من الاختلاف.
الرابعة: أن ذلك عنده تبارك وتعالى.
السادسة والعشرون: الأولى: أن الظلم يتفاوت.
الثانية: أن أعظمه الكذب على الله; والتكذيب بالصدق.
الثالثة: معرفة الفرق بين النوعين، وأنهما يجتمعان ويفترقان.
الرابعة: أن ذلك كفر.
السابعة والعشرون: الأولى: تفسير التقوى، وهذا أحسن ما فسرت به.
الثانية: الإتيان بالصدق إن كان مخبرا.
الثالثة: التصديق به إن كان سامعا.
الثامنة والعشرون: بيان أن التقوى هي الإحسان.
الثانية: أن الربوبية عامة وخاصة.
الثالثة: الرد على الجبرية.
الرابعة: الرد على منكري الأسباب.
التاسعة والعشرون: الأولى: بيان مذهب أهل السنة.
الثانية: الرد على الرافضة.
الثالثة: الرد على من جعلها خاصة.
الرابعة: الرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.
الثلاثون: استفهام التقرير.
الثانية: العبودية الخاصة هي التي معها الكفاية.
الثالثة: التخويف لمن دونه من صفات هؤلاء.
الرابعة: التفرد بالهداية والإضلال.(13/375)
الخامسة: ذكر العزة في هذا المقام.
السادسة: الوصف بالانتقام فيه.
الحادية والثلاثون: الأولى: بيان أن عندهم من العلم ما تقوم به الحجة.
الثانية: أن المجمع عليه يدل على المختلف فيه.
الثالثة: مجادلة المبطل بالحق الذي يسلمه.
الرابعة: أنه تسليم لا يجحدونه، بل يقرون به للخصم.
الخامسة: التعجب من الإنكار، مع هذا الإقرار.
السادسة: الإلزام الذي لا محيد عنه.
السابعة: أنه كاشف لشبههم.
الثامنة: قوله لهم: {حَسْبِيَ اللَّهُ} .
التاسعة: الإخبار بأنه حقيقة أن يتوكل عليه كل عاقل.
العاشرة: كون التوكل لا يستقيم إلا خالصا.
الثانية والثلاثون: الأولى: كونه مأمورا بقوله: {اعْمَلُوا} .
الثانية: مخاطبتهم يا قوم.
الثالثة: إخبارهم بأنه عامل بما كرهوا.
الرابعة: آية النبوة، وهي إخبارهم حينئذ بهذا ثم وقع.
الخامسة: ما فيه من الموعظة.
السادسة: الفرق بين العذاب المخزي، والعذاب المقيم.
الثالثة والثلاثون: الأولى: ذكر إنزال الكتاب عليه.
الثانية: أن ذلك للناس.
الثالثة: أن ذلك بالحق.
الرابعة: أن من اهتدى فلنفسه.
الخامسة: أن ضلاله عليها.
السادسة: تعزيته أن الهدى ليس عليه.
الرابعة والثلاثون: الأولى: ما ذكر من الآيات في التوفي.
الثانية: أن النوم وفاة.
الثالثة: ما في الإمساك(13/376)
والإرسال.
الرابعة: أن فيه آيات متعددة.
الخامسة: أن تلك الآيات للمتفكرين.
الخامسة والثلاثون: استفهام الإنكار.
الثانية: الاتخاذ.
الثالثة: من دونه.
الرابعة: شفعاء.
الخامسة: الأمر له بتبليغهم هذا الجواب.
السادسة: أن ذلك تفعلون هذا، مع كونهم هكذا.
السادسة والثلاثون: أن الشفاعة كلها له، ومعرفة هذه بمعرفة صفة الشفاعتين.
الثانية: الأمر بتبليغهم هذه الحجة.
الثالثة; الاحتجاج على ذلك بملك السماوات والأرض.
الرابعة: الرجوع إليه.
السابعة والثلاثون: هذه العجيبة; وهي: الاشمئزاز من هذا، والاستبشار بذلك.
الثانية: أن الشرك وعدم الإيمان بالآخرة متلازمان.
الثالثة: أن الثاني أصل الأول.
الثامنة والثلاثون: الأمر بهذا الدعاء.
الثانية: ما فيه من التسلية للمحق.
الثالثة: الموعظة للمبطل.
الرابعة: أن كمال الملك، وكمال العلم، يقتضي ذلك.
التاسعة والثلاثون، والتي بعدها: ذكر هذا الخبر المزعج.
الثانية: الإخبار بما بدا لهم، وهذه التي أبكت ابن المنكدر 1 عند الموت.
الثالثة: أنهم لا يعرفون قبح أعمالهم الآن، بل لعلهم يستحسنونها.
الرابعة: الإخبار بأن ما
__________
1 هو محمد بن المنكدر التيمي، رحمه الله.(13/377)
احتقروه، واستهزؤوا به، صار هكذا.
الخامسة: تسمية العذاب باسم سببه.
السادسة: أن هذه أربع جمل، كل جملة مستقلة.
الحادية والأربعون: وصف الإنسان بهذه العجيبة.
الثانية: أن هذا من أبطل الباطل.
الثالثة: أن الحق أن ذلك فتنة.
الرابعة: التسجيل على السواد الأعظم بالجهل.
الخامسة: أن الدعاء في الضرورة لا مدح فيه.
السادسة: أن الإجابة فيه لا تدل على الإكرام.
السابعة: أن عطاء نعمة الدنيا كذلك.
الثانية والأربعون، وآيتان بعدها: كون القلوب إذا تشابهت، فالأعمال كذلك.
الثانية: الاعتبار بمن تقدم.
الثالثة: أن كسب غير الطاعات لا يغني من الله شيئا.
الرابعة: أن ذلك الكسب قد يكون عند الناس من أعظم الفخار.
الخامسة: التصريح بالقياس الجلي أن هؤلاء كمن قبلهم.
السادسة: التذكير بضعفك، وقوة الطالب.
السابعة: الاستدلال بالعموم.
الثامنة: ذكر جهل من لم يفهم هذا الاستدلال.
التاسعة: تذكير الخصم بالقاعدة المسلمة، إذا لم ... 1.
العاشرة: ذكر تناقض الخصم.
الحادية عشر: في قبضه وبسطه آيات متعددة.
الثانية عشر: أن تلك الآيات لأهل العلم.
__________
1 بياض بالأصول، ولعله [يذكرها] .(13/378)
الخامسة والأربعون: قيل إنها أرجى ما في القرآن.
الثانية: فيها الرد على من استثنى بعض الكبائر.
الثالثة: تعليل ذلك بالأسماء والصفات.
الرابعة: النهي عن القنوط.
الخامسة: أن إسراف العبد وباله على نفسه.
السادسة: الفرق بين المغفرة والرحمة.
السادسة والأربعون، وخمس آيات بعدها: الأمر بالإنابة.
الثانية: الأمر بالإسلام.
الثالثة: الفرق بينهما.
الرابعة: كون الأولى بإلى، والثانية باللام.
الخامسة: تفسير الآيات قبلها.
السادسة: التنبيه على انتهاز الفرصة.
السابعة: الوعيد الشديد.
الثامنة: الأمر باتباع المنزل خاصة.
التاسعة: الأمر باتباع الأحسن.
العاشرة: فيه الرد على من أنكر تفاضل كلام الله.
الحادية عشر: إغراء العبد بأن ذلك المنزل منزل إليه.
الثانية عشر: كونه من ربه.
الثالثة عشر: فيه الإنذار عن البغتة.
الرابعة عشر: فيه بيان أنهم لا يشعرون بذلك.
الخامسة عشر: ذكر تحسر النفس على ما كرهت الآن.
السادسة عشر: معرفتها أنه تفريط في جنب الله.
السابعة عشر: معرفتها بأنها سخرت مما لا يسخر منه.
الثامنة عشر: عرفت أنها من هذه الطائفة.
التاسعة عشر: تحسرها أن تكون من هذه الطائفة التي كرهتها، وسخرت منها.
العشرون: ذكر تمني الكرة.
الحادية والعشرون: رؤية العذاب حينئذ.
الثانية(13/379)
والعشرون: تمني الكرة لكونها من أولئك.
الثالثة والعشرون: أن الإحسان هو التقوى.
الرابعة والعشرون: التكذيب بالآيات.
الخامسة العشرون: الاستكبار.
والسادسة والعشرون: الكفران، وكونه من هذه الطائفة.
السابعة والعشرون: أن المعاصي بريد الكفر، والتكذيب، والاستكبار.
الثانية والخمسون: كبر الكذب على الله.
الثانية: أن أصل ذلك الكبر.
الثالثة: الوعيد بهذا الاستفهام.
الثالثة والخمسون، وآيتان بعدها: سبب النجاة.
الثانية: الفرق بين الحزن ومس السوء.
الثالثة: الاستدلال بالقاعدة الكلية، وهي: خلق كل شيء على المسائل الجزئية.
الرابعة: كذلك استدل بوكالته على كل شيء.
الخامسة: كذلك بأن مقاليدهما له.
السادسة: انحصار الخسارة في هؤلاء.
السادسة والخمسون: وأربع بعدها، فيها أنواع من بطلان الشرك، وتقبيحه.
الأول: استفهام الإنكار.
الثاني: كيف يؤمر بهذا لغير الله.
الثالث: التسجيل عليهم بالجهل.
الرابع: ما جاء من السمعيات، أنه أوحى إليك بهذا الأمر العظيم.
الخامس: أنه أوحاه إلى من قبلك.
السادس: أن أقرب الخلائق منْزلة، لو يفعله لم يسامح.
السابع: أن(13/380)
الحسنات وإن كثرت إذا وجد لم يبق منها شيء.
الثامن: كون ذلك المقرب لو يفعله، لم يكف بطلان عمله، بل صار من أولئك.
التاسع: الأمر بإخلاص هذا النوع لمن لا يستحقه إلا هو.
العاشر: أن كون العبد من الشاكرين، مستحسن عقلا وشرعا، ولا يصل إليه إلا بذلك.
الحادي عشر: كون ذلك جرى لكونهم لم يعرفوا الله.
الثاني عشر: تعريف عباده بعظمته بما ذكر في الأرضين السبع.
الثالث عشر: تعريفهم ذلك بما ذكر في السماوات.
الرابع عشر: تسبيحه نفسه عما تقربوا به إليه.
الخامس عشر: تعاليه عن ذلك.
السادس عشر: نسبته إليهم.
الستون، وما بعدها إلى آخرها:
فيها: النفخة الأولى.
الثانية: صعق أهل السماوات والأرض.
الثالثة: المستثنون.
الرابعة: النفخة الثانية.
الخامسة: إذا الفجائية.
السادسة: إتيان الرب سبحانه.
السابعة: إشراق الأرض بنوره.
الثامنة: إضافتها إليها.
التاسعة: وضع الكتاب.
العاشرة: الإتيان بالنبيين.
الحادية عشر: الإتيان بالشهداء.
الثانية عشر: قضي بينهم بالحق.
الثالثة عشر: توفية كل نفس عملها.
الرابعة عشر: بيان أنه لا يقع في الخصومات شيء مما يقع في الدنيا، لكونه أعلم.
الخامسة عشر: سياقة الكفار.
السادسة عشر: كونهم زمرا.
السابعة عشر: فتح أبوابها وقت مجيئهم.
الثامنة(13/381)
عشر: تقريع الخزنة لهم.
التاسعة عشر: كون كل رسول يتلو الآيات.
العشرون: كونه ينذر بذلك اليوم.
الحادية والعشرون: كون الرسالة عمت.
الثانية والعشرون: اعترافهم بقرب الفهم; وأن الذي منعهم: كون كلمة العذاب حقت على من كفر.
الثالثة والعشرون: قول الخزنة: ادخلوها خالدين.
الرابعة والعشرون: بيان أن التكبر سبب الكفر.
الخامسة والعشرون: سوق أهل الجنة.
السادسة والعشرون: كونهم زمرا.
السابعة والعشرون: حذف الجواب.
الثامنة والعشرون: فتح الأبواب.
التاسعة والعشرون: تسليم الملائكة.
الثلاثون: قولهم {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} .
الحادية والثلاثون: الخلود.
الثانية والثلاثون: قولهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلخ، حمدوا على صدق الوعد.
الثالثة والثلاثون: حمدوه على أنه أورثهم الأرض.
الرابعة والثلاثون: التبوؤ منها حيث شاؤوا.
الخامسة والثلاثون: إثبات دخولها بالعمل.
السادسة والثلاثون: أنها أجر العاملين.
السابعة والثلاثون: رؤية الملائكة حافين من حول العرش.
الثامنة والثلاثون: القضاء بالحق.
التاسعة والثلاثون: قول الخلائق كلهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الزمر آية: 75] .
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وقال مالك بن دينار، عند قوله تعالى: " {فَوَيْلٌ(13/382)
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [سورة الزمر آية: 22] الآية، ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع عنهم الرحمة".
وقال أيضا، الشيخ: محمد، في قوله في القرآن: {مَثَانِيَ} [سورة الزمر آية: 23] أي: يثني فيه ذكر الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والأخبار والأحكام; وفي الحديث عن ابن مسعود، قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} قلنا: يا رسول الله، كيف الانشراح؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول الله: ما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزوله".
[ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب في معنى قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ]
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-65] إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] : فيه مسائل:
الأولى: الجواب عن قول المشركين: هذا في الأصنام، وأما الصالحون فلا; قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ} عام فيما سوى الله.
الثانية: أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر،(13/383)
كفر، ولو كان باطنه يعتقد الإيمان؛ فإنهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته; ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام، في إظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قبله كارها له.
الثالثة: أن الجهل وسخافة العقل هو موافقتهم في الظاهر; وأن العقل والفهم والذكاء هو التصريح بمخالفتهم، ولو ذهب مالك، خلافا لما عليه أهل الجهل من اعتقاد أن بذل دينك لأجل مالك هو العقل، وذلك في آخر الآية {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [سورة الزمر آية: 64] .
أما الآية الثانية، ففيها مسائل أيضا:
الأولى: شدة الحاجة إلى تعلم التوحيد، فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى ذلك ويحرصون عليه، فكيف بغيرهم؟ ففيها رد على الجهال الذين يعتقدون أنهم عرفوه فلا يحتاجون إلى تعلمه.
الثانية: المسألة الكبرى، وهي: كشف شبهة علماء المشركين الذين يقولون: هذا شرك ولكن لا يكفر من فعله لكونه يؤدي الأركان الخمسة; فإذا كان الأنبياء لو يفعلونه كفروا، فكيف بغيرهم؟
الثالثة: أن الذي يكفر به المسلم، ليس هو عقيدة القلب خاصة، فإن هذا الذي ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله عليه وسلم تغيير العقيدة كما تقدم، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل ماله، أو بلده، أو أهله، مع كونه يعرف(13/384)
كفرهم، ويبغضهم، فهذا كافر، إلا من أكره.
وأما الآية الثالثة، ففي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على المنبر، وقال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماوات بيمينه "، 1 ثم ذكر تمجيد الرب تبارك وتعالى نفسه، وأنه يقول: "أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. قال ابن عمر: فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلنا ليخرن به" 2.
وفيها: ثلاث مسائل:
الأولى: التنبيه على سبب الشرك، وهو: أن المشرك ظهر له شيء من جلالة الأنبياء والصالحين، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى; وإلا لو عرفه، لكفاه وشفاه عن المخلوق، وهذا معنى قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [سورة الزمر آية: 67] الآية.
المسألة الثانية: ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعل هذا؛ وهذا قدر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل، كما قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن، إلا كخردلة في كف أحدكم" فمن هذا بعض عظمته وجلاله، كيف يجعل في رتبة مخلوق لا يملك لنفسة نفعا ولا ضرا؟ هذا هو أظلم الظلم، وأقبح الجهل، كما قال العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] .
الثالثة: أن آخر الآية وهو قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
1 البخاري: التوحيد (7413) ، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) ، وأحمد (2/374) ، والدارمي: الرقاق (2799) .
2 ابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) ، وأحمد (2/87) .(13/385)
عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67]
ينبهك على الحكمة في كونه سبحانه يغفر الكبائر ولا يغفر الشرك، وتزرع بغض الشرك وأهله، ومعاداتهم في قلبك.
وذلك أن أكبر مسبة بعض الصحابة - مثل أبي بكر وعمر - لو يجعل في منْزلته بعض ملوك زماننا، مثل سليمان أو غيره، مع كون الكل منهم آدمي، والكل ينتسب إلى دين محمد، والكل يأتي بالشهادتين، والكل يصوم رمضان ويصلي. فإذا كان من أقبح المسبة لأبي بكر أن يسوى بينه وبين بعض الملوك في زماننا، فكيف يجعل للمخلوق من الماء المهين - ولو كان نبيا - بعض حقوق من هذا بعض عظمته وجلاله، من كونه يدعى كما يدعى، ويخاف كما يخاف، ويعتمد عليه كما يعتمد عليه؟ هذا أعظم الظلم، وأقبح المسبة لرب العالمين; وذلك معنى قوله في آخر الآية: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] . ولكن رحم الله تعالى من تنبه لسر الكلام، وهو المعنى الذي نزلت فيه هذه الآيات، من كون المسلم يوافقهم في شيء من دينهم الظاهر، مع كون القلب بخلاف ذلك؛ فإن هذا هو الذي أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم. فافهمه فهما حسنا، لعلك تعرف من دين إبراهيم عليه السلام الذي بادر أباه وقومه بالعداوة عنده، والله أعلم.(13/386)
[ومن سورة: الشورى]
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى، عن قوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [سورة الشورى آية: 23] ، من هم القربى الذي أمر بمودتهم؟ وما تشتمل عليه المودة؟.
فأجاب: الآية فيها أقوال للمفسرين.
أولها: ما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن المراد بذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا له فيه قرابة، وقال: " إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " 1 كما أخرجه البخاري وغيره، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: "إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى "، فقال سعيد بن جبير: "قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " 2، وهو قول عكرمة ومجاهد، وأبي مالك والشعبي، وغيرهم.
فالمعنى: لا أسألكم مالا ولا رئاسة، ولكن أسألكم أن ترعوا حق قرابتي، وتصدقوني فيما جئتكم به، وتمسكوا عن أذيتي وأذية من تبعني.
والقول الثاني، أن المعنى: إلا أن تتوددوا إلى الله بالتقرب إليه; قاله غير واحد من المفسرين عن الحسن رحمه الله، عنه.
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4818) ، والترمذي: تفسير القرآن (3251) ، وأحمد (1/286) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4818) ، والترمذي: تفسير القرآن (3251) ، وأحمد (1/229، 1/286) .(13/387)
والقول الثالث: أن المعنى: إلا أن تتوددوا إلى بعضكم بعضا، وتصلوا قراباتكم، قاله عبد الله بن القاسم.
والقول الرابع: أن المعنى، يعني: أن تحفظوا قرابتي، وتودوني، وتصلوا رحمي، وهي رواية عن ابن عباس، وهو قول علي بن الحسين، استشهد بهذه الآية حين سيق إلى الشام أسيرا؛ وهو قول ابن جبير والسدي، وعمرو بن شعيب. وكل هذه الأقوال تحتمل هذه الآية; وأولاها بالصواب: قول ابن عباس، وعلي بن الحسين، ومن معهما من المفسرين.
وأما القربى الذين أمر بمودتهم، فأحق الناس بذلك: أهل البيت: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، رضي الله عنهم، ويدخل فيهم جميع ولد عبد المطلب، كما قال زيد بن أرقم، حين سأله حصين: من أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: "نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده; قال: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس" كما ذكره مسلم في صحيحه عنه; وأما ما تشتمل عليه مودتهم، فتشتمل على محبتهم وتوليهم، وتوقيرهم واحترامهم، وكف الأذى عنهم.
قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى؛ تأمل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ(13/388)
أَمْرِنَا} [سورة الشورى آية: 52] ،
كيف تجد فيها من إثبات النبوات وبراهينها، وإثبات المعاد، وإثبات الربوبية والإلهية، والرد على القدرية النفاة، والرد على القدرية المجبرة، والرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، واختصاص صراطه بالاستقامة دون ما سواه، وإضافته إليه.
وفيها: بيان أهل الهداية والنور وإضافتهم إليه. وفيها: الإيمان باليوم الآخر. وفيها: حكمة دخول أداة التنبيه في آخر جملة. وفيها: تفسير قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [سورة الضحى آية: 7] . وفيها: الرد على أهل المنطق في موضعين أو ثلاثة، وهدم أصوله.(13/389)
سورة الفتح
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس الأعلى: ذكر بعض الفوائد التي في قصة الحديبية.
منها - وهي أعظمها -: تسمية الله، لا إله إلا الله: كلمة التقوى؛ وجعلها أعداء الله كلمة الفجور.
الثانية: تفسير شيء من شهادة أن محمدا رسول الله، لاستدلال أبي بكر على عمر، لما أشكل عليه مسألة من أشكل المسائل.
الثالثة: عظمة أعمال القلوب عند الله; لأن أهل الشجرة لم يبلغوا ذلك إلا بما علم الله في قلوبهم.
الرابعة: الخطر العظيم في أعمال القلوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:" كادوا أن يهلكوا ".
الخامسه: أنهم مع ذلك مجاهدون في الدين على زعمهم، لم(13/389)
يغضبوا إلا لله، فلم تنفعهم النية الصالحة.
السادسة: حاجتهم إلى المدد الجديد، فلولا أن الله أنزل السكينة عليهم، لم يقو إيمانهم على تلك الفتنة.
السابعة: أن هذا من أعظم ما يعرفك حاجتك إلى الله، في تثبيت القلب على الإيمان كل وقت، بل تعرف حاجة الكمل إلى ذلك.
الثامنة: أن ذلك الجهاد محسوب من الآيات، لقوله: "فعملت لذلك أعمالا".
التاسعة: اجتماع الأضداد في قلوب الكمل بعض الأحيان، لقوله: "وأنا أشهد أنه رسول الله".
العاشرة: أن أعلم الناس قد يفهم من النص ما لا يدل عليه، لقوله: "تحدثنا أننا نأتي البيت".
الحادية عشر: معرفة أنه يتصور أن أعلم الناس وأتقاهم، قد يعصي النص الصريح، لقوله: " قوموا فانحروا " 1 فلم يفعلوا.
الثانية عشر: معرفة قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ} [سورة البقرة آية: 216] .
الثالثة عشر: معرفة قوله: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ} [سورة البقرة آية: 216] .
الرابعة عشر: أن ذلك الذي يحب قد تصير عاقبته بالعكس في نفس القضية.
الخامسة عشر: أن المكروه قد تصير عاقبته كذلك في القضية.
السادسة عشر: أن الله يبتلي بما تعجز عنه عقول أكبر العلماء.
السابعة عشر: معرفة رفع الله من تواضع لأجله.
الثامنة عشر: معرفة إذلال الله من تعزز بمعصيته.
التاسعة عشر:
__________
1 البخاري: الشروط (2734) ، وأبو داود: الجهاد (2765) .(13/390)
معرفة فضيلة التسليم للشارع فيما لم يدرك العقل.
العشرون: اختلاف علم أكابر العلماء في ذلك.
الحادية والعشرون: أنهم لم يصلوا إلى السلامة فضلا عن الفضائل، إلا بعفو الله.
الثانية والعشرون: رأفته صلى الله عليه وسلم ورحمته، حيث لم يغضب.
الثالثة والعشرون: الفرق بين ذلك وبين غضبه في فسخ العمرة.
الرابعة والعشرون: ما أعطوه من قوة الإيمان، لصبر أبي جندل واحتسابه.
الخامسة والعشرون: من غزارة العلم والأدب، لقصة عثمان.
السادسة والعشرون، قول عمر: "أخافهم على نفسي" ليس من الخوف المذموم.
السابعة والعشرون، قوله: "ليس فيها من بني عدي من يمنعني"، ليس من ترك التوكل على الله.
الثامنة والعشرون: قيام المغيرة على رأسه ليس من القيام المكروه.
التاسعة والعشرون: فعله بعروة بالسيف ليس مما يكره.
الثلاثون: قول أبي بكر لعروة ليس من الفحش المذموم.
الحادية والثلاثون، قولهم: خلأت القصوى، ليس من الخطأ المذموم.
الثانية والثلاثون: مراءاتهم الكناني بالتلبية والهدي، ليس من الرياء المذموم.
الثالثة والثلانون: فعلهم من النخامة والوضوء والشعر، ليس من الغلو المذموم.
الرابعة والثلاثون: شكواهم قلة الماء ليس من الشكوى المذمومة.
الخامسة والثلاثون: الإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير(13/391)
رأيه ليس من التقدم المذموم.
السادسة والثلاثون: الانتفاع بالكفار في بعض الأمور ليس مذموما، لقصة الخزاعي.
السابعة والثلاثون: الوثوق بخبر الكافر في بعض أمور المسلمين ليس مذموما.
الثامنة والثلاثون: إخبار الكافر وأمره ببعض مصالحه، في مثل قوله: " نهكتهم الحرب " 1 ليس مذموما.
التاسعة والثلاثون: إشارة عمر لأبي جندل في قتل أبيه ليس مذموما.
الأربعون: الإشارة إلى الفرار، لمثل أبي بصير، لقوله: "ويل أمه" ليس من الخيانة.
الحادية والأربعون: محاربته ومن معه لقريش، مع كونهم في الذمة لا بأس به وليس من الإخفار المذموم.
الثانية والأربعون: حكم الله في عدم رد النساء، وإعطاء الزوج الصداق لا نقص فيه.
الثالثة والأربعون: مراجعته صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل، لقول عمر: أفتح هو؟
الرابعة والأربعون: قبول رأي المرأة بعض الأحيان، لا نقص فيه.
الخامسة والأربعون: قد يكون رأيها هو الصواب.
السادسة والأربعون: شدة الحاجة إلى المشاورة.
السابعة والأربعون: الصلاة في آثار الأنبياء إذا مر، ولم يكثر منه، ليس من الغلو المذموم.
الثامنة والأربعون: كون الصحابة لا يكترثون بحفظها.
التاسعة والأربعون: إظهار الهيئة عند رسل الكفار، ليس من الرياء المذموم.
الخمسون:
__________
1 البخاري: الشروط (2734) .(13/392)
أن إظهار العمل الصالح بعض الأحيان للناس ليس مذموما، لقول عثمان لهم: لا أطوفن.
الحادية الخمسون: ما أعطي الصحابة من الشدة في أمر الله، حين حرصوا على قتالهم على هذه الحالة، وصعب عليهم تركه.
الثانية والخمسون: شدة كراهتهم لما ظنوا أن فيه على الملة غضاضة.
الثالثة والخمسون: مبايعتهم على الموت والحالة هذه.
الرابعة والخمسون: شدة تعظيمهم لنبيهم ولربهم معه.
الخامسة والخمسون: ما أعطوا من دقة الفهم وغزارة العلم، وفهم أبي بكر وعثمان.
السادسة والخمسون: ما فيهم من خشية الله، لقول عمر: فعملت لذلك أعمالا.
السابعة والخمسون: ما أعطوا من الرجاء، لقول عمر لأبي جندل: " إن الله جاعل لك فرجا ".
الثامنة والخمسون: ما أعطوا من المحبة، كما يفهم من غير موضع.
التاسعة والخمسون: ما أعطوا من اليقين والثبات.
الستون: إكرامه إياهم بإلزامهم بالكلمة.
الحادية والستون: الثناء عليهم بكونهم أحق بها.
الثانية والستون: ثناؤه عليهم بكونهم أهلها.
الثالثة والستون: صدور ذلك عن علم وحكم.
الرابعة والستون: ما فيها من علامات النبوة التي يطول تعدادها؛ ومن أراد ذلك فليتأمل سورة الفتح.
الخامسة والستون: بيان صديقية أبي بكر رضي الله(13/393)
عنه. السادسة والستون: قوة عمر رضي الله عنه.
السابعة والستون: فهم علي رضي الله عنه وأدبه.
الثامنة والستون: فضائل أناس منهم، كابن عمر وابن سنان وسلمة والمغيرة 1.
السبعون: فضيلة هذه البيعة لقوله: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " 2.
الحادية والسبعون: كون خيبر لهم خاصة 3.
الثالثة والسبعون: فيها شاهد لمذهب أهل السنة في السكوت عما شجر بينهم.
الرابعة والسبعون: فيها شاهد لمذهبهم أيضا، وفي موالاتهم والترضي عنهم.
الخامسة والسبعون: فيها شاهد أنه يغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم، وأن أعظم ما كرهوا صار عاقبته تكفير السيئات والخلود في الجنات، وأغناهم وأغنى عيلاتهم بعد الفقر، والعز الذي لم يخطر ببال أحد.
السادسة والسبعون: صلة الرحم تعم المسلم والكافر.
السابعة والسبعون: أن الكافر قد يسأل المسلم ما يعظم به حرمات الله.
الثامنة والسبعون: استحباب اليمين عند الحاجة، لإقسامه صلى الله عليه وسلم في هذه في غير موضع.
التاسعة والسبعون: أن الرفق بالرعية والإحسان إليهم لا ينافي تحميلهم ما يكرهون
__________
1 كذا في الأصل في الموضعين، ولعله يريد فيهما الجمع بين مسألتين، كعادته في جمع بعض المسائل.
2 الترمذي: المناقب (3860) .
3 كذا في الأصل في الموضعين، ولعله يريد فيهما الجمع بين مسألتين، كعادته في جمع بعض المسائل.(13/394)
عند الحاجة.
الثمانون: أن موافقة الكفار على شيء من هديهم يجوز عند الحاجة.
الحادية والثمانون: العبرة كون الكفار ولاة البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعون منه.
الثانية والثمانون: العبرة في كون الكفار الذين يحجون ويعتمرون، والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعون عنه.
الثالثة والثمانون: الإجماع على شرف العلم وذم الجهل، لقولهم: اجلس إنما أنت أعرابي.
الرابعة والثمانون: الإجماع على كون أهل القرى خيرا من البادية.
الخامسة والثمانون: هديهم في بدء الكتاب باسمك اللهم، بخلاف أكثر الناس اليوم.
السابعة والثمانون: قولهم لو نعلم أنك رسول الله اتبعناك.
الثامنة والثمانون: امتناعهم من كتب هدى المسلمين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب.
التاسعة والثمانون: كون منهم قوم يتألهون.
التسعون: هرب الرجل لما رأى الهدى إعظاما للمعصية.
الحادية والتسعون: إنكاره عليهم، وقوله: ما على هذا وافقناكم أن يصد عن البيت.
الثانية والتسعون: أن من دينهم أن لا يصد عن البيت أعدى العدو.
الثالثة والتسعون: أن عداوة الدين فوق كل عداوة.(13/395)
الرابعة والتسعون: ما أعطوا من العقول والنهى، يفهم من كلام عروة لهم وللنبي صلى الله عليه وسلم.
الخامسة والتسعون: استقباحهم القطيعة، لقوله: هل سمعت أن أحدا من العرب اجتاح أهله ... إلخ؟ ! وفعل بني أمية مع عثمان.
السادسة والتسعون: ترك المسلم قتل قريبه الكافر لا ينكر، لفعل أبي جندل.
السابعة والتسعون: أن قتل المسلم أباه الكافر لا نقص لفعل عمر 1.
الثامنة والتسعون: فهمه صلى الله عليه وسلم من بروكها ما لم يفهموا.
التاسعة والتسعون: الاستسلام للأمر، والوثوق بالله.
المائة: كونه أحسنهم ظنا في عثمان.
الحادية بعد المائة: حلمه صلى الله عليه وسلم لما جرى بينهم ما جرى.
الثانية بعد المائة: استعمال الفأل.
الثالثة بعد المائة: حسن سياسته صلى الله عليه وسلم مع المسلم والكافر، يفهم من جوابه لعمر، ومن قوله: "ابعثوا الهدي في وجهه".
الرابعة بعد المائة: ما أكرمه الله تعالى به، وشرفه به على الأنبياء، من نزول أول سورة الفتح التي فيها {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [سورة الفتح آية: 2] .
الخامسة بعد المائة: هوان الدنيا عنده.
السادسة بعد المائة: تغنيه بالقرآن.
السابعة بعد المائة: حاجته لنُزول السكينة.
الثامنة بعد المائة: إلزام الله له كلمة التقوى.
التاسعة
__________
1 أي مع أبي جندب.(13/396)
بعد المائة: إزالة المشكلات عن الصحابة.
العاشرة بعد المائة: سؤالهم إياه ما أشكل عليهم، من كلام الله وكلامه.
الحادية عشر بعد المائة: صبره على أذى عروة، الذي لم يصبر عليه المغيرة، ولا أبو بكر.
الثانية عشر بعد المائة: قوله: "دعوهم، يكون لهم بدء الغدر وثناؤه".
الثالثة عشر بعد المائة: حلمه عمن أراد اغتياله غدرا.
الرابعة عشر بعد المائة: عمرته في أشهر الحج.
الخامسة عشر بعد المائة: جواز فسخ تسميتها إلى الجهاد.
السادسة عشر بعد المائة: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حتى يدع رأيه لرأيهم.
السابعة عشر بعد المائة: ليس ذلك من التقدم بين يديه.
الثامنة عشر بعد المائة: إهداء البدن في العمرة.
التاسعة عشر بعد المائة: تقليده.
العشرون بعد المائة: إشعاره.
الحادية والعشرون: الاشتراك فيه.
الثانية والعشرون: ما يفعل المحصر.
الثالثة والعشرون بعد المائة: كون الهدي أكل بأمره صلى الله عليه وسلم.
الرابعة والعشرون: إهداؤه جمل أبي جهل مغايظة عليهم.
الخمسة والعشرون: جواز المصالحة عشر سنين للحاجة.
السادسة والعشرون: كون هذا الصلح فتحا مبينا.
السابعة والعشرون: أنه عند السلف وفي القرآن، لا فتح مكة.
الثامنة والعشرون بعد المائة: نفي التسوية بين من أنفق وقاتل قبله وبين غيره.(13/397)
التاسعة والعشرون بعد المائة: كون موضع الشجرة خفي عليهم العام الآتي.
الثلاثون بعد المائة: الصلاة في الحرم للنازل في الحل.
الحادية والثلاثون بعد المائة: سرعة فرج الله للمستضعفين.
الثانية والثلاثون بعد المائة: كون قريش1.
الثالثة والثلاثون بعد المائة: العجب دفع الله عن قريش العذاب بأبغض البغضاء إليهم، وهم المسلمون بمكة الرابعة والثلاثون بعد المائة: كبر أذى المسلم عند الله.
الخامسة والثلاثون بعد المائة: لزوم الدية في قتل الخطأ.
السادسة والثلاثون بعد المائة: دخول أناس الجنة بسبب أبغض الناس إليهم.
السابعة والثلاثون بعد المائة: التنبيه على عدم احتقار الضعفاء.
التاسعة والثلاثون بعد المائة: لعل الله يعطيك الخير ويصرف عنك السوء بسببهم.
الأربعون بعد المائة: بركة الطاعة وإن كرهت.
__________
1 كذا بالأصل، ولعله يريد يمنعونه وهو محرم.(13/398)
سورة الحجرات
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه.
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا(13/398)
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [سورة الحجرات آية: 1-2]
الآية " لما قدم وفد بني تميم، قال أبو بكر: يا رسول الله أمر فلانا وقال عمر: بل فلانا; قال ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردته; فتجادلا حتى ارتفعت أصواتهما " 1.
ففيه مسائل:
الأولي: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمته.
الثانية: إذا كان هذا التغليظ في الشيخين، فكيف بغيرهم؟ .
الثالثة: اختلاف كلام المفسرين والمعنى واحد، لكن كل رجل يصف نوعا من التقدم.
الرابعة: الأمر بالتقوى في هذا الموضع.
الخامسة: الاستدلال بالأسماء الحسنى على المسألة.
السادسة: مسألة الإحباط وتقريره.
السابعة: وجوب طلب العلم، بسبب أن هذا مع كونه سببا للإحباط لا يفطن له، فكيف بما هو أغلظ منه بكثير؟
الثامنة: قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات آية: 2] أي: لا تدرون، فإذا كان هذا فيمن لا يدري، دل على وجوب التعلم والتحرز، وأن الإنسان لا يعذر بالجهل في كثير من الأمور.
التاسعة: ما ترجم عليه البخاري، بقوله: باب خوف المؤمن ... إلخ.
قوله: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} الآية: [سورة الحجرات آية: 3]
__________
1 البخاري: المغازي (4367) ، والترمذي: تفسير القرآن (3266) ، والنسائي: آداب القضاة (5386) ، وأحمد (4/6) .(13/399)
فيه مسائل: الأولى: ثناء الله على أهل العمل.
الثانية: أن معنى امتحنها: هيأها، فقد تبتلى بما تكره، ويكون نعمة من الله، يريد امتحان قلبك للتقوى.
الثالثة: استدل بها على أن من يكف عن المعصية، مع منازعة النفس، أفضل ممن لا يشتهيها.
الرابعة: وعد الله لأهل هذه الخصلة بالمغفرة والأجر العظيم، فينزل ما يكرهون ويعطيهم ما يحبون.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [سورة الحجرات آية: 4] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 5] : فيه مسائل:
الأولى: ذمه لمن أساء الأدب.
الثانية: ذكره أن أكثرهم لا يعقلون، مع كونهم من أعقل الناس في ظنهم.
الثالثة: ذم العجلة ومدح التأني.
الرابعة: رأفة الله ورحمته بالعباد ولو عصوه، لختمه الأدب بهذين الاسمين.
َيا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات آية: 6] الآية: نزلت في رجل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المسلمين أنهم منعوا الزكاة، فهم بغزوهم؛ وكان كاذبا.
فيه مسائل: الأولى: كبر بهتان المسلم عند الله، كيف فضح الله هذا بهذه الفضيحة الباقية إلى يوم القيامة، مع كونه من الصحابة.
الثانية: معنى التبين وهو التثبت.
الثالثة: الأمر الذي نزلت فيه الآية، وهو أمر المسلمين بعدم العجلة إذا جاءهم مثل هذا، والنهي عن العجلة.
الرابعة: ذكر علة الحكم وهو الندم إذا أصابوا قوما(13/400)
بجهالة.
الخامسة: أن الله لم يأمر بتكذيب الفاسق، ولكن أمر بالتثبت.
السادسة: استدل بها على أنه إذا عرف صدقه عمل به، لانتفاء العلة.
السابعة: استدل بها على أن الخبر إذا أتى به أكثر من واحد، فليس في الآية الأمر بالتبين فيه.
الثامنة: أن المؤمن يندم إذا تبين له خطؤه.
التاسعة: قتال مانعي الزكاة، كما في آية السيف.
العاشرة: جباية النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة، ولم يجعلها لأهل الأموال.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [سورة الحجرات آية: 7] إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ (: فيه مسائل:
الأولي: كيف أمرهم بالعلم بأنه رسول الله، وهم الصحابة، فما أجلها من مسألة وأدلها على مساثل كثيرة!
الثانية: أنه لو يطيعهم في كثير من الأمر، جرى ما جرى وهم الصحابة، ففيها التسليم لأمر الله، ومعرفة أنه هو المصلحة، وتقديم الرأي عليه هو المضرة.
الثالثة: معنى العنت: الضيق، أي: رأيكم يجر إلى الضيق عليكم.
الرابعة: أن ما بكم من الخير والصواب، فليس ذلك من أنفسكم، ولو وكلتم إليها جرى ما جرى، فهو الذي حبب إليكم الإيمان، وكره إليكم ضده.
الخامسة: فيه أن الأعمال من الإيمان، ففيه الرد على الأشعرية.
السادسة: أن(13/401)
تزيينه في القلوب نوع آخر غير المحبة.
السابعة: أن الكفر نوع، والفسوق نوع، والعصيان عام في جميع المعاصي; فمن الكفر شيء لا يخرج عن الملة، كقوله: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، ومنه الفسوق بالكبائر، فعلمت أن ما أطلق عليه الكفر أكبر من الكبائر، ولو لم يخرج من الملة.
الثامنة: قوله: أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات آية: 7] : ففيه أمران:
أحدهما: أن الرشد فعل ما ذكر وترك ما ذكر.
التاسعة: أن الرشد من غير حول منهم ولا قوة.
العاشرة: ذكره تعالى أن ذلك فضل منه ونعمة، فكرر الأمر لأجل كبر المسألة.
الحادية عشرة: الفرق بين الفضل والنعمة.
الثانية عشرة: ختم الآية بالاسمين الشريفين.
الثالثة عشرة: قرنه سبحانه بين العلم والحكمة; ويوضحه المثل: ما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، وما قرن شيء إلى شيء أقبح من جهل إلى خرق.
الرابعة عشرة: أن نتيجة هذا الدلالة على التمسك بالوحي، والتحذير من الرأي المخالف، ولو من أعلم الناس.
الخامسة عشرة: التنبيه على لطفه بنا، وأنه أرحم بنا من أنفسنا. {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات آية: 9] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الحجرات آية:10] .
__________
1 البخاري: الإيمان (48) ، ومسلم: الإيمان (64) ، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635) ، والنسائي: تحريم الدم (4105، 4108، 4110، 4111، 4112) ، وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385، 1/411، 1/433، 1/454) .(13/402)
ومن سورة الذاريات
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما ما ذكرت من كلام ابن العربي المالكي في معنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] : تأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة.
وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليهم كلامهم وكلام نظائرهم، ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر; وليس هذا خاصا به؛ بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة، المنتسبين إلى السنة; فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا؛ والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده. انتهى.
وهذا الكلام بعينه هو كلام القدرية المجبرة فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه.
وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جاء بذلك كله.(13/403)
والقدرية المجبرة دعاهم لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين؛ فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم; وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم.
وحاصل قولهم: إنكار القدر، وأن الأمر أنف; فقابلهم أولئك بالقول بالجبر; وأنهم لا يخرجون من قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأنه تعالى خالق كل شيء، وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] ، {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 111] ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [سورة الأنعام آية: 112] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30] ، ونحو ذلك من الآيات.
ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان؛ وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام؛ ولكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلت عليها النصوص النبوية. وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما; وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة.(13/404)
والقرآن قد جاء ببيان اللامين:
الأولي: في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ، {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة البقرة آية: 185] .
والثانية: في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص آية: 8] ، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً} [سورة الأعراف آية: 179] ، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 119] على أحد القولين فمن نفى الإرادة الشرعية الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع.
ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، في هذه العبادة; وجعل عابد الأصنام والشيطان والأوثان، عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص وطائفة الاتحاد الكفار.
وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق يعبدون بجريان الأقدار عليهم، يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية،(13/405)
كما سيأتي في حكاية هذا عن غيرهم.
والعبادة وإن كانت لغة: أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد 1
فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [سورة البقرة آية: 21] بتوحيده، وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية، لا إلى أصل الأوضاع اللغوية؛ وقد اعترضه ابن جرير هنا، بأصل الوضع واللغة.
والحق ما قاله ابن عباس، خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] وتعليلهم ما قالوه: بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى، إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله تعالى هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه، لأن الله تعالى لا يعصى عنوة، بل علمه وقدرته وعزته، وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة.
__________
1 وتقدم ذكر قائله ومقصوده، في صفحة 378/ج/12.(13/406)
فإن الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ويؤمنون بأن الله تبارك وتعالى عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة: أحمد وغيره.
وأما من قال بإثبات القدر خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة، من لزوم خروج العبد عن فعل المولى.
وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية; فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر.
فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات، لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها; وأما الثاني فيقع من الأكثر {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] . ولله سبحانه وتعالى في خروج الأكثر عن أمره حكمة يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته، وعدله وربوبيته، يستحق أن يحمد عليها.
وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كلاما حسنا في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ذكر فيه ستة أقوال:
أحدها: قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم، كالقاضي(13/407)
أبي يعلى، وابن الزاغوني، والجويني، والباجي. وهو قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة القائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة، فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة، وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة.
الثاني. قول المعتزلة ومن وافقهم، وهو: أن الله تعالى يخلق ويأمر، لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم؛ فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية; ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته خفيت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر; فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر.
الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه، فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له; قالوا: وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع للعباد; ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع(13/408)
بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا، كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع، فوقعت، وقد يخلق ما يتضرر بالخلق لنفع الآخرين؛ وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين وجهادهم ومصالحهم؛ وهذا اختيار القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى. قالوا: فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة; هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: إنه لا يفعل لعلة. قالوا: - واللفظ لأبي يعلى-: هذا بمعنى الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [سورة الأعراف آية: 179] ؛ فمن خلق للشقاء لجهنم يخلق للعبادة. قلت: قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف،(13/409)
يعني: القول بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث.
ثم قال شيخ الإسلام: قلت قول الكرامية ومن وافقهم، وان كان أرجح من أقوال المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله؛ وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور.
والقول الرابع: أنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهرهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة؛ وفسروا العبادة بالتعبيد القدري؛ وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى؛ فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وأما هؤلاء: فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة; وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة; وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] قال: "جبلهم على الشقاء والسعادة".
وقال وهب: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، وقد روي أيضا عن طائفة نحوه; وهؤلاء وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية، فهم – أعنى زيد بن أسلم، ووهب بن منبه - من أعظم الناس تعظيما للأمر(13/410)
والنهي، والوعد والوعيد؛ وأما من قبلهم فهم إباحية، يسقطون الأمر والنهي.
والقول الخامس: قول من يقول: إلا ليخضعوا لي ويذلوا; قال: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له.
وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: "إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها"، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان آية: 25] ، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني، كما سيأتي.
وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها ; وأما نفس الإقرار، فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] قال: خلقهم للعبادة، ولكن العبادة عبادة تنفع؛ ومن العبادة عبادة لا تنفع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة لقمان آية: 25] الآية هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح.
ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية؛ فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة الله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] .(13/411)
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب.
قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة آية: 11] : خص سبحانه برفعه الأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، واستشهد بهم في قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [سورة آل عمران آية: 18] .
وأخبر عنهم أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى رسوله هو الحق، بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سورة سبأ آية: 6] ، فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع الله به درجات من يرفعها، كما قال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [سورة الأنعام آية: 83] . وقال زيد بن أسلم: "بالعلم ترفع الأقدار والدرجات، على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان; وكم من يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم، وأرفع قدرا في قلوب الأمة".
فهذا كرز ابن وبرة، وكهمس، وابن طارق، كانوا يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال سعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع؛ ولذلك ترى كثيرا ممن يلبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره مما لا يدانيه في ذلك،(13/412)
وأهل العلم والإيمان أعظم في القلوب منه وأجل عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعامله الباطنة وصفائها، وخلوصها من شهوات النفوس وأكدار البشرية، وطهارتها من الذنوب التي تكدر معاملة أولئك.
وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال تصديقه في قلوبهم، ووداده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله.
فإن من أرفع درجات القلوب، فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [سورة الرعد آية: 36] ، وقال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} [سورة يونس آية: 58] ، ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان.
فمن فرح بأعظم مفروح بغيره، فقد فرح بأعظم مفروح به; ومن فرح بغيره، فقد ظلم نفسه، ووضع الفرح في غير موضعه.
فإذا استقر في القلب، وتمكن منه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنه، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور به، أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا في درجات العلوم والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف، هذا في باب معرفة الأسماء والصفات.
وأما في باب فهم القرآن، فهذا دائم التفكر في معانيه(13/413)
والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه، عن غيره من كلام الناس؛ وإذا سمع شيئا من كلام الناس، وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية والعدالة قبله، وإلا رده؛ وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه.
وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه، ولا يجعل همته وقصده في تحصيل ما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن بالوسوسة في خروج حروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك; فإن هذا حائل للقلوب، وقاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه.
وكذلك شغل النطق بـ {أءنذرتهم} ووجوهها، وضم الميم من {عليهم} ، ووصلها بالوصل، وكسر الهاء وضمها ونحو ذلك، من شغل الزمان وتنقية النطق وصفاتها، معرضها عن المقصود، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت.
وكذلك تتبع أوجه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان، وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم.
وكذلك تنزيل القرآن على قول من قلده في دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتى يجعل القرآن تبعا لمذهبهم، وتقوية لقول إمامه، وكل محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه، في كثير من ذلك أو أكثره.(13/414)
وكذلك ظن من ظن ممن لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف ولا شاف، ولا هاد في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وما ينزه عنه; بل الكافي في ذلك عقول المتهوسين الحيارى، الذين كلامهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة; وهؤلاء من أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله.
وقال الشيخ محمد: قال شيخ الإسلام، رحمه الله: قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [سورة النساء آية: 36-37] بكل ما ينفع في الدين والدنيا، من مال أو علم أو غير ذلك، فالبخل بالعلم الذي يمنعه المختال، إما يختال فلا يطلبه، وإما يختال على بعض الناس فلا يبذله; وهذا كثيرا ما يقع، وضده التواضع في طلبه والكرم ببذله.
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن قوله تعالى: {يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة الممتحنة آية: 8] الآية.
فأجاب:
الذي يظهر أن هذا إخبار من الله جل ذكره لعباده المؤمنين، بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف، ومعاملة أي كافر كان من أهل الملل إذا كان لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعا; ولذا علل هذا الحكم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة آية: 8] .(13/415)
وأما قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} فقد قال بعض المعربين: إنه من الموصول بدل اشتمال، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر، والتقدير {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ} [سورة الممتحنة آية: 8] بر من لم يقاتل في الدين; ولو قال هذا البعض: إنه بدل بدء، لكان أظهر، إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه التسعة.
هذا، والأظهر عندي أن لا بدل مطلقا، وأن الموصول معمول للمصدر المتأخر المأخوذ من أن وما دخلت عليه ; فالموصول إذا في محل نصب بالمصدر المسبوك، وتأخر العامل لا يضر، وما على البدلية، فهو في محل جر.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة آية: 8] أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال، إذ المقام مظنة لغلط الأكثر، ولتوهم خلاف المراد؛ فاقتضى التأكيد، والتوفية بالأداة، كما يعلم من فن المعاني; وقوله: {فِي الدِّينِ} في سببيه كما في قوله: " دخلت النار امرأة في هرة " 1 الحديث.
وسبب النّزول: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: " قدمت أمي - وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا - فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك " 2 وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
__________
1 البخاري: بدء الخلق (3318) ، ومسلم: التوبة (2619) ، وابن ماجه: الزهد (4256) ، وأحمد (2/457) .
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، ومسلم: الزكاة (1003) ، وأبو داود: الزكاة (1668) ، وأحمد (6/344) .(13/416)
وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب، وأقط، وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية.
وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكن غير متعذر، ودعوى النسخ يصار إليها عند التعذر، وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل.
ومنها: أن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلاميهما بمعنى التخصيص، وهو متجه على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات; والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم.
ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي:
أنه لما ذكر تعالى نهيه عباده المؤمنين، عن اتخاذ عدوه وعدوهم، أولياء يلقون إليهم بالمودة، ثم ذكر حال خليله ومن آمن معه، في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين، حتى يؤمنوا، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة، خيف أن يتوهم أحد، أو يظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة وأمر به من البراءة، فناسب أن يدفع هذا بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية.(13/417)
[تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية لآية: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، قال شيخ الإسلام: هذه تفسير آيات أشكلت ومنها قوله تعالى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [سورة القلم آية: 6] حار فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف: قال مجاهد: الشيطان، وقال الحسن: هم أولى بالشيطان من نبي الله ; فبين المراد وإن لم يتكلم على اللفظ، كعادة السلف في الاختصار من البلاغة وفهم المعنى; وقال الضحاك: المجنون فإن من كان به الشيطان ففيه الجنون.
وعن الحسن: الضال، وذلك أنهم لم يريدوا بالمجنون الدي يخرق ثيابه ويهذي، بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم خالف أهل العقل في نظرهم، كما يقال: ما لفلان عقل ; ومثل هذا رموا به أتباع الأنبياء كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [سورة المطففين آية: 32] ، ومثله في هذه الأمة كثير، يسخرون من المؤمنين ; ويرمونهم بالجنون والعظائم، التي هم أولى بها منهم.
قال الحسن: "لقد رأيت رجالا لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا: هؤلاء شياطين، ولو رأوا خياركم لقالوا: هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم لقالوا: هؤلاء قوم لا يؤمنون بيوم الحساب"، وهذا كثير في كلام السلف، يصفون أهل زمانهم وما هم عليه من مخالفة من تقدم، فما الظن بأهل زماننا؟
والذين لم يفهموا هذا، قالوا: الباء زائدة، قاله ابن(13/418)
قتيبة وغيره; وهذا كثير، كقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [سورة القمر آية: 26] ، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [سورة الشعراء آية: 221] ، الآيات {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} [سورة هود آية: 38-39] الآيتين.
[قول الشيخ ابن عبد الوهاب في السور المتواليات نوح والجن والمزمل]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في الثلاث السور المتواليات: سورة نوح، وسورة الجن، وسورة المزمل:
الأولي. قصة يغوث ويعوق، أنهم صالحون، ولا أرادوا إلا شفاعتهم ; ما عافوا دين آدم، بل يزعمون أنهم عليه; وهذا مما يعرف الإنسان بالشرك.
وفي الثانية، والثالثة: الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، في قوله: لا تدعوا مع الله أحدا، وقوله: {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] ، وشهادة أن محمدا رسول الله، في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} [سورة المزمل آية: 15] . وهذا أول ما يجب تعلمه، لما ذكر في سورة لقمان كلام لقمان لابنه، ذكر أن قصص القرآن للناس إلى يوم القيامة، فحال المثنى عليهم لعلك تعمل مثل عملهم، والمذمومين لعلك تجتنب فعلهم.
لكن ذكر أنه أطلق من الأمر والنهي، فكونه ذكر حال إبليس في الكبر، أبلغ من قوله لا تكبر، وحال آدم في(13/419)
قولهما {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] فأبلغ من قولك: الإنسان لا تعذر، أقر، وهذا أصل عظيم.(13/420)
وقال أيضا عفا الله عنه:
سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهناك حين رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [سورة الجن آية: 1] 1 الآية، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}
__________
1 البخاري: الأذان (773) ، ومسلم: الصلاة (449) ، والترمذي: تفسير القرآن (3323) ، وأحمد (1/252) .(13/420)
" [سورة الجن آية: 1- 2] .
يعني أنهم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لهم هذا وقوله: {عَجَبًا} أي: بليغا في لفظه ومعناه. {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} بالفتح لأنه نائب فاعل أوحى، و {إِنَّا سَمِعْنَا} بالكسر لأنه محكي بعد القول; وقوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أي: إلى الصواب وقيل: إلى التوحيد. {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [سورة الجن آية: 3] يقول: تعالى جلال الله وعظمته وغناه، عن اتخاذ الصاحبة والولد; وذلك أنهم لما سمعوا القرآن، فهموا التوحيد وتنبهوا على الخطأ، في عدم تنْزيه الله عما لا يليق به، فاستعظموا ذلك ونزهوه عنه. وقوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} [سورة الجن آية: 4] : سفيههم: إبليس، قاله مجاهد، وقيل: هو أو غيره من مردة الجن، والشطط مجاوزة الحد في الظلم أو غيره.
وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الجن آية: 5] يعني: أن في ظننا أن أحدا من الثقلين لن يفترى على الله ما ليس بحق، فلسنا نصدقهم فيما أضافوا إليه من ذلك; فلما سمعنا القرآن، تبين لنا افتراؤهم. {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] ومعنى هذا: أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر، وخاف، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم. فلما سمع(13/421)
ذلك الجن استكبروا، وقالوا: سدنا الجن والإنس، فذلك الرهق; والرهق في كلام العرب: غشيان المحارم.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} [سورة الجن آية: 7] قيل: إنه مما حكى الله عن الجن; أي: أن الإنس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا; وقيل: من كلام الله، والضمير في {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} للجن; والخطاب في {ظَنَنْتُمْ} للإنس. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [سورة الجن آية: 8-9] يؤخذ من قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [سورة الجن آية: 8] أن الحادث الملأ والكثرة، وكذلك {مَقَاعِدَ} أي: كنا نجد بعض المقاعد خالية من الحرس، والآن ملئت المقاعد كلها; ومعنى هذا: أنهم يذكرون سبب ضربهم في البلاد، حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلموا أن الله أراد بهم رشدا.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [سورة الجن آية: 11] يقولون: منا الصالحون، ومنا قوم دون ذلك، الآية، والقدة من قد، كالقطعة من قطع، وصفت الطرائق بذلك، لدلالتها على التقطع والتفرق; قال الحسن: أمثالكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة; قال ابن كيسان: لكل فرقة هوى، كأهواء الناس. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً}(13/422)
[سورة الجن آية: 12] :
الظن هنا بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار، وأنهم يعتقدون أن الله عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي عنه مهرب.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [سورة الجن آية: 13] يقولون: لما سمعنا القرآن آمنا به؛ وهذا يدل على أن الإيمان بالله، هو والإيمان بالقرآن متلازمان; والبخس: أن يبخس من حسناته، والرهق أن يحمل عليه ذنب غيره.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [سورة الجن آية: 14-15] القاسطون: الكافرون; يقال: قسط فهو قاسط، إذا ظلم; وأقسط فهو مقسط إذا عدل; وروي أن الحجاج قال لسعيد بن جبير: ما تقول في؟ قال: "قاسط عادل"، فقال القوم: ما أحسن ما قال! فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا; وتلا هذه الآية، وقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [سورة الجن آية: 16-17] : يقول: لو استقاموا على طريقة الإسلام لوسعنا عليهم في الدنيا. وذكر الماء الغدق - وهو الكثير - لأنه سبب لسعة(13/423)
الرزق {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم كيف شكرهم; قال الحسن: والله إن كان أصحاب محمد كذلك، كانوا سامعين لله مطيعين لله، فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر، وثبوا على إمامهم وقتلوه.
وأخرج ابن جرير عن عمر: "حيث ما كان الماء، كان المال; وحيث ما كان المال كانت الفتنة".
وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [سورة الجن آية: 17] قال ابن عباس: "شاقا"، وأصله: أن الصعود فيه مشقة على الإنسان.
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] قال قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم، أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد; وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [سورة الجن آية: 19] معناه: لما قام عبد الله يعبده، كادوا يزدحمون عليه متراكمين، تعجبا مما رأوا من عبادته، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا منه ما لم يروا مثله. وعبادة عبد الله لله ليس بأمر مستبعد عن العقل، ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبدا. وقيل: لما قام عبد الله وحده مخالفا للمشركين، كادوا لتظاهرهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين; وعن قتادة، قال: لما قام عبد الله للدعوة، تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاءهم به، ويطفئوا(13/424)
نور الله، فأبى الله إلا أن يتم هذا الأمر، وينصره على من ناواه.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] أي: قال للمتظاهرين عليه: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أي: ما أتيتكم بأمر منكر، ولا ما يوجب إطباقكم على عداوتي، إنما التعجب ممن يدعو غير الله، ويجعل له شريكا.
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] المعنى: أني لا أستطيع أن أضركم أو أن أنفعكم، إنما الضار النافع الله عز وجل. {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 22] ومعنى الاستثناء، قيل: إنه من {لا أَمْلِكُ} أي: لا أملك إلا بلاغا من الله، و {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} [سورة الجن آية: 22] : جملة معترضة لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، على معنى: أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما، لم يصح أن يجيره منه أحد، أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه; والملتحد: الملتجأ، وقيل: {بَلاغًا} بدلا من {مُلْتَحَدًا} أي: لن أجد من دونه ملتجأ، إلا أن أبلغ ما أرسلني به.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} [سورة الجن آية: 24-25] : كان الكفار يستضعفونه، ويستقلون أتباعه; وتغرهم قوتهم وكثرتهم {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا(13/425)
يُوعَدُونَ} [سورة الجن آية: 24]
علموا كيف الحال، فقال المشركون: متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له.
فقال: قل إنه كائن لا ريب فيه؛ وأما وقته، فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه، لما له فيه من الحكمة. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن آية: 28] أي: ليعلم الله أن الأنبياء بلغوا الرسالات، كقوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [سورة محمد آية: 31] ، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [سورة الجن آية: 28] بما عند الرسل من الحكم والشرائع، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن آية: 28] من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وغير ذلك، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه؟ ! والله أعلم.
وقال أيضا الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى، على قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] : وبعد: فهذه عشر درجات:
الأولي: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف.
الثانية: أنها منكر يجب فيها البغض; وقد خالف فيها من خالف.
الثالثة: أنها من الكبائر والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة؛ وقد خالف فيها من خالف.
الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله، الذي لا يغفره؛ وقد خالف فيها من خالف.
الخامسة: أن المسلم إذا اعتقده، أو دان به كفر؛(13/426)
وقد خالف فيها من خالف.
السادسة: أن المسلم الصادق إذا تكلم به هازلا، أو خائفا، أو طامعا، كفر بذلك لعلمه; وأين ينزل القلب هذه الدرجة ويصدقه بها؟ وقد خالف فيها من خالف.
السابعة: أنك تعمل معه عملك مع الكفار، من عداوة الأب والابن، وغير ذلك، وقد خالف فيها من خالف.
الثامنة: أن هذا معنى لا إله إلا الله، والإله: المألوه، والإلهية عمل من الأعمال، وكونه منفيا عن غير الله، ترك من التروك.
التاسعة: القتال على ذلك حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
العاشرة: أن الداعي لغير الله يقبل منه الجزية، كما يقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ كفرا؛ وكل درجة من هذه الدرجات، إذا عملت بها تخلف عنك بعض من كان معك. والله أعلم. وقوله رحمه الله، عند كل درجة:
وقد خالف فيها من خالف: ناس يعتقدون أن دعوة غير الله جائزة، والرسول ومن آمن به مخالفون لهم. وناس ما يكفرون بالطاغوت، ولا يبغضونه؛ والرسول وأتباعه مخالفون لهم; بل ملة إبراهيم هي: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ وهكذا سائر الدرجات، والله أعلم.(13/427)
ومن سورة الإنسان
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [سورة الإنسان آية: 9] الآية، ما كان سبب نزولها، ومن نزلت فيه؟.
فأجاب:
قال البيضاوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الحسن والحسين رضي الله عنهما، مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك. فنذر علي وفاطمة رضي الله عنهما، وجاريتهما فضة، صوم ثلاث إن بريا; فشفيا، وما معهم شيء.
فاستقرض علي ثلاثة آصع من شعير، فخبزته فاطمة رضي الله عنها خمسة أقراص فوضعوه ليفطروا، فوقف عليهم مسكين فآثروه ولم يذوقوا شيئا. وكذلك اليوم الثاني والثالث، وذكر القصة فنَزل جبرائيل بهذه السورة; وقال: خذها يا محمد، هناك الله في أهل بيتك".
والآية وإن نزلت بسبب من الأسباب، فهي عامة لمن فعل ذلك من المؤمنين إلى يوم القيامة، كما قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.(13/428)
ومن سورة العلق والمدثر
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: هذه مسائل مستنبطة من سورة اقرأ: الأولى: الأمر بالقراءة.
الثانية: الجمع بين التوكل والسبب، خلافا لغلاة المتفقهة وغلاه المتصوفة.
الثالثة: السر الذي في الإضافة، في قوله: باسم ربك، المقتضي للتوكل.
الرابعة: وصفه سبحانه بالخلق، الذي هو أظهر آياته.
الخامسة: ذكر خلقه الإنسان خاصة.
السادسة: كونه من علق.
السابعة: تكرير الأمر بالقراءة.
الثامنة: الوصف بأنه الأكرم.
التاسعة: ذكر التعليم بالقلم، الذي هو في المرتبة الرابعة.
العاشرة: تعليم الإنسان خاصة ما لم يعلم.
الحادية عشرة: أن الذكر بالقلب واللسان، أفضل من الذكر بالقلب وحده.
الثانية عشرة: وصفه سبحانه بالخلق، الذي هو أظهر آياته.
الثالثة عشرة: فيه معنى: اعرف نفسك تعرف ربك.
الرابعة عشرة: معنى أن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما إلى يوم القيامة.
الخامسة عشرة: رجاء فضله لأجل ما تقدم من فضله.
السادسة عشرة: لصفاته، لكونه الأكرم.
السابعة عشرة: الجمع بين الخلق والتعليم.
الثامنة عشرة: الدلالة على التوحيد.
التاسعة عشرة: الدلالة على النبوة.
العشرون: الرد على الجهمية.
الحادية والعشرون: أن الاستحالة تطهر.
الثانية والعشرون: الرد على القدرية.(13/429)
الثالثة والعشرون: الرد على الجبرية.
الرابعة والعشرون: أن العبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية.
الخامسة والعشرون: ذكر شرف العلم.
وأما آخرها، ففيه مسائل:.
الأولى: أن الغنى من أسباب الطغيان.
الثانية: أنه ينشأ عن رؤية الغنى، لا عن الغنى.
الثالثة: التنبيه على الفرق بين طلب العلم وطلب المال.
الرابعة: أن هذا وصف الإنسان، فإن خرج عن طبعه فبفضل الله وبرحمته.
الخامسة: الإيمان باليوم الآخر.
السادسة: الوعظ بذلك اليوم عن الطغيان.
السابعة: تسلية المطغى عليه بذلك.
الثامنة: كونه إلى رب محمد، ففيه الجزاء على الأعمال.
التاسعة: تقرير الشرع بالعقل، لقوله: {أَرَأَيْتَ} .
العاشرة: كون ذلك النهي عن إيثار الطغيان.
الحادية عشرة: تقرير ذلك بتصوير الحادثه، أنها نهي عبد صلى لربه.
الثانية عشرة: التوقف عما لا يعلم، وإلا فلا يلوم إلا نفسه.
الثالثة عشرة: أن ذلك عام فيمن تنكر عليه فيما يفعله، وفيما يأمر به غيره.
الرابعة عشرة: الاستدلال على الناهي، واستجهاله بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [سورة العلق آية: 14] .
الخامسة عشرة: الاستدلال بالقاعدة الكلية على المسائل الجزئية.
السادسة عشرة: أن العلم بذلك ليس هو الإقرار.
السابعة عشرة: أن العلم بالأسماء والصفات أجل(13/430)
العلوم.
الثامنة عشرة: الدلالة على التوحيد.
التاسعة عشرة: الدلالة على النبوة.
العشرون: أن السورة فيها ذكر الإيمان بالأصول الخمسة.
الحادية والعشرون: كون العقوبة قد تعجل في الدنيا.
الثانية والعشرون: ما يرجو المحق من نصر الله للضعفاء على الأقوياء.
الثالثة والعشرون: أن المال والقوة قد يكون سببا لشر الدنيا والآخرة.
الرابعة والعشرون: أن بعض أعداء الله قد يكشف له، فيرى بعينه من الآيات ما لا يراه المؤمن، كالسامري.
الخامسة والعشرون: الجمع بين قوله {كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [سورة العلق آية: 16] ، فوصفه بفساد القول والعمل.
السادسة والعشرون: أنه لو دعا ناديه، أو دنا من النبي صلى الله عليه وسلم لعوجل، ولكن دفع عنه ذلك، لكونه ترك بعض ما في نفسه.
السابعة والعشرون: النهي عن طاعة مثل هذا.
الثامنة والعشرون: أنه ختمها بالسجود، الذي هو أشرف أفعال الصلاة; وافتتحها بالقراءة التي هي أشرف أقوالها.
التاسعة والعشرون: الأمر بالاقتراب من الله، ففيه معنى: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 1.
الثلاثون: تسلية المحق إذا سلط عليه مثل هذا، وأمره بالصلاة.
وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] الآيات، ففيه مسائل:
الأولى: الدعوة إلى إلله، لا يقتصر على نفسه.
الثانية: خطابه بالمدثر.
الثالثة: أن الداعي يبدأ بنفسه فيصلح
__________
1 مسلم: الصلاة (482) ، والنسائي: التطبيق (1137) ، وأبو داود: الصلاة (875) ، وأحمد (2/421) .(13/431)
عيوبها.
الرابعة: تعظيم الله سبحانه علما وعملا.
الخامسة: هجران الرجز.
السادسة: قوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [سورة المدثر آية: 6] .
السابعة: قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 7] ،فأمره بالطريق إلى القوة على ما تقدم، فهو الصبر خالصا; ففيها: آداب الداعي، لأن الخلل يدخل على رؤساء الدين من ترك هذه الوصايا، أو بعضها. فمنها: الحرص على الدنيا، فنهى عنه بقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [سورة المدثر آية: 6] .
ومنها: عدم الجد فنبه عليه، بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] . ومنها: رؤية الناس فيه العيوب المنفرة لهم عن الدين، كما هو الواقعز ومنها: التقصير في تعظيم العلم الذي هو من التقصير في تعظيم الله. ومنها: عدم الصبر على مشاق الدعوة. ومنها: عدم الإخلاص. ومنها: عدم هجران الرجز، والتقصير في ذلك، وهو من أضرها على الإنسان، وهو من تطهير الثياب، لكن أفرده بالذكر كنظائره.
فأول اقرأ فيه: الأمر بطلب العلم; وأول المدثر فيه: الأمر بالعمل به.
الثانية: أول اقرأ فيه: معرفة الله; وأول المدثر فيه: الأدب مع الله.
الثالثة: أول اقرأ فيه: الصبر.
الرابعة: أول اقرأ فيه: الإخلاص والاستعانة، وأول المدثر فيه: إخلاص الصبر.
الخامسة: أول اقرأ فيه: الاستعانة; وأول المدثر فيه: العبادة.
السادسة: أول اقرأ فيه: فضله عليك; وأول المدثر فيه: حقه عليك.
السابعة: أول اقرأ فيه:(13/432)
أدب المتعلم; وأول المدثر فيه: أدب العالم.
الثامنة: أول اقرأ فيه: معرفة الله، ومعرفة النفس، وأول المدثر فيه: الأمر والنهي.
التاسعة: أول اقرأ فيه: معرفتك بنفسك، وبربك; وأول المدثر فيه: العمل المختص والمتعدي.
العاشرة: أول اقرأ فيه: أصل الأسماء والصفات، وهما العلم والقدرة; وأول المدثر فيه: أصل الأمر والنهي، وهو الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك.
الحادية عشرة: في أول اقرأ ذكر القلم، الذي لا يستقيم العلم إلا به; وأول المدثر، فيه: ذكر الصبر الذي لا يستقيم العمل إلا به.
الثانية عشرة: في أول اقرأ ذكر التوكل، وأنه يفتح المغلق; وأول المدثر فيه: الصبر الذي يفتحه.
الثالثة عشرة: في أول اقرأ: العمل المختص; وأول المدثر فيه: العمل المتعدي.
الرابعة عشرة: في اقرأ ست مسائل من الخبر; وأول المدثر ست مسائل من الإنشاء.
الخامسة عشرة: في أول اقرأ: ذكر بدء الخلق، وأول المدثر: ذكر الحكمة فيه.
السادسة عشرة: في أول اقرأ: ذكر أصل الإنسان; وأول المدثر فيه: كماله.
السابعة عشرة: في أول اقرأ: ذكر الربوبية العامة; وأول المدثر، الربوبية الخاصة.
الثامنة عشرة: في أول اقرأ شاهد لقوله: " اعقلها(13/433)
واتكل "؛
وفي أول الصبر الذي هو من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد.
التاسعة عشرة: في أول اقرأ: ابتداء النبوة; وأول المدثر: ابتداء الرسالة.
العشرون: في السورتين شاهد، لقوله: العلم قبل القول والعمل.
ومن: اقرأ إلى آخره.
الأولى: أن قريشا صريح آل إبراهيم، وأيضا ولاة البيت الحرام; وأيضا خصوا بنعم: منها: الرحلتان، ودفع الفيل. وأما أهل الكتاب: فأهل العلم، وذرية الأنبياء؛ وجرى من الكل على رسالة الله ما جرى.
الثانية: أن هذا من الرئيسين: أبي لهب، وأبي جهل، ذكر عنهما ما ذكر.
الثالثة: أن أهل الكتاب لم يتفرقوا، إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم.
الرابعة: أنهم لم يؤمروا إلا بما تعرفه العقول، وبما ينبغي للعاقل أن يلتزمه، ولا يبغي به بدلا لحسنه وسهولته.
الخامسة: أن الذي استدلوا به من أشق الأشياء، وأكثرها عذابا; وينبغي للعاقل البعد عنه، لقبحه وصعوبته.
السادسة: أن مع سهولة الذي تركوا وحسنه، وقبح الذي انتقلوا إليه ومشقته، أشربوه في قلوبهم، فلم ينتقلوا عنه إلا بعد كذا وكذا.
السابعة: أنه سبحانه توعد بالنار الذين كفروا من أهل الكتاب ومن العامة، وقدم أهل الكتاب في الذكر.
الثامنة: أن العامة أشربوا حب دينهم، وصبروا على المشقة(13/434)
فيه، مع أنهم لا يعرفون جنة ولا نارا، وهذا من العجائب.
التاسعة: التنبيه على كبر النعمة بإنزال الكتاب، بذكر الليلة التي أنزل فيها.
العاشرة: أن له سبحانه خصائص من الأزمنة، كما له من الأمكنة.
الحادية عشر: أن الأعمال تتضاعف، وإن تساوت في الظاهر بما يجل عن الوصف.
الثانية عشر: عطف الروح على الملائكة.
الثالثة عشر: أن خشية الله جامعة للدين كله.
الرابعة عشر: النص على العبادة بالإخلاص.
الخامسة عشر: ذكر الحنفاء.
السادسة عشر: عطف العبادتين على ذلك.
السابعة عشر: نصه أنه دين القيمة.
الثامنة عشر: بيان أن من ساء عمله، شر من الجعلان ولو علم.
التاسعة عشر: كون الضد خير البرية.
العشرون: الآية الجامعة الفاذة.
الحادية والعشرون: ذكر شيء من تفاصيل القيامة من شهادة الأرض وغير ذلك.
الثانية والعشرون: معاملة الإنسان ربه، لقوله: {لَكَنُودٌ} .
الثالثة والعشرون: كونه شاهدا لذلك.
الرابعة والعشرون: نعته بشدة حب المال.
الخامسة والعشرون: ما فيها من ذكر الحساب، والحوض، والميزان، ورؤية النار في الموقف.
السادسة والعشرون: إخلاص الصلاة.
السابعة والعشرون: إخلاص النحر.
الثامنة والعشرون: الأمر بختم(13/435)
العمل بالتسبيح والاستغفار.
التاسعة والعشرون: الأمر بالتصريح للكفار بالبراءة من معبوديهم.
الثلاثون: التصريح لهم ببراءتهم من عبادة الله.
الحادية والثلاثون: التصريح لهم بالبراءة من معبوديهم.
الثانية والثلاثون: التصريح لهم بالرضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد نبيا.
الثالثة والثلاثون: بيان العقيدة السلفية.
الرابعة والثلاثون: البراءة من عقيدة المتكلمين.
الخامسة والثلاثون: الأمر بالاستعاذة مما ذكر في سورة الفلق.
السادسة والثلاثون: الأمر بالاستعاذة من الشيطان.
السابعة والثلاثون: التنبيه على شدة الحاجة إلى ذلك، لكونه أفرد له سورة، وختم بها المصحف.
التاسعة والثلاثون: النهي عن الهمز واللمز.
الأربعون: النهي عن الاغترار بالمال.
الحادية والأربعون: النهي عن دع اليتيم.
الثانية والأربعون: النهي عن عدم الحض على طعام المسكين.
الثالثة والأربعون: النهي عن السهو عن الصلاة.
الرابعة والأربعون: النهي عن الرياء.
الخامسة والأربعون: النهي عن البخل.
السادسة والأربعون: النهي عن شنئه صلى الله عليه وسلم.
السابعة والأربعون: الاعتبار بأبي لهب، في كون المال والولد، وشرف البيت والسيادة، يعطاه من هو من أكفر الناس.
الثامنة والأربعون: النهي عن حمل الحطب.
التاسعة والأربعون: النهي عن النميمة.
الخمسون: النهي عن الحسد.
الحادية والخمسون: النهي عن النفث في العقد.(13/436)
الثانية والخمسون: النهي عن الوسوسة في صدور الناس.
الثالثة والخمسون: الإخبار برؤية الجحيم، ثم رؤيتها.
الرابعة والخمسون: السؤال عن النعيم.
الخامسة والخمسون: خسران الإنسان إلا المستثنى، وفيها ذكر النار ذات اللهب، وصليها، واطلاعها على الأفئدة، وكونها مؤصدة; وفيها من الأعمال الممدوحة: الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والحث على الشكر بذكر الرحلتين.
وفيها: أن النعم إذا كانت خاصة فلها شكر خاص، والحث على الاعتبار بأيام الله بقصة الفيل; وفيها من القصص: قصة الفيل والرحلتين، وقصة أبي لهب، وقصة سحر اليهود، وفيها من الوعظ العجب العجاب; وأما أدلة التوحيد ففي مواضع، وأما أدلة النبوة ففي مواضع.(13/437)
سورة التكاثر
وقال أيضا، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
ذكر ما في سورة ألهاكم التكاثر، إلى آخر القرآن من المسائل ; أما أدلة التوحيد ففي مواضع.
وأما أدلة النبوة ففي مواضع. وأما ما فيها من الأوامر:
فالأولى: إخلاص الصلاة.(13/437)
الثانية: إخلاص النحر.
الثالثة: الأمر بختم العمل بالتسبيح والاستغفار.
الرابعة: الأمر بالتصريح للكفار بالبراءة من عبادة معبوداتهم.
الخامسة: التصريح لهم ببراءتهم من عبادة الله.
السادسة: التصريح بالبراءة من دينهم.
السابعة: التصريح لهم بالرضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا.
الثامنة: الأمر بالاستعاذة مما ذكر في سورة الفلق.
التاسعة: الأمر بالاستعاذة من الشيطان.
العاشرة: التنبيه على شدة الحاجة إلى ذلك، لكونه أفرد له سورة، وختم بها المصحف.
الحادية عشرة: الإخبار بالعقيدة الصحيحة.
الثانية عشر: البراءة من عقيدة المتكلمين.
وأما النواهي: فذكرها بطريق الوعيد والذم:
الأولى: كون التكاثر ألهاهم إلى الموت.
الثانية: النهي عن الهمز واللمز.
الثالثة: النهي عن الاغترار بالمال.
الرابعة: النهي عن دع اليتيم.
الخامسة: النهي عن عدم الحض على طعام المسكين.
السادسة: النهي عن السهو عن الصلاة.
السابعة: النهي عن الرياء.
الثامنة: النهي عن البخل.
التاسعة: النهي عن شنئه صلى الله عليه وسلم.
العاشرة: النهي عن الاغترار بالمال والولد، لقصة أبي لهب.
الحادية عشرة: النهي عن حمل الحطب.
الثانية عشرة: النهي عن النفث في العقد.
الثالثة عشرة:(13/438)
النهي عن الحسد.
الرابعة عشرة: النهي عن الوسوسة في صدور الناس.
وأما ما فيها من اليوم الآخر: فالأولى: رؤية الجحيم، ثم رؤيتها عين اليقين.
الثانية: ذكر الحساب على النعيم.
الثالثة: خسران الإنسان إلا المستثنى.
الرابعة: ذكر نار الله وصفتها.
الخامسة: ذكر الحوض.
وأما ما فيها من الأعمال الممدوحة:
الأولى: الإيمان.
الثانية: العمل الصالح.
الثالثة: التواصي بالحق.
الرابعة: التواصي بالصبر.
الخامسة: الحث على الشكر بتذكير الرحلتين.
السادسة: أن النعمة إذا كانت خاصة، فلها شكر خاص.
السابعة: الحث على الاعتبار بأيام الله بقصة الفيل.
الثامنة: الأمر بالشكر على دفع الشر.
وأما ما فيها من القصص: فقصة الفيل، وقصة الرحلتين، وقصة أبي لهب، وقصة سحر اليهود له صلى الله عليه وسلم إن ثبت أن السورتين نزلتا في ذلك النوع; السابع: علم الوعظ; وفيها من العجب العجاب.
وأما الست التي تليها، ففيها أنواع من العبر: منها: أن قريشا صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهم أيضا ولاة البيت الحرام; وأيضا خصوا بنعم، منها: الرحلتان، ودفع أهل الفيل. وأما أهل الكتاب، فأهل العلم، وذرية الأنبياء؛ فجرى من الكل على رسالة الله ما جرى.
الثانية: أن هذين الرئيسين، ذكر عنهما ما ذكر.(13/439)
الثالثة: أن أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا من بعد مجيء العلم، بغيا بينهم.
الرابعة: أنهم لم يؤمروا إلا بما ينبغي للعاقل أن يلتزمه، لحسنه وسهولته.
الخامسة: أن الذي استبدلوا به من التفرق ينبغي للعاقل البعد عنه، لقبحه وصعوبته.
السادسة: أنهم لما استبدلوه أشربوه في قلوبهم، كالعجل، فلم ينفكوا عنه إلا بعد كذا وكذا.
السابعة: أنه سبحانه توعد بالنار الذين كفروا من أهل الكتاب ومن العامة، وقدم أهل الكتاب في الذكر
الثامنة: أن العامة أشربوا حب دينهم، وصبروا على المشقة فيه، مع أنهم لا يعرفون جنة ولا نارا، وهذا من العجائب.
التاسعة: التنبيه على كبر النعم بإنزال الكتاب، فذكر الليلة التي أنزل فيها.
العاشرة: أن له سبحانه خصائص من الأزمنة، كما أن له من الأمكنة.
الحادية عشرة: أن الأعمال تتضاعف، وإن تساوت في الظاهر بما يجل عن الوصف.
الثانية عشرة: عطف الروح على الملائكة.
الثالثة عشرة: ذكر الآية الجامعة الفاذة.
الرابعة عشرة: شهادة الأرض يوم القيامة بما عمل عليها.
الخامسة عشرة: صدور الناس أشتاتا لرؤية أعمالهم.
السادسة عشرة: ذكر معاملة الإنسان ربه في قوله: {لَكَنُودٌ} .
السابعة عشرة: كونة شاهدا بذلك.
الثامنة عشرة: نعتة بشدة حب المال.
التاسعة عشرة: ما في القارعة من تفصيل يوم القيامة.
العشرون: أن خشية الله تجمع الدين كله.(13/440)
[المسائل المستفادة من السبع الأواخر من القرآن]
وقال أيضا: السبع الأواخر من القرآن:
أولها: سورة الكوثر، فيهن مسائل:
الأولى: دليل الإلهية.
الخامسة: ذكر توحيد الربوبية.
السادسة: فضائل النبي صلى الله عليه وسلم.
السابعة: الوعيد.
الثامنة: أمر الله إياه أن يختم عمله بالاستغفار.
التاسعة: التغليظ على من اعترض على من دعا إلى التوحيد.
العاشرة: تغليظ أمر النميمة.
الحادية عشرة: أن ولد الرجل من كسبه.
الثانية عشرة: تحقير أمر الدنيا.
الثالثة عشرة: ما في المعوذتين من خير الدنيا والآخرة.
الرابعة عشرة: أن ذلك لمن عرف معناهما، ودعا الله بقلب حاضر.
الخامسة عشرة: التنبيه على شدة الخطر من الشيطان; لأن الله أفرد له سورة، وهي آخر ما يقرع سمعك من المصحف.
السادسة عشرة: التنبيه على وسوسته.
السابعة عشرة: التنبيه على ضعفه، بكونه خناسا.
الثامنة عشرة: التنبيه على الفرق بين الرب والإله والملك.
التاسعة عشرة: أمره سبحانه نبيه، لما أعطاه الكوثر، أن يخلص له هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنحر.
العشرون: التصريح للمشركين بالبراءة من دينهم.
الحادية والعشرون: التصريح لهم بأنهم لا يعبدون الله، ولو كانوا من المنقطعين للعبادة.
الثانية والعشرون: التصريح لهم بأنهم كافرون.
الثالثة والعشرون: كون النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بالتعوذ بالمعوذتين لأجل حاجته إلى ذلك.
الرابعة والعشرون:(13/441)
التنبيه على جلال الله وعظمته، وكبر حقه على العبد، بختم النبي صلى الله عليه وسلم عمله بالاستغفار.(13/442)
سورة العصر
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى، عن تفسير سورة العصر؟
فأجاب: الكلام عليها طويل، لكن نذكر لك ما ذكر أهل العلم، على سبيل الاختصار. ذكروا أن العصر هو الدهر الذي خلقه الله سبحانه; والله سبحانه له أن يقسم بما شاء من خلقه; وأما المخلوق، فلا يجوز له أن يقسم إلا بالله تبارك وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " 1، وجواب القسم: {إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر آية: 2] .
والإنسان: اسم جنس، وهم جميع بني آدم؛ ثم استثنى فقال: {إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة العصر آية: 3] بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأيقنوا بقلوبهم، وصدقوا أن ما أخبر الله في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فهو الحق الذي لا مرية فيه، ولا شك فيه {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العصر آية: 3] أي عملوا بما شرعه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بجوارحهم.
ولا بد في العمل الصالح، من شرطين: الأول: أن يكون خالصا لوجه الله; الثاني: أن يكون على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
__________
1 البخاري: الشهادات (2679) ، ومسلم: الأيمان (1646) ، وأحمد (2/11) ، ومالك: النذور والأيمان (1037) ، والدارمي: النذور والأيمان (2341) .(13/442)
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
فقوله: {عَمَلاً صَالِحًا} هو المشروع، وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} هو الإخلاص الذي لوجه الله؛ فهذه مرتبتان: الأولى: الإيمان بالله ورسوله; الثانية: العمل الصالح; فهذا هو العلم بما أنزل الله والعمل به.
فإذا علم الإنسان ما أنزل الله، فعليه أن يعمل به; وإذا عمل العمل الصالح، فعليه مرتبة ثالثة، وهي: التواصي بالحق، وهي أن يوصي غيره باتباع الحق، ويعلم الجهال مما علمه الله، بخلاف من قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة آية: 174] .
فإذا فعل المؤمن ما أمره الله به من التواصي بالحق، وهو الأمر بالمعروف الذي أمر الله به، والنهي عن المنكر الذي نهى الله عنه، فعليه مرتبة رابعة، وهي: الصبر على أذى الخلق وإساءتهم إليه في ذات الله تعالى، كما صبر أنبياء الله ورسله، وأهل العلم من خلقه على ذلك. فهذه أربع مراتب، إذا عمل بها الإنسان، صار من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين.
نسأل الله أن يرزقنا وإخواننا فهمها، والعمل بها، فذكرهن الله في هذه السورة القصيرة الألفاظ، الطويلة المعاني، كما قال الشافعي رحمه الله: لو عمل الناس بهذه السورة لكفتهم، وهو كما قال رحمه الله تعالى. لا(13/443)
سورة الكوثر
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وهذه كلمات من كلام أبي العباس ابن تيمية، له على سورة الكوثر، لخصتها من جملة كلام له: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر آية: 1-3] ما أجلها وأغزر فوائدها على اختصارها، وحقيقة معناها تعلم من آخرها.
فإنه سبحانه بتر شانيء رسوله صلى الله عليه وسلم من كل خير; فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الدنيا والآخرة؛ ويبتر حياته، فلا يتزود فيها عملا صالحا لمعاده؛ ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمحبته والإيمان به؛ ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعته؛ ويبتره من الأعمال، فلا يذوق لها طعما، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها.
وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول، ورده لأجل هواه أو شيخه، أو إمامه أو أميره أو كبيره، كمن شنأ آيات الصفات وأحاديثها; وتأولها على غير مراد الله ورسوله، أو حملها على ما يوافق مذهبه، أو تمنى أن لا تكون نزلت. ومن أقوى علامات شناءتها: أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق، اشمأز ونفر، فأي شانئ للرسول أعظم من هذا؟ !
وكذلك أهل السماع الذين يزدحمون على سماع الغناء والدفوف، فإذا قرأ عليهم قارئ عشرا، استطالوه واستثقلوه؛ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب.(13/444)
وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول لما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه، واشتغل بقول فلان وفلان؛ وكل من شنأ، له نصيب من الانبتار.
وهؤلاء لما شنؤوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم، فبترهم منه؛ وخص نبيه بضد ذلك، وهو: أن أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه في الدنيا: الهدى، والنصر، والتأييد، وقرة العين، ونعم قلبه بذكره وحبه; وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه اللواء لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف يوم القيامه.
وقولة: {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك. {الأَبْتَرُ (: المقطوع النسل، الذي لا يولد له، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح، ولا منفعة فيه; وأهل السنة أحيوا بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [سورة الشرح آية: 4] ؛ وأهل البدعة شنؤوا بعض ما جاء به، فكان لهم نصيب من قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر آية: 3] .
فالحذر الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئا مما جاء به، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك، أو لشيخك، أو لكبيرك، أو لاشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا; فإن الله لم يوجب على أحد إلا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع(13/445)
الرسول صلى الله عليه وسلم، ما سأله الله عن مخالفة أحد؛ فاعلم ذلك واسمع وأطع، واتبع; ولا تبتدع تكن ابتر مردودا عليك عملك; بل لا خير في عمل أبتر مر الاتباع، ولا خير في عامله.
وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] : أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما: الصلاة والنسك، الدالتان على التواضع، عكس حال أهل الكفر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم في صلاتهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، أو لسوء ظنهم بربهم.
ولهذا جمع الله بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] الآية، وقوله: {وَنُسُكِي} هو: الذبيحة لله ابتغاء وجهه.
والمقصود: أن الصلاة والنسك، هما أجل ما يتقرب به إلى الله; وأجل العبادات المالية النحر، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية؛ وما يجتمع في النحر من حسن الظن، والوثوق بما في يد الله، أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص.
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر له، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة; وكان ينحر في الأعياد وغيرها; وفيها: تعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله. وفيها: ترك الالتفات(13/446)
إلى الناس، وإلى ما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر.
ومن فوائدها اللطيفة: الالتفات في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده وتنحر له، والله أعلم.(13/447)
سورة الكافرون
وقال أيضا الشيخ محمد: قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في الكلام على: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] : قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] : نفى عنهم عبادة معبوده، لأنهم إذا أشركوا لم يكونوا عابدين معبوده.
وأيضا لو عبدوا الله بما ليس هو عبادة، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أنه هو كأصحاب العجل، والذين عبدوا عيسى والدجال، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند أنفسهم إنما يعبدون الله; لكن هذا المعبود ليس هو الله، وإن قصد العابد الله.
وأيضا إذا وصفوه بما هو بريء منه، كالصاحبة والولد، وعبدوه كذلك، فهو بريء من هذا المعبود، فإنه ليس هو الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش؟ يسبون مذمما " 1 كذلك عبادة أمثالهم، واقعة على موصوفهم.
وأيضا من لم يؤمن بما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ربه،
__________
1 البخاري: المناقب (3533) ، والنسائي: الطلاق (3438) ، وأحمد (2/244، 2/369) .(13/447)
فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول؛ وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعاني وتهذب.(13/448)
ومن سورة تبت
وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله: قال شيخ الإسلام: سورة "تَبَّت" نزلت في هذا وامرأته، وهما من أشرف بطنين في قريش، وهو عم علي، وهي عمة معاوية، واللذان تداولا الخلافة في الأمة هذان البطنان، بنو أمية وبنو هاشم.
وأما أبو بكر وعمر، فمن قبيلتين أبعد عنه صلى الله عليه وسلم؛ واتفق في عهدهما ما لم يتفق بعدهما، وليس في القرآن ذم من كفر به صلى الله عليه وسلم باسمه، إلا هذا وامرأته. ففيه: أن الأنساب لا عبرة بها، بل صاحب الشرف يكون ذمه، على تخلفه عن الواجب أعظم، كما قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [سورة الأحزاب آية: 30] الآية.
قال النحاس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [سورة المسد آية: 1] دعاء عليه، {وَتب} خبر، وفي قراءة عبد الله {وقد تب} . وقوله: {وَمَا كَسَبَ} أي: ولده، فإن قوله: {وَمَا كَسَبَ} يتناوله، كما في الحديث: "ولده من كسبه"؛ واستدل بها على جواز الأكل من مال الولد; ثم أخبر أنه {سَيَصْلَى نَارًا} : أخبر بزوال الخير، وحصول الشر; والصلي: الدخول والاحتراق جميعا.
وقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد آية: 4] إن كان مثلا للنميمة، لأنها(13/448)
تضرم الشر، فيكون حطب القلوب; وقد يقال: ذنبها أعظم، وحمل النميمة لا يوصف بالحبل في الجيد;
وإن كان وصفا لحالها في الآخرة، كما وصف بعلها: هو يصلى، وهي تحمل الحطب عليه، كما أعانت على الكفر، فيكون من حشر الأزواج.
وفيه عبرة لكل متعاونين على الإثم، أو على إثم ما، أو عدوان ما، ويكون القرآن قد عم الأقسام الممكنة في الزوجين، وهي أربعة: إما كإبراهيم وامرأته، وأما هذا وامرأته، وإما فرعون وامرأته، وإما نوح وامرأته ولوط.
ويستقيم أن يفسر حمل الحطب بالنميمة، بحمل الوقود في الآخرة، كقوله: "من كان له لسان" إلخ.
وقال الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى: قصة سبب نزول {تَبّتُ} إلى آخرها، فيها مسائل:
الأولى: ما فيها من دلائل الإلهية.
الثانية: ما فيها من دلائل النبوة.
الثالثة: ما فيها من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله الحق الذي لا يقدر غيره بقوله.
الرابعة: أن هذا هو العقل والصواب، أعني: صعود الجبل، والصياح في هذه المسألة، ولو عده أكبر الناس سفها، بل جنونا.
الخامسة: شدة الخطر العظيم، فيمن عذل من فعل ذلك.
السادسة: لعل الكلمة التي لا يلقي لها بالا، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، ولعله يعتقدها نصيحة أو صلة رحم.(13/449)
السابعة: مراقبة العواقب في إعطاء الله نعم الدنيا من المال والولد، والبيت الرفيع، والرياسة.
الثامنة: تعظيم أمر النميمة.
التاسعة: أن الولد من الكسب; ففيه دليل على أن أطيب ما أكلتم من كسبكم.
العاشرة: أن الله سبحانه لم ينزل هذا إلا مصلحة للأمة إلى يوم القيامة; والله أعلم.(13/450)
سورة الإخلاص
وقال أيضا، رحمه الله تعالى: تفسير سورة الإخلاص، عن عبد الله بن خبيب، قال: " خرجنا في ليلة مطر وظلمة، فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه، فقال: قل; فلم أقل شيئا; قال: قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية:1] 1 والمعوذتين، حين تمسي وحين تصبح، ثلاث مرات، تكفيك من كل شي " قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والأحد: الذي لا نظير له; والصمد: الذي تصمد الخلائق كلها إليه، في جميع الحاجات; وهو الكامل في صفات السؤدد; فقوله: {أَحَدٌ} ففي النظير والأمثال، وقوله: {الصَّمَدُ} إثبات صفات الكمال، وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [سورة الإخلاص آية: 3] نفي الصاحبة والعيال. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] نفي الشركاء لذي الجلال.
وسئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، عما تضمنته سورة (الإخلاص) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] .
__________
1 الترمذي: الدعوات (3575) ، والنسائي: الاستعاذة (5428) ، وأبو داود: الأدب (5082) ، وأحمد (5/312) .(13/450)
فأجاب: ما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي، فيذكر أهل العلم: أن سورة (الإخلاص) متضمنة للتوحيد العلمي، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] متضمنة للتوحيد العملي. فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى، من الأحدية، المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال، الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد، الذي هو من لوازم الصمدية، ونفي الكفؤ المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل.
فتضمنت هذه السورة: إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي التشبيه والمثيل، ونفي مطلق الشريك عنه؛ وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي، الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن.
وبيان ذلك: أن القرآن مداره على الخبر والإنشاء; والخبر نوعان: خبر عن الخالق سبحانه، وأسمائه وصفاته، وأحكامه، وخبر عن خلقه; فأخلصت سورة الإخلاص، للخبر عنه سبحانه، وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن; كما أخلصت سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] لبيان الشرك العملي القصدي.(13/451)
سورة الفلق
وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، تفسير سورة الفلق:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق آية: 1-5] : فمعنى أعوذ: أعتصم وألتجئ وأتحرز; وتضمنت هذه الكلمة مستعاذا به، ومستعاذا منه، ومستعيذا؛ فأما المستعاذ به، فهو الله وحده رب الفلق، الذي لا يستعاذ إلا به.
وقد أخبر الله عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادته رهقا، وهو الطغيان، فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] والفلق: بياض الصبح إذا انفلق من الليل، وهو من أعظم آيات الله الدالة على وحدانيته. وأما المستعيذ، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
وأما المستعاذ منه، فهو أربعة أنواع; الأول: قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وهذا يعم شرور الأولى والآخرة، وشرور الدين والدنيا. الثاني: قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} والغاسق: الليل، إذا وقب، أي: أظلم ودخل في كل شيء،(13/452)
وهو محل تسلط الأرواح الخبيثة.
الثالث: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [سورة الفلق آية: 4] وهذا من شر السحر، فإن النفاثات السواحر اللاتى يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة، حتى ينعقد ما يردن من السحر; والنفاثات مؤنث، أي: الأرواح والأنفس، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة.
الرابع: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق آية: 5] وهذا يعم إبليس وذريته، لأنهم أعظم الحساد لبني آدم أيضا، وقوله: {إذا حسد} لأن الحاسد إذا أخفى الحسد، ولم يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، لم يضره.(13/453)
[تفسير سورة الناس]
وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله: تفسير سورة الناس:
بسم الله الرحمن الرحيم
وأما قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1] فقد تضمنت أيضا ذكر ثلاثة: الأول: الاستعاذة وقد تقدمت; الثاني: المستعاذ به; والثالث: المستعاذ منه; فأما المستعاذ به، فهو الله وحده لا شريك له، رب الناس الذي خلقهم، ورزقهم ودبرهم، وأوصل إليهم مصالحهم، ومنع عنهم مضارهم.
مَلِكِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 2] أي: المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكة، المدبر لهم، كما يشاء الذي له القدرة والسلطان(13/453)
عليهم; فليس لهم ملك يهربون إليه إذا دهمهم أمر; يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويعطي ويمنع.
{إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 3] أي: معبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق إلا هو، فخلقهم وصورهم، وأنعم عليهم، وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم، وأمرهم ونهاهم، وصرفهم كما يشاء بملكه، واستعبدهم بالهيبة الجامعة لصفات الكمال كلها.
وأما المستعاذ منه، فهو: الوسواس، وهو الخفي الإلقاء في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بصوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد; وأما الخناس فهو الذي يخنس ويتأخر ويختفي.
وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء؛ وهذان وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، وذلك: أن العبد إذا غفل جثم على قلبه، وبذل فيه الوساوس، التي هي أصل الشر; فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس.
قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية، يضعه على ثمرة القلب، يمنيه ويحدثه; فإذا ذكر الله خنس. وجاء بناءه على الفعال، الذي يتكرر منه، فإنه كلما ذكر الله انخنس، وإذا غفل عاد.
وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [سورة الناس آية: 6] يعنى: أن الوسواس نوعان: إنس وجن؛ فإن الوسوسة الإلقاء الخفي، لكن إلقاء(13/454)
الإنس بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها; ونظير اشتراكهما في الوسوسة، اشتراكهما في الوحي الشيطاني، في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] . والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء الثالث عشر؛ ويليه الجزء الرابع عشر: " كتاب النصائح"(13/455)
المجلد الرابع عشر: (كتاب النصائح)
كتاب النصائح
...
كتاب النصائح
[قول أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب في النصيحة والتذكير بنعم الله، وماعليه الناس من التقصير والذنوب]
قال أبناء الشيخ; محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الأجر والثواب، آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما.
من إبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والموجب لهذا: التذكير والنصيحة، والشفقة علينا وعليكم من عقوبة الله، وأنتم تعرفون ما من الله به علينا وعليكم من دين الإسلام، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على جميع المسلمين.
وأكثر الناس اليوم، على الشرك، وعبادة غير الله; وأعطاكم الله في ضمن الإسلام، من النعم والنصر على الأعداء ما تعرفون، ولا يجيء أهل الإسلام شيء إلا بسبب(14/5)
ذنوبهم، فإذا عرفوا الذنب وتابوا منه، نصرهم الله، وأعزهم، وكسر عدوهم، وجعل العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] وقال تعالى لخيار الخلق: {أََوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 165] .
وهذه الأمور: يجريها الله سبحانه وتعالى، ابتلاء وامتحانا، ليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق، فيجازي المؤمن بالنصر والظفر على عدوه، ويجازي المنافق والمرتاب بالعذاب والنكال، والخزي في الدنيا والآخرة; وأنتم ترون أن أغلب البلدان ما صفت وركد 1 الإسلام فيها، إلا بعد الردة، وتمييز الخبيث من الطيب.
فالواجب علينا وعليكم الإقبال على الله، والتوبة والاستغفار; وكل يعرف ذنبه، ويتوب إلى الله منه، ولا يجعل الأمر في غيره، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [سورة التحريم آية: 8] .
والتوبة لها شروط ; منها: الإقلاع عن الذنب،
__________
1 أي استقر وثبت الإسلام فيها.(14/6)
والندم، والعزيمة ألا يعود; ونحن نخشى علينا وعليكم مما وقع من التقصير والذنوب:
منها: ترك المحافظة على الصلوات الخمس، وهي عمود الإسلام، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
ومنها: الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى أن من الناس من ينشأ وهو ما يعرف دين الإسلام؛ ومنهم من يدخل فيه، وهو ما يعرفه ولا يفعله، ظنا منه أن الإسلام هو العهد. ومعرفة الإسلام والعمل به، واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد.
ومنها: أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر المنع يحبسها؛ والزكاة ركن من أركان الإسلام، واجب أداؤها إلى الإمام أو نائبه، على الأمر المشروع.
ومنها: عدم إنكار المنكر ممن يراه، ويسكت عن إنكاره، خوفا أو هيبة من أحد من الناس، والمنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، وإذا فشا ولم ينكر ضر العامة، قال تعالي {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78 - 79] .
ومنها: ظهور عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من كثير(14/7)
من الناس، وذلك من أكبر الكبائر، كما في الحديث: ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين 1، وفي الحديث الآخر: لا يدخل الجنة قاطع رحم 2
ومنها: ما يجري من بعض الأمراء والعامة: من الغلول من المغانم، وفيهم من يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن، وذلك حرام; قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 161] وفي الحديث: الغلول نار وعار وشنار 3.
ومنها: ظلم بعض الأمراء، يأخذ من أموال الناس بصورة الجهاد، ولا يصرفه في الجهاد، بل يأكله، وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة، ولا يعطي المساكين منها شيئا، والإمام يأمره بإعطاء كل ذي حق حقة، ويعصي ويعمل على رأيه.
والزكاة تولى الله قسمتها في كتابه، وجزأها ثمانية أجزاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. ومن الأمراء والنظراء من يصرف الجهاد عن الأغنياء، ويجعله على الفقراء، الذين لم يجعل الله عليهم شيئاً والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، فمن كان له مال، وهو يقدر على الجهاد بنفسه، وجب عليه الجميع; فإن كان ما يقدر بنفسه، وجب عليه بالمال; فإن كان ما يقدر بالمال، ولا بالنفس، فالحرج مرفوع عنه.
__________
1 البخاري: الشهادات 2654 , ومسلم: الإيمان 87 , والترمذي: البر والصلة 1901 , وأحمد 5/36 ,5/38.
2 البخاري: الأدب 5984 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2556 , والترمذي: البر والصلة 1909 , وأبو داود: الزكاة 1696 , وأحمد 4/80 ,4/83 ,4/84.
3 ابن ماجه: الجهاد 2850 , وأحمد 5/316.(14/8)
قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 91] والإمام ينهى الأمراء عن تحميل الناس ما لا يستطيعون، ويعصونه في ذلك، وتحميل الفقير ما لم يحمله الله ذنب; ومعصية الإمام إذا نهى عن ذلك ذنب آخر.
ومنها: اختلاط الجيد بالردي، وصاحب الدين بالمنافق، ولا يميز هذا من هذا، ووقع بسببه ظهور الكلام الباطل، الذي لو يظهر من أحد في أول الإسلام، أدب أدبا بليغا، وعرف أن قائله منافق، وفي وقتنا هذا يظهر ولا ينكر، إلا ما شاء الله.
ومنها: الظلم والوقوع فيما حرم الله، من الدماء والأموال والأعراض، والغيبة والنميمة، وقول الزور، وبهت المسلم بما ليس فيه، وصار هذا ما يستنكر، فإذا بان كذبه وتزويره، ما سقط من العيون، والله سبحانه وتعالى حرم هذا في كتابه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا وقال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ(14/9)
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 58] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 12] .
ومنها: الجسرة على ذمة المسلم، فإذا أعطى أحد من المسلمين، لا أمير ولا غيره، أحدا من الكفار ذمته، ما جاز لأحد من المسلمين يخفره، لا في دمه ولا ماله، كما جاء في الحديث: ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا.
ومن العجب: أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أنه معاداة للكفار، واستحلال المحرم أعظم من ارتكابه، مع معرفة تحريمه.
ومنها: أن بعض الناس يزعل 1 إذا أنكر على رجاله أو طارفته 2، إذا فعل المنكر وأنكر عليه، وهذا أمر ما يحل; بل الواجب عليه أن يغضب لله أعظم مما يغضب لنفسه; ولو أن رجاله أو طارفته، ينتهكون حرمته، غضب لنفسه، والله أحق أن يغضب له.
ومنها: فعل الربا، والتحيل عليه بالبيع الفاسد، والتصحيح الباطل، مثل رد الدين على المعسر، وجعل الدين رأس مال السلم.
__________
1 يغضب.
2 أحد أطرافه من أقاربه أو جماعته.(14/10)
ومنها: كونه يبيعه ويسلفه; ومنها: كونه يبيعه تمرا، أو عيشا إلى أجل، فإذا حل الأجل، أخذ منه بتلك الدراهم تمرا أو عيشا، وهذا حرام عند أكثر العلماء، لا سيما إذا قصد ذلك في ابتداء العقد، وعرف أنه لا يستوفي منه إلا بتمر أو عيش.
ومنها: أنه يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها منه بأقل مما باعها به نقدا; ومنها: أن يشتري طعاما، ثم يبيعه قبل قبضه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ومنها: التثاقل عن الجهاد، ومعصية الإمام في ذلك وغيره؛ وقد توعد الله من تثاقل عن الجهاد، ورضي بالإخلاد إلى الأرض، بالوعيد الشديد.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيل ٌإِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التوبة آية: 38-39] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال آية: 24-25] .(14/11)
قال العلماء في تفسير الآية: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال آية: 24] أي: لما يصلحكم، وهو: هذا الحرب الذي أعزكم الله به بعد الذلة، وقواكم به على عدوكم، بعد القهر منهم لكم، وقد فرضه الله على الناس، كما فرض الصلاة والزكاة.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به، من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين، ووهنهم عن لقاء العدو؛ لأن الله تبارك وتعالى: أمر بفعل السبب، وألا يتوكلوا إلا على الله وحده، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 160] .
وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [سورة الأنفال آية: 9-10] .(14/12)
فإذا فعل المسلمون ما أمرهم الله به، وتوكلوا على الله، وحققوا توحيدهم، نصرهم الله، وأمدهم بالملائكة، كما هي عادته مع عباده المؤمنين، في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 171-173] .
وقال تعالى {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيرا ًسُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [سورة الفتح آية: 22 – 23] . ونسأل الله لنا ولكم الهدى والثبات، والعافية في الدنيا والآخرة; وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ولهم أيضا، أسكنهم الله الفردوس الأعلى: 1.
[قول أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب في قوله تعالي وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وما يجري من المعاملات الربوية]
بسم الله الرحمن الرحيم
من حسين بن الشيخ وإبراهيم وعبد الله وعلي، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد.
قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} إلى قوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [سورة البقرة آية: 275 - 0276] والنبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه ويجري
__________
1 وتقدم بعضها في الجزء السادس في مواضع منه.(14/13)
عندكم معاملات يفعلها بعض الناس، وهي من المعاملات الربوية:
منها: قلب الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم ولم يقدر على الوفاء، أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد، ويسمون هذا تصحيحا؛ وهو تصحيح فاسد، ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه الدراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته لما عجز عن استيفائه، والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه.
فعليكم بتقوى الله عز وجل وحذر عقوبته، فإن هذه المعاملات تمحق المال، وتذهب بركته، وعقابه في الآخرة أعظم مما يعاقب به صاحبه في الدنيا، من عدم البركة فيه; فإذا حل الدين على المعسر، لم يجز لغريمه التحيل على قلبه عليه، بل كما قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [سورة البقرة آية: 280] .
وإن كان الغريم مليا، وأراد أن يسلم إليه ويعامله، فليدفع إليه الدراهم، ويقبضها البايع، ويروح بها إلى بيته، ولا يوفيه بها في الحال؛ فإذا تملكها، وأخذت عنده يوما أو يومين، بحيث يتصرف فيها بما شاء، ثم أوفاه منها، فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى.
وأما الاستيفاء بها في مجلس العقد، فلا ينبغي، لأنه ذريعة إلى الحيل، والحيلة كلها محرمة; وكذلك إذا حل(14/14)
التمر على الكدَّاد، فلا بد من قبضه؛ بالقبض الشرعي. وأما التحيل على قلبه على صاحبه، فلا ينبغي أيضا; بل يأخذه صاحبه، ولا يبيع على الذي أوفاه منه، لا قليلا ولا كثيرا؛ فإن أحب البيع، فليبعه طعاما غير الطعام الذي قبضه منه، فتحصل المعاملة، ويحصل التنْزه والاحتياط عن الحيل التي لا يجوز تعاطيها.
ومنها: ما يفعله بعض الناس، إذا كان له في ذمة رجل طعام معلوم، استوفي منه بثمرة في رؤوس النخل يأخذها خرصا، تم يبيعها، وهذا لا يجوز، نص عليه العلماء ونهوا عنه، وذكروا أن من اشترى بالكيل والوزن، لا يحصل قبضه إلا بكيله أو وزنه فإن قبضه جزافا، كان قبضا فاسدا، لا يجوز له بيعه، حتى يكال أو يوزن، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يكتاله 1. وفي الحديث الآخر، أنه: نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان، صاع البايع وصاع المشتري 2 وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: إذا سميت الكيل فكِلْ.
ومنها: ما يفعله بعض الناس - في الأحساء أو في غيره - يشترون الطعام من أهل بيت المال، أو من غيرهم، ثم يبيعونه قبل قبضه، وهذا لا يجوز، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، وقال: من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يقبضه.
__________
1 مسلم: البيوع 1525 , والنسائي: البيوع 4597 , وأبو داود: البيوع 3496.
2 ابن ماجه: التجارات 2228.(14/15)
ومنها: ما يفعله بعض الناس، إذا كان عنده تمر قد استغنى عنه، ورأى السعر رخيصا وأراد إبداله بتمر من الثمرة المقبلة، أقرضه لمن يعطيه بدله تمرا جديدا بدل هذا، وإنما هذا بدل تمر بتمر نسيئة، وإبدال التمر بالتمر منسأ لا يجوز، بل هو ربا، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه. والقرض المندوب إليه إذا كان قصد المقرض الإرفاق بالمقترض ونفعه; وأما إذا كان قصده نفع تمره بتمر آخر، فليس بقرض، وإنما هو بيع نهى عنه، لأنه بيع تمر بتمر.
قال عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما: السلف على ثلاثة أوجه سلف تسلفه تريد به وجه الله، فلك وجه الله; وسلف: تسلفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك; وسلف: تسلفه لتأخذ طيبا بخبيث، فذلك الربا.
ومنها: ما يفعله بعض الناس، يقرضه غريمه الدراهم أو غيرها ويتسامح عنها في الاستيفاء، فيسامحه غريمة في المبايعة إذا بايعه فلعميله بيع، ولغيره من الناس بيع أغلى منه، لأن العميل يقرضه ويسامحه في الاستيفاء، ويقول: فلان يسلف ويتسامح، ويأخذ ويخلي.
ولا يعلم المتعاقدان أن هذا ربا، وأن " كل قرض جر نفعا فهو ربا " وأنه إذا زاد في السعر لأجل تأخيره بعض الدين الذي قد حل عليه، كان ما أخذه في مقابلة التأخير ربا، من جنس ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه.(14/16)
وقد ذكر العلماء: إن من كان له قرض عند رجل، أو عليه دين حال، فأهدى إليه صاحب الدين هدية قبل الوفاء، أنه لا يقبلها، بل يردها، فإن لم يفعل فليحسبها من الدين الذي له في ذمة المهدي.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا أقرض أحدكم أحدا قرضا، فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك 1.
قال عبد الله بن سلام، رضي الله عنه: إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت، فلا تأخذه فإنه ربا.
ومنها: ما يفعله كثير من الناس، يبيع الطعام نساء، فإذا حل ثمنه، أخذ عنه طعاما بسعر الوقت، وقد ذكر العلماء أن هذا لا يجوز، لأنه حيلة وذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نساء.
ومنها: ما يجري في بعض البلدان، إذا حل دين السلم، باعه صاحبه على الذي هو في ذمته قبل قبضه، فيبيعه ويربح فيه، وهو لم يقبضه، فهذا لا يجوز، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه ولا فرق بين من هو عليه، ولا غيره.
وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن 2 فإذا باع الإنسان طعاما على بائعه، فقد باعه
__________
1 ابن ماجه: الأحكام 2432.
2 الترمذي: البيوع 1234 , والنسائي: البيوع 4631 , وأبو داود: البيوع 3504 , وابن ماجه: التجارات 2188 , وأحمد 2/174 ,2/178 ,2/205 , والدارمي: البيوع 2560.(14/17)
قبل قبضه، وحصل له ربح في طعام لم يدخل في ضمانه، فصار في هذا مخالفة لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيع وأخذ ربح ما لم يضمن.
[مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه في مسألة الطلاق وخروج المرأة من بيت الزوج]
ومنها: ما يجري من كثير من الناس، من مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه، فإن الله قال {يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ ِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] .
فأمر تعالى: من أراد أن يطلق طلاق السنة، وذلك بأن تكون المرأة طاهرة طهرا لم يجامعها فيه، ونهى الزوج عن إخراجها من بيتها، الذي كانت فيه قبل الطلاق.
وأوجب عليها أن تعتد في بيتها، ونهاها أن تخرج، فلا يجوز للزوج أن يخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج، ولو تراضت هي والزوج على الخروج، فقال تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [سورة الطلاق آية: 1] .
وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق آية: 1] وكثير من الناس يتهاونون بهذا، مع هذا التغليظ الشديد فيه، وصار هذا عادة عند الأكثر، متى أراد الطلاق خرجت المرأة من بيت الزوج، واعتدت في بيت أهلها.
فالواجب عليكم تقوى الله تعالى، بامتثال الأمر والانتهاء(14/18)
عما عنه زجر، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن آية: 16] نسأل الله الكريم أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم، وأن يجنبنا وإياكم طريق المغضوب عليهم والضالين; وصلى الله على محمد وآله وصحبه الطاهرين وسلم، والسلام عليكم.
وقال الإمام سعود بن عبد العزيز رحمهما الله:
[الحث على قبول النصيحة وبيان ما وقع من الناس من الخلل في الصلاة والزكاة]
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله من الآفات، ووفقنا وإياهم لفعل الطاعات، وجنبنا وإياهم فعل المحظورات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موجب الخط 1 النصيحة لكم، والشفقة عليكم، والعذر من الله مما يتعلق بنا من حقوقكم، وعلينا الجهد، والتوفيق بيد الله، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] والنصائح كثرت، ولا أراها تثمر في كثير من الناس.
وأعظم النصائح، وأبلغ المواعظ، نصائح الرب، ومواعظه لعبيده، وتبيينه لهم سبحانه ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وتحذيره لهم، ما يضرهم في دنياهم وآخرتهم، ومن سمع القرآن وقرأه، فالذي قلبه حي، كفى بالقرآن واعظا.
والله سبحانه وتعالى من علينا وعليكم بدين الإسلام،
__________
1 أي: هذه الرسالة.(14/19)
وكل نعمة دون نعمة دين الإسلام، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على العبيد; وجمع الله لكم فيه بين خير الدنيا، ورجاء ثواب الآخرة; وأعطاكم به فوق ما تؤملون، وصرف به عنكم جميع ما تكرهون; وهو المحمود على جميع الأحوال.
فكونوا ممن يحدث عند النعمة شكرا، وعند المصيبة صبرا; وينفق مما أتاه الله في السراء والضراء; والشكر أعمال، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سورة سبأ آية: 13] .
وأكثر مما نخاف علينا وعليكم، عدم العمل بما نعرف، وهو المصيبة الكبرى، فلو يحصل العمل، بالشيء الذي يشهدون الناس; أن الله أوجبه، ولا يبقى تقصير إلا في الذي يجهلونه، تم الأمر، وهو مثل ما ذكر، من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم.
والذي أوصي به نفسي، وأوصيكم به: تقوى الله في السر والعلانية، وإخلاص جميع الأعمال لله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذان الأصلان هما جماع الدين، ولا يستقيم دين إلا عليهما، كما قال تعالى; {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
وأنتم تعلمون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، ومع كونه فريضة، حقق عليكم في العهد، كما قال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى(14/20)
بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [سورة الفتح آية: 10] .
ولو علمت أن هذا الفتور يجري منكم، ما أكدته عليكم في العهد، مع أن هذا شيء أوجبه الله، والعهد زيادة تأكيد، ولا لأحد عذر ليتعذر به من الله، إلا - والعياذ بالله - إن كان عدم ديانة، أو تغافلا من الذي فيه ديانة.
والدين مثل ما قال الله جل جلاله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر آية: 99] لابد من العمل به ما دام الروح في الجسد، وهذا ظاهر، ولا أحد تغير عن حاله، بقيام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأنتم تعلمون أنه ليس وقتنا هذا بأحسن من وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلداننا خير من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفهمون ما يقع فيها من العدد والأدب، فالنبي صلى الله عليه وسلم همَّ بإحراق البيوت على المتخلفين عن الصلاة مع الجماعة، وذكر صلى الله عليه وسلم أن ما منعه إلا من في البيوت من النساء والذرية.
وأنتم هؤلاء ترون ما وقع من الناس من الخلل في الصلاة، من التخلف عن صلاة الجماعة، وتضييع أهل الأطراف والنخيل الصلاة، وتركهم كلا يصلي على هواه، وتأخير أكثرهم الصلاة عن وقتها، والإساءة في الصلاة، من مسابقة الإمام فيها، ونقر الصلاة. وذكر المحسن في صلاته شريك للمسيء إذا لم ينهه.
وما وقع من خلل الناس في زكاتهم، ومن الناس من يخرج(14/21)
زكاة لا تجزي عنه، ومنهم من يمنعها، ومنهم من يبخل ببعضها.
وكذلك يذكر لنا في بعض البلدان: بخس المكاييل والموازين; وأيضا اجتماع الرديين في مقاهي ومعاشر، ولا يمنعون; وكذلك الربا في المبايعات; وأنتم تفهمون: تغليظ الرب تعالى في الربا، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [سورة البقرة آية: 276] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَوَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-281] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] .
واستحل كثير من الناس الربا بشبه، وهو مثل ما ذكر: لا تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل، ومثل ما ذكر: من استحل محرما فقد كفر، فالمستحل لهذا مخادع لله، والله(14/22)
أعلى وأجل {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 9] وصور البيع، ومداخله، تشرفون عليها - إن شاء الله - بخط آل الشيخ، نحن ما نعين الناس على المبايعة بها.
وأنا ملزم كل أمير، وكل مطوع، وكل صاحب دين يخاف الله ويرجوه، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقوم على الناس في جميع ما ذكرنا من المسائل التي ذكر، وغيرها من جميع المنكرات.
ويقومون على الناس في تعلم دينهم، وأداء ما فرض الله عليهم، وطلب العلم 1 وإلزام كل من يتخرج في طلب العلم، وتنشئة الصغار على تعلم القرآن، وكل أهل بلد يجعلون عندهم نسخة، فإذا جرى مبايعة فيشرفون عليها مطوع البلاد، ويكتب المطوع على المبايعة.
وأنا آمر هؤلاء الذين معهم الورقة، يختارون من كل أهل بلد ثلاثة أهل دين، وأنا ملزمهم بتتبع التجار، والفلاح، في مسألة المبايعة، ومن فعل شيئا مما بينا في هذه الورقة، فيبينون للأمير، فإن كان الأمير ما قام وأدب، أدبت الأمير وأدبت الفاعل؛ وهذه أمور وخيمة، وخطرها كبير في الدنيا والآخرة.
ولا والله حملني على هذا، إلا المشحة بكم، والخوف
__________
1 أي: يستطيع طلب العلم.(14/23)
من الله عليكم وعلي; والله جل جلاله قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 53] ونعوذ بالله من التغيير، ونسأل الله لنا ولكم العافية.
وأحاذر علينا، وعليكم من هذه الآية، التي ذكر الله سبحانه، وحذر عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أنها نزلت بعد الهجرة بأربع سنين، قوله تعالى: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة الحديد آية: 16] وقسوة القلب كفى بها من عقوبة، أعاذنا الله وإياكم من ذلك; وذكر: أن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي.
وأنتم ترون مثل ما قال الله جل جلاله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [سورة البقرة آية: 155-157] .
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] وقال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة التوبة آية: 126] وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء آية: 35] .
قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ(14/24)
قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 43-45] فلا جعلنا الله وإياكم أمثالهم وأشباههم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ومثل ما ذكر:"ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" قال الله تبارك وتعالى إخبارا عن نوح عليه السلام، قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [سورة نوح آية: 10-12] والتوبة لها شروط ثلاثة: الإقلاع من الذنب، والندم على ما فات، والعزيمة على ألا يعود، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقال الإمام: سعود بن عبد العزيز، رحمه الله:
[الحث على التوبة إلى الله والقيام بما أوجب]
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود بن عبد العزيز، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلمهم الله تعالى من الآفات، واستعملنا وإياهم بالباقيات الصالحات، وجنبنا وإياهم فعل المحظورات، ووقانا وإياهم السيئات، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/25)
وبعد، موجب الخط1: النصيحة لكم، والشفقة عليكم، والعذر من الله حيث استرعانا عليكم أنِّي أبذل لكم جهدي، في كل ما أقدر عليه خفاء وبيانا، فيما يصلح به أمر دينكم ودنياكم.
والله تعالى وجل ذكره، وتقدس اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره من علينا وعليكم بالحنيفية ملة إبراهيم، ودين محمد، عليهما أفضل الصلاة والسلام، وأعطاكم به من جميع المنح الربانية، ما لم تظنوا، والنعم الإلهية.
والله تبارك وتعالى قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] ، ونعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات، من غضبه وعذابه، وأليم عقابه، ونسأله أن يهدينا صراطه المستقيم [صراط] {الذين أنعم عليهم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [سورة النساء آية: 69-70] . وقد جاءكم نصائح كثيرة وأمر وإلزام، وأرى العمل قليلا، والمصالح عائدة لكم في الدنيا والآخرة، والمضار عائدة عليكم في الدنيا والآخرة.
وأعظم ما نوصيكم به، ونرغبكم فيه: وصية الله في الأولين والآخرين، وهي معرفة هذه النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة، دين الإسلام الذي ليس لله دين سواه، ولا يقبل من
__________
1 أي: هذه الرسالة.(14/26)
أحد دينا غيره، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] وقال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] وكما ذكر عن عمر رضي الله عنه حيث قال: إن للإسلام فرائض وشرائع وحدودا، فمن استكملها استكمل الإيمان وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [سورة البقرة آية: 208] .
والدين عمل، كما ذكر: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال; ولا بد من العمل بالدين والصبر على الأمر والنهي إلى الممات، إن شاء الله؛ ومواعظ القرآن كثيرة كافية.
ومن لا يتعظ بكلام الله لم يتعظ بغيره، ولكن أخوف ما أخاف علينا وعليكم من عدم العمل بما نعلم، ومن قسوة القلوب، ومن طول الأمل، ومثل ما ذكر عمر: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وكثرت عليكم المراسلات، والأمر والإلزام، وأنا أخاف علي وعليكم خوفا شديدا، من عدم العمل، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأترك بعض الأمر، خوفا من أمر يجب عليكم، فتقع به مضرة.(14/27)
وأنتم خابرون 1 أني ملزم الأمير، يقوم على الناس في أمور دينهم من حيث الجملة، من تعلم وتعليم، ويقوم على الناس في قمع من جرى منه شيء يستوجب، إن كان الأدب فيه حكم شرعي أو حدٌّ، لزمه الإمضاء، وإن كان أدبا غير أدب يعهده على قدر ما يردع أرباب المعاصي.
والقومة 2 على الناس في تفريق الرديين، وفي جمع الذي يدعى الدين، والقومة على الناس في أنواع التهم، والقومة على أهل مواقف التهم، والقومة عليهم في بخس المكاييل والموازين، ومن مداخلة الربا في البيوع، وبخس الزكاة، أو إعطائها من أرذل المال، وما جرى مجرى هذا.
والقومة في الجهاد، من إتمام السلع، والسلاح الطيب، والرجال الطيبين، والقومة على الخيل وتمام آلاتها.
وكذلك الجهاد الداخلي، من رهن الذهبة، والبناء على البلدان وغير ذلك; وأنتم خابرون أني ملزم كل من يخاف الله ويرجوه، القومة مع الأمير بهذا كله، فإن تردى الأمير، فالذي له دين يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينصح أميره بالقيام، فإذا ما قام الأمير، فيرفع لنا الخبر.
وأنتم تفهمون أن ما يجي بني آدم نقص، ولا قحط، ولا تسلط عدو، ولا غير ذلك من أنواع العقوبات والمصائب، إلا بسبب أفعالهم، وعفو الله أكثر.
وأنتم في شهر مبارك تقبل فية التوبة، وتقال فيه
__________
1 تعلمون.
2 أي القيام.(14/28)
العثرات، وتجاب فيه الدعوات، ومستقبله عند انقضائه - إن شاء الله - حج وجهاد في سبيل الله; فأنتم استعينوا بالله على أنفسكم الظالمة لكم، وقلوبكم القاسية، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، وإنا كنا لبئس العبيد {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
وقوموا بما أوجب عليكم إيمانا واحتسابا، واحذروا مخالفته، فإن مخالفتة دمار الدين، ونزول دار البوار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك; وهذه الأمور: اختبار من الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء آية: 35] .
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونسأله لنا ولكم الهداية، وبه التوفيق والحماية، عما يغضبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأنتم خابرون أني قد لزمت على كل أمير ناحية، يخص على خمسة عشر، أو أكثر أو أقل، من أهل بلدانه، ويلزمهم طلب العلم، لأنه أمر ضروري.
ومثل ما ذكر: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
ولا أعذر كل أمير ناحية، إلا عنده ناس مخصوصين،(14/29)
ويلزمهم طلب العلم، ويكتب لنا أسماءهم في ورقة، ونوصلهم - إن شاء الله - ما يعاونهم على معيشتهم، ويحتسبون الثواب عند الله، كما ذكر: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم.
وأيضا للمساكين في كل بلاد معزول لهم حقهم، الذي فرض الله لهم ربع الزكاة، وألزمنا نظراءهم يشرفون على ربع الزكاة في كل بلاد، ويفرق على الفقراء والمساكين.
ويذكر لنا أن بعض النظراء يحط الربع، أو شيئا منه، وفاء أو رفدا لأهل الأموال، وهذا أمر لا يحل ولا نرضى به، ولا نأذن به، لا أحد يأخذ منه شيئا، جديدة فما دونها، ولا بد منه يوحد للفقراء وللمساكين، ولا يعط منه إلا الأحوج ما يكون له، والسلام، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين.(14/30)
[التذكير بعظم نصائح الرب وأهمية الحب في الله]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأرضانا به دينا عن سائر الأديان، ورزقنا متابعة نبيه وخيرته من خلقه، محمد بن عبد الله، سيد ولد عدنان، وجعلنا نجاهد في سبيله على بصيرة، حتى يكون الدين كله لله ونطمس الأوثان، وله الحمد على ذلك حمدا كثيرا لا يحصى عده إنسان.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وصفاته التي لا يشبهه شيء من صفات الإنس والجان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، الذي اصطفاه واختاره على جميع كائن من كان.
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، صلوات الله وسلامه عليهم في كل وقت وزمان، وسبحان الله وبحمده عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضى نفسه، ومداد كلماته، وملء سماواته.
والله أكبر كبيرا، وأعلى قدرا وشأنا، ولا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره المشركون، من أهل الشرك والأوثان؛ واستغفر الله وأتوب إليه من جميع الذنوب، والخطأ والنسيان.(14/31)
من سعود بن عبد العزيز: إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله من الآفات، ووقاهم جميع المهلكات، وهداهم لفعل الطاعات، وجنبنا وإياهم فعل جميع المحظورات، ووسع علينا وعليهم من جميع الطيبات، وحمانا وإياهم عن الأهواء والضلالات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موجب الخط المحبة لكم، والشفقة عليكم، والنصح لكم، والمعذرة من الله; ووالله إني أحب لكم من الخير ما أحب لنفسي، وأكره لكم من الشر ما أكره لنفسي، وإن أعظم ما أحبه لكم، طاعة الله ورسوله، وأعظم ما أكره لكم معصية الله ورسوله، بها حصول خير الدنيا والآخرة، ومعصية الله ورسوله بها زوال الدنيا والآخرة.
والله جل جلاله وتقدست أسماؤه أعظم النعم علينا وعليكم، كما قال جل من قائل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] ولا نقدر نعد ما أنعم به من جلب كل خير، ودفع {كل شر وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [سورة إبراهيم آية: 34] وكل نعمة يجب فيها شكر، وكل شكر يحصل به المزيد وعدم الشكر يوجب ضده وكفر للنعم، ويحصل بكفر النعمة العذاب الشديد، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ولا ننصحكم وننصح أنفسنا بأعظم من نصائح رب السماوات والأرض، التي ذكر في كتابه، حيث قال جل من(14/32)
قائل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] وقال حاكيا عن عبده موسى عليه السلام: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 8] وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] وقال {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَ وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} : [سورة الأعلى آية: 10-12] .
فنذكركم ما ذكر الله به خير خلقه، بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة الأنفال آية: 26] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] فذكر الآيات، إلى قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] .
واعلموا أن أوثق عرى الإيمان، الحب في الله والبغض في الله، وكما ورد في الحديث: من أحب في الله وأبغض في الله، وعادا في الله، ووالى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يذوق عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك.
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ(14/33)
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} سورة الممتحنة آية: 4] إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] وقال تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] الآية وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] الآية.
واعلموا أن أعظم الخير أداء الفرائض وترك المحرمات، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية، إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة النور آية: 55 - 56] .
وفي الحديث: وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه.
وأعظم الفرائض - بعد التوحيد - الصلوات الخمس على مواقيتها، ولا يحصى ما في القرآن من الأمر بالصلاة(14/34)
والمحافظة عليها وإقامتها، فإن إقامة الصلاة غير كيفية الصلاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة آية: 43] في غير موضع من القرآن 1.
وقال في الذين لم يقيموا الصلاة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سورة مريم آية: 59-60] الآية.
وللصلاة شروط، وأركان، وواجبات، وسنن، لا تتم الصلاة على المشروع إلا بها، وترون فعل كثير من الناس في الصلاة، وعدم المحافظة عليها، وتضييع الجماعة أمر عظيم، نسأل الله لنا ولكم العافية.
ثم بعد الصلاة أختها وقرينتها في القرآن "الزكاة"واستحوذ الشيطان على كثير من الناس، وصار أناس كثير أهل أموال ولا يزكون، ويدعون أن ما عندهم شيء، وهم كاذبون، وقد يكون أن الله ينْزعه عنهم، ويقال وجبت، ويحرمونه في الدنيا. ويعذبون به في الآخرة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ
__________
1 النساء: 76 , الحج: 78 , النور: 56 , المجادلة: 13 , المزمل: 20.(14/35)
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة التوبة آية: 34] .
وفي الحديث: إن المال الذي لا تؤدى زكاته، يصفح صفائح من نار لصاحبه، وتمثل له شجاع أقرع، يأخذ بلهزمتيه، أو كما قال.
ومن الناس من يؤدي القليل من الكثير، ومنهم من يجعل زكاته وقاية لماله، في نوائب وغيرها; وأكبر من هذا وأطم الذين يحلون ما حرم الله، بالتأويل الفاسد الذي درجهم عليه الشيطان، حتى يقعوا فيما ذكر: من استحل محرما فقد كفر، واستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل.
والشيطان عدو بني آدم، ولا يسأم بما حصل به ورودهم النار، من [أي] باب كان، ومما أدرك الشيطان بخس المكيال والميزان؛ والله جل جلاله قال في كتابه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ الآيات، إلى قوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة المطففين آية: 1- 6] .
وقال تعالى عن نبيه شعيب، عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا} [سورة هود آية: 85] الآيات وبخس المكيال أو الميزان، من فعل الأمم المعذبين.
ومن ذلك: التجسس على كثير من أنواع الربا في المعاملات، وترديد الدَّين في الذمم، على الذين ليس عندهم وفاء، ويردد الدين بنفسه، زادا بزاد، وغير ذلك من أنواع الربا، ولو في المصارفة، وشراء الفضة بالفضة وغير ذلك.
والله تعالى، قال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}(14/36)
[سورة البقرة آية: 276] . {وقال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}
[سورة البقرة آية: 275] : يبعثون من قبورهم مثل المجانين. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] ومن ذلك: طلب المعسر وعدم إنظاره، والله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 280] ومن ذلك: مطل الغني الحق الذي عليه، لغني كان أو فقيرا، أو لأجير وغير ذلك; كما قيل: إن في إنظار المعسر أجر عظيم، ومطل الغني ظلم عظيم.
ومن ذلك: حق المرأة واليتيم، فاليتيم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [سورة النساء آية: 10] وكثير من الناس - والعياذ بالله - ما يتورع عن مال اليتيم. وأكثر من يأكل أموال اليتامى البضعاء، جمعوا بين الخيانة في الأمانة، وأكل أموال اليتامى ظلما، وحق المرأة ما كان لها من حقوق واجبة من صداق ونفقة.
وأخطر ما يكون فعل كثير من الناس، إذا أقفى 1 عن المرأة منع حقوقها، وقد يتحيل عليها بما يضيق عليها لعلها
__________
1 تخلَّى وترك.(14/37)
تخلي له، وهذا أمر منكر، ولا يبرأ من حقوقها على هذه الحال إذا عضلها.
قال الله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [سورة النساء آية: 19] ، وكذلك إخراجها من البيت، إذا كانت مطلقة، قبل انقضاء عدتها، فإنه لا يحل له ولا يحل لها، قال الله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [سورة الطلاق آية: 1] .
ومن أكبر البلوى وأعظم الدواهي: الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله وعدم التعاون على البر والتقوى، وعدم إنكار المنكر، قال الله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] ، وقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 63] .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، وهو سبب النجاة، قال لله تعالى في الذين احتالوا على الصيد: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] وأنتم تعرفون مع كونه فريضة، أنه مؤكد على رقابكم بعد، لابد أن يسألكم الله عنه، فالحذر الحذر من سخط الله وسطوته.
واعلموا: أن الله تبارك وتعالى يمتحن عباده، ويبلوهم بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً(14/38)
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء آية: 35] .
فالنعم غربال يختبر عباده فيها بالشكر، والمصائب غربال ويختبرنا فيها بالصبر، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ} شَكُورٍ [سورة إبراهيم آية: 5] {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [سورة المؤمنون آية: 30] .
فمن رزق الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، فهو عنوان سعادته، ومن صار بالضد، يبغي ويبطر مع الرخاء والنعم، ويسخط ويجزع مع الامتحان والنقم، فهذا عنوان شقاوته، أعاذنا الله وإياكم من غضبه وموجبات غضبه.
والله أنعم علينا وعليكم بالنعم والسعة، والنصر، والظهور، والمدافعة، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة آية: 11] ولا نقدر نعد ولا نحصى كم كف الله عنا أيدي أعدائنا قديما وحديثا؟ وكل عدو يَنْوِينَا بسوء، ركسه الله على أم رأسه، ولا يبني لنا بناء كيد إلا هدمه الله من أسّه.
وكل جريرة تجر على الإسلام وأهله، تصير عاقبتها خيرا للإسلام وأهله، وعزا وظهورا، وكسرا وخذلانا على من سعى فيها، كما أخبر الله بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ(14/39)
عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة الأنفال آية: 36-37] .
فإذا جرت هذه الأمور، صار الناس فيها درجات في الخير، ودركات في الشر، فالمؤمنون يقولون كما أخبر الله عن إخوانهم: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [سورة الأحزاب آية: 22] والمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً} [سورة الأحزاب آية: 12] وظنوا بالله ظن السوء، قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [سورة الأحزاب آية: 10] {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة الفتح آية: 6] .
والمصائب ما تقع إلا بالذنوب، وما يعفو الله أكثر كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] وأعظم ما تقع المصائب، والقحط، ومنع الغيث، وتسليط العدو، إذا وقع الخلل بما في هذه الورقة، من ترك الطاعات، وارتكاب المحرمات.
ومن أكبر الكبائر بعد الشرك بالله عقوق الوالدين، وصار هذا المنكر العظيم اليوم ما ينكر، ولا يعرف أنه منكر، ولا يعاب فاعله؛ وهذا مما عمت به البلوى، كون المعروف يصير منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة.(14/40)
وهذا من علامة لبس الحق بالباطل، كما في الدعاء: اللهم أرنا الحق حقا ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما.
وفي الحديث عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة، وجور السلطان. ولا منع قوم زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم
ومن أكبر الأمور: أن كثيرا من الناس برعم عليه الشيطان، وثقل عليه النفقة في طاعة الله وصدق الشيطان في وعده، والله تعالى يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 268] .(14/41)
صلى الله عليه وسلموقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 261] .
وقال تعالى في صفة المنافقين: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [سورة التوبة آية: 54-57] .
ووصل الحد إلى أن كثيرا من الناس ما يكفيه البخل، بل يأمر الناس به، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} [سورة النساء آية: 37-38] .
وصار كثير من الناس يقول: البلدان أضعفها نفقات الجهاد، وهذا القائل يخاف عليه من الكفر، فإنه رد قول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سورة سبأ آية: 39] ولقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 261] الآية.(14/42)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نقص مال من صدقة 1 ولا والله وبالله وتالله: ما نقص أحد بطاعة الله، ولا نقص إلا بطاعة الشيطان، ومخالفة أمر الله ورسوله، ومن ذلك كبار الناس أكثرهم ما يمشون في الجهاد في سبيل الله، وفي الجهاد فضل ما يحصى ذكر الله فيه، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأكثر الناس يخاف عليه من قول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [سورة التوبة آية: 46] الآية وأيضا أن المصيبة اليوم ما تعد ذنبا ولا تستنكر; قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [سورة آل عمران آية: 152] الآية.
وكثير من الناس يجعل في نب من نبوب الإسلام، مع غزو في نحر عدو، أو ثغر من ثغور الإسلام، ويلقى في البلدان، ولا يلقى من ينكر عليه، لا أمير ولا مأمور، وهذا من أعظم الجنايات وأكبر المعاصي.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 27] وهذا من أكبر الخيانة في الوديعة وغيرها. ومرادى بذكر هذا تبيين لكم، وتحذيركم من عقوبة الله، ومعذرة من الله واستجلاب للتوبة والاستغفار، وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.
[الحث على شكر ما أنعم الله به من النصر والتأييد]
وأيضا: تجددون شكر ما أنعم الله به عليكم من النصر
__________
1 الترمذي: الزهد 2325.(14/43)
والتأييد، فإن الشكر يحصل به ثبوت النعم والمزيد، ودفع النقم {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
ومن الشكر: التشمير عن الساعد في جهاد أعداء الإسلام، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأنتم - إن شاء الله - ماشون على بركة الله واسمه، على هلال ربيع الأول إن شاء الله، والممشى ممشى احتمال ومستنفر المسلمين، وماشين إن شاء الله.
وترى الممشى يبغى من يعتد له بكل آلة، وأعظمها وأهمها الزهبة وما يحتاج إليه صاحب الحرب، من الاستعداد الذي أمر الله به، حيث قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [سورة الأنفال آية: 60] والبواردية يحتسبون الزهبة والفتيل; واحتسبوا الصملان والركاب الطيبة، وترى وعد التثوير عندكم سريع، إن شاء الله، وأرهوا بالعوامل: الفواريع والفؤوس، والمساحي والمحافر، تراني أرجو أننا نهدم بها الأوثان، ونبني الثغور بأوطانهم، بحول الله وقوته; والخيل قوموا عليها، ولا يقعد منها شيء، ولا يقول أحد ما درينا، أو ما لب لنا أنّها العجلة، أو ركابنا رديئة.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولكم، من خير ما عنده، ونعوذ به من شر ما عندنا، ونسأله المعونة والتوفيق، لما يحب ويرضى، والسلام.(14/44)
[حث الإمام سعود بن عبد العزيز للإخوان من أهل الدرعية على الجهاد والأمر بالمعروف]
وله أيضا: عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود بن عبد العزيز، إلى الإخوان من أهل الدرعية، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: خصنا الله وإياكم بدين الإسلام، فصار غيركم تبعا لكم، ويقتدي بكم في أصول الدين وفروعه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من فرائض الدين.
ولا يستقيم دين، ويعبد الله على مراده، إلا بالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبلادكم صارت مجمعا للناس، وامتلأت من سائر البلدان، وحدث فيها أمور يكرهها الله ورسوله، ويغضب منها الذي فيه رائحة للدين، ويخاف من اليوم الآخر.
وأنتم اليوم: أسقطهم عن أنفسكم هذه الفريضة بسبب المداهنة وطلب رضى وجوه الخلق، وعدم الإيمان بالجزاء، والذي له دين ويؤمن بالله واليوم الآخر، ولو هو تحت يدي حاكم ظالم، يمنعه عن القول بالحق، وجب عليه الانتقال من بلاده، إلى بلد يقول فيها الحق ويأمر به، وينكر فيها المنكر وينهى فاعله.
والعاصي إذا بان لنا أمره، أقمنا عليه الحق بحول الله وقوته، ولا نناظر وجه شريف ولا وضيع، ما دام الله مبقينا، إن شاء الله تعالى.(14/45)
والذي أحاذر عليكم اليوم: معصيتكم الله في عدم إنكار المنكر، وعدم الغضب لله، وعلى طول هذه المدة، ما بلغني من خاص أو عام، قام لله، أو أنكر منكرا، أو رفع لي خبرا بخلاف أحد.
ولا دريتم أنكم خنتم العهد الذي أخذ منكم، وعصيتم ربكم في عدم إنكاركم المنكر؛ والعاصي عصى الله بارتكاب المعصية، والساكت عصى الله في عدم الغضب لله وعدم الإنكار عليه. ويخطر أن العاصي يعترف بالذنب ويتوب منه، والساكت ما يلب له أن هذا ذنب، وتتراكم عليه الذنوب من حيث لا يشعر، وعلقتونا بالفريضة، وأسقطتوها عن أنفسكم، ونحن نسأل الله أن يعيننا ويحتمل عنا.
فيكون عندكم معلوما أن الله موجب على كل مؤمن بالله واليوم الآخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولا يناظر 1 وجه خاص ولا عام; والأمر الذي تحبون رفعه إليَّ، وأدبه يصدر مني، ارفعوه إلي.
وقوموا بهذه الفريضة، وأدوها على الوجه المرضي، وأنا أبغي أتتبع كل من يتهم بالدين، والذي ما يتبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في دقائق الأمور وجلائلها أنا أؤدبه على الخيانة بالعهد، وإسقاط هذه الفريضة. وأنتم تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، وتسببوا
__________
1 أي: لا يراعي.(14/46)
بالأسباب التي ترضي الله عنكم، وتصير سببا لدفع العقوبات عنكم في الدنيا والآخرة.
وأنا خاص على الناس، ومعين عليهم، وأنا ملزم على كل من له دين، العمل بما ذكرت; والذي يقول: ما هو من حسبة أهل الدين، ولا له نصيب من الخير، نعرف ممشاه بسكوته وعدم الإنكار، ولنا فيه رأى يدبرنا الله عليه، إن شاء الله تعالى.
وأيضا: بلادكم يأتيها أفقية من كل مكان وجهة، ويروح أكثرهم، ما نعرف أن أحدا واجههم يدعوهم للإسلام، ويبين لهم التوحيد من الشرك، ويبين لهم الكفر من الإسلام، هذا - والعياذ بالله - من الحرمان، وعدم الإيمان بقوله صلى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.
والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .
وكل من ادعى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يدعو إلى ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم والخلل في هذه المسألة خلل واضح، ولا عليه صبر، وأنا ملزم عليكم تبدلون الممشى، والكل منكم يتوب إلى الله فيما بينكم وبينه، والسلام.(14/47)
[الحث على شكر نعم الله والتوبة إليه والصدقة]
وله: أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود بن عبد العزيز، إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله من الآفات، وجنبهم فعل المحظورات، ورزقنا وإياهم فعل الطاعات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
موجب الخط 1 المشحة بكم، والشفقة عليكم، والله تعالى أنعم علينا وعليكم بدين الإسلام، وكل نعمة تقصر دونه، وأعطاكم في ضمنه مالا بعددٍ لا بثمن، وغمركم بالنعم الجسيمة، كما قال تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] .
وصرف عنكم به من المحن، ما تعلمون وما لا تعلمون، فكونوا ممن يحدث عند النعمة شكرا، وعند المصيبة صبرا، ولينفق مما أتاه الله في السراء والضراء.
وقيد النعم الشكر، كما قال تعالى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم آية: 7] ، الآية وقال تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} : [سورة سبأ آية: 13] .
والشكر سبب لثبات الموجود، وجلب للمفقود، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} : [سورة النساء آية: 66-68] .
__________
1 أي: الرسالة.(14/48)
وفي الحديث: إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبد، وهو مقيم على المعاصي فإن ذلك استدراج؛ ونعوذ بالله من مكر الله، فإنه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف آية: 99] وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الرعد آية: 11] وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة والله تبارك وتعالى: يُري عبيده قدرته عليهم، وعفوه عنهم، لعلهم يرجعون.
والموجب لهذا: هذه الفتنة التي عمت الناس، ليريكم الله قدرته على الناس ودفعه، كما قال تعالى {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : [سورة التوبة آية: 126] ، والتوبة إلى الله والاستغفار، شعار الصالحين، كما قال عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً [سورة نوح آية: 10] إلى قوله: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [سورة نوح آية: 12] . وقسوة القلب سبب العطب والهلاك، في الدنيا والآخرة، قال تعالى {} : فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ إلى قوله: الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام آية: 43 – 47] فلا جعلنا الله وإياكم منهم، ولا أمثالهم.
والذي أوصيكم به تقوى الله في السر والعلانية،(14/49)
واستحضروا فناء الدنيا، وبقاء الآخرة، واللجوء إلى الله، والفرار إليه والاستغفار والتوبة، والإقلاع عن الذنوب التي تغضب الله، باطنا وظاهرا، كما قال تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} : [سورة الذاريات آية: 50] الآية.
وقدموا بين يدي توبتكم والاستغفار، صدقة لفقرائكم، يخص بها أهل المسكنة; واعلموا: أن الله الغني وأنتم الفقراء: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة البقرة آية: 110] الآية، وافطنوا لقوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [سورة البقرة آية: 268] الآية. وقال تعالى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} : [سورة سبأ آية: 39] الآية.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا وفي الحديث الثاني، أنه: يطلع مع الشمس كل يوم ملكان، أحدهما يقول: اللهم أعط منفقا خلفا، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا 1 وتجزلوا فإن الله أكرم من خلقه، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [سورة الزلزلة آية: 7-8] وقولوا كما قال الأبوان: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [سورة الأعراف آية: 23] الآية. وقولوا، كما قال ذو النون عليه السلام: لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ [سورة الأنبياء آية: 87] الآية.
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنك عفو تحب
__________
1 البخاري: الزكاة 1442 , ومسلم: الزكاة 1010 , وأحمد 2/347.(14/50)
العفو فاعف عنا، اللهم يا سميع الدعاء، ويا ذا الأيادي العُلَى، عالم السر والنجوى، إنا نلتجئ إليك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وكل إمام مسجد يقرأ الكتاب على جماعته، ويكتب صدقتهم، وورقة المسجد يعطاها إمام المسجد، والسلام.(14/51)
[رسالة الإمام عبد الله بن سعود إلى الأمراء والمطاوعة وغيرهم في الحث على قبول النصائح وإقامة الدين]
وقال الإمام: عبد الله بن سعود، رحمهما الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن سعود: إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، الأمراء، والمطاوعة، والذين يدعون، وعامة المسلمين، سلمهم الله تعالى من الآفات، واستعملهم بالباقيات الصالحات، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخط: النصيحة لكم، والشفقة، وقيام الحجة عليكم، والمعذرة من الله، إذا وقفت أنا وأنتم بين يديه، في يوم تشخص فيه الأبصار.
والله تبارك وتعالى من علينا وعليكم بدين الإسلام، والجهاد في آخر عمر الدنيا; وإلا غيركم، فخلّى بينه وبين عبادة الأحياء والأموات; وأنتم صانكم الله من عبادة غيره، ووفقكم لتوحيده.
وفي هذه المدة كبيركم - قدس الله روحه - يعاقب عليكم الكتب والنصائح، ولا صار لها تأثير، وهذا من أعظم العقوبات عليكم، إذا ذكرتم ما تذكرتم، وإذا وعظتم ما انتفعتم.
وهذه صفات من ذم الله في كتابه، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} [سورة الصافات آية: 13] وقال تعالى:(14/52)
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [سورة الأعلى آية: 10-12] أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ومر علينا قراءة في هذه الأيام، ونسخناها لكم، وفيها ما يعظ القلب الذي فيه حياة; فيكون لديكم معلوما أن أهم ما علينا جهاد أنفسنا، والتسبب فيما يصلح ما تحت أيدينا، ويصير سببا لزوال الباطل من أوطاننا، وهذا أوجب علينا من جهاد عدونا.
وبالحاضر الذي له دين، ويؤمن بالله وباليوم الآخر، يتوب إلى الله، ويعرف أنه قد أسقط فريضة من فرائض الدين، وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا لأحد حجة ولا عذر، ولا نعلم أحدا ترك شيئا من دنياه مداراة لأحد، ولا حياء من أحد.
وأما الدين جعله أكثر الناس صلحة عن دنياه، وخاب وخسر من آثر دنياه على رضى مولاه; فيكون عندكم معلوما أني ملزمه وموجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وكل بلاد فيها طائفة أهل دين: يجتمعون، ويصيرون يدا واحدة، وأميرهم ومطوعهم; والأمير يصير حربة لأهل الدين، ويشد عضدهم، ويحمي ساقتهم، ويطلق أيديهم; والمطوع يوازر الأمير، ويقوم مع أهل الدين، ويبث العلم في جماعته، ويحضهم على المذاكرة.(14/53)
والأمير الذي يبغي الإمارة شيخة، ولا يرضى أن غيره يأمر بالحق، وينهى عن الباطل، فذاك نعرف أنه شيخ، ومدور 1 ملك، ما هو يدور دينا وحقا، ولنا فيه أمر ثان.
والذي غرضه الدين يبدل الممشى، ويصنف جماعة الدين، ويقوم حقهم، ويظهر وقارهم، ويجعلهم بطانته وأهل مجلسه ورأيه، ويبعد أرباب الفسوق والمعاصي، ويقوم عليهم بالأدب الذي يزجرهم; ونرى أكثر العيب اليوم حادثا من حاشية الأمراء، حين غفلوا عمن تحت أيديهم، وتركوهم يلعبون بأيديهم وأرجلهم في البلدان.
وأهل الدين أنا مقدمهم، ومطلق أيديهم، ومانع الأمراء لا يمنعون أهل الدين عن القول بالحق والأمر به، ومن وقف في أعين أهل الدين فيحسب على الفسالة 2، لا أمير عامة ولا أمير قرية، ولا قدمنا الأمراء إلا ليقدموا الحق ويقدموا من قام به.
وبلغنا الخبر أن بعض الأمراء متسلط على من يدعي الدين، بأمور ظاهرها حق، وباطنها مغشة وأدب، ولا يفعل هذا أمير مع أهل الدين، فأدعه في الإمارة يوما واحدا، فكل يأخذ حذره، ويبدل الممشى، ومضى ما فيه كفاية.
ونذكركم، قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
__________
1 أي: طالب ومستشرف.
2 أي: الرداءة والخبث.(14/54)
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [سورة الحج آية: 41] .
وليس منكم أحد إلا والله سبحانه مقدره.
وقال تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} : [سورة آل عمران آية: 104] ، والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست بخفية، ولا يصد عنها إلا طاعه الشيطان، واتباع الهوى.
والله تعالى حذر من اتباع الهوى، ومن طاعة الشيطان، قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} : [سورة فاطر آية: 6] وقال تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} : [سورة القصص آية: 50] وقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [سورة النجم آية: 23] وغير ذلك من الآيات، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الحث على تقوى الله وأداء الفرائض والتحذير من الربا]
وقال الإمام تركي بن عبد الله رحمهما الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من تركي بن عبد الله، إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم، والشفقة عليكم، والمعذرة من الله إذ ولاني أمركم، والله المسؤول المرجو أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر،(14/55)
وإذا أذنب استغفر، والله منعم يحب الشاكرين، ووعدهم على ذلك المزيد، قال تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} : [سورة إبراهيم آية: 7] .
فالذي أوصيكم به تقوى الله تعالى في السر والعلانية، قال تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} : [سورة النور آية: 52] ، وجماع التقوى أداء ما افترض الله سبحانه، وترك ما حرم الله.
وأعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، لا يخفاكم ما وقع من الخلل بها، والاستخفاف بشأنها؛ وهي عمود الإسلام، الفارقة بين الكفر والإيمان، من أقامها فقد أقام دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر وصية كل نبي لقومه، وهي آخر ما يذهب من الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة.
وبعض الناس يسيء في صلاته، وأحد يتخلف عن الجماعة ويصلي وحده، أو في نخله هو ورجاله، والمسجد جار له، وفي الحديث: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد؛ وهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم بالنار، لولا ما فيها من النساء والذرية.
وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وهذه أمور ما يخفى عليكم وجوبها، لكن الكبرى عدم إنكار المنكر، وتزيين الشيطان(14/56)
لبعض الناس: أن كلا ذنبه على جنبه; وفي الحديث: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليعمنكم الله بعقابه
وكذلك الزكاة، بعض الناس يتخفون بها - والعياذ بالله - يبخل بها، فإن أخرجها جعلها وقاية دون ماله، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة آية: 34-35] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار 1 ثم ذكر مانع الزكاة من الإبل والبقر والغنم.
وكل مال ما يؤدي زكاته، فهو كنْز يعذب به صاحبه; والنصاب تفهمونه، وعروض التجارة، مثل الطعام الذي يدخره صاحبه، ولو الزرع مزكى، إذا مضى عليه الحول، أو ثمنه، وجبت فيها الزكاة، وكل ما أعد للتجارة يقوم عند الحول، ويزكيه صاحبه.
والله تعالى يبتلي الغنى بالفقير، وأعطاكم وطلب منكم
__________
1 مسلم: الزكاة 987 , وأبو داود: الزكاة 1658 , وأحمد 2/262 ,2/383.(14/57)
اليسير، فمن مكر بها فالله خير الماكرين، ومن أداها فنرجو الله أن يقبلها منه، ويخلفها عليه.
وكذلك الربا تفهمون أنه من أكبر الكبائر، وأن مرتكبه محارب لله ورسوله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران آية: 130] وقال تعالى {لَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] .
وفي الحديث، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء 1 فدل هذا الحديث: أن السكوت والرضا بالمعصية معصية، وأن من لم ينكر على العاصي، أو المرابي فهو مثله.
وفي حديث آخر: الربا سبعون بابا، أيسرها مثل من ينكح أمه 2 وفي حديث آخر: أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه وفي حديث آخر ما ظهر الربا والزنا في قرية، إلا أذن الله بهلاكها 3.
__________
1 النسائي: الزينة 5103.
2 ابن ماجه: التجارات 2274.
3 أحمد 1/402.(14/58)
ومن أنواع الربا:
الطعام بالطعام إلى أجل، وبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والتفرق قبل القبض، أو بيع الملح بالطعام قبل القبض.
وفي الحديث: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، يدا بيد، وزنا بوزن، كيلا بكيل، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء. فإذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد 1.
ومنه: القرض الذي يجر منفعة ; وفي الحديث كل قرض جر منفعة فهو ربا. وكذلك قلب الدين بالدين على المعسر، إذا كان في ذمته دراهم، وعجز أن يوفيه، كتبها عليه سلما بطعام، وهذا يشبه ربا الجاهلية: إما أن تعطي وإما أن تربي. وكذلك بيع العينة - وهي حرام - إذا كان عند رجل سلعة، فاشتراها منه إنسان إلى أجل، ثم اشتراها صاحبها الذي باعها بنقد دون ثمنها; وأنواع الربا ما يمكن حصرها. فأنتم تَفهّموا بدقائق الربا لئلا تقعوا فيه، والجاهل يسأل العالم، والخطر عظيم في سخط الرب ويمحق المال; فأنتم استعينوا بالله، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
__________
1 مسلم: المساقاة 1587 , والترمذي: البيوع 1240 , والنسائي: البيوع 4560 ,4561 ,4562 ,4563 ,4564 , وابن ماجه: التجارات 2254 , وأحمد 5/314 , والدارمي: البيوع 2579.(14/59)
وكذلك المكاييل والموازين، وأنا ألزم كل أمير يحضر المكاييل، كبارها وصغارها، ويقطعونها على مكيال واحد.
وكذلك الموازين الكبار والصغار، اقطعوها على ميزان واحد، وتفقدوا الناس في كل شهر، ولا يحل بخس المكيال والميزان، ولو كانت المعاملة مع ذمي، كما في الحديث: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. 1 وكذلك تفقد الناس عن المعاشر الفاسدة، والناس الذين يجتمعون على شرب التتن والنشوق به; وكل أهل بلد يرتبون الدرس في المجامع، فإن كانت خاربة يعمرونها، والذي يعرف بالتخلف عن مجالس الذكر يرفعونه لنا. وأنا مطلق الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وينصح أولا، ويؤدب ثانيا، ومن عارضه خاص أو عام، فأدبه الجلاء من وطنه، وهذا من ذمتي في ذمة من يخاف الله، واليوم الآخر.
وأنا أشهد الله عليكم: أني بريء من ظلم من ظلمكم، وأني نصرة لكل صاحب حق، وعون لكل مظلوم {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وأعزكم بعد الذلة، وجمعكم بعد الفرقة، وأمنكم بعد الخوف، وكثركم بعد القلة، وبالإسلام أعطاكم الله ما رأيتم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والسلام.
__________
1 الترمذي: البيوع 1264 , وأبو داود: البيوع 3535 , والدارمي: البيوع 2597.(14/60)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي في الحث على التناصح والتذكير بنعم الله]
وقال شيخ إلإسلام، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين:
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإمام المكرم: فيصل بن تركي، سلمه الله، وهداه آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: الواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة، ما لا يحيط به إلا الله عز وجل وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة.
ولله حق وعبودية على خلقه، بحسب وسعهم وقدرتهم، ولذلك كان على ولاة الأمور، ورؤساء الناس المطاعين فيهم، ما ليس على عامتهم وسوقتهم، وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل، وقبول ما جاؤوا به.
وكل شر في الدنيا والآخرة، إنما حدث ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به من النور والهدى؛ وهذه الجملة شرحها يطول، وتفاصيلها لا يعلمها إلا الله، الذي لا يعزب عن علمه {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ(14/61)
وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ ذفِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 3] .
والسير والاعتبار والاستقراء، والقصص والشواهد، والأمثال النقلية والعقلية، تدل على هذا وترشد إليه، وبعض الأذكياء يعرف ذلك، في نفسه وأهله وولده ودابته، قال بعضهم: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي.
واللبيب يدرك من الأمور الجزئية والكلية، ما لا يدركه الغبي الجاهل، ويكفي المؤمن قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [سورة الانفطار آية: 13-14] فإن هذه الآية يدخل فيها كل نعيم، باطنا وظاهرا، في الدنيا والآخرة، وفي البرزخ.
وقد قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] الآية، ويدخل في هذا كل شيء من المصائب، والجزاء، حتى الشوكة، والهم والحزن؛ لكن المؤمن يثاب على ذلك، ويكفر عنه بإيمانه، كما دل على ذلك الحديث.
إذا عرف هذا فكثير من الناس يعرف أن المصائب والابتلاء حصل بسبب الذنوب، ويقصد الخروج منها والتوبة، ولا يوفق، نعوذ بالله من ذلك؛ وذلك لأسباب؛ منها: جهله بالذنوب ومراتبها وحالها عند الله; ومنها: جهله بالطريق التي تخلصه منها، وتنقذه من شؤمها وشرها(14/62)
وتبعتها، ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، وما يخلص منه إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق، إجمالا وتفصيلا.
فإنه الواسطة بين العباد وبين ربهم في إبلاغ ما يحبه ويرضاه، ويريده من عباده، ويوجب السعادة والنعيم والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي إبلاغ ما يضرهم ويسخط ربهم، ويوجب الشقاوة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فكل طريق غير طريقه مسدود على سالكيه، وكل عمل ليس عليه رسمه وتقريره، فهو رد على عامليه.
وقد عرفتم - أرشدكم الله تعالى - أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبتهم الضلالة، عربهم وعجمهم، إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب.
فأول دعوته صلى الله عليه وسلم ورسالته، وقاعدة نبوته: رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة منهم؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض.
ومكث عليه الصلاة والسلام مدة من الدهر، نحو العشر بعد النبوة، يدعو إلى هذا، ويأمر به، وينهى عن الشرك، وينذر عنه، وفرض الفرائض وبقية الأركان بعد ذلك منجما; لأن هذا هو أهم الأمور، وأوجبها على الخلق، كما(14/63)
في الحديث: ر أس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 1.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله، ويرسل رسائله إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى هذا، يبدأ به قبل كل شيء؛ ولا يأمر بشيء من الأركان، إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ لما أرسله إلى اليمن، وغيره من الأحاديث.
وفي أوقاتنا بعد العهد بآثار النبوة، وطال الزمان، وكاد الزمان يشبه زمن الفترة، لغلبة الجهل، وشدة الغربة; وقد من الله تعالى في هذه الأقطار بشيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، فقام في تجريد التوحيد، وتمهيد قواعد الملة أتم قيام، حتى ظهر بحمد الله منار التوحيد والإسلام، وآزره علي ذلك من أسلافكم وأعمامكم من آزره، رحمة الله عليهم أجمعين.
وبعدهم حصل من الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده، وفرضه على سائر عبيده، وقل الداعي إلى ذلك، والمذكر به والمعلم له في القرى والبوادي.
والتغافل والتساهل في هذه الأصول العظام، التي هي آكد مباني الإسلام، يوجب للرعية أن يشب صغيرهم، ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية، لا يعرف الأصول الإيمانية، والقواعد الإسلامية، والله سائلنا وسائلك عن ذلك كل بحسب قدرته وطوقه.
__________
1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/237.(14/64)
والجهل والظلم غالب على النفوس، ولها وللشيطان حظ عظيم في ذلك، والنفوس الجاهلية المعرضة عن العلم النبوي يسرع إليها الشرك والتنديد، أسرع من السيل إلى منحدره.
والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل أموال الله التي بأيديكم آلة له، ووقاية وحماية وإعانة؛ فإن هذا من أفرض الفرائض وألزمها، ولم تشرع الإمارة والإمامة إلا لأجل ذلك والقيام به.
وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة، والأئمة على ذلك؛ وزوال الإسلام وانقضاؤه بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصودا بها سواه، من العلو والرياسات والشهوات.
وكذلك وقع في آخر بني العباس ما وقع من الخلل والزلل، واشتدت غربة الإسلام، وظهرت البدع العظام، وأظهر الكفر أعلامه وشعاره، وبنيت المساجد على القبور، وأسرجت عليها السرج، وأرخيت عليها الستور، وهتف أكثر الناس في الشدة بسكان القبور، وذبحوا لها القرابين ونذرت لها النذور.
وبنيت الهياكل للنجوم، وخاطبها بالحوائج كل مشرك ظلوم؛ وسرى هذا في الناس حتى فعله من يظن أنه من الأخيار والأكياس، وكثير منهم يظن أن هذا هو الإسلام،(14/65)
وأنه مما جاء به سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام. وهل وقع ذلك وصار، على تطاول الدهور والإعصار، إلا بسبب إهمال الرؤساء والملوك الذين استكبروا في الأرض، ولم يرفعوا رأسا بما جاءت به الأنبياء، وقنعوا بمجرد الاسم والانتساب من غير حقيقة، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [سورة غافر آية: 47] الآية.
فأهم المهمات، وآكد الأصول والواجبات، النظر في هذا، وتفقد الرعية الخاصة والعامة، البادية والحاضرة، لأنك مسؤول عنهم، والسؤال أولا يقع عن الدين قبل الدنيا.
وفي الحديث: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وفي الصحيح كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا به؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم عليه.
ففتش عقائدهم، وانظر في توحيدهم وإسلامهم، خصوصا مثل أهل الأحساء والقطيف، فقد اشتهر عنهم ما لا يخفاك، من الغلو في أهل البيت، ومسبة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه. وكونهم يسرون ذلك ويخفونه، لا يسقط عنك وجوب(14/66)
الدعوة والتعليم، والنصح لله بظهور دينه، وإلزامهم به، وتعليم صغارهم وكبارهم، فإنك مسؤول عن ذلك، والحمل ثقيل، والحساب شديد.
وفي الطبراني: أن عمر بن الخطاب، استعمل بشر بن عاصم على صدقات هوازن، فتخلف بشر، فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا عليك سمع وطاعة؟ قال: بلا. ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين، أتي به يوم القيامة، حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر، فهوى فيه سبعين خريفا، فرجع عمر كئيبا حزينا، جعلك الله من الذين يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب.
ومن الدعوة الواجبة، والفريضة اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية وغيرهم، وأكثر بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين، مثل الظّفير وأمثالهم، فيجب جهادهم، ودعوتهم إلى الله.
وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف الناس في الله، وفي الحديث: مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة 1.
وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقوم لله على من
__________
1 البخاري: الجهاد والسير 2787.(14/67)
نسب عنه طعن وقدح، في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدعون الإسلام، ويتكلمون بالشهادتين؛ وهذا الجنس ضررهم على الإسلام، خصوصا على العوام، ضرر عظيم يخشى منه الفتنة.
وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين، وزيغ الزايغين، بل تجده - والعياذ بالله - سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب: لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة.
فإذا تيسر - إن شاء الله - الاهتمام، والقيام بهذا الأصل العظيم، فينظر بعد هذا في أحوال الناس، في الصلوات الخمس المفروضات، فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء.
وقد قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] فيلزم جعل نواب، يأمرون بما أمر الله به ورسوله، من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه كسل أو ترك أو إهمال، أدبا يردع أمثاله،(14/68)
وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال.
وبعد هذا يلتفت إلى النظر في الزكاة الشرعية، وواجباتها على الوجه الشرعي، من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل، رجل له معرفة بالحدود الشرعية، والأحكام الزكوية؛ ويحذر من الزيادة عما شرعه الله ورسوله، فلا يؤخذ إلا ما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه، وحال حوله، وكثير من العمال يخرصون جميع الثمار، وإن لم تنصب، وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ورسوله، فيه ظلم بين، وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه.
وكذلك ما يتبع الزكاة من النائبة، قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غنى عما منع وحرم، ومن الواجب على ولي الأمر ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه، إن حصل تسديد من الله ومنّ بتوفيق من عنده.
وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف، من الأعشار لا يليق، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين، ويلزم ولي الأمر - أيده الله - أن يلزم التجار الزكاة الشرعية قهرا، ويدع ما لا يحل; ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر؛ فإن الله ميزها في كتابه، وقسمها، فلا يحل تعدي ذلك وخلطها، بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا، ولهذا مصرفا.
ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله،(14/69)
وإعطاء كل ذي حق حقه، أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء، ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال.
ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى 1، ويعطون ما فرض الله ورسوله، من الحق في الفيء والغنيمة، فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمراد بهم من عرف التوحيد والتزمه.
وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الدين، وهذا أمر يعرفه كل عالم.
وفي الحديث: إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق، ليس له يوم القيامة إلا النار 2 عافانا الله وإياكم من النار، وأعمال أهل النار.
وكل من أخذ ما لا يستحق، من الولاة والأمراء، والعمال، فهو غال، كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره حتى قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته فرس، لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته شاة لها أعار، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك،
__________
1 يعني: آل بيته صلى الله عليه وسلم.
2 البخاري: الزكاة 1472 , ومسلم: الزكاة 1035 , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2463 , والنسائي: الزكاة 2531 ,2601 ,2602 ,2603 , وأحمد 3/434 , والدارمي: الزكاة 1650 والرقاق 2750.(14/70)
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته نفس، لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك; لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول، فقال: هدايا العمال غلول 1. فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام; ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: هممت أن أضع الجزية على من ترك الحج. وبعض السلف يكفر من تركه; وأمر الرعية بذلك، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لا يسع تركه.
وكذلك القيام على الناس، ومنعهم عن التعدي في الدماء، والأموال، وقطع السبل، وهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله، فإن لم ينتهوا إلا بغزوهم،
__________
1 أحمد 5/424.(14/71)
لزم الإمام أن يبعث السرايا لحربهم.
ولما تعرض الفجاءة السلمي للناس، يأخذ ويقتل، من مسلم وكافر، بعث أبو بكر الصديق جيشا، فظفروا به، فأحرقه بالنار، ويذكر عن حسان أنه قال:
وما الدين إلا أن تقام شريعة ... وتأمن سبل بيننا وشعاب
وكذلك ما حدث من الدفنان للبادية، إذ أخذوا المسلمين، وقتلوا، لما فيه من ترك حقوق المسلمين، في الدماء والأموال، مع القدرة على استيفائه، والقيام بالعدل الذي أمر الله به ورسوله، كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} : [سورة النساء آية: 58] ، فتأمل هذه الموعظة، وما ختمها الله به من هذين الوصفين العظيمين.
وقد قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ، فالواجب على من نصح نفسه ألا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم يفعل، وقع في خطر عظيم، من تقديم الآراء والأهواء، على شرعة الله ورسوله، قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
والله ما خوفي الذنوب فإنها ... لعلى طريق العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من ... تحكيم هذا الوحي والقران
ورضىً بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بنعمة الرّحمن(14/72)
ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس عن الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به، ممن له غيرة لدين الله وأمانة.
وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء عن الخروج، إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها، من زوج أو قريب أو غير ذلك.
وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم وغير ذلك، مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربما يقع فيها من فساد ما يدرى عنه، وأكثر الناس ما يبالي ولو فعل ما نهى عنه، وفي الحديث ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء 1.
وفي الحديث أيضا: ما ظهرت الفاحشة في قوم، إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم 2. نعوذ بالله من عقوبات المعاصي، ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وكذلك التوسع، في لبس الحرير، وما زاد على المباح، وهو ما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ونص على تحريمه؛ ولا يجوز تتبع الرخص.
ومن الأصول التي تدور عليها الأحكام دائما: الأعمال بالنيات، وحديث: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد 3.
__________
1 البخاري: النكاح 5096 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2740 ,2741 , والترمذي: الأدب 2780 , وأحمد 5/210.
2 ابن ماجه: الفتن 4019.
3 مسلم: الأقضية 1718 , وابن ماجه: المقدمة 14 , وأحمد 6/270.(14/73)
وحديث إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات اسبترأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه 1.
فكل أمر ينبغي لذوي العقول: أن يتركوا ما تشابه منه، مما قد يقع فيه خلاف من بعض العلماء، فلا ينبغي أن يرخص لنفسه، في أمر قد ظهرت فيه أدلة التحريم؛ فاجتنابه من تقوى الله تعالى وخوفه، وتركه مخافة الله من الأعمال الصالحة التي تكتب له حسنات.
ومما يجب النهي عنه: الإسبال، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: ما أسفل من الكعبين فهو في النار 2، وفي الحديث: بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة 3، وكذلك التشبه باليهود والمجوس، في ترك الشوارب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم: بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس، فقال صلى الله عليه وسلم احفوا الشوارب، واعفوا اللحى، خالفوا اليهود؛ والذي فيه دين ورغبة في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين.
__________
1 البخاري: الإيمان 52 والبيوع 2051 , ومسلم: المساقاة 1599 , والترمذي: البيوع 1205 , والنسائي: البيوع 4453 والأشربة 5710 , وأبو داود: البيوع 3329 , وابن ماجه: الفتن 3984 , وأحمد 4/267 ,4/269 ,4/270 ,4/271 ,4/275 , والدارمي: البيوع 2531.
2 أبو داود: اللباس 4093 , وابن ماجه: اللباس 3573 , وأحمد 3/6 ,3/97.
3 البخاري: اللباس 5789 , ومسلم: اللباس والزينة 2088 , وأحمد 2/267 ,2/390 ,2/413 ,2/456 ,2/467 ,2/493.(14/74)
وكلماّ ما أمر الله به ورسوله، فينبغي للعبد أن يمتثل ويسمع ويطيع، لما في ذلك من المنافع الكثيرة، وما في خلافه من الإثم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] .
فعلى الإمام أن يأمر النواب، من رأوه تاركا للأمر أن يقوموا عليه، ويلزموه بالطاعة، حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين؛ ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين، من أهل الجفا والغلظة، والغفلة والإعراض - نسأل الله العفو والعافية - فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان، وعدم الرغبة فيه.
وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدى للطلب، لقلة العلم وكثرة الجهل، وإن كان قد قام ببعض الواجب، فينبغي له أن يهتم بهذا، لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه.
فإن أكثر من يطلب العلم فقراء، ويحتاجون إلى الإعانة على فقرهم، لما يكون لهم فيه سعة، وطلب العلم اليوم من أفرض الفرائض، كما لا يخفى الإمام وغيره، وفي الحديث: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالما ومتعلما وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب.(14/75)
فإذا كثر العلم، وقل الجهل، حصل بسببه من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله، إن قبله. وبالغفلة عن طلب العلم، تضعف هممهم، ويقل طلبهم؛ وفي مناقب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى أنه إذا أراد أن يحيي سنة، أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى هذا، فلله دره! وما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم؟! وهذا الذي ذكرنا من الأمور البينة التي ينبغي التنبيه عليها بخصوصها.
وأما الأمور التي بين الله وبين العبد، التي فيها صلاح القلوب، ومغفرة الذنوب، من إتعاب النفس فيما يحبه الله ويرضاه، مما يقع له وعليه، فهذا باب واسع، ولا يدرك هذا إلا من جعل الله له رغبة في كتابه، ومعرفة صفة أهل الإيمان والتقوى، الذين أعد الله لهم الجنة، ويجاهد نفسه على ذلك فعلا وتركا.
وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر الذنوب، التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره، وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه، محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه.
ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله وأهل طاعته، ويعادي أعداءه وأهل معصيته، وما توفيقي إلا(14/76)
بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي في التذكير بنعمة الإسلام والحث على القيام به]
وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وعليه نتوكل، ونعتمد.
من عبد الرحمن بن حسن، إلى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين، في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي، جعله الله في عدادهم، متبعا لسيرهم وآثارهم، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، اعلم أن الله أنعم علينا وعليكم، وعلى كافة أهل نجد، بدين الإسلام، الذي رضيه لعباده دينا، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه، دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفى عليهم ما خلقوا له، من توحيد ربهم، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه.
ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم، إلا بمعرفة هذا الدين، وقبوله، والعمل به، ومحبته، واستفراغ الوسع في ذلك، علما وعملا، والدعوة إليه، والرغبة فيه، وأن يكون أكبر همِّ الإنسان ومبلغ علمه، ليحصل له النعيم المقيم الأبدي، والسرور السرمدي.(14/77)
وقد وقع أكثر من أنعم الله عليهم بهذه النعمة، في التفريط في شكرها، بالغفلة عنها، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها، والاشتغال بما يشغل عنها، من الرغبة في الدينا، والإقبال عليها، والتحدث بها، والعمل بموجبها، ما لا يخفى على ذوي البصائر.
وقد ذم الله تعالى في كتابه أهل الغفلة والإعراض - أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبيلهم - قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} : [سورة الأعراف آية: 179] .
فعلينا وعليكم: أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه، ببذل الجهد والاجتهاد بالنصيحة لجمع المسلمين بتذكيرهم ما أنعم الله به عليهم من الدين، وتعليمهم ما يجب عليهم تعليمه، مما فيه صلاحهم وفلاحهم ونجاحهم، وسعادتهم ونجاتهم من شرور الدنيا والآخرة.
وقد قال تعالى {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : [سورة التوبة آية: 126] فإذا كان هذا في أناس في عهد النبوة، والقرآن ينْزل، فمن بعدهم أحرى بأن يكونوا كذلك.
فيجب على من أقدره الله من المسلمين أن يقوم(14/78)
بنصيحة العباد بهذا الدين علما وعملا، ودعوة إليه، وتعلما وتعليما، ولا يخفى أن العامة تتبع الخاصة، فيما أحبوه وقالوه وعملوا به.
وقد حذر الله عباده من عقوبات الدنيا والآخرة، وعن الإعراض عما خلقوا له، كما قال تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} : [سورة الذاريات آية: 50] وقال تعالى {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [سورة غافر آية: 18] .
وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] وعلينا: أن نحذر ونحذر عما حذرنا الله تعالى عنه، من التفريط في طاعة الله وطاعة رسوله، والقيام بدينه كما ينبغي.
وبسبب الغفلة عن هذا الأمور الواجبة، وقع كثير من الناس في أشياء مما لا يحبه الله ولا يرضاه، كما لا يخفى على من نظر بنور الله; وقد قال تعالى {: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] والفساد: المعاصي، وآثارها في الأرض.
لكن كما قيل: إذا كثر الإمساس، قل الإحساس، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وموجبه الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا صلاح للعباد في دينهم ودنياهم إلا بالقيام بحقه.(14/79)
واليوم ما في البلدان من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، إلا على ضعف، وفي تركه الوعيد الشديد، وفعله علامة الإيمان، وهو من فروض الكفايات، إذا قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين، وإذا لم يحصل القيام بذلك أثموا كلهم.
قال تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] . وقال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين، لأن فرض العين تخص عقوبته تاركه، وفرض الكفاية تعم عقوبتة كل من كان له قدرة.
فأوصيكم معشر الإخوان - من الخاصة والعامة - أن ترغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأن تهتموا به كاهتمامكم لدنياكم، لتسعدوا وتسلموا وتغنموا؛ والشأن كل الشأن في الاهتمام بما يرضي الله عنكم، ويدفع الله به عنكم، عقوبات الدنيا والآخرة.
وعلى الإمام - وفقه الله - أن يبعث للدين عمالا، كما يبعث للزكاة عمالا، ليعلموهم دينهم، ويأمروهم وينهوهم؛ وهذا مما يجب على الإمام، أعانه الله على ذلك، ووفقه للقيام بوظائف الدين، نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، وللمسلمين، سنة الخلفاء الراشدين.(14/80)
وأوصيكم بالتوبة إلى الله، عما فرطتم فيه من العمل بدينه، وتعلمه وتعليمه، وتكميله؛ فإن الله تعالى أكمله لكم، وهو أعظم نعمة أنعم بها عليكم، فالله الله في الأخذ بأسباب الفلاح والنجاة! وعلى كل منكم أن يحاسب نفسه لربه، قبل القدوم عليه، والرجوع إليه؛ ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية وعلم.
فاشكروا الله تعالى على ما أعطاكم، ومنَّ به عليكم من دين الإسلام، وما حصل به من النعم التي لا تحصى، وقد خطب نبيكم صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأنذرهم وحذرهم، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فاحذروا واحذروا فإن الأمر عظيم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سورة سبأ آية: 46] .
قال بعض العلماء، في قوله: أَنْ تَقُومُوا فيه وجوب القيام لله فيما شرعه وأمر به، وقوله: لِلَّهِ فيه التنبيه على إخلاص العبد في قيامه لربه وطاعته، فجمعت هذه الآية العمل بالتوحيد وحقوقه ولوازمه، والقيام بذلك جدا واجتهادا.
ويشبه هذه الآية، قوله تعالى {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [سورة إبراهيم آية: 42] إلى قوله {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ(14/81)
دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} : [سورة إبراهيم آية: 44] .
فجمع تعالى الدين كله في هاتين الكلمتين: نُجِبْ دَعْوَتَكَ فيه التوحيد، لأنه الذي دعا إليه ودعت إليه رسله; وفي قوله: وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ العمل بكتابه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم لأن من اتبع كتابه ورسوله فقد اتبع الرسل جميعهم.
فمن عمل بهاتين الكلمتين، فيما كان طاعة لله ولرسوله، فقد فاز ونجا، وحصل ما تمناه المفرطون يوم القيامه; فالله الله في الاهتمام بهذا الشأن، والقيام به حسب الإمكان! وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ومما يدفع الله به العقوبات، ويزيد به الحسنات: الصدقة على الفقراء والمساكين، كما قال تعالى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} : [سورة الحديد آية: 7] .
وقال تعالى {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل آية: 20] وقد ورد: باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها والحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة 1 وفي الحديث اتقوا النار ولو بشق تمرة 2.
والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة، وهي من الباقيات الصالحات، وقد قال تعالى {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
__________
1 مسلم: الصيام 1151 , والنسائي: الصيام 2215 , وابن ماجه: الصيام 1638 , وأحمد 2/414 ,2/443 , والدارمي: الصوم 1770.
2 البخاري: الزكاة 1417 , ومسلم: الزكاة 1016 , والنسائي: الزكاة 2552.(14/82)
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} : [سورة الكهف آية: 46] .
صلى الله عليه وسلمنسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، والعون على مرضاته، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، بالتوبة النصوح، والإيمان والعمل الصالح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد.
[إشارة الإمام فيصل بن تركي إلى نصيحة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في التذكير بنعمة الإسلام والقيام به]
قال الإمام فيصل بن تركي، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى من وصلت إليه هذه النصيحة وسمعها، أن يعمك بما ذكر فيها، ولا لأحد عذر إلا من منع أو ردع، فلا يعذر حتى يبلغنا، فإذا بلغنا من منعه فهو معذور.
والموجب: أن حوائج الناس ما تقف عنا; القوي يوصل حاجة الضعيف، ويعين عليه، بذكر حاله، ولا بأس في هذا، ويثاب عليه، وليكن الذي لله أعظم وألزم.
فأنتم توكلوا على الله، وافعلوا ما أمركم به، وأتمروا به، وتناهوا، وليكن ذلك على علم وحلم، فإن جبنتم، فالله حسيب عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد.(14/83)
صلى الله عليه وسلم [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي يظهر فيها محبته له والشفقة عليه ومذكرا له ما كان عليه أسلافه]
وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالف أمرك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، اللهم هذا الجهد وعليك التكلان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
من محبكم الداعي لكم بظهر الغيب، عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن الإمام فيصل بن تركي، ألزمه الله كلمة التقوى، ووفقه للقيام بما هو أقوم وأقوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
موجب الخط أبين لك ما أنت خابر 1، من أمر دعوة الإسلام، التي منَّ الله بها في آخر هذا الزمان، بموجب النصيحة للإمام، المشوبة بالمحبة والشفقة والخوف، وكنت - والله يعلم صدقي بما قلته أني - أحبك، وأقدمك في المحبة على من مضى، من حمولتك وحمولتي.
واليوم الذي أجتمع بك فيه عندي يوم سرور، ولا عندي لك مكافاة إلا بالدعاء والنصح باطنا، وأكثر من
__________
1 أي: تعلم.(14/84)
يجتمع بالإمام ما يجي أمر النصيحة له على بال، وبعضهم ما يحسن النصيحة، ولا يعرف وجهها، وبعضهم غرضه دنياه، وهمته موقوفة عليها، وقد قال الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-3] . ولا يسلم من الخسران إلا أهل العلم ومعرفته، وقبول الحق ومحبته والانقياد في طاعته، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر على ذلك، ومن نقص في ذلك ناله من الخسارة بحسب ذلك.
ولا يخفاك أن الله من عليكم بدين الإسلام في آخر هذا الزمان، برجل واحد خالف فيه الأدنى والأقصى، والقريب والبعيد، لأنه قام في حال غربته، لما اشتدت غربة الإسلام في جميع الأماكن، والناس كلهم إلا من شاء الله، لا يعرفون معنى لا إله إلا الله.
واشتد نكير الناس عليه، العامة والمطاوعة، وحذروا الملوك منه، وشنعوا عليه في التوحيد الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وخلق الجن والإنس له، وصار أقرب قريب له: ابن معمر أمير بلاده، لما عرف عداوة الناس له، أرخص له عن البلد.
وصار رحمة ونعمة عظيمة لكم يا حمولة 1، وتلقاها جدك رحمه الله وأهلك وخواص; وأعانهم الله على عداوة أهل الأرض في هذا الدين، ولا عندهم أموال يبذلونها، لكن
__________
1 أي: يا معشر الأسرة، حيث يمدح شيخ الإسلام ومن ناصره من الأئمة.(14/85)
بذلوا نحورهم وأنفسهم، وأرخصوها لله في طلب رضاه، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
ولا مقصدهم إلا أن الناس يتركونهم يوحدون الله، ولا يعارضونهم عند التوحيد، ولا حصل من الشيوخ بنجد وأتباعهم، وضدهم في غاية القوة، وهم في غاية الضعف والقلة.
فأيدهم الله بدينه، وكل عدو يقصدهم يكسره الله، وما زالوا كذلك حتى ملكهم الله جزيرة العرب بهذا الدين، وهم في تلك السنين معافيهم الله في أبدانهم، حتى إن الأمراض العامة لا تعرف فيهم.
ولهم سيرة، أذكرها لك من غير مجازفة دائما في كل وقت، يبعثون الدعاة إلى الله، إلى كل بلدة، يجددون لهم دينهم، ويسألونهم عن ثلاثة الأصول، والقواعد، وغير ذلك من كتب الأصول، أعرف منهم نحو العشرة.
منهم: عبد الله بن فاضل، وعبد الرحمن بن ذهلان، وراشد بن درعان، وعثمان بن عبد الله بن عبيكان، وحمد بن قاسم، وأحمد الوهيبي، وسليمان بن ماجد، ومحمد بن سلطان وأولاده، وحسن بن عيدان، ومحمد بن سويلم، وعبد العزيز ابن سويلم، وعثمان العود، وعبد الرحمن بن نامي، وعبد الرحمن بن خريف، وأمثال هؤلاء من لهم فقه في التوحيد، ورغبة فيه.(14/86)
وكل واحد من هؤلاء يروح لجهة، ومعه اثنان أو ثلاثة، ويجلس في البلد قدر شهرين، يسألهم ويعلمهم، والذي ما يعرف دينه يؤدب الأدب البليغ ما يعارض، فإذا أراد السفر استحلق أهل الدين من أهل البلد، وقال: سلموا على الكبار، ويعرف الشيخ، وعبد العزيز، وإخوانهم بأحوالهم.
ويقدمونهم في بلدهم، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا صار للدين سلطان وعز، وهذا ما يفعلونه دائما مع الرعايا، وصار الذي له دين يقوم بالدين ويأمر وينهي، والذي ما له دين يتزين عند أهل الدين.
وأما حالهم في بلدهم الدرعية، فبنوا مجمعا - حول مسجد البجيري - محله معروف إلى اليوم، يسع له قدر مائتي رجل، وجعلوا فيه رفا للنساء، فإذا صلوا الصبح أقبلوا لهذا المجمع، وفيه "معاميل"1 وقهوة وما نابها، مقيوم به من بيت المال.
تارة يجلس فيه حسين بن الشيخ، وتارة عبد الله، وتارة علي، ويقرؤون في نسخ التوحيد، فإذ فرغ هذا الدرس، راحوا هم وغيرهم، وجلسوا عند بيت الشيخ، حتى يجيء عمك وجدك، وسعود وعياله، وآل عبد الله، ويدخلون عند الشيخ رحمهم الله.
فإذا تقهووا، وذكر عمك، رحمه الله للشيخ ما عنده من خبر، أو أمر يحتاج له الشيخ ذكره له، وأخذ ما عنده من رأي ومن علم، وأرخصوا للجماعة، وقرأ ثلاثة:
__________
1 أي: أواني شرب القهوة والشاي.(14/87)
عبد العزيز بن الشيخ يقرأ في تفسير ابن كثير، وعلي وعبد الله يقرآن في البخاري، وكل من عنده دراية وفهم، إذا فاضوا في الباطن صاروا حلقا، يتذاكرون درس الشيخ رحمه الله.
والأجنبي الذي يبغي يركب لديرته، يصغي للمذاكرة، عارف أن أهل ديرته يسألون: إيش درس الشيخ فيه؟ وقد ذكرت لك قصة إبراهيم بن زيد، في تلك المدة، وموسى بن حجيلان، يمشي على المساجد يسألهم عن ثلاثة الأصول والقواعد.
ونحن يا حمولة، لنا مجلس بين العشاءين في الباطن، يجتمعون فيه أهل البلاد، ونسأل اثنين، والذي ما يعرف دينه يضرب، فأول يجلس فيه حسين، ثم علي بن الشيخ، وجلست فيه مدة نحو سنتين أو ثلاث على هذا الترتيب، ثم حمد بن حسين، هذا بعض ما حضرناه من سيرتهم.
فلما توفى الله عمك، حصل غفلة عن هذا الترتيب، لما فتح الله الدنيا، وكثرها على الناس، ووقع الإعراض عن كثير مما ذكرنا، لا كله، بل باق له بقايا، وحدث ما حدث من البلاوي بالعدو، وذا شيء أنت خابره، ورد الله لكم الكرة، أنت ووالدك رحمه الله، وعادت البلوى الأولى، وعافاك الله منها ومكنك غاية التمكين، وتسببت في حفظ أموال الناس، ورفع أيدي البوادي، وهذا عمل صالح، ومن الواجبات.
ولكنك أصبحت اليوم في جيل غفلوا عن دينهم، إلا(14/88)
من شاء الله، وهم الأقلون، وأقبل الناس على دنياهم، لها يوالون، وعليها يعادون; فهم وإن صلوا وصاموا، فقد أعرضوا عن التوحيد، تعلما وتعليما، وصار أكثرهم خصوصا أهل المناصب والولايات وأتباعهم، وأكثر الناس ليس له إخلاص ولا متابعة، كل يحوم إلى ما يراه ويشتهيه.
وأنت اليوم جعل الله لك القدرة على تجديد هذا الدين، تولي له وتعزل له، وتغضب له، وترضى له، وتبعث الدعاة والسعاة لكل بلد، وتقدم لله وتؤخر لله وتبعد لله، لا يدخل عليك في هذا هوى أحد يخل بالإخلاص، والمتابعة.
وتفهم حديث عائشة رضي الله عنها: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس 1.
وقد قال تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] ونظائرها في "المائدة" و"الكهف" و"طه" و"النجم"وغيرها من القرآن.
جدد هذا الدين الذي اخلولق، لما أقدرك الله على ذلك، والتمس من أهل الخير عددا يدعون إلى هذا الدين، ويذكرونه الناس، ويعلمونه الجاهل والغافل; وبالله التوفيق،
__________
1 الترمذي: الزهد 2414.(14/89)
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وأنت سالم والسلام.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي في فتنة خالد والعسكر، والحث على تقريب من يحبهم]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المحب المكرم: فيصل بن تركي، ألهمه الله رشده، ووقاه شر نفسه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد تعلم: أن نصيحتي لك نصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم; لأن بصلاحك يقوم الدين، ويصلح أكثر الناس، وفي الحديث: الدين النصيحة قالها ثلاثا; قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1، وقد جعل الله لأهل الإيمان نورا يمشون به في الناس.
وهذه البلوى التي ابتلى الله بها أهل نجد، من فتنة خالد والعسكر 2 وقبله إبراهيم باشا; ميز الله بها أهل نجد، طيبهم وخبيثهم، وتفاوتت مراتبهم في الشر، والزيغ والفساد، وكثرت السفاهة والقسوة; ولا تخفى حالهم إلا على من لا بصيرة له، كما قال تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.
2 أي: خالد بن سعود, وعسكر الترك.(14/90)
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة آل عمران آية: 179] .
وقال تعالى {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة الأنفال آية: 37] . وقال تعالى {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1 - 11] ، وهذا أمر مشاهد لمن جعل الله في قلبه نورا.
وقد وسم الله المنافقين بأقوالهم وأعمالهم، وجعل الله أهل الإيمان شهداء على الناس، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 105] .
فيجب على من ولاه الله أمر الدين والدنيا أن لا يتهم من أقامهم الله شهداء على الناس، وهو يعلم منهم محبة الإسلام ومحبة أهله، وبغض الباطل وأهله; فكيف لا تقبل شهادة من أقامهم الرب شهداء في أرضه على أعمال خلقه، وقد قال في المؤمنين والمهاجرين {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [سورة الأنفال آية: 72] . وقال: و {الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] .
ومن الفساد الكبير: - على ما ذكر العلماء - ضعف الإيمان، وقوة الباطل; وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة الكافرين والمنافقين، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا(14/91)
تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [سورة الأحزاب آية: 1] .
صلى الله عليه وسلمعليما بما يصلح عباده، حكيما في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ولما كان التحذير: من أولئك، من أهم مقامات الدين، قال الله تعالى {لنبيه وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49] . وقال {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] . وقال: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [سورة طه آية: 16] .
وفي الأثر: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضا الله بسخطهم وقال تعالى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سورة القلم آية: 35-36] ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الجاثية آية: 21] .
فالمساواة بين أهل الأهواء والزيغ والمعاصي، وجعلهم في رتبة أهل الإيمان، أو فوقهم، خلاف ما أحبه الله، وأمر به عباده; وهو في نفسه فساد، وذلك سبب سخط الله، وحلول عذابه.
فعليك بقرب من إذا قربتهم قربك الله وأحبك، وإذا نصرتهم نصرك الله وأيدك; واحذر أهل الباطل الذين إذا(14/92)
قربتهم أبعدك الله، وأوجب لك سخطه، قال تعالى {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [سورة الأحزاب آية: 17] .
وفي الحديث: من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا 1. وقد رأينا عجبا أن من التفت إلى أحد دون الله، خذله الله به، وسلطه عليه; قال العلماء رحمهم الله: قضى الله قضاء لا يرد، ولا يدفع: إن من أحب شيئا دون الله عذب به، ومن خاف شيئا دون الله سلط عليه.
وأنت تجد وترى كثيرا من الناس، قدمهم ولاة الأمر في شيء من أمورهم، فتعززوا على الناس، وتجاسروا على الأهواء، ومخالفة الشرع في أقوالهم وأعمالهم فخافهم أهل الدين، فمنهم من ذل لهم واعتذر بعدم القدرة، ومنهم من استصلح دنياه خوفا من كيدهم.
وأنت تجد هؤلاء إذا ظهرت حالهم كابروا العقول بزخرف من القول والكذب، واستعانوا على إفكهم بأمثالهم محافظة على العلو والفساد. فلو وفق الإمام بالاهتمام بالدين، واختار من كل جنس أتقاهم وأحبهم، وأقربهم إلى الخير، لقام بهم الدين والعدل، فإذا أشكل عليه كلام الناس، رجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك 2
__________
1 الترمذي: الزهد 2414
2 الترمذي: صفة القيامة الرقائق والورع 2518 , والنسائي: الأشربة 5711 , والدارمي: البيوع 2532.(14/93)
فإذا ارتاب من رجل، هل كان يحب ما يحبه الله؟ نظر في أولئك القوم، وسأل أهل الدين: من تعلمونه أمثل القبيلة أو الجماعة في الدين، وأولاهم بولاية الدين والدنيا؟ فإذا أرشدوه إلى من كان يصلح ذلك، قدمه فيهم.
ويتعين عليه أن يسأل عنهم من لا يخفاه أحوالهم، من أهل المحلة وغيرها، فلو حصل ذلك لثبت الدين، وبثباته يثبت الملك; وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم، يزول الملك، ويضعف الدين، ويسود القبيلة شرارها، ويصير على ولاة الأمر، كفعل من فعل ذلك.
فالسعيد من وعظ بغيره، وبما جرى له وعليه; وأهل الدين هم أوتاد البلاد ورواسيها، فإذا قلعت وكسر، مادت وتقلبت، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
ولكن رواسيها وأوتادها هُمُ
فأنت إذا فعلت ما قلت لك، قام بك الدين والعدل، وصارت سنة حسنة في هذا الزمان، ونلت أجر من أقام السنة، كما في الحديث: من سن سنة حسنة، كان له أجرها وأجر " من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجرهم شيء" 1، فإن انعكس الأمر كما هو الواقع، كانت سنة سيئة " عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " 2.
ومن المعلوم أن النفس تميل إلى الراحة، وطلب رضى الخلق، وفي النظر فيما يرضي الله، مخالفة للخلق أو
__________
1 مسلم: الزكاة 1017 , والترمذي: العلم 2675 , وأحمد 4/360 , والدارمي: المقدمة 512.
2 مسلم: الزكاة 1017 , والترمذي: العلم 2675 , والنسائي: الزكاة 2554 , وأحمد 4/357 ,4/358 ,4/360 , والدارمي: المقدمة 514.(14/94)
بعضهم، ولكن طريق الجنة حزن بربوة، واقرأ قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] ، وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سورة البقرة آية: 44] . وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وقوله: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُو} ا [سورة سبأ آية: 46] .
فإذا عرف أن العبد لا يأتيه ما يكره، إلا من شرور نفسه، وسيئات أعماله، وأن نواصي الخلق في قبضة الرب تبارك وتعالى، وأن قلوبهم بين إصبعين من أصابعه، أفادك القيام بدينه، والأخذ في أسباب ذلك، والحب فيه والبغض فيه، والتقرب له والإبعاد لأجله، وجعلت أفعالك تطابق أمره الشرعي الديني، وتتحرى مرضاته في كل قول وفعل، وتقديم أو تأخير، أو غير ذلك.
فلو صلح تدبير الإمام فيما ولاه الله من الحاضرة، أصلح الله البوادي وغيرهم، فإن الأعمال حجة لك أو عليك; وأنت سالم والسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(14/95)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام فيصل بن تركي يحثه فيها على العلم ويذكره بأهل العلم وحالة الناس]
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: فيصل بن تركي، سلمه الله تعالى، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفاك أن حقك علي كبير، وأكبر منه حق الله تعالى علي وعليك، ويجب علي النصح لك وللمسلمين باطنا وظاهرا، وأنت بارك الله فيك أحسنت أحسن الله إليك، ولا لك مكافأة إلا بالدعاء والنصح باطنا وظاهرا.
وأنت اليوم حاجتك إلى العلم ضرورة في خاصة نفسك، وفيما ابتليت به، من أمور الخلق، والعلم بالنظر إلى أحوال الناس، ما بقي معهم إلا رسمه، كما قال عبد العزيز ابن الماجشون - وهو من أكابر علماء القرن الثاني -: قد والله عز المسلمون، الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر.
فإذا كان هذا حال القرن الثاني، فما ظنك بأهل هذه القرون، الذين عاد المعروف فيهم منكرا، والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، والبدع فشت فيمن يدعى العلم، حتى اعتقدوا في ربهم وخالقهم، ما يتقدس عنه ويتعالى، سبحان الله عما يصفون.
وهذا في حق من عرفه، إذا كان حازما ناصحا لنفسه،(14/96)
استيقظ في طلب ما ينجيه ويسعده، في دنياه وأخراه، من العلم النافع، والعمل الصالح، ويكون مبنى أقواله وأفعاله، على الإخلاص والمتابعة، على علم ومعرفة ويقين.
فمبنى العبادة على محبة المعبود غاية المحبة، في غاية الذل والخضوع، كما قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
فالمحب لله قلبه يخشع، وعينه تدمع; يحاسب نفسه بالإخلاص، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا هو دليل المحبة، كما قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] .
وهذا هو الصراط المستقيم، لا يعرفه السالك ولا يهتدى إليه، إلا بالكتاب والسنة، علما وعملا، ومحبة وطلبا، كما في حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
وهذا لا يدرك إلا بالعلم النافع; والعلم النافع لا يدرك إلا بالدخول من باب التواضع، والاعتراف بالجهل والتفريط.
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعين على ما حمل من أمور الناس، بقرب أهل العلم(14/97)
، وتقريبهم إليه، وكان يقرب ابن عباس على صغر سنه، لعلمه بالتأويل، وقد كان وقافا عند كتاب الله تعالى.
ومن سعادة العبد أن يتخذ له إخوان صدق، ممن له علم ودين، يذكرونه إذا نسي، ويعينونه إذا ذكر، كما قال بعض السلف: عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم - يعني بالعلم النافع والعمل الصالح - فإنهم زينة في الرخاء، عدة في البلاء، يأنس بهم أصحابهم في هذه الدار، وفي القبور، ويوم البعث والنشور.
وهم الحجة بين يدي الله تعالى، حال العرض على الله، وهم الذين قرن الله توليهم، بتوليه وتولي رسوله، كما قال تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 55-56] .
وهذه أمور متلازمة، لا يكون الله تعالى وليا لعبد، حتى يكون الرسول له وليا، ويكون المؤمنون هم أولياءه، دون كل من عداهم.
وقد وصى الله تعالى نبيه بالصبر معهم، فقال {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28] .(14/98)
ولهذا كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، لما في الحديث الصحيح: أوثق عرى الإيمان، الحب في الله، والبغض في الله 1.
وفي الحديث الآخر: من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك.
وهم الذين وصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا جاؤوه: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 54] .
بشرهم عن ربهم بالمغفرة من ذنوبهم، إذا تابوا إليه وأنابوا، ووصاه بهم في قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [سورة آل عمران آية: 159] وبه تتم مصالح الدنيا والدين; وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية: 215] .
وفي العلم: بما وصى الله به نبيه من ذلك صلاح أمر الدنيا والآخرة; فارغب وفقك الله فيما رغب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فيه.
وأنت اليوم تستعين بكل صانع في صنعته التي يحسن، وتدور الطيب من السلع، والطيب من العلم والإيمان،
__________
1 أبو داود: السنة 4599.(14/99)
والدين أنت له أحوج، من جميع ما تحتاج إليه; واختر لنفسك من تستعين به على طاعة الله، وبراءة ذمتك، بالعمل بالمشروع، في الدقيق والجليل، حتى تسلم وتغنم.
وقد رؤي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موته، فقال له الرائي: ما فعل الله بك؟ قال: كاد عرشي لينهد، لولا أني لقيت غفورا رحيما.
فاحرص على العلم وأهل العلم، واجعل بالك لهذه الآية {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56] فلا غلبة إلا بهذا السبب العظيم، الذي من انتظمت له هذه الثلاثة، غلب من ناوأه وعاداه، من قريب أو بعيد؛ لأنه صار مع حزب الله، لهذه الثلاثة: توليه ربه بالإخلاص، وخشيته، وطاعته، وتوليه رسوله بمحبته واتباعه، وتوليه المؤمنين بمحبته لهم وقربه منهم، ودنوهم منه، وإكرامهم، والتواضع لهم بخفض الجناح، وغير ذلك مما يجب لهم من الحقوق التي تجب لهم دون غيرهم.
واطلبهم ولو في أطراف البلاد، واطلب ما عندهم مما يعينك على هذا السفر، فإن العبد في هذه الدنيا مسافر، محتاج إلى أخذ الزاد والمزاد للمعاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد، 1281 هـ.(14/100)
[التناصح في دين الله تعالى، والتذكير بنعم الله وأيامه]
وله أيضا قدس الله روحه: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يراه من أئمة المسلمين وعامتهم، سلمهم الله تعالى، وهداهم آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فالواجب علينا وعليكم، التناصح في دين الله تعالى، والتذكير بنعم الله وأيامه; فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة، ما لا يحيط به إلا الله، وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل، وقبول ما جاؤوا به، وكل شر في الدنيا والآخرة، إنما حصل ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به، وبعض الأذكياء، يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته.
قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي، ويكفي المؤمن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [سورة الانفطار آية: 13-14] .
وقد عرفتم، أرشدكم الله تعالى: أن الله بعث محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الضلالة، عربهم وعجمهم،
__________
1 وهي قريبة في مضمونها وألفاظها من رسالته إلى الإمام فيصل بن تركي المتقدمة قريبا.(14/101)
إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب.
فأول دعوته صلى الله عليه وسلم رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض.
وهذا هو أهم الأمور، وأوجبها على الخلق، كما في الحديث: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 1. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله ويرسل رسائله إلى أهل الأرض ويدعوهم إلى هذا، يبدأ به قبل كل شيء؛ ولا يأمر بشيء من الأركان، إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ، لما بعثه إلى اليمن، وغيره من الأحاديث.
وقد حصل في الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس، فيما أوجبه الرب من توحيده، وفرضه على سائر عبيده؛ وقل الداعي إلى ذلك والمذكر به، والمعلم له، في القرى والبوادي.
والتساهل في هذه الأمور العظام يوجب للرعية أن يشب صغيرهم ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية؛ والله سائلنا وسائلكم عن ذلك، كل بحسب قدرته وطوقه، والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل أموال الله التي بأيديكم، آلة ووقاية وحماية وإعانة.
__________
1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237.(14/102)
وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة والأئمة على ذلك؛ وزوال الإسلام والإيمان، وانقضاؤه: بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصود بها سواه.
فأهم المهمات، وآكد الأصول والواجبات: التفكر في هذا، وتفقد الخاصة والعامة، البادية الحاضرة، وفي الحديث: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته 1.
ومن الدعوة الواجبة، والفرائض اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية وغيرهم; وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف الناس في الله.
وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدعون الإسلام ويتكلمون بالشهادتين.
وهذا الجنس ضرره على الإسلام، خصوصا على العوام، ضرر عظيم، يخشى منه الفتنة؛ وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين، وزيغ الزائعين بل تجده - والعياذ بالله - سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
__________
1 البخاري: النكاح 5200 , ومسلم: الإمارة 1829 , والترمذي: الجهاد 1705 , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء 2928 , وأحمد 2/5 ,2/54 ,2/111 ,2/121.(14/103)
لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة.
فإذا تيسر لكم الاهتمام والقيام بهذا الأصل، فينظر بعد هذا في أحوال الناس، في الصلوات الخمس المفروضات، فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث: أول ما تفقدون من دينكم الأمانه، وآخر ما تفقدون الصلاة، وكل شيء ذهب آخره، لم يبق منه شيء.
وقد قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البينة آية: 5] .
فيلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله، من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه كسل، أو ترك أو إهمال، أدبا يردع أمثاله، وعلى أئمة المساجد: تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال.
وبعد هذا يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات وجبايتها، على الوجه الشرعي، من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية، والأحكام الزكوية؛ ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله، فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه وحال حوله.
وكثير من العمال يخرص جميع الثمار، وإن لم(14/104)
تنصب، وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله، فيه ظلم بيِّن، وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه; ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله، فينبغي التفطن لهذه الأمور، لئلا يقع فيها وهو لا يدري.
وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام، وبعض السلف يكفر من تركه، وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكذلك القيام على الناس، ومنعهم عن التعدي في الدماء والأموال، وقطع السبل، فهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله 1. فالواجب على من نصح نفسه ألا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء والأهواء على شرع الله ورسوله.
ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان، والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به من له غيرة لدين الله وأمانته، وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء من الخروج، إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها، من زوج أو قريب ونحو ذلك.
__________
1 يشير إلى ما تقدم في قضية الدفنان في استيفاء الحق منهم انظر صفحة 70.(14/105)
وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم، وغير ذلك، مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربما يقع فيها فساد ما يدرى عنه، وأكثر الناس ما يبالي ولو فعل ما نهى عنه، وفي الحديث: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء 1.
وفي حديث آخر: ما ظهرت الفاحشة في قوم، إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن بأسلافهم الذين مضوا 2 نعوذ بالله من عقوبات المعاصي، ونسأله العفو والعافية.
ومما يجب النهي عنه: الإسبال كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار 3. وفي حديث آخر: بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة 4.
وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس; فقال صلى الله عليه وسلم: حفوا الشوارب واعفوا اللحى، خالفوا اليهود. والذي فيه دين ورغبة في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود، والمجوس، والمتكبرين.
وعلى الإمام أن يأمر النواب من رأوه تاركا للأمر أن
__________
1 البخاري: النكاح 5096 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2740 , والترمذي: الأدب 2780 , وابن ماجه: الفتن 3998 , وأحمد 5/210.
2 ابن ماجه: الفتن 4019.
3 البخاري: اللباس 5787 , وأحمد 2/461.
4 البخاري: اللباس 5789 , ومسلم: اللباس والزينة 2088 , وأحمد 2/267 ,2/390 ,2/413 ,2/456 ,2/467 ,2/493.(14/106)
يقوموا عليه، ويلزموه الطاعة حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين، ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين، من أهل الجفاء والغلظة، والغفلة والإعراض، نسأل الله العفو والعافية، فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان وعدم الرغبة فيه.
وكذلك يجب على الإمام النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدّى للطلبة، لقلة العلم وكثرة الجهل، وإن كان قد قام ببعض الواجب، فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر، لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه.
وطلب العلم اليوم من الفرائض، كما لا يخفى على الإمام وغيره، وفي الحديث: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالم ومتعلم 1، وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب؛ فإذا كثر العلم وقل الجهل، حصل بسببه من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله، إن قبله الله؛ وبالغفلة عن طلبة العلم، تضعف هممهم، ويقل طلبهم.
وفي مناقب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله:
أنه إذا أراد أن يحيي سنة، أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى هذا، فلله دره ما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم!
__________
1 الترمذي: الزهد 2322 , وابن ماجه: الزهد 4112.(14/107)
وعلى كل من نصح نفسه: أن يحذر من كبائر الذنوب، التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره، وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه، محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه.
ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله أهل طاعته، ويعادي أعداءه أهل معصيته، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد.
[الوصية بتقوى الله وذكر بعض ما ورد عن السلف في معناها]
وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، وفقنا الله وإياهم لإقامة شرائع الدين، واستعملنا فيما استعمل فيه أهل الإيمان واليقين، وجعلنا من الشاكرين لنعمة الإسلام، المثنين بها عليه، ونسأله أن يتقبلها منا، ويتمها علينا بالرغبة فيما يوجب الفوز لديه; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى في الغيب والشهادة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} الآية [سورة النساء آية: 131] . قال طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على(14/108)
نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
ولا وصية أعظم ولا أنفع، مما وصى الله به عباده المؤمنين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 102-105] .
وينبغي أن نشير إلى بعض ما ورد عن السلف، رحمهم الله تعالى، في معنى هذه الوصية العظيمة، المتضمنة لأصول الدين، وما يقوم به من الأعمال; عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا، وروى مرفوعا، والموقوف أشهر: حَقَّ تُقَاتِهِ أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وأصل الإسلام وأساسه: أن ينقاد العبد لله تعالى بالقلب والأركان، مذعنا له بالتوحيد، مفردا له بالإلهية والربوبية، دون كل ما سواه، مقدما مراد ربه على كل ما تحبه نفسه وتهواه; وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا(14/109)
إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا 1 الحديث.
وحبل الله: دينه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله، قاله أبو جعفر ابن جرير، رحمه الله تعالى، وهو جامع لكل ما ورد عن السلف في معناه، كما روى عن ابن مسعود أنه قال: حبل الله الجماعة.
وعن أبي العالية: اعتصموا بالإخلاص لله وحده وعن ابن زيد، قال: حبل الله الإسلام وقيل: هو القرآن; لما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه 2.
ثم قال تعالى {وَلا تَفَرَّقُوا} : عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به; وأن ما تكرهون في الطاعة والجماعة، هو خير مما تحبون في الفرقة.
وأخرج محمد بن نصر المروزي وغيره، من حديث عبد الله بن يحيى أبي عامر: أن معاوية رضي الله عنه قام حين صلى الظهر بمكة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين فرقة،
__________
1 مسلم: الإيمان 8 , والترمذي: الإيمان 2610 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4990 , وأبو داود: السنة 4695 , وابن ماجه: المقدمة 63 , وأحمد 1/27 ,1/51 ,1/52 ,2/107.
2 الدارمي: فضائل القرآن 3315.(14/110)
وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار، إلا واحدة وهي: الجماعة. والله يا معشر العرب، إن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى ألا يقوم به، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، فكل بدعة ضلالة.
ثم قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [سورة آل عمران آية: 103] أي: أذكروا ما أنعم به عليكم، من الألفة والاجتماع على الإسلام، حيث كنتم أعداء على شرككم، يقتل بعضكم بعضا عصبية، في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بين قلوبكم، تواصلوا بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه; وذكر عن قتادة: كنتم تذابحون، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام فألف به قلوبكم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الألفة رحمة، وإن الفرقة عذاب.
وقوله: {وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [سورة آل عمران آية: 103] يقول تعالى: وكنتم على طرف جهنم، بكفركم الذي كنتم عليه، فأنقذكم الله بالإيمان، الذي هداكم به.
وذكر عن قتادة في الآية: ?كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفين على رأس حجر، بين الأسد من فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء، يحسدون عليه; من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات مات ردى في النار; يؤكلون ولا يأكلون.(14/111)
والله: ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق شأنا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل به دار الجهاد، ووضع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم؛ فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] أي: يعرفكم في كل ذلك مواقع نعمه وصنائعه فيكم، ويبين لكم حججه في تنْزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها.
وقوله {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [سورة آل عمران آية: 104] الآية، قال ابن كثير في تفسيره: المقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من الأمة متصدية للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه.
كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيما ن 1.
وفي المسند عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي
__________
1 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ,5009 , وأبو داود: الصلاة 1140 والملاحم 4340 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1275 والفتن 4013 , وأحمد 3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92.(14/112)
نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم 1. انتهى.
قلت: وروى محمد بن نصر، من حديث يزيد بن مرثد مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، الله الله، لا يؤتى الإسلام من قبلك، وروى بسنده عن الحسن بن حي: إنما المسلمون إخوة، على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا، ثغر في الإسلام من قبله، فإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه، لقام الدين لله بالأمر الذي أراده من خلقه.
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] .
قال ابن عباس في الآية: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم، أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله.
قلت: فتأمل كيف نهى الله سبحانه في هذه الآيات عن التفرق في موضعين، وأخبر أنه من موجبات العذاب العظيم؛ وأرشد إلى أسباب الاجتماع على دينه وشرعه، ومن أعظمها: الاعتصام بكتابه ودينه، علما وعملا، وأداء شكره، والقيام بما فرضه على عباده من الدعوة إلى الخير، والأمر
__________
1 أحمد 5/388.(14/113)
بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن هنا تعلم أن من أعظم الفساد: الإعراض عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم، واتباع الأهواء، والأراء المضلة - نعوذ بالله من ذلك - فإذا وقع ذلك ترتب عليه من أنواع الفساد ما لا يكاد يبلغه الوصف; فمن ذلك الاختلاف في الدين، والتحاسد، والتدابر، والتقاطع، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، متنقص لغيره، مخلد إلى الأرض عن تعلم العلم وتعليمه.
فالواجب على من أعطاه الله شيئا من العلم، أن يبذله لطالبيه، وأن يقوم بما أوجب الله تعالى عليه، من النصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم; وعلى الخاصة والعامة أن يعظموا كتاب ربهم، ودينه وشرعه، ويقبلوا بكليتهم على ما ينفعهم، من تعلم دينهم، وطاعة ربهم، وترك معاصيه; وأن يقوموا بما وجب عليهم مع ذلك، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على علم وبصيرة; وأن يهتموا بما يصلح ذلك، من الإخلاص لله تعالى في أمور دينهم.
وعلى من نصح نفسه أن يكون حذرا من الأسباب التي تضعف الإيمان، وتجلب أسباب المآثم والعصيان، من الهلع والطمع، والرضى بالدنيا والاطمئنان بها; وفي الحديث: حب الدنيا رأس كل خطيئة.(14/114)
وأخرج البخاري في صحيحه، وغيره، من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل يا رسول الله: أفيأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينْزل عليه.
قال فمسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضراء أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت ورتعت; وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم، ما أعطى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإنه من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون شهيدا عليه يوم القيامة 1. انتهى.
فهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فيه أن من جمع الدنيا أو طلبها من غير حلها، وصرفها في غير حقها، صارت عليه وبالا؛ ومن أجمل في طلبها وأخذها من حلها، وأدى حق الله فيها، ولم يشتغل بها عن طاعة مولاه، فإنها تكون في حقه نعمة وعطية، ولغيره محنة وبلية.
هذا وقد أعطاكم الله من أصناف نعمه ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، ابتلاء وامتحانا، لتعرفوا نعمه، وتشكروها قال تعالى {: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}
__________
1 البخاري: الزكاة 1465 , ومسلم: الزكاة 1052 , والنسائي: الزكاة 2581 , وابن ماجه: الفتن 3995 , وأحمد 3/7 ,3/21 ,3/91.(14/115)
[سورة إبراهيم آية: 34] .
فانظروا رحمكم الله بماذا تقابلونها؟ أباستعمالها في طاعته ودينه ومراضيه؟ أم تجعلونها سلما إلى الإعراض عن دينه، وارتكاب معاصيه؟ من الظلم والبغي، والأشر والبطر، واللهو واللعب، وقول الزور، والسخرية، ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا يرضاه؟
نسأل الله السلامة من أسباب التغيير; قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] . اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
الله الله عباد الله: قيدوا نعم الله بشكره، واتباع ما يرضيه; وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه; فإن الله خولكم نعمه، لتطيعوه ولا تعصوه، وتعملوا بدينه وشرعه وتعظموه، لا لتشغلوا بها عن ذلك، أو تمتهنوه; اللهم أوزعنا شكر ما أنعمت به علينا من هذه النعم الظاهرة والباطنة، واستعملنا فيما يرضيك عنا، وعافنا واعف عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(14/116)
صلى الله عليه وسلم [التواصي بتقوى الله تعالى وبما يرضيه سبحانه]
له أيضا، حشره الله في زمرة الصديقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن: إلى من يصل إليه من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالذي نوصيكم به، تقوى الله تعالى، والتواصي بما يرضي الله سبحانه، من طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعدل والإنصاف؛ واذكروا فناء الدنيا وزوالها، والعرض على الله، والحساب، والميزان، والجنة، والنار، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
والباعث على هذا: أمور وقع فيها الخلل، بسبب الإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة.
فمنها: التهاون بالصلاة من كثير من السفهاء، لا يبالون صلوها في جماعة أم لا; وصلاة الجماعة فرض على الأعيان، كما هو مذهب الإمام أحمد وغيره; وقال بعض العلماء هي شرط، لا تصح الصلاة إلا بها.
ومر علينا عبارة في الدرس، بحضرة إخوانكم، وارتاعوا منها، وأحبوا: أنا ننبهكم عليها; وهي: أن المشهور في مذهب الإمام أحمد، أن من ترك الصلاة تهاونا وكسلا يكفر، ويقتل كفرا إذا دعي إليها فأصر.
ومنها: صلاة الجمعة، نصوا على أن من تركها تهاونا(14/117)
وكسلا ولو مرة واحدة، أنه يكفر; ويوجد أناس في أطراف البلدان، يتركونها مرارا، وهذا أمر عظيم، وخطره كبير، قد يكون الإنسان كافرا مرتدا، بترك فريضة، وهو لا يشعر.
فاحذروا - رحمكم الله - التهاون بمثل هذه الأمور الخطيرة، التي إذا وقعت من سفيه ضرت العامة، إذا تركوه عليها وأعظم الناس خطرا في مثل هذه الأمور: الأمراء والنواب، إذا تركوا القيام بما أوجب الله عليهم، من القيام بأمر الله على الداني والقاصي، والقريب والبعيد، والعدو والصديق، كما قال تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} : [سورة النساء آية: 135] الآية. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق.
وهنا مسألة مما يتعلق بالعدل، وحقوق الخلق; وهي: أن "النوابة"التي يضعها الأمراء والنظراء ربما يقع فيها الجور، وعدم المواساة، فمن ذلك: تنويب المعسر، الذي لا يقدر على وفاء جميع ما عليه من الدين، لكون جميع ماله لا يقابل دينه، فهذا لا يجوز أخذ النائبة منه.
وقد بلغني أن الشيخ محمد رحمه الله أفتى أناسا من أهل سدير وغيرهم أن هذه النوائب توضع بالقسط على الناتج; هذا إذا كانت لمصلحة الدين، كالجهاد خاصة، فتوضع بالعدل على الناتج، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء آية: 58] الآية. وصلى الله على محمد.(14/118)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الشيخ عيد بن حمد يوصيه فيها بتقوى الله ولزوم العبودية لله]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ الشيخ: عيد بن حمد، وفقه الله لما يحبه الله ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل الخط أوصلك الله ما يرضيه، وإن سألت عنا، فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على تمام نعمه; ونسأله تعالى أن يجعلك ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنا نحن به وله.
وتعلم يا أخي أن الدين النصيحة، فأوصيك ونفسي، بتقوى الله ولزوم العبودية التي هي غاية الذل في غاية المحبة للمعبود، الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولا يعين على عبادة غيره؛ فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل، وهو معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية; وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بالألوهية، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته. انتهى.
وحقيقة العبودية: الإقبال على الله، والإعراض عن كل ما(14/119)
سواه، وإيثار مراد الله، على كل ما تطلبه النفوس وتهواه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات آية: 40-41] . وقال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الجاثية آية: 18] . وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص آية: 50] .
وفي الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به، وهذا هو الصراط المستقيم، كما ذكره عن نبيه ورسوله عيسى عليه السلام، في مقام الدعوة إلى الإسلام: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة آل عمران آية: 50-51] .
فلشدة فاقة العبد وضرورته إلى أن يهديه الله صراطه المستقيم، فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية، في أفضل أحواله مرارا متعددة في اليوم والليلة؛ وليس العبد في شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها، فإنه يحتاج إليها في كل نفس وطرفة عين، وفي جميع ما يأتيه ويذره، من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها.
وأمور هدي إلى أصلحها دون تفصيلها، أو هدي إليها من وجه دون وجه، وهو محتاج إلى إتمام الهداية فيها; وأمور هو محتاج إلى ما يحصل له من الهداية فيها في المستقبل، مثل ما حصل له في الماضي.
وأمور هو خال عن الاعتقاد فيها، هو محتاج إلى(14/120)
الهداية فيها، وأمور لم يفعلها، فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية; وأمور قد هدى إلى اعتقاد الحق والعمل الصواب فيها، فهو محتاج إلى الثبات عليها، إلى غير ذلك من أنواع الهداية.
وبين سبحانه أن أهل هذه الهداية هم المختّصون بنعمه، دون المغضوب عليهم وهم: الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه; ودون الضالين، وهم: الذيق عبدوا الله بغير علم; والطائفتان اشتركتا في القول على الله في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم، فسبيل المنعم عليهم مغاير لسبل أهل الباطل كلها، علما وعملا.
[حث الإمام فيصل بن تركي على نسخها وقراءتها في المساجد مرارا]
قال الإمام فيصل، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى الوالد المكرم، الشيخ: جمعان بن ناصر، ومرشد، وإخوانهم أهل الوادي، وفقنا الله وإياهم لما يحبه الله ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: اقرؤوا النصيحة في جميع مساجد بلدان الوادي، وانسخوا منها أوراقا في كل بلاد، وكلما أخذتم شهرين، أعيدوا قراءتها; واعلموا أنه مستقبلكم عام جديد، توبوا إلى الله {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] ، واجمعوا صدقة ترد على الأيتام، والأرامل، والفقراء(14/121)
والمساكين، والمستحقين، والله يوفقنا وإياكم للخيرات.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام عبد الله بن فيصل يذكره بما قام به جده محمد وعمه عبد العزيز، وأنها خلافة، وما جرى في إمارة سعود]
وقال أيضا الشيخ; عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام: عبد الله بن فيصل، سلمه الله تعالى وتولاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وتفهم أن الدين النصيحة، وأحق من أنصح نفسي، ثم أنت يا إمام المسلمين، ورأيت الأمر ضاع، وكثر الأعداء، واستحكمت أمورهم، وصعبت عليكم.
وهنا سبب فيه ذهاب الأعداء، مع النية الصالحة، وتهتوه بالفعل، وأما القول فتذكرونه صباحا ومساء، وذلك لا يجدي شيئا; وقد بان لك ما جرى على أولئك، مع ما بينوه من هذا الدين، ومعهم حسنة تعدل ما عمل به الخلائق، فكيف بكم اليوم، جعلتموها أمور ملك، ورأيتم الخلل؟!
تفهم أن أول ما قام به جدك محمد، وعبد الله، وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة، يطلبون الحق ويعملون به، ويقومون ويغضبون له، ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدو كسره الله، قبل أن يصل، لأنها خلافة نبوة.
ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به، كما قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(14/122)
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى} : [سورة النور آية: 55] .
صلى الله عليه وسلموأخذ عمك في الإسلام، حتى جاوز الثمانين في العمر، والإسلام في عز وظهور، وأهله يزيدون، وحصل لهم مضمون قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [سورة النور آية: 55] ، وصار أهل الأمصار يخافونهم; وأراد الله سبحانه إمارة سعود بعد أبيه، يرحم الله الجميع.
وأراد الله أن يغير طريقة والده الذي قبله، وبغاها ملكا، وبدأ الأمر ينقص أمر الدين، والدنيا تطغى، يشرى البيت بستمائة ريال في الدرعية، والنخلة الواحدة بستين ريالا، مائة نخلة بستة آلاف ريال، أنا الكاتب لمشتراها.
وصار العاقبة: القصور التي بنيت بقناطير، والمقاصير التي تنفذ فيها الأموال العظيمة، التي تسوى ثلاثة آلاف، ما تسوف اليوم إلا جديدة، لما جرى ما جرى، من تسليط الأعداء عليهم، هذا وهم على التوحيد، لكن ما أعطوه حقه.
اشتغلوا بالدنيا ونضارتها، وما فتح الله عليهم، وأعرضوا عما أوجب الله عليهم القيام به في أنفسهم وعلى الناس، فجرى ما جرى; وصار الحمولة أكثر شرائدهم الذين بقوا، آجالهم في مصر. وهذا بسبب الغفلة عما أوجب الله، لأن الله اختار لهم(14/123)
أمرا عظيما، ومكنهم منه ومن الناس، لكن حصل تفريط في هذه النعمة العظيمة.
والدرعية اليوم، من تدبر حالها وحللها عرف أن ما جاءهم إلا ذنوبهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار. وهذا حقك علي؛ وأرجو أن الله يمن عليك بتوحيده، والقيام به على نفسك وعلى الناس، قريبهم وبعيدهم، ويعافيك من أهل التثبيط.
والحق منصور في كل زمان ومكان، ومنصور من هو معه، سواء كان حرا أو عبدا، صغيرا أو كبيرا، وابتلاكم الله، وعرفتم العواقب، والمؤمن ما يلدغ من جحر مرتين: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [سورة التوبة آية: 129] .
ووالله ثم والله: إن لم تجعلها أمر دين، وتدعو الناس إلى ما أمرهم الله به، أن تشفق سكون قرية من قرى نجد، وأنت مطلوب، لكن إن تسلط عليك أحد، وأنت تأمر بما أمر الله به ورسوله، فالله مع المتقين.
فإن كنت على هذه الحالة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/124)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى بعض الإخوان يسأل عن حالهم ويوصيهم بتدبر أنوار الكتاب]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: صالح بن محمد الشثري، وزيد ابن محمد آل سليمان، وإخوانهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الخط: إبلاغكم السلام، والسؤال عن الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها.
وأوصيكم: بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دلائل التوحيد، والتفكر في مدلولاته، ولوازمه وملزوماته، ومكملاته ومقتضياته، ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه، من نواقضه ومبطلاته.
فالخطر به شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه وصفاته، التي تجلو الريب، والشك عن قلب كل مريد، واعتصم بالله من كل شيطان مريد {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [سورة البروج آية: 12-16] الآيات.
فقد عمت البلوى بالجهل المركب والبسيط {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [سورة الأنفال آية: 47] فالله الله في التحفظ على(14/125)
القلب بكثرة الاستغفار من الذنوب. جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهلة، وأخلص لله أقواله وأعماله، والسلام.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى محمد آل سليم يذكره بما أسبغ الله عليه من نعمه]
وله أيضا، رحمة الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ محمد بن عمر آل سليم، سلمه الله تعالى من كل آفة وأمنه من كل مخافة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
وصل الخط وصلك الله ما يرضيه، ونحمد إليك الله على ما أسبغ من نعمه الباطنة والظاهرة، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، ونعمة الله عليكم عظيمة، حيث أقامكم في ناحية أهلها جهال بالتوحيد، ما له عندهم قدر ولا قيمة، وجعلكم تدعون إليه، وتبينونه، وتحملون الناس عليه، وجعل لكم أصحابا قابلين هذه الدعوة ومحبينها، ومعادين فيها وموالين فيها.
ويا أخي هذه النعمة علينا وعليكم عظيمة، واحمدوا الله سبحانه وتعالى، وتبرؤوا من الحول والقوة، وانسبوا النعمة إلى ربكم; قال ابن القيم رحمه الله، لما ذكر حياة القلب، وصف القلب الحي بقوله: أن يكون مدركا للحق، مريدا له، مؤثرا له على غيره، والسلام; 1284 هجرية.(14/126)
صلى الله عليه وسلم [وصية الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالصدق مع الله وبتعلم العلم]
وله أيضا، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وحال الناس اليوم لا تخفاك، وأهل نجد منّ الله عليهم بنعمة التوحيد، لما يسر لهم من يدعوهم إليه، ويجاهدهم عليه؛ لكن أعرضوا في هذه الأوقات، وآثروا الدنيا على الدين، إلا من شاء الله، لكن إذا حصل في البلدان طائفة حق، يقومون به ويدعون إليه، ويستحسنون الحسن ويستقبحون القبيح، فهذه نعمة عليهم وعلى أهل بلدهم.
فالذي أوصيكم به: اصدقوا مع الله، وتعلموا من العلم ما ينجيكم من شبهات أهل الشك والريب، فبالعلم واليقين تدفع الشبهات، ولله الحمد على بقاء طائفة الحق، تدعو من ضل إلى الهدى، وتصبر منهم على الأذى والسلام.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى أمراء جعلان يذكرهم بالوصايا الثلاث التي لا يتم الدين إلا بها]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان من المسلمين الموحدين المجاهدين، أمراء جعلان، وفقنا الله وإياهم للإخلاص والصدق في الدين، وجعلنا وإياهم من حزبه المفلحين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فاعلموا وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى(14/127)
من الأقوال والأفعال أن أشرف الوصايا وأجمعها، وأكملها وأنفعها، ما وصى الله به عباده المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، وفسره العلماء: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر؛ ثم قال تعالى {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
وأمرهم بالمحافظة على الإسلام الذي رضيه لنا دينا، والثبات عليه والاستقامة عليه علما وعملا؛ وهذا إنما يحصل لأهل التقوى خاصة الذين أخلصوا العبادة لله، وأنكروا الشرك وأبغضوه، وعرفوا الله وأطاعوه، فاجتنبوا ما نهاهم الله عنه؛ ومن شقي في هذا وتركه، فاته من الاستقامة والمحافظة بحسب ما أضاعه من تقوى الله.
وملاك هذا كله، وهو الأمر الثالث، وهو قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، فلا تحصل التقوى إلا بمعرفة ما أمرالله به، ومعرفة ما نهى عنه، ليكون العمل والتقوى على بصيرة; وبالتمسك بكتاب الله، يتبين حقيقة دين الإسلام، ليتبين ويعتقد وحقيقة ما ينافيه من الشرك، لينكر ويجتنب.
فهذه ثلاث وصايا لا يتم الدين إلا بها، فالاعتصام بكتاب الله والتمسك به، ينتظم به ما قبله من الثبات على الإسلام، والاستقامة، وكذلك تقوى الله حق تقاته، لا تحصل بدون ذلك; آخر ما وجد، وصلى الله على محمد.(14/128)
صلى الله عليه وسلم [رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى أهل جعلان في حكم المعاملة بالربا]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه من إخواننا المسلمين، من أهل جعلان، سلمهم الله، وهداهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياهم ممن يخافه ويخشاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى حرم على عباده المعاملة بالربا، في الأخذ والعطاء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] .
وقال تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] .
أخبر تعالى: عن الذين يأكلون الربا في الدار الدنيا، أنهم إذا قاموا من قبورهم يوم القيامة، لا يقومون إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له.(14/129)
وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق، وروى ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الربا سبعون حوبا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه.
وفي الحديث الصحيح: لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه، وكاتبه، وفي الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد؛ فإذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد 1 رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب، وزنا بوزن، مثلا بمثل; والفضة بالفضة مثلا بمثل، وزنا بوزن. فمن زاد أو استزاد فهو ربا 2 رواه مسلم.
إذا عرفتم ذلك، فالذي أوجب هذه النصيحة لكم، أنه بلغنا أن فيكم من يشتري الفضة بالفضة، أو الذهب بالذهب، ويحضر بعضا ويغيب بعضا، وهذا هو الربا المنهي عنه في الحديث؛ فلا بد من التقابض في المجلس قبل التفرق، فإن
__________
1 مسلم: المساقاة 1587 , والترمذي: البيوع 1240 , والنسائي: البيوع 4561 ,4562 ,4563 ,4564 , وأبو داود: البيوع 3349 , وابن ماجه: التجارات 2254 , وأحمد 5/314 ,5/320 , والدارمي: البيوع 2579.
2 مسلم: المساقاة 1588 , وابن ماجه: التجارات 2255.(14/130)
تفرقا وقد بقي شيء من أحد العوضين بطل البيع، وحرم الفعل على من فعله، وصار قد أربى.
كذلك الوزن، ربما أنه ما يحصل مماثلة من جهة الغش الذي يكون في الذهب أو الفضة، فقد يكون أحد العوضين فضة صافية من الغش، والأخرى فيها غش، فلا تحصل المماثملة المشروطة في الحديث؛ والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، لأن الغش الذي فيهما، أو في أحدهما، لا يعرف قدره، فلا تحصل المماثلة، فيحرم؛ ولا يصح من هذا إلا إذا كان الذهب أو الفضة صافي من الطرفين، وحصل التساوي في الوزن، والتقابض في المجلس؛ فهذا هو الذي يصح، فإن اختل شيء من هذه الشروط، صار ربا وحرم.
فاجعلوا هذه الأمور منكم على بال، وفقنا الله وإياكم لطاعته، وجنبنا معصيته، إنه ولي ذلك كله، والقادر عليه; وسلموا لنا على إخوانكم، ومن لدينا: الإمام فيصل وأولاده، وكذلك أولادنا وحمولتنا آل الشيخ بخير، وينهون السلام على الإخوان، وأنتم سالمين، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(14/131)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الرحمن بن عبيد يخبره بعلمه عن الذين فضحتهم أعمالهم]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ عبد الرحمن بن علي بن عبيد، وفقه الله، وحفظ عليه دينه ودنياه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالخط وصل، وصلك الله إلى خير، وما ذكرت صار معلوما، وهؤلاء الذين {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ، قد فضحتهم أعمالهم، وكل من له بصيرة لا تخفى عليه حالهم، كما قيل:
وكيف يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل؟
وأما من عميت بصيرته، وفسدت سريرته، واستعبده هواه، وركن إلى دنياه، ولعب بقلبه الرياسة والجاه، وخدعته الدنيا بغرورها، وختلته بآمالها، وصار لنفسه من سعيه حظ، ولهواه نصيب، وللشيطان منه نصيب، ولأرباب الدنيا منه نصيب، ولمخدومه منه نصيب، ولمطاعه من الخلق نصيب، فإنها تتلاعب به إراداته، من كل واد من أودية الهلاك، وهو لا يشعر.
فهذا كالأعمى، يتبع قائده ولا يرى الأمر على ما هو عليه، فكان عدم التصور من عدم البصيرة، وربما اعتقد النافع ضارا وبالعكس، نسأل الله العافية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(14/132)
وتأمل، قوله تعالى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 43-44] .
وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر آية: 8] .
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى محمد آل سليم يروي له ما حدَّث من مشائخه ويوصيه بتقوى الله]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: محمد بن عمر آل سليم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد طلبت مني الإجازة أن تروى عني ما رويته عن مشائخي، من أهل نجد ومصر، وقد أجزتك بما رويته عنهم بالإجازة، كالكتب الستة، والفقه في مذهب الإمام أحمد، وغير ذلك ككتب التفسير، ونحو ذلك.
وعليك في ذلك تقوى الله، والتدبر والاجتهاد في معرفة المعنى، وصورة المسألة، والمطالعة على كل ما يرد عليك، واجتهد في العدل فيما وليت عليه، من أمور المسلمين، في حق القريب والبعيد، وفي حق من تحب وتكره، فما ظهر(14/133)
لك معناه فقله، وما لم يظهر فكله إلى عالمه، واستعن بالله وتوكل عليه.
واجتهد: في نشر التوحيد بأدلته، للخاصة والعامة، فإن أكثر الناس قد رغبوا عن هذا العلم، الذي هو شرط لصحة كل عمل يعمله الإنسان، من صلاة، وصيام، وحج، فلا يصح شيء من ذلك، إلا بمعرفة معنى الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، على يقين وإخلاص، وصدق ومحبة، وقبول وانقياد.
وأن يحب في هذا التوحيد، ويوالي فيه ويعادي، وكل هذه القيود دل عليها الكتاب والسنة، فاطلب أدلتها من مظانها تجدها، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم 9 رجب سنة 1283 هـ.
[الحث على الإخلاص وتقوى الله]
وقال الإمام: فيصل بن تركي، والشيخ: عبد الرحمن بن حسن، والشيخ: علي بن حسين، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، وعبد الرحمن بن حسن، وعلي بن حسين، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقهم الله لتوحيده، وجعلهم من صالحي عبيده آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله، فإنها وصية الله(14/134)
للأولين والآخرين، وأعظم التقوى وأصلها اتقاء الشرك بالله والإخلاص له بجميع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهو معنى كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها دلت على نفي الشرك في العبادة وتركه، والبراءة منه.
ودلت أيضا على إخلاص الإلهية لله تعالى، فلا يدعى غيره، ولا يرجى سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، كما قال تعالى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} : [سورة الشرح آية: 7-8] .
وقال تعالى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] .
وقال تعالى {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية.
وجميع أفراد العبادة لا تصلح إلا لله تعالى، قد بينها في كتابه مجملا ومفصلا، كما قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} : [سورة الزمر آية: 2] {اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] فتقديم المعمول به يفيد الحصر والاختصاص، كما قال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، في الفاتحة: [سورة الفاتحة آية: 5] أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك.
وهذا هو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وكل رسول يرسله الله، يقول {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} سورة الأعراف آية: 59] .
وقال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] الآية.
وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، يأمر تعالى عباده أن(14/135)
يخلصوا له العبادة، وينهاهم أن يقصدوا بها غيره. وإخلاص العبادة له، هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
وفي الحديث الصحيح، أنه قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا 1 وقال تعالى، ناهيا لهم عن الشرك في عبادته: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة النحل آية: 20] الآيتين.
وقال تعالآمرا لهم بالتوحيد: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : [سورة النحل آية: 22] .
وقال تعالى {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5ب] . هذا مضمون كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، نفت الشرك في الإلهية، وأثبتت توحيد الله بذلك.
ومما دلت عليه هذه الكلمة: إخلاص الحب في الله تعالى، كما قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} : [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] ، فأوجب لهم بشركهم في المحبة أن خلدوا في النار، فإخلاص الموحد المحبة يقتضي الحب في الله والبغض فيه، والمعاداة والموالاة فيه، لأن العبد إذا أخلص له المحبة أحب طاعته وأهل طاعته، وأبغض معصيته ومن يعصيه؛ وعلى قدر المحبة تكون الموالاة
__________
1 البخاري: الجهاد والسير 2856 , ومسلم: الإيمان 30 , والترمذي: الإيمان 2643 , وابن ماجه: الزهد 4296 , وأحمد 3/260 ,5/230 ,5/236 ,5/238 ,5/242.(14/136)
بين الموحدين، والمعاداة للمشركين الجاحدين لتوحيد رب العالمين؛ والأدلة على هذا في الكتاب والسنة كثير.
فالمشرك عدو لله وعدو لأهل توحيده وطاعته، ولذلك أوجب الله تعالى على الموحدين مقاطعة المشركين وجهادهم، كقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية: 29] الآية.
وقال تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} : [سورة التوبة آية: 5] .
والآيات بالأمر بجهادهم وجهاد إخوانهم من المنافقين كثيرة، فأوجب جهادهم والبراءة منهم في أكثر سور القرآن، منطوقا ومفهوما؛ لكن لا يتفطن لهذا الأصل إلا من استنار قلبه بأنوار التوحيد، علما وعملا.
وبهذا المعنى جاء الحديث: اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك 1. فلا ضلال أضل، ولا ظلم أعظم، من وضع حق الله تعالى من العبادة في غير موضعه، بأن يصرف لمخلوق ميت غائب، ولا ينفع ولا يضر.
قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : [سورة النحل آية: 73] الآية.
وقال تعالى {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] .
__________
1 الترمذي: الدعوات 3419.(14/137)
وقال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} : [سورة الأنعام آية: 40-41] الآية. فمن رزق في القرآن علما وفهما، تبين له حقيقة الإسلام والإيمان.
فيا من نصح نفسه، إياك إياك أن تشتغل بشهواتك ومألوفاتك عن توحيد ربك، وما يجب له عليك، من الإخلاص والطاعة، وما أوجبه لرسوله صلى الله عليه وسلم من الاقتداء به والمتابعة; فما أخسر من أخذ الجهل بدلا عن الدين، وأخذ الأماني والشك عوضا عن الإيمان واليقين!
قال أبو العالية رحمه الله: تعلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه. وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام، ولا تحرفوه يمينا وشمالا. فلقد صدق ونصح؛ فمن لم يتعلم الإسلام، ورغب عنه، أكثر التحريف والانحراف.
فما أعظمها من مصيبة! وما أجدرها بالعقوبة! كما قال قتادة رحمه الله في حال من أعرض عن الدين: قد رأيتموهم والله خرجوا من الهدى إلى الضلال، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
فاستدركوا رحمكم الله ما فاتكم، وأقبلوا بقلوبكم على تعلم ما بعث الله به رسله، من توحيد ربكم. وارغبوا إليه واسألوه الثبات عليه، وأن يصرف همكم إلى العلم النافع،(14/138)
والعمل الصالح. وإياكم والخلود إلى الأرض، والتمادي عن السنن والفرائض؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها 1.
واعلموا رحمكم الله، أنه قد ورد في الأثر: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولارفع إلا بتوبة وقد منع الله تعالى القطر من السماء، لما له فيه من الحكمة، ولا شك أن هذا من آثار الذنوب، وما يعفو الله عنه أكثر، وما دفع الله عنكم من العقوبات أعظم.
فتوبوا إلى ربكم، كما قال تعالى {: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [سورة التحريم آية: 8ب] الآية، وائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وتناصحوا في دينكم، وتحببوا إلى ربكم بالتوبة إليه، والإقبال عليه، والرغبة إليه بطاعته، واجتناب معصيته، لعل الله أن يدخلكم في رحمة منه وفضل، ويهديكم إلى صراط مستقيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
1 مسلم: الطهارة 223 , والترمذي: الدعوات 3517 , وابن ماجه: الطهارة وسننها 280 , وأحمد 5/342 ,5/343 , والدارمي: الطهارة 653.(14/139)
[التذكير بأداء الفرائض ومن أهمها الصلوات الخمس وذكر الأدلة لها]
وقال بعضهم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شهدت وحدانيته بديع مصنوعاته، ونطقت بتسبيحه وتحميده جميع مخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المصطفى من جميع برياته، الذي عرج به إليه، حتى رفعه فوق سبع سماواته، ففرض عليه خمسين صلاة، ثم شفع إلى ربه في التخفيف عن أمته، فصارت إلى خمس، وذلك من بركاته، اللهم صلّ على محمد وعلى آله، وأصحابه، وأهل موالاته.
أما بعد:
فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه إنما خلق عباده ليعبدوه بتوحيده، ويشكروه بأداء فرائضه التي افترض عليهم. ومن أفرضها: هذه الصلوات الخمس التي عظم الله شأنها في كتابه العزيز، وحض على المحافظة عليها، وأثنى على المحافظين عليها، والمقيمين لها الخاشعين فيها.
فقال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} : [سورة المؤمنون آية: 1-6] ، إلى قوله:(14/140)
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[سورة المؤمنون آية: 9-11] .
وقال تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} : [سورة البقرة آية: 238] ، كما ذم في كتابه الذين يتغافلون عنها ويتكاسلون، فقال جل ذكره: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] .
وقال بعد ذكر أنبيائه، وسجودهم لربهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] ، فمن حافظ عليها وأقام حدودها، فهو من المؤمنين، ومن ضيعها وتثاقل عنها، كان من الغافلين، وأدخل في مسمى المنافقين، {الذين وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [سورة النساء آية: 142] .
ومن المحافظة عليها: المحافظة على أدائها، حيث ينادى لها في مساجد المسلمين، كما دل على وجوب الصلاة في الجماعة، نصوص الكتاب والسنة، وإجماع أهل التحقيق، من العلماء العارفين، قال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سورة البقرة آية: 43] .
وقال تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ(14/141)
وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [سورة النساء آية: 102] .
فلم يعذر تبارك وتعالى في الاجتماع لها، حال قتال المشركين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر رجلا فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم 1.
وعن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أنا ضرير شاسع الدار، وليس لي قايد يلائمني فهل تجد لي من رخصة، أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر؟ قال خوف أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى 2. ويروى مرفوعا: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض. ولقد كان المريض يمشى به بين الرجلين حتى يأتي الصلاة وإن ;
__________
1 البخاري: الأذان 657 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 ,549 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/314 ,2/319 ,2/367 ,2/376 ,2/416 ,2/472 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274.
2 أبو داود: الصلاة 551.(14/142)
رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى: الصلاة في المسجد حيث يؤذن فيه، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلى هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخرا في أصحابه، فقال لهم: تقدموا وائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال أقوام يتأخرون، حتى يؤخرهم الله عز وجل 1.
وقال أبو هريرة: لأن تمتلي أذنا ابن آدم رصاصا مذابا، خير له من أن يسمع النداء فلم يجبه وقال عطاء بن أبي رباح: ليس لأحد من خلق الله في الحضر والسفر إذا سمع النداء رخصة أن يدع الصلاة وقال ابن عباس: من سمع النداء ثم لم يجب، لم يرد خيرا ولم يرد به.
ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من صلى في جماعة، فقد ملأ نحره عبادة. وروى أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى أربعين يوما الصلاة في جماعة، ما يفوته منها تكبيرة الإحرام، كتب له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار.
وقد ورد أنه إذا كان يوم القيامة يحشر قوم وجوههم كالكواكب الدرارى فتقول لهم الملائكة: ما أعمالكم؟ فيقولون: كنا إذا سمعنا النداء قمنا إلى الطهارة، لا يشغلنا غيرها; ثم يحشر طائفة وجوههم كالقمر، فيقولون بعد السؤال: كنا نتوضأ قبل الوقت; ثم يحشر طائفة أخرى
__________
1 مسلم: الصلاة 438 , والنسائي: الإمامة 795 , وأبو داود: الصلاة 680 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 978 , وأحمد 3/34 ,3/54.(14/143)
وجوههم كالشمس فيقولون: كنا نسمع الأذان في المسجد; وكان بعض السلف يقول: منذ عشرين سنة ما أذن إلا وأنا بالمسجد; وفي رواية: ما فاتتني تكبيرة الإحرام خمسين سنة.
فأين هذه الآثار، وأحوال السلف الصالح رضي الله عنهم، من أحوال السفهاء الغوغاء، الذين يشتغلون بسقي الحروث عن شهود الصلاة مع المسلمين في المساجد؟ والبطالين الذين يتكاسلون عنها؟ فهم نخالة في المسلمين، سقط لا خير فيهم، يصلحون أموال غيرهم بتضييع دينهم.
[أجمع الوصايا وأنفعها الوصية بتقوى الله تعالى]
وقال أيضا: الإمام فيصل بن تركي، رحمه الله تعالى وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقهم الله تعالى بالتمسك بالدين، الذي بعث الله به جميع المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن أجمع الوصايا وأنفعها، الوصية بتقوى الله تعالى، قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . وتقوى الله: أن يعمل العبد بطاعة الله، على نور من الله، يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله، على نور من الله، يخاف عقاب الله.
ومعظم التقوى والمصحح لأعمالها توحيد الله(14/144)
بالعبادة، وهو دين الرسل الذي بعثوا به إلى العالمين، وهو مبدأ دعوتهم لأممهم، وهو معنى كلمة الإخلاص، شهادة أن لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
وقد بين الله سبحانه معنى هذه الكلمة، في كثير من الآيات المحكمات، قال تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] . فهذا معنى "لا إله"وقوله: إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي [سورة الزخرف آية: 27] ، فهو معنى "إلا الله"ثم قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، وهي: {لا إله إلا الله} .
وقد عبر عنها بمعناها، من النفي والإثبات، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] فالآيات في بيان توحيد العبادة، أكثر من أن تحصر.
وهذا التوحيد هو الذي جحدته الأمم المكذبة للرسل، كما قال تعالى، عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] .
وجحده مشركو العرب، ومن ضاهاهم من مشركي هذه الأمة، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ(14/145)
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة إبراهيم آية: 9] .
وأما مشركوا العرب، فأخبر الله عنهم أنهم قالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 5-6-7] .
واحتج عليهم تعالى بما أقروا به من توحيد الربوبية، فإنه من أقوى الحجج عليهم فيما جحدوه من توحيد الإلهية، كما قال تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وأكثر الناس في هذه الأزمنة وقبلها، وقع منهم ما وقع من أولئك المشركين، وهم يقرؤون القرآن، فعموا وصموا عن هذا التوحيد وأدلته، التي هي أبين في قلب المؤمن من الشمس في وقت الظهيرة.
فيا من يدعي معرفة هذا التوحيد، اعرف هذه النعمة وقدرها، فإنها أعظم نعمة أنعم الله بها على من عرفها وأحبها وقبلها، وعمل بها ولزمها; فقابلوها بالشكر، ولا تكفروها بالإعراض عنها، واحذروا أن يصدكم الشيطان عن ذلك.(14/146)
واعلموا أنه: قد غلط في هذا طوائف، لهم علوم وزهد، وورع وعبادة، فما حصل لهم من العلم إلا القشور، وقلدوا أسلافا {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة المائدة آية: 77] .
فيا لها من مصيبة ما أعظمها! وخسارة ما أكبرها! فلا حول ولا قوة إلا بالله. واحذروا النفوس الأمارة بالسوء، وفتنة الدنيا والهوى؛ فإن الأكثر قد افتتن بذلك، وظنوا أنهم قد سلموا وما سلموا، وتمنوا النجاة؛ والتمني رأس مال المفلس، نعوذ بالله من سخطه وعقابه.
وأنت ترى أكثر الناس معبوده دنياه، لها يوالي وعليها يعادي، ولها يحب ويبغض، ويقرب ويبعد، قد اشتغل بها عما خلق لأجله، يبتهج بها ويفرح.
وقد ذم الله تعالى ذلك، كما قال تعالى {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} عند ذكره قارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [سورة القصص آية: 76-77] ، والصحيح: أنه الإيمان، والعمل الصالح.
والإسلام والقرآن هما النعمتان العظيمتان، والفرح بهما محمود، ومحبوب إلى الله، قد أوجبه على عباده المؤمنين، كما قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، فسر الأول بالإسلام، والثاني بالقرآن.(14/147)
وقال بعض الصحابة: فضل الله الإسلام; ورحمته: أن جعلكم من أهله; فلا غنى لكم عن تعلم هذا التوحيد وحقوقه، من فرائض الله وواجباته، وأن يكون ذلك أكبر همكم ومحصل عملكم.
ومن أهم ذلك: المحافظة على الصلوات الخمس، حيث ينادى لها، كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون بعدهم، ولذلك عمرت المساجد، وشرع الأذان فيها، كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] . فلا بد في المحافظة من استكمال شروطها وأركانها وواجباتها؛ فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله، كما سبق في الآية ونحوها، جعلها الله طهرة للأنفس والأموال، وزيادة وبركة، وحجابا من النار. فالتزموا ما شرعه الله وفرضه؛ فإن فيه صلاح قلوبكم ودينكم وأخراكم. نسأل الله التوفيق.
واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين وأركانه; قال بعض السلف: أركان الإسلام عشرة: الشهادتان والصلاة والزكاة، وصوم رمضان وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والجماعة، والسمع والطاعة؛ وهذه العشرة لا يقوم الإسلام حق القيام إلا بجميعها.
والقرآن يرشد إلى ذلك جملة وتفصيلا، كما قال(14/148)
تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] .
فالله الله عباد الله في مراجعة دينكم الذي نلتم به ما نلتم من النعم، وسلمتم به من النقم، وقهرتم به من قهرتم؛ فقوموا به حق القيام، وجاهدوا في الله حق جهاده، وعظموا أمره ونهيه؛ واعملوا بما شرعه الله، وتعطفوا على الفقراء والمساكين واليتامى، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، كما قال تعالى {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الحديد آية: 7] .
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الحشر آية: 19-21] .
فاقرؤوا هذه النصيحة في جميع البلدان، وانسخوها، وأعيدوا قراءتها في كل شهرين. واعلموا أنكم مستقبلين عاما جديدا، فتوبوا إلى الله. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أجمعين.(14/149)
[الرغبة إلى الله بالدعاء والتوبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم للتمسك بالدين، وجعلنا وإياهم من حزبه المفلحين.
أما بعد: الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفى ولا مكفور، ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا، اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورجاؤك أرجى من أعمالنا، فاغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا.
اللهم إنه روي لنا عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أنه يخبر عنك، أنك قلت - وقولك الحق -: ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك. ابن آدم؛ إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة 1.
اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك. اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا.
عباد الله ارغبوا إلى الله تعالى بالدعاء {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ
__________
1 الترمذي: الدعوات 3540.(14/150)
جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
صلى الله عليه وسلمواجتنبوا نهيه، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم1.
وقد أمركم الله تعالى في كتابه بالتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى ما يحبه الله ويرضاه; وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وهذا أمر إيجاب لو تركه الناس أثموا وعوقبوا; فكونوا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حذر عظيم، فقد تقاعد الأكثر عن هذين الأمرين الواجبين: الدعوة إلى دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلا صلاح للخاصة والعامة في جميع القرى، إلا بطائفة حق، يدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ وفي ذلك صلاحهم وفلاحهم، في معاشهم ومعادهم؛ وبتركه يكثر الظلم والفساد.
وأيضا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، فبقوته يقوى الإيمان، وبضعفه يضعف الإيمان، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] ، فذكر تعالى في هذه الآية أن
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/456 ,2/467 ,2/482.(14/151)
ذلك [العمل بسببه] أعطاهم ما يحبون، ودفع عنهم ما يكرهون.
وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-68] . فاستدفعوا عنكم عقوبة الغفلة بالإنابة إلى الله والتوبة النصوح.
وتصدقوا، فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتقي ميتة السوء، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] .
وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] .
وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل آية: 20ب] .
وأنتم رحمكم الله من أهل كل بلد: ارغبوا إلى ربكم بطاعته، وتصدقوا، فإن أموالكم عوار، وإنما ينفح العبد منها ما قدمه لله، رغبة فيما عنده; فيا سعادة من هانت عليه الصدقة لله، يرجو بذلك رحمة الله; وباكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، وصلى الله على محمد.(14/152)
[حث الإمام فيصل بن تركي للبعض على الصدقة]
وقال أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركى، إلى الإخوان: حمد بن حسن، وإبراهيم بن سلطان، وعبد الله بن حمد، ومحمد بن سعد، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
توكلوا على الله، تصدقوا، وحثوا الناس على الجزالة، لأن المصلحة عائدة إليهم، وتفرق على الفقراء والمساكين. نرجو الله أن يغنينا وإياكم، والسلام.
[الوصية بالتعاون على البر والتقوى وتعلم دين الإسلام والإلزام بالأمر بالمعروف]
وله أيضا رحمة الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى من يراه من المسلمين، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن حالكم، لا زلتم بخير وعافية، والذي أوصيكم به، تقوى الله، وخشيته في الغيب والشهادة، والعمل بما يرضيه، وتجنب معاصيه، والمعاداة والموالاة فيه.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة المائدة آية: 2] . وأهم الأمور: تعلم دين الإسلام بأدلته، من(14/153)
الكتاب والسنة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر فرائض الدين وواجباته.
وقوام ذلك: بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا بد في كل ناحية طائفة متصدية لهذا الأمر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وأنا ملزم كل من يخاف الله، ويرغب في الفلاح أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأن يكون عليما فيما يأمر به، عليما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى، وألزم كل أمير يكون عونا لهم، وهم خاصته في الحقيقة، عونا له على ما حمله الله تعالى من الأمانة.
ويكون لديكم معلوما أني واضع الجوائز عن المسلمين من أهل نجد، الحادر منهم والظاهر، إذا كانوا معروفين بأداء الزكاة من أموالهم الظاهرة والباطنة، وهي راجعة إليهم على الوجه المشروع، إن شاء الله.
والمطلوب منكم الاستقامة على هذا الدين، والاجتماع عليه؛ وقد رأيتم ما في الجماعة من المصالح العامة والخاصة، وما في التفريق من الشر في أمر الدين والدنيا. أسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالقبول، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، والسلام.(14/154)
[الوصية بتقوى الله مع ذكر الأدلة وتوضيح معناها والحث على إقامة الدين]
وله أيضا، عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من فيصل بن تركي، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من جماعة المسلمين، سلمهم الله تعالى من عقوبات الدنيا والآخرة، وألبسهم ملابس الإيمان الفاخرة، وأيدهم وعافاهم، ووفقهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، ورزقهم الفقه في دينه القويم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] . قال طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله.
ووصى عباده المؤمنين أن يتقوه، فقال: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الحديد آية: 28] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] . قال أهل العلم في معنى الآية; حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى،(14/155)
ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر؛ وهذا جماع الدين; وعن ابن عباس في هذه الآية {حَقَّ تُقَاتِهِ} [سورة آل عمران آية: 102] . أن يجاهد في سبيله حق جهاده، ولا يأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه؛ فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه؛ فعياذا بالله الكريم من خلاف ذلك.
ثم قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، قال أهل العلم: حبل الله القرآن، كما في حديث علي مرفوعا، في صفة القرآن: هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم 1.
وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه 2.
وقال بعض السلف: هو إخلاص التوحيد لله تعالى، قال أبو العالية: يقول: اعتصموا بالإخلاص لله وحده; قلت: وذلك لأن الإخلاص أعظم ما أمر الله به في كتابه، ومعنى الاعتصام التمسك بتوحيد الله، والعمل بكتابه.
وقد حث الله عباده المؤمنين في هذه الآية على
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن 2906 , والدارمي: فضائل القرآن 3331.
2 الدارمي: فضائل القرآن 3315.(14/156)
الاجتماع على ذلك، فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، فأمر بالاجتماع على ذلك، ونهى عن التفرق، لما في الاجتماع من صلاح الدين والدنيا؛ وبالاجتماع على الإسلام، تحصل الألفة والعافية، والأمن والراحة؛ فإذا كان ذلك على طاعته، والعمل بكتابه، تمت النعمة.
ومن أعظم أسباب حصول ذلك ما ذكره المفسرون في معنى قول الله تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 80] . قال قتادة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل الله سلطانا نصيرا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله.
فإن السلطان رحمة من الله، جعله بين أظهر عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم; واختار بعض هذا القول في معنى هذه الآية، ورجحه; قال: لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه.
واستشهد على هذا المعنى بقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد آية: 25] .(14/157)
ثم ذكر عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من جلائل النعم، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] ، فيا لها نعما ما أجلها وأعظمها، لمن عقلها وعرفها حق معرفتها.
وكانت حالكم قبل دعوة الإسلام والجهاد والاجتماع على ذلك تشبه ما قال قتادة رحمه الله: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفون على رأس حجر، بين الأسد من فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ، من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون.
والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا منها أصغر حظا، وأدق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به من الرزق، وجعلكم فيه ملوكا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمة الله، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله تعالى ربنا وتبارك انتهى كلامه رحمه الله.
وأنتم اليوم تتقلبون في نعم الإسلام الباطنة والظاهرة، وقد عافاكم الله تعالى مما ابتلى به كثيرا من الأمم، في دينهم(14/158)
ودنياهم، فاشكروا الله تعالى على أصل هذه النعم، والجامع لها، وهو دين الإسلام، وارغبوا فيه وحافظوا على فرائضه، وتجنبوا حدوده {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .
وقوموا بما أمركم الله به، في هذه الآية، من قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وذلك من أعظم أعمال الشكر، وأعمها نفعا؛ فيه يظهر الدين، وتصلح أحوال الناس، ويعود نفعه عليهم في معاشهم ومعادهم؛ وهو من النصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فليكن ذلك همكم، وارغبوا في ذلك كما رغب فيه سلفكم الذين بهم قام الدين، وبذلك حصل لهم العز والتمكين؛ فإنهم ساروا بسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا بحمد الله على الهدى المستقيم، والدين القويم.
فانهضوا إلى هذه المهمات العظيمة، واحذروا مما حذركم الله عنه من الإعراض عن كتاب الله، الذي بتدبره والعمل به، سعادتكم في الدنيا والآخرة، وسلامتكم من النار، ومن المعاصي، ومن غضب الجبار، لعل الله تعالى(14/159)
برحمته أن يفعل ذلك بكم، ويسكنكم دار القرار.
وأنا ملزم أئمة المساجد، من أهل نجد والإحساء وغيرهم، بسؤال الخاصة والعامة عن أصل الدين كثلاثة الأصول والقواعد الأربع، فإن فيها البيان، وأصل الإسلام والإيمان.
وأوصيكم بالصدقة على فقرائكم، من أهل كل بلد، كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة آية: 110ب] ، ويحصل الخلف والبركة فيما في أيديكم، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] ، وبها يدفع الله البلاء، كما جاء في الحديث: إنها تنفع مما نزل ومما لم ينْزل.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصدقة، وتلا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [سورة النساء آية: 1] .
وفي هذه الآيات من المناسبة في الصدقة: أن أصل الغني والفقير واحد، فلا يمنع الغني أخاه الفقير مما أعطاه الله، شكرا لله على أن جعله غنيا، وجعل من هو مثله محتاجا إليه، وفيها الحث على صلة الأرحام. فتدبروا كتاب الله، وقفوا عند عجائبه ومقاصده، وحركوا به القلوب، والسلام.(14/160)
[ذكر ما أنعم الله به من ظهور الشيخ ابن عبد الوهاب وتلقي محمد بن سعود له]
وقال الإمام: عبد الله بن فيصل، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين; وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من عبد الله بن فيصل، وعبد الرحمن بن حسن، وعبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه من علماء المسلمين، وأمرائهم، وعامتهم، جعلنا الله وإياهم ممن عرف النعمة وشكرها، وصرفها في طاعة من أنعم بها ويسرها، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب، ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام، الذي عرفكم به، وهداكم إليه، وتسمون به، فلا يعنى باسم المسلمين إلا أنتم; وما أعطاكم الله في هذا الدين من النعم أكثر من أن تحصى، لكن منها نعم كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة، لأن المعارض لها قوي جدا.
أوّلها: كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل واحد، فلما شرح الله صدره واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة، تدبر الآيات، وطالع كتب(14/161)
التفسير، وأقوال السلف في المعنى، والأحاديث الصحيحة.
سافر إلى البصرة ثم إلى الإحساء والحرمين، لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام، فلم يجد أحدا; كلهم قد استحسن العوائد، وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر.
ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد العبادة، أو أنكر الشرك المنافي له; بل قد ظنوا جواز ذلك أو استحبابه، وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت، والقبور والجن، والأشجار والأحجار، في جميع القرى والأمصار، والبوادي وغيرهم، فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر.
فرحم الله كثيرا من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وكان قد عزم وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج، فعاقه عنهم عائق، فقدم المدينة فأقام بها، ثم إن العليم الحكيم رده إلى نجد، رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤيه وينصره. وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملاء، فبادأهم بالدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك، والبراءة منه ومن أهله، وبين لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، وكلام السلف والعلماء، رحمهم الله، فقبل منه من قبل وهم الأقلون.
وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة، فكرهوا دعوته، فخافهم على نفسه، وأتى العيينة وأظهر الدعوة بها، وقبل منه(14/162)
كثير منهم، حتى رئيسهم عثمان بن حمد بن معمر. ثم إن أهل الأحساء - وهم خاصة العلماء - أنكروا دعوته، وكتبوا شبهات تنبئ عن جهلهم وضلالهم، وأغروا به شيخ بني خالد، وكتبوا لابن معمر أنه يقتل هذا الشيخ أو يطرده، فما تحمل مخالفته فنفاه من بلده إلى الدرعية.
فتلقاه محمد بن سعود، رحمه الله، بالقبول وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده، وهذه أيضا نعمة عظيمة، كون الله أتاح له من ينصره ويؤويه، والذي أقوى من ابن سعود وأكثر لم يحصل منه ذلك، وصبر محمد على عداوة الأدنى والأقصى، أهل نجد والملوك من كل جهة.
وبادأهم دهام ابن دواس بالحرب، فهجم على الدرعية على غرة من أهلها، وقتل أولاد محمد، فيصل وسعود، فما زاد محمد إلا قوة وصلابة في دينه، رحمه الله، على ضعف منه وقلة في العدد والعدة، وكثرة من عددهم، وذلك من نعمة الله وآياته علينا وعليكم; فرحم الله هذا الشيخ، الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه، في الدعوة إلى دينه، ورحم الله من آواه ونصره، فلله الحمد على ذلك.
وفيما جرى من ابن سعود، شبه بما جرى من الأنصار في بيعة العقبة; ثم إن أهل نجد وبني خالد وأهل العراق والأشراف، والبوادي والقرى، تجردوا لعداوة هذا الشيخ، ومن آواه ونصره، وأقبلوا على حربهم بحدهم وحديدهم، وكثرة جنودهم وكيدهم.(14/163)
فأبطل الله كيد كل من عاداهم، وكل من رام من هؤلاء الملوك أن يطفئ هذا النور، أطفأ الله ناره وجعلها رمادا، وجعل كثيرا من أموالهم فيئا للمسلمين، وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة.
ثم إن الله بفضله وإحسانه: أظهر هذا الدين في نجد، وأذل من عاداه، فعمت النعمة أهل نجد، ومن والاهم شرقا وغربا، وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام، التي رضيها سبحانه لعباده دينا، فلم يقدر أحد أن يغيرها بقوته وقدرته.
فاشكروا ربكم سبحانه، الذي حفظ عليكم دينكم، ورد لكم الكرة على من خرج عنه، وذلك بالإقبال على التوحيد، تعلما وتعليما، والأمر بما يحبه الله من طاعتة، والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي.
وفي كلام بعض العلماء ما يبين حال كثير من هذه الأمة قبل هذه الدعوة، من الشرك العظيم; فمن ذلك قول عالم صنعاء، الأمير: محمد بن إسماعيل، رحمه الله، عن شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله وعفا عنه:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد(14/164)
وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد
ثم إن الله لما جمعكم على إمام ترضونه، وقد حصل لكم من الأمن والراحة والعافية وكف أيدي الظلمة عنكم ما لا يخفى. ثم لما تبين من خلع الطاعة، وفارق الجماعة، وسعى في الخروج إلى ما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الفتنة في الدين، وشق عصا المسلمين، أوقع الله به وبمن جمع بأسه، وقتل أشرار من معه، وأظهر الله جماعة المسلمين وإمامهم، على كل من أفسد، من قتل في هذه الفتنة أو نهب؛ وصاروا أذلة وحفظ الله عليكم الجماعة.
فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعمة العظيمة، والتنافس في هذا الدين الذي من الله به عليكم، وهو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وأكمله ورضيه لعباده، كما قال تعالي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 3ب] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة الحشر آية: 18-20] ، فاحذروا نسيان ربكم بالإعراض عما افترضه عليكم، وأقبلوا على توحيده وطاعته، واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار.
والحق في ذلك: على العلماء والأمراء أعظم، لأن(14/165)
العامة يتبعونهم ويتقربون إليهم بما يحبونه، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره، فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ وقد بين الله معناها في آيات كثيرة من كتابه، فإنها دلت على نفي الشرك، والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وذلك في آي كثير.
فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105] : فقوله {وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [سورة يونس آية: 105] : فيه الإخلاص، وحَنِيفاً فيه ترك الشرك. وقوله {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105] ، فيه البراءة منهم ومن دينهم. قال الله تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] . والآيات في معنى لا إله إلا الله، أكثر من أن تحصر، كقوله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] .
والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد، الذي فيه الفلاح والنجاة، وصلاح الدنيا والآخرة؛ فلا تنسوا ربكم، بالإعراض عن الهدى، فينسيكم أنفسكم. ومن عقوبة الإعراض عمى البصيرة في الدنيا والآخرة.
ولا باق معكم من دنياكم إلا دينكم، لمن من الله عليه بحفظه، والإقبال عليه والعمل به، وأنتم تفهمون أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل.(14/166)
هذا ما نوصيكم به، وندلكم عليه: عامة العلماء والأمراء خاصة; فيجب على العلماء والأمراء: أن يكونوا صدرا في هذا الدين، بالرغبة فيه والترغيب، وأن يكونوا سندا لمن أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ويتفقدون أهل بلدهم، في صلاتهم، وتعليمهم دينهم، وكفهم عن السفاهة، وما يحرم عليهم، لأن الله تعالى سائلهم عنه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.
[الحث على معرفة دين الإسلام وقبوله والمسارعة إليه]
وقال عبد الله بن فيصل، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، أصلح الله لنا ولهم الحال والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفاكم أن أهم أمركم، وما كلفنا به من معرفة دين الإسلام، وقبوله، والمسارعة إلى العمل به؛ وهو الأصل الذي لا ينتفع بالأعمال إلا معه، ولا تصح ولا تنعقد العبادة إلا به، لأنه شرط في صحة جميع العبادات.
وقد مدح الله من عباده الذين إذا مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور; وذم تعالى في كتابه من فرط في هذا وأضاعه، قال تعالى بعد أن ذكر خواص أوليائه وأكابر(14/167)
رسله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59ي] .
وقد عرفتم ما حصل من التفريط والإضاعة في أصل الإسلام، حتى تلاعب الشيطان في كثير من الناس، وأخرجهم عنه بأمور وأحداث تنافي حقيقته، وتناقض مقصوده.
من ذلك: ترك التمسك بما كان عليه صدر هذه الأمة وأئمتها، من إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال التي وصف الرب بها نفسه، ووصفه بها نبيه، وتعرف بهما إلى عباده، والرغبة عن هذا إلى ما أحدثه المتكلمون ومن أخذ عنهم، من نفي حقائق الصفات، وسلب ما دلت عليه، كمن ينكر حقيقة استواء الله على عرشه، وعلوه بذاته على جميع مخلوقاته، كما أنكره جهم ومن تبعه.
وكذلك: إنكار تكليمه تعالى لنبيه موسى عليه السلام، وأنه تكلم بالقرآن العظيم، وسمعه من الروح الأمين، وزعم أن القرآن الذي نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم مخلوق، أو أنه عبارة عما في نفس الباري، وأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.
فإن هذه الأقوال تخرج بصاحبها إلى أودية الهلاك والضلال، وتحول بينه وبين الإسلام، كما قرره أكابر الأئمة من الأعلام. والواجب في هذا أن يوصف الله بما وصف به(14/168)
نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ على هذا درج أئمة الإسلام، وأهل السنة والجماعة.
ونبرأ إلى الله تعالى من الخروج عن سبيلهم، والرغبة عن هديهم ومنهاجهم; فمنها: الغلو في الأولياء والصالحين، ومجاوزة ما شرع في حقهم إلى رتبة وغاية لا تليق بالعباد، ولا يستحقها إلا إلله الذي له ملك السماوات والأرض، وذلك كدعاء الصالحين من الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في الحاجات والملمات والشدائد، ونحو ذلك من المطالب الدينية والدنيوية العاجلة والآجلة.
وأصل الشرك وسبب حدوثه، هو: دعاء الأموات والغائبين، وطلب الحوائج منهم; وقد ابتلي بهذا كثير ممن يدعي الإسلام، وصرفوا للأموات خالص العبادة ولبها، ودعوهم رغبا ورهبا، وحجوا لقبورهم، وقربوا لها القرابين، وعظموها غاية التعظيم، بالنذر وعقد اليمين، وطافوا بقبورهم كما يطوف المسلم ببيت الله رب العالمين.
وحصل من الخضوع والخشوع والانكسار، ما لا يحصل مثله في المساجد، وعند القيام بين أيدي العزيز الغفار، فانسلخوا بذلك من الإسلام والدين، ولم يبق معهم شيء من حقيقة أمر المسلمين، سوى مجرد القول والتلفظ بالشهادة، والله يعلم أن الأكثر كاذب فيما قال، وإن أكده وأعاده.(14/169)
وبعض من يعتقد في القبور، وصل غاية من الكفر والضلال ما وصل إليها جمهور المشركين الأولين والجهال، فاعتقدوا التدبير، والتعريف للموتى والصالحين، وقصدوهم على أن لهم تدبير العالم وما يجري فيه، وهذا مشهور عنهم، لا يتحاشون من إبدائه وإظهاره، لأن الشيطان أظهره في قالب الكرامة للأولياء والصالحين، وأوهمهم أنهم بذلك يصيرون لهم من المحبين والتابعين.
وقد كثر هذا وابتلي به طائفة من الشيعة والرافضة الذين غلوا في أهل البيت، وتجاوزوا الحد في ذلك، حتى عبدوهم مع الله، ودعوهم لحوائجهم ونوائبهم، وتوكلوا عليهم، وسجدوا على ما ينقل من تربة بعضهم، وجعلوهم أربابا تعبد، وآلهة تقصد؛ وهذا غاية الكفر الموجب لسخط الله وغضبه والخلود في نار جهنم، في أمم قد خلت من قبل. فنعوذ بالله من ذلك، ومن الركون إلى أهل تلك الضلالات والمهالك.
وأضافوا إلى ذلك مكفرات كثيرة، منها: مسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسبة أم المؤمنين التي نزلت براءتها وتزكيتها في كتاب الله، من فوق سماواته، وقد قال تعالى، في الثناء على أصحاب رسوله {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [سورة التوبة آية: 100] .
وقال تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الفتح آية: 18] .(14/170)
إلى قوله {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [سورة الفتح آية: 18] .
وأبو بكر وعمر أولى الناس بذلك، ورؤساؤهم في كل خير. وعثمان بايع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بيده اليمنى على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان لأنه كان غائبا في بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه تزكية لعثمان، وشهادة له بحقائق الدين والإيمان؛ والله يقبل شهادة نبيه وتزكيته، ويقبلها أولو العلم من خلقه؛ وإنما يجحدها ويردها، أعداء الله ورسوله، وأعداء أوليائه المتقين.
وقال تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح آية: 29] الآية.
وقال تعالى في خصوص الصديق {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [سورة التوبة آية: 40] .
وفي السنة من مناقب الصحابة ومآثرهم وتزكيتهم، ما لا يحصى إلا بكلفة; من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه 1. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله اختارني، واختار أصحابي، فجعل لي منهم أظهارا وأنصارا وقال صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة 2.
__________
1 البخاري: المناقب 3673 , ومسلم: فضائل الصحابة 2541 , والترمذي: المناقب 3861 , وأبو داود: السنة 4658 , وأحمد 3/11 ,3/54 ,3/63.
2 أبو داود: السنة 4607 , والدارمي: المقدمة 95.(14/171)
وقال رجل لابن عباس: أوصني; فقال: أوصيك بتقوى الله، وإياك وذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك لا تدري ما سبق لهم.
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبة نبيه، ونصرته، صلى الله عليه وسلم.
وقال رضي الله عنه من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقربها هديا، وأحسنها حالا; قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقال رضي الله عنه: إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر وقال رضي الله عنه إنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال، أمور تكون من كبرائكم. فأيما امرأة أو رجل أدرك ذلك الزمان، فالسمت الأول، فإنا اليوم على السنة.
وقال الأوزاعي: إمام أهل الشام: اصبر نفسك على السنة، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختارهم الله له،(14/172)
وبعثه فيهم وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [سورة الفتح آية: 28] الآية.
فمن أهم الواجبات الدينية والعقائد السلفية، موالاة جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبتهم، والكف عما شجر بينهم.
والواجب على من نصح نفسه، وآمن بلقاء الله، وبالجنة والنار، أن يعرف دين الإسلام، وحقيقته، ويجتهد أشد الاجتهاد في الخلاص من هذه الموبقات والمكفرات العظام، التي لا يبقى معها من الإيمان والدين ما يوجب النجاة، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ومن أهم الأمور، وآكد الأركان الإسلامية، إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها بشروطها، وواجباتها، وإلزام الناس بذلك، وتشديد الإنكار على من أضاعها أو تركها.
وأكثر السلف يرون كفر تارك الصلاة، بمجرد الترك، وكذلك سائر المباني الإسلامية، والأصول الإيمانية، التي لا يقوم الدين إلا بها، فعلى الناس كافة الأمر بها، والتعاون عليها، والنهي عن تركها، والتغليظ على تاركها.
وعلى الأمراء والنواب في البلدان والقرى، تأديب التاركين، وتعزيرهم على الترك والتكاسل، وإلزام الناس بدين الله. ومن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،(14/173)
من الأمراء وغيرهم، فقد ظلم نفسه، وأضاع نصيبه، وفرط في حق الله، وتعرض لسخطه،
ومن الواجبات الدينية: النهي عن قربان الفواحش؛ ومن عرف من السفهاء وأولاد التجار المترفين، بالفسوق والفجور، وتعدّي الحدود الشرعية إلى خلعات الفجار، ومعاشرة الأشرار، فقد ألزمنا الأمير والنواب تعزيرهم بما يردعهم، وإلزامهم بما يصلحهم؛ وما يحتاج رفعه إلى ولي الأمر، فعليهم أن يرفعوه وينبهوا عليه.
ومن الواجبات الدينية: النهي عن بخس المكاييل والموازين، وتفقد أهل الأسواق في ذلك؛ ومن ظهر منه هذا الذنب العظيم، فلا يمكن من البيع في السوق والجلوس فيه، بل يعزر تعزيرا بليغا.
ومن الواجبات الدينية: نهي النساء عن مخالطة الرجال الأجانب، ومعاشرتهم في الأسواق والعيون وغير ذلك من المجامع التي يجتمعون فيها، فإن هذا وسيلة إلى وقوع الفاحشة وظهورها.
وكذلك من الواجبات الشرعية: النهي عن الربا في المعاملات والمبايعات، وتأديب من فعله، وتنكيله، وطرده عن وطنه، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278 - 279] .(14/174)
وكل ما ذكر داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} إلى قوله: {لعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل آية: 90] ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وصحبه الطيبين الطاهرين.
[الحث على لزوم الجماعة وعلى الجهاد وقبول النصيحة]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، صب الله عليهم من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه من المسلمين، وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبل الرشاد والهدى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فقد سبق إليكم من النصائح، والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، ما فيه كفاية وهداية، لمن أحيا الله قلبه، وأراد هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1.
فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه، وقواعده المهمة، فيدخل فيها الإيمان بالله ومحبته، وخشيته والخضوع له وتعظيمه، وتعظيم أمره ونهيه، وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وإلحاد وشرك وتكذيب، لأن النصيحة لله خلوص الباطن والسر من الغش
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/175)
والريب، والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه.
وكذلك النصيحة لكتابه، تتضمن العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النّزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه.
والنصح لرسوله يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته، وتوقيره وتعزيره، ومتابعته، والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه، من هوى أو بدعة أو قول.
والنصح لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مشاقتهم ومنازعتهم.
والنصح لعامة المسلمين هو تعليمهم وإرشادهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم، وذهاب دينهم ودنياهم، من معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه، من التفرق والاختلاف، وترك الحقوق الإسلامية.
وفي الحديث: ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم: إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم 1 فأفاد أن هذه
__________
1 ابن ماجه: المناسك 3056 , وأحمد 4/80 ,4/82 , والدارمي: المقدمة 227. لا(14/176)
الثلاث لا يدعها المسلم، إلا لغل في قلبه; بل المسلم الصادق في إسلامه لا يكون إلا مخلصا دينه لله، مناصحا لإمامه، ملازما لجماعة المسلمين.
وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] .
فابتدأ الآية بالأمر بأن يتقى حق التقاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، لأن قوله {ولا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، تحضيض وحث على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء مات عليه.
وقد أمر بالاعتصام بحبله، وهو دينه وكتابه، أمرا عاما لجميع المكلفين، وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام يتوقف على ذلك، ولا يحصل المقصود منه إلا بالاعتصام بحبل الله، وترك التفرق والاختلاف، لما فيها من فساد الدين، وهدم أصوله وقواعده.
ثم ذكرهم بنعمته عليهم، بتأليف قلوبهم، واجتماعها بعد العداوة والبغضاء؛ فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك،(14/177)
وشقوة في العاجل والآجل؛ والجماعة والائتلاف، رحمة وسعادة ونعيم، في العاجل والآجل.
وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار، بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتن عليهم وأنقذهم، واجتباهم وهداهم وجمع قلوبهم وشملهم بعد الفرقة والشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم ما أجلها، ومواهب ما أعظمها، وأبراها لمن عقلها وشكرها.
ولذلك ختم الآية بقوله: {بَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 103] ، فيه بيان الحكمة المقتضية لبيان الآيات، والتذكير بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك أسباب الشقاء والردى.
وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي امتن الله بها على يد شيخنا رحمه الله تعالى، كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله، وجلال قدسه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه.
كنتم على غاية من التفرق والاختلاف، فبصركم الله بهذه الدعوة المباركة من العمى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعلمكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به، واختاركم على من ضل وغوى، وجمعكم بعد الفرقة، وألف(14/178)
بين قلوبكم بعد العداوة والمشاقة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة.
فاشكروه على هذه النعم العظيمة، بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته ومغفرته، ولا تكونوا {الذين بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [سورة إبراهيم آية: 28] ، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى.
وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله، وابتلاكم بأعداء دينه، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، ولو شاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض.
وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع والمحن، من أكبر أسبابه، وأعظم موجباته: مخالفة الأمر الشرعي، وترك طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ولهذا يسلط العدو، وتنْزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بوطر الذلة والمهانة، كما جاءت به الآثار، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار.
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ(14/179)
الْمُؤْمِنِينَ َا يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} إلى قوله {ظَاهِرِينَ} [سورةالصف آية: 10-14] .
وفي الحديث: من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق 1. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض 2.
فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 281] . جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح، والسلام.
__________
1 مسلم: الإمارة 1910 , والنسائي: الجهاد 3097 , وأبو داود: الجهاد 2502.
2 البخاري: الجهاد والسير 2790 , وأحمد 2/335 ,2/339.(14/180)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أهل الحوطة يذكرهم بنعمة الإسلام بسبب الشيخ ابن عبد الوهاب]
وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان من أهل الحوطة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
اعلموا أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، ولا يكفي أحدهما عن الآخر، في النجاة والسلامة، من الوعيد الدنيوي والأخروي.
وقد من الله عليكم بدين الإسلام، واختصكم به دون كثير من الأنام، لما أتاح الله لكم شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل، من معرفة الله وخشيته وعبادته وحده لا شريك له، والقيام بالأركان الإسلامية، والأصول الإيمانية.
فأعز الله بذلك من قبله ونصره، ورفع قدرهم وشأنهم، وجعلهم ملوكا، تهابهم الأمم، وينقاد لأمرهم جمهور العرب، باديتهم وحاضرتهم؛ ولم يزالوا كذلك قاهرين ظاهرين، حتى حدث ما حدث، ووقع ما وقع من الإعراض، والقسوة، والتمادي على معاصي الله.
فسلط الله عليهم العدو، وافترقت الكلمة، وانخرم
__________
1 وله نصيحة أخرى تقدمت في الجزء الأول لمناسبتها هناك.(14/181)
النظام، وعثا الفجرة اللئام، في دماء أهل الإسلام وأموالهم، وكثر الخوض، ونسي العلم، والتبس أمر التوحيد والإيمان على كثير من الخلق، وصارت فتنة عمياء صماء، لا يبصر صاحبها ولا يسمع، وما زال غمامها لم ينقشع، وليلها يحلو لك ولا يدبر، وأبناؤها بساحتكم تحاول إطفاء نور الله.
فسارعوا وبادروا إلى التوبة والإقلاع والندم والاستغفار، وتعاونوا على البر والتقوى، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [سورة الأعراف آية: 170] .
فراجعوا دينكم قبل أن يحل من أمر الله ما لا تدفعون، وينْزل من بأسه ما لاتردون {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
ويجب على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يعينهم بحسب طاقته، بيده أو بلسانه؛ وهذا من أسباب بقاء التوحيد فيكم والإسلام، وحمايتكم دياركم عن عباد الأوثان والأصنام، وحفظ ما خولكم الله من سوابغ الفضل والإنعام، وكثير من الناس يحصل منهم أسباب، ووسائل وذرائع، إلى زوال النعم؛ وحلول السخط والنقم.
منها: التهاون بنعمة الإسلام والتوحيد، واختلاف القلوب، والعدواة الظاهرة، وترك نصرة الإسلام والتوجع لمصابه، والإقبال على الدنيا، ونسيان الآخرة، والاستخفاف(14/182)
بالأركان الإسلامية، كإضاعة الصلاة، ومنع الزكاة، وأخذها بغير حقها، وترك السمع والطاعة لولي الأمر، من الأمراء والعلماء.
فهذه أسباب وعلامات على نزول العقوبة، وحلول النقمة، وانتقال النعمة، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16] . وبلادكم ليست على الحال الأولى في مبدإ الإسلام وبعده، والعاقل يعرف ذلك في نفسه، وأهل بلده.
وقد ذم الله تعالى من قست قلوبهم، ولم يتضرعوا عند حلول بأسه وانتقامه، فقال تعالى:: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 43] .
وذم تعالى من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، ويأخذون على أيدي السفهاء، فقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] . يخبر تعالى أنهم اتبعوا الشهوات، وآثروا اللذات، فكانوا من جملة المجرمين.
وقال تعالى:: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [سورة يونس آية: 98] . فدلت هذه الآية على أن(14/183)
الإيمان والعمل الصالح يكشف العذاب عند نزوله، ويمنع به المؤمن حينا من الدهر.
وقد أمدكم الله بنعمه، وعمر بلدكم ومساكنكم بالإسلام، والسمع والطاعة، فاحذروا الرجوع على أعقابكم، وتبديل النعمة، قال تعالى:: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة البقرة آية: 211] .
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} إلى قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة سبأ آية: 15 –19] .
فتدبروا ما في هذه الآيات الكريمات، التي هي من أوضح الواضحات، وأبين الحجج والبينات، وتفطنوا فيما ذكر من الإعراض عن الشكر، وما اقتضاه من العقوبة والعذاب، وفقنا الله وإياكم لتدبر القول وحسن العمل والختام، وصلى الله على محمد.(14/184)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى شيخ المدرسين بحرم الرسول لما شاع في البلاد من الفساد]
وله أيضا، جعل الله له لسان صدق في الآخرين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يجددون ما اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين آمنوا به، وعزروه ونصروه، وسلم تسليما كثيرا.
إلى جناب المفضل، والشيخ المبجل، شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول، ومن لديه من العلماء الأفاضل الفحول، بعد إهداء السلام والتحية، لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشرعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة.
لما شاع في البلاد العربية، اليمنية منها والعراقية، التهامية والنجدية، وما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم، والكفر الواضح المستبين، والأمر بهدم أظهر شعار الملة والدين، وأن لا ينادى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين.(14/185)
والأمر بهتك ستر حرم المسلمين، وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاما لشناعته وكفره وردا، كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع راياتها بين الأنام بالحرم والبلدة الحرام؟!.
: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] . أما في الزوايا خبايا؟ أما للعلم والرجال بقايا؟.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، لما وفد عليه بعد أن فر إلى الشام هاربا: ما يفرك؟ أتفر أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ 1 فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان والأركان الإسلامية، وقلع القواعد النبوية.
يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
وقد بلغنا عنكم ما يسر به نفوس المسلمين، من رد ذلك الإفك المبين، والواجب علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أعلام أوضح الشرائع والمسالك.
وقد تواترت عندنا - بحمد الله - الأخبار عن كافة العرب، من جميع الأقطار، بإنكار ذلك ورده، والحكم بأنه
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن 2954 , وأحمد 4/378.(14/186)
من أظهر شعار الكفار، ومن فعله وجب معاجلته بالحرب والدمار، والكل منهم يعاهد على أنه السابق في تلك الحلبة والمضمار.
فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام.
فإياكم إياكم والمداهنة، والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها وتهوي إلى الدرك الأسفل من النار.
كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َوَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58] .
فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط، من نفي الإيمان عمن ترك التقوى، ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه، من موالاة أهل الكفر والردي، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو متقرر عند أهل العلم والهدى.
ونحن نعلم أن الله سينصر دينه، ويعلي كلمته، وأنه لا يصلح عمل المفسدين؛ ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله، والدخول في جملة أنصاره،: {وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ(14/187)
عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة آل عمران آية: 126] .
صلى الله عليه وسلموالمعهود عن الدولة العثمانية، من عهد السلطان سليم ابن السلطان بايزيد، من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين، من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا، وأوائل عصرنا، هو: المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين، زادهما الله تشريفا وتكريما وتعظيما.
فلعل هذه الحوادث، عن بعض النواب والوزراء، الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم بأسباب السعادة والشقاء، وصلى الله على إمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد الرحمن الألوسي يحذره من أهل الشرك]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ذي الجناب المكرم، والفضل الباذخ المقدم، السيد عبد الرحمن الألوسي، سلك الله به سبل الاستقامة، وزينه بحلل التوفيق والكرامة، ورفعه إلى رتب السيادة والإمامة، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته.
أما بعد:
فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير، دائم المعروف على ما أولاه، من سوابغ نعمه، الباطنة والظاهرة، وما ألبسه من ملابس كرامته السنية الفاخرة، التي أعظمها وأجلها على الإطلاق، هدايته لدينه(14/188)
الذي ارتضى لنفسه، واختص به أولياءه، وخاصة أهل كرامته وقدسه.
مع أنه قد اطرد القياس بفساد أكثر الناس، وتركهم من الإسلام أصله الأعظم والأساس، وكثر الاشتباه في أبواب الدين والالتباس؛ وجمهورهم عكس القضية، في مسمى الملة الإسلامية، ولم يميزوا بينها وبين الملة القرشية، والسنة الجاهلية، فهم كما وصفهم الله تعالى، بقوله:: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] .
وكتابك الكريم وصل إلينا، وحسن موقعه لدينا، لما بلغنا عنك من إظهار الإسلام والسنة، وعيب أهل الشرك والبدعة، وطعنك على الدعاة إلى الضلال، وعيبهم بما يبدونه من سوء العمل، وشنيع المقال؛ وأن الله قمعهم بك، وقواك عليهم فأذلهم وأهانهم.
فأبشر بثواب ذلك، واعتد به من أفضل أعمالك، وحسناتك، وفي الحديث: من أحيا شيئا من سنتي، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين أصبعيه وفي الأثر: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنم ذلك، وكن من صالح أهله.
واحرص: أن يكون لك في ذلك جماعة وتلامذة، يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونوا أئمة بعدك،(14/189)
ويجري لك مثل أجورهم إلى يوم القيامة، كما صح به الخبر فاعمل على بصيرة.
وسر إلى الله بصلاح القصد والسريرة، وإياك أن يكون لك من أهل الشرك، الذين يعبدون الأولياء والصالحين، جليس أو صديق، فقد جاء الأثر: من جالس صاحب بدعة، نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه. ومن مشى إلى صاحب بدعة، مشى في هدم الإسلام، وهذا في بدع لا تخرج عن الملة، فكيف بالشرك الذي يتضمن العدل والتسوية برب العالمين؟!.
بل يتضمن مسبته تعالى وتقدس، فسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. هذا وشيخنا الوالد المكرم، والإمام الفاضل المقدم، يبلغانك السلام، والسلام على من لديك من الإخوان في الله، المحبين لجلاله، ورحمة الله وبركاته.(14/190)
صلى الله عليه وسلم [رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الإمام فيصل بن تركي يذكره بنعمة الله على خلقه وهي بعثة سيدنا محمد]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإمام المكرم: فيصل بن تركي، وفقه الله لقبول النصائح، وجنبه أسباب الندم والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فلا يخفى عليك أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمة أجل وأعظم، من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله بعثه وأهل الأرض، عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم، قرويهم وبدويهم، جهال ضلال، على غير هدي ولا دين يرتضى، إلا من شاء الله من غير أهل الكتاب.
فصدع بما أوحي إليه وأمر بتبليغه، وبلغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الديانات المتفرقة، والملل المتباينة المتنوعة، ودعاهم إلى صراط مستقيم، ومنهج واضح كريم، يصل سالكه إلى جنات النعيم، ويتطهر من كل خلق ذميم.
وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة، الدالة على صدق وثبوت رسالته ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجة؛ ومع ذلك كابر من كابر، وعاند من عاند، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق.
ورأوا أن الإنقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النحل والملل، يجر عليهم من مسبة آبائهم،(14/191)
وتسفيه أحلامهم، أو نقص رياستهم، أو ذهاب مأكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم؛ فلذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الرد والمكابرة، والتعصب على باطلهم والمثابرة.
وأكثرهم يعلمون أنه محق، وأنه جاءهم بالهدى ودعا إليه، لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات، ومؤاخاة ورياسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها، إلا بمخالفته وترك الاستجابة له وموافقته؛ وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل، وتقديم ما جاؤوا به، ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان.
وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك، حتى أيد الله دينه ونصر رسوله، بصفوة أهل الأرض وخيرهم، ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة؛ فأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتى من الله على ذلك الحي من الأنصار، بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادة الأقدار.
فاستجاب لله ورسوله منهم عصابة حصل بهم من العز والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة؛ وصارت بلدهم بلد الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون؛ حتى إذا عز جانبهم،(14/192)
وقويت شوكتهم، أذن لهم بالجهاد، بقوله تعالى:: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج آية: 39] .
ثم لما أشتد ساعدهم، وكثر عددهم أنزلت آية السيف، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشرائع الإسلامية؛ فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجردوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى:: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة آية: 24] .
فلما علم الله منهم الصدق في معاملته، وإيثار مرضاته ومحبته، أيدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه؛ فأذل بهم أنوفا شامخة عاتية، ورد بهم إليه قلوبا شاردة لاهية، جاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحوا آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة. وظهر الإسلام في الأرض ظهورا ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك.
واستبان لذوي الألباب والعلوم من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرر معلوم، ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعلم الإسلام في كل جهة من الجهات مرفوع منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع(14/193)
والتمادي في فعل المحرمات، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه.
فضعفت القوى الإسلامية، وغلظت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن؛ فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيئات، وظهرت أسرار قوله تعالى:: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة التوبة آية: 69] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم 1.
ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلا العليم الغفار، من ذلك: أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة، في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ويدعو إلى واضح السبيل ومستبينها، كي لا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحل وجود ذلك وتعدم آياته.
فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوما في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول.
ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها؛ محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل، وأسها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7320 , وابن ماجه: الفتن 3994 , وأحمد 2/327.(14/194)
يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بما سواه من الأنداد والآلهة.
هذا أصل أديان الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، ولب شرائعهم وحقيقة ملتهم؛ وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه، ما لا يتسع له هذا الموضوع، وكل الدين يدور على هذا الأصل، ويتفرع عنه.
ومن طاف البلاد وخبر أحوال الناس، منذ أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبعدهم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل، فكل بلد وكل قطر، وكل جهة فيما نعلم، فيها من الآلهة التي عبدت مع الله، بخالص العبادات، وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره.
بل وصل بعضهم إلى أن الدعاء لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات؛ ومن أنكر ذلك عندهم، فهو خارجي ينكر الكرامات; وكذلك هم في باب الأسماء والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم، معطلة، وكذلك يدينون بالإلحاد والتحريفات، وهم يظنون أنهم من أهل التزين والمعرفة باللغات.(14/195)
ثم إذا نظرت إليهم وسبرتهم، في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة، لم تأت بها النبوات.
هذا وصف من يدعي الإسلام منهم، في سائر الجهات.
وأما من كذب بأصل الرسالة، أو أعرض عنها، ولم يرفع بذلك رأسا، فهؤلاء نوع آخر، وجنس ثان، ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، بل هم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} [سورة الأعراف آية: 179] الآية. فمن عرف هذا حق المعرفة، وتبين له الأمر على وجهه، عرف حينئذ قدر نعمة الله عليه، وما اختصه الله تعالى، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن.
وقد اختصكم الله تعالى من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصة، ومن عليكم بمنة عظيمة صالحة، من بين سائر الأمم وأصناف الناس، في هذه الأزمان، فأتاح لكم من أحبار هذه الأمة وعلمائهم حبرا جليلا، وعلما نبيلا، فقيها عارفا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام وتحول.
فتجرد إلى الدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين، وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار،(14/196)
والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار؛ فجادل في الله وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله.
وأنكر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل، المعرضين عنه، التاركين له; وصنف في الرد على من عاند وجادل وماحل؛ وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عده، وكثير بينهم يعرف بعضه.
ووازره على ذلك من سبقت له من الله سابقة السعادة، وأقبل على معرفة ما عنده من العلم وأراده، من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين، رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرا.
فما زالوا من ذلك على آثار حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم تعالى من عظيم صنعه وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح رحمهما الله تعالى.
ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات؛ وجرى من العقوبة والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير؛ ثم أدرككم من رحمته تعالى وألطافه، ما رد لكم به الكرة بعد الكرة، ونصركم ببركته المرة بعد المرة، ولله تعالى عليك خاصة نعم لا يحصيها العد(14/197)
والإحصاء، ولا يحيط بها إلا عالم السر والنجوى.
فكم أنقذك من هول وشدة، وكم أظهرك على من ناوأك، مع كثرة العدد منهم والعدة؛ ولم تزل نعمه عليك تترى، وحوله وقوته يرفعك إلى ما ترى، حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة؛ وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم، ممن قام بنصر الدين وأظهره.
وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في ترك الأخذ بأحكام المنهج المشروع، حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلم كل كاره للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لعبا لكل منافق، وحاسد، وكتب في الطعن على أهل هذه الملة الرسائل والأوراق، وتكلم في عيبهم وذمهم أهل البغي والشقاق.
وصار أمر العلم والدين ممتهنا عند الأكثرين، من العامة والمتقدمين، وإقبالهم إنما هو على نيل الحظوظ الدنيوية، والشهوات النفسانية، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينية، والواجبات الإسلامية؛ وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب.
والمؤمن من يعلم أن لهذه الأمور غائلة، وعاقبة ذميمة وخيمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور. فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب، وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب، ويسبل الحجاب. وفقنا الله وإياكم لقبول أوامره وترك مناهيه،(14/198)
وخوف زواجره، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
[التذكير بآيات الله تعالى والحث على لزوم الجماعة والوصية بالتقوى والجهاد]
وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لنصر الإسلام والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب هذا هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، قال تعالى:: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وأهم ما يبدأ به في التعليم، هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام، التي لا يحصل بدونها، ولا يستقيم بناؤه إلا عليها لا سيما معرفة ما دلت عليه كلمة التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علما وعملا.
فإن هذا هو أصل الدين وقاعدته، وهو الحكمة التي لأجلها خلقت الخليقة، وشرعت الطريقة، وأرسلت لأجلها الرسل، وبها أنزلت الكتب؛ وجميع أحكام الأمر والنهي تدور عليها، وترجع إليها.(14/199)
وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال، والإعراض عن حقائقه، وواجباته حتى ظهر الشرك، وظهرت وسائله وذرائعه، ممن ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب.
منها: الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورضيه لعباده، من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه، أو يضاد الكمال والتمام، من موالاة أعداء الله على اختلاف شعبها ومراتبها.
فمنها: المكفرات والموبقات، ومنها ما دون ذلك، وأكبر ذنب وأضله، وأعظمه منافاة لأصل الإسلام: نصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام.
وكذلك انشراح الصدر لهم، وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل تحت أمرهم، وانضم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم، ومسالمتهم وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك، من تكثير سوادهم، ومساكنتهم ومجامعتهم.
ويلتحق بالقسم الأول: حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى والمعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله؛ ومن في قلبه أدنى غيرة لله، وتعظيم له، يأنف ويشمئز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم، ولكن:(14/200)
.......... ... ما لجرح بميت إيلام
فليتق الله عبد يؤمن بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده، قبل أن يزل القدم، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم.
ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العلية: جهاد أعداء الله ومن صدف عن دينه الذي ارتضاه؛ وقد أوجب الله سبحانه الجهاد في سبيله، وأكده ورغلاب فيه، ووعد أهله بما أعد لأوليائه وأهل طاعته، من مرضاته وكرامته، ومجاورته في دار النعيم. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف آية: 10 - 14] إلى آخر السورة.
فانظر إلى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى مناهج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيهما من البشارة بكل فلاح ونجاح، في العاجل والآجل.
وانظر كيف ختم السورة بأمر عباده المؤمنين أن يكونوا أنصارا له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين؛ وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به.
وتأمل كفر الطائفة المعرضة عن طاعة رسله والجهاد في سبيله؛ وتأمل ما وعد به عباده من النصر والظهور، على(14/201)
من خالفهم وخذلهم، وكذا قوله تعالى:: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 111] .
وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة آية: 123] .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض 1، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق 2.
فاغتنموا رحمكم الله حضور المشاهد التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومراغمة أعدائه، فإن هذه المشاهد من الموجبات للرحمة والمغفرة والسعادة الأبدية وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم 3.
وإذا هم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم، لابتغاء مرضاة ربكم، وأطيعوا ذا أمركم، وأخلصوا النية، وأصلحوا الطوية، فإنما لكل امرئ ما نوى.
واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه
__________
1 البخاري: التوحيد 7423 , وأحمد 2/335 ,2/339.
2 مسلم: الإمارة 1910 , والنسائي: الجهاد 3097 , وأبو داود: الجهاد 2502.
3 البخاري: الجهاد والسير 3007 , ومسلم: فضائل الصحابة 2494 , والترمذي: تفسير القرآن 3305 , وأبو داود: الجهاد 2650 , وأحمد 1/79.(14/202)
ويراه، فقد رأيتم ما بلغ من مكائد الشيطان، وتفريق كلمة أهل الإيمان، حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فئام من المسلمين بأعداء الملة والدين.
نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده، وصلى الله على محمد.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أحد المشائخ يوصيه بتقوى الله وتدبر كتابه]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى المحب الأديب، اللوذعي النبيل الأريب، الشيخ العلامة، والفاضل الفهامة 1 أسعده الله بالتوفيق، وسلك به أقوم منهج وطريق، وجعله من أهل الفضل والتحقيق.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سلام نسجته المحبة على منوال الأشواق، وسطرته المودة بسواد مداد الأحداق، وتحيات تلعب بالعقول ما لعبت بالثمول.
وبعد: فإني بأيدي الابتهاج أخذت كتابكم الكريم، وحصل لي به من السرور ما الله به عليم، حيث احتوى على حسن أنباء طاب مسموعها; وإن سألتم عن محبتكم على البعاد، فيحمد الله تعالى ويثنى بنعمه عليه، أن عرفنا دين الإسلام، الذي صدف عنه أكثر الأنام، نسأل الله تعالى الثبات
__________
1 بياض بالأصل, ولعله [الشيخ حمد بن عتيق] كما يفهم من السجع الرشيق.(14/203)
على ذلك والهداية والقيام بحقوقه فهو رأس العناية.
فإنا والله في زمان قد عميت فيه القلوب، وتنوعت فيه الهموم والكروب، وامتحن الناس فيه بما أزالهم عما كانوا عليه، وصدهم عن حقيقة ما خلقوا له ودعوا إليه.
فالذي أوصيك به أخي: تقوى الله تعالى، وتدبر كتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء، ومعرفة دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، ونفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وممن فعله ورضيه، ولزوم طاعته بإقامة فرائضه وترك معاصيه، فإن من وفق لذلك نال أسباب السعادة والفلاح، لأن هذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وهو أصل دين الإسلام، وقاعدته المستلزمة إفراد الله تعالى بالمحبة.
ومن أيقن بلقاء الله تعالى، وأنه سائله عن كلمتين يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين; فواجب عليه طلب معرفة معبوده، والطريق الموصل إليه. فليكن هذا الأصل الأصيل، أهم الأمور عندك، ومن استقر هذا في قلبه، علم أن الله هو المستحق أن يعبد، خوفا وحبا، ورجاء وإجلالا، ولم يبق في قلبه محبة لأعدائه ولا موالاة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل.
فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، وحب من أحبهما وبغض من عاداهما؛ وأصل الأقوال الدينية: تصديق الله(14/204)
ورسوله والعمل بما أمر الله به ورسوله، فلا تصلح الأعمال والأقوال إلا بذلك.
وهل حصل الخلل، ووقع الخطأ والزلل، إلا بإهمال هذا الأصل، والوقوف مع الأغراض الدنيوية، والشهوات النفسانية. ولا تغتر أخي بعلماء السوء الذين لم يعرفوا عن معنى لا إله إلا الله، إلا ما عرفته غلاة المرجئة والأشاعرة، حتى ملؤوا الأرض، بمصنفات ملئت بالعقارب والحيات، صرفوا بها العوام عن كتاب الله وسنة رسوله.
فعليك بالتمسك بكتاب الله الذي هو النور والهدى، وهو الدواء النافع للقلوب والشفاء، وخذ معاني ذلك من كتب علماء الإسلام، ومصابيح الظلام، من سلف هذه الأمة وأئمتها، أهل القرون المفضلة ومن بعدهم، كالشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ومن هو على منهاجهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.(14/205)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمر بن سليم يقره بأسباب ما حدث للإسلام]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم المحب المفهم، محمد بن عمر بن سليم، سلك الله به الصراط المستقيم، ومنَّ عليه بمخالفة أصحاب الجحيم، ورفع درجته في جنات النعيم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما تعاقبت غدوات الدهر، وروحاته، سلام ألذ من نسيم الصبا، وأبهى من رونق الصبا.
وموجب الخط: إبلاغ السلام والتحية، وتفقد تلك الشمائل المرضية، لا زالت محروسة بعين العناية الربانية. والخط وصل، لا زلت موصولا بنفحات القرب والمحبوبية، محفوظا بالألطاف الخفية والجلية، وسرنا ما أفاده من الأخبار السارة عن تلك الذات، أدام الله سرورها، ورد أيام أنسها وحبورها؛ وصار له عند المحب موقع كريم، بما تضمن من الدعوات والنصائح؛ جعلك الله ممن يدرأ القبائح والفضائح، ويعمل بالحق ويوصي باتباعه، ويبثه في إخوانه وأشياعه.
وما أشرت إليه من أسباب ما حدث بالإسلام وأهله، وأنه من عقوبات الذنوب، فنعم هو ذلك، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه المبين، على لسان نبيه الأمين، وهذا المشهد يوجب للعبد من التوبة والإنابة، وتدارك ما فرط من الشر وأسبابه، ما يطهره من دنس الذنوب والعيوب،(14/206)
ويستقيل به عثراته وهفواته بين يدي علام الغيوب.
وفوقه مشهد أكبر منه وأجل، وهو مشهد الأسماء الحسنى، والصفات العلى، فيشهد عزته، ولطفه ورحمته وعفوه، وقيوميته، وجبروته وانتقامه، وما يبدي ويعيد، وما يقدر ويريد.
وهذا المشهد من أجل مشاهد التوحيد، ومنه يطلع العبد على أسرار القدر والقضاء، ويدرك به من حقائق الإيمان ونفحات الرضى، ما يتبوأ به منازل الصديقين، ويرى الحوادث الكونية قبل وقوعها، من وراء ستر رقيق؛ فنسأل الله أن يجعل لكم ولنا نصيبا وافرا، وحظا كاملا من العلم به، وحسن عبادته ومعاملته، وأن لا يجعلنا ممن اتبع هواه وكان أمره فرطا.
وما ذكرته من الوصايا النافعة باجتماع المسلمين، ولم شعثهم، فنسأل الله التوفيق لذلك، والإعانة على ما هنالك، والأمور بيد فاطر السماوات والأرض، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ وقد وصل الأمر إلى غاية لا يصل إليها الوعظ والقرآن، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، والعذر عن المكاتبة مقبول، والقلوب شواهد عدول.
والدعاء للإخوان بظهر مبذول، فلا تنس أخاك في أوقات المناجاة، وساعات التوجهات، وعليك بالإلحاح في الدعاء، بظهور الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله، ودحض(14/207)
الباطل وأهله. والله أسأل أن يمن علينا بالاجتماع على حال يرضاها، متمسكين من التقوى بأقوى حبالها وعراها، وأن يعيد أوقاتا سلفت بمذاكرة العلم الشريف.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمر بن سليم يخبره فيها بحال والده وشرحه لكتاب الكبائر]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم، سلمه الله تعالى وتولاه، وأسعده بالإيمان به وتقواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخطوط وصلت، وصلك الله ما يرضيه، وجعلك ممن يخافه ويتقيه. وقد سرني سلامتك وعافيتك، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة. والمحب لم ينس عهدكم، ولم يؤخر جواب خطكم عن ريبة جفاء، أو تغير مودة وصفاء؛ كيف ولكم من المنْزلة والتكريم، ما يشهد به كل مصاحب وحميم، لكن الأمور بأوقاتها منوطة، وبآجالها مربوطة، والمرء غالبا يؤتى من قبل التسويف، والسماحة خلق جليل شريف، وما أحسن ما قيل:
وما الود إدمان الزيارة من ضر ... ولكن على ما في القلوب المعول
والمحب والشيخ الوالد على ما تظنون، من القيام بحقكم، ومراعاة غيبتكم عند الإمام وابنه، ولا نذخر الذب والحماية ما استطعنا. وما أشرت إليه من جهة شرح كتاب(14/208)
الكبائر، فقد هممت به وسودت منه ما تيسر، ونسأل الله أن يمن بالإتمام، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك، وهو على كل شيء قدير، فإن حصل المقصود نسخنا لكم نسخة، إن شاء الله.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى سهل بن عبد الله يذكر له وصية من الشيخ محمد بن عبد الوهاب]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى سهل بن عبد الله، سلمه الله وسهل أمره، وشرح لدينه صدره، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على جزيل نعمه ووافر عطائه. والخطوط وصلت وسرت، وقرت، حيث أشعرت وأخبرت بسلامة المحب وطيبه، وعمارة الأوقات بالقراءة في كتب الأصول، والصحاح والتفاسير، وأن الإخوان في ازدياد، وأن الأشرار والأضداد في انقماع وانقباض.
فالحمد لله وحده، والشكر على نصر دينه وإظهار حجته، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بالثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن يوزعنا شكر نعمه وحسن عبادته.
وتطلب الفائدة، وأرشدك إلى التأمل في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية.(14/209)
[سورة البقرة آية: 266]
فاحذروا معاشر القراء، وأخلصوا العمل لوجهه الكريم الأعلى.
وقد حدثني بعض الثقات أنه اجتمع ببعض الأفاضل من أولاد الشيخ محمد بمكة سنة 1230 هـ قال: فشيعته لما أراد الذهاب إلى وطنه، وسألته الوصية. فقال لي - وقد ثنى رجله على رحله - تأمل قوله تعالى:: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} إلى قوله:: {إلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة يونس آية: 61 –62] ثم ودعني واستقلت به راحلته.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد آل سليم يذكره بالوصية الجامعة]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن عمر آل سليم، سلمه الله، وسلك به صراطه المستقيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه ومزيد إحسانه وكرمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين، وأحبابه التائبين؛ وحرر هذا لإبلاغ السلام والتحية، وتذكر تلك العهود السالفة المرضية، وتعاهد الأخوة الدينية الشرعية؛ جعلنا الله وإياكم ممن رعاها حق رعايتها، وحفظها في ذات الله وما ضيعها.
والوصية الجامعة: لزوم التقوى من حيث كنت، مع النظر في حقيقتها، وما اشتملت عليه من أعمال القلوب(14/210)
والجوارح، وتوقفها على العلم، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، من باب توقف اللازم التقوى على الملزوم، والسبب على سببه.
والجملة شرحها يطول، ولكن الإشارة كافية، وهي عند اللبيب تقوم مقام العبارة الوافية. هذا ومن حق الإخوة ملازمة الدعاء بظهر الغيب، والظن بك عدم الإهمال.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد آل سليم يذكره بما عليه الغالب من عدم المعرفة للدين]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عمر آل سليم، سلك الله بنا وبه صراطه المستقيم، ووفقنا بمنة لمخالفة أصحاب الجحيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من إنعامه، وما ألبسه من ملابس إكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقرب إليه; والخط وصل وصلك الله بالرضى، وقد سرنا ما أفاده من سلامة الحال، واعتدال الأوقات، لا زالت أحوالا محروسة، وأوقاتا بذكر الله معمورة مأنوسة.
وما أشرت إليه من قسوة القلوب، وكثرة الذنوب، وانصراف الخلق عما خلقوا له، فنعم؛ قد عم بذلك المصاب، واستحكم الداء وعز الدواء، إلا أن يمن الله على(14/211)
من يشاء من عباده، بالهداية والشفاء; واشتداد الغربة، واستحكام الشدة والكربة، قد وجد منذ أزمان، والشأن في هذا الزمان في نفس الوجود.
فإن غالب الأماكن والقرى والبلدان، لا يعرف فيها للدين حقيقة ولا اسم، ولا يهتدون سبيلا إلى ما جاءت به الرسل، ولا سيما والإسلام عندهم، هو ما نشؤوا عليه، وتلقوه عن أسلافهم في باب معرفة الله، ومعرفة حقه، وباب معرفة حكمه وشرعه.
فالأول: حقيقته عندهم هو التعطيل المحض; والثاني: خلاصته ولبه فيما بينهم هو التعلق على عباده، وجعلهم شركاء له; والثالث: جردوا فيه متابعة الأشياخ والآباء، عما جاءت به الرسل والأنبياء.
وهذا هو عين العكس وقلب الحقائق، فاجتهد في الخلاص من شبكات تلك المهالك والمضائق، بلزوم السنة والكتاب، والسلوك على أثر الآل والأصحاب، ومن تبعهم من ذوي الألباب، واجتهد في التضرع إلى الله في الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته، ولا تنسنا من صالح دعائك.(14/212)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى حمد بن عبد العزيز يلزمه بالدعوة إلى الله ويقوي عزمه]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وتولاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخط: إبلاغ السلام والتحية، والسؤال عن أخلاقك المحمية، سلك الله بها منهج الطريقة المحمدية; ولا يخفاك أيها الأخ حال أهل الزمان، وغربة الإسلام، وندرة الإيمان بينهم؛ وقد ابتلوا بما رأيت من الفتن والمحن، والتقاطع والتدابر والبغضاء، وصاروا أشتاتا بعد أن كانوا مجتمعين، وشيعا بعد ما كانوا عليه من الإسلام متعصبين.
ونسي العلم والتوحيد، وأقفرت الديار من الناصح الرشيد، وهدم الإسلام، وخلت الديار من ذوي العلم والإفهام، ولا شيء أقرب إلى الله وسيلة، وأرجى من الخيرات فضيلة، من الدعوة إلى سبيله، وإرشاد عبيده، وردهم إلى الله وتعلم دينه وتوحيده. وقد أهّلك الله - وله الحمد والمنة - لذلك، ووضع لك القبول فيما هنالك، وقد أجمع الرأي والمشورة على إلزامك بالدعوة إلى الله، والتذكير بدينه، وتنبيه عبيده على أصل دينهم، وما يجب فيه وعلى ما يضاده وينافيه، من المكفرات والشركيات، وتعطيل الشرائع والنبوات؛ فاغتنم(14/213)
أخي ذلك المشهد، وسارع إليه فإن الجزاء خطير، والثواب كبير شهير. وهذا خط الإمام عبد الرحمن وأصلك فلا تجاوب بلا ولن، فإنها داعية الهم والحزن، ولولا أني أخشى على النفس من كثير من أهل نجد، لتجشمت القيام بذلك، ولوجدتني حول المياه وبين المسالك، وإلى الله المشتكى من عدم المعين والنصير، وغلبة الجهال والكثير.
نسأل الله العون على مرضاته وذكره وشكره، وأن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله، قال بعضهم في تفسير قوله تعالى، عن المسيح عليه السلام:: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] ، أي: مذكرا بالله داعيا إلى سبيله، والسلام.
[ما دل عليه الكتاب من معرفة الله وما يترتب على ذلك]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى خالد بن إبراهيم، ومحمد بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومن جهة الفائدة، فأجل الفوائد وأشرفها، ما دل عليه الكتاب العزيز، من معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وآياته ومخلوقاته، ومعرفة ما يترتب على ذلك من عبادته وطاعته، وتعظيم أمره ونهيه؛ وأدلة ذلك مبسوطة في كتاب الله، وأكثر الناس ضل عن هذين الأصلين، مع أنهما زبدة الرسالة، ومقصد النبوة، ومدار الأحكام عليها.(14/214)
والعجب كل العجب أن حفظة القرآن، وحملة الأحاديث والآثار، ضلوا عما هو محفوظ في صدورهم، متلو بألسنتهم، وطلبوا العلم من غيره فضلوا وأضلوا; فعليكم بطلب العلم النافع، لا سيما ما يسأل عنه العبد في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ اعرفوا تفاصيل هذا، ومعنى الرب في هذا المحل، وتفقهوا في هذه الأصول، قبل أن تزل قدم وتزول.
وأما الفرق، بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، وهوى نفساني، كما في حديث: أن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة أنكروها ظاهرا، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم، ويشاربونهم، كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس فالاستئناس والمعاشرة، مع القدرة على الإنكار، هي عين المداهنة، شعرا:
وثمود لو لم يداهنوا في ربهم ... لم تدم ناقتهم بسيف قدار
وأما المداراة، فهي: درء شر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، وحصول شيء منه أكبر مما هو ملابس; وفي الحديث: شركم من اتقاه الناس خشية فحشه
وعن عائشة رضي الله عنها: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل ألان له(14/215)
الكلام، فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت، فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش والمسألة تحتاج لبسط; وأنتم تفكروا وتدبروا كلام العلماء، من أوله وآخره، مرة بعد مرة، الله الله; والسلام.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الإخوان يوصيهم بتقوى الله ويحثهم على الصبر على مقام الدعوة]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي، وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وعافاهم، وأصلح بالهم وتولاهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه وأقداره وحكمه؛ والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان.
والذي أوصيكم به تقوى الله، ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية، عند تغير الزمان وكثرة الفتن، وظهور الهرج، وقد ورد أن الله يحب البصر النافذ عند ورود الفتن والشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات.
وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته(14/216)
واستحضاره، عند ذكر الفتن والملاحم; وذكر ابن رجب رحمه الله في رسالته: "كشف الكربة في فضل الغربة" ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم رحمه الله في المدارج جملة صالحة; وفي الأثر: العبادة في الهرج، كهجرة إليَّ 1، وفي حديث الغرباء: للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 2.
والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بإبلاغ عن نبيكم؛ وهذا مع القدرة وأمن الفتنة، أفضل من العزلة؛ والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم: وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكني ابتليت بالناس، وحيل بيني وبين ذلك; والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله; وصلى الله على محمد.
__________
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة 2948 , والترمذي: الفتن 2201 , وابن ماجه: الفتن 3985 , وأحمد 5/25.
2 الترمذي: تفسير القرآن 3058.(14/217)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الإخوان يوصيهم بميراث النبوة]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: إبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم في الدنيا والآخرة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه، ومزيد إحسانه وإكرامه؛ جعلنا الله وإياكم ممن عرف قدر نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقربه إليه. كم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمان قبض فيه العلم، وفشا الجهل، وعدمت الحقائق الدينية؛ وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثر الخلق.
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى نساء الحي غير نسائها
وبلغوا سلامنا إخوانكم، ولا تغفلوا بصالح الدعوات في هذه الليالي المباركات. جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/218)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد الله الدوسري يوصيه بلزوم الكتاب والسنة]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري، وفقه الله لما يحبه ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك شاكرين; والخط وصل بما تضمن من الوصية، وفقنا الله وإياك لقبول الوصايا الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبية.
وأوصيك بما أوصيتني به، وبلزوم الكتاب والسنة، والرغبة فيهما؛ فإن أكثر الناس نبذوهما ظهرا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى، واذكر قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة، لما سألة عن الفتن، قال: إقرأ كتاب الله واعمل بما فيه كررها ثلاثا.
والحكمة - والله أعلم - شدة الحاجة وقت الفتن، وخوف الفتنة والتقلب، وأكثر الناس من أهل نجد وغيرهم، ليسوا على شيء في هذه الأزمان، والمؤمن من اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون؛ نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية.
ولا تذخر المذاكرة فيما ابتلي به الناس، من فتنة العساكر ومن والاهم، فإن هذا من أعظم ما دهم الإسلام(14/219)
وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان وهدم قواعده، ومن أفضل الأعمال: القيام لله عند ذلك على بصيرة، والدعوة إلى سبيله، والسلام.
صلى الله عليه وسلم [ما كتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى بعض الولاة بسبب أنه توسم به محبة الخير وقبولا للنصيحة]
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، أدام الله إفادته، إلى بعض الولاة، بسبب أنه توسم به محبة الخير وقبولا للنصيحة ما صورته 1 حفظه الله من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على ما أسبغ علينا من جزيل نعمائه; واعلم أنه إنما حملني على مكاتبتك، وابتدائك بالخطاب، ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة، ومحبة أهله ونصرتهم؛ وهذا من أجل النعم، وأفضل العطايا الإلهية، والمنح الربانية، وأنت في مكان وزمان قل خيره، وكثر شره، وقبض فيه العلم، وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء، وتطاول أهل البدع والأهواء.
فإن من الله عليك بقبول الإسلام والسنة، ونصرتها ومحبة أهلها، والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات، رجوت لك الظهور والنصر، والإقبال في الدنيا والآخرة؛ وربما كثر لديك محب الدين والقائم
__________
1 فيه سقط, ولعله مقصود لغرض ما.(14/220)
به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين.
ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة، وأين تقع النوافل؟ ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة، مع القدرة على ذلك؟! وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة، ولا أنفة من ترك دين الله، ومن معصيته وهجو ما جاء به رسوله، من توحيد الله تعالى والإيمان به؟ هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا وليكن منك على بال، قول الشاعر:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(14/221)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ مسفر بن عبد الرحمن يحثه على الاجتهاد في الدعوة إلى الملة الحنيفية]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم الشيخ: مسفر بن عبد الرحمن، لا زالت أيامه تسفر بالسعادة، وأوقاته معمورة بالإفادة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على جزيل نعمه ومزيد فضله وكرمه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف النعمة لمعطيها، وأثنى بها على مسديها وموليها. والخط وصل وبه الإنس حصل؛ حيث أفاد بسلامتكم وعافيتكم، ودعوتكم من لديكم إلى الملة الحنيفية، والشريعة المحمدية، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وعليك بالجد والاجتهاد في تلك المقامات، فإن غربة الدين قد اشتدت، وآثاره طمست وعفت؛ والقائم لله بهذا الدين، أجره كأجر خمسين من السابقين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/222)
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد آل سليم يخبره بحاجة الناس إلى مثله ويحثه على نشر العلم]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عمر آل سليم، سلمه الله تعالى وأسبغ عليه سوابغ فضله العميم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فلا يخفاك حاجة الناس إلى تعليم مثلك، وتدريسه وإفتائة، وقد يتعين الأمر على أمثالكم. ونشر العلم، والحكم بالقسط والعدل، في مواطن القضاء، من أفضل الأعمال، ومن موجبات الإثابة والرضى.
وقد أذنت لك بالإقراء والتدريس والإفتاء، بما ترجح عندك من كلام أهل العلم، بشرط أن يكون لك فيه سلف صالح من مشائخ الإسلام، وأئمة الهدى، ونسأل الله لك التوفيق والتسديد.
وملازمة التقوى من أعظم الأسباب التي تحصل بها الهداية، وتدرك بها الإصابة، ويظهر بها الحق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2] ، وهي وصية الله إلى عباده، لكنها تحتاج إلى العلم بأصولها وتفاصيلها، على القلوب والجوارح. وأوصيك بالدعاء لأخيك، فإنه من أرجى الأدعية إجابة سؤال لأخيه المؤمن، في ظهر الغيب، والسلام.(14/223)
[تنبيه الإمام فيصل بن تركي على ما حصل من تأسيسات في الوظائف حيث كانت على قاعدة غير شرعية]
وقال بعضهم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
موجب تحرير هذه الأحرف الأماثل، وتنميقها بالأنامل، إلى حضرة الإمام الفاضل: فيصل بن تركي، حماه الله تعالى وصانه، وأيده وأعانه، ورفع قدره ومقامه، وبلغه في الصالحات آماله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: وفقك الله وأثابك; فاعلم أنا نراسلك محبة قلبية، ونناصحك لصلاح نفسك والرعية، سنة أثرية فأخلص النية لله بصواب، وهذب نفسك ومحضها عن المآثم باستكانة ومآب، وإياك إياك والجمود على غير طريقة الصواب، وقد علمت أن سبب الخذلان والهوان: سلوك اتباع الهوى، وطاعة الشيطان، والسعي فيما لا يرضي الرحمن.
وقد تأملت جميع تأسيساتك في الوظائف السلطانية، فرأيتها مؤسسة على غير قاعدة الشريعة المحمدية، وكل أساس لا يؤسس على تقوى من الله ورضوانه، لا يقوم بناه، ولا يثبت أركانه وعلاه; فإن كنت في مرية من ذلك فاسأل خبيرا ينبيك عن طرق المهالك؛ ومع هذا فإني رأيت الطرق الأثرية أكثر لك ماء، وأعذب منهلا، وأوفر جمعا، فأنى لك والعدول عنها إلى طريق المهامه والمهالك.
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب(14/224)
فالله الله، في سلوك الطريق المستقيم، إن كنت تريد السعادة في الدنيا، والسلامة في الآخرة من العذاب الأليم؛ فإذا فعلت ذلك، فوفر الحقوق على أصحابها، واستعمل في الأمور أكفأها. وإياك إياك والصد والعناد، ومقابلة النصيح بالمغاضبة، كحال الظلمة المتغلبين، والملوك المترفين، فتزل مع الزالين.
ألم يأن لك أن تستعتب نفسك، قبل أن لا تقال العتاب، وتئوب إلى طريق المتاب، وتنهج على منهج الهدى والصواب، فإن هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار. فلا تجعل التقصير من قبل الجند.
بل والله التقصير والخذلان، والداعي إلى سبب الذل والهوان، تسور علينا البناء العالي، وفتح أبوابنا للأعادي: إصرارنا على الذنوب والمعاصي، وفي الخبر: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني. فأوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى؛ أصلح ما بينك وبينه، يصلح ما بينك وبين رعيتك؛ فإن دمت على المخالفة داموا لك على المخالفة؛ وإن استقمت على طاعة مولاك، طاعوك واتبعوا هواك؛ فإن لاح لك العز من غير هذا القبيل، فاعلم أنه كسراب بقيعة.
فإن كنت ذا رأي سليم، وخلق مستقيم، فاسلك طريقة السلامة والسعادة، على المنهج المستقيم، وأسس قاعدة(14/225)
الملك على الصلاح، وكن أمينا على ما ائتمنك الله عليه; واعلم أن وراءك عقبة كؤودا، ومقاما يشيب منه المولود، وخطبا فظيعا، وحسابا يحصي دقيقا.
فكيف بك، إذا نادى المنادي: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ أم كيف بك إذا غلت يداك إلى عنقك؟ أم كيف بك إذا زل بك الجسر المنصوب على شفير جهنم؟ أم كيف بك إذا أسأت نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أمته؟ ولم ترحم الضعيف، وتوفر عليه حقه المفروض، بل الواقع منك وأعوانك غير ذلك، أعاذك الله من ذلك; وقد علمت أن الله تعالى بدأ بهم في آية الصدقة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ابدؤوا بما بدأ الله به، وفي الحديث إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم 1. فإذا كان الفقير والمسكين ممنوعا، وطالب العلم محروما، والضعيف مظلوما ما بالنا لا نخذل، وأعداؤنا لا تنصر علينا، ونحن ساعون في الخذلان، فاعلون لما يغضب الملك الديان؟
إذا كان عون الله للعبد ناصرا ... تهيأ له من كل شيء مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
وقد شاهدنا الضعفاء فيما مضى، متضرعين لك بالدعاء، فلما منعوا حقوقهم، انقلب الدعاء عليك، فكانوا كعصا موسى في الانقلاب؛ فإذا منعت جند الليل حقوقهم، فأنى يقوم لك جند؟ وإذا ظلمت الضعفاء، وتظلمت عليهم
__________
1 البخاري: الجهاد والسير 2896 , وأحمد 1/173.(14/226)
من لا يخاف الله ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فأنى لك العز مع هذا الظلم والإباء؟!
فكن على حذر من الله، فإنه الآخذ بالنواصي، وهو علينا رقيب، ولقد كلت أناملنا من تسويد المداد إليكم، فلم نر لذلك أثرا، وكفى بربك هاديا ونصيرا:
فيا لك من آيات صدق لو اهتدى ... بهن من مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة ... فليست وإن أصغت تجيب المناديا
اللهم إنا نعوذ بك من رين الذنوب وهوى النفس، اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه، ونحن مصابون من قبل داء الذنوب؛ والجسد إذا حصل له الداء، لم ينفع فيه الدواء، إلا بعد الاستفراغ القوي.
فإن أنت أتيت ببر العباد، وفقك الله للسداد، وأحسن عاقبتك في الدارين، وآتاك أجرك مرتين، وأظلك في ظله يوم شخوص الأبصار، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
قوة الجيوش لا تنفع إلا مع الأعمال الصالحة، فإذا صلحت الأعمال، فالعاقبة للمتقين: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة آية: 249ب] ،: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . وأشهد لقد نصحت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(14/227)
[تنبيه الشيخ حمد بن عتيق على ما حدث من التهاون بأحكام الشريعة والحيف والجور]
وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
من حمد بن عتيق، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، القريبين والبعيدين، ألزمهم الله شرائع الدين، وسلك بهم طريق سيد المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالموجب لهذا هو إبلاغكم، والخوف علينا وعليكم، إعذارا وإنذارا؛ فإنه قد حدث فيكم أمور منكرة، لا يحلّ لذي علم السكوت عليها، ولا أقول إنها في رعية دون رعية، ههنا أمر أكثركم به مقرون، وعليه مصرون، وهو التهاون بأحكام الشريعة، وهذه خصلة منافية للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من تحكيمه، والانقياد لحكمه، والإذعان والتسليم.
وقد قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} فَبَيَّنَ أن المعرض عن التحاكم إلى الرسول، ليس من أهل الإيمان، ثم قال: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة النور آية: 47-50] .(14/228)
وهذه حال كثير من الناس، فإنه إذا علم أن الحق له، أقبل إلى حكم الله ورسوله مذعنا، وأما إذا كان الحق مطلوبا منه متوجها عليه، امتنع ونوّع المعاذير وأكثرها.
وقد بين الله أن هذا من العلامات على مرض القلوب، وعلى الريب في الدين، وهو الشك، وأن صاحبه قد اتهم ربه واتهم نبيه بالحيف، فلذلك أخبر أن هذا الصنف هم الظالمون، فعظم ظلمهم بضمير الفصل، وأداة التعريف.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61] ، فَبَيَّن أن من صد عمن دعاه إلى التحاكم إلى شريعة الإسلام، فهو من المنافقين.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] ، فَبَيَّن: أن الامتناع عن التحاكم، وإلى ما بعث الله به رسوله، من طاعة الشيطان، ومن الموجبات لعذاب السعير.
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 65] ، فأقسم بنفسه: أن الناس لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله، في جميع ما تنازعوا فيه، من دقيق وجليل، فإذا لم يحكموه فليسوا بمؤمنين.(14/229)
والأدلة في هذا كثيرة، وكلها تبين أن الإيمان لا يحصل مع عدم تحكيم الرسول، ثم الانقياد لحكمه والرضى والتسليم; ومن أكبر البلايا وأعظم الرزايا أن يكون الإنسان قد ارتكب هذه القواصم، وخرج من دائرة الإيمان، وصار من أهل الفسوق والعصيان، وهو مع ذلك يدعي أنه من المؤمنين.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ومن الأمور المنكرة العظام: ما وقع فيه قادة أهل الإسلام، من الحيف والجور، وعدم القيام بالقسط بين القوي والضعيف، والعدو والصديق، والقريب والبعيد؛ وهذا عكس ما أمر الله به حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [سورة النساء آية: 135] الآية.
فأمر تعالى بالقيام بالقسط وهو العدل، وبالشهادة لله ولو على نفس الإنسان، ووالديه الذين هم أكبر الناس نعمة عليه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة آية: 8] . فأمر تعالى بالقيام له، وبالشهادة بالقسط، ثم نهى أهل الإيمان أن يحملهم بغض من أبغضوه، على ترك العدل فيه.(14/230)
فأوجب أن يكون عدلهم فيمن أبغضوه، نظير عدلهم فيمن أحبوه؛ وهذا هو الواجب على عامة الخلق، وهو العدل بين الناس، وعدم الميل مع الصديق والرفيق والقوي، بخلاف ما عليه أكثر الناس، فإنه إذا توجه الحق على رفيق لهم، أو صاحب مال أو جاه تركوه، وارتكبوا نوعا من المعاذير؛ فهذا يقول: رفاقتي ما أقوم عليهم، وهذا يقول: ما أقطع يدي من صديقي لأجل فلان؛ وهذا يقول: أخاف إذا قمت عليه يغلبني عند الولاة؛ وهذا خائف على موقفه ورياسته.
وهذا كله من السبل التي قال الله فيها: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] . فالواجب على من تولى شيئا من أمور المسلمين أن يخاف الله فيهم، ويجعلهم في الحق سواء، فيقوم في الحق لعدوه، كقيامه لصديقه، ويجعل الضعفاء كالأقوياء، والفقراء كالأغنياء، والجيران كالرفاقة، كما هي سيرة المؤمنين الصالحين الموفقين، لا ما عليه الظلمة من الخائنين والمفسدين الجائرين.
وقد قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26] .
وفي السنن: عن النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة: قاضيان في(14/231)
النار، وقاض في الجنة. فرجل علم الحق فقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة 1.
وقال شيخ الإسلام: والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهم، سواء سمي خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا، حتى من يحكم بين الصبيان إذا تخايروا في الخطوط، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر. انتهى.
ومراده: أن الصبيان إذا تكاتبوا في ألواحهم ليظهر أيهم أحسن كتابة، ثم عرضوا عليك خطوطهم، لتحكم بينهم بإخبارك أي الخطوط أحسن، فقد جعلوك قاضيا لهم، وحاكما بينهم في هذه المسألة، فيجب عليك العدل والإنصاف؛ فمن حاف وترك العدل، فقد دخل في مسمى القاضي المذموم، المتوعد بالنار؛ كما أن من عدل وأنصف، له نصيب من الوعد المرتب على ذلك.
وكثير من يعتريه ذلك هم قادة الناس من القضاة والأمراء والعرفاء، فعليهم جميعا مراعاة هذا الأمر، وعدم الغفلة، والله تعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية: 18-19] .
نسأل الله لنا ولكم العافية على مراضيه، وأن يجعلنا ممن يخافه ويتقيه، وأن يجعلنا ممن أمن الفزع الأكبر يوم
__________
1 الترمذي: الأحكام 1322 , وأبو داود: الأقضية 3573 , وابن ماجه: الأحكام 2315.(14/232)
يلاقيه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبة أجمعين.
[التنبيه على ما فشا من أنواع المنكرات]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب للخط هو النصح لكم، والشفقة عليكم، خوفا من نزول بأس الله بنا وبكم؛ وذلك مما فشا من المنكرات، وجاهر به الخواص والعوام من الموبقات؛ والله تعالى قد فرض على العلماء البيان، وذم أهل السكوت والكتمان.
فجحد أكثر الناس ذلك، وتركوا ما علموا، أو إن ذكروا بعض ذلك فعلى سبيل المعاشرة والمضاحكة، وقد قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة المائدة آية: 78] ، إلى قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] .
وقال: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 63] .
ولعل سامع هذا الكلام أن يقول: إنك قد أغلظت الكلام، وعممت الذم الخاص والعام، فأقول: الأمر فوق ما سمعت وأعظم، وهاهنا مسألة أطبق عليها أهل المعاملات(14/233)
في دنياهم، ولم يخافوا ربهم ومولاهم، والناس فيها بين قائل للإثم، وآكل للسحت.
فالمبيح قال الإثم، والفاعل آكل السحت، والساكت عن الإنكار ترك الأمر؛ ولم يسلم من إثمها إلا من شاء الله، وهم قليل؛ وهي مسألة قلب الدين، التي يسمونها "التصحيح"، وهو الربا الظاهر الصريح.
فأما أدلة تحريم الربا فلا تخفى، ولكن صنع لهم الشيطان هذه الحيلة، مخادعة لله وتلاعبا بدينه. وعليك أن تعلم أن ربا أهل الجاهلية، الذي أبطله الإسلام، هو: أنه إذا حل الدين على الغريم، قال الدائن: إما أن تقضي، وإما أن تربي; فإما أن يوفيه في الحال، وإلا زاد له في الدين، وأجله عليه بأجل متأخر، وهذا هو عين فعل المفسدين.
فإنه إذا حل دين أحدهم، كعشرة مثلا، قال الدائن: أعطني عشرتي; فيقول: ليست عندي; فيقول: تعال أسلمها عليك بألف وزنة مثلا، ثم ردها علي، فيذهب التاجر إلى منْزله، ويخرج عشرة ريالات من ماله، ويقول: أسلمتها عليك بألف وزنة، فيقول: قبلت; ويأخذها بيده ثم يلقيها على حصير المحتال.
أو يقول: اذهب بها وادفعها إلى وكيلنا فلان، وقد جعله يرقبه عند الباب، أو يذهب بها إلى منْزله، وهو يعلم أنه يردها إليه بأعيانها; ولذلك أنه لو يخرج منها ريالا واحد، خبثت النفس، وتغيرت المعاملة؛ فإذا رجعت العشرة(14/234)
التي أخرجها المكار، صارت العشرة التي في ذمة المديون، انقلبت عليه بألف وزنة سواء بسواء.
فلو أنه يقال: بعتك العشرة التي في ذمتك بألف وزنة، سلم من الحيلة، وجاء الأمر على وجهه. وقال بعض العلماء: يخادعون الله كما يخادعون صبيانهم، لو أتوا الأمر على وجهه، كان أحب إلي.
قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: وباب الحيل المحرمة، مداره على تسمية الشيء بغير اسمه، وعلى تغيير صورته مع بقاء الحقيقة؛ فالمفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا، لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملات، ولا بتغيير صورة إلى صورة.
والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد، يعلمها من قلوبهم عالم السرائر، فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومخادعة لله ورسوله.
وأي فرق بين هذا، وبين ما فعلته اليهود، من استحلال ما حرم الله عليهم من الشحوم؟! انتهى; وقد علم عالم السرائر أن المحتال لم يبذل هذه الدراهم إلا لترجع إليه، لا لينفقها القابض، فالله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
قال المحتالون: إننا لم نتفق على الربا قبل العقد;(14/235)
فيقال لهم: بل كذبتم، فإن بعضكم يحتال ويرابي منذ عشرين سنة، حتى صار هذا معلوما، والشرط العرفي نظير الشرط اللفظي.
وقد علم الآخذ والمعطى أن المأخوذ مردود إلى مالكه، وأن الفائدة انقلاب الدراهم طعاما، وهذا هو المقصود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] .
قال ابن القيم: وقد جاء في حديث الله أعلم بحاله: يحشر أكلة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب من أجل حيلهم على الربا، كما مسخ قوم قرودا لاحتيالهم على أخذ الحيتان في يوم السبت؛ وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة، وهذا معذرة من الله تعالى، لأن عدم قبول الناس للعلم، ليس مانعا من تبليغ الرسالة، في أصح قولي العلماء.
ومن المنكرات: الإعراض عن العلم النافع، والتكاسل عن الصلوات، ومنع الزكاة، وشراء الإنسان زكاته، كالذي يبذل عن التمر والبر دراهم، فهذا من المنكرات.
ومنها: لبس الحرير، كالمحازم التي فيها من الحرير الخالص، أكثر من أربع أصابع مجتمعا، أو مفرقا.
ومن المنكرات: اختلاط النساء بالرجال في الأسواق،(14/236)
وخروج النساء بالزينة أو الطيب.
ومن المنكرات ظهور أصوات النساء، وأعظم منه اجتماع المتهمين مع النساء في العرس، على الدفوف ومن رضي بذلك لنسائه، أو في بيته فهذا نوع دياثة منه، فما أقرب شبهه بالديوث.
[رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى قويرش بن معجب يجيبه عن مسائل سمعها عنده]
وله رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق إلى الأخ المكرم: قويرش بن معجب، سلمه الله تعالى، وهداه، سلام عليكم ووحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل إلينا خطك، وسرنا ما فيه من البحث عما ينفع الإنسان في دينه، جعلنا الله وإياكم ممن عمل بما علم; واعلم: أن العلم بلا عمل شجر بلا ثمر، وحجة على صاحبه عند الله يوم القيامة.
وصفة السؤال الذي جاءنا منك عن ست مسائل سمعتها عندنا، وطلبت أني أكتبها لك، وأبين لك معانيها.
فالجواب: أن ابن القيم ذكر أن الشيطان ينال غرضه من ابن آدم من ستة أبواب، وهي: فضول الطعام، وفضول الكلام، وفضول مخالطة الناس، وفضول النظر، وفضول الاستماع، وفضول المنام.(14/237)
فأما فضول الطعام، فهو: أن يأكل الإنسان فوق ما يحتاج إليه بدنه، وقد نهى الله عن ذلك حيث يقول:: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف آية: 31] .
قال ابن القيم: لأن فضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويشغلها عن الطاعات، فكم من معصية جلبها الشبع، وفضول الطعام; وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن 1.
وأما فضول الكلام فهو: أن يطلق الإنسان لسانه فيما لا يعينه، وأكبر منه أن يطلقه فيما لا يحل له; قال ابن القيم: لأن فضول الكلام يفتح للعبد أبوابا من الشر، كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب، وكم من حرب أثارتها كلمة واحدة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهل يكب الناس في النار على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم 2. وفي الترمذي: أن رجلا من الأنصار توفي، فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك لعله تكلم فيما لا يعينه، أو بخل بما لا ينقصه 3.
وأما فضول مخالطة الناس، فهو: كون الإنسان لا يبالي بمن جالس وصاحب، فيجالس المؤمنين والمنافقين، والمطيعين والعاصين، والطيبين والخبيثين، بل ربما جالس
__________
1 الترمذي: الزهد 2380 , وأحمد 4/132.
2 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/237.
3 الترمذي: الزهد 2316.(14/238)
الكافرين، والمرتدين، وخالطهم.
قال ابن القيم: وفضول المخالطة هي الداء العضال، الجالب لكل شر; وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حرارة; ولا يسلم من شر مخالطة الناس، إلا من جعلهم أربعة أقسام:
أحدها: من يجعل مخالطته بمنْزلة غذاه، فلا يستغني عنه في اليوم والليلة، فهو كلما احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام؛ وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه، وأمراض القلوب، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولعباده، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.
القسم الثاني: من يجعل مخالطتهم كالدواء يستعمله عند المرض، فما دام صحيحا فلا حاجة به إلى خلطته، وهؤلاء من لا يستغنى عنهم في مصلحة المعاش، وقيام ما يحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات.
الثالث: من مخالطتهم كالداء على اختلاف أنواعه وقوته وضعفه، وهؤلاء هم الذين لا يستفاد منهم دينا ولا دنيا، ومخالطتهم هي الداء العضال.
القسم الرابع: من مخالطته الهلكة بمنْزلة أكل السم، وما أكثر هذا الضرب لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلال، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها.(14/239)
انتهى. ومنهم أهل الفسوق والعصيان.
وأما فضول النظر، فهو: أن يطلق الإنسان نظره فيما حرم عليه; قال ابن القيم: والعين رائد القلب، فيبعث رائده لينظر، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه، تحرك اشتياقا إليه وطلبا له؛ وكثيرا ما يتعب نفسه، ومن أرسله؛ فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة، استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، فمن أطلق لحظاته دامت حسراته.
وأكثر المعاصي إنما تتولد من فضول الكلام، وفضول النظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، وفي غض البصر عن المحارم ثلاث فوائد عظيمة، جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
الفائدة الثانية: في غض البصر نور القلب وصحة الفراسة، قال أبو شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة.
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله بقوته سلطان البصيرة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة؛ فيجمع له السلطانين، ويهرب الشيطان منه.(14/240)
وأما فضول الاستماع، فهو: أن يلقي الإنسان أذنيه لاستماع ما لا يحل، من الغيبة والنميمة، وقول الزور; ومنه: سماع الأغاني، والأصوات المطربة؛ فإن كان من النساء فهو أخبث وأنكر؛ وهذا باب واسع، ويتولد منه شرور كثيرة في الدين والدنيا. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] ، وشهود الزور هو حضور مجالس الباطل، والأغاني والدفوف من أعظم الزور.
وأما فضول المنام، فهو أن يزيد الإنسان في النوم، على القدر الذي يحتاج إليه في راحة بدنه. فإذا زاد على ذلك، حدث به أنواع من الضرر في الدين والدنيا، فإن الإكثار منه مضر بالقلب، مولد للغفلة عن ذكر الله، مثقل للبدن عن طاعته، يفوت مصالح الدنيا أيضا، وربما أدى إلى تفويت الصلوات الخمس، وغيرها من الطاعات، كما هو واقع كثير؛ فهذه هي المسائل التي حضرت الكلام فيها عندنا.
أحدها: فضول الطعام
الثانية: فضول الكلام
الثالثة: فضول المخالطات
الرابعة: فضول النظر بالعين
الخامسة: فضول الاستماع بالأذن
السادسة: فضول النوم
وقد بينا لك بعض الكلام عليها، وفائدة العلم: العمل، فعليك بالعمل بما وصفته أن لا تأكل من الطعام ولا تشرب من الشراب إلا ما(14/241)
يحتاج إليه بدنك من غير زيادة، وعلى حسب الزيادة تكون المضرة.
ثم تكف لسانك عن كل ما لا ينفعك في دينك أو دنياك، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الحث على تقوى الله تعالى وبيان معناها وشكر ما أنعم الله به من الدعوة المباركة]
وقال بعضهم، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لما يوصل إلى رضاه والجنة، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فالواجب علينا وعليكم تقوى الله سبحانه وتعالى، قال تبارك وتعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] .
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها 1 الحديث. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثير، قال طلق ابن حبيب في تفسيره التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخشى عقاب الله. وقال ابن جرير، وابن كثير: التقوى هي امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
وأعظم أمرٍ أمرنا الله به: التوحيد، الذي هو مضمون
__________
1 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158.(14/242)
شهادة أن لا إله لا الله، ومن ذلك الدعوة إلى ذلك، علما وعملا واعتقادا، والحذر من الإعراض عن ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [سورة السجدة آية: 22] . والآيات في هذا كثيرة، فاحذروا رحمكم الله من الإعراض، فإن أمره أمر وخيم.
وقد من الله علينا بدعوة هذا الشيخ، أعني: شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، فوفق لها من وفق وخذل عنها من خذل؛ فأراها اليوم قد أسملت واخلولقت عند كثير من الناس، فالواجب علينا وعليكم شكر هذه النعمة، والتحدث بها، والاعتراف بها باطنا وظاهرا، والحذر من كفرانها، والهمز واللمز بها وبأهلها، المنتسبين إليها، لأنها حقيقة دعوة الرسل، من أولهم إلى آخرهم.
ولا يخفاكم أن الساخر بدعوة الرسل، والمستهزئ بها، والمنتسبين إليها، ليس له نصيب في الإسلام; كذلك الواجب عليكم: التعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] .(14/243)
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم 1 يعني بني إسرائيل.
وقد جرى في هذا الزمان من العبر ما لا يخفى على عاقل، وذلك إنما حدث بذنب، فالواجب علينا وعليكم التوبة والإنابة إلى الله بالطاعة، وترك المعصية؛ ولا تظنوا أن غلاء هذه الأسعار عادة; بل إنما حدث بسبب ذنوب; وكذلك ما جرى من تكسر النخيل بسبب الريح، وغير ذلك من الحوادث.
ومن أعظم ذنب تعجل به العقوبة: الزنى، وفشو الربا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] .
ومما نهى الله عنه: كون الإنسان لا يأمن جليسه، بل متى يغيب عنه يعقره، ويأكل عرضه; وبالجملة: فالواجب عليكم امتثال أمر الله ما استطعتم، واجتناب ما عنه نهاكم، قال صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه 2، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب كل ما نهى عنه.
__________
1 أبو داود: كتاب الملاحم 4336.
2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/508.(14/244)
ولا يخفاكم أن التقصير حاصل في الأمر، وأن الإفراط حاصل في النهي؛ فنحن مقصرون في أوامر ربنا، مفرطون في ارتكاب نواهيه، وإلا فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هم الناجون، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [سورة هود آية: 116] الآية.
قال ابن القيم رحمه الله: الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس 1.
وفي حديث عبد الله بن عمر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ونحن عنده: طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم 2.
فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن الأهواء والبدع، فيهم غرباء، والدّعون إليها، الصابرون على أذى المخالفين لهم، أشد غربة.
ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما
__________
1 الترمذي: الإيمان 2630 , وأحمد 4/73.
2 أحمد 2/222.(14/245)
غربتهم بين الأكثرين، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] .
فأولئك هم الغرباء، من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم; فالغربة ثلاثة أنواع:
غربة أهل الله; وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق; وهذه الغربة هي التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، وأن أهله يصيرون غرباء.
وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال.
ومن صفات هؤلاء الغرباء، الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا صديق ولا مذهب ولا طائفة.
بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله تعالى بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده؛ وهؤلاء هم القابضون على الجمر، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ، وأهل بدعة ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم النّزاع من القبائل 1 انتهى.
__________
1 ابن ماجه: الفتن 3988 , وأحمد 1/398 , والدارمي: الرقاق 2755.(14/246)
فالواجب التوبة إلى الله، والسعي في الاتصاف بهذه الصفة، وأن لا يكون هم الإنسان دنياه، والحذر من تخويف الشيطان، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] .
وفقنا إلله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من حزبه وأوليائه، لا من حزب الشيطان وأوليائه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[تعين النصح في بعض الأوقات والتعاون على البر والتقوى]
وقال بعضهم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لسلوك صراطه المستقيم، وجعلهم من أهل دينه القويم، المفضي بأهله إلى جنات النعيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد تعين النصح، والتعاون على البر والتقوى، لا سيما في هذه الأوقات، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] . والتقوى: كلمة جامعة لكل خير، لأن الخير كله بحذافيره، في امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وهذا هو معنى التقوى.
قال ابن جرير، رحمه الله: التقوى هي امتثال أمر الله واجتناب نواهيه. فمن أمر الله الذي أمرنا به، وحضنا عليه، اتباع كتابه، وسنة نبيه، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ(14/247)
مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الأعراف آية: 3] الآية.
وما أنزل إلينا من ربنا، هو كتابه وسنة نبيه.
فحقيق بمن نصح نفسه: أن يجلس بها ويحاسبها، وينظر: هل نفسه تشتاق إلى ذلك، وتألفه وتحبه؟ أم هي معرضة عنه، نافرة منه، مبغضة لأهله نافرة عنهم؟! فيا خسارة من حاله حال البطالين، المعرضين النافرين، المنفرين عما جاء به سيد المرسلين، فحسرته أعظم حسرة، وندامته أعظم ندامة.
إذا علم هذا؛ فأعظم ما أمر الله به في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم توحيده الذي هو إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة من سواه، والبراءة منه ومن عابدة فحق على كل مسلم ومسلمة البحث عن حقيقة التوحيد، وعن أركانه وأنواعه، وواجباته، وما يلزمه مع أهله.
ومن أعظم ما نهى الله عنه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: الشرك بالله، ووسائله، وذرائعه المفضية إليه، وترك العمل به.
فإن بالبحث عن هذين الأمرين - أعني التوحيد والشرك - يخرج الإنسان من زمرة المعرضين المفرطين الجاهلين، إلى زمرة المقبلين المتعلمين، المتسببين بالأسباب النافعة، التي توصل فاعلها برحمة الله إلى رضاه وجناته، وتخلصه من غضبه وعقوباته.(14/248)
فالله الله، في البحث عما ذكرت لكم، وإياكم والجفاء والإعراض؛ فإنهما يهلكان لمن اتصف بهما، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [سورة طه آية: 124-126] ، فنسيان آياته: ترك العمل بها.
فاحذروا رحمكم الله نسيان آياته، فإن نسيانها يورث نسيان الله لعبده، وهو تركه في العذاب، ولا يخلص من ذلك إلا الإقبال على كتابه، وسنة رسوله، والعمل بها باطنا وظاهرا.
ومما أمرنا الله بالعمل به، في كتابه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
والمعروف: كلمة جامعة لكل ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب، والمنكر: كلمة جامعة، لكل ما نهى الله عنه; فأعظم ما نهى الله عنه الشرك، والكفر، ووسائلهما، وذرائعهما.
ومن ذلك: ما هو واقع على ألسن كثير من الناس، وهو: الاستهزاء بدين الله أو بشيء منه، ومن الاستهزاء(14/249)
بدين الله: الاستهزاء بمن انتسب إليه، قولا أو فعلا.
فمن القول: قول الجهال: هؤلاء مطاوعة الصحفة، هؤلاء الخوان، هؤلاء أصحاب الدفاتر، عندي اليوم وعندك باكر؛ وغير ذلك مما هو جار اليوم كثير.
ومن الفعل: رمش بالعين، ومد اللسان، وما أشبه ذلك; فحق على كل من أراد نجاته وسلامته، من غضب الله وعقابه أن يبحث عن هذه الأقوال، والأفعال، ويجتنبها، وينكر على من صدرت منه، ولا يخاف في الله لومة لائم. قال تعالى:: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] .
واعلموا: أن كل بلد لا يكون فيها من يدعو إلى الخير، وينهى عن الشر، ويحذر عنه، فهي بلد ما هي من استيطان الشيطان لها ببعيد - أعاذنا الله وإياكم -. فالله الله في استجلاب ما يطرد الشيطان، ويبعده عن دياركم، وذلك بتعلم العلم وتعليمه.
فإن البلد التي فيها عالم يعلم الخير، وينهى عن الشر، قد طردت منها الشياطين، واستوطنتها الملائكة. فعليكم معاشر المسلمين بالجد والاجتهاد في ذلك، والعمل به، وإياكم والغفلة والتغافل عن ذلك، وترك العمل به، فإنه والله الهلكة.(14/250)
أسأل الله العظيم الرؤوف الرحيم، أن يتولاني وإياكم فيمن تولى، بولايته الخاصة، وألا يكلني وإياكم إلى أنفسنا طرفة عين، فإنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الحث على التقوى والأمر بالمعروف والتنبيه على الأخذ على يد السفيه]
وقال بعضهم رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، إلى من يصل إليه ويسمعه من المسلمين، سلمهم الله تعالى من عقوبات الدنيا والآخرة، وألبسهم ملابس الإيمان الفاخرة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالذي نوصيكم به وأنفسنا، تقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده الأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] .
قال بعض المفسرين: حق تقاته، هو: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر; وقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة آية: 132] ، أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه.(14/251)
وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] . قال أهل العلم: حبل الله القرآن، كما في حديث علي رضي الله عنه هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم 1.
وقال بعض السلف: حبل الله المتين هو: إخلاص التوحيد لله.
قال أبو العالية: يقول سبحانه وتعالى: واعتصموا بالإخلاص لله وحده، انتهى; وذلك لأن الإخلاص أعظم ما أمر الله به في كتابه، فمعنى الاعتصام: التمسك به بتوحيد الله تعالى، والعمل بكتابه؛ وبذلك يحصل كل خير وصلاح وعافية في الدنيا، والأمن من عقوبات الدنيا والآخرة.
واعلموا أن من أشرف مقامات الدين، وفرائضه التي افترضها الله تعالى على عباده المؤمنين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
فكفى بهذه الآيات دليل على شرف الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر.
ثم أخبر أصدق القائلين جل ذكره أنهم هم المفلحون; وفيها تنشيط لأهل الإيمان على التشمير في هذا
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن 2906 , والدارمي: فضائل القرآن 3331.(14/252)
المقام، وهو مقام الرسل وأتباعهم؛ فمن يسره الله له، فهو من أعظم نعم الله عليه.
والآيات والأحاديث في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعيد على تركهما، كثيرة جدا، منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، وقال:
يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشه في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلاهم الله بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. ولا منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم العدو، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم.
وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه مرفوعا: لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة، ما لم يستخفوا بحقها; قالوا: يا رسول الله، وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله، فلا ينكر ولا يغير.
فارغبوا بما رغبكم الله، ولا تهنوا ولا تضعفوا، ترشدوا بذلك وتسعدوا; وكذلك احذروا مقاربة الزنى، فإن فيه(14/253)
فساد الأنساب، وقصر الأعمار، فقد حرمه الله ورسوله، فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 32] .
وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النور آية: 2] ، وفي الحديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن 1 وفي رواية: لا تزنوا فإن من زنا نزع منه نور الإيمان.
وما من ذنب أعظم عند الله بعد الشرك، من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له وإن السماوات السبع، والأرضين السبع، تلعن الشيخ الزاني، وإن الزناة تؤذي أهل النار برائحتها، والمقيم على الزنا ومستحله كعابد وثن.
وإيّاكم والتكاسل عن شهود الجمع والجماعات من غير عذر، فإنه من أعظم المنكرات، فإنه هم صلى الله عليه وسلم أن يحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم بالنار، وفي الحديث: من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى في بيته 2.
واحذروا عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وأكل مال اليتيم، والاستطالة على الضعفاء والمساكين، والتعدي عليهم في أبشارهم، وأموالهم، وأعراضهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
__________
1 البخاري: المظالم والغصب 2475 , ومسلم: الإيمان 57 , والترمذي: الإيمان 2625 , والنسائي: قطع السارق 4870 ,4871 ,4872 والأشربة 5659 ,5660 , وأبو داود: السنة 4689 , وابن ماجه: الفتن 3936 , والدارمي: الأشربة 2106.
2 أبو داود: الصلاة 551.(14/254)
وفي الحديث: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع; قال: إن المفلس من أتى يوم القيامة بصلاة، وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، ونال من عرض هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار 1.
واحذروا الخيانة في الأمانة، والكذب في الحديث والبياعات، ففي الحديث: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له 2 وفي الحديث: الصدق يهدى إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة 3.
واحذروا الغيبة، وهي: ذكرك أخاك المسلم بما يكره في غيبته; والنميمة، وهي: نقل حديث الناس بعضهم إلى بعض، على وجه الإفساد; وفي الحديث: لا يدخل الجنة نمام 4 وأعظمها إثما وجرما: ما كان عند ولاة الأمور، ويسمى سعاية; وفي الحديث: تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه: ومن كان ذا لسانين في الدنيا، فإنه يأتي يوم القيامة وله لسانان من نار 5.
وطهروا مكاسبكم من الربى والغش، والتطفيف، والحلف عند البيع والشراء; واجتنبوا الألفاظ القبيحة، مثل اللعن، فإن في الحديث: لعن المسلم كقتله 6 وكذلك
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب 2581 , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2418 , وأحمد 2/303.
2 أحمد 3/135.
3 البخاري: الأدب 6094 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2607 , والترمذي: البر والصلة 1971 , وأبو داود: الأدب 4989 , وابن ماجه: المقدمة 46 , وأحمد 1/384.
4 مسلم: الإيمان 105 , وأحمد 5/391 ,5/396 ,5/399 ,5/406.
5 البخاري: المناقب 3494 والأدب 6058 والأحكام 7179 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2526 , والترمذي: البر والصلة 2025 , وأبو داود: الأدب 4872 , وأحمد 2/307 ,2/336 ,2/365 ,2/455 ,2/465 ,2/517 ,2/524 , ومالك: الجامع 1864.
6 البخاري: الأدب 6047 ,6105 والأيمان والنذور 6653 , ومسلم: الإيمان 110 , وأحمد 4/34 , والدارمي: الديات 2361.(14/255)
قوله: يا فاجر، يا كلب، يا خنْزير، يا حمار، ونحو ذلك من الألفاظ.
وكذلك مخالطة النساء للرجال، وإظهار الزينة من المرأة إذا خرجت، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن فتنتهن; وفي الحديث: لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما 1. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
ومما يجب التنبه له: الأخذ على يد السفهاء والجهال، بردعهم عن الفساد وأسبابه الموصلة إليه، كالتكاسل عن شهود الجماعات في المساجد من غير عذر، والاجتماع على ما لا مصلحة فيه، لا تعود إلى دين ولا إلى دنيا، وإذا انتفت المصلحة وقعت المضرة ولا بد.
فأكثروا من الاستغفار، والتوبة النصوح، والصدقة، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة المزمل آية: 20] .
وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصدقة، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [سورة النساء آية: 1] .
__________
1 البخاري: النكاح 5232 , ومسلم: السلام 2172 , والترمذي: الرضاع 1171 , وأحمد 4/149 ,4/153 , والدارمي: الاستئذان 2642.(14/256)
وفيه من المناسبة في الصدقة أن أصل الغني والفقير واحد، فلا يمنع الغني أخاه الفقير مما أعطاه الله شكرا لله على أن جعله غنيا، وجعل من هو مثله محتاجا، وفيها الحث على صلة الرحم; فتدبروا كتاب الله، وقفوا على عجائبه، ومقاصده، وحركوا به القلوب.
وفي حديث معاذ: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار 1، وفي الحديث الآخر: إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء 2. وفي حديث: بادروا بالصدقة، فإن البلاءلا يتخطاها.
وفي حديت آخر: ما نقص مال من صدقة، بل تزدهبل تزده وروى أبو داود والترمذي، مرفوعا: أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة; وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم 3.
وتأهبوا للخروج للاستسقاء، واخرجوا متواضعين؛ متخشعين، متذللين متبذلين، لعل الله أن يرحمكم، ويقبل توبتكم، ودعاءكم، وقدموا بين يدي خروجكم صدقة، وتجزلوا، فالذي عنده حق لله تعالى، ونواها زكاة، فلا بأس، والذي يقصد بها صدقة التطوع، فعلى نيته، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بجمع الصدقة، فلا يشكل على بعض الناس جمعها، والتنافس في وجوه الخير مما ينبعي.
__________
1 الترمذي: الجمعة 614.
2 الترمذي: الزكاة 664.
3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2449 , وأبو داود: الزكاة 1682 , وأحمد 3/13.(14/257)
فعليكم بالإخلاص لله تعالى، وقصد وجهه، والذي يستحب أنه يصام يوم الخروج، فبعض أهل العلم يستحبه، ويكون الخروج - إن شاء الله تعالى - يوم الاثنين 21 صفر، ونرجو من الله أن يقبل توبتنا وتوبتكم، ويأخذ بنواصينا وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[التذكير بما يجري الله في خلقه بالمعصية من منع القطر والنصح بالتوبة]
وقال بعضهم، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأصلي وأسلم على النبي محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين.
وبعد: معشر المسلمين، إن ربكم الله تبارك وتعالى، ذكركم بما قضاه وقدره، من هذه المصائب لكم، وموعظة، لعلكم ترجعون وتنيبون إليه، وتتوبون إليه من ذنوبكم، وتستغفرون، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 42-43] .
وقال جل ذكره: {وَلَوْ أَنَّ(14/258)
أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] .
وفي الأثر: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة. وفي الأثر الآخر: إن الرب تبارك وتعالى، يقول: وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبادي على ما أحب فيتحول منه إلى ما أكره، إلا تحولت له مما يحب إلى ما يكره; ولا يكون عبد من عبادي على ما أكره فيتحول منه إلى ما أحب، إلا تحولت له مما يكره إلى ما يحب.
وعليكم عباد الله أن تتوبوا إلى ربكم توبة نصوحا، وأن تحولوا مما يكره ربكم إلى ما يحب، لعل الله أن يتحول لكم مما تكرهون إلى ما تحبون، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة التحريم آية: 8] .
وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [سورة هود آية: 3] .(14/259)
وقال نبيكم صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة 1. وفي الحديث الآخر: من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب 2.
ومن أخطر ما يكون سببا لمنع القطر، وموجبا للقحط، وضررا على البهائم: التهاون بالفرائض، وأن الفقير منا لا يصبر، ولا يرغب إلى ربه وينْزل حاجته به، ويلح في مسألته في كشف ما نزل به، فإن الله تعالى هو الغني الحميد، يحب أن يسأل، ومن سأله فهو القريب المجيب؛ وأن ذا الثروة منا لا يشكر، ولا يعرف الحق الواجب في ماله.
وقد غلب على ذوي الأموال في بلادنا هذا البخل، حتى منعوا ما أوجب الله في أموالهم من الزكاة المفروضة، ونفقة ذوي القربى، وصلة الرحم، وقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، مع حرصهم - سامحنا الله وإياهم - على طلب المال، حتى ربما عاملوا بالربا، وأخذوا المال، واكتسبوه من غير حله.
فمن جمع بين منع الحق الواجب في ماله، وبين اكتسابه من الوجوه المحرمة، كان عاقبته أن يعذب بماله العذاب الأليم، لأن كلا من الأمرين موجب لغضب الله، وحلول عقابه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2702 , وأحمد 4/211.
2 أبو داود: الصلاة 1518 , وابن ماجه: الأدب 3819.(14/260)
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] .
قال ابن عباس في الآية: كل مال لا تؤدي زكاته فهو كنْز، يعني ولو كان في يد صاحبه، أو عرض تجارة، أو دين في ذمم الغرماء، وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران آية: 180] .
والرب تعالى يجازي العبد من جنس عمله، فكما منعه الحق الواجب منع الله عنهم سبب الرزق، كما قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر المهاجرين، خمس خصال - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. وما نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. وما خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم.
والبصير العاقل يرى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من هذه(14/261)
العقوبات، في هذا الحديت عيانا، لأن موجباتها قد وقعت، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ودل الحديث على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن بترك ذلك تقع العقوبات، وقد دل القرآن المجيد على مثل ذلك، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من كان قبلكم كانوا إذا أتى أحدهم الخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان من الغد جالسه، وواكله وشاربه، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم الله على ألسنة أنبيائهم: داود وعيسى ابن مريم. والذي نفسي بيده. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.
وفي الحديث الآخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير، ضرت العامة وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: ما(14/262)
من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا فلم يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقابه 1.
والمعروف الذي يجب الأمر به: ما عرفه الشرع، من الأمر بالتوحيد، والمحافظة على الصلوات الخمس، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت حجة الإسلام، وبر الوالدين، وصلة الرحم، ونحو ذلك من واجبات الدين.
والمنكر الذي يجب إنكاره: ما أنكره الشرع، كالشرك بالله، وعقوق الوالدين، والتهاون بالفرائض، وقطيعة الرحم، وظلم العباد، وانتهاك الحرمات، كالزنى، وشرب المسكرات، ونحو ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. فكل ذلك فرض على المسلمين القيام به، وإذا تركوه جميعهم أثموا.
وروت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو أخياركم، فلا يستجاب لهم. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم.
فالله الله عباد الله، في القيام بما أوجب الله عليكم، والانتهاء عما حرم الله عليكم، والأمر بذلك، والتواصي والتناصح فيه؛ ويجب على ولاة الأمر من ذلك زياده على غيرهم، ومن وجوب نصيحتهم لرعيتهم، ولأن الله سيسألهم
__________
1 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009.(14/263)
عما استرعاهم، قال الله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 3] .
وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2ب] ، فلا صلاح للعباد، ولا فلاح، ولا نجاة، ولا سلامة من عقوبات الدنيا، والآخرة إلا بذلك.
ومما يستدفع به النقم، ويستجلب به النعم: الرأفة والرحمة بالفقراء، والأرملة والمساكين، واليتامى، والصدقة عليهم، كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] .
وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة المنافقون آية: 10] .
وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها وفي الحديث الآخر: إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتطفئ الخطيئة، وتدفع ميتة السوء 1. وفي الحديث الآخر: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا ترحموا، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء 2.
وقد سن لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أبطأ المطر عن أوان نزوله، أن تبرزوا إلى الصحراء، وتصلوا، وتسألوه أن يسقيكم، فليكن ذلك بعد توبة وبر، وقلوب خاشعة،
__________
1 الترمذي: الزكاة 664.
2 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941.(14/264)
وتذلل، وخروج من المظالم، وسلامة من الغل، والحسد، والحقد للمسلين.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعاملنا بعفوه ويرحمنا برحمته؛ ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، ومن جميع سخطه؛ فهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد.
[التذكير باضطرار العباد إلى ربهم وعدم فزعهم في الشدائد إلا إليه]
وقال الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عبد العزيز، إلى الأخوين المكرمين: مسعد، وسعد، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تفهمون اضطرار العباد إلى ربهم، وأنهم إذا نزل بهم الشدائد، فلا يفزعون في كشفها إلا إليه؛ وقد دعا عباده إلى ذلك ورغبهم، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] .
وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] الآية. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض.
وقد عزم إخوانكم على الخروج والاستسقاء - إن شاء الله - نهار الاثنين، عسى الله أن يرحم عباده برحمته،(14/265)
وهو أرحم الراحمين، والسلام.
[التذكير بنعمة الإسلام وما فيه صلاح العباد وذكر من ذمه الله]
وقال الشيخ: عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين:
إلى من بلغه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأصلح لنا ولهم الأقوال والأعمال، والنيات، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فقد قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 164] .
وأنفع الوصايا والنصائح لمن قبلها، وعرف تفاصيلها، ما وصى الله به الأولين والآخرين، بقوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين النار وقاية تقيه(14/266)
منها، بفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهاه الله عنه، ومعرفة ذلك علما وعملا.
وأيضا: تذكيركم بما من الله به عليكم من نعمة الإسلام، وما اختصكم به من الانتساب إليه في هذه الأزمان التي تشبه أزمان الفترات، لقلة من يعرف الإسلام على الحقيقة، ويلتزم مبانيه، ويعرف حدوده وحقوقه، وفرائضه ومكملاته.
وأكثر الناس قد غلب عليه الجهل بهذا، ورغب عن تعلمه وتعليمه، حتى جهلت حقيقة دين الإسلام الذي كان علية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، كما أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.
ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم، إلا بمعرفة ما خلقوا له من توحيد ربهم الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وقبوله وإيثاره والعمل به، ومحبته واستفراغ الوسع في ذلك علما وعملا، والدعوة إليه، والرغبة فيه؛ وأن يكون ذلك أكبر هم الإنسان، ومبلغ علمه، ليحصل له بذلك النجاة في الدنيا والآخرة وقد علمتم ما وقع من العقوبات بسبب(14/267)
التفريط إلى شكر هذه النعمة، والتهاون بها، وعدم الرغبة فيها.
وقد ذم الله تعالى في كتابه أهل الغفلة والإعراض عن ذكره، بقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [سورة طه آية: 124] .
وقد أراكم الله من آياته ما فيه عظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة آية: 11] .
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . فاشكروا الله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ولا تعدوا حدوده.
واعلموا: أن كل شر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب والمعاصي، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] .
وكلما أحدث الناس شرا وفجورا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل، في أغذيتهم وأهويتهم،(14/268)
وفواكهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم وصورهم، ما هو موجب أعمالهم وفجورهم، ولا يظلم ربك أحدا. وقد علمتم ما وقع من الخلل بترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغفلة عن ذلك، وعدم الإحساس به، وذلك مما يوجب حلول العقوبات، كما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، قال بعض العلماء: فروض الكفاية أشد على الناس من فروض العين، لأن فرض العين تخص عقوبته، وفرض الكفاية تعم عقوبته كل من كان له قدرة.
وقد ابتلاكم الله، لتذكروا وتنيبوا، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [سورة الأعراف آية: 94] .
وأخبر تعالى عن الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء، أنه أخذهم بالبأساء والضراء، يعني بالبأساء هو ما يصيبهم في أبدانهم من الأمراض والأسقام، والضراء هو ما يصيبهم من فقر وحاجة، ونحو ذلك، لعلهم يتضرعون وينيبون.
وأعظم التوبة والإنابة القيام بالوظائف الدينية، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ(14/269)
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 78] .
والمعاصي مذهبة للنعم، موجبة لحلول النقم.
وأعظم المعاصي: ترك الصلاة، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] . ومن الناس من يترك حضورها في الجماعة، ويظن في نفسه أنه قد أدى فريضة على الوجه المطلوب، وهيهات هيهات.
قال بعض السلف، على قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [سورة مريم آية: 59] : والله ما تركوها، ولو تركوها لكانوا كفارا.
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا: أنه ذكر الصلاة، فقال: من حافظ عليها وحفظها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف 1.
وفي الحديث: من ترك الصلاة متعمدا برئت منه ذمة الله ورسوله 2. وفي حديث آخر: من أخرها عن وقتها من غير عذر.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ظهرت المعاصي في أمة، عمهم الله بعذاب من عنده 3 وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنا والربا في قرية، أذن الله بهلاكها، وفي
__________
1 أحمد 2/169 , والدارمي: الرقاق 2721.
2 أحمد 6/421.
3 أحمد 6/304.(14/270)
حديث: ما من قوم يظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالفناء.
وفيه أيضا: لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم 1. وفي حديث: يلبس الزاني درعا من نار، لو أن حلقة منه وقعت على جبل من جبال الدنيا لذاب.
فاطلبوا رضى الله تعالى، وتوبوا إليه جميعا أيها المؤمنون، واغضبوا لغضبه، وقوموا بعزيمة صادقة، ونية صالحة، ولا تأخذكم في الله لومة لائم.
واحذروا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل: أنه إذا عمل العامل منهم بالخطيئة، جاءه الناهي فنهاه تعذيرا، فإذا كان الغد، جالسه وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على ألسنة أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
والذي نفس محمد بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض.
وفي بعض الآثار: أن الله أوحى إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال يا رب: هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4019.(14/271)
فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي. وفي أثر آخر: أن الله أوحى إلى ملك من الملائكة، أن اخسف بقرية كذا وكذا، قال: يا رب! إن فيهم فلانا العابد، قال: به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه فيّ يوما قط.
ومن أعظم ما ظهر بين الناس بسبب غربة الدين، والمحنة التي أصابت المسلمين: كثرة التلاعن والتقاذف، وهو من الكبائر; كان السلف يؤدبون الصغار على أقل من ذلك; قال إبراهيم النخعي، وهو في زمن التابعين: كانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد، ونحن صغار.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا: إن العبد إذا لعن شيئا، صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتأخذ يمنة ويسرة، فإذا لم تجد مساغا، رجعت إلى قائلها 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن امرأة لعنت ناقتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصحبنا ناقة عليها لعنة.
وعن ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه مرفوعا: لعن المؤمن كقتله 2، وعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ردت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك 3 وعن مرة مرفوعا: لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار. ومن قذف رجلا بالزنى، فعليه الحد في ذلك 4 فاحذروا شر اللسان، وورطاته.
__________
1 أبو داود: الأدب 4905.
2 البخاري: الأدب 6105 , ومسلم: الإيمان 110.
3 البخاري: الأدب 6045 , وأحمد 5/181.
4 الترمذي: البر والصلة 1976 , وأبو داود: الأدب 4906.(14/272)
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم 1.
وكذلك ما حدث من المفاخرة، والخيلاء، والإسبال في الثياب، والسرف في الأكمام وجرها، التي أحدثها في القديم أهل الفخر والخيلاء من الأمراء، وسموه أمير الإخراج وهذا من الكبائر.
وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [سورة الإسراء آية: 37] . وفي الحديث: من جر إزاره خيلاء، لم ينظرالله إليه يوم القيامة 2. وفي الحديث: بينما رجل يتبختر في برديه، وينظر في عطفيه، إذ نظر الله إليه، فخسف الله به 3.
فالواجب علينا وعليكم التوبة إلى الله، والقيام بحقه، والتعاون على البر والتقوى، وقد أعطاكم الله - سبحانه وبحمده - من نعمه، وصرف عنكم كيد عدوكم، ورد لكم الكرة، وولى عليكم من همته في هذا الدين، ومحبته له ودعوته إليه. جعلنا الله وإياكم وإياهم ممن قام بالحق، وقال الصدق، وعمل لله بما يحب، وجاهد في الله حق جهاده. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، ولا حول
__________
1 الترمذي: الإيمان 2616 , وابن ماجه: الفتن 3973 , وأحمد 5/231 ,5/237.
2 البخاري: المناقب 3665 , ومسلم: اللباس والزينة 2085 , والترمذي: اللباس 1730 ,1731 , والنسائي: الزينة 5327 ,5328 ,5335 ,5336 , وأبو داود: اللباس 4085 , وابن ماجه: اللباس 3569 , وأحمد 2/5 ,2/9 ,2/33 ,2/42 ,2/44 ,2/46 ,2/55 ,2/56 ,2/60 ,2/67 ,2/69 ,2/74 ,2/76 ,2/81 ,2/101 ,2/103 ,2/128 ,2/131 ,2/136 ,2/155 , ومالك: الجامع 1696 ,1698.
3 البخاري: اللباس 5789 , ومسلم: اللباس والزينة 2088 , وأحمد 2/267 ,2/315 ,2/456 ,2/467 ,2/493 ,2/531 , والدارمي: المقدمة 437.(14/273)
ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الوصية بتقوى الله تعالى وحقيقة معناها وأعظمه والتذكير بنعمة ظهور الإمام محمد بن عبد الوهاب]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى كافة الإخوان، سلمهم الله تعالى، ووفقهم لسلوك صراطه المستقيم، ورزقهم البصيرة والفهم، في مقام الدعوة إلى الدين القويم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا هو الوصية بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وحقيقة معناها التي ترجع إليه، هو: أن يجعل العبد بينه وبين النار وقاية تقيه منها، بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، وتفاصيل ذلك على القلوب والأعضاء، لا يحصيها إلا من حقق مقام العبودية، علما وعملا.
ومن أعظم ذلك: معرفة أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وهو: معرفة حقيقة دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد سواه، والاعتناء بذلك في جميع الساعات، وتجديده في كل الأوقات، إذ بصحته واستقامته، يستقيم للعبد جميع فرائضه ونوافله، وبالخلل فيه يختل على(14/274)
العبد نظام توحيده وجيمع مقاصده.
وهذه النعمة هي أجل نعمة على الإطلاق، قد امتن الله بها على عباده، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [سورة آل عمران آية: 164] .
وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الجمعة آية: 2] .
فببعث الأنبياء وإرسال الرسل، يحصل بيان التوحيد، وحقيقة دين الإسلام، ويحصل لمن قبل ذلك منهم، وصدق به، كل فلاح وصلاح، وسعادة في الدنيا والآخرة; بل كل خير في الدنيا والآخرة، إنما حصل بواسطة الرسل، والإيمان بما جاؤوا به، وكل شر في الدنيا والآخرة إنما حصل بالجهل بما جاؤوا به، والإعراض عنه، ومخالفته.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن غربة الإسلام، وأنه سيعود غريبا كما بدأ، وأن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً؛ وأن من إقبال الدين: أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يوجد فيها إلا منافق أو منافقان، فهما مقهوران ذليلان. وإن من إدبار الدين: أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يوجد فيها إلا مؤمن أو مؤمنان، فهما خائفان مضطهدان.
وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حتى عاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا؛ نشأ على ذلك الصغير، وهرم عليه(14/275)
الكبير، واعتقد أكثر الناس الشرك دينا لجهلهم، والإسلام شركا حتى كفروا من اعتقده ودان به، فالله المستعان.
وقد أنعم الله علينا وعليكم، في أواخر هذه الأزمان - التي هي من أزمان الفترات، وأوقات الغربة، واندراس. الإسلام، وأفول شموسه، وظهور الجاهلية - بحبر من أحبار هذه الأمة وعلمائها، من برز في أنواع العلوم، ووقف على كثير من المنقول والمفهوم، وجمع ما تفرق في غيره من المكارم والفضائل.
فسلك على منهاج السلف الصالح وأعيان الأماثل، وشابههم في هديه وسمته وعلمه، وحاكاهم في معتقده، وزهده وفهمه، يعرف هذا من عرف الرجال بالعلم، وبحث في هذه الصناعة من أهل الإنصاف والفهم، وهو: شيخ الإسلام، إمام الدعوة النجدية، محمد بن عبد الوهاب.
فإنه لم يزل رحمه الله، وشكر عمله ومسعاه، يدعو إلى هذا الدين، وعنه يناضل مع كل فاضل وخامل، حتى كشف الله عن هذه الملة الغراء، والشريعة الظاهرة السمحاء، حجب الجهل والتأويل.
وأماط عن شمس الرسالة سحب العوائد والتضليل، وقد كانت شموسها قبل ظهوره وبحوثه مكسوفة، وعزائم الطلاب إلى غير حياضها مجذوبة مصروفة، ومستقيم أصولها قد هدمت بمعاول التأويل والتقليد، وقواعد بنيانها قد خلعت بأكف أهل الدراسة والترديد.(14/276)
أما التوحيد العلمي الاعتقادي - الذي تضمنته سورة الإخلاص، ونظائرها من آي القرآن، الذي حقيقته: معرفة الله بأسمائه وصفاته، وإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ونفي ما نفى عنه من النقائص، ومشابهة المخلوقات - فسفت عليه قوانين اليونان والجهمية، ومن تفرع عنهم من أهل البدع على اختلافهم، غبار التأويل والتعطيل، حتى عز من يعرفه ويدين به، ويعرف ما كان عليه السلف الأول في باب الاعتقاد.
حتى آل الحال إلى أن معتقد السلف، لا يعرف ولا يفتى به، ولا يؤتم به في هذا الباب، ولا يهتدى، بل هو عندهم من أغرب الأشياء وأعزها وجودا؛ وغالب من يحكي ما كان عليه السلف الصالح، لا يعرفه ولا يدريه، ولا يعرف أن الواقع من أكثر الخلق يضاده وينافيه.
وأما التوحيد العملي الإرادي، وهو: إفراد الله بالقصد والإرادة، والبراءة مما عبد من دونه واعتزاله، فقد سحبت عليه قوانين الجاهلية أطراف ذيولها، وأجلبت عليه برجلها وخيولها، حتى عفت آثاره، وتهدمت مناره، ونسيت شرائطه وأركانه.
وغالب سكان البسيطة إلا ما شاء الله منهم قد صرف اعتقاده وملاذه، إما على صاحب قبر، أو مدر أو شجر، أو حجر أو غار، أو صنم أو طائر صفر؛ والكتاب إنما يتلى عليهم للتبرك لا للعلم والعمل؛ وآخر منهم يعتقد أن النطق(14/277)
بالشهادتين كاف في الإسلام، وأن من نطق بالشهادتين لا يكفر، ولا يؤثم، ولو أتى بالنواقض العظام، التي لا يستقيم معها مسمى الإسلام.
والمستنكر عندهم والساكت بريء الذمة، لا يعرف الكفر من الإسلام؛ لا يعرف الكفر ولا يشهد على أهله به، بل يحط في قدر من أنكره وتبرأ من أهله وينسبه إلى طلب الفرقة والشعبذة، ويرى أن السكوت عن البراءة من الشرك وأهله من باب طلب الألفة والاجتماع، لا ينكر هذا ولا يجحده إلا من أعمى الله بصيرته، وتراكمت عليه أنواع الظلمات.
وأما باب تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق الشهادة له بذلك، في الأقوال والأفعال، والسير على المنهاج والمنوال، فذلك قد نسخته حرفة التقليد; وكل قوم يرون أن مذهبهم ورأيهم هو الواجب السديد.
ففتح الله على يد هذا الشيخ، قدس الله روحه، ما أغلق من تلك الأبواب، وأشرقت بوجوده شموس السنة والكتاب؛ وبدت حياضها للواردين والطالبين، وارتوى من كوثرها عباد الله، من المؤمنين والموحدين؛ وجرّت به نجد ذيول افتخارها، وتطهرت به من أوساخ شرك الجاهلية وعارها. وبحث وناظر، وصنف وجادل وماحل حتى استبان الحق في الأصول والفروع، واستقامت هذه الدعوة الإسلامية، وانقطع الخلاف واستقام سوق الجماعة والائتلاف.
فينبغي لنا ولكم معرفة هذه النعمة، ورعايتها، والقيام(14/278)
بشكرها، وأن لا يحدث منا ولا منكم تغيير لها، لا في الأصول ولا في الفروع؛ وأن نقتصر على بيان هذه الدعوة، وتجريدها وغرسها، وترك الإغلاظ في بعض المستحبات، لئلا يكون ذلك سببا للصد عن هذه الدعوة، والاشتغال عنها بغيرها، أو بمستحب عما هو أهم منه.
كذلك تتبع أقوال العلماء رحمهم الله، في بعض المسائل التي هي من مسائل الفروع قد كفيتم ذلك بما قدمناه لكم، من حال الشيخ رحمه الله، وحاشا وكلا أن يكون الشيخ ومن قبله من الأئمة الأعلام قد تبينت لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول أو عمل واختاروا غيرها عليها.
فالواجب عليكم السير على منهاجهم، وسلوك طريقهم؛ فإن خلافهم دليل على فساد المقاصد والنيات، ومن أعظم الوسائل إلى الطعن في الداعين إلى الله والمنتسبين إلى ذلك.
فتنبهوا لذلك، فإن الاختلاف بينكم في مسائل الفروع من وساوس الشيطان التي تصد عن العمل بالمشروع; ولتكن كلمتكم واحدة: الدعوة إلى الله وفي الذب عن دينه، ومجاهدة أعدائه، والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، فإنكم في زمان غربة، المقام فيه مقام دعوة، لا في زمان إقبال فإن زمان الإقبال ينتقل فيه إلى الجهاد باللسان، والإغلاظ.
ومن قواعد الدين الكلية: ارتكاب أخف الضررين، لدفع أعلاهما، وترك إحدى المصلحتين، لتصليح أولاهما،(14/279)
فكونوا على بصيرة من أمر دينكم، ولا يستهوينكم الشيطان، وعليكم بالإخلاص.
[التذكير بما بعث الله به رسوله وحال الناس قبل بعثته]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى محمد بن علي الموسى، سلمه الله تعالى، ووفقه لأداء ما افترض عليه، من الجهاد والنصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفاك ما من الله سبحانه وتعالى به على أهل الأرض من بعثة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد كان الناس قبل ذلك على غير دين، متفرقين في عباداتهم ودياناتهم، إلا من شاء الله من غير أهل الكتاب; فصدع بأمر ربه، وأكمل الله لأهل الأرض ببركته الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] .
ومثلك يعرف ذلك إجمالا وتفصيلا، وأنت تعلم حال غربة الإسلام، وإعراض أكثر الخلق عنه، وعما يكون سببا لظهروه وقوته، إيثارا للشهوات النفسانية، والإرادات الشيطانية، ولضعف من يعرف ذلك، وعدم عزمه، وتقديمه لعل وعسى، فعياذا بالله من إحدى الخصال الثلاث.(14/280)
والله سبحانه وتعالى قد أنعم عليك من بين سائر عشيرتك، بالتعلم والبحث، وأنت مطالب بالعمل، وقد ذكر الله في حق نساء نبيه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [سورة الأحزاب آية: 30] ، إلى قوله:: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة الأحزاب آية: 31] .
وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا} [سورة الزمر آية: 9] .
وهذه الفتنة الواقعة اليوم، قد أزاح الله فيها ما يلقى في الفتنة بالأمس، من الوساوس والشبهات، وقد أوجب الله عليكم، بعد معرفة الحق، العمل به.
وأنتم تفهمون ما أنعم الله به على أهل نجد، بعد تقادم العهد بآثار النبوة ونور الرسالة، في القرن الحادي عشر، من هجرته صلى الله عليه وسلم من ظهور الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى، ودعوته إلى ما دعا إليه المرسلون.
ووازره من سبقت له من الله السعادة، وصبروا في ذات ربهم، على ما نالهم من الشدة والعداوة، وجعلهم الله ملوكا بذلك، ودانت لهم العرب. ثم لم يزالوا على ذلك مستمرين، حتى حدث من فتنة الشهوات، ما أوجب العقوبة، فسلط الله العسكر المصري، طهرة وتمحيصا واختبارا.
ثم رد الله الكرة لمن عرف الأمر الأول، وحام حول الحمى، وحصل له بعض المقصود؛ ثم جرى من العقوبة(14/281)
ثانيا، فرد الله الكرة بمن تبع أثر من قبله، وحام حوله فحصل له بعض المقصود.
ثم حدثت الفتنة الكبرى، والمصيبة العظمى، وفتن في الأمر من هو من أهله، من هؤلاء القوم، وذلك لأنه عاش في ثياب لا يعرف من حاكها، وما درس، وصار سنة لكل جاهل، لا يعرف سابقة الأمر، وتطاول الشر، ودخل في أمر الإسلام من ليس من أهله، وذلك لقلة أعوان الإسلام وأنصاره.
والآيات في وجوب الجهاد، وتفاصيله، أكثر من أن تحصر، وتقرؤها بحمد الله، بالغداة والعشي، والأحاديث كذلك.
ومن أجمع الأحاديث، قوله صلى الله عليه وسلم: لا إسلام إلا بجماعة 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يغل عليهن قلب عبد مسلم: إخلاص العمل لله، ولزوم جماعة المسلمين، ومناصحة ولاة الأمور، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم 2.
وقد رأيت خطك لعيالك، وسرني ذلك، وسرنا همتكم فيما قصدتم، والحق عليك خصوصا أكثر من غيرك من طلبة العلم، لأنك من القوم، ولا تعرف عنك المداراة الدنيوية، وقوتكم وما أعطاكم الله في وطنكم، لا يكون حظكم كثرة الدنيا، وأنفسكم خاصة، بل يلزمكم بذل النفس والمال، وما يكون صالحا لظهور الإسلام، والاجتماع عليه.
__________
1 الدارمي: المقدمة 251.
2 الترمذي: العلم 2658.(14/282)
[الوصية بتقوى الله وبيان حقيقتها وأصل الدين والتذكير بنعمة الإسلام]
وقال أيضا، الشيخ: عبد الله، والشيخ محمد، ابناء الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف ومحمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، من أهل الجنوب، ومن والاهم، سلمهم الله تعالى، ورزقنا وإياهم الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، وهي السبب الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ومرافقة النبيين والصديقين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وحقيقة التقوى: القيام بما أمر الله به من توحيده وطاعته، وطاعة رسوله، واجتناب ما نهى عنه ورسوله، وهذا هو النور والهدى لمن نور الله قلبه.
وأصل الدين: معرفة الله، ومعرفة توحيده وعبادته التي خلق الله الخلق لها، وتعبدهم بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ(14/283)
إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] .
فأمر الله تعالى عباده بتقواه، وهي فعل ما أمر الله به، ومجانبة ما نهى عنه، في الأقوال والأعمال; وأمرهم بلزوم الإسلام الذي عرفهم به، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وحثهم على التمسك به، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، فأمرهم بلزومه والاستقامة عليه، في جميع أوقات العمر وساعاته، ومن عاش على شيء مات عليه.
وأمرهم أيضا: بالاعتصام بحبل الله، وهو دينه وشرعه، وما دل عليه كتابه المبين، من الأمر بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالدعاء والخوف والرجاء، والحب والخضوع والذل، والخشوع والتوكل، والذبح والنذر، والاستغانة والاستعاذة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، وخلقهم لأجلها، وجعل نجاتهم من النار موقوفة على صحتها، وترك ما ينافيها ويناقضها، من الاعتقادات الباطلة الخارجة عن الصراط المستقيم.
ومن الاعتصام بحبل الله: العمل بأحكام القرآن،(14/284)
والائتمار بأوامره، وترك نواهيه فإن سعادة الدنيا والآخرة موقوفة على ذلك وهو من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ولا يتم هذا الواجب إلا بموالاة من دان به، ومحبته ونصرته، ومعاداة من خالفه ولم يقبله وينقد له، وبغضه وجهاده.
ثم ذكر عباده نعمته عليهم بأن جمعهم بعد الفرقة والاختلاف، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والبغضاء، وعرفهم ما هم فيه قبل الإسلام من التفرق والاختلاف.
فاشكروا نعمة الله عليكم عباد الله، واذكروا ما أنتم فيه سابقا قبل دخلوكم في الإسلام، من اختلاف الكلمة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وظهور المنكرات والفواحش، والتدين بدين أهل الجاهلية، فأنقذكم الله من هذه المهلكات، وفتح بصائركم لطلب الهدى فهذه نعمة عظيمة.
وقد منَّ الله علينا وعليكم بمعرفة هذا الدين، والإقبال عليه، وأخرجكم من الظلمات إلى النور، بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وجمعكم على إمام يدعوكم إلى دين الله ودين رسوله؛ وهذه من أكبر النعم؛ لأنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة فاعرفوا حقوق الإمامة والزموها، لأن من خرج عن الجماعة قيد شبر، فَمَيْتَتُه ميتة جاهلية. وفي الحديث: الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه،(14/285)
ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1.
ومما نوصيكم به، بعد معرفة الإسلام وحقوقه: المحافظة على الصلوات في الجماعات، لأنها أعظم شعائر الدين بعد الإسلام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 2، وقال صلى الله عليه وسلم رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 3.
وقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] . فمن لم يكن له بصيرة في مقام الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ففساده أكثر من صلاحه، ولو حسنت نيته.
وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون عالما بما يأمر به، عالما بما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به: رفيقا فيما ينهى عنه.
واعلموا أن الدين بين الغالي والجافي، فمن غلا فيه فهو والجافي سواء؛ فتأدبوا بالآداب الشرعية، والأخلاق المرضية، ولازموا معرفة دينكم، لتكونوا على بصيرة فيه.
وتعاونوا على البر والتقوى، وكونوا عباد الله إخوانا؛ المسلمون يد واحدة على من سواهم. والهجر الحقيقي
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.
2 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346.
3 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237.(14/286)
الذي هو من واجبات الدين، لمن أظهر الكفر، أو استهزأ بدين الله، فهذا الذي يجب هجره ومقاطعته. نسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
صلى الله عليه وسلم [أهمية تقوى الله تعالى وبيان ما يبلغ به العبد درجة المتقين وما يجب أن يتدارك]
وقال أيضا، الشيخ محمد بن عبد اللطيف، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين; من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، آمين.
أما بعد: فقد قال الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} [سورة غافر آية: 13] .
وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] .
وأعظم ما نذكركم به، ونوصيكم به، تقوى الله سبحانه، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، وهي السبب الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ومجاورة النبيين والصديقين، وهي الوصية العظمى، الموجبة للنجاة من شدائد الدنيا والآخرة، فمن لزمها وتمسك بها، سعد سعادة(14/287)
لا شقاوة بعدها، ومن ضيعها وأهملها، وارتكب ما يهواه خسر آخرته ودنياه.
والتقوى: اسم شامل لفعل الخيرات، وترك المنكرات، باطنا وظاهرا، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، فأمر الله عباده أن يتقوه حق تقاته; وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر; وأمرهم بلزوم الإسلام، والثبات عليه، وأن يلتزموا أحكامه وحدوده، وواجباته وحقوقه، حتى يلقوا الله على ذلك.
فإن الكريم قد أجرى عادته أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فهي وقاية من الشرور العاجلة والآجلة، فمن اتقى الله فاز ونجا، وجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية.
فما استجلبت النعم واستدفعت النقم بمثل تقوى الله عز وجل قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 96] الآية.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-68] .
ولا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يكون لنفسه(14/288)
محاسبا أشد محاسبة من الشريك لشريكه، فإذا حاسب العبد نفسه، وعرض أقواله وأفعاله وأعماله على كتاب الله، وما شرعه وأمر به، فما وافق الكتاب والسنة عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره، فهذا هو التقي حقيقة، فإذا حصل من أهل الإسلام الإقبال على الله والتوبة إليه، والرجوع والإنابة إليه، كما أمرهم الله بذلك، كانت العاقبة الحميدة، والحياة السعيدة، عائدة لهم.
والله تبارك وتعالى ينْزل العباد منه، حيث أنزلوه من أنفسهم، فمن عظم أمر الله وأطاعه، واجتنب مناهيه، وخافه في سره وعلانيته رضي الله عنه وأرضاه، ومن خالف أمره وارتكب نهيه، وقدم هواه على طاعة مولاه، انتقم منه وأقصاه؛ وكما تدين تدان، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
فالواجب على من أبصر عيب نفسه، أن يتدارك هفواته، وفرطاته ومهلكاته، وأن يقبل على دين الله، الذي خلقه لأجله، وتعبده به، وجعل النجاة والسعادة معلقة بحصوله، محبة وقبولا، وتعلما وعلما وعملا؛ وأن يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي في الله، ويعادي في الله، ويقدم ويؤخر لله.
ففي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، وقال: وهل الدين إلا الحب والبغض في الله.(14/289)
ومن علامة محبة الله والصدق في معاملته والخوف منه، الغيرة لله عند انتهاك حرماته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقيام لله، والأخذ على أيدي أهل البطر والسفه والتهم، وحملهم على طاعة الله، وكفهم عن معاصي الله، وردعهم عن ذلك، سواء كانوا أقربين، أو بعيدين، أقوياء كانوا أو ضعفاء.
فإن بالقيام بذلك والمسارعة إليه، وإيثار رضى الله على الدنيا، والتواصي بالحق، والتعاون عليه، كل بحسب حاله في ذلك، مما يكون سببا لرضاه، وجلب كل خير، ودفع كل شر.
وبالاغترار بالدنيا وزينتها، والغفلة عن الله، والإعراض عن الأوامر والنواهي، يحصل الهوان، والذل والعار، في الدنيا والآخرة، ويحصل الهم والغم، وتنْزع البركات، وتحل النقمات والمثلات.
وقد جاء في الحديث القدسي: يقول الله تعالى: ما من عبد آثر محابي على هواه، إلا ألقيت عنه همومه، وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر. وعزتي وجلالي وعظمتي، ما من عبد آثر هواه على طاعتي، إلا أكثرت همومه، وفرقت عليه ضيعته، ونزعت الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه، ثم لا أبالي بأي واد هلك.(14/290)
وظهور المعاصي، وعدم إنكارها، والسكوت عن فاعلها، والإغضاء عنه، مما يوجب سخط الرب، وحلول عذابه، ونزول عقابه; وفي المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن يعملها، ولم يغيروا عليه إلا عمهم الله بعقابه 1.
وفيه أيضا، عن ابن عمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده، لا ينفصم الإسلام حتى لا يقال في الأرض: الله الله. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، وإلا سلط الله عليكم المشركين، يسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم، من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم.
وفي الحديث عنه: صلى الله عليه وسلم ما ظهر الزنى والربا في قرية، إلا أذن الله بهلاكها، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة، ما لم يستخفوا بحقها، قالوا: يا رسول الله، وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله، فلا ينكر ولا يغير.
وعن أنس أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله، ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم، فإذا آثروا دنياهم على صفقة دينهم، ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم، وقال الله: كذبتم.
__________
1 أبو داود: الملاحم 4338 , وأحمد 1/5 ,1/7 ,1/9.(14/291)
فدل هذا الأثر على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من حقوق لا إله إلا الله، بل هي من أشرف مقامات الدين وفرائضه، التي افترضها الله على عباده المؤمنين.
وفي الحديث أيضا: إن المعصية إذا خفيت لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة، وليس معناه أنها تظهر في الأسواق، وتشتهر علانية، بل إذا تحدث الناس بها، وفشا القول فيها بينهم، فهذا من ظهورها، كما ذكر ذلك العلماء، رحمهم الله تعالى.
ومعلوم أن المعاصي لها شؤم، حتى على البهائم، قال مجاهد، رحمه الله تعالى، على قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] ، قال: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم، إذا أجدبت الأرض، وأمسك المطر; تقول: هذا شؤم بني آدم، وقال عكرمة، رحمه الله تعالى: إن دواب الأرض، وهوامها، حتى الخنافس والعقارب، تلعن عصاة بني آدم، يقولون: منعنا القطر بذنوبهم.
ومن ظن أن هذه الأحاديث في قوم كانوا فبانوا، وأن من بعدهم لا يتناولهم هذا الوعيد الشديد، ولا يدخل تحت حكمه، أو أنه معذور، أو أن الزمان قد صلح ولا حاجة إلى ذلك، فهو والله المغرور الجهول، الظالم لنفسه.
وأكثر الناس إلا ما شاء الله، اعتاد قلبه المداهنة، وعدم(14/292)
النفرة من أهل الشر والفساد، ومخالطة أهل مواقف التهم المعروفين بها، وجعل الإغضاء والسكوت عنهم هو العقل الراجح، وأن الناس لا يستقيم معهم إلا من داهنهم، وسعى في إصلاح دنياه وإفساد دينه، فهذا هو المحمود عندهم، المشكور، نسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة.
ومن أكبر المنكرات: التكاسل والتثاقل عن الصلاة في المساجد مع الجماعات، وعدم الاهتمام لها، وهي من أهم أركان دين الإسلام، وآكدها بعد الشهادتين، بل هي آخر ما وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، حيث قال: الصلاة، الصلاة وهو يجود بنفسه. وهي آخر ما يفقد من الإسلام، فالتهاون بها من صفات المنافقين المذمومة في الكتاب والسنة.
ومن علامات الإيمان: تعاهدها، والمحافظة عليها جمعة وجماعة، قال عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان 1، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18] الآية.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: أما بعد: فإن أهم أعمالكم عندي الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. الله أكبر، كم تحت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من الخير الكثير، والعافية في الدنيا والآخرة! وكم تحت
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن 3093.(14/293)
تركهما والغفلة عنهما، من الشر والفساد العريض، في الدنيا والآخرة!.
واعلموا رحمكم الله: أن المسلمين عزموا على الاستسقاء، فيجب عليكم معاشر المسلمين، أن تقدموا بين يدي ذلك التوبة النصوح لله، والإقبال عليه، والإقلاع من الذنوب والمعاصي، القلبية والبدنية والمالية.
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [سورة نوح آية: 10] .
وقال:: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [سورة هود آية: 61] ، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [سورة هود آية: 90] ، والآيات في الأمر بالتوبة والاستغفار كثيرة.
وقال عليه الصلاة والسلام: إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة 1 وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر; وقال صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب 2.
والتوبة النافعة هي التي استكملت أربعة شروط: الإقلاع من الذنب، الندم على ما فات، العزيمة على أن لا يعود، التحلل من مظالم الخلق.
فإذا حصلت هذه الشروط، رجي للعبد قبول التوبة، وكانت توبة صادقة صحيحة. جعلنا الله وإياكم من الفائزين بها، الموفقين لها، إنه سميع مجيب.
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2702 , وأبو داود: الصلاة 1515 , وأحمد 4/211 ,4/260.
2 ابن ماجه: الزهد 4250.(14/294)
ومما يكون سببا لقبول الدعاء، ونزول الرحمة: التقدم بين يدي ذلك بالصدقة، فإن الله سبحانه يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [سورة المزمل آية: 20] .
وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] .
والمقصود من الصدقة مواساة الغني للفقير مما أعطاه الله وخوله، وشكر الله أن جعله غنيا، وجعل من هو مثله محتاجا; وفي الحديث: بادروابالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها، وفيه أيضا: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار 1
فاتقوا الله عباد الله، وائتمروا بما أمركم الله به ورسوله، وأخرجوا متواضعين، متخشعين متذللين متبذلين، راغبين طالبين، لعل الله أن يقبل توبتكم، ويجيب دعوتكم، ويرحمكم.
فنسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى، وأوصافه العلى، وبتوحيده الذي جحده المشركون، أن يمن علينا وعليكم بقبول التوبة، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله صحبه وسلم تسليما كثيرا، آمين.
__________
1 الترمذي: الجمعة 614.(14/295)
[بيان معنى حديث الدين النصيحة، وما دل عليه القرآن في ذلك]
وقال الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، رزقنا الله وإياهم الاستقامة، وأعاذنا وإياهم من أسباب الخزي والندامة، آمين سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته..
أما بعد: فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، فإنها وصية الله للأولين والأخرين، وهي السبب الموصل إلى مرضاة رب العالمين، ومرافقة النبيين والصديقين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا} [سورة النساء آية: 131] .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1.
فجعل صلى الله عليه وسلم الدين محصورا في النصح لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، بما فيه الكفاية؛ وهذا هو النور والهدى، لمن نور الله قلبه، وألهمه رشده؛ لأن النصيحة لله هي: الإيمان به، ومعرفته، وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، ومحبته وخشيته،
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/296)
والذل والخضوع له، وتعظيمه وتعظيم أوامره، وترك نواهيه، وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وتشبيه، أو إشراك به، أو إلحاد في آياته، أو تكذيب لما أنزله في كتبه. والنصيحة لكتابه: العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والوقوف عند حدوده، وعدم تجاوزها وتعديها.
والنصيحة لرسوله: تصديقه، وتصديق ما جاء به، والإيمان به، ومحبته وتوقيره، وتقديم أقواله وما سنه وشرعه لأمته على أقوال كل أحد، كائنا من كان. والنصيحة لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعتهم في المعروف، والنصح لهم باطنا وظاهرا، وعدم مشاقتهم ومنازعتهم، وتحريم الخروج عليهم.
والنصح لعامة المسلمين: إرشادهم وتعليمهم، ما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وعدم المشقة عليهم، والتلطف في أمرهم ونهيهم، ودعوتهم، وكفهم عن الشر وأسبابه، والأخذ على أيديهم عن معصية الله، وعن فعل ما لم يشرعه الله ورسوله، وتحذيرهم عن مشابهة أهل الجاهلية في أقوالهم وأفعالهم. وهذا هو حقيقة النصح الذي ينافي الغش.
وقد دل على هذا القرآن وأرشد إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا(14/297)
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] .
فأمر تعالى عباده بتقوى الله، وهي فعل ما أمر به، ومجانبة ما نهى عنه، من الأقوال والأعمال، وأمرهم بلزوم الإسلام الذي عرفهم به، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وحثهم على التمسك به، والعض عليه بالنواجذ حتى الممات، بقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 102] ، فأمرهم بلزومه والاستقامة عليه، في جميع أوقات العمر وساعاته؛ ومن عاش على شيء مات عليه.
وأمرهم أيضا: بالاعتصام بحبل الله، وهو دينه وشرعه، وما دل عليه كتابه المبين، من الأمر بعبادته، وترك عبادة ما سواه، لأن العبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالدعاء، والخوف والرجاء، والحب والخضوع، والذل والخشوع، والتوكل والذبح والنذر، والاستغاثة والاستعاذة، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي تعبد الله العباد بها، وخلقهم لأجلها، وجعل نجاتهم من النار موقوفة على صحتها، وترك ما ينافيها ويناقضها، من الاعتقادات الباطلة الخارجة عن الصراط المستقيم.
ومن الاعتصام بحبل الله: العمل بأحكام القرآن(14/298)
والائتمار بأوامره، وترك نواهيه؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة موقوفة على ذلك؛ وهو من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ولا يتم هذا الواجب إلا بموالاة من دان به ومحبته ونصرته، ومعاداة من خالفه ولم يقبله وينقد له، وبغضه وجهاده.
ثم ذكر عباده نعمته عليهم، بأن جمعهم بعد الفرقة والاختلاف، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والبغضاء، وعرفهم ما هم فيه قبل الإسلام من التفرق والاختلاف.
فاشكروا نعمة الله عباد الله، واذكروا ما أنتم فيه سابقا قبل دخولكم في الإسلام، من اختلاف الكلمة، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وقطيعة الأرحام، وظهور المنكرات والفواحش، والتدين بدين أهل الجاهلية، فأنقذكم الله من هذه المهلكات، وفتح بصائركم لطلب الهدى؛ فهذه نعمة عظيمة.
وقد من الله عليكم أيها المسلمون، بولاية إسلامية، وأمانة دينية، تحثكم على الإسلام، وترغبكم فيه، وتدعوكم إليه، فضلا منه ونعمة؛ فاشكروا مولاكم على هذه النعمة، وارغبوا إليه في إدامتها، والاستقامة عليها، وتثبيت أهلها.
واحذروا: من الأسباب التي تزيل هذه النعمة وتهدمها، وتحول بينكم وبين القيام بها، فإنا لا نعلم على وجه الأرض أحدا يجب السمع والطاعة له، ويجب الجهاد معه، أولى من هذا الإمام، الذي من الله به في آخر هذا(14/299)
الزمان، وهو الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أعلى الله مجده وأدام سعده.
ومما نوصيكم به أيضا 1: البصيرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الإنسان إذا أمر بأمر من أمور الخير نظر فيه، فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل، وسلامة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في الأمر به، مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة; وإن كان يترتب على ذلك شر وفتنة وتفرق كلمة، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في تركه، وجب تركه ولم يأمر به، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وأيضا ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله، التوقع في الأمور والتثبت، وعدم الطيش والعجلة، والحرص على الرفق، والملاطفة في حال الدعوة، فإن في ذلك خيرا كثيرا; وينبغي له أيضا أن يسأل من له قدم صدق، ومعرفة راسخة، وبصيرة نافذة، ولا ينظر إلى الأشخاص، ولا إلى من ليس له بصيرة.
وهجران أهل المعاصي يختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال والأزمان، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة، والمعرفة التامة، وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك، أن يقتصر على
__________
1 وتقدم في صفحة82و 83/ج/8.(14/300)
نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك 1.
فإذا رأى الإنسان من يعمل شيئا من المعاصي، أبغضة على ما فيه من هذه المعصية، وأحبه على ما فيه من الطاعة؛ ولا يجعل بغضه على ما فيه من الشر، قاطعا وقاضيا على ما معه من الخير، بل يحبه ويواليه، وإن كان بغضه له على معصية يزجره، ويزجر أمثاله عن هذه المعصية مثلا هجره، وإن كان لا ينْزجر، ولا يرتدع هو وأمثاله، راعى فيه الأصلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا يزجره ولا ينجع فيه شيئا، ووكل سرائرهم إلى الله. ولزوم هذه الطريقة مع النية الصالحة، تدفع المضار، وتأتلف القلوب، ويكون على الآمر والناهي، الوقار والمحبة.
فاجتهدوا عباد الله، فيما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، واعلموا أنه لا ينجي عند اختلاف الناس واضطرابهم، وكثرة الفتن، إلا البصيرة، ولا تسألوا كل من انتسب إلى العلم، وتزيا بزيه، فإن العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة. وهذا من باب التواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن 3058 , وابن ماجه: الفتن 4014.(14/301)
فاتقوا الله عباد الله، ولا تكونوا ممن أعرض عن ذكر ربه، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، لما يحب ويرضى، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
[رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ إلى المسلمين من عسير وشهران وقحطان وغيرهم في تحقيق التوحيد ودين القيمة]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، إلى كافة من يراه من المسلمين، من عسير وشهران، وقحطان، وغيرهم من قبائل الحجاز، سلمهم الله وتولاهم، ووفقهم لما يرضي مولاهم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد، الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وتجريده عما ينافيه من الشرك من كل وجه، حتى في الألفاظ، فإن العبادة التي شرعها الله، متضمنة لإخلاص الدين لله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
ودين القيمة، هو: دين الإسلام، الذي أمر الله به الأولين والآخرين، وخلقهم لأجله، قال تعالى: {وَمَا(14/302)
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] .
والعبادة مبنية على أصلين: وهما أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، على لسان رسوله؛ هذان الأصلان هما حقيقة الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
فالأول: يتضمن إخلاص الألوهية لله، ولا يأله القلب غيره، لا محبة، ولا خوفا، ولا رجاء، ولا إجلالا، ولا تعظيما، ولا يصرف لغيره شيئا من العبادات، كالذبح والدعاء والنذر، والاستغاثة، والاستعانة، والاستعاذة، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي من صرف منها شيئا لغير الله لم يكن عاملا بما دلت عليه، شهادة أن لا إله إلا الله، وإن نطق بها لسانه؛ فإن سعادة العباد موقوفة، على العمل بما أوجبه الله عليهم، وخلق لأجله.
الأصل الثاني: تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه؛ فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحل الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله؛ فما لم يشرعه ويأذن فيه، فهو مما حرمه الله وحظره على عباده، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .
فمن دعا إلى غير دين الله فقد أشرك، ومن دعا إلى غير ما شرعه رسول الله فقد ابتدع. والبدعة تؤول إلى الشرك، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ(14/303)
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] .
فجعل طاعة العلماء والأمراء في التحليل والتحريم، عبادة؛ فلا يكون العبد مسلما حقا إلا بالانقياد لأوامره، واتباع ما جاءت به رسله والانتهاء عن نهيه، والائتمار بأمره.
إذا علمتم ذلك، فاعلموا أن الله تبارك وتعالى أوجب عليكم العمل بدينه، والقيام بشرعه، وترك جميع المحرمات التي حرمها عليكم، في الأقوال والأفعال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه من آكد شرائع الإسلام.
قال تعالى مادحا لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقال تعالى، ذاما لمن تركه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79] .
وقال صلى الله عليه وسلم: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليوشكن الله أن يضرب قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم: وهذا تحذير لهذه الأمة عن طريقة من كان قبلهم من اليهود والنصارى، فإنهم كانوا لا يتحاشون عن مجالسة أهل المعاصي ومجامعتهم، ومواكلتهم ومشاربتهم، فلما علم الله(14/304)
ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض، ثم لعنهم على لسان أنبيائهم.
فالحذر الحذر، عن ارتكاب طريقة أهل الكفر والضلال، فيحل بكم ما حل بهم من العقوبة والنكال، وقال صلى الله عليه وسلم: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر.
ومن أعظم المنكرات وأقبحها وأشنعها، وأبعدها عن موجبات الجنة والنجاة من النار، بل هو من نواقض الإسلام العشرة: الإعراض عن واجبات دين الله، وعن تعلم ما أوجبه الله عليكم، وتعبدكم به، وعدم تعليمه، والاستغناء بالجهل والغفلة والعوائد الضالة المخالفة لدين الله، فإن هذا من أعظم ما يوجب سخط الرب، وحلول النقمة العاجلة، مع ما يضاف إلى ذلك من ارتكاب المحرمات، وابتداع البدع الشنيعة، نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم في الدنيا والآخرة.
ومن المنكرات أيضا: عدم الاهتمام بشأن الصلاة والمحافظة عليها في المساجد مع الجماعات، وترك تأديب من تخلف أو تكاسل عنهما، قال تعالى، ذاما لمن كانت هذه حاله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] ، بئر في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم، شديد الحر.
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ(14/305)
سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] .
صلى الله عليه وسلمقال العلماء: فسر السهو بعدم الحضور مع الجماعات في المساجد، وبالغفلة عن ذكر الله، وعدم الطمأنينة في الصلاة، ونقرها، قال صلى الله عليه وسلم: تلك صلاة المنافق، كررها ثلاثا، قال: حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
فالمتخلف عن الصلاة والمتكاسل عنها منافق معلوم النفاق، كما أن المحافظ عليها قد شهد له الرسول بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان 1، فالذي لا يشهد الجماعة، يشهد عليه بالنفاق.
قال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم 2، وقال صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء والصبح، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبوا 3.
وقال صلى الله عليه وسلم: من حافظ على الصلاة كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف 4. فالله الله عباد الله، في المحافظة على الصلاة، والقيام بحقوقها وأدائها على الوجه الذي شرعه الله ورسوله.
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن 3093.
2 البخاري: الأحكام 7224 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/376 ,2/531 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274.
3 البخاري: الأذان 657 , وأحمد 2/472 ,2/479.
4 أحمد 2/169 , والدارمي: الرقاق 2721.(14/306)
ومن المنكرات أيضا: اختلاط النساء بالرجال في الحارات والأسواق، فهذا من المنكرات، والتساهل فيه وعدم الإنكار له، دليل على عدم الغيرة، فإن الذي لا يغار لحرمه، ولا يأسف من دخول النساء على الرجال، والرجال على النساء "ديوث"والديوث لا يدخل الجنة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب عليكم، معشر المسلمين الغيرة على نسائكم، ومنعهن من الدخول على الرجال الأجانب، ومباشرتهن للأضياف، فإن غالب من لا غيرة له يرى أن من إكرام الضيف أن نساءه تخدمه، وهذا من الفضائح- عياذا بك اللهم من المخازي- التي تنكرها الفطر السليمة، والعقول المستقيمة؛ فالذي لا غيرة له، لا دين له.
فيجب عليكم منعهن من ذلك، وإلزامهن بتغطية وجوههن، وعدم كشفها، لأن المرأة عورة لا يجوز لها كشف شيء من جسدها، إلا الوجه في الصلاة؛ فيجب عليكم تعليم نسائكم الصلاة، وتفقد أحوالهن، قال صلى الله عليه وسلم: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته ومسؤول عن رعيته..... ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
فيجب على كل أمير يريد نجاة نفسه، تفقد رعيته، وتفقد أحوالهم، في دينهم ودنياهم، فإنه مسؤول يوم القيامة عمن استرعاه الله عليه، فينظر ماذا يجيب مولاه حين يلقاه،(14/307)
قال عليه الصلاة والسلام: ما من وال يسترعيه الله على رعية، ثم لم يحفظها بنصيحة، إلا لم يرح رائحة الجنة 1 فالنجاء النجاء والحذر الحذر، معاشر الأمراء والمسلمين!!
ومن المنكرات أيضا: بخس المكاييل والموازين، والأخذ من الناس بالوافي، والدفع لهم بالناقص، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَالَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة المطففين آية: 1-5] .
وقد عذب الله أمة من الأمم، بالأخذ على أهل أسواقهم، يزعمون أنه من باب الإمارة والكيالة؛ فإن هذا سحت حرام، لا يحل ولا يجوز، ومتعاطيه قد تعاطى الحرام الصرف، قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس 2.
وبالجملة: فالمنكرات الشنيعة، والبدع الفظيعة بين أظهركم، لا تحصى ولا تعد ولا تستقصى، فيجب عليكم الرجوع إلى مولاكم، وقبول الحق ممن إليه دعاكم.
فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ، واحذروا حلول العقوبات والمثلات، والله يشهد أني قد أبلغتكم، وما أنا عن السكوت بمعذور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
1 البخاري: الأحكام 7150 , ومسلم: الإيمان 142 , وأحمد 5/25 ,5/27 , والدارمي: الرقاق 2796.
2 أحمد 5/72.(14/308)
[الحث على الصلاة والمحافظة عليها والقيام على المتخلف والتحذير من الربا]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، إلى جانب الأخ المكرم: محمد بن إبراهيم وجماعته، من أهل الرويضة، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: الموجب لهذه النصيحة الشفقة عليكم، فأعظم ما يوصى به تقوى الله تعالى، بامتثال أمره واجتناب نهيه، فإن الله تبارك وتعالى قد أوجب على عباده العمل بشرعه، والقيام به، وجعل ثواب ذلك رضاه والجنة.
ومن أعظم ما أمر الله به وأوجبه بعد الشهادتين: الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، والمبادرة لأدائها في أوقاتها؛ وجعل ذلك دليلا على الإيمان والتقوى، وحذر عن التكاسل عنها، والتخلف عن حضورها.
وعدم المبالاة بذلك دليل واضح، وعلم فاضح على النفاق، قال تعالى في وصف المنافقين: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَى} [سورة التوبة آية: 54] .
وقال تعالى، ذاما لهم ومتوعدا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] : فويل: واد في جهنم بعيد قعره، خبيث طعمه، أعده الله للمتخلف عن الصلاة، والمتكاسل عنها، لأن المتخلف عن وقتها، وعدم الحضور مع الجماعات، نوع من السهو.(14/309)
وقال صلى الله عليه وسلم: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدودن من دينكم الصلاة. وقال صلى الله عليه وسلم: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي ابن خلف 1.
فهؤلاء أئمة الكفر، ورؤساء الضلال، كفى للمتخلف عن الصلاة عقوبة ونكالا أن يكون قرينا لهم، ورفيقا في دار الهوان.
وكفى للمحافظ على الصلوات والمبادر إليها، والمؤدي لها على الوجه المرضي المحبوب لله، شرفا وسلامة أن يكون له يوم القيامة نور يهتدي به، وحجة يحتج بها، ونجاة ينجو بها من دركات العذاب، وأن يكون مع النبيين والصديقين، والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
إذا علمتم ذلك فالواجب عليكم القيام على المتخلف، وتأديبه وتفشيله، أولا بالرفق، وثانيا بالأدب البليغ الذي يردعه ويزجر أمثاله؛ فإن الصلاة من أعظم حقوق الإسلام؛ فبإكمالها يكمل، وبتضعيفها والاستخفاف بها يضمحل، فعلى قدر الرغبة في الصلاة، تكون الرغبة في الإسلام.
ومن الواجب عليكم أيضا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإنه من أعظم شعائر الإسلام، ومما يوجب
__________
1 أحمد 2/169 , والدارمي: الرقاق 2721.(14/310)
استقامته وثباته؛ وقد فرضه الله على عباده، وحثهم عليه، وأخبر أن القيام به والتواصي به من صفات المؤمنين؛ وأن تركه والتغافل عنه، وعدم الاهتمام به، وتمشية الحال على أي حال، وعدم إزعال الناس، وكونه يقول ما علي منهم، ولا كلفت فيهم، لاسيما إذا كان ذا قدرة واستطاعة، من أوصاف المنافقين.
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] .
وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [سورة التوبة آية: 67] ، فأخبر سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأعظم المعروف: التوحيد والعمل به، ومعرفته واعتقاده، والقيام بواجباته وأركانه، والدعوة إليه، وإرشاد الناس إلى ذلك، والإنكار على من أعرض عنه، أو جحده أو دان بضده وهو أعظم المنكر، أي الشرك والكفر، وصرف عبادة الله لغير الله؛ والمعاصي كلها من المنكر، صغيرة كانت أو كبيرة.
وقد ذم تبارك وتعالى من تركه، وتوعده ولعنه في محكم كتابه، فقال ذاما لبني إسرائيل {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا(14/311)
كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
والذم وإن كان المراد به بني إسرائيل، فحكمه باق لمن فعل كفعلهم.
وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] ، فلا نجاة عند حلول العقوبات، إلا بالإنكار على أهل القبائح والسيئات.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم 1.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يوشك أن تخرب القرى وهي عامرة. قيل: يا أمير المؤمنين كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها على أبرارها، وساد القبيلة منافقوها يعني إذا كان الغلبة لأهل الشر والفساد، والسادة والأمراء أهل النفاق ليس لهم رغبة في الدين، ولا يبالون بما يهدم الإسلام ويوهنه.
وعن جرير بن عبد الله، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن يعملها، فلم يغيروا عليه، إلا عمهم الله بعقاب من عنده 2.
وقال عليه الصلاة والسلام: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وعن بعض السلف
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4004 , وأحمد 6/158.
2 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009 , وأحمد 4/363 ,4/366.(14/312)
أنه قال: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والذي يسكت عن الحق شيطان أخرس.
إذا عرف هذا، فاعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا، ولا يقرب أجلا، بل ربما فسح في الأجل، وزاد في الرزق، فإنه- أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- تحصل به البركات، وتستدفع به النقمات، وتمحى به الأمراض والآفات، فقوموا بواجباته تتم لكم النعمة وتكونوا به ملوكا في الجنة.
وكذلك المعاملة بالربى الذي حرمه الله ورسوله، ولعن متعاطيه، وأخبر تعالى في كتابة أنه محارب له؛ ومن حارب الله فهو مكسور مخذول.
ومن أعظم ما تعاملوا به "التصحيح"، وذلك إذا كان لإنسان ديْن، إما رأس مال، أو ثمن تمر، أو غير ذلك، قال: هات لي دراهم تسلفها، وأوفني بها، تم أكتبها عليك، وردها على صاحبها؛ فهذا مثل الذي يغسل الدم بالدم ويغسل النجاسة بنجاسة؛ وهذا ربا الجاهلية الذي لعن صلى الله عليه وسلم آكله وموكله، وشاهده وكاتبه.
ومنها: أنه يعطيه دراهم، أو ثمن بز، أو غير ذلك، ولا يقطع بينه وبينه سعرا، ويقول: كتبي كتب فلان، أو كتب الجماعة؛ فهذا عقد فاسد فلا يجوز إسلام الدراهم في مجلس العقد، إلا بشيء معلوم، فإن كان ما فعل هذا، وأعطاه من غير قطع سعر، فما جاءه من الربح فلعميله، ما له(14/313)
إلا رأس ماله، وما تصدق وأنفق على عياله فهو من مال غيره، يعامل في مال الغير.
وكذلك السلف، إذا كان الإنسان يسلم لآخر، ويقول: هذا سلم، وهذا قرض، فهذا حرام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: كل قرض جر نفعا فهو ربا. ومنها بيع القهوة بالعيش إلى أجل، لا يجوز، لأنه من الربا، وكذلك بيع الدهن بالعيش ما يجوز، لأن كل مكيل لا يباع بمكيل نسأ.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا لأنفسكم في أسباب النجاة، واحذروا ما يوجب الهلكات، ونزع البركات، وحلول المثلات، كما وقعت بمن كان قبلكم من الأمم الخاليات، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى خالد بن منصور بن لؤي وأخيه للتهنئة بمعرفة ما بعث الله به رسوله]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، إلى جانب ذي الجناب المنيع، والحسب الزكي الرفيع، خالد بن منصور بن لؤي الشريف، وأخيه نائف، سلمهما الله تعالى، وهداهما، وحفظ عليهما دينهما وتولاهما، ورزقهما التبصر والبصيرة، وأصلح لهما العلانية والسريرة، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الكتاب: هو إبلاع السلام، والتهنئة بما من الله عليكم من معرفة هذا الدين، الذي بعث الله به سيد(14/314)
المرسلين، لأن الله بعثه على حين فترة من الرسل، وبقايا من الأمم، فصدع بما أوحي إليه من إخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه، من الأوثان والأصنام، التي هي غالب معبودات الخلق.
فعارضه وصده عما جاء به الملأ والرؤساء، لأن ما جاء به قد خالف عاداتهم ومألوفاتهم التي نشؤوا عليها، وعز تخلصهم منها.
فلم يبال بمن خالفه، بل دعا إلى الله سرا وجهارا، ليلا ونهارا، وتبعه من تبعه على ذلك، وهم أفراد من الناس؛ وأخذ في الدعوة سنين يدعو إلى التوحيد، وينذر عن الشرك والتنديد، وهم مع ذلك- أعني الملأ والرؤساء- يكافحون بالعداوة، وينفرون عنه ويحشدون عليه الأعداء ويؤلبون.
فأظهره الله على كافة من ناوأه، وذلك بعد ما أمر بالهجرة، هاجر إلى المدينة، فأواه ونصره الأنصار، وهم الأوس والخزرج، وعاهدوه وعاقدوه، على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم، فجرد عزم الجهاد، وقاتل من أبى عن قبول ما جاء به.
أخذ على ذلك عشر سنين، يقاتل من عصاه بمن أطاعه، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وظهر نور الرسالة، وعم الأقطار البادي منهم والحاضر، فلم يقبضه الله إليه حتى أكمل له ولأمته الدين، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.(14/315)
ثم بعدما توفي، ارتد من ارتد من العرب، فقاتلهم أبو بكر الخليفة الراشد، ومن معه من الصحابة، رضي الله عنهم، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، ثم لم يزل الخلفاء يجاهدون ويقاتلون من خرج عما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فلما أبادوا القياصرة والأكاسرة، واستولوا على بلادهم وأموالهم، حدثت البدع. فأول بدعة حدثت: بدعة الخوارج، وهم قوم من أصحاب علي بن أبي طالب، ممن أخذ العلم عن الصحابة، فكفروا عليا رضي الله عنه وأصحابه، وكفروا أهل الكبائر من هذه الأمة، وحكموا على من ارتكب كبيرة بالخلود في النار والكفر.
ثم خرجت المعتزلة، وحكموا على الفاسق بالخلود في النار، فوافقوا الخوارج في الحكم، وخالفوهم بالاسم. فالخوارج يقولون: أهل الكبائر كفار مخلدون في النار، والمعتزلة يقولون: فساقا، ويخلدون في النار، وكلتا الطائفتين خارجة عن الصراط المستقيم، وما عليه السلف الصالح من أهل الملة والدين.
ثم تتابعت البدع وكثرت، كبدعة القدرية والمرجئة، والجهمية وغير ذلك من البدع، التي حقيقتها مخالفة الكتاب والسنة.
إذا علمت ذلك، فاعلم أن الله تبارك وتعالى منّ في(14/316)
آخر هذا الزمان، في القرن الثاني عشر، بظهور من دعا إلى ما دعت إليه الرسل، وهو: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه؛ لأنه خرج في زمن فترة من أهل العلم، تشبه الفترة التي بين الرسل، فدعا إلى الله، وبصر الخلق بحقيقة ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه، الذي هو أول مدلول شهادة أن لا إله إلا الله فجد واجتهد، وأعلن بالدعوة.
فعارضه من عارضه، ممن استهوتهم الشياطين، واجتالتهم عن فطرهم التي فطروا عليها، فقام في رد ما جاء به علماء السوء، بشبهات وضلالات أوهن من بيت العنكبوت، واستعانوا بملأ هم من الرؤساء والأمراء، فجدوا في إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته.
وأنتم- ولله الحمد- يبلغنا عنكم من القيام لله، والدعوة إلى دينه، ونصرة من دان به، ما يسرنا، ولكن الداعي إلى الله لا بد أن يسلك الطريقة الوسط، التي هي هدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين، وأن يتخلق بالأخلاق المرضية، من العلم والبصيرة، والحلم والرفق، واللطف واللين، وعدم التعنيف.
بل يكون جل مقصوده ومرامه أن يدخل الناس في هذا(14/317)
الدين، لأن الناس اليوم في مقام دعوة وتأليف، ليس مقام غلظة وتعنيف، لاسيما الرؤساء والقادة؛ والغلظة ليست ديدنا للرسول ولا خلقا له، كما يظنه من ظنه من جهلة المتعلمين.
فليكن لك رغبة في تأليف الناس ودعوتهم، برفق وتلطف في حال الدعوة، فإذا لم ينجح اللين واللطف، وكان الغلبة لأهل الحق والقوة لهم، وأهل الشر قليلون، فالغلظة على المخالف في محلها.
هذا ونسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق، لما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[وصية المسلمين بتقوى الله وتذكيرهم بنعمة الإسلام وما أنعم الله به عليهم بسببه]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، محمد وآله وصحبه والتابعين.
إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحمانا وإياهم من طوارق البليات، وأصلح لنا ولهم الأقوال والأفعال، والنيات،(14/318)
آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: موجب الخط النصيحة لكم، والشفقه عليكم فأول ما أوصيكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131ب] ، والتقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. قاله طلق بن حبيب رحمه الله تعالى.
ثم تذكيركم ما من الله به عليكم من نعمة الإسلام، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] . فضل الله: الإسلام، ورحمته: أن جعلكم من أهله. ثم أعطاكم الله بالإسلام من النعم التي لا تحصى، وما دفع عنكم به من النقم التي لا تستقصى.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [سورة الأنفال آية: 26] الآية.
وقال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [سورة الأعراف آية: 129] الآية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [سورة المائدة آية: 11] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [سورة الحج آية: 41] الآية.
وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة النور آية: 55] الآية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(14/319)
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [سورة آل عمران آية: 102] ، إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 105] الآية. وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فاشكروا الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا تعدوا حدوده، فإن الشكر عمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، قال سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [سورة النمل آية: 40] .
والشكر سبب لزيادة النعم وثبوتها قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] الآية. وحذركم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران آية: 28] ،: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة آية: 235] : {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [سورة نوح آية: 13] أي: لا تخافون لله عظمة.
واعلموا أن كل شر الدنيا والآخرة فسببه الذنوب والمعاصي، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة آل عمران آية: 30] ، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [سورة آل عمران آية: 165] إلى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 165] .
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} [سورة نوح آية: 25] ، الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا(14/320)
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] الآية.
وفي الحديث: إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبده وهو مقيم على المعاصي، فإنما هو استدراج ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا} [سورة الأنعام آية: 44] 1 الآية.
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والسرور، إلى دار التعب والبؤس والشرور؟ وما الذي طرد إبليس من ملكوت السماوات والأرض، وسلبه السيادة، وعوضه عنها القيادة؟ وما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماء على رؤوس الجبال؟
وما الذي سلط الريح على قوم هود فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل الصيحة على ثمود، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم؟ وما الذي رفع القرى اللوطية ثم قلبها عليهم، وأتبعهم حجارة من سجيل؟
وما الذي جمع على قوم شعيب رجفة من تحتهم، وصيحة من فوقهم، حتى هلكوا عن آخرهم؟ وما الذي أغرق قوم فرعون فجعل أجسامهم للغرق، وأرواحهم للحرق؟ وما الذي أهلك القرون من بعد قوم نوح بأنواع العقوبات؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، فقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء؟ ثم بعثوا عليهم مرة ثانية فتبروا ما علوا تتبيرا؟
وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات؟ مرة بالقتل
__________
1 أحمد 4/145.(14/321)
والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، هذا مسخ الأبدان، ثم مسخ قلوبهم فجعلها قاسية، ولأوامر الله ناسية، وآخر ذلك أقسم الله تبارك وتعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف آية: 167] .
وكل هذه العقوبات فسببها الذنوب والمعاصي، والإعراض عما جاءت به الرسل، فكل من فعل فعلهم، وعصى الله، وخالف أمره ونهيه، حل بهم من العقوبات بمثل ما حل بأولئك.
وفي مسند الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده 1.
وفي مراسيل الحسن: لا تزال هذه الأمة تحت يدي الله وكنفه، ما لم تمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك، رفع الله عنهم يده، وسلط عليهم جبابرته، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنى في قرية أذن الله عز وجل بهلاكها وفي المسند عن ثوبان مرفوعا: يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذ؟ قال: بل أنتم كثيرون، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنْزع المهابة من
__________
1 أحمد 6/304.(14/322)
قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن 1
وفي جامع الترمذي مرفوعا: يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضان من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى: أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت؛ لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيرانا.
وفي مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا بالأرحام، لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم.
وفي سنن ابن ماجة، من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم.
__________
1 أبو داود: الملاحم 4297 , وأحمد 5/278.(14/323)
وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيّها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا أخذتهم العقوبات، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم الذي نزل بهم، واعلموا: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يقطع رزقا، ولا يقرب أجلا.
وروى الإمام أحمد، عن جرير مرفوعا: ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذاب من عنده 1 وقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَار} ُ [سورة المائدة آية: 63] .
قال ابن النحاس: دلت الآية على أن تارك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كمرتكبه، والآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قاله القرطبي: وتالله إنهم لأهل لكل توبيخ، فأنى يصلح الناس والعلماء فاسدون؟ أم كيف تعظمون المعصية في قلوب الجاهلين، والعلماء بأفعالهم وأقوالهم لم ينهوهم عنها؟ أم كيف يرغب في الطاعة، والعلماء لا يأتونها؟ أم كيف يتركون البدع والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟ إلى أن قال:
وأما في زماننا هذا؛ فقد قيد الطمع ألسن العلماء فسكتوا، إذ لم تساعد أقوالهم أفعالهم، ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم، فإذا نظرنا إلى فساد الرعية، وجدنا سببه فساد الملوك؛ وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء
__________
1 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009 , وأحمد 4/363.(14/324)
والصالحين؛ وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين، وجدنا سببه ما استولى عليهم من حب المال والجاه، وانتشار الصيت ونفاذ الكلمة، ومداهنة المخلوقين، وفساد النيات والأقوال والأفعال. انتهى.
وفي مسند أبى داود عن ابن مسعود مرفوعا: أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول يا هذا: اتق الله ودع ما تصنع، فإن هذا لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده.
فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: {لُعِنَ الذين كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهُونَ عِن مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} 1 الآية ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا.
وروى الإمام أحمد عن حذيفة مرفوعا: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم 2.
وروى الإمام أحمد أيضا عن عدي بن عمرة، مرفوعا: إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن 3047 , وأبو داود: الملاحم 4336 , وابن ماجه: الفتن 4006.
2 أحمد 5/388.(14/325)
المنكر بين ظهرانيهم فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الخاصة والعامة 1.
وفي حديث أبي ثعلبة مرفوعا: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا أو هوى متبعا، ودنيا موثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصابر فيها على دينه، كالقابض على الجمر، للعامل فيه أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، قلنا: أمنا أو منهم؟ قال: بل منكم حسنه الترمذي.
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة مرفوعا: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي 2 وفي لفظ: إذا فسد الناس.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن فتنة الشهوات والشبهات، وحذر من فتنة الدنيا وفتنة النساء، كما روى الإمام أحمد رحمه الله، عن أبي برزة مرفوعا: إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن 3 وفي لفظ "الهوى".
فهاتان الفتنتان بهما أصبح أكثر الناس متقاطعين متباغضين متنافسين، متحاسدين، بعد أن كانوا متحابين متواصلين، فتنة بعض الخلق بالدنيا وزينتها، فلها يطلبون، ولها يرضون، ويسخطون، وعليها يوالون ويعادون، وهل
__________
1 أحمد 4/192.
2 الترمذي: الإيمان 2630.
3 أحمد 4/420.(14/326)
قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم إلا بذلك؟
فرحم الله امرأ أناب إلى ربه، واستغفر لذنبه، فقد بان كثير من أشراط الساعة، منها: إضاعة الصلاة، وقد قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [سورة البقرة آية: 238] ، وخيانة الأمانة، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء آية: 58] .
وعن ابن مسعود مرفوعا، قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها، إلا الأمانة والدين، يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال له: أد أمانتك، فيقول يا رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: انطلقوا به إلى الهاوية.
فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيردها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيجعلها على منكبه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبه، فيهوي في أثرها أبد الآبدين، قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وعدد أشياء، وأشد من ذلك الودائع، فأتيت البراء فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا وكذا، قال: صدق رواه البيهقي.
وأكل الربا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة آية:275-278] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا(14/327)
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [سورة آل عمران آية: 130] الآية.
والكذب في المعاملات، وبيع الدين بالدنيا، وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة آية: 86] .
وكذلك قطع الأرحام، قال تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 22] .
قال صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [سورة محمد آية: 22] 1 إلى آخر الآية.
وكذلك شهادة الزور وقد قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} ِالآية [سورة الحج آية: 30] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار.
ولهما في حديث أبي بكرة: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت 2
وكذلك لبس الحرير فقد قال صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة 3.
قال الحسن: فما
__________
1 البخاري: الأدب 5987 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2554 , وأحمد 2/330.
2 البخاري: الاستئذان 6273 , ومسلم: الإيمان 87 , والترمذي: البر والصلة 1901 والشهادات 2301 وتفسير القرآن 3019 , وأحمد 5/36 ,5/38.
3 أحمد 2/329.(14/328)
بال أقوام يبلغهم هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلون حريرا في ثيابهم وبيوتهم؟ .
وقال صلى الله عليه وسلم: الحرير حرام على ذكور أمتي، حلال لإناثها 1، فحرم الحرير على الذكور، ورخص فيه للإناث، ولأحمد: "لا يستمتع بالحرير بالدنيا، من يرجو لقاء الله وأيامه وحسابه".
وأما القدر المباح منه، فكما روى البخاري وأهل السنن، عن أبي عثمان النهدي، قال: أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام 2.
وأخرج مسلم وأبو داود: أن عمر رضي الله عنه خطب، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة 3 فهذا نهي عام عن استعمال الحرير، إلا ما استثني منه، وهو قدر أربعة أصابع عرضا لا طولا.
وكذلك ائتمان، الخائن، وتخوين الأمين، واستعمال الدخان، وهو حرام ملحق بالمسكر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام 4.
والنفقة للجاه والمفاخرة، وطلب الدنيا بعمل الآخرة، والقسوة التي عمت القلوب، كل هذا سببه المعاصي، والذنوب. وأنتم ترون كيف تحدث الآفات في الزروع. والثمار،
__________
1 الترمذي: اللباس 1720 , والنسائي: الزينة 5148.
2 البخاري: اللباس 5828 , ومسلم: اللباس والزينة 2069 , والنسائي: الزينة 5312 , وأبو داود: اللباس 4042 , وابن ماجه: اللباس 3593 , وأحمد 1/15 ,1/36 ,1/50.
3 مسلم: اللباس والزينة 2069 , وأبو داود: اللباس 4042 , وأحمد 1/51.
4 البخاري: المغازي 4343 , ومسلم: الأشربة 1733 , والنسائي: الأشربة 5595 ,5597 ,5602 ,5604 , وأبو داود: الأشربة 3684 , وابن ماجه: الأشربة 3391 , وأحمد 4/410 ,4/415 ,4/417 , والدارمي: الأشربة 2098.(14/329)
آفات متلازمة، أخذ بعضها برقاب بعض، فكلما أحدث الناس ظلما وفجورا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل، في أغذيتهم، وأهويتهم، وفواكههم، ومياههم، وخلقهم، وصورهم، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم، ولا يظلم ربك أحدا.
فاسمعوا مواعظ الله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] . نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال والنيات، وأن يرزقنا الثبات على الإسلام إلى الممات، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد.
[الحث على شكر النعم وبيان الشكر وآثاره والحث على التوبة]
وقال أيضا، الشيخ: محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، محمد وآله وصحبه، والتابعين.
إلى من يراه من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحمانا وإياهم من طوارق البليات، وأصلح لنا ولهم الأقوال، والأعمال، والنيات،
__________
1 وهي قريبة من التي قبلها في أسلوبها وأدلتها.(14/330)
آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا هو النصيحة لكم، والشفقة عليكم، فأول ما أوصيكم به تقوى الله سبحانه وتعالى، لأنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
والتقوى حقيقتها: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله قاله طلق بن حبيب، رحمه الله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الآية} [سورة آل عمران آية: 102 - 110] .
ثم تذكيركم: ما من الله به عليكم، من نعمة الإسلام، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، ففضل الله الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهله، ثم ما أعطاكم الله بالإسلام، من النعم التي لا تحصى، وما دفع به عنكم من النقم التي لا تستقصى.
وقوله: {حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فاشكروا لله تعالى، بامتثال(14/331)
أمره، واجتناب نهيه، وعدم تعدي حدوده، فإن الشكر عمل، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] .
وقال سليمان عليه السلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [سورة النمل آية: 40] ، والشكر موجب لزيادة النعم وثباتها، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
وحذركم الله بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقال،: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران آية: 28] ، و: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة آية: 235] ،: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [سورة نوح آية: 13] ، أي: لا تخافون لله عظمة.
واعلموا أن كل شر في الدنيا والآخرة، فسببة الذنوب والمعاصي، وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإعراض عن واجبات الدين، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} [سورة نوح آية: 25] .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] .
قال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمه على عبده،(14/332)
وهو مقيم على المعاصي، فاعلم أنما هو استدراج، ثم قرأ:: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] .
فاحذروا- عباد الله- معاصي الله، وارتكاب محارمه، والوقوع في مساخطه ومناهيه، فإن هذه أسباب توجب حلول النقم والعقوبات، وزوال النعم وحلول المثلات؛ فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن يحل بكم من العقوبات، ما لا تقدرون على دفعه.
ففي مسند الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده 1.
وفي مراسيل الحسن: لا تزال هذه الأمة تحت يد الله تعالى وفي كنفه، ما لم تمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك رفع الله عنهم يده، وسلط عليهم جبابرتهم، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ظهر الزنى في قرية أذن الله بهلاكها، وفي المسند عن ثوبان، مرفوعا: يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذ؟ قال: بل أنتم كثيرون،
__________
1 أحمد 6/304.(14/333)
ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنْزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن 1.
وفي جامع الترمذي، مرفوعا: يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله عز وجل أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت، لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيرانا 2
وفي مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام، لعنهم الله، فأصمهم وأعمى أبصارهم.
قال ابن مسعود: بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، وبئس القوم قوم لا ينكرون المنكر.
وفي سنن ابن ماجه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم
__________
1 أبو داود: الملاحم 4297 , وأحمد 5/278.
2 الترمذي: الزهد 2404.(14/334)
، فأخذ بعض ما في أيديهم ; وما لم تعمل أئمتهم بما في كتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم
وقال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر.
وروى ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه أنه خطب، فقال: يا أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، فلم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن ينْزل بكم الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن جرير مرفوعا: ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع، ثم لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذاب من عنده 1.
واعلموا رحمكم الله أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ومن أعظم ما يدفع الله به المحن والبليات، والقيام به سبب لظهور البركات؛ وأنتم ترون كثرة حدوث الآفات، في الزروع والثمار، آفات متلازمات، يتبع بعضها بعضا.
فكلما أحدث الناس ظلما وفجورا، وإعراضا- عما أوجب الله عليهم وتعبدهم به- وعدم إيثار لمراضيه، أحدث
__________
1 أبو داود: الملاحم 4339 , وابن ماجه: الفتن 4009 , وأحمد 4/363.(14/335)
لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وأهويتهم، وفواكههم وغور مياههم؛ وفي أخلاقهم وصورهم، وتتابع الأمراض والعقوبات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم، ولا يظلم ربك أحدا.
واعلموا- معاشر المسلمين- أن ربكم تبارك وتعالى: ذكركم بما قضاه وقدره من هذه المصائب الواقعة، عبرة لكم وموعظة، لعلكم ترجعون وتنيبون إليه، وتتوبون من ذنوبكم، وتستغفرونه، كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
وفي الأثر: أن الرب تبارك وتعالى، يقول: وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبادي على ما أكره، فيتحول منه إلى ما أحب، إلا تحولت له مما يكره إلى ما يحب فعليكم عباد الله، بالتوبة إلى ربكم، توبة نصوحا، وأن تحولوا عما يكره ربكم إلى ما يحب، لعل الله أن يتحول لكم عما تكرهون إلى ما تحبون.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً(14/336)
نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة التحريم آية: 8] .
: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [سورة هود آية: 3] .
وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [سورة نوح آية: 10-11] .
وقال صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة.
وفي الحديث: من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب 1، ولا يكون العبد مستغفرا حقيقة، إلا إذا كان قلبة عازما على أن لا يعود، كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال.
ومن أخطر الأسباب لمنع القطر، وموجبات القحط: التهاون بالمعاصي، وعدم المبالاة بها، وعدم الاهتمام بأمر الصلوات، لأن القيام بها والمسارعة إليها من خصال أهل الإيمان؛ والتخلف عنها والتكاسل من صفات المنافقين.
وكذلك ترك الزكاة، ومنع الأغنياء ما أوجب الله عليهم في أموالهم، والتمادي في الشهوات والمحرمات، وبخس المكاييل والموازين، والإسبال، وغير ذلك من الأسباب المانعة لنُزول الرحمة، ونزع البركات.
__________
1 أبو داود: الصلاة 1518 , وابن ماجه: الأدب 3819.(14/337)
ثم اعلموا- رحمكم الله- أن المسلمين قد عزموا على طلب السقيا من ربهم، فقد سن صلى الله عليه وسلم للأمة إذا أبطأ عنهم المطر، أن يبرزوا إلى الصحراء ويصلوا، ويسألوا الله أن يسقيهم، وليكن ذلك بعد توبة، وبر قلوب، وصدق لجأ، وخشوع وتذلل، وخروج من المظالم، وسلامة من الغل والحسد وقطيعة الأرحام، والإقلاع من الذنوب جملة، وتجديد عزيمة على عدم العود إليها، وإظهار الفاقة والافتقار إلى الله، والمبادرة بين يدي ذلك بالصدقة على الفقراء والمحاويج، والإعتاق، وغير ذلك من أنواع فعل الخيرات.
فإن ذلك من أعظم ما يستجلب به ما عند الله من الرزق، ومن أعظم ما يدفع الله به العقوبات، ويرفع به المصائب والآفات.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا وعليكم، وأن يعاملنا بعفوه، ويرحمنا برحمته، ونعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، ومن جميع سخطه، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وآله وصحبه أجمعين.(14/338)
[ذكر أعظم الواجبات والتحذير من الاختلاف واجتناب الغيبة والنميمة والتفسيق]
وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد اللطيف، وعدد من علماء نجد، وفقهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الله بن حسن، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم، وعبد الله بن فيصل، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من إخواننا المسلمين، جمع الله قلوبنا وقلوبهم على طاعته، ووفقنا وإياهم جميعا لذكره وشكره، وحسن عبادته، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالموجب للكتاب إبلاغكم السلام، مع الوصية بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .}
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية: 70-71] .
والتقوى، هي: طاعة الله تعالى بما أمر به، واجتناب نواهيه، كما قال بعض السلف: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على(14/339)
نور من الله، تخاف عقاب الله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ ّوَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ َيوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [سورة آل عمران آية: 102-106] ، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف.
إذا علمتم ذلك فمن أعظم الواجبات على المسلمين، الاعتصام بكتاب الله، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك: الاجتماع على دين الله، والتواصي بالقيام به، والتعاون عليه، واجتناب الخوض والمراء في دين الله، وعدم التشاحن والتباغض، والتقاطع والتدابر.
واجتناب الغيبة والنميمة، وترك التفسيق والتبديع، والتضليل، والعدوان بالسب والضرب، وغير ذلك، مما لا ينبغي من بعض المسلمين لبعض.
فإن ذلك ينافي ما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من(14/340)
الأخوة بين المسلمين والموالاة، والتحاب، والتواصل، والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، كما قال تعالى:: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .
وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 1، وفي الحديث الآخر: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه" 2.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" 3 رواه مسلم.
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" 4
وعن أبي ذر مرفوعا: " من دعا رجلا بالكفر،" أو قال: " عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه" 5. وعن سمرة مرفوعا: "لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار" 6 صححة الترمذي، ولا شك أن هذا وما أشبهه من سب المسلم وذمه،
__________
1 البخاري: الأدب 6011 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2586 , وأحمد 4/268 ,4/270 ,4/271 ,4/274 ,4/276 ,4/278 ,4/375.
2 البخاري: الصلاة 481 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2585 , والترمذي: البر والصلة 1928 , والنسائي: الزكاة 2560 , وأحمد 4/404.
3 البخاري: الأدب 6066 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2564 , وأحمد 2/277 ,2/288.
4 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158 ,5/177 , والدارمي: الرقاق 2791.
5 مسلم: الإيمان 61 , وأحمد 5/166.
6 الترمذي: البر والصلة 1976 , وأبو داود: الأدب 4906.(14/341)
بما ليس فيه، من عدم حفظ اللسان، وعدم التوقي والتحرز من شره، ومن أسباب التباغض والإحن والتفرق واختلاف الكلمة.
وفي الحديث عن ابن عمر، مرفوعا: "من قال في مسلم ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، قيل: يا رسول الله، وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار" 1 رواه أبو داود.
وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير، ما يعلم مبلغها، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر، ما يعلم مبلغها، يكتب الله له بها عليه غضبه إلى يوم يلقاه " 2.
وفي حديث معاذ، قال: "قلت يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" 3.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكم جميع ما يسخطه ولا يرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد.
__________
1 أبو داود: الأقضية 3597 , وأحمد 2/70.
2 الترمذي: الزهد 2319 , وابن ماجه: الفتن 3969 , وأحمد 3/469 , ومالك: الجامع 1848.
3 الترمذي: الإيمان 2616 , وابن ماجه: الفتن 3973 , وأحمد 5/231 ,5/237.(14/342)
[الحث على الشكر والتحذير من بأس الله وذكر ما يصيب القلوب]
وقال الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى أهل الغاط، جمع الله قلوبهم على الإيمان والتقوى، ودفع عنا وعنهم كل سوء وبلوى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، تفهمون- وفقكم الله- أن الله خلقكم لإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، والبراءة مما سواه ; وعندكم معلوم أن عبادة الله لا تختص بوقت دون وقت، بل هي واجبة على الإنسان حتى يفارق الدنيا، كما قال تعالى.: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر آية: 99] .
وأيضا فإنه يجب على العباد عند تجدد النعم، واندفاع النقم، أن يجددوا شكرا لمولاهم؛ وأنتم ترون ما أعطاكم الله، من كفايته التامة من شرور الأعداء، واجتماع المسلمين على ولاية عادلة دينية، أقام الله بها شرائع الإسلام والدين، وكف بها كيد المبطلين.
وكذلك ما أعطاكم الله من معرفة الإسلام ومحبته، وإيثاره على ما سواه من الأديان، فإن هذه النعمة نعمة جسيمة عظيمة، لا يقدر أحد أن يقوم بشكرها؛ وكذلك ما أعطاكم من الصحة، والأمن وغير ذلك من النعم التي لا تحصى.
فاتقوا الله عباد الله، وقيدوا نعمه بالشكر، فإن الشكر كفيل بالزيادة، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ(14/343)
لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
وفي الحديث: إن للنعم نفارا، فقيدوها بالشكر.
ومن أعظم الشكر: القيام بما أوجب الله وتأدية حقوقه عليكم، والتعاون على البر والتقوى، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على الوجه الشرعي، وترك التشاحن والتقاطع، فإن ذلك من أسباب نزع البركة في الدين والدنيا.
كذلك أداء الزكاة فإنها أحد أركان الإسلام. ومنعها من أسباب منع الرزق واحتباس القطر فمن كان عنده حق الله، فليتب إلى الله من منعه، وليدفعه إلى مستحقه، فإن مانعه مطوق به يوم القيامة طوقا من نار.
واحرصوا على تعلم ثلاثة الأصول، فإن الذي ما يعرف دينه من جنس البهائم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] .
وكذلك بخس المكاييل والموازين، فإنه ما بخس قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين، وشدّة المؤونة، وجور السلطان. أعاذنا الله وإياكم من موجبات سخطه.
إذا عرف ذلك فأنا ملزم كل إمام مسجد، يعلم جماعته دينهم، ويحرص عليهم، ولا يغترون بأحد عن(14/344)
الحضور عند إمامه الذي يعلمه، فيرفع ذلك الإمام أمره إلينا؛ وأنتم، أي: النواب، ألزموا في كل مسجد إنسانا يتفقد جماعته، ومن تخلف عن صلاة الجماعة يؤدب، وينكل من توقف أو عارض الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
وعندكم معلوم أن الإمام أيده الله ملزمكم بهذا الأمر، وجاعله من ذمته في ذمتكم، وبعد ذلك في ذمتنا، فأنتم اقصدوا وجه الله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تنظروا وجه أحد؛ والله المسؤول أن يجعلنا وإياكم ممن امتثل أمر ربه وأطاعه، ولا يجعلنا وإياكم ممن عصى أمره وأضاعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[كيفية النصح لأهل البدو والوصية بهم وحكم طاعة الله ورسوله وولاة الأمر]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى الأخ المكرم: حمد بن محمد بن موسى، سلمه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والموجب لذلك: السلام، والسؤال عن حالك ; وأنت يا أخي ما تخفاك طبائع البدو، ولا يؤاخذون ببعض الأمور التي هي من طبعهم سابقا، وتغلب عليهم، وأنت لا تدخر استجلابهم ومناصحتهم، خصوصا الأمير، لأنه ربما يغتر في شيء ما يبين له من جهة الشرع، فإذا بينت له ما لحقه شك.(14/345)
كذلك الذين ينازعونه، تأتيهم وتناصحهم، لأنه ربما أن لهم ملاحظة طلب شرف، ويعن لهم شبهة في أمر الدين، ويجمعون هذا مع هذا، فإذا كشفت عنهم الشبهة، ما بقي لهم حجة؛ فإذا استعملت الرفق في موضعه، والقوة في موضعها، استقامت الحال، مع توفيق الله، والإشارة تكفي مثلك إن شاء الله تعالى؛ والجماعة كتبنا لهم نصيحة تقرأها عليهم إن شاء الله، والسلام، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد العزيز العنقري، إلى كافة إخواننا أهل مبايض، وفقهم الله تعالى وهداهم، وأعاذهم من شرور أنفسهم وهواهم، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والموجب: إبلاغكم السلام، جعلنا الله وإياكم من أتباع سيد الأنام، وتفهمون ما في وجوب طاعة الله، ورسوله، وولاة الأمر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وطاعة من ولاه الله الأمر، من الحكام والأمراء.
وأمر برد ما تنازعنا فيه، إلى الله ورسوله، يعني: إلى الكتاب والسنة، فتبين بذلك أن الذي لا يرد أمره إلى(14/346)
الكتاب والسنة، ليس من المؤمنين، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته، "أيها الناس، اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم" 1.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " 2، وإياكم والتفرق والاختلاف؛ فإن ذلك سبب لنَزْع بركة الدين والدنيا.
واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الإسلام والهجرة، الذي تألفت به القلوب بعد شتاتها، وكنتم قبل ذلك على حال غير مرضية، فتبين لكم من الكتاب والسنة ما اجتمعتم به على هذه الحال، فإياكم أن تغيروا فيغير عليكم.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] ، وحضر عندنا الأمير، والإخوان الذين معه، وبينا لهم عظم حقوق الإمارة، وأنه ينبغي التأدب معها. فأنتم اسمعوا له وأطيعوا، والسلام.
__________
1 الترمذي: الجمعة 616 , وأحمد 5/262.
2 أبو داود: السنة 4758 , وأحمد 5/180.(14/347)
[الوصية بتقوى الله والتذكير بنعمة الإسلام والتحذير من بأس الله ومن مفارقة الجماعة]
وقال الشيخ: عبد الله بن حمد الحجازي، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين والحمد لله رب العالمين.
إلى من تصل إليه هذه النصيحة، من إخواننا المسلمين، وفقهم الله للتمسك بالدين، الذي بعث الله به جميع المرسلين، آمين، سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يقول في كتابه المبين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] ، فأخبر سبحانه: أن الذكرى والنصائح لا تنفع إلا أهل الإيمان، وأما من سواهم فهم: {فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَلاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنبياء آية: 1-3] ، نعوذ بالله من الشقاء وأسبابه.
واعلموا رحمكم الله أن أعظم الوصايا وأنفعها: الوصية بتقوى الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] ، وحقيقتها: أن يعمل العبد بطاعة الله، على نور من الله، يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله، على نور من الله، يخاف عقاب الله.
ثم تذكيركم ما من الله به عليكم من نعمة الإسلام،(14/348)
والقرآن، فإنهما النعمتان العظيمتان، والفرح بهما محمود، وأمر مطلوب، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، قال بعض المفسرين: فضل الله: الإسلام، ورحمته: أن جعلكم من أهله، وقال غيره: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن، والكل حق؛ فمن لم يشكر الله على هاتين النعمتين العظيمتين خسر دنياه وأخراه، نعوذ بالله من ذلك.
ثم بعد ذلك تذكيركم ما أعطاكم الله بالإسلام من النعم التي لا تحصى، وما دفع به عنكم من النقم التي لا تستقصى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [سورة إبراهيم آية: 34] ، ثم تذكيركم ما من الله به عليكم من هذا الغيث، الذي جعله الله سببا لحياة الأبدان، ولحياة جميع النبات والحيوان، كما جعل الله العلم النازل من عنده سببا لحياة القلوب بعد مماتها، ولاجتماعها بعد شقائها.
فاشكروا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن الشكر قول وعمل، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، وهو أيضا سبب لزيادة النعم وثبوتها، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
واحذروا بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران آية: 30] .(14/349)
واعلموا: أن كل شر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وأنتم ترون كيف تحدث الآفات والعلل في الزروع والثمار والأنفس، آفات متلازمة، أخذ بعضها برقاب بعض، كل هذا بسبب الذنوب والمعاصي.
وأعظم من هذا: ما يصيب القلوب من الغفلة، والإعراض عن طاعته، والقسوة التي عمت القلوب بسبب كثرة الذنوب؛ فهي لا ترعوي وإن أصابها ما أصابها، كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 43] .
وفي الحديث: إن أبعد القلوب من الله القلب القاسي 1.
واعلموا رحمكم الله أن المعاصي أنواع كثيرة، فبعضها أكبر إثما من بعض، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [سورة النساء آية: 31] ، فأكبرها وأعظمها: الشرك بالله في العبادة، أو في شيء من أنواعها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] .
وهذا الذنب القبيح له وسائل وذرائع توصل إليه، وأعظمها: موالاة أعداء الله، على اختلاف أنواعها، وكثرة
__________
1 الترمذي: الزهد 2411.(14/350)
شعبها، وقد يواليهم من يقرأ القرآن، وقد قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الآية [سورة هود آية: 113] . ولكن حب الدنيا والهوى، يعمي القلب ويصم، كما في الحديث: "حبك الشيء يعمي ويصم" 1.
ومن هؤلاء من يدعو لأهل الإشراك بالظهور، والغلبة على المسلمين، وأي موالاة أعظم من ذلك؟ وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ، فالله الله: انتبهوا من هذه البلية العظيمة التي صيرت أهل الإسلام وأهل الضلال عند كثير من الجهال جماعة واحدة، إلا من عصم الله برحمته.
ومنه: الاستخفاف بالصلوات الخمس في الجماعات، وترك تأديب المتخلف عنها، وكذلك ترك الإنسان أهله وولده، إذا علم منهم التهاون بها، لا يأمرهم بالمسارعة إليها، وقد قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [سورة طه آية: 132] .
وفي الحديث: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" 2، ومن ترك الصلاة فقد كفر، ولو أقر بوجوبها، وحكمه حكم من أشرك بالله في العبادة.
ومنها: التهاون بأمر الزكاة، والزكاة قرينة الصلاة، فلا تقبل الصلاة إلا بها، كما في الحديث: "من صلى فلم يزك، فلا صلاة له".
__________
1 سنن أبي داود: كتاب الأدب 5130 , ومسند أحمد 5/194.
2 أبو داود: الصلاة 495 , وأحمد 2/180 ,2/187.(14/351)
وقد يخرجها من لا يعتقد وجوبها، فلا تقبل منه، وقد يخرجها من رديء ماله فيجعل لربه الأردى، ويجعل لنفسه وأولاده الأجود؛ نعوذ بالله من أسباب الخذلان، وكذلك التهاون بأمر الصيام والحج.
ومنها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه من غير نية صحيحة، ولا احتساب للأجر في الآخرة، قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [سورة الحج آية: 78] .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" 1.
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم. والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا.
ومن المعاصي أيضا: عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] .
وفي الحديث: "رضاء الرب في رضاء الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين" 2.
وقال تعالى في قطيعة الأرحام: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ
__________
1 البخاري: العلم 123 , ومسلم: الإمارة 1904 , والترمذي: فضائل الجهاد 1646 , والنسائي: الجهاد 3136 , وابن ماجه: الجهاد 2783 , وأحمد 4/392 ,4/397 ,4/401 ,4/405 ,4/417.
2 الترمذي: البر والصلة 1899.(14/352)
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [سورة محمد آية: 22-23] .
وفي الحديث: لا تنْزل الرحمة على قوم فيهم قاطع يعني: إذا علموا به، فلم ينكروا عليه، ولم يفارقوة.
ومن القطيعة: أن لا يصل الرجل رحمه إلا إذا وصلته، وفي الحديث: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها 1.
ومنها: الشحناء وظلم العباد، والسعي في الأرض بالفساد، ونقض العهود، وتعطيل الحدود، وبخس المكاييل والموازين، وأكل مال اليتامى والمستضعفين. وفي الحديث: تفتح أبواب الجنة في كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا من كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا 2، فإن كانت بينه وبين رحمه فأكبر وأعظم.
ومنها: ظهور الفواحش، والمنكرات. في الحديث: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ومفاسد الزنى عظيمة، وعقوباته أليمة.
ومن الفواحش أيضا: قبيح الكلام: كالسب، والشتم، بالزنا، ونحوه، والكذب والغيبة والنميمة، وقول الزور، وشهادة الزور.
ومنها: ظهور المعاملات الربوية; وفي الحديث:
__________
1 البخاري: الأدب 5991 , والترمذي: البر والصلة 1908 , وأبو داود: الزكاة 1697 , وأحمد 2/163 ,2/190.
2 مسلم: البر والصلة والآداب 2565 , والترمذي: البر والصلة 2023 , وأبو داود: الأدب 4916 , وأحمد 2/268 ,2/389 ,2/400 ,2/465 , ومالك: الجامع 1686 ,1687.(14/353)
لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه 1 إذا علما ذلك; ومنه: قلب الدين على المدين، وهو: أن يأخذ المدين دراهم أو زادا من الذي له الدين، ثم يرده عليه؛ وقد يتواطآن على ذلك، وهو أعظم؛ وأما تسمية هذا العقد الفاسد بالتصحيح، فهو عين الفساد، ويشبه حيلة أهل السبت، عياذا بالله من ذلك.
ومن المعاصي أيضا: أن يوقف الرجل وقفا، أو يوصي بوصية، ويقصد بذلك حرمان بعض ورثته، أو تنقيص ميراثه عليه ; وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بطاعة الله، ستين سنة، أو سبعين سنة، فيحضره الموت، فيجور في وصيته، فيدخل النار 2 وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من فر بميراثه عن وارثه، قطع الله ميراثه من الجنة 3.
فالله الله عباد الله، واحذروا المعاصي كلها، فإن ارتكابها سبب لزوال النعم، ولحلول المصائب والنقم، وعليكم بالاجتهاد في طاعة الله تعالى، فإن الطاعة سبب لحصول البركات، وتفريج الكربات، ورفعة الدرجات؛ فما استجلبت نعمة، ولا استدفعت نقمة بمثل طاعة الله عز وجل.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [سورة الجن آية: 16-17] ،: {غَدَقاً} أي: كثيرا.
__________
1 البخاري: البيوع 2238 , وأحمد 4/308.
2 الترمذي: الوصايا 2117 , وأبو داود: الوصايا 2867 , وابن ماجه: الوصايا 2704 , وأحمد 2/278.
3 ابن ماجه: الوصايا 2703.(14/354)
فالله الله عباد الله! عليكم بطاعة الله، ولزوم ذكره، والإكثار من حمده وشكره، والتوبة النصوح، والاستغفار من الذنوب السالفة، مع ندم القلب ووجله والخوف من عقوبته; فإنه سبحانه يحب التوابين والمستغفرين، ويحب دعوة السائلين، ويزيد الشاكرين، ويفرج كرب المكروبين.
وفي الحديث: من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزق من حيث لا يحتسب 1. وقد كانت التوبة شعار الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، مع صلاحهم ومعرفتهم بربهم، رزقنا الله الاقتداء بهم وسلوك سبيلهم، إنه جواد كريم، غفور رحيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
[رسالة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق إلى بعض المشائخ يحثهم على مناصحة الأمير]
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن عتيق، إلى الإخوان المكرمين، الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف، وإبراهيم بن عبد الملك، وصالح بن محمد الشثري، وزيد بن محمد آل عمر آل سليم، جعلهم الله من المتبعين للسنة والقرآن، المجاهدين في الله باليد والقلب واللسان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وأسألة أن يصلي على عبده ورسوله محمد، الذي
__________
1 أبو داود: الصلاة 1518 , وابن ماجه: الأدب 3819.(14/355)
اختاره واصطفاه، وجعل الهدى والسعادة في اتباع ما جاء به والأخذ بهداه، وحكم بالضلال والشقاوة، على من خالف هديه واتبع هواه.
وقد عرفتم ما حصل في هذه الأزمنة من غربة الدين، وترادف الشرور وكثرة المفتونين، الذين اجتالتهم الشياطين عن دينهم، حتى إن العاقل يخاف من اجتثاث أصل الإسلام، واستئصاله بالكلية، حتى لا يبقى منه شيء.
وسبب ذلك هو الإعراض عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من السنة، والخروج عن حكم الكتاب الذي أنزله الله هدى ورحمة، وجعله مخرجا للناس من الظلمة، وتوعد بالعذاب من صدف عنه وخالف حكمه.
وفي الحديث، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون فتن، قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبكلم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... الحديث.
وأعظم أنواع الإعراض أو أكبر أسباب الفتنة في الأرض والفساد الكبير: ما صدر من بعض الخلوف، من موالاة المشركين واتخاذ الولايج من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنهم صاروا فتنة للمفتونين، ومحنة على المؤمنين.(14/356)
ولأجل ذلك صار الناس بين مأجور، ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. فمن الناس من عرف الحق وترك بيانه، وأطاع في معصية ربه نفسه وشيطانه، وكتم ما أنزل الله من البينات والهدى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 140] .
ومنهم: مَن اعتقد الباطل حقا، والخطأ صوابا، واستحسن موالاة أهل الكفر والارتياب، وعمي عما تضمنته نصوص الكتاب،: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 41-42] .
وقد حرم الله موالاة الكافرين، في غير موضع من كتابة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] .
وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ(14/357)
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة التوبة آية: 23] .
وقد نفى الله الإيمان عمن تولاهم، وأخبر أنه من الفاسقين والظالمين، وتوعده بمسيس النار، فقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] .
وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] .
وأعظم من هذا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 25-28] .
وهذه الآيات وأشباهها: تدل على التغليظ، والتشديد في موالاة من كفر بالله، وقد ذكر بعض العلماء: أن هذه الآيات، تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم، فإن انضم إلى ذلك: إظهار الثناء عليهم، ونشر فضائلهم، والدخول في طاعتهم، وإعانتهم(14/358)
على أهل الإسلام، وحماية حماهم، فالأمر أشد وأعظم.
ولا يخفى على عارف أن هذه الأمور من أكبر أسباب هدم الإسلام والإيمان، وأعظم الذرائع إلى هجر السنة والقرآن، وظهور الشرك والكفر بالملك الديان، وتعطيل أسمائه وصفاته، وإلقاء حججه وبيناته. وقد قصر كثير من الناس، في بيان ما أوجب الله عليهم بيانه، وتركوا الانتصار لله، والدعوة إلى سبيله، والنصيحة لله، ولكتابه ولرسوله.
ومن أعظم الواجبات: مناصحة ولي أمر المسلمين ودعوته إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، من القيام بأمر الله، والدعوة إلى توحيده وطاعته، وإحياء شعائر الإسلام، التي قد عطلت على كثير من الرعايا.
ومن أعظم الواجبات أيضا: بيان ما أوجبه الله من جهاد المشركين، ومعاداة الكافرين، والحرص على مراغمتهم، وإدخال الحزن عليهم، وإيصال المكروه إليهم، أخذا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة آية: 123] .
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] .
فإن حصل منه ذلك، فهو ذروة السنام، وبه الصلاح في الدين والدنيا، لا كما زعم كثير من الجهال والطغام، فإن لم يحصل منه، رضينا منه بالمقاطعة، وترك الهدايا، وعدم(14/359)
الموالاة، فإن كان ولا بد قنعنا من الأمير بتركهم ومن أرادهم بسوء من أهل الإسلام; ثم انظروا هل وراء ذلك حبة من خردل من إيمان.
وهذا كتاب الله وسنة رسوله وسيرة خلفائه الراشدين، فيها الهدى والنور، وقد كتبنا للأمير شيئا مما ذكرنا، في بعض الخطوط، إجمالا وتفصيلا، ولما اجتمعنا نحن وهو في سنة ست وثلاثمائة وألف، أكثرنا عليه في ذلك، وذكرنا له شيئا من الأدلة: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 42] .
وقد رأى كثير من الناس: السكوت عن الحق، والإعراض عن بيان ما بينه الله في كتابه، رأيا متينا، وظنوا حصول السلامة لهم مع ذلك، كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] . وقد قيل:
وقد أخذ الرحمن جل جلاله ... على من حوى علم الرسول وعلما
بنصح جميع الخلق فيما ينوبهم ... ولا سيما فيما أحل وحرما
فناصح بني الدنيا في ترك ابتداعهم ... فقد صيروا نور الشريعة مظلما
ينبغي لكم مناصحة الأمير سلمه الله، وبذل الجهد في دعوته إلى أسباب الفوز والسعادة مما ذكرنا، فإنه ربما اغتر بسكوت من يحسن بهم الظن من أهل العلم والدين.
وقد عرفتم أنه لا صلاح للدين، ولا استقامة له، إلا(14/360)
بذلك، وأرجو أن ذلك قد صدر له منكم، وتكرر؛ فإن الظن بكم جميل، فقد من الله عليكم، ووهبكم من العلم به، وأسمائه وصفاته، والبصيرة في حججه وآياته، ما برزتم به على من سواكم.
والأمر على أهل العمل والإيمان، أعظم منه على غيرهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [سورة المائدة آية: 67] .
وقال: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52] .
وقد علمتم ما كان عليه مشايخكم وقراؤكم الذين مضوا، رحمهم الله، من السيرة المرضية، والحمية الدينية، وبذل الوسع في نصرة الملة الحنيفية، والنصيحة لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، بإقامة الحجج والبراهين، وبيان ما وجب من معاداة الكافرين، والنهي عن موالاة المشركين؛ وقد ابتلاكم الله تعالى بأن جعلكم خلائف في الأرض من بعدهم لينظر كيف تعملون، وسوف يسألكم عما تعملون.
وقد اشتد البلاء بعد أولئك الأفاضل، وتواترت الفتن، وعظمت الخطوب والمحن، وهجر كثير من السنن، وغلب الجهل والهوى، وكثر الخوض والمراء، وحطت ألوية الهدى، وحكمت الطواغيت، وضيعت الحدود، وهدمت الأركان، وعزل كثير من أحكام السنة والقرآن، ووضعت(14/361)
القوانين، واستحكمت غربة الدين، وانتشرت مسبة المؤمنين.
وعظمت الفتنة بعباد الأوثان، والأصنام، وظهرت موالاتهم من كثير من أهل الإسلام، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ونزل بربوع الإسلام، وحل بمعاقل الإيمان، ما حل نظام الإسلام، وشتت شمل الإيمان.
فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ،: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة الحديد آية: 16] .
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم حرر في شهر الصوم سنة ست وثلاثمائة وألف.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم إلى أهل مبايض يخبرهم بما بلغه عنهم من التفرق]
وقال الشيخ: عبد الرحمن بن سالم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم، إلى الإخوان الكرام، أهل مبايض، وفقهم الله لقبول النصائح والمواعظ، وأعانهم على تكميل السنن بعد أداء الفرائض، وأعاذنا وإياهم من التدابر والتباغض، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد ذلك بلغنا عنكم ما يستنكر ممن هو مثلكم، من(14/362)
التفرق، والتنافس في أمور لا مصلحة لكم فيها، بل مضرتها عظيمة في الدين، بل الذي يجب عليكم، المحبة والمناصحة فيما بينكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم 1 رواه مسلم.
وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم، شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، والفتن المضلة 2.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا أدلكم على ما هو أفضل من درجة الصلاة والصيام؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين 3.
والواجب عليكم إذا نابكم أمر: الاجتماع، والمشاورة وتقديم الأخيار، لأن الله تعالى أمر نبيه بمشاورة أصحابه، تطييبا لقلوبهم، وهو أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أكثر من مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقال قيس بن عاصم لبنيه عند موته: عليكم بالاجتماع، وإياكم والتفرق، فإن القوم إذا اجتمعوا صلحواوملكوا، وإذا تفرقوا فسدوا وهلكوا.
وعليكم- رحمكم الله- بما يجمع القلوب على
__________
1 مسلم: الأقضية 1715 , وأحمد 2/367 , ومالك: الجامع 1863.
2 أحمد 4/420.
3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2509 , وأبو داود: الأدب 4919 , وأحمد 6/444.(14/363)
طاعة الله، ويوجب لها خشية الله، والانكسار بين يديه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لأن أجمع إخواني على صاع من طعام، أحب إلي من غزوة في سبيل الله والمعنى- والله أعلم- أنه قصد بهذا استطابة قلوبهم، لأن تحاب الإخوان بينهم من موجبات دخول الجنة، وتباغضهم بينهم من موجبات دخول النار.
وأنتم- وفقكم الله- ما اجتمعتم في هذا المكان، إلا تطلبون رضى الله، وتهربون مما يسخطه، ولكن الشيطان إذا عجز عن إيقاع الناس في الشرك، رضي عنهم بالوقوع في الكبائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان لما أيس أن يعبد في جزيرة العرب، سعى بينهم بالتحريش.
والواجب عليكم: أن كل إنسان يعفو عن حقه، ويبيح أخاه كما جرى للصحابة، رضي الله عنهم، لما حصل بينهم ما حصل، ثم أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ووعظهم عانق بعضهم بعضا، وبكوا; وذلك لعلمهم: أن من ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه.
نرجو الله أن يتم لنا ولكم ما قصدتم من الهجرة، ولا يجعل حظنا منها التسمي بالألسن، إنه جواد كريم، ولعباده رؤوف رحيم، والسلام آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.(14/364)
[التذكير بأهمية الإسلام في المعاش والمعاد وما وقع من التفريط والتهاون بهذه النعمة]
وقال الإمام: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل رحمة الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، وعبد العزيز بن عبد الرحمن، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله تعالى وإياهم لمعرفة دينه، والقيام بحقه والثبات عليه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [سورة الأعلى آية: 10] ، وقد عرفتم ما من الله به، من عرفة دين الإسلام، والانتساب إليه، وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وخلق الخلق لأجله.
ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بمعرفة هذا الدين ومحبته، وقبوله والعمل به، وبذل الجهد في ذلك علما وعملا، والدعوة إليه والرغبة فيه، وأن يكون هم الإنسان وسعيه في تحصيل ذلك، ليحصل له النعيم المقيم الأبدي، والسرور السرمدي، وينجو من طريقة أهل الغفلة والإعراض، أعاذنا الله وإياكم من اتباع سبيلهم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ(14/365)
الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] .
صلى الله عليه وسلموقد وقع منا التفريط والتهاون بهذه النعمة، وعدم الرغبة فيها، والاشتغال بما شغل عنها، بما هو وبال على العبد في دنياه وآخرته.
والواجب علينا وعليكم معاشر المسلمين، أن نقوم على من قدرنا على القيام عليه ببذل الجهد، والنصيحة للمسلمين، بتذكيرهم ما أنعم الله عليهم به من الدين، والقيام على من ترك حقوق الإسلام وضيعها، ولم يبال بحق الله من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه لا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالقيام بذلك.
وقد وقع الخلل العظيم بسبب الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل اتعاظ العباد بمواعظ الله، وانزجارهم عندما يرونه ويشاهدونه من آيات الله ومواعظه، كما قال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة التوبة آية: 126] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 42-44] .(14/366)
وأعظم الخلل وقع ممن ينتسب إلى الإسلام، في أعظم الأركان بعد الشهادتين، وهي الصلاة، وكثرة الاستخفاف بها، وهي عمود الإسلام، التي إذا سقط عمود الفسطاط، لم تنفع بعده الأطناب، كما في الحديث. العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 1 وفي الحديث أيضا: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة 2.
قال الإمام أحمد: فكل تارك للصلاة، ولم يبال بالقيام بواجبها جماعة في المساجد، إذا لم يكن عنده عذر شرعي، فهو مستخف بالإسلام، مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام بقدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام بقدر رغبتهم في الصلاة، فليحذر العبد أن يلقى الله ولا قدر للإسلام عنده.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق: إن من أهم أموركم الصلاة، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها، فهو لما سواها أضيع وفي الحديث: أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن تقبلت صلاته، تقبل منه سائر عمله، وإن ردت عليه صلاته، رد عليه سائر عمله 3.
فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسأل عنه غدا من أعمالنا يوم القيامة، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، إذا صارت الصلاة آخر ما يذهب.
__________
1 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346.
2 مالك: الطهارة 84.
3 النسائي: الصلاة 466 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1425 ,1426 , وأحمد 2/425.(14/367)
وقد لعب الشيطان: بأكثر الناس، حتى تركوا الواجب في الصلاة، والتكاسل عن حضور الجماعة في المساجد، ويصلي في بيته، ويتأخر عن حضور الصلاة مع الجماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
وقال صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آمر من يصلي بالناس، فأعمد إلى أناس يتركون الصلاة في المساجد، فأحرق عليهم بيوتهم 1 وفي بعض الأحاديث: لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأحرقتها عليهم 2.
وقد عينا نوابا في تفقد الناس عند الصلاة، ومعرفة أهل الكسل الذين اعتادوه وعرفوا من بين المسلمين بذلك، فيقومون على من قدروا عليه بالحبس والضرب؛ ومن هابوه ولم يقدروا عليه، فليرفع أمره لنا، وتبرأ ذمتهم بذلك، ولا يكون لأحد حجة يحتج بها علينا. كذلك إنا ملزمون أهل كل بلد بالقيام بذلك، ومن لم يقم به من أمير وغيره، بان لنا أمره، واتضح لنا غيه.
وكذلك الربا الذي فشا في الناس فيما بينهم، وتلاعب الشيطان بهم حتى إنهم يخفونه، إنا ملزمون القضاة في كل بلد، البحث عن معاملات الناس وعقودهم، وما يجري بينهم من عقود الدين، وبيع السلم قبل قبضه.
كل هذه الأمور الربوية، التي يتعامل بها الناس، من حققها ورفع لنا خبرها برئت ذمته، ومع ما ينضم مع ذلك من
__________
1 البخاري: الخصومات 2420 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 ,549 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/314 ,2/376 ,2/416 ,2/479 ,2/525 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1212 ,1274.
2 البخاري: الأحكام 7224 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 ,549 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/367 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274.(14/368)
انواع المنكرات، التي يجب إنكارها، إنا ملزمون أهل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بها؛ ولا يخشى العبد إلا ربه فاحذروا غضب الله ومقته.
والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
[ما يجب على من نصح نفسه وأراد نجاتها والحث على الأمر بالمعروف]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم لفعل الخيرات، وترك المنكرات، والإقلاع من الذنوب والسيئات، آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا هو النصيحة لكم، والشفقة عليكم، لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
والتقوى كلمة جامعة لكل خير; لأن الخير بحذافيره: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه; وما أمرنا الله به وحضنا عليه، اتباع كتابه، وسنة رسوله، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
وقال تعالى: {وَمَا(14/369)
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .
فالواجب على كل من نصح نفسه وأراد نجاتها، أن يتقي الله في سره وعلانيته، وأن يحاسب نفسه، هل قام بما أوجبه الله عليه، وامتثل ما أمره الله به ورسوله، ووقف عند حدوده فلم يتجاوزها؟ أم هو منقاد مع شهواته وهواه؟ قد أعطى نفسه هواها، ولم ينهها عن ارتكاب المحرمات.
فلو علم: أنه موقوف ومسؤول عن جميع أعماله وأقواله وأحواله، لخلا بنفسه وحاسبها، واتقى الله سبحانه وبحمده، فيا خسارة من حاله حال البطالين والغافلين المعرضين!
إذا علم هذا، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، من أعظم الواجبات، وأهم المهمات، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، والأمة: الجماعة، وهذا أمر لازم لكل أحد بحسب قدرته، فإذا قام به بعض المعنيين، سقط عن الباقين، فإذا تركوه أثموا وعوقبوا.
فكونوا من تركه على حذر عظيم; قال صلى الله عليه وسلم: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعذاب(14/370)
من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم 1 والأحاديث في ذلك كثيرة.
فلا صلاح للخاصة والعامة، في جميع القرى، إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تكون طائفة حق، أهل بصيرة وعلم، يدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. لأن ذلك سبب صلاحهم وفلاحهم، في معاشهم ومعادهم؛ وبتركه والتغافل عنه، يكثر الشر والفساد.
وأيضا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفات المؤمنين، وبقوته يقوى الإيمان، وبضعفه يضعف الإيمان; قال تعالى: {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] .
ذكر تعالى في هذه الآية أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سبب لرحمة الله، فإذا رحم الله العباد أعطاهم ما يحبون، ودفع عنهم ما يكرهون، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآّتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماًوَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-67] .
وقد رأيتم ما حصل عليكم من منع القطر، وغور المياه، والقحط، وشدة المؤونة، وأنواع البلايا والامتحانات،
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن 3047 , وأبو داود: الملاحم 4336 , وابن ماجه: الفتن 4006.(14/371)
وذلك سببه مخالفة أمر الله، وارتكاب نهيه؛ فإن الذنوب والمعاصي من أعظم الموجبات لحلول العقوبات والنقمات.
فارغبوا عباد الله إلى الله، بالدعاء والاستغفار،: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] ، وعظموا أمر ربكم ونهيه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم 1. فاستدفعوا عنكم العقوبات بالتوبة النصوح; وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
ولا شك: أن ما منع القطر من السماء، إلا بذنوب المسلمين، ولله في ذلك حكمة، وما يعفو الله عنه أكثر، وما رفع عنكم من العقوبات أعظم، فأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتناصحوا فيما بينكم، وتحببوا إلى ربكم بالإنابة والإقبال عليه، وارغبوا إليه بطاعته، واجتناب معصيته، لعل الله أن يتوب علينا وعليكم، ويدخلنا وإياكم في رحمة منه وفضل، ويهدينا صراطه المستقيم.
ومما يدفع الله به البلاء: الصدقة على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد آية: 7] .
وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة سبأ آية: 39] .
وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل آية: 20] .
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/456 ,2/467 ,2/482.(14/372)
وقال عليه الصلاة والسلام: باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها والأموال عوار، ولا ينفع العبد إلا ما قدمه لله، رغبة في رضاه، فيا سعادة من هانت عليه الصدقة فبذلها، يرجو بذلك رحمة الله.
: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 23] ،: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 149] .
الله الله عباد الله، في المبادرة إلى ما ينجيكم الله به من عقابه وعذابه; فنسأل الله بأسمائه وصفاته، وبتوحيده الذي جحده المشركون، أن يأخذ بنواصينا ونواصيكم، ويتوب علينا وعليكم، إنه كريم جواد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[التذكير بنعمة الله على أهل نجد على يد الشيخ محمد وذريته من بعده ومن أيدهم من الولاة]
وقال المشايخ رحمهم الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق المأمون، صلى الله على محمد، وعلى آله وأصحابه الذين هم بدينه قائمون، وعلى سنته يحافظون.(14/373)
من حسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة آل الشيخ: إلى كافة إخواننا من علماء نجد، وإخوانهم المنتسبين، سلمهم الله تعالى وهداهم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، تفهمون ما من الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان، مما بين الله على يد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، من معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، والعمل به، وإقامة الأدلة على ذلك، والرد على أهل البدع والضلالات، ممن خرج عن دين الإسلام، واستبدل به سواه من الأعمال الردية، والاعتقادات الباطلة الوبية.
ثم ذريته من بعده، سلكوا على منواله، وأيدهم الله تعالى بولاة الأمر من آل سعود، رحم الله أمواتهم، وأعز بإقامة دينه أحياءهم، قاموا بهذا الدين أتم القيام، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، ومحا الله بهم آثار الشرك والبدع والضلالات من نجد، ولله الحمد والمنة، وطريقتهم مشهورة معروفة، كالشمس في رابعة النهار، واستقام الأمر على هذا في أصول الدين وفروعه.
وآخر من قام بهذا الأمر، شيخنا الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف، رفع الله درجاته في المهديين، وخلفه في عقبه(14/374)
وإخوانه في الغابرين، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، وبذل جهده في النصيحة لله ولرسوله، ولعباده المؤمنين، ووسائله في ذلك مثبوتة منشورة.
ومن المتعين علينا، وعليكم لزوم الاقتداء بهم والسلوك على منهاجهم، والاجتهاد في الدعوة إلى ذلك، وبذل النصيحة للمسلمين. وقد عرفتم ما حدث من كثير من الناس، من أهل الجهل، وما انتحلوه في الدين، وخرجوا بسببه عن سبيل أهل الطريقة المثلى من أهل العلم واليقين، وعدموا البصيرة في دين الله، بعدم اقتباس العلم والهدى من مظانه.
ولا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقتهم، رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين، فإنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم.
وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم، فمن خالف في شيء من ذلك، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلوما عندهم، ومفتى به عندهم، مستقرة به الفتوى بينهم، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله.
ونحن نعلم أن المسائل العلمية، والأحكام التي يحكم بها الناس، والفتاوى التي يفتون بها، لا تخلو من الخلاف،(14/375)
وهذا أمر يعرفه من له أدنى معرفة؛ لكن الاختلاف بين الناس خصوصا في جهة نجد، لا بّد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة؛ وسد باب الشر والفتن والفساد، أمر مطلوب في الشريعة; بل هو من أعظم مقاصدها، كما لا يخفى.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم سلوك صراطه المستقيم، وأن يجنبنا وإياكم طريق المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا.
حسن بن حسين، سعد بن حمد بن عتيق، سليمان بن سحمان، صالح بن عبد العزيز، عبد الرحمن بن عبد اللطيف، عمر بن عبد اللطيف، عبد الله بن حسن، محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة آل الشيخ.(14/376)
[الحث على الأمر بالمعروف وتعليم الناس]
وقال الامام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله، وبركاته.
وبعد ذلك: هذا كتاب إخوانكم المشايخ، تشرفون عليه، والعمل- إن شاء الله- على ما فيه، ثم بعد ذلك: ما هو بخافيكم أول منشإ هذا الأمر وتقويمه، أنه من الله، ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مرارا.
وكلما اختلف الأمر، وشارف الناس لنقض دين الله، وإطفاء نوره، أبى الله وأخرج من هالحمولتين من يقوم بذلك، حتى إن آخرهم والدنا، وشيخنا الشيخ: عبد الله بن عبد اللطيف، نرجو الله أن يجبرنا في مصيبتنا فيه، بعز الإسلام والمسلمين، وأن الله سبحانه يظهر في عقبهم من يقوم مقامهم، وأن الله سبحانه يعيضه بنا رضوانه والجنه.
ولا هو بخافى أحدا مقامه في آخر هذا الزمان، والتزامه في أمر هذا الفصللئ، الذي لا حياة إلا به، صار نورا وقوة لكل عارف، عاقل في أمر دينه ودنياه، وردع أهل البدع(14/377)
والضلال، ولا نقول، إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا خيرا، واخلفنا خيرا منها.
ثم بعد ذلك تفهمون أن أسباب الشر كثيرة، ولا بد أن يحصل من الناس بعض شوفات: أحد يدوّر المخالفة، وأحد يدوّر التروّس، وأحد جاهل يريد الحق، ولكن خفى عليه سبيل الحق، فاتبع هواه؛ وهذا أمر كله مخالف للشرع، والحمد لله، ما حنا في شك من أمر ديننا.
وتفهمون أنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في قرن أطيب من وقتنا، ورجال أطيب من رجالنا، وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس، من الظلمات إلى النور.
فبان أمره لأولي الأبصار، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه، وأعمى بصيرته؛ وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا وأجدادنا، وعلماء المسلمين، فيما أتى به من الأصل والفرع، ويتعين علينا- إن شاء الله- أن نقتدي بما اقتدوا به.
ولا هو بخافيكم حال هذا الزمان، وكثرة الطالب والسائل، وقلة البصيرة والفهم، وأيضا ما هو بخافيكم اختلاف العلماء في أمور الفروع، فلا بد أن كل إنسان يدعي المعرفة على جهل: إما أحد يسمع حديثا، أو قولا من أقوال العلماء، لا يعرف حقيقته، فيفتي به، أو يكون أحد له(14/378)
مقصد، يدور الأقوال المخالفة مقصوده الخلاف، إما مخالفة أحد من علماء المسلمين، أو يبي يقال: هذا فلان، يدور بذلك رياسة، أو شيئا من أمور الدنيا، نعوذ بالله من ذلك.
فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشايخ أعلاه، فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد اللطيف، وعبد الله بن عبد اللطيف، فهو متعرض للخطر، لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلاّ إنسان، مراوز للشر والفتنة بين المسلمين.
فأنتم- إن شاء الله- يا جميع علماء المسلمين التزموا بهذا الأمر، وقوموا على من خالفه؛ ومن سمعتم منه مخالفة في قليل أو كثير، ما قدرتم عليه نفذوه؛ وما لم تقدروا عليه ارفعوه إلينا، إلا إن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب، أو من السنة، فلا يتكلم حتى يعرض أمره على علماء المسلمين، وتعرف حقيقته؛ فأما المعترض بغير ذلك، أو قبل تبين الأمر، فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه، ويكون عنده معلوما أنه على خطر منا.
ثم أوصيكم، يا علماء المسلمين بالقيام لله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس خصوصا هذا الأصل، وأن تجتهدوا وتديموا الجلوس والمباشرة لإخوانكم المسلمين، ومن كان تعلمون منه سدادا، ومن شبته دنيا أو تكاسل، ترفعون أمره إلينا، حتى نلزمه بطلب العلم.(14/379)
والأمر من ذمتي في ذمتكم، لا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بتعليم الأصل، ولا بردع الجهل والقيام على صاحبه، فلا أنتم بحل مني إذا ما اجتهدتم وقمتم بهذا الأمر، كما أنه الواجب عليكم.
وتفهمون أني إن شاء الله خادم للشرع، لا بنفسي ولا بما تحت يدي، فافطنوا لموقف يوقفنى الله أنا وأنتم، والعالمين؛ وهذا أمر برئت منه ذمتي وتعلق بذمتكم. نرجو الله أن يعيننا وإياكم على القيام بما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا؛ وأن الله سبحانه ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصاره.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، سنة 1339، وعليه ختمه.
[النصح لله ولكتابه ولرسوله والحث على الإستقامة والشكر وحقيقته]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من كافة إخواننا المسلمين، سلمهم الله تعالى، ووفقنا وإياهم للتمسك بالكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الواجب علينا وعلى كل مسلم النصح لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم; أما النصح لله، فتوحيده وحب أوليائه، وعداوة أعدائه، وأما(14/380)
النصح لكتابه، فالإيمان به، والعمل بما جاء به، وعدم تأويله على غير ما أنزل الله, وأما النصح لرسوله، فالإيمان به والاقتداء بسنته، والأخذ بما أمر به.
وأما النصح لأئمة المسلمين، فمنهم الأمراء، ومنهم العلماء؛ فأما الأمراء، فالدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولزوم جماعتهم، والسمع والطاعة لهم، وعدم الخروج عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، وجمع كلمة المسلمين عليهم.
وأما العلماء، فمحبتهم، والاقتداء بهم، وعدم مخالفتهم، وتوقيرهم، وعدم الاستهانة بهم، وسؤالهم عما مَنَّ الله عليهم من معرفته.
وتعلمون بارك الله فيكم أن لا دين إلا بنية وإخلاص ومتابعة، واستقامة على ذلك، وتذكير ما أنعم الله به على المسلمين، من النعم الدينية والدنيوية، حتى تحصل الزيادة، ويتحرز الإنسان من النقص في أمر دينه.
وقد قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
واعلموا رحمكم الله أن حقيقة الشكر هو فعل الواجبات وترك المحرمات، وليس الشكر باللسان والمخالفة بالأفعال والأقوال؛ فمثل ذلك كمثل العريان الذي يمشي بين الناس وثوبه بيده، فليس يغني عنه شيئا.(14/381)
واعلموا رحمكم الله أن حقيقة الشكر، الاعتقاد الحسن في الأصل، والأخذ عمن أمرنا الله بالأخذ عنه، والاقتداء به، فأولهم الأنبياء ومن بعدهم، وآخرهم العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء، وقد قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] .
وقال صلى الله عليه وسلم: إنما شفاء العي السؤال 1 أي: سؤال العلماء، وقال عليه الصلاة والسلام: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ومعلومكم أن جميع أهل الأمصار، ما أحد منهم ادّعى أنه كافر بالله وبكتابه وبرسوله، إنما هم على شدة في ذلك، ويرون أنفسهم أنهم مسلمون حقا، ولا يقولون في أقوالهم وأفعالهم إلا: قال الله، قال رسوله؛ وجميع الجهال الذين ليسوا بأهل علم، إذا سمعوا أقوالهم حققوا إيمانهم وإسلامهم، ولكنهم بخلاف ذلك، فسروا القرآن وأولوا الأحاديث على غير ما جاءت به، ولم يفهم ذلك من الناس أحد، لا من أهل الرأي، ولا من أهل الشجاعة.
ولكن لما أن الله سبحانه منّ بالعلماء المحققين، وأراد الله يخرج هذه الفرقة، ويجعل لهم نورا وبرهانا، من عليهم بالعلماء فأنكروا ما حرفه الغالون، وانتحله المبطلون، وتأوله الجاهلون.
__________
1 أبو داود: الطهارة 336.(14/382)
ومعلومكم أن هذا الكتاب والسنة ما كتبت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لا في جبال، ولا في حديد، إنما حفظه الله تعالى بأهل العلم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله حتى توصل الأمر إلى زماننا هذا، ونشر الله سبحانه هذه الدعوة، ومنحكم بها، فسر ذلك من بقلبه إيمان، وحيي المؤمنون حياة جديدة، وانكبت أهل الكفر والنفاق بما مَنَّ الله به علينا وعليكم; وكنا راجين ظهور العلم، وكثرة العلماء، الذين هم الحياة وهم المشرب العذب، لأجل حرص الناس على الخير وطلبه، وكنا نرى الجهال وجهلهم، ونعلل النفس أن هذا اجتهاد، والمرجع منهم- إن شاء الله- إلى الحق.
فلما كان من العام الماضي وما بعد رأينا أمورا مخالفة لما أملناه، وهي ثلاثة أحوال، وهي التي تهدم الدين، وتفرق المسلمين، وينقم بها رب العالمين، الأول: إعجاب الناس بآرائهم، وخروج أناس يرون الدين ما وافق لهواهم، والثالث: يركض مع الناس وما قالوه قاله، سواء أنه حق أو باطل؛ وهذا كله مخالف للشرع والعقل.
فلما تحققنا ذلك، وقام علينا علماء المسلمين، وقالوا: إما أن تأمروا بالأمر على الوجه المشروع، وتحملوا الناس على الحق لا على الهوى؛ وقلقوا من ذلك كثيرا، وخافوا من الخلل على المسلمين، ودخول عدوهم عليهم، لا العدو الشيطاني ولا العدو الإنسي، جبروا أنفسهم على(14/383)
الحث في النصح للمسلمين، وجبرونا على تنفيذ الأمر.
فأمرنا بعض أمرائنا أن يفطنوا لمن كان به شدة ومخالفة لعلماء المسلمين أن ينصحوه غاية النصح، فمن كان قصده الدين وطاعة رب العالمين، فليرجع عما فات ويتوب، ويبين خطأه وتوبته؛ ومن كان قصده اتباع هواه وليس له مبالاة، لا بدين الله، ولا بعلماء المسلمين، ولا بولاتهم فيجلبون إلينا؛ فإن كان به خير فليتعلم عند علماء المسلمين، ولعل الله ينفعه، فإن كال بضد ذلك، فهو من فضل الله في أعز وطن من أوطان المسلمين.
ونحن مقتدون بقوله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله ننصره مظلوما، فكيف إذا كان ظالما؟ قال تمنعه وتحجزه عن الظلم 1 أو كما قال.
فأي ظلم على الإنسان أعظم من القول على الله وعلى رسوله بغير علم؟ وأي ظلم أعظم من فرقة المسلمين وشحناهم؟ وأي ظلم أعظم من الكلام في ولاية المسلمين وعلمائهم؟ فهذا كله واقع، ولا أخذنا ذلك من سفهاء الناس ولا من ذوي الأغراض، إنما أخذناه من الثقات وأهل العلم وأهل النصح للإسلام والمسلمين.
وبعد ذلك بلغنا خبر أن أحدهم يتكلم يقول: هؤلاء إخواننا الذين يعلموننا ويحضوننا على الجهاد ومحاربة الكفار، قام الناس يتكلمون فيهم ويروعونهم عن أوطانهم. فلا عرفت معنى كلام الجاهل; الأول: أن هذا قدح في علماء
__________
1 البخاري: المظالم والغصب 2444 , والترمذي: الفتن 2255 , وأحمد 3/99 ,3/201.(14/384)
المسلمين؟ فصار: أنه ما اقتدى بهم، ما اقتدى إلا بجهالة الذين يفتونه بغير علم، أو بغير ما أنْزل الله، فكان كما قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الجاثية آية: 23] .
والثاني. حط المسلمين وأمراءهم وعلماءهم من جملة الناس الذين لا يقتدى بهم ولا يؤخذ عنهم، ويتجنبون، ويقتدى بالجهال بدلا عنهم، لأن الناس الذي نقدنا عليهم ما نقدنا عليهم إلا بأمرين: كلامهم في الولاية، وعدم سؤالهم وامتثالهم للعلماء، وجعلهم مداهنين.
فلا علمنا لهذا المغرور مسلكا، إذا كانت الولاية يقدح فيها، والعلماء كذلك، فأين الولاية التي يلتجأ بالله ثم بها؟ وأين العلماء الذين يقتدى بالله ثم بهم ويسألون؟ فلا نعلم في الدنيا أحد قاطبة غير ولاية المسلمين وعلمائهم؛ فهذا من عدم الفرق، واستخفاف أمر الله عند أغلب الناس، ولكن كما قيل:
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
فإن كان عالم بذلك ويدعو الناس إلى عبادة نفسه فهذا أعظم؛ وإن كان أنه جاهل ولا يدري فهذا أعظم.
ثم بعد ذلك بلغني خبر أن أناسا لما أنه أقيم أمر الله، وامتثل الناس أمر الله ثم أمر علمائهم، كان بعض الناس يريدون الانتقال من بلدهم المقوم فيها الأمر إلى بلد أخرى، فهذا بعد مصيبة ثانية; فكيف أنهم يهاجرون إلى البلدان(14/385)
ويحضون على الهجرة فيها، ويكلفون الذي ما يهاجر فيها تكليفات زائدة، فلما هاجروا، وأقيم أمر الله، وهم يدعون أنه ما بغضتهم للبادية إلا حكم الطاغوت وعدم تنفيذ أمر الله، فلما نفذ أمر الله أرادوا أن يفروا عنه، فهذا أمر عجيب! وصاحبه لا خاف الله، ولا استحى من الخلق.
فالآن أحببت أن أبين لكم النصيحة قبل في امتثال أمر الله، وأبين لكم حقيقة ما نحن قائمون فيه على بعض إخواننا، نرجو أن الله يمن علينا وعليهم بالهداية، ثم بعد ذلك آمركم وأنهاكم.
أما الذي آمركم به: فهي تقوى الله وطاعته، ثم سؤال أهل العلم، وامتثال ما أمروكم به وعدم مخالفتهم، لا بالقول ولا بالفعل، وكف الأذى عن جميع المسلمين، وعدم الاعتداء، ولزوم الجماعة، وعدم التنقل من بلد إلى أخرى على غير دليل.
فمن انتقل من هجرته بغير دليل شرعي، ولا معه مكتوب من العالم الذي عنده فهو عاص للولاية، ومن عصى الولاية فقد عصى الله ورسوله، ونحن ملزمون بأدبه، إلا إنسان قد رأى معصية فيرفع الأمر للأمير والعالم الذي عنده، فإن نفذوا ذلك فالحمد لله وهو الظن بهم إن شاء الله، فإن لم ينفذوه فيرفع الأمر إلينا، وتبرأ ذمته.
وأما الذي أنهاكم عنه: فكثرة القال والقيل في غير ما يرضي الله، ومخالفة علمائكم، وعدم سؤالهم والحضور(14/386)
عندهم والأخذ بقول أحد سواهم، إلا من أمروه وفوضوه.
وأيضا يلزمكم طاعة أمرائكم في جميع أمورهم، إلا أمر يخالف المشروع؛ كذلك والإنسان الذي يريد أن ينتقل من هجرته إلى هجرة ثانية، مقصوده لما أنه أمر أن يتقيد بأمر الشرع ولا يزيد عليه، فمن استلقاه في بلده فقد عصى ولاته وتعرض للأدب.
وأما أنا فلا عندي قليل ولا كثير، سوى إقامة أمر هذه الشريعة، وامتثال أمر العلماء؛ فمن كان قصده دين الله فليسأل أهل العلم، وما قالوه فليعمل به، ويعرض جميع أحواله في أمور دينه ودنياه، وجميع ما جاء مني من الأوامر والنواهي عليهم، فما أجازوه وأمروا به فيعمل به، وما نهوا عنه فيتركه.
فمن كان قصده الدين وراحة المسلمين فيمتثل ذلك، ولا أدين الله بغيره، وهو منا ونحن منه؛ ومن كان قصده: درق الدنيا بالدين، ليقضي مقاصده باسم الدين، فهذا مستعينين بالله عليه، ولا يأمن العتب، أو يغره سكوتنا السابق، لأننا بالسابق سكتنا مقصودنا أن الناس قريبو عهد بجهل، ونبغي لعلهم يسترشدون.
فلما رأينا الأمر اتباع للهوى، والجهل يتزايد، عزمنا أن نقوم، ولا تأخذنا في الله لومة لائم. فمن كان قصده الحق، فليأخذ الأمر من أهله الذين هم علماء المسلمين; ومن كان قصده ضد ذلك، فلا يلومن إلا نفسه.(14/387)
والرجاء: أن الله سبحانه وتعالى يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سنة 1339 هجرية، وعليه ختمه.
[الشيخ محمد بن إبراهيم يذكر المسلمين بتأخر نزول المطر وسبب ذلك]
وقال الشيخ: محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، عفا الله عنهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك وخالف أمرك؛ اللهم هذا الدعاء، وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان:
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الخزي والفضائح، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد رأيتم الواقع، وهو تأخر نزول الغيث عن إبانه، وقحوط المطر وعدم مجيئه في أزمانه، ولا ريب أن سبب ذلك هو معاصي الله، ومخالفة أمره بترك الواجبات، وارتكاب المحرمات.(14/388)
فإنه ما من شر في العالم ولا فساد، ولا نقص ديني أو دنيوي، إلا وسببه المعاصي والمخالفات، كما أنه ما من خير في العالم، ولا نعمة دينية أو دنيوية، إلا وسببها طاعة الله تعالى، وإقامة دينه.
قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، فإن معنى الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، أيها الناس: {مِنْ مُصِيبَةٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، في الدين أو في الدنيا، في أنفسكم وأهليكم وأموالكم: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، يعني: إنما يصيبكم ذلك عقوبة لكم، بما اجترحتموه من الآثام، فيما بينكم وبين ربكم،: {ويعفوا} لكم ربكم: {عن كثير} من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها، فإنه تعالى لو عاقب عباده بإجرامهم، ما بقي على ظهرها من دابة، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [سورة فاطر آية: 45] .
قال الحسن رحمه الله تعالى: لما نزلت هذه الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} الآية [سورة الشورى آية: 30] .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
وقال علي رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة وفي دعاء العباس، عم النبي صلى الله عليه وسلم حين استسقى به عمر، والصحابة رضي الله عنهم، عام الرمادة: اللهم إنه لا ينْزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة،(14/389)
وهذه أكفنا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فأسقنا. وفي الحديث: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه 1.
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقال تعالى في حق أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الآية [سورة المائدة آية: 66] ، يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قطرها، وأخرجت لهم الأرض ثمارها.
وقوله: {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، فإنه يعني: لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها، وثمارها، وسائر ما يؤكل مما تخرجه، قال ابن عباس: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، يعني لأرسل السماء عليهم مدرارا: {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، تخرج الأرض بركتها.
وجاء في تفسير، قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] ، عن مجاهد قال: إذا أسنت السنة، قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم. وعن مجاهد أيضا، قال: تلعنهم دواب الأرض، وما شاء الله، حتى الخنافس والعقارب، تقول نمنع القطر بذنوبهم.
وروى ابن ماجه في سننه، من حديث عبد الله بن
__________
1 أحمد 5/280.(14/390)
عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال وأعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع، التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان 1 ظاهر، والسنين: جمع سنة، والسنة: هي الجدب.
وهذا من حكمة الله تعالى وعدله في خلقه، وهو مجازاتهم من جنس أعمالهم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ وفي الجدب، وشدة المؤونة، وجور السلطان، من نقص الأموال ما يعرفه كل أحد، جزاء لبخسهم الناس حقوقهم وأموالهم، بنقص المكيال والميزان، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.
وقد جاء في هذا الذنب من الوعيد، والإخبار بما
__________
1 مالك: الجهاد 998.(14/391)
أحل الله بفاعليه، من سالف الأمم، ما هو معلوم، وإنما حرم ذلك وغلظ تحريمه، لأنه من أعظم الظلم، وأكل المال بالباطل.
ومما يدخل أيضا في أكل أموال الناس بالباطل: ما يكتب بالعقود الفاسدة، والمعاملات المحرمة، التي تمادى فيها أكثر الناس، فإن ما يصير من الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري حرام؛ فإن مال المسلم لا يحل إلا بطيبة نفس منه، إما بهبة شرعية، أو بعقد شرعي، وأعظم ذلك كله الربا في المعاملات.
قال الله تعالى:: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا 1، واضح في: أن لهذا الذنب خصوصية في منع القطر من السماء، فإنه من أعظم الذنوب، لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله.
وكثير من الناس لا يؤدي الزكاة المفروضة من الأموال
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4019.(14/392)
الخفية إما بخلا- والعياذ بالله- أو جهلا ببعض تفاصيل الواجب من الشروط، كالنصاب، وغير ذلك؛ فإنه إذا كان عند الإنسان ثلاثة وعشرون ريالا. فرانسيا، فحال عليها الحول، وجبت فيه الزكاة.
وقوله: ولولا البهائم لم يمطروا 1 يدل على أن ما ينْزله الله تعالى من المطر في بعض الأحيان، رحمة للبهائم التي لا جرم لها. ويشهد لهذا ما رواه أبو يعلى، والبزار، من حديث أبي هريرة: مهلا عن الله مهلا، فإنه لولا شباب خشع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصب عليكم العذاب صبا.
وروى أبو نعيم من حديث أبي الزاهرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من يوم إلا وينادي مناد: مهلا أيها الناس مهلا، فإن لله سطوات، ولولا رجال خشع، وصبيان رضع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبا، ثم لرضضتم به رضا.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم 2 مشابهة ظاهرة لقوله تعالى:: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 13] إلى قوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 14] .
وفي ذلك كله التحذير للأئمة- وهم من يقتدى بهم،
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4019.
2 ابن ماجه: الفتن 4019.(14/393)
من العلماء والأمراء من ترك العمل بما في كتاب الله، وهو دينه الذي دل عليه الكتاب والسنة، فإن هذه العقوبة، وهي: إغراء الله بينهم العداوة والبغضاء، وجعله تعالى بأسهم بينهم، بها انثلال عرش الديانات، وانحلال نظام الولايات، وتفرق الجماعات، وانتهاك المحرمات، وتسليط أهل الكفر والضلالات.
فعلى من يقتدى بهم خصوصا، وسائر المسلمين عموما أن يتقوا الله تعالى، فإن بتقواه تعالى دوام الخير الموجود، واستجلاب ما عند الله من الفضل المفقود، وأن يعتنوا بهذا المقام، وأن يراعوه حق رعايته، في أنفسهم، وفيمن تحت أيديهم، علما وعملا، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. فيا عباد الله: التوبة التوبة! تفلحوا وتنجحوا، وتستقيم أحوالكم وتصلحوا، قال الله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 52] .
وارجعوا إلى ربكم بالتجرد والتخلص من حقوق الله التي له قبلكم، واخرجوا من جميع المظالم التي عند بعضكم لبعض، وأكثروا من الاستغفار، بقلب يقظان حاضر، معترف بالذنوب، مقر بالتقصير والعيوب، وأديموا التضرع لرب الأرباب، يدر عليكم الرزق من السحاب.
وأحسنوا إلى المحاويج، وارحموهم، يحسن الله إليكم.(14/394)
ويرحمكم بغيث السماء، وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء1 وأكثروا من الصدقة، واتركوا التشاحن، والتهاجر، والتقاطع بينكم، وغير ذلك مما هو من أسباب عدم إجابة الدعاء.
اللهم انصر دينك وكتابك، ونبيك، وعبادك المؤمنين، اللهم أعل كلمتك وأيد حزبك الموحدين، واجعلنا منهم يا أرحم الراحمين، فأنت على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه أجمعين; 8 / 10 / 1352 هـ.
[تذكير الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل بنعمة الله ووصيته بتقوى الله]
وقال الإمام: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد ذلك وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من صالحي عبيده وأوليائه، تفهمون ما من الله تعالى به علينا وعليكم، من نعمة الإسلام، والعافية والأمان، وتفهمون أن الله سبحانه وتعالى، قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
ونصيحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، جزاه الله خيرا، ووفقنا وإياه لما يحبه ويرضاه، كافية من جميع الأحوال، ولا عليها مزيد، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله،
__________
1 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941.(14/395)
واتباع أوامره، واجتناب نواهيه.
ويفهم من كان فيه خير من المسلمين أن ما لنا قصد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه ونكون- إن شاء الله- مساعدين قائمين بأمر الله، مساعدين لمن قام بذلك.
فيجب عليكم تدبر هذه النصيحة، والعمل بما فيها، والتناصح فيما بينكم، والقيام على من خالف ذلك، كل على قدرته.
ونحن نعاهد الله أننا خدام مساعدون لهذه الشريعة ومن قام بها، مستعينين بالله على من خالف ذلك، فالآن الشيخ محمد أدام الله وجوده، أدى الواجب ونحن برئت ذمتنا، وألزمنا المسلمين كل يقوم على قدره، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين.
نرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(14/396)
[التذكير بنعمة الله تعالى وما تضمنته كلمة الإخلاص]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، إلى من يراه من إخواننا: الحجازيين، والنجديين، واليمانيين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بارك الله فيكم، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياكم من صالحي عباده وأوليائه تفهمون أن الله سبحانه مَنَّ علينا بنعمة الإسلام، وأكملها علينا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ، ومن أكبر نعمه علينا: إنزال كتابه العزيز، وإرسال نبيه الكريم.
وخلاصة ذلك، وعمدة ما نزل في كتاب الله، وإرسال رسله الأولين، وخاتمهم سيد المرسلين، هي: الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له، وهي مضمون لا إله إلا الله، كما أن معناها: "لا إله"نفي "إلا الله"إثبات.
وكل من قال لا إله إلا الله، عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، مواليا لجميع ما أمر الله به، معاديا لما نهى عنه، من الأفعال والأقوال، فهو من أهل لا إله إلا الله.(14/397)
ومن قالها، ولم يعرف لمعناها، ولم يعمل بمقتضاها، ولا أحب ما احتوت عليه من الخير، وأبغض ونفى ما نهت عنه من الشر، من الأقوال والأفعال، فليس هو من أهل لا إله إلا الله فهو كالأنعام، بل هو أضل.
وتعرفون، بارك الله فيكم، لو أنني أريد أن أتمادى فيما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات المحكمة، والأحاديث الصحيحة، فيما تثبت من الأعمال الطيبة، وتنكر من الأعمال السيئة، لطال الكلام.
والمقصد من ذلك: الفائدة، والاتباع لما أمر الله به وهو قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1 وشرح ذلك مفهوم.
وهو أن النصح لله: أن تعبد الله وحده، وتبرأ من سواه، من قول وعمل، وتحب ما أمرك الله به وتتجنب ما نهاك عنه، والنصح لكتاب الله: أن تعمل بمحكمه وتؤمن بمتشابهه.
والنصح لرسوله صلى الله عليه وسلم: أن تجزم أنه أفضل الأولين والآخرين، وأنه الصادق المصدوق، وأنه لا ينطق عن
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/398)
الهوى، وأنه المعصوم، وأنه من لا يحب الله وكتابه ورسوله، أحب من نفسه وماله وولده، فلا آمن بالله، ولا عرف ما جاء في كتاب الله.
ومن فرق أو شك أن ما جاء في كتاب الله، يخالف ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف كتاب الله، أو أول في كتاب الله وسنة رسوله، وكذب على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، ومن أنكر شفاعته صلى الله عليه وسلم إذا أذن الله له، ولم يرج ذلك; أو قال: نؤمن بكتاب الله، ولا نؤمن بمحمد، فقد كفر.
فإذا فهمنا ذلك، ووقر في قلوبنا، وصحت العقيدة بذلك، فيجب علينا أن نفكر ونتدبر القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه مذهب السلف الصالح؛ ونعمل بما فيه، ونقوم بالواجب، وننكر ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أنكره السلف الصالح.
هذا الذي حملني على هذه النصيحة، هو ما رأيت في هذا الزمان وأهله، من الفساد، وما اقترفناه من الذنوب، كبيرنا وصغيرنا، نستغفر الله ونتوب إليه، وما عليه الحالة اليوم.
فالناس في هذا الزمن، قد انقسموا على أقسام شتى: منهم العارف بالله، وبكتاب الله، والذين يعتقدون عقيدة السلف الصالح؛ قصروا في العمل، وتركوا النصيحة، ولم يقوموا بالواجب.(14/399)
وفريق عرف أن الله ربه، والإسلام دينه، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله، لكنهم لم يعرفوا ما هو الواجب عليهم، في كونهم عرفوا الله، وما حق ذلك، ولا عرفوا الإسلام وحقيقته، ولا عرفوا ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وجاهد عليه.
وآخرون اتخذوا أديانهم أهواءهم، واتبعوا كل ناعق، فمنهم الملحد- والعياذ بالله- ومنهم المتبع لهواه، ومبتدع للطرق والمضال التي نهانا الله ورسوله عنها.
ومنهم من لم يعرف طريق الحق من الضلال، وتمسك بقوله إنه مسلم; ولم يفرق بين حق وباطل. ومنهم من أحدث له الشيطان من الخيالات والمفاسد ما أضله به، وادعى أنها الحياة الجديدة، وأنها الحرية، وأنها المدنية، وعملها بنفسه، وجد واجتهد في الدعوة إليها، والإنكار على من خالفها، ويقول: ينبغي أن نتقدم قدام، ولا نرجع وراء، ومعناه في التقدم هو التمدن والحرية، والتأخر هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح، والتعصب فيه.
فبهذه الحال وجبت علي النصيحة أولا لكافة المسلمين، وثانيا لمن ولانا الله سبحانه وتعالى أمره؛ فصار من الواجب علينا أن ننصح أنفسنا، وننصح جميع المسلمين، بأن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعتصم بحبل الله جميعا، ولا نتفرق، فيأخذنا الشيطان إلى طرق الضلال.(14/400)
وأن نحذر من قوله تعالى:: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] . ومعنى قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16] .
فأما الذنوب والمعاصي، فنستغفر الله ونتوب إليه، فما عملنا من خير فهو من الله وبفضله وكرمه; ونقول: اللهم ما أصبح بنا من نعمة، أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك؛ وما عملنا من شر فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله ونتوب إليه.
والحمد لله الذي لما ابتلى عباده بالمعاصي، وابتلاهم بالامتحان، وابتلاهم بكيد الشيطان، منّ عليهم بالتوبة والاستغفار؛ وذلك من فضله وكرمه.
أما الحالة السابقة في الناس، فهي من كيد الشيطان، ومن أسباب الذنوب، ومن التفرق في الدين، ومقاومته بالطرق والضلالات، التي ما أنزل الله بها من سلطان; وإلا الطريقة واحدة، والمحجة واضحة، وهي: ما جاء في معنى لا إله إلا الله، المحتوية على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح.
مع أننا لا ننكر ولا نعترض على المذاهب الأربعة، التي أئمتها أئمة حق، ولم يقصدوا إلا الحق، ولا ينطقوا إلا بما(14/401)
يرونه حقا؛ وبما ظهر لهم من الحق، وإلا فالزلل لم يعصم منه إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
مع أننا ننكر أن تكون المذاهب الأربعة مللا، أو أن يعتقد أحد في الأئمة ومن تبعهم اجتهادا غير موافق لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بتضليل أو مخالفة للحق؛ وهذا غير ما ظهر في هذا الزمان من المدعين بالتجدد، وعلى أنهم شبيبة يقومون بواجب بلادهم وشعبهم، ويجب عليهم التقدم والتمدن والحرية، على غير مفهوم هذه الكلمات.
فهذه النّزعة التي تقود هذه الشبيبة إلى الضلال، هي نزعة شيطان، وصدمة للدين وللعرب، ولجميع من تمسك بالسمت ومكارم الأخلاق، لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
فما من أمر فيه خير وحفظ للسمت والشرف، سواء أتى من عربي أو عجمي، ولا يخالف الكتاب والسنة: إلا وقد جاء فيما أمر به صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، وزاد عليه بتعليم الخير؛ كما عمل ذلك مع بعض الوفود الذين وفدوا عليه، وسألهم عن بعض ما هم عليه، وزادهم عليه.
والآن فأي مسلم يعرف الإسلام، وينتسب وينسب إليه، ويقر ما أقره هؤلاء الغواة، من لزوم الرجوع عن الدين، وإبداله بما رأوه موافقا للشهوات الدنيئة التي لا يقرها دين ولا مذهب، ولا تقرها أصحاب مكارم الأخلاق(14/402)
في الجاهلية، ولا صلحاء أي ملة تعرف الشرف والعقل، فهو ضال عن طريق الصواب.
وغير خاف أنه صار في آخر الزمان دعوة للتمدن، وهي - بلا شك - رقصة من رقصات الشيطان; وذلك قوله: إنني مسلم بلا عمل ولا اعتقاد، مع اتباع أقوال الملحدين وأهل الفساد، وارتكاب المحرمات في الأقوال والأفعال، مبررا عمله في ذلك بأنه من أعمال البلاد المتمدنة.
أما الأمر الذي لا يوجد تحت أديم السماء أقبح منه في العقيدة، وفي الوقت نفسه مخالف لكل عقل سليم، وفكر مستقيم، ونقل قويم هو: كون الرجل، يدعو ويعبد، أو يرجو ويخاف، غير الله الجبار المتكبر رب العباد، القادر على الأولين والآخرين، من المتجبرين أو المتكبرين، الذي جعل الجنة رحمة، ووفق لها كل صاحب خير وسعادة والنار عدله ونقمته، وساق لها أهل الشر والنكد والضلالة.
وأقبح من ذلك في الأخلاق: ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء، بدعوى تهذيبهن وترقيتهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها، حتى نبذوا وظائفهن الأساسية، من تدبير المنْزل، وتربية الطفل، وتوجيه الناشئة - التي هي فلذة أكبادهن، وأمل المستقبل - إلى ما فيه حب الدين والوطن، ومكارم الأخلاق.
ونسوا واجباتهن الخلقية، من حب العائلة التي عليها قوام الأمم، وإبدال ذلك بالتبرج والخلاعة، ودخولهن في(14/403)
بؤرات الفساد والرذائل، وادعاء أن ذلك من عمل التقدم والتمدن؛ فلا والله ليس هذا التمدن في شرعنا وعرفنا وعادتنا.
ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو إسلام، أو مروءة، أن يرى زوجته، أو أحدا من عائلته، أو المنتسبين للخير، في هذا الموقف المخزي؛ هذه طريق شائكة تدفع بالأمة إلى هوة الدمار.
ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج من دينه، خارج من عقله، خارج من عربيته; فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين الذي يجب على كل ذي شمم أن يدافع عنها.
إننا لا نريد من كلامنا هذا التعسف والتجبر من أمر النساء فالدين الإسلامي قد شرع لهن حقوقا يتمتعن بها، لا توجد حتى الآن في قوانين أرقى الأمم المتمدنة.
وإذا اتبعنا تعاليمه كما يجب، فلا تجد في تقاليدنا الإسلامية وشرعنا السامي ما يؤخذ علينا، ولا يمنع من تقدمنا في مضمار الحياة والرقي، إذا وجهنا المرأة في وظائفها الأساسية؛ وهذا ما يعترف به كثير من الأوربيين من أرباب الحصافة والإنصاف.
ولقد اجتمعنا بكثير من هؤلاء الأجانب، واجتمع بهم كثير ممن نثق بهم من المسلمين، وسمعناهم يشكون مرّ(14/404)
الشكوى، من تفكك الأخلاق، وتصدع ركن العائلة في بلادهم من جراء المفاسد.
وهم يقدّرون لنا تمسّكنا بديننا وتقاليدنا، وما جاء به نبينا من التعاليم العالية، التي تقود البشرية إلى طريق الهدى، وساحل السلامة ويودّون من صميم أفئدتهم لو يمكنهم إصلاح حالتهم هذه، التي يتشاءمون منها، وتنذر ملكهم بالخراب والدمار، والحروب الجائرة.
وهؤلاء نوابغ كتّابهم ومفكّريهم، قد علموا حق العلم هذه الهوة الساحقة التي أمامهم، المنقادون لها بحكم الحالة الراهنة، وهم لا يفتؤون في تنبيه شعوبهم، بالكتب والنشرات والجرائد، على عدم الاندفاع في هذه الطريق، التي يعتقدونها سبب الدمار، وسبب الخراب.
إني لأعجب أكبر العجب، ممن يدعي النور والعلم، وحب الرقي، من هذه الشبيبة التي ترى بأعينها وتلمس بأيديها ما نوهنا به من الخطر الخلقي، الحائق بغيرنا من الأمم، ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغيانها، وتستمر في عمل كل أمر يخالف تقاليدنا، وعاداتنا الإسلامية العربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيفي الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى لنا، ولسائر البشر.
فالواجب على كل مسلم وعربي فخور بدينه، معتز بعربيته، أن لا يخالف مبادئه الدينية، وما أمره الله تعالى(14/405)
بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش، والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده ووطنه.
فالرقي الحقيقي، هو بصدق العزيمة، والعمل الصحيح، والسير على الأخلاق الكريمة، والانصراف عن الرذيلة، وكل ما من شأنه أن يمس الدين، والسمت العربي، والمروءة؛ وليس بالتقليد الأعمى؛ وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده، الذين أتوا بأعاظم الأمور، باتباعهم أوامر الشريعة التي تحت عبادة الله، وحده، وإخلاص النية، في العمل.
وأن يعرف حق المعرفة، معنى ربه، ومعنى الإسلام وعظمته، ومعنى ما جاء به نبينا، ذلك البطل الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم من التعاليم القيمة التي تسعد الإنسان في الدارين; وتعلمه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين; وأن يقوم أود عائلته، ويصلح من شأنها، ويتذوق ثمرة عمله الشريف. فإذا عمل هذا، فقد قام بواجبه، وخدم وطنه وبلاده.
إني أرى من واجبي بصفتي مسلما، وبحسب عربيتي وإخلاصي لأبناء قومي، أن أقوم بهذه النصائح لمن ولاني المولى أمرهم، مقتديا في عملي هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أرجو أن أكون تبعا له في أقوالي وأعمالي، وفي محياي ومماتي، صابرا على ما تقوله الناس من الانتقادات غير مبال لها ولا وجل منها، كما قيل:
إذا كان الذي بيني وبين الله عامر ... فعسى الذي بيني وبين الناس خراب(14/406)
وذلك لأجل إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وإسعاد من ولاني المولى أمرهم، راجيا أن نكون ممن قال فيهم صلوات الله وسلامه عليه: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وهم على ذلك 1.
وإني على ثقة تامة بأن يرى كل صاحب إنصاف، أن واجبي يدعوني لأن أوجه هذه النصائح لشعبي المحبوب، ولكل مسلم، لأني مسلم محافظ على إسلاميته، عربي غيور على عربيته، متبع لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مقتد بمذهب السلف الصالح، رضوان الله عليهم، حريص على كل ما في تقاليدنا العربية، من مكارم الأخلاق، آمر بما أمر به الإسلام، ناهٍ عما نهى عنه الإسلام، غير منتصر لآبائي وأجدادي، أو لنعرة جاهلية، أو لمذهب من المذاهب غير الكتاب والسنة.
وإني بحول الله وقوته سأثابر على هذه الدعوة المباركة، وأرجو المولى أن ينفع بها؛ فما كان فيها من الصواب فمن الله، وما كان من الخطأ فمن نفسي ومن الشيطان، واستغفر الله من ذلك.
كما أنني أعاهد الله بأنني سأقوم إن شاء الله، بما أوجبه الله، وأن أسعى بإلزام من أطاعني بما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأساعد على ذلك.
__________
1 البخاري: العلم 71 وفرض الخمس 3116 والمناقب 3641 والتوحيد 7460 , ومسلم: الإمارة 1037.(14/407)
كما أني سأمنع كل من يخالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومذهب السلف الصالح، بيدي وقلبي ولساني، على قدر الاستطاعة.
وأسأل الله التوفيق والعناية والتيسير، لي ولإخواني المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم; سنة 1356 هـ.
[التذكير بالدعوة والتجديد لهذا الدين والتحذير من عقوبة الله]
وقال الشيخان، رحمهما الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، محمد وآله وصحبه، والتابعين.
من محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن إبراهيم، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، رزقهم الله الاتعاظ والتذكر، ومنّ علينا وعليهم بالانتباه والتفكر، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فهذه تذكرة لنعم الله علينا وعليكم، ونصيحة تجب علينا الكتابة بها إليكم، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] .
وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 69] .
وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [سورة الأعراف آية:(14/408)
74] .
والآيات في هذا المعنى كثير.
وأكبر نعمة نذكّركم بها، هي: ما منّ به مولاكم، وما خصكم به من المنحة وأولاكم، من هذه الدعوة النجدية، وتجديد الملة الحنيفية، بعد أفول شموسها، ومحو آياتها ودروسها، واعتكار ليل الإشراك، وتلاطم الضلال والهلاك، حتى عبدت في نجد كغيرها، الطواغيت والأوثان، من الأشجار والقبور والغيران.
وكان المطاع والمتبع هو الشيطان، بدلا عن مضمون كلمة الإسلام والإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله الملك الديان، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان وأصبح الحق مهجورا، والباطل مؤيدا منصورا.
ونشأت بدع الرفض والتجهم والاعتزال، وبدعة الاتحاد التي هي أكبر بدع الضلال، وغير ذلك من ظهور السحر والكهانة والتنجيم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، واستحلال المحرمات، مما هو حقيقة الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء.
إلى أن ابلولج صبح الحق واتضح، وتجهم وجه الباطل وافتضح، بما منّ به الكريم، من الدعوة والتجديد، على يد من منحهم الله التوفيق والتسديد، وهم: الإمام الأوحد الفريد، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، وأنصار أئمة التوحيد آل سعود، ومن سبقت لهم سابقة السعادة والسيادة؛ ولم(14/409)
تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يثنهم عن هذا الفخر الأفخم مقاومة مقاوم.
فانجلت بحمد الله من نجد وما حولها، وجنات الإشراك، وظهرت بذلك فضيحة كل مبتدع أفاك، واستضاءت بنور المحمدية المحضة أرجاء تلك الأقطار؛ وعاد عود الإسلام غصنا أخضر بعد الالتواء والاصفرار، واستقرت الشريعة في نصابها، ورجعت الفريضة إلى بابها، ونشرت أعلام الجهاد، وقامت حجة الله على العباد.
وكلما اعترى أهل هذه الدعوة من نقص وانثلام، بسبب الوقوع في المعاصي والآثام، رد الله تعالى بمنّه لهم الكرة، وأعاد دولتهم المرة بعد المرة، إلى أن منّ الله بطلعة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن، أيد الله به السنة والقرآن، فجمع به شمل أهل الإسلام والإيمان.
فهذه والله هي النعمة العظيمة، والمنحة الجسيمة، مع ما انضم إلى ذلك من كمال التمكين في الأرض، والأمن العام، وغير ذلك من النعم التي لا يعدها ويحصيها إلا المنعم بها وموليها.
فيجب علينا وعليكم رعايتها وشكرها، ويتعين التحدث بها وذكرها، فإن بالشكر استقرار النعم الموجودة، واستجلاب النعم المفقودة، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .(14/410)
وحقيقة الشكر: تقوى الله تعالى، بفعل ما أمر، وترك ما عنه نهى وزجر; وأصل ذلك وأعظمه، وأفرضه وألزمه، هو: توحيد الله علما وعملا وتعليما، وحثا وتحريضا وإرشادا، وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، مطابقة.
وإثبات ما أثبته لنفسه تعالى في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة، من صفات الكمال، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ وهذا دلت عليه كلمة الإخلاص بالتضمن.
فإن التوحيد هو الأصل الأصيل الذي لا يصح بدونه قول ولا عمل، وما ضل من ضل، ووقع في الشرك من وقع وزل إلا بالجهل بذلك، والتغافل عما هنالك.
ومن لوازم التوحيد: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله؛ وهذه أمور قد طوي بساطها، وانحل نظامها ورباطها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله. وفي الحديت الآخر: وهل الدين إلا الحب والبغض. وفي الأثر الإلهي: هل واليت لي وليا؟ أو عاديت لي عدوا؟.
وقد وقع من التهاون بهذا الشأن، وعدم الغيرةعند(14/411)
انتهاك محارم الله، ما يخشى بسببه أن يغضب الرب لدينه، ويغار لشرعه وحرماته، فيحل بنا من نقماته، ويوقع بنا من سطواته، ما لا قبل لنا به.
فإن إضاعة أمر الله، والوقوع في حرماته، هو سبب تغيير الله النعم على أهلها، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال آية: 53] .
وفي بعض الآثار الإلهية عن الرب تبارك وتعالى، أنه قال: وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب، ثم ينتقل عنه إلى ما أكره، إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره. ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل عنه إلى ما أحب، إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب.
وقال تعالى خطابا للصحابة رضي الله عنهم:: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [سورة محمد آية: 38] .
وبالجملة: فنحذركم وأنفسنا، عقاب الله وسطوته؛ فإن أخذه لمن ضيع أمره ثقيل، وعذابه الدنيوي والأخروي لمن عصاه وبيل؛ فإن الخلق أهون شيء على الله، إذا أضاعوا أمره.
وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: لما فتحت قبرص، فرق بين أهلها، فبكى(14/412)
بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
وقد فصل الله في كتابه مما أوقع لمن ضيع أمره، ما فيه عبرة لأولي الاعتبار، وتبصرة لذوي الأبصار.
ومن الأمور المهمة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ; بل لا قوام للدين إلا بذلك، وقد قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآيات سورة [آل عمران آية: 104] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان 1 رواه مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة.
ففي هذه الآية الكريمة من الفوائد: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا يكفي في ذلك الأفراد; بل لا بد من عدد يحصل بهم المقصود، وتوجد منهم الكفاية.
__________
1 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ,5009 , وأبو داود: الصلاة 1140 والملاحم 4340 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1275 والفتن 4013 , وأحمد 3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92.(14/413)
وفي حديث أبي سعيد: وجوب ذلك على كل أحد بحسب هذه المراتب، لما يفيد قوله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا 1 من العموم.
فعلى إمام المسلمين - وفقه الله - أن يقيم في كل بلد من يقوم بهذا الشأن، ويلزم أئمة المساجد في كل بلد أن يسألوا العامة، عن ثلاثة الأصول المختصرة التي ألفها إمام هذه الدعوة، قدس الله روحه.
والله سبحانه وتعالى المسئول أن يمنّ علينا وعليكم بالتوبة النصوح، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
[التذكير بتقوى الله وتفصيل معناها وذكر أعظم المنكرات وأوجب الواجبات]
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، ثبتنا الله وإياهم على الإسلام; ووفقنا وإياهم: اجتناب المعاصي والآثام، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد قال الله تعالى:: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال: الدين النصيحة، ثلاثاً. قيل: لِمَن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم 2 فدلت الآية الكريمة والحديث على وجوب التذكير والنصيحة.
__________
1 مسلم: الإيمان 49 , والترمذي: الفتن 2172 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ,5009 , وأبو داود: الصلاة 1140 والملاحم 4340 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1275 والفتن 4013 , وأحمد 3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92.
2 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/414)
فالذي أوصي وأذكر وأنصح به جميع إخواني من المسلمين، ومن الولاة والعلماء وأهل الحسبة، وجميع الخاصة والعامة: أن يتقوه تعالى، فإنها هي وصية الله لعباده الأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} [سورة النساء آية: 131] .
وحقيقة تقوى الله: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وعقابه، وقاية تقيه ذلك، بفعل الطاعات وترك المعاصي.
فيجب على الولاة تقوى الله وخشيته، فيما ولّاهم الله عليه، من أمر دين المسلمين ودنياهم، كما يجب على العلماء تقوى الله تعالى وخشيته، فيما علمهم من العلم وآتاهم، والعمل بما منّ الله به عليهم من ذلك وحباهم; كما يجب على جميع من ولي أمرا من أمور المسلمين: تقوى الله وخشيته فيما ولي عليه، والنصح في ذلك والأمانة.
ويجب عليهم وعلى سائر المسلمين تقوى الله وخشيته في جميع ما تعبدوا به وخلقوا له، من فعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات; فأوجب الواجبات: إخلاص العمل لله وحده، وتجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأعظم المنكرات: الشرك بالله تعالى، والابتداع في الدين بشرع ما لم يأذن به الله.(14/415)
ومن الواجبات أيضا: تناصح المسلمين، وتذاكر بعضهم مع بعض، ومعاونة بعضهم لبعض، في القيام بفعل ما أوجب الله ورسوله، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله.
ومن أوجب الواجبات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على الوجه الشرعي، وإقامة الحدود والتعازير، على المنهج المرعي، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
فإن بالقيام بما فرض الله على العباد من فعل الطاعات، وترك المعاصي والفساد، صلاح البلاد والعباد، واستجلاب البركات، ودفع النقمات، وإجابة الدعوات، وإعطاء الطلبات، وقضاء الحاجات، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقد رأيتم ما أصاب المسلمين من الآفات في الزروع، ونقص الثمرات، ونزع البركات، وتأخر الغيث عن كثير من البلاد والفلوات، وذلك بارتكاب المعاصي والأرجاس، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وفي الحديث: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.(14/416)
فالواجب على المسلمين: التوبة إلى الله، وحقيقتها: الإقلاع من جميع الذنوب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة؛ وأن يحافظوا على أمر الدين، ومن أهمها الصلاة وهي عموده، كما في الحديث: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة 1.
وتركها تهاونا وتكاسلا كفر ناقل عن الملة، ومبيح للدم والمال، كما في الحديث: بين العبد والكفر ترك الصلاة 2. وفي الحديث الآخر: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها 3.
ومن الواجب للصلاة: أداؤها في جماعة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هم بالانطلاق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة في جماعة، فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، وقال: لولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقتها عليهم 4.
ومن أهمها أيضا: الزكاة، وهي حق المال، ويقاتل مانعها، للحديث السابق; وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؟ ، وفي حديث: وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا 5.
ومن الواجب أيضا: رد المظالم إلى أربابها وتحللهم
__________
1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237.
2 الترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 , والدارمي: الصلاة 1233.
3 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22.
4 أحمد 2/367.
5 ابن ماجه: الفتن 4019.(14/417)
منها؛ فإن حقوق العباد أمرها عظيم، وهي مبنية على المشاحّة والمضايقة، وهي الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا في الآخرة.
ومن فرائض الدين أيضا: اجتناب جميع المحرمات، من الزنى واللواط، وشرب المسكرات، والربا في المعاملات، والعقود المحرمة، والغش والخيانة في الأمانات، والتطفيف في المكيال والميزان، واحتكار الأقوات، واستعمال آلات الملاهي، ومخالطة الرجال بالنساء، وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية.
والهزء بشيء من أمور الدين - بل ذلك من الكفريات -، والسرقة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وأكل أموال الناس بالباطل، والكذب والخديعة للمسلم، والشحناء والتهاجر، والتباغض والتدابر، والبهت والغيبة والنميمة، والسخرية بالمسلمين، وإسبال الثياب، والكبر والحسد، وغير ذلك من المحرمات.
وينبغي أيضا للمسلمين: أن يقدموا بين يدي نجواهم، وسؤالهم خالقهم ومولاهم، أنواع الصدقات، والإحسان إلى ذوي العاهات، وتحليل المسلمين بعضهم بعضا، وإكثارهم الدعوات، وتضرعهم إلى فاطر السماوات والأرض، رجاء أن يعطيهم مطلوبهم، ويغفر ذنوبهم؛ فإنه تعالى وتقدس الجواد المنان.
هذا وأسأل الله الكريم أن يهدينا جميعا لما يرضيه،(14/418)
ويجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه، وينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأوطاننا بالوابل الهتان؛ ويمنّ علينا بمزيد التمسك بالسنة والقرآن، وأن يقمع الكفرة والملحدين؛ ويحفظ إمام المسلمين، ويديم له الظفر والتمكين، بالهدى ودين الحق المبين، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين.
[التذكير بآيات الله وأيامه والتحدث بنعمة الله والتحذير من أسباب نقمه]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، إلى من تبلغه هذه النصيحة من المسلمين، رزقني الله وإياهم الفقه في الدين، ومزيد التمسك بما بعث به سيد المرسلين، ومنّ عليّ وعليهم باقتفاء آثار الصدر الأول، من سلفنا المصلحين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن من أعظم فرائض الدين، التذكير بآيات الله، وأيامه في خلقه، والتحدث بنعمه، والتحذير من أسباب نقمه، لما في ذلك من أسباب حصول الخير الكثير، والسلامة من حلول العقوبات، والتغيير.
قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [سورة ق آية: 45] .
وقال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(14/419)
[سورة الضحى آية: 11] .
وقال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] .
وأعظم نعمة أنعم الله بها على عباده: بعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهما العلم النافع، والعمل الصالح; وأصل ذلك وأساسه: عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه.
فأشرقت ببعثته قلوب من استجابوا له بعد ظلامها، وخشعت ولانت بعد قسوتها، ونالوا بذلك من القوة بعد الضعف، والعز بعد الذل، والعلم بعد الجهل، ما فتحوا به البلاد وقلوب العباد؛ وعلت بذلك كلمة الله، وصارت كلمة الكفر إلى السفال والفشل والإذلال، وعزل سلطان الجاهلية والإشراك؛ فلله الحمد على ذلك.
إلا أن إبليس - أعاذنا الله منه - لشدة عداوته لبني الإنسان، وعظيم تغلغله بالكفر والطغيان، ومزيد جدِّه في الصدف عن طاعة الرحمن، وإن كان قد صدر منه ما صدر من اليأس، لم يدع الجد في إطفاء هذا النور، والتنفير عن الحق، والترغيب في أنواع الكفر والإلحاد والفجور، والدعوة إلى البدع، والإكثار من الأزّ إلى المعاصي والشرور، وبث الشبه والشهوات وألوان المغريات، على أيدي حزبه ومن استجابوا له من شياطين الإنس، ومن أنواع الخدع بزينة الدنيا وزخاريفها الفتانة، وضروب الشهوات.(14/420)
وشتى أسباب الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، من أجناس الملاهي وصنوف المسكرات حتى ثقل على القلوب سماع القرآن، وحصل التهاون بوعيده، وعدم الاهتمام بزواجره وتهديده، ولا سيما بعدما تصرمت أيام القرون المفضلة؛ فإنه قد اشتد الخطب، وانفتح باب الشر على مصراعيه، ولم يزل في مزيد.
وإن كان ربنا تبارك وتعالى قد منّ ببقاء أصل هذا النور، وتأييد هذا الحق، بما أجراه على أيدي علماء الصدق، ورثة الرسل، من تجديد هذا الدين، وإقامة حجج الله على عباده؛ ومع ذلك فالأمر على ما وصفته، من تأثير مساعي إبليس وجنوده على الأكثر، حتى اشتدت الكربة، وصار الدين في غاية من الغربة.
ولا سيما أزماننا هذه، التي صار فيها عند الأكثر المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ربا على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير؛ وطغى طوفان المادة، وأخفى غبار الشهوات والشبهات وضوح الجادة، وفشا الجهل.
وتكلم في الأمور الدينية من ليس لها بأهل، حتى صرّح من صرّح من جهلتهم، فيما يكتبونه وينشرونه، بمزيد الحث والتحريض على ما هو من أعظم ما يهدم الإسلام، وينسي أصوله العظام، وأصبحت القلوب إن لم تمت في غاية من أنواع الأمراض، مرض الجهل، ومرض الشهوة، ومرض(14/421)
الشبهة، حتى استولت عليها القسوة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فيا لها من أمراض ما أصعبها، مع الإعراض عن الأدوية المحمدية، وما أسهلها وما أخفها، وما أسرع برؤها متى عولجت بالدواء الذي بعث الله به طبيب القلوب الأكبر صلى الله عليه وسلم.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجهل مرضا، لما ينشأ عنه من عمى القلوب الذي هو المرض - أيّ مرض - وفيما بعث به صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة لهذه الأمراض، أنجع دواء، وأنفع شفاء.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 57] .
وقال تعالى:: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاّ خَسَاراً} [سورة الإسراء آية: 82] .
فهلم إخواني نداوي هذه الأمراض، بأدوية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتدبر أوامرهما ونواهيهما، ووعدهما ووعيدهما، وزواجرهما، ومذاكرة بعضنا مع بعض، وقيامنا لله مثنى وفرادى، لنتذكر ونتفكر، ونتناصح ونتآمر بالمعروف، ونتناهى عن المنكر، ونحب في الله ونبغض في الله، ونوالي في الله، ونعادي في الله، ونتعاون على البر والتقوى.
ونبحث في أدوية تلك الأمراض التي تحصيلها من أسهل(14/422)
شيء، عندما تحصل القلوب على الصدق في طلب هذا الدواء، والإقبال على الله في التماس السلامة من تلك الأدواء، قال تعالى:: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] .
هلّم إخواني نشخّص سائر أمراض قلوبنا، ونشخّص أدويتها، ونجاهد نفوسنا على معالجتها، من تلك الأمراض المهلكة، ويحض بعضنا بعضا، ويحذر كل منا نفسه وأخاه، من وبيل أخذ الله، وشديد عقابه الدنيوي والأخروي، ومن الإقامة على أسباب تغيير ما منّ الله به من التوحيد، وتحكيم الوحي المحمدي، والعز والتأييد، والأمن والصحة والهدوء: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [سورة الرعد آية: 11] .
وفي الأثر: أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل، أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون.
إخواني إن ربنا تبارك وتعالى لم يغير على قوم نوح بإهلاكهم بالطوفان، وسائر من أوقع بهم عقابه، وأحل بهم سطوته، إلا بعد أن غيروا بمعصيتهم رسله، وفسقهم عن طاعته، فاستوجبوا التدمير.
: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ(14/423)
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 16-17] .
هلم إخواني لإمساك بعضنا بيد بعض، وتنشيط بعضنا لبعض، إلى اليقظة والانتباه من هذه الرقدة، التي طالما انتهز عدونا فيها الفرصة.
هلم إخواني للتوبة النصوح إلى ربنا، ورجوعنا مما يسخطه إلى ما يرضيه قولا وفعلا، ومعاملة لبعضنا مع بعض بإخلاص وصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة آية: 119] .
وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التحريم آية: 8] .(14/424)
[حكم التعامل بالربا وذكر أدلة تحريمه وأنواعه وتوجيه النصح لمن يتعامل به]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين. من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من يراه من إخواننا المسلمين، جعلنا الله وإياهم ممن ينتفع يالمواعظ والنصائح، ويجتنب الخزي والندم والفضائح آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه قد بلغني، وتحققت أنه يوجد أناس يعاملون بالربا، في أشياء يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، فرأيت من الواجب المتعين علي نصيحة إخواني المسلمين في هذا الشأن، وموعظتهم، ليعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويرتدع ويتعظ المتهاون والمتغافل، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1.
إذا علم هذا، فالذي أوصيكم به ونفسي: تقوى الله تعالى، فإنها جماع الأمر كله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/425)
العرباض بن سارية: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة 1. وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين من يخافه ويحذره، وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه، وقاية تقيه منه ذلك، وهو: فعل طاعته، واجتناب معاصيه.
قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك; ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترص الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير. وقال الحسن، رحمه الله، المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض الله عليهم. انتهى.
فمن أعظم المعاصي والكبائر التي اجتنابها واتقاؤها من تقوى الله تعالى، التي أوجب على عباده: الربا في المبايعات، وقد ورد في الكتاب والسنة في التغليظ فيه والوعيد الشديد، ما لم يرد نظيره في غيره من الكبائر.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا
__________
1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95.(14/426)
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] .
وقال تعالى: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون َوَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-281] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات، قال: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات 1.
وفي صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب، رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى النهر رجل بين يديه حجارة; فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى
__________
1 البخاري: الوصايا 2767 , ومسلم: الإيمان 89 , والنسائي: الوصايا 3671 , وأبو داود: الوصايا 2874.(14/427)
الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا
وفي صحيح مسلم عن جابر، رضي الله عنهما، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء 1.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا ظهر الربا والزنى في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ظهر الزنى والربا في قرية إلا أذن الله بخرابها.
وبالجملة: فقد دلت النصوص على أن الربا من أعظم الكبائر والمحرمات، ومن أبلغ أسباب نزع البركات، وحلول النقمات، والقلة والذلة، ومحاربة فاطر الأرض والسماوات; فمن أنواعه - التي يتعاطاها من قلّ نصيبه من مخافة الله - البيع بالعينة، وهي: أن يبيع شيئا بثمن مؤجل، ثم يشتريه البائع، أو شريكه، أو وكيله من المشتري بأقل مما باعه به، وهذا لا يجوز، لما روى أحمد وأبو داود، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينْزعه حتى ترجعوا إلى دينكم 2.
ولما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته العالية قالت: دخلت أنا وأم ولد
__________
1 النسائي: الزينة 5103 , وأحمد 1/87.
2 أبو داود: البيوع 3462 , وأحمد 2/28 ,2/42 ,2/84.(14/428)
زيد بن أرقم، على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدا، فقالت لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب رواه أحمد.
ومن أنواع الربا: قلب الدين على المعسر، وله صور، منها: أن يكون للتاجر عند الفلاح المعسر دراهم حالة، ثمن مبيع أو غيره، فإذا طلبت منه اعتذر بالعسرة; فيقول له التاجر: أكتبها عليك بزاد؟ فيجيبه المعسر إلى ذلك، فيقلبها بزاد في ذمته; فهذا لا يجوز، ولا يصح، لأنه بيع دين بدين، وهو ممنوع عند عامة أهل العلم، لكونه من أنواع الربا، وهو: بيع الكالئ بالكالئ، المنهي عنه في الحديث، فإن معنى الكالئ بالكالئ: المؤخر بالمؤخر.
ولأنه سلم لم يقبض رأس ماله، ومن شرط الصحة للسلم: قبض رأس ماله في مجلس العقد، لحديث: من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم 1 وإنما سمي سلفا وسلما: لتسليم رأس المال وتقديمه، وقبضه في المجلس.
ولكن من الناس من لا يصرح بقلب الدين، مخافة الإنكار عليه، فيتوصل إلى غرضه الفاسد بالحيلة المحرمة، بإظهار عقد سلم، فيدفع إلى الفلاح دراهم هي رأس المال السلم في الظاهر، وبعدما يقبضها الفلاح، يردها إلى التاجر
__________
1 البخاري: السلم 2239 , ومسلم: المساقاة 1604 , والترمذي: البيوع 1311 , والنسائي: البيوع 4616 , وأبو داود: البيوع 3463 , وابن ماجه: التجارات 2280 , وأحمد 1/217 ,1/222 , والدارمي: البيوع 2583.(14/429)
عما في ذمته من الدراهم، ويسمون هذا تصحيحا، وهو باطل غير صحيح، إذ العبرة في الأشياء بحقائقها، فإن حقيقة هذا العقد، هو: قلب الدين المحرم; يوضح هذا: أنه لا يدع الفلاح يقوم بالدراهم من المجلس، وأنه لو يعلم أنه لا يوفيه منها، أو أنه يوفيه حقه من دون الكتب عليه، ما كتب عليه لعسرته وعدم ملاءته.
وأما إذا كان الفلاح مليا، يرغب كل أحد معاملته، فأسلم التاجر إليه دراهم في زاد، وبعدما قبضها الفلاح منه، دفعها إليه وفاء عن الدراهم الحالة التي له عليه، من غير شرط ولا مواطأة، فهذا لا بأس به، لكن الأولى: أن لا يقبضها منه إلا بعدما يذهب بها، وتكون عنده نحو يوم أو يومين احتياطا، وبعدا عن الشبهة; والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله، وصحبه وسلم.
[على جميع المسلمين اجتناب الربا وما حرم الله في جميع معاملاتهم]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، إلى من يراه من المسلمين، وعلى الأخص الأمراء والقضاة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإن ما تقدم أعلاه، هو نصيحة من الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، حفظه الله، فنرجو من جميع من اطلع عليها من المسلمين العمل بموجبها، ومخافة الله وتقواه في ذلك، وعلى جميع المسلمين اجتناب الربا في جميع معاملاتهم، وأن(14/430)
يتوب من كان يتعامل بما حرمه الله من البيع، وأن يرجع إلى رأس ماله.
فكل من عومل بالربا فعليه مراجعة صاحبه ليمتنع عن أخذ الربا منه، فإن فعل فالحمد لله، وإلا عليه مراجعة القاضي المنصوب من قبلنا. وعلى سائر قضاتنا الذين يرفع لهم أي: أمر في الربا أن يحكموا برأس المال لصاحبه، وأن يبطلوا ما زاد على ذلك من الربا في جميع أحكامهم. والأمر من ذمتنا في ذمتهم، ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق، وأن يمنعنا مما يغضبه، ويقربنا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، في 30 ربيع الأول سنة 1361 هـ.
[الوصية بتقوى الله وما يجب على ولاة الأمور وسائر المسلمين]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، إلى من تبلغه هذه النصيحة من المسلمين، سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم، ووفقني وإياهم للتمسك بشرائع الدين القويم، وجنبني وإياهم جميع الأسباب والوسائل المفضية بسالكها إلى سبيل الجحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالموجب لهذا، هو تذكيركم، والنصيحة لكم، امتثالا لقول الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقوله صلى الله عليه وسلم الدين(14/431)
النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم 1.
فأذكركم بما منّ الله به عليكم من التوحيد، ومعرفة دين الإسلام، والاهتداء بهديه، والاستضاءة بنوره، مع ما انضم إلى ذلك مما أنعم الله به من هذه الولاية الدينية العامة، التي ساد الأمن فيها وانتشر، وجرت ونفذت فيها أحكام الشريعة الإسلامية، على الكبير والصغير، والحر والعبد، فلله ربنا مزيد الحمد والثناء.
فاشكروا عباد الله هذه النعمة، واغتبطوا بها، وارعوها حق رعايتها، واقدروها حق قدرها، وتحدثوا بها كثيرا، وتواصوا فيما بينكم بالتمسك بما يحفظها، والتحذير من ارتكاب أسباب زوالها وفرارها.
فإن النعم إذا شكرت درّت وتزايدت وقرت، وإذا كفرت تناقصت وانمحقت وفرت، قال الله تبارك وتعالى:: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
وأنصحكم وأوصيكم بتقوى الله تبارك وتعالى، فإنها هي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى:: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة النساء آية: 131] . وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/432)
بينه وبين غضب الله وعقابه، وقاية تقيه ذلك، بفعل الطاعات، وترك المعاصي.
فيجب على الولاة: تقوى الله وخشيته فيما ولاهم الله عليه، من أمر دين المسلمين ودنياهم; كما يجب على العلماء: تقوى الله وخشيته، فيما علمهم الله من العلم وآتاهم، والعمل بما منّ الله عليهم من ذلك وحباهم، وكما يجب على جميع من ولي أمرا من أمور المسلمين: تقوى الله وخشيته فيما ولي عليه، والنصح في ذلك والأمانة.
ويجب عليهم وعلى سائر المسلمين: تقوى الله وخشيته، في جميع ما خلقوا له، وتعبدوا به، وعلقت أمانته في أعناقهم، من فعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات.
فأوجب الواجبات: إخلاص العمل لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وأنكر المنكرات: الشرك بالله، والابتداع في الدين بشرع ما لم يأذن يه الله.
ومن أهم فرائض الدين: الصلاة، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي عمود الدين، كما في الحديث: رأس هذا الأمر الإسلام، وعموده الصلاة 1. وتركها ولو تهاونا وكسلا، كفر ناقل عن الملة، ومبيح للدم والمال; كما في الحديث: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة 2.
وفيه أيضا: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن
__________
1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237.
2 الترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 , والدارمي: الصلاة 1233.(14/433)
تركها فقد كفر 1. وفيه أيضا: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها 2.
ومما يجب للصلاة: أداؤها في جماعة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه همّ بالانطلاق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة في جماعة، فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، وفي رواية: لولا ما فيها من النساء والذرية أحرقتها عليهم 3.
ومن أهم واجبات الدين أيضا: أداء الزكاة، وهي آكد أركان الإسلام، بعد الشهادتين والصلاة، وهي حق المال؛ ويقاتل مانعها للحديث المتقدم، وقال الخليفة الراشد، أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
ويلتزم فيها الإخلاص، وأن لا تعطى إلا مستقحها شرعا، والأفضل أن يخصر بصدقته أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم؛ أما إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها، أو لأقاربه الذين تلزمه مؤونتهم؛ فإنه لا تبرأ به ذمته، ولا يجزيه في تأديتها; وتدفع زكاة الأموال الظاهرة إلى الساعي، وتبرأ بذلك الذمة. وعلى الولاة في ذلك تقوى الله، بأن يصرفوا ما جبوه من ذلك مصارفه الشرعية.
ومن واجبات الدين: صيام شهر رمضان، وهو أحد
__________
1 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346.
2 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22.
3 أحمد 2/367.(14/434)
أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 183] .
وفي الحديث: من أفطر يوما من رمضان من غير عذر، لم يجزه صيام الدهر وإن صامه 1.
وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه عند قدوم رمضان، فيقول: قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه؛ تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين. فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم 2.
وينبغي للصائم أن يلزم في صيامه جانب الأدب والوقار، وأن يكون لسانه رطبا من ذكر الله، وتلاوة كتابه العزيز.
وعليه أن يحفظ لسانه ونفسه، عن كل ما يفسد عليه صيامه، من الغيبة والبهت والنميمة، وجميع أنواع المعاصي والفجور، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه 3.
وروى الإمام أحمد، عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن امرأتين صامتا، وأن رجلا قال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين قد صامتا، وإنهما قد كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت. ثم عاد - وأراه قال: بالهاجرة – قال:
__________
1 الترمذي: الصوم 723 , وأبو داود: الصوم 2396 , وابن ماجه: الصيام 1672 , وأحمد 2/458 ,2/470 , والدارمي: الصوم 1714.
2 النسائي: الصيام 2106 , وأحمد 2/230.
3 البخاري: الصوم 1903 , والترمذي: الصوم 707 , وأبو داود: الصوم 2362 , وابن ماجه: الصيام 1689 , وأحمد 2/452 ,2/505.(14/435)
يا نبي الله، إنهما والله ماتتا، أو كادتا أن تموتا.
قال: ادعهما، فجاءتا; فقال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما، حتى ملأت نصف القدح. ثم قال للأخرى: قيئي، فقاءت من قيح وصديد ولحم عبيط، حتى ملأت نصف القدح. ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس 1.
ومن واجبات الدين، وأحد أركان الإسلام: حج بيت الله الحرام على المستطيع، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 97] .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج، فحجوا 2 الحديث.
وعلى الحاج: أن يجتنب في حجه الرفث والفسوق والمراء، وأن لا يقصد بحجه رياء ولا سمعة، وأن يطيب نفقته في الحج، وأن لا تكون من كسب حرام؛ فبذلك يتم بر حجه، ويتحقق له الثواب الجزيل وهو الجنة، كما في الحديث: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة 3.
وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن كثيرا ممن يحج لا يهتم من هذه الفريضة، فلا يتعلم أحكامها، ولا يسأل أهل
__________
1 أحمد 5/431.
2 مسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وأحمد 2/508.
3 البخاري: الحج 1773 , ومسلم: الحج 1349 , والترمذي: الحج 933 , والنسائي: مناسك الحج 2622 ,2629 , وابن ماجه: المناسك 2888 , وأحمد 2/246 ,2/461 ,2/462 , ومالك: الحج 776.(14/436)
العلم عن ذلك; وقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] .
ولهذا يقع من كثير من هؤلاء الإخلال ببعض الواجبات، وفعل بعض المحظورات، مما قد يفسد حجه من أصله، أو ينقصه التنقيص الذي يأثم به.
ومن واجبات الدين: تناصح المسلمين، وتذاكر بعضهم مع بعض، في القيام بفعل ما أمر الله به ورسوله، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله.
ومن أوجب الواجبات: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على الوجه الشرعي، وإقامة الحدود، والتعازير على المنهج الشرعي، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقال صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا; أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعن من قبلكم 1.
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ
__________
1 أبو داود: الملاحم 4336.(14/437)
بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] .
فإن بالقيام بما فرض الله على العباد من فعل الطاعات، وترك المعاصي، والفساد، صلاح البلاد والعباد، واستجلاب للبركات ودفع للنقمات، وسبب إجابة الدعوات، قال الله تعالى:: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الآية} [سورة المائدة آية: 66] .
وبالجملة: فكل فساد ونقص في العلوم والأعمال، والعقول والسياسة، والمعايش، وغير ذلك، فسببه المعاصي، قال الله تعالى:: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
ومن الواجب أيضا رد المظالم إلى أربابها، أو تحللهم منها; فإن حقوق العباد أمرها عظيم، وهي مبنية على المشاحة والمضايقة; وهي الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا في الآخرة.(14/438)
ومن فرائض الدين، أيضا: اجتناب المحرمات، من الزنى، واللواط، وشرب المسكرات، والربا في المعاملات، والعقود المحرمة، والغش والخيانة في الأمانات، والتطفيف في المكيال والميزان، واستعمال آلات الملاهي، ومخالطة الرجال بالنساء، وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، والسرقة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل مال اليتيم، والتهاجر، والتباغض، والتدابر، والبهت، والغيبة، والكذب، والخديعة للمسلم، والشحناء والسخرية بالمسلمين، وإسبال الثياب، والكبر والحسد، وغير ذلك من المحرمات.
ومنها أيضا: الاستهزاء بشيء من أمور الدين، بل ذلك من الكفريات.
ومن المحرمات أيضا: التشبه بالكفار في أعمالهم، وزيهم من لباس وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: ومن تشبه بقوم فهو منهم 1.
ومن أعظم الفروض، وأهم ما يهتم به: اعتناء المسلمين بنشئهم، وأن يوجهوهم التوجيه الديني النافع لهم، في دنياهم وأخراهم، وأن يأخذوهم بالتزام أصولهم الدينية، التي هي التمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقاد ما اعتقده السلف الصالح، مما نالوا به العزة والكرامة، وحازوا به شرف الدنيا والآخرة، وأن يغلقوا عنهم جميع الأبواب،
__________
1 أبو داود: اللباس 4031.(14/439)
العائدة بفساد عقائدهم وأخلاقهم.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة التحريم آية: 6] .
هذا، وأسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق إمام المسلمين، وأن يأخذ بنواصينا جميعا، وأن يتولانا بلطفه، ويشملنا بعفوه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا; 14/9/1373 هـ.
[النصح بفريضة الزكاة والحكمة في تشريعها والأشياء التي تجب فيها]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، إلى من يبلغه من المسلمين، وفقني الله وإياهم إلى صراطه المستقيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسول الله وخاتم النبيين، نصح أمته، وقال فيما صح عنه: الدين النصيحة 1 وأنزل الله عليه:: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
ثم إن الباعث لكتابة هذه الكلمة، هو: النصح والتذكير
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/440)
بفريضة الزكاة، التي تساهل بها بعض الناس، وغفلوا عنها، مشتغلين بتدبير أموالهم عن فريضة من فرائض الدين، وركن من أركان الإسلام، يكفر جاحده، وتقاتل الطائفة الممتنعة من أدائه.
ولقد ذكر الله في كتابه الزكاة مقرونة بالصلاة، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة آية: 43] .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
وأمر تعالى رسوله بأخذها، حيث يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة آية: 103] .
وجاء الوعيد الشديد على من بخل بها وقصر فيها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] .
وفي الحديث الصحيح: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد 1.
وفي الصحيح: من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مُثِّل
__________
1 مسلم: الزكاة 987 , وأحمد 2/262.(14/441)
له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان يطوق به يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنْزك 1.
ولا يخفى ما منّ الله به على عباده، من نعمة المال، ولا سيما في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه المصالح والخيرات، واتسعت فيه أسباب الرزق، وتضخمت فيه أموال كثير من الناس؛ وما الأموال إلا ودائع في أيدي الأغنياء، وفتنة وامتحان لهم من الله، لينظر أيشكرون أم يكفرون. ومن شكرها وقيد النعمة فيها: أداء زكاتها، والصدقة على الفقراء والمساكين، والإنفاق مما استخلفهم الله فيه، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الحديد آية: 7] .
ومن الحكمة في تشريع الزكاة: مواساة الأغيناء لإخوانهم الفقراء؛ فلو قام الأغنياء بهذه الفريضة حق القيام، وصرفوا الزكاة مصرفها الشرعي، لحصل للفقراء والمساكين ما يكفيهم، ولا يحتاجون معه إلى غيره.
أما إذا منع الأغيناء ما أوجب الله عليهم من فريضة الزكاة، فإنه ينشأ من هذا أضرار ومفاسد كثيرة، من تعريض العبد نفسه للعذاب العظيم، وكراهة الله والناس له، وتسبب لإهلاك المال، وانتزاع البركة منه، ففي الحديث: ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته ومن ظلم للفقراء والمساكين، وإيصال الضرر إليهم، ودعوة
__________
1 البخاري: الزكاة 1403 , والنسائي: الزكاة 2482 , وأحمد 2/276 ,2/355.(14/442)
لهم إلى ارتكاب شتى الحيل، في الحصول على لقمة العيش، والتعرض للوقوف في المواقف الحرجة، والإلحاح في السؤال، بل ربما اضطرتهم فاقتهم وشدة الحاجة إلى السرقة، والإقدام على بعض الجرائم، لما يقاسونه من آلام الفقر والمسكنة التي لو أحس بها الغني يوما من الدهر، لتغيرت نظرته إليهم، ولعرف عظيم نعمة الله عليه.
وإذا كان في الزكاة مصلحة للفقراء والمساكين، وبهم ضرورة إليها، فإن فيها مصلحة لأرباب الأموال، وبهم ضرورة إلى أدائها، من تطهير وتزكية لهم، وبعد عن البخل المذموم، وقرب من فعل الكرم والجود، واستجلاب للبركة والزيادة والنماء، وحفظ للمال، ودفع للشرور عنه.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره رواه الطبراني، وابن خزيمة في صحيحه; وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرنى كيف أصنع؟ وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق المسكين، والجار، والسائل 1 رواه أحمد.
وعن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع رواه أبو داود في
__________
1 أحمد 3/136.(14/443)
المراسيل; وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لمن جاء بالزكاة، فتارة يقول: اللهم بارك له وتارة يقول: اللهم صل عليه. هذا وقد تولى الله قسمة الزكاة بنفسه، وجزأها إلى ثمانية أجزاء.
أما الأشياء التي تجب فيها الزكاة، فهي: أربعة أصناف: الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة، والذهب والفضة; وقد تجب في غيرهن. ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود، لا تجب الزكاة فيما دونه.
فنصاب الحبوب والثمار: خمسة أوسق; وأدنى نصاب الغنم: أربعون شاة; وأدنى نصاب الإبل: خمس; وأدنى نصاب البقر: ثلاثون; ونصاب الفضة: مائتا درهم; ونصاب الذهب: عشرون مثقالا.
فإذا ملك الإنسان نصابا من الذهب، وقدره: أحد عشر جنيها ونصف تقريبا من الجنيهات السعودية، ومثله من الجنيه الإفرنجي; أو ملك نصابا من الفضة وقدره: سته وخمسون ريالا عربيا تقريبا، وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة، ربع العشر.
وكذلك الأوراق التي كثرت في أيدي الناس، وصار التعامل بها أكثر من غيرها، فإذا ملك الإنسان منها ما يقابل نصابا من الفضة، وحال عليها الحول، فإنه يخرج منها زكاتها: ربع عشرها.(14/444)
أما العروض، وهي: ما اشتراها الإنسان للربح، فإنها تقوم في آخر العام، ويخرج ربع عشر قيمتها; وإذا كان للإنسان دين على أحد، فإنه يزكيه إذا قبضه، فإن كان الدين على مليء، فالأفضل أن يزكيه عند رأس الحول، وله أن يؤخر زكاته حتى يقبضه.
ويجب إخراج الزكاة في بلد المال إلا لعذر شرعي، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب; ولا يجوز صرفها لغير أهلها الثمانية، الذين ذكرهم الله بقوله:: {نَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] .
والزكاة حق الله فلا تجوز المحاباة بها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسة نفعا أو يدفع ضرا; فاتقوا الله أيها المسلمون، وتذكروا ما أوجب الله عليكم من الزكاة، وما يقاسيه الفقراء والمساكين، من ويلات الفقر والفاقة، وبادروا إلى إخراج زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، خالصة لوجه الله، لا منّ فيها ولا أذى، ولا رياء ولا سمعة.
واغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان، قال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] . جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونفعنا بهذه الذكرى، وهدانا جميعا إلى طريق الحق(14/445)
والخير والفلاح، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، في 10 / 9 /1375 هـ.
[تحريم الغش والكتمان وذكر أنواع من المعاصي وكونها سبب كل نقص]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا جميعا موجبات المخازي والفضائح، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الله تبارك وتعالى، قد أوجب النصيحة والبيان، وحرّم الغش والكتمان، قال الله تعالى:: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة ... 1 إلى آخره.
وقد أمر الله بالتذكير، وأخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين فقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5.] ، وهذا يشمل التذكير بالنصوص القرآنية، وصحاح الأحاديث النبوية، المشتملة على الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسله، والتحذير من معصيته ومعصية رسله.
وبيان ما في امتثال أوامره، وترك زواجره، من حصول الخيرات، وحلول البركات، واندفاع النقمات، وما في
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/446)
معصيته تعالى ومخالفة أمره، من محق البركات في العلوم، والأعمال، والأعمار، والمكاسب وجميع التصرفات.
ويشمل أيضا: التذكير بأيام الله تعالى في خلقه، وما أحل بمن عصوا رسله من المثلات، وسائر ألوان الأخذ والعقوبات، مما يكون من أعظم واعظ، لمن في قلبه أدنى حياة.
إذا عرف ذلك فإن المعاصي هي أسباب كل نقص وشر وفساد، في الأديان والبلاد والعباد، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] ، فما أهبط الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب، إلا معصيتهما بأكلهما لقمة من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها.
وما أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، غير معصيته بامتناعه من سجدة واحدة أن يسجدها. وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم، حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد، حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟.
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح(14/447)
كلابهم، ثم قلبها عليهم وأتبعوا بحجارة من سجيل؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى نار جهنم؟ فأبدانهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق، إلا المعاصي؛ فإنها هي التي دمرت عليهم، وأصارتهم إلى سوء عاقبة في الدنيا والآخرة.
ومن ثمرات المعاصي: حرمان العلم، وحرمان الرزق، كما في المسند إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه 1.
ومنها: وحشة يجدها العبد بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، لا سيما أهل الخير منهم، وتعسير أموره؛ فلا يتوجه لأمر إلا وجده مغلقا، أو متعسرا عليه.
ومنها: حرمان الطاعة.
ومنها: ظلمة القلب وجبنه ووهنه، ووهن البدن، وتقصير العمر، ومحق بركته، فإن البر كما يزيد بالعمر، فإن الفجور ينقصه.
ومنها: انسلاخ القلب من استقباحها، فتصير له عادة؛ والمعصية سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وتورث الذل ولا بد، وتفسد العقل، وإذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، وتدخل العبد تحت لعنة الله؛ وتحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهواء، والزروع والثمار، والمساكن والأشجار.
__________
1 أحمد 5/280.(14/448)
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] ، قال مجاهد: إذا تولى سعى في الأرض بالتعدي والظلم، فيحبس الله بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد; وقال ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [سورة الروم آية: 41] ، قال: الذنوب; ولا منافاة بين القولين، فإن الآية تشمل هذا وهذا.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين: خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها، إلا ابتلوا بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال، إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طفف قوم كيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا(14/449)
منعهم الله عز وجل القطر. وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا، إلا سلط الله عليهم الجنون.
ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضا إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم.
ولا شيء يستجلب به الرزق، بل وكل خير، ويستدفع به كل سوء وشر، غير التوبة إليه سبحانه، بالرجوع عما يكرهه من المعاصي، إلى ما يحبه من الطاعة، بأن يحقق العباد توحيدهم، ويباعدوا جميع ما ينافيه أو ينقصه، أو يقدح فيه؛ ويحافظوا على فرائض دينهم، من إقامة الصلوات الخمس في جماعة، وأداء الزكاة وغير ذلك.
ويجتنبوا محارمه من أنواع الفواحش، وأجناس المسكرات والمخدرات، والمفترات، والربا في المعاملات، والخيانة في الأمانات، واستعمال أنواع الملهيات، الصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، وكافة المحرمات.
فعلى المسلمين عموما وخصوصا: التوبة إلى ربهم، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، فيما بينهم، وتعاون بعضهم مع بعض، فيما يصلح دينهم الذي به صلاح معاشهم، والفوز في معادهم.(14/450)
هذا وأسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحفظ إمام المسلمين من كل نواحيه، ويزيده من التوفيق لمحاب الله ومراضيه، ويقمع به كل فساد، ويصلح بمساعيه البلاد والعباد.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم; حرر في 10 / 3 /1376 هـ.
[حث المسلمين على إخراج الزكاة وما تجب فيه وبيان الوعيد على تركها وحكم صدقة التطوع]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من تبلغه هذه النصيحة من إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وجنبنا وإياهم سبل أصحاب الجحيم، ووفقنا جميعا للتمسك بشرائع الدين القويم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذه الكلمة، هو النصيحة والشفقة، وإقامة الحجة، والإعذار من كتمان ما يلزم بيانه للناس. ومن أهم ذلك في هذه الأيام: بيان ما يلزم من أحكام الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام، وثانية الصلاة وقرينتها، قرنها الله تعالى بالصلاة في نيف وثلاثين موضعا من كتابه العزيز، لكون هذه الأيام غالبا وقت إخراج الزكاة، ولمزيتها بمضاعفة الحسنات.(14/451)
وورد الوعيد الشديد على تركها، والتغليظ في منعها، قال الله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 180] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 34-35] .
وهذا الوعيد مفسر بالحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهمزمتيه - يعني شدقيه - ويقول: أنا مالك، أنا كنْزك 1، ثم تلا هذه الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 180] .
وقوله تعالى:: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 35] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره 2.
__________
1 البخاري: الزكاة 1403 , والنسائي: الزكاة 2482 , وأحمد 2/355.
2 مسلم: الزكاة 987.(14/452)
والآيات والأحاديث في التغليظ في مانع الزكاة وعقوبته كثيرة معروفة.
والأموال التي تجب فيها الزكاة، أنواع:
أحدها: سائمة بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم.
الثاني: الخارج من الأرض، من الحبوب، والثمار، وما يلحق بها كالعسل.
الثالث: الأثمان، وهي: النقود من الذهب والفضة، وما يقوم مقامهما من فلوس، وأوراق نقدية، وكذلك حلي الذهب والفضة، إذا بلغ نصابا بنفسه، أو بما يضم إليه من جنسه، أو في حكمه، ولم يكن معدا للاستعمال، ولا للعارية. وأقل نصاب الذهب: عشرون مثقالا; وبالجنيه السعودي، وكذلك الإفرنجي: أحد عشر جنيها ونصف جنيه تقريبا; وأقل نصاب الفضة: مائتا درهم، وبالريال العربي: ستة وخمسون ريالا; وبالفرانسي: ثلاثة وعشرون ريالا تقريبا.
الرابع: عروض التجارة، وهي: كل ما أعد للبيع أو الشراء، لأجل الربح والتكسب، من جميع سلع التجارة، كالمجوهرات ونحوها، وكذلك السيارات، والمكائن، وغيرها من المنقولات، والثابتات، والعقارات، من أراضٍ وبيوت ونحوها، إذا تملكها بفعله بنية التجارة، فإنها تعتبر سلعة تجارة، ويلزمه أن يقومها عند الحول، بما تساوي من(14/453)
الثمن لدى أهل الصنف، ولا ينظر إلى رأس مالها الذي اشتراها به.
وعليه أن يزكي قيمتها عند الحول، إذا بلغت نصاب الذهب أو الفضة، لعموم حديث سمرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع 1 رواه أبو داود.
كما عليه أن يزكي الديون التي له في ذمم الناس، إذا قبضها، وإذا استفاد مالا مستقلا خارجا عن ربح التجارة، كالأجرة والراتب ونحوهما، فإنه يبتدئ له حولا من حين استفاده، ويزكيه إذا تم حوله.
وأما مصرفه، فقد بيّنه الله تعالى: بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 60] .
فلا يجوز صرفها إلى غير هؤلاء الأصناف الثمانية، كبناء المساجد والمدارس، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف، وكتب العلم، وغير ذلك من جهة الخير؛ ويجب إخراجها عند تمام الحول فورا، إلا لعذر شرعي.
ولا يدفعها إلا لمن يغلب على الظن أنه من أهلها، لأنها لا تحل لغني، ولا لقوي مكتسب 2 كما في حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، رواه أبو داود، والنسائي،
__________
1 أبو داود: الزكاة 1562.
2 النسائي: الزكاة 2598 , وأبو داود: الزكاة 1633 , وأحمد 5/362.(14/454)
فليتق الله من لا تحل له، أن يأخذ منها شيئا، فإنها سحت، ومحق لما في يده قبلها من المال.
ولا يجزئ إخراجها إلا بنية، سواء أخرجها بنفسه أو بوكيله، وسواء دفعها إلى مستحقها أو إلى نائب الإمام، ليفرقها على مستحقيها، لحديث: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى 1. ولا يجوز دفعها إلى أصوله، أو إلى فروعه، أو زوجته، أو إلى أحد ممن تلزمه نفقته، ولا يحابي بها قريبه، أو يقي بها ماله، ولا يدفع بها مذمة.
وينبغي للإنسان الاستكثار من صدقة التطوع أيضا، في هذا الشهر الكريم، والموسم العظيم، لحديث أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ فقال: صدقة في رمضان 2 رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل العظيم 3 متفق عليه.
وعن أنس مرفوعا: إن الصدقة لتطفي غضب الرب، وتدفع ميتة السوء 4. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة معروفة.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يشملنا وإياكم بعفوه ومغفرته ورحمته، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويؤيد إمام المسلمين، ويأخذ بناصيته لما فيه الخير والصلاح، والسلام عليكم; 10 / 9 / 1376 هـ.
__________
1 البخاري: الأيمان والنذور 6689 والحيل 6953 , ومسلم: الإمارة 1907 , والترمذي: فضائل الجهاد 1647 , والنسائي: الطلاق 3437 والأيمان والنذور 3794 , وأبو داود: الطلاق 2201 , وابن ماجه: الزهد 4227 , وأحمد 1/43.
2 الترمذي: الزكاة 663.
3 البخاري: الزكاة 1410 , ومسلم: الزكاة 1014 , والترمذي: الزكاة 661 , والنسائي: الزكاة 2525 , وابن ماجه: الزكاة 1842 , وأحمد 2/331 , ومالك: الجامع 1874 , والدارمي: الزكاة 1675.
4 الترمذي: الزكاة 664.(14/455)
[التحذير من المعاملات الربوية وبيان ما يجب على الولاة والعلماء وأهل الحسبة في ذلك]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى من يبلغه كتابي هذا من إخواننا المسلمين، وفقنا الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبنا وإياهم أسباب الندم والفضائح، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالباعث لهذا الكتاب، هو: نصيحتكم، والشفقة عليكم، وتحذيركم مما وقع فيه الكثير من الناس; وهو: تعاطي المعاملات الربوية، والتعامل بها، وقد حرم الله تبارك وتعالى على عباده ذلك; وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبقات.
قال الله تعالى: في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق، رواه ابن أبي حاتم.(14/456)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278 - 281] .
وقال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين َوَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على التحريم والوعيد الشديد على من فعله.
وقد جاءت السنة الصحيحة بالزجر عنه والتحذير، وإيضاح ما أجمل منه بالبيان والتفسير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قا: ل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات 1 رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
وعن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء، 2 رواه مسلم; وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى
__________
1 البخاري: الوصايا 2767 , ومسلم: الإيمان 89 , والنسائي: الوصايا 3671 , وأبو داود: الوصايا 2874.
2 النسائي: الزينة 5103 , وأحمد 1/87.(14/457)
أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما أراد أن يخرج، رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان; فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا 1 رواه البخاري في صحيحه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشتري الثمر حتى تطعم; وقال: إذا ظهر الزنى والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ; رواه الحاكم، وقال صحيح الإسناد; وفي حديث الإسراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ليلة أسري به، وإذا بقوم لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم؟ فقيل: هؤلاء أكلة الربا ; رواه البيهقي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه; وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم رواه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه; وروى أيضا عن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ من المال، بحلال أو حرام 2 رواه البخاري، ولفظه: لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام 3.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال
__________
1 البخاري: البيوع 2085.
2 البخاري: البيوع 2083 , والنسائي: البيوع 4454 , وأحمد 2/435 , والدارمي: البيوع 2536.
3 البخاري: البيوع 2059.(14/458)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز 1 رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وله: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء 2.
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا روح بن عبادة، قال حدثنا حيان بن عبد الله العدوي - وكان ثقة - قال سألت أبا مجلز عن الصرف؟ فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا، ما كان منه يدا بيد، فلقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: إلى متى؟! ألا تتقي الله حتى متى تؤكل الناس الربا؟ أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو عند زوجته أم سلمة -: إني لأشتهي تمر عجوة، فبعث بصاعين، فأُتي بصاع عجوة.
فقال: من أين لكم هذا؟ فأخبروه، فقال: ردّوه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، عينا بعين، مثلا بمثل، فما زاد فهو ربا، ثم قال: وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا; فقال ابن عباس: جزاك الله خيرا يا أبا سعيد، ذكرتني أمرا كنت نسيته، فأستغفر الله وأتوب إليه قال: فكان ينهى عنه بعد.
__________
1 البخاري: البيوع 2177 , ومسلم: المساقاة 1584 , والترمذي: البيوع 1241 , والنسائي: البيوع 4570 , وأحمد 3/4 ,3/53 ,3/61 ,3/73 , ومالك: البيوع 1324.
2 مسلم: المساقاة 1584 , والنسائي: البيوع 4565 , وأحمد 3/49 ,3/66.(14/459)
فتضمنت: هذه النصوص: تحريم الربا بجميع أنواعه، أنه من الكبائر، وأن متعاطيه محارب الله ورسوله; فمن أنواعه: بيع الجنس من هذه الأجناس الستة المتقدمة في الأحاديث ونحوها بجنسه نسيئة، أو غير معلوم المساواة للآخر، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل; ويدخل في ذلك: بيع الدراهم الفضية بجنسها متفاضلا أو غائبا مطلقا، وبيع الأوراق السعودية بعضها ببعض، أو بالريالات الفضية متفاضلا أو غائبا مطلقا.
وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحلال والحرام بقوله: مثلا بمثل، يدا بيد، سواء بسواء، عينا بعين 1، وأكد ذلك بقوله: فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء 2.
ومن أنواعه المحرمة بإجماع المسلمين: ما يفعله بعض الناس - والعياذ بالله - وذلك أنه إذا كان له على آخر دين، وحل الأجل، قال للذي عليه الحق: إما أن تقضي، وإلا يبقى عندك بزيادة كذا وكذا، فهذا هو ربا الجاهلية، وذلك: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي، فأوفاه، وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال.
ومن ذلك: أن يعطي الرجل الآخر ألفا على أن يأخذ منه بعد سنة ألفا ومائة، وعلى أن يأخذ منه كل سنه مائة، والألف في ذمته بحاله، كما يفعله كثير من الناس - والعياذ
__________
1 البخاري: البيوع 2176 , ومسلم: المساقاة 1584 , والنسائي: البيوع 4565 , وأحمد 3/97.
2 مسلم: المساقاة 1584 , والنسائي: البيوع 4565 , وأحمد 3/49 ,3/66 ,3/97.(14/460)
بالله - وذلك لما تقدم من النصوص، ولما روي عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، ولا الدينار بالدينارين، إني أخاف عليكم الرما 1 رواه أحمد، والرما، هو: الربا.
ومنها: بيع العينة الوارد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينْزعه حتى تراجعوا دينكم 2 رواه أحمد، وأبو داود; وهي: أن يبيع سلعة بنسيئة، أو بقيمة لم تقبض، ثم يشتريها بثمن أقل مما باعها به، فإن فعل بطل البيع الثاني، ولو كان بعد حلول أجله، قال الشيخ تقي الدين: إن قصد بالعقد الأول الثاني بطل الأول والثاني جميعا.
ومن ذلك: ما يقع في البنوك، مثل أن يقترض الرجل من البنك مائة على أن يدفع له مع المائة زيادة ستة ريالات، أو أقل، أو أكثر; ومثل: أن يأخذ صاحب البنك من الرجل الدراهم، ويعطيه ربحا عن بقائها في ذمته خمسة ريالات، أو أقل أو أكثر، وهذا من أظهر أنواع الربا، وعين المحادة لله ورسوله.
فالواجب على ولاة الأمور، والعلماء، وأهل الحسبة وفقهم الله بيان غلظ تحريم ذلك، وإنكاره، وحسم مواده، واجتثاثها من أصولها، وعقوبة كل من ثبت عنه شيء
__________
1 مسلم: المساقاة 1585.
2 أبو داود: البيوع 3462 , وأحمد 2/84.(14/461)
من ذلك، وتغليظ العقوبة في حق من يتكرر منه ذلك.
كما أن على المرابي أن يتوب إلى الله تعالى، وله رأس ماله فقط، لا يَظلِم ولا يُظلَم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279] .
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالف أمرك; وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[بيان تحريم الربا في مواضع من القرآن والسنة وذكر أمثلة لذلك والحث على التوبة]
وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، إلى من يراه ويسمعه من المسلمين، وفقنا الله وإياهم لاتباع الحق المبين، والتمسك بسنة سيد المرسلين، آمين.
أما بعد: فاعلموا أن الله تبارك وتعالى حرم الربا في المعاملات، وأوضح تحريمه في مواضع كثيرة من كتابه، وأذن بحرب من لم يلتزم حكمه فيه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السبع الموبقات، التي تمحق البركات، ويسعى بها صاحبها في حرب الله تعالى.(14/462)
وقد توعد الله سبحانه وتعالى المعامل فية بقوله.: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275] ، أي: أنه يكون يوم القيامة كالمجنون: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [سورة البقرة آية: 275-276] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] .
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَوَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 130-132] .
فتدبروا ما في هذه الآيات من الوعيد الشديد إن كنتم تعقلون، والآيات في هذا كثيرة; وفي الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه 1، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، بحلال أم بحرام 2.
__________
1 النسائي: الزينة 5103 , وأحمد 1/87.
2 البخاري: البيوع 2083 , والنسائي: البيوع 4454 , وأحمد 2/435 ,2/452 ,2/505 , والدارمي: البيوع 2536.(14/463)
وعنه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي نهرا من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رماه بحجر في فيه، فيرجع كما كان; فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: هذا الذي رأيته في النهر آكل الربا 1
وفي الحديث: إذا ظهر الزنى والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وفي الحديث: يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا; قيل له: الناس كلهم؟ قال: من لم يأكله منهم ناله من غباره 2.
وما ورد في ذلك من أحاديث الوعيد أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر; وأكلة الربا يأتون يوم القيامة أجوافهم مثل البيوت يتعثرون بها.
والربا عار وشنار ومحق على صاحبه ودمار، وآكله مجرب بالإفلاس وسوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وقد عمت البلوى في هذه الأزمان بالمعاملات الربوية.
فمن ذلك: ما يفعله كثير من الناس من أخذ الريال العربي عن الفرنسي، بأسعارها وتحاويلها، هذا عن هذا، بزيادته ونقصه، وكذلك المصارفة بين الريال العربي والفرنسي، ومثله: دفعهم الريال الفرنسي عن الروبية،
__________
1 البخاري: البيوع 2085 , وأحمد 5/8 ,5/10 ,5/14.
2 النسائي: البيوع 4455 , وأبو داود: البيوع 3331 , وابن ماجه: التجارات 2278 , وأحمد 2/494.(14/464)
والروبية عن الفرنسي بأسعارها وتحاويلها، هذا عن هذا بأسعارها، وهذا كله من صريح الربا.
لما روى الترمذي بسنده إلى أبي سعيد أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - سَمِعَتْهُ أذناي هاتان ووعاه قلبي - يقول: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، لا يشف بعضه على بعض، ولا تبيعوا غائبا منه بناجز 1 قال: والعمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول عامة الفقهاء.
فهذا الحديث وما في معناه: دليل قاطع في تحريم التفاضل في بيع النقد بالنقد إذا اتحد الجنس، والريال العربي والفرنسي، متحدان في الجنس متفاضلان في الوزن الذي هو المعيار الشرعي في معرفة التفاضل والمماثلة، فبيع أحدهما بالآخر ربا، وهو محرم بالكتاب والسنة.
ومن ذلك أخذ المصالح على القرض، قال صلى الله عليه وسلم: كل قرض جر نفعا فهو ربا. والسلف على ثلاثة أوجه: فسلف تريد به وجه الله، وسلف تريد به وجه صاحبك، وسلف تسلفه طلبا لنفع نفسك فهو ربا.
ومن ذلك: الذين يحتالون على الربا، ببيع قماش أو نحوه; يبيع مثلا ما يساوي مائة بمائة وخمسين إلى أجل، ثم يشتريه هو أو وكيله بمائة، والله يعلم أنهم ما أرادوا إلا الربا، فهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 9] . فمن باع سلعة إلى
__________
1 البخاري: البيوع 2177 , ومسلم: المساقاة 1584 , والترمذي: البيوع 1241 , والنسائي: البيوع 4570 , وأحمد 3/4 ,3/51 ,3/53 ,3/61 ,3/73 , ومالك: البيوع 1324.(14/465)
أجل حرم عليه شراؤها بأقل مما باعها به.
ومن ذلك: قلب الدين على المعسر إذا لم يجد وفاء، باع عليه بضاعة ما يساوي مائة بمائة وخمسين، ثم يأمر التاجر الفقير المعسر ببيع هذه البضاعة، ويأخذ التاجر ثمنها، وهذه حيلة على الربا.
ومنها - والعياذ بالله -: من يكون له الدين، فإذا عجز المدين عن الوفاء، زاد في الدين، وزاده في الأجل، وهذا فعل الجاهلية الأولى، الذي جاء الشرع بإبطاله. ومنهم: مَن يكون له الحب دينا، فإذا عجز المدين عن الوفاء، باعه عليه بدراهم بسعر وقته، وهذا جار كثير، وهو حرام وبيع فاسد.
ومن ذلك: الرهون الفاسدة التي تؤكل مصالحها ظلما وعدوانا; وذلك أن التاجر يعطي الفقير الدراهم، ويرهن شيئا من أرضه يستغلها ما دامت الدراهم بذمة الفقير، ومتى حصل الفقير ما يسد به الدين دفعه كاملا، وأخذ أرضه؛ والتاجر في هذه المدة يأكل غلة الأرض، وهذا من أعظم أنواع الربا المنهي عنه.
ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس من الحيلة في بيع الإقالة، يبيع الفقير الأرض التي تساوي ثلاثة آلاف مثلا بألف، بشرط الإقالة إلى سنتين أو ثلاث، أو أقل، أو أكثر؛ والبائع ليس له قصد في البيع، والمشتري يعلم ذلك، وإنما جعلا هذا البيع حيلة في حل الثمرة للمشتري، وهذا(14/466)
شيء باطل، وحيلة محرمة، لا تحل الثمرة للمشتري ولو رضي البائع.
ومن ذلك: ما يفعله كثير من التجار، يعطي مالا لآخر يبيع به ويشتري، ويشترط صاحب المال شيئا معينا في كل أسبوع، أو في كل شهر مصلحة لماله، وهذا حرام وربا صريح.
ومن ذلك ما يفعله بعضهم: إذا أعطى لرجل مالا يبيع به ويشتري، شرط عليه نصف الخسارة، وهذا لا يجوز، وشرطه فاسد، ويحرم على صاحب المال أخذ شيء من الخسارة ولو رضي المضارب بذلك، بل على المضارب المال، وعلى المضارب العمل، وما يربح في المال بينهما على ما شرطاه.
ومن ذلك ما يفعله بعضهم: يقترض ذهبا، ويكتبه دراهم بذمته بسعرها وقت القرض، أو أزيد. وبعضهم: يعطي الجنيه إذا كان صرفها مثلا: خمسون في ستين إلى أجل. وبعضهم: يعطي الريال بريالين وربع أو نصف إلى أجل، كل هذه الأمور من صريح الربا المحرم.
ومن ذلك: ما يفعله بعضهم من التحاويل: الألف بألف وخمسين أو ستين، وهذا بيع فضة بفضة متفاضلا ونسيئة; وقول بعضهم: إنها إجارة غير صحيح، لأن الإجارة أن يحمل النقود بعينها إلى البلد المعين، ويأخذ أجرة عليها; والإجارة لها شروط وأحكام معروفة؛ فهذه التحاويل(14/467)
المعروفة الآن، فيها علتان من علل الربا، فهي حرام بلا ريب.
ومن ذلك: بيع المصاغات من الفضة على اختلاف أجناسها، بريالات فرنسية أو عربية أو روبية، فهذا لا يجوز، وهو من الربا الصريح، إلا إذا علم التماثل، وكان وزنا بوزن، ومثلا بمثل; أما إذا جهل التماثل، أو علم التفاضل، فهو الربا.
والواجب: أن تباع الفضة بالذهب، والذهب بفضة، ويشترط لذلك التقابض في مجلس العقد، أو تباع الفضة بقروش النيكل، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد.
فكل هذه الأمور المشروحة من الربا الصريح: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] ، فقد جاءتكم الموعظة من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، فانتهوا عما حرم الله عليكم، فإن فيما أحل الله لكم غنى عما حرم عليكم. فإن البركة في الحلال، وفيه السلامة من الوعيد والوبال، وإياكم والتعرض لسخط الله ولعنته وناره ومحق بركة أموالكم وأعماركم، وعيلتكم وفقركم، وسوء خاتمتكم: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة المائدة آية: 100] .(14/468)
وكونوا من معاصي الله على حذر، فإن للمعاصي عقوبات عاجلا وآجلا; فمن كفته الموعظة وتاب إلى الله فله ما سلف وأمره إليه، ومن تمادى بأمره وعاند ربه وظهر من التعامل بالمعاملات الربوية، فإنه يستحق التعزير البليغ الرادع له ولأمثاله.
هذا ونسأله سبحانه وتعالى أن يجيرنا وإياكم من المعاصي وعقوباتها، وأن يوفقنا وإياكم لتقواه، والعمل بما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، 3 / 1367 هـ.
[الوصية بتقوى الله وتوضيح معناها وبيان أعظم المأمورات وأهم خصال التقوى]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم إلى من يراه من المسلمين نفعني الله وإياهم باستماع الوصيات الدينية والنصائح، وجنبنا جميعا أسباب سخطه، وموجبات الخزي والفضائح، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد قال الله عز شأنه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال:: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] .
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [سورة ق آية: 45] .(14/469)
وأعظم شيء أوصيكم ونفسي به: تقوى الله عز وجل، فإنها وصيته تعالى لعباده الأولين والآخرين، كما قال تعالى:: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ْ} [سورة النساء آية: 131] .
وهي: وصية نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته عموما وخصوصا، كما قال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة 1.
ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن، قال له: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن 2. إذا عرف هذا، فإن حقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب ربه وعقابه وقاية تقيه ذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه وزواجره.
وأعظم المأمورات وأهمها: توحيد الرب جل شأنه، فإنه الأمر الذي من أجله خلق الثقلان الجن والإنس، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات آية: 56] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ
__________
1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95.
2 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158.(14/470)
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2] .
وذلك: هو الإقرار بوحدانيته تعالى، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثباتها على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بريئا من تمثيل الممثلين; وتنْزيهه تعالى عن جميع ما لا يليق بجلاله وعظمته، تنْزيها بريئا من تعطيل المعطلين.
والإيمان بأنه تعالى: رب كل شيء ومليكه، وأن العالم بجميع ما فيه هو خلقه وحده لا شريك له، وتحت تدبيره وتصرفه، وإفراده سبحانه بجميع أنواع العبادة، عن اعتقاد جازم، أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لذلك دون كل ما سواه. وهذا هو معنى كلمة الإخلاص التي هي أساس الملة، "لا إله إلا الله"فإن معناها: لا معبود حق إلا الله وأعظم المحرمات، هو: الشرك به في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وأفعاله.
وأهم خصال التقوى، وأفرضها وآكدها بعد التوحيد: إفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، وتحكيمه في القليل والكثير، والنقير والقطمير، وفي كل شيء يحصل التنازع فيه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .(14/471)
ومن أهم خصال التقوى، وأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين: أداء الجمعة، والصلوات الخمس في أوقاتهن؛ وهي عمود الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله 1.
ولا شيء من الفرائض مجرد تركه كفر غير الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 2 وقال صلى الله عليه وسلم: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة 3.
ومن فرائضها أيضا: أداء زكاة الأموال الزكوية، وهي: بهيمة الأنعام بأنواعها الثلاثة; والنقدان: الذهب والفضة، وما في معناهما وحكمهما من العروض، وغيرها، والخارج من الأرض من الحبوب والثمار، مما يكال ويدخر، بشرط كمال النصاب في كل منها، ومضي الحول، كل نوع منها بحسبه; ويجب على الجاهل تعلم ذلك ومعرفته، وسؤال أهل العلم عنه ليؤدي هذا الفرض العظيم بيقين.
ومن أهم خصال التقوى: صيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، بشرط الاستطاعة. وهذه الخمس هي أركان الإسلام الخمسة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان 4.
ومن أهم خصالها: الأمر بالمعروف والنهي عن
__________
1 الترمذي: الإيمان 2616 , وأحمد 5/231 ,5/237.
2 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346.
3 الترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 , والدارمي: الصلاة 1233.
4 البخاري: الإيمان 8 , ومسلم: الإيمان 16 , والترمذي: الإيمان 2609 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5001 , وأحمد 2/26.(14/472)
المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون َتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] .
وفي الحديث: عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم، كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فقال: يا هذا اتق الله، فإذا كان من الغد جالسه، وواكله، وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس.
فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود، وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده، لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.
فتقوى الله تعالى بفعل المأمورات وترك المنهيات(14/473)
هي مجلبة كل خير، والنجاة والسلامة من كل شر، في الدنيا والآخرة.
فكل صلاح وبركة وخير في الدنيا والآخرة، واستقامة في العقائد، ونزاهة في الأخلاق، والحصول على كل خير، والسلامة من كل شر وضير، والخروج من كل ضيق، وحصول الفرقان بين الحق والباطل، وغير ذلك مما لا يحصى، كل ذلك سببه تقوى الله تعالى.
وكل فساد ونقص في الاعتقاد والأخلاق والأعمال، والعلوم والفهوم، والقوى والإرادات، والتصورات، وغور الماء، وحبس القطر من السماء، ونقص الحروث والتجارات، وغير ذلك، فسببه الإخلال بتقوى الله، وعدم المبالاة بأوامره ونواهيه، وقلة الاكتراث بوعيد الله الذي يعيده في كتابه ويبديه رسوله.
فما أحلّ بسالف الأمم شديد العقوبات، ولا أخذ من غبر بفظيع المثلات إلا بسبب الإضلال بالتقوى، وإيثار الشهوات والأهواء، وقد قال تعالى:: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
والأمر بالمعروف يشمل الأمر بجميع الفرائض التي تقدمت وغيرها، ومن أهمها بر الوالدين، وصلة الأرحام، وصدق الحديث، والوفاء بالعهود، والقيام بجميع واجبات الدين.(14/474)
والنهي عن المنكر يشمل جميع أنواع المنكرات، من الزنى وغيره من الفواحش والربا; وآكل الربا محارب لله ولرسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة آية: 278-279] .
وفي الأثر: ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بخرابها; ومن أعظم المنكرات: تعاطي المسكرات، واستعمال جميع الملاهي، والاستماع إليها، وبخس المكاييل والموازين، إلى غير ذلك من سائر المنكرات.
وفي سنن ابن ماجه: من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: كنت عاشر عشرة، رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال وأعوذ بالله من أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه، إلا جعل الله بأسهم بينهم.
فيجب على جميع المسلمين التوبة إلى الله مما سلف(14/475)
من المعاصي والمخالفات وذلك بالتخلي من جميع المعاصي، والندم حقا على ما فات، والعزيمة على عدم العودة، فإنه لا توبة من المعاصي بدون ذلك. كما يجب اجتناب ذلك في المستقبل، والصدق مع الله في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وذلك واجب على ولاة المسلمين أن يقوموا بعزم صارم، وبذل المجهود حقيقة، فإن الله جعل الأمور في أيديهم، وهم الذين بين الله وبين خلقه.
كما يجب على العلماء النصيحه، والبيان حقيقة، والبعد كل البعد من الكتمان; ويجب على كل أحد إنكار المنكر، كل بحسبه; والتوبة واجبة في كل حين، ومن كل ذنب؛ وتتأكد عند سؤالهم ربهم ما هو من ضرورياتهم الدينية، وكذلك ضرورياتهم الدنيوية؛ ومن أهمها: طلب الغيث الذي هو سبب الحياة.
ومن التوبة الخروج من المظالم، والتخلي من حقوق الخلق، في الدماء والأموال والأعراض، وترك التشاحن; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر، فخرجت لأخبركم، فتلاحا رجلان فرفعت فهذا يدل على أن التشاحن من أسباب موانع حصول الخير، وتعاطي الحلال مأكلا ومشربا وملبسا، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الصحيح: ثم ذكر الرجل يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي(14/476)
بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! 1.
وفي الأثر عن بعض أنبياء بني إسرائيل، أنه خرج بقومه يستسقون، فلم يسقوا، فأوحى الله إلى نبيهم أن قل لهم: إنكم قد رفعتم أكفا قد سفكتم بها الدماء، وأكلتم بها الحرام.
ويجب الحرص كل الحرص على التخلي من حق الزكاة، والتطهير للمال من ذلك، وكل من منع الزكاة، وأكل الحرام. وترك الأمر بالمعروف: سبب خاص في منع القطر، وعدم استجابة الدعاء، كما تقدم في حديث ابن عمر خمس خصال.. إلخ، وكما في آخر حديث أبي هريرة السابق.
ومما ينبغي أن يقدم بين يدي الاستسقاء: الصدقة، وملاحظة الفقير، والنظر إليه نظرة رحمة، عسى أن يرحمنا ربنا، وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء 2.
وينبغي اللجأ إلى الله عن صدق، ودعاؤه عن تضرع وخشية، وصدق رغبته إليه في إجابة المطلوب، والإكثار من الاستغفار. أسأله تعالى بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويمن على المسلمين بالغيث الشامل النافع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم في20 /5/1381هـ.
__________
1 مسلم: الزكاة 1015 , والترمذي: تفسير القرآن 2989 , وأحمد 2/328 , والدارمي: الرقاق 2717.
2 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941.(14/477)
[التذكير بالقحط وسببه وذكر بعضا من الكبائر والجرائم وما يناسب بين يدي الإستسقاء]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على صفوته من بريته، وخيرته من خليقته، محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
من محمد بن إبراهيم إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم للاتعاظ بالمواعظ، وقبول النصائح، وجنبنا جميعا أسباب الخزي والندم والفضائح. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: تعلمون - وفقني الله وإياكم - ما أصيب به المسلمون، من قحوط الأمطار، وتأخر الغيث عن الأكثر من الديار، وما نشأ عن ذلك من غور مياه الآبار، وما نال المواشي من النقص الكثير والأضرار؛ وليس ذلك - لعمر الله - من نقص في جود الباري جل شأنه وفضله وكرمه وإحسانه، ولا نقص مما بيمينه، بل الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: يمين الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار; أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى، يخفض ويرفع; وإنما سبب ذلك: إضاعة أمر الله، وعدم المبالاة بأوامره ونواهيه قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ(14/478)
يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سورة الشورى آية: 30] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة وكل هاتين الآيتين الكريمتين، والحديث المذكور على أثرهما يدل بعمومه على أن جميع ما في الوجود من النقص والفساد، في العلوم والأعمال والأفهام، والتدبيرات والتصرفات، والأمراض في الأبدان والأشجار والثمرات، إلى غير ذلك مما يصيب أي نوع وأي فرد من الموجودات، فسببه المعاصي والمخالفات.
ومن أكبر الكبائر: ترك الصلاة، وهو بمجرده ردة عن الإسلام، ولو كان ذلك الترك تهاونا أو كسلا، قال صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 1.
أما ترك فعلها في الجماعة، فليس بردة، وإنما هو من المحرمات، ومن أسباب تركها بالكلية; قال صلى الله عليه وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، وآمر رجلا فيؤم الناس، ثم انطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار 2، وفي رواية: لولا ما فيها من النساء والذرية لأحرقتها عليهم 3.
ومن أكبر الكبائر أيضا: عدم أداء الزكاة ; وإقام الصلاة
__________
1 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346.
2 البخاري: الأذان 657 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , وأحمد 2/424 ,2/472 ,2/531.
3 أحمد 2/367.(14/479)
وإيتاء الزكاة هما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين; وهما مع الشهادتين الأركان التي يقاتل من ترك واحدا منها; قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام 1.
ومن أكبر الكبائر أيضا: الربا في المعاملات. ولكلِّ من هاتين الكبيرتين: كبيرة منع الزكاة، وكبيرة أكل الربا، من الخصوصية في منع القطر، ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ومن أكبر الكبائر وأعظم العظائم: التهاون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم القيام لهما بما يشترط ويفتقر إليه في حصوله، على الوجه الذي تبرأ به الذمة، ويحصل به المقصود.
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَكَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة: والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم 2.
ومن أعظم الجرائم والمحرمات: تطفيف المكاييل
__________
1 البخاري: الإيمان 25 , ومسلم: الإيمان 22.
2 الترمذي: الفتن 2169.(14/480)
والموازين، قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر المهاجرين: خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم 1.
وبالجملة: فما أهلكت الأمم وحلّت بهم المثلات، من إغراق قوم نوح بالطوفان، وتدمير الريح العقيم لعاد، ولا أخذت ثمود في ديارهم بالصيحة التي أخمدتهم في مساكنهم، وما أغرق فرعون وقومه في البحر، وما قلبت ديار قوم لوط، وجعل عاليها سافلها، وما أخذ غيرهم من الأمم التي دمر الله عليهم، إلا بمعاصيهم ومخالفتهم رسلهم، والتمادي فيما نهوهم عنه.
وكما أن كل فساد ونقص في الأرض مطلقا سببه المعاصي، فكل خير ونمو وبركة وإجابة دعوات ودفع نقمات وإعطاء طلبات، فإنما سببه تقوى الله تعالى، والقيام
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4019.(14/481)
بأوامره والانزجار عن محارمه، والاتعاظ بمواعظه، وأداء فرائضه.
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة النساء آية: 66-68] .
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى تنالوا المطلوب، وتحصل لكم النجاة من كل كرب مرهوب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ْ} [سورة الطلاق آية: 2-3] .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة الأعراف آية: 96] .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة آية: 65-66] .
وقد عزم المسلمون على الاستسقاء، فيجب أن نقدم بين يدي نجوانا لربنا ودعائنا إياه التوبة، وإن كانت واجبة في كل حال، فلها من آكدية الوجوب أمام الاستسقاء ما لا يخفى، وأن نحافظ على الصلاة، ونقيم الجمعة والجماعات، وأن نؤدي الزكاة المفروضة على وجهها،(14/482)
ونحذر من المحاباة، وذلك على كل مسلم ملك نصابا وحال عليه الحول وهو في ملكه.
ونصاب الذهب: عشرون مثقالا، وقدره من الجنيه السعودي والإفرنجي: أحد عشر جنيها ونصف جنيه; ونصاب الفضة: مائة وأربعون مثقالا، وقدره من الريالات السعودية، فضة كانت أو ورقا: ستة وخمسون ريالا، ومن الريالات الفرنسية: ثلاثة وعشرون ريالا تقريبا.
وتجب الزكاة أيضا في قيم العروض، وهي ما عدا الذهب والفضة مما أعد للبيع والشراء، إذا ملكها بفعله، وبلغت قيمتها من أحد النقدين نصابا، وتم عليه الحول في ملكه.
ويتأكد الإكثار من الاستغفار، كما قال نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [سورة نوح آية: 10-11] .
وكما قال هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 52] .
وكان جل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء استغفار الله سبحانه ودعاءه والابتهال إليه; وينبغي أن يكون من الدعاء بتضرع وخشوع، ورغبة ورهبة، وكمال صدق في الطلب; ويجب الخروج من المظالم، لوجوبه في كل حال، وهو هاهنا آكد.(14/483)
ويجب ترك التشاحن، قال صلى الله عليه وسلم: تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا، إلا امرأ كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا 1.
ويجب التباعد مما يمنع إجابة الدعاء من أكل الحرام، لحديث: أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما سبق في حديث حذيفة.
وينبغي الإكثار من الصدقة، صدقة التطوع، رحمة للفقراء، وإحسان إليهم؛ وذلك من أسباب رحمة الله بعباده، وإحسانه إليهم، وحصول ما طلبوا من ربهم، ورغبوا إليه فيه.
وفي الحديث: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء 2، وفي الحديث الآخر: إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم 3.
وينبغي - وفقني الله وإياكم - أن أهل كل مسجد من المساجد يجمعون صدقاتهم، ويدفعونها إلى وكيل منهم أمين، إما المؤذن أو غيره، وبعدما تجتمع تفرق على المساكين، من جيران المسجد ومن يحضر معهم من الغرباء الفقراء، ويكون تقسيمها عليهم قبل يوم الاستسقاء بيوم.
ولا يخفى ما في هذا الصنيع من التنشيط والتعاون على البر والتقوى; أسأل الله أن يغيث قلوب الجميع بالتوبة
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب 2565 , وأحمد 2/389 , ومالك: الجامع 1687.
2 الترمذي: البر والصلة 1924 , وأبو داود: الأدب 4941.
3 البخاري: الجهاد والسير 2896 , وأحمد 1/173.(14/484)
النصوح، ويغيث البلاد والعباد بالغيث العام العاجل غير الآجل، الهنيء المريء، النافع الذي ليس بضار، الذي هو سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
كما أسأله تعالى: أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويدمر أعداء الدين، ويكفينا سوءهم ويرد كيدهم في نحورهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، في 4 / 9 / 1382 هـ.
[التناصح والتفطن لنعم الله تعالى والقيام بالمأمورات وترك المنهيات واجتناب الربا والتنباك]
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، وآلائه الجمة المتكاثرة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه المتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة في الآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المبلغين عن الله نواهيه وأوامره، وسلم تسليما كثيرا.
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، رزقنا الله وإياهم القيام بواجب الدين، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فمن أعظم ما يجب علينا وعليكم: التناصح في دين الله تعالى، والتفطن لما منّ الله به عليكم من النعم(14/485)
العظيمة، والمنح الجسيمة، التي أعظمها وأجلها: نعمة الإسلام، وما امتن به عليكم من صحة الأبدان، وأمن السبل، ووفور الأرزاق.
وقد قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة إبراهيم آية: 34] ، أي ظلوم بنفسه، كفار بنعمة ربه.
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] . ولا شك: أن الشكر قيد للموجود، وصيد للمفقود، يعني: تقيد به النعم الحاضرة، وتستجلب به النعم المرجوة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن للنعم نفارا، فقيدوها بالشكر، وإن للقلوب صدا، فاجلوها بالذكر.
ومما يجب القيام به: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على وفق ما تقتضيه الشريعة المطهرة، فإن الله ذم من لم يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولعنهم على ألسنة أنبيائهم، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
وفي السنن والمسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم إذا عمل العامل(14/486)
الخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه، كأن لم يره بالأمس على خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم.
والذي نفس محمد بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه أخذا، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.
ومعلوم أن جميع بني آدم، لا تتم مصالحهم في الدنيا والآخرة، إلا بالاجتماع، والتعاون والتناصر على جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، فإنه إذا كثر الخبث، عم العقاب الصالح والطالح، إذا لم يؤخذ على يد الظالم، أوشك أن يعمهم الله بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] .
فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله تعالى، أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص النية لله تعالى، ولا يهابنّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج آية: 40] ، والأجر على قدر النصب.
ولا يتركه أيضا لصداقته ومودته، ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنْزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا; ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى(14/487)
مصالح آخرته، وينقذه من مضارها.
وصديق الإنسان، هو من يسعى في عمار آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقصان دنياه، فإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا; وكانت الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - أولياء للمؤمنين، لسعيهم في مصالح آخرته، وهدايتهم إليها.
ومن ذلك: المحافظة على الصلوات الخمس، فإن الله ذمّ من لم يؤدها بأوقاتها، ويقوم بها في جماعة; ويجب تأديب من عرف بالكسل والتخلف عنها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد همّ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في جماعة، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد هممت أن آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: من سمع النداء ولم يجب، فلا صلاة له 2. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية 3، وإن ذئب الإنسان الشيطان، إذا خلا به أكله.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: لو أنكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم 4.
__________
1 البخاري: الأذان 644 والخصومات 2420 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 651 , والترمذي: الصلاة 217 , والنسائي: الإمامة 848 , وأبو داود: الصلاة 548 , وابن ماجه: المساجد والجماعات 791 , وأحمد 2/244 , ومالك: النداء للصلاة 292 , والدارمي: الصلاة 1274.
2 الترمذي: الصلاة 217.
3 النسائي: الإمامة 847 , وأبو داود: الصلاة 547 , وأحمد 5/196 ,6/446.
4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 654 , وأحمد 1/382 ,1/414.(14/488)
ومن ذلك: الزكاة المفروضة، فإنها قرينة الصلاة، في كتاب الله تعالى. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
وقد ذم الله تعالى من لم يؤدها، وتوعده بأنواع من العقوبات، كما في قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 180] .
وقال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة آية: 35] .
وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا الذي فرضت لنا عليهم، فيقول الله عز وجل: وبعزتي وجلالي، لأدنينكم ولأبعدنهم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج آية: 24-25] . وروي عنه صلى الله عليه وسلم ما خالطت الزكاة مالا إلا أهلكته.
فيجب على كل من عنده شيء من أنواع التجارات أن(14/489)
يُقَوِّمها عند الحول ويخرج زكاتها، والعبرة بما تقَوَّم به، لا بما اشتريت به، وإذا زادت الثمار عن خرصها، وجب إخراج ما زاد عن الخرص.
عباد الله طهروا أموالكم من الزكاة، ونقوها منها، ومن المعاملات الربوية، فإن الله تعالى: ذم آكل الربا، وتوعده بأنواع من العقوبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 278-279] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية: 275] .
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عُرِجَ به إلى السماء نظر إلى سماء الدنيا، فإذا رجال بطونهم كأمثال البيوت العظام، قد مالت بطونهم، وهم منضودون على سابلة آل فرعون، موقوفون على النار، كل غداة وعشي يقولون: ربنا لا تقم الساعة أبدا. قلت: يا جبريل، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء أكلة الربا من أمتك، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ومعنى: منضودون أي: مطروحون، أي: طرح بعضهم(14/490)
على بعض; والسابلة: المارّة; أي: يطؤهم آل فرعون الذين يعرضون على النار كل غداة وعشي.
وروي عنه قال: الربا ثلاث وسبعون بابا، وأيسره مثل أن ينكح الرجل أمّه 1 قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذن الله بهلاكها، وقال بعض العلماء: الربا مجرب بسوء الخاتمة والعياذ بالله من ذلك.
ويذكر أنه يوجد من بعض الناس معاملات ربوية، وعقود فاسدة؛ فيجب على كل أحد مجانبة المعاملات الربوية، والعقود الفاسدة، فإن العلماء رحمهم الله قالوا بتحريم تعاطي العقود الفاسدة، لأنها ذريعة إلى الربا، والذرائع معتبرة في الشرع، ولها حكم الغايات.
فمنها: أن بعض الناس، إذا جاءه المحتاج مثلا، وباعه سلعة بثمن مؤجل، أو بحال لم يقبض، يعود فيشتريها منه بأقل من ذلك الثمن؛ كأن يبيعه سلعة بستين مؤجلة، ثم يشتريها منه بخمسين نقدا، فهذه هي مسألة "العينة"المنهي عنها.
ومنها: ما إذا صار لرجل دين على رجل، فطلبه منه، فلم يقدر على وفائه، باعه سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بما عليه من الدين، وهذا حرام إجماعا، وهذا: هو بيع الدين بالدين، سواء كان الدين الأول والآخر له أو لغيره، وهو بيده مضاربة; ومجرد قوله: إن الدين الأول يخصني مثلا، وما ثبت في ذمته أخيرا لغيري، إلا أنه بيدي مضاربة،
__________
1 ابن ماجه: التجارات 2275.(14/491)
لا ينفعه، بل هو من الحيل المحرمة.
ومنها: ما يقع من بعض الناس في محل البيع والشراء؛ وهو: أن أناسا يشتركون في شراء سلعة، كبعير ونحوه، ثم يعرضونه على المشترين، فيزيد فيه بعض من له فيه شركة، فيغتر المشتري، ظانا أن هذا الذي يزيد ليس له فيه شركة، فيبني على سومه، وهو إنما قصد النجش، وتغرير المشتري. فهذا حرام ولا يجوز إقراره، ومن عرف بمثل هذا، فلا بد من تأديبه، ومنعه من البيع والشراء في أسواق المسلمين.
ومنها: ما إذا أراد الفلاح مثلا أن يبيع من ذمته عيشا أو تمرا، فيأتي التاجر، فيشتري منه بأنقص مما يبيع به الناس، بشرط أن يقرضه شيئا للعقد، كأن يكون السعر خمسمائة الوزنة في الذمة، بمائتي ريال، فيشتريها التاجر بمائة وخمسين، ويقرضه شيئا للعقد.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل قرض جر نفعا فهو ربا، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا كان لك على رجل دين، فأهدى لك شيئا، فلا تأخذه وأكثر الناس يأخذ من عميله الطعام والخضر، ولا يحسبه شيئاً وهذا ربا محرم، ولو أخذ قليلا أو كثيرا دخل في التحريم إذا لم يحسبه من الدين.
ومما ينبغي أيضا: اجتناب هذا التنباك وهو المسمى بالتتن، وهو لا شك خبيث، ومفتاح كل شر ومقدما له، وقد(14/492)
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مخدر ومفتر؛ مع أنه يتولد منه أمراض عامة، وعلل كثيرة.
منها: أنه إذا أكثر من شربه يفسد أفواه مجاري العروق، وحينئذ يمنع كل عرق من أخذ حقه من الغذاء. ومنها: أنه يحدث الغشاوة في العينين، والصداع في الرأس، واليبس في الدماغ، وثقل السمع، ويورث النسيان، والنوم الشديد، والكسل المفرط.
وقد يحدث السعال والسهر المضر، وتغيير الشفتين بالاسوداد والاصفرار، ونتن الفم وتغيير اللون، ويورث الارتعاش في جميع الجسم، ويولد عللا كثيرة لا يفطن لها إلا صاحب بصر وبصيرة نافذة.
فيا عباد الله راقبوا الله تعالى، وقوموا على كل من عرف بارتكاب المعاصي قياما تاما، وتجردوا من الذنوب; والجار يقوم على جاره، والرجل يقوم على أولاده، ومن في بيته، وعلى أقاربه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وعليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والتقرب إلى الله تعالى بما يجب من فعل الطاعات وترك المنهيات، كالتشاحن والتباغض والتحاسد، والتقاطع، والتدابر؛ وائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، وأخلصوا في ذلك النية لله تعالى.
وعلى أهل الولاية أن يقوموا بذلك القيام التام، ويؤدبوا(14/493)
كل من عرف منه تكاسل عن الصلاة في جماعة، وشرب من هذا التنباك الخبيث، ولا يناظروا في ذلك أحدا من الناس. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، من صلاح ديننا ودنيانا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، ولا يؤآخذنا بسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك، وهو القادر عليه، وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[التحذير من مخالفة أمر الله وذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم ما هو أهدى وأقوى، وجعلنا جميعا من المتمسكين بالعروة الوثقى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن التناصح في دين الله، والتذكير بنعمه وأيامه، والتحذير عن مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، فيه من المصالح الكليات والجزئيات ما لا يحيط به إلا الله سبحانه وتعالى.
فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1 والنصح لعامة المسلمين، هو: تنبيههم عند الغفلة،
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/494)
وإرشادهم عند الجفوة، وتعليم جاهلهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة لصغيرهم.
فالذي أوصي به إخواننا المسلمين، وأحثهم عليه: تقوى الله، ومراقبته، وذلك بالتحرز بطاعة الله عن عقوبته، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
فإن أكثر الخلق - والعياذ بالله - أعرضوا عما خلقوا له، واشتغلوا بالفاني عن الباقي. وخف على النفوس وقع الأوامر والنواهي، حتى أظلمت والله القلوب من الذنوب: {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين آية: 14] .
فقد فشا في الناس كثير من المنكرات، التي نهت عنها الشريعة الإسلامية، كالتهاون بالصلاة مع الجماعة في المساجد، وكالربا، وحلق اللحى، وشرب الدخان، وخروج النساء متبرجات، وكالغش والخيانة، والكذب، والشحناء، وكثرة القيل والقال، إلى غير ذلك مما يطول عده.
فيجب على المسلمين التناصح، والتعاضد، بأن ينصح بعضهم بعضا، تأدية لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مراتبه ثلاث: باليد، واللسان، والقلب وهو أضعفها، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يعرف المعروف وينكر المنكر بقلبه يشير رضي الله عنه إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك.(14/495)
وناهيك لو قام كل منا بنصيحة الآخر، دعوة، وأمرا، ونهيا، لامتنع فشوّ الشر والمنكر فينا، واستقر الخير والمعروف بيننا؛ وبالإعراض عن ذلك يكثر الشر ويتفاقم الأمر، ويتجرأ الكثير أو الأكثر إلى فعل المنهيات، وارتكاب المحرمات، فتزول وحشتها من القلوب.
ومتى كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشك أن يعمهم الله بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] .
كيف وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ذهب معظمه، فما بقي منه إلا رسوم، أو مجرد ادعاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإنه لباب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإنه لمن أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان، وبه تحيا السنن وتموت البدع، فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضى الله تعالى أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، وأن يخلص نيته لله تعالى، ويوطن نفسه على الصبر، وليثق بالثواب من الله تعالى.
فعند ذلك لا يهاب من ينكر علمه لارتفاع مرتبته، وعلو جاهه، فإن الله يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج آية: 40] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] .(14/496)
ولا شك أن الأجر على قدر النصب، وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يتساهل في ذلك لأجل صداقة له ومودة ومداهنة، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنْزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا؛ ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها.
وصديق الإنسان ومحبه، هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص دنياه; وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بذلك صورة نفع في الدنيا; وإنما كان إبليس عدو لنا لهذا المعنى.
وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولياء المؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها; ثم إن الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، يجب عليهم إصلاح نيتهم في أمرهم ونهيهم، وأن يقصدوا بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة، وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل الأذى من الخلق، فإن من وثق بالثواب من الله، لم يجد مسّ الأذى.
ولقد كان الله يحفظ من هذا شأنه، من بأس الصائلين ببركة إخلاصهم، وحسن مقصدهم، وقوة توكلهم، وابتغائهم بكلامهم رضى الله تعالى، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أشق ما يحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة؛ بل قال بعض السلف: إن(14/497)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا.
ومما يتعين التنبيه عليه: ملاحظة هؤلاء الشبيبة، لا سيما من الآباء والأولياء، بأن يعتنوا بأبنائهم، ويربوهم على حب الله تعالى وطاعته، وعلى الفضائل والآداب الإسلامية السامية، فإنهم أمانة الله في أعناقكم.
وقد منحكم الله إياهم، وأكرمكم بهم، وأمركم بحفظهم وصيانتهم، وأن لا تتركوهم وشأنهم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 27] .
فالأولاد أمانة تحت أيديكم، وهم منكم ولكم، فإذا نشؤوا نشأة صالحة، وربوا على الفضائل الإسلامية والآداب الدينية، وعلى البر والوفاء، والعلم النافع، كان خيرهم لكم، وصلاحهم لصلاحكم.
ومتى نشأ الولد على الإهمال والانحلال، وعدم التقيد بقيود الإسلام، وتجرد من أخلاقه ودينه، فرط الأمر من أيديكم، وانصب بلاؤه عليكم، وخرج عن طاعتكم، فموته حينئذ خير من حياته.
وقد أمركم الله بحفظهم وحمايتهم عن وقوعهم في المهالك، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية:(14/498)
6] . والأولاد من الأهل، بل هم صفوة الأهل، وهم أمانة في أيديكم، أمركم بحفظها، وحمايتها من النار; وما حفظها من النار إلا بصدها عن الأسباب، والأعمال التي توصلها إليها.
وإن أعظم هذه الأسباب الموصلة لهم إلى النار هو: بعدهم عن دينهم، وتركهم لأوامره وفضائله، وارتكابهم لنواهيه وزواجره. وأصل الصلاح والفضائل في تربية الأولاد، هو: إلزامهم بالتمسك بالدين الإسلامي قولا وعملا واعتقادا؛ فإذا استمسك به الإنسان، فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصام لها.
هذا، ونسأل الله تعالى أن يجعلهم قرة أعين لآبائهم وأهليهم، وأن يجعلهم صالحين موفقين، أهل بر ووفاء وصدق وإخلاص، موفقين للعلم النافع والعمل به. كما نرجو الله تعالى أن يهدينا جميعا لطاعته، وأن يسلك بنا وبكم سبل توفيقه وهدايته، ويحفظ إمام المسلمين، وأن ينصر به دينه، ويعلي كلمته؛ ويثبتنا جميعا على الإسلام، إلى أن نلقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في 3 / 1376هـ.(14/499)
[سبب ظهور الفساد في الأرض وما في ذلك من الآيات والأحاديث]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من المسلمين، رزقنا الله وإياهم قلوبا صاغية، وآذانا للحق واعية، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم آية: 41] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: الفساد: القحط، وقلة النبات، وذهاب البركة; قال أبو العالية: من عصى الله في الأرض، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 96] ، البركات: المطر والنبات; وقال تعالى في أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة آية: 66] ، يعني: المطر والنبات.
وقال هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 52] .
ذكر المفسرون: أن قوم هود حبس الله عنهم المطر بسبب ذنوبهم ثلاث سنين، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله(14/500)
بلادكم، وزادكم عزا على عز.
وقال نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراًوَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [سورة نوح آية: 10-12] . قال قتادة: علم نبي الله، أنهم أهل حرص على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن في طاعة الله سعادة الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [سورة الجن آية: 16] ، ومعنى الآية: لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام، واستمروا عليها: {مَاءً غَدَقاً} [سورة الجن آية: 16] ، أي: كثيرا، يعني: سعة الرزق، وضرب الماء الغدق مثلا، لأن الخير والرزق كله من المطر.
هذه الآيات تدل على أن المعاصي سبب لحبس المطر، وذهاب البركة، وأن طاعة الله سبب للمطر والبركات.
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي مخلد أنه قال: وجد رجل في زمان زياد، أو ابن زياد، صرة فيها حب - يعني: من بر - أمثال النوى، مكتوب فيها: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه العدل، وجاءت في هذا المعنى أحاديث.
روى ابن ماجة والبزار والبيهقي - واللفظ لابن ماجة - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال(14/501)
إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم; وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم 1 ورواه الحاكم من حديث ابن بريدة بنحوه.
ورواه مالك بنحوه، موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: ما ظهر الغلول في قوم، إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب. ولا فشا الزنى في قوم، إلا كثر فيهم الموت. ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا قطع الله عنهم الرزق. ولا حكم قوم بغير حق، إلا فشا فيهم الدم. ولا خفر قوم بالعهد، إلا سلط الله عليهم العدو 2.
ورفعه الطبراني إلى النبي صلى الله عليه وسلم في معجمه، من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طفف قوم كيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا منعهم الله القطر. وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا، إلا سلط الله عليهم الجنون.
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4019.
2 مالك: الجهاد 998.(14/502)
ولا ظهر في قوم القتال، يقتل بعضهم بعضا، إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم.
وروى الإمام أحمد، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم يظهر فيهم الربا، إلا أخذوا بالسنين، وما من قوم يظهر فيهم الرشا، إلا أخذوا بالرعب 1 والسنة: العام القحط.
عباد الله إنه ليس في الدنيا شر إلا سببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعدا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحا، وبالجنة نارا تلظى؟
وبالإيمان كفرا، وبموالاة الولي الحميد، أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل، بزجل الكفر والشرك، والكذب والزور والغش، وبلباس الإيمان، لباس الكفر والعصيان والفسوق؟ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من رحمته غاية السقوط، وحل عليه غضب الرب تعالى، فمقته أكبر المقت وأرداه.
وما الذي أغرق أهل الأرض، حتى علا الماء فوق
__________
1 أحمد 4/205.(14/503)
رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العقيم على عاد، حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية، حتى سمعت الملائكة نبح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء، أمطرها عليهم؟ فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجسام للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح، بأنواع العقوبات، ودمرها تدميرا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة، حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، فقتلوا الرجال، وأخربوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم إليهم مرة ثانية، فأهلكوا(14/504)
ما قدروا عليه، وتبروا ما علوا تتبيرا؟
وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات، مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف آية: 167] ؟
وروى الإمام أحمد: عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص، فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!! وروى النسائي بإسناد صحيح، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل يحرم الرزق بالذنب يصيبه 1.
واعلموا أن كل معصية من المعاصي هي ميراث أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل: فاللواط ميراث عن قوم لوط; وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص ميراث عن قوم شعيب; والعلو في الأرض والفساد ميراث عن قوم فرعون;
__________
1 ابن ماجه: الفتن 4022.(14/505)
والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود; فالعاصي لابس لباس ثياب بعض هذه الأمم.
وقد روى عبد الله بن الإمام أحمد، في "كتاب الزهد"لأبيه عن مالك بن دينار، قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، وتلبسوا ملابس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، فتكونوا أعدائي، كما هم أعدائي.
فتوبوا إلى الله، واحذروا من الاغترار بنعمه عليكم، فقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] .
قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره، فإنما هو استدراج منه، يستدرجك به، وقد قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَوَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف آية: 33-35] .
وقد رد سبحانه على من ظن هذا الظن بقوله: {فَأَمَّا(14/506)
الأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [سورة الفجر آية: 15-16] ، وفي جامع الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب 1. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. [التذكير بنعم الله والتحذير من أسباب النقم والقيام بواجب النصيحة]
وله أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، إلى من يراه من المسلمين، بصّرني الله وإياهم في الدين، وفقهني وإياهم فيما بعث له محمدا صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين.
وبعد: فالحامل على هذا، تذكيركم نعم ربكم لتشكروه، وتحذيركم أسباب نقمه لتتقوه، وقياما بما أوجب الله علينا من النصيحة، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة، قالها ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 2.
فجعل الدين محصورا في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه، وقواعده المهمة، فيدخل في النصيحة لله: الإيمان بالله، ومحبته وخشيته والخضوع له، وتعظيم أمره ونهيه وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وإلحاد، وشرك وتكذيب، لأن النصيحة لله: خلوص الباطن والسر،
__________
1 أحمد 1/387.
2 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 ,4198 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/507)
من الغش والريب والغل، والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان، ويعارضه.
وكذلك النصيحة لكتابه تتضمن: العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النّزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه ومعانيه.
والنصح لرسوله، يقتضي: الإيمان به وتصديقه ومحبته، وتوقيره وتعزيره، ومتابعته والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه، من هوى أو بدعة أو قول.
والنصح لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله، وترك مشاقتهم ومنازعتهم.
والنصح لعامة المسلمين هو: تعليمهم وإرشادهم، لما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم، وذهاب دينهم ودنياهم، من معصية الله ورسوله، ومخالفه أمره، ومشابهة الجاهلين فيما كانوا عليه، من التفرق والاختلاف، وترك الحقوق الإسلامية.
وأعظم نعمة أذكّركم بها: ما منّ الله به على المسلمين من نعمة الإسلام، فإنه ما طرق العالم ولا يطرقه نعمة هي أعظم وأكبر من هذه النعمة، التي منّ بها جلّ شأنه على(14/508)
عباده بواسطة من اصطفاهم من رسله، بتبليغ رسالاته، وأداء هذه الأمانة إلى من اختارهم من برياته.
وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل التي هي حقيقة شكر هذه النعمة، فإنها جماع الدين وقد وصى الله تعالى بها عباده، في غير موضع من كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [سورة النساء آية: 1] إلى قوله تعالى:: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [سورة النساء آية: 1] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [سورة الأحزاب آية: 70-71] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الحشر آية: 18] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وجعل جزاء المتقين: توفيقهم للفرقان بين الحق والباطل، وتكفير السيئات، ومغفرة الخطيئات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الأنفال آية: 29] .
ولا نجاة لأحد من النار بعد ورودها إلا بالتقوى، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [سورة مريم آية: 71-(14/509)
72] . وهي وصية الله تعالى لعباده، أولهم وآخرهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته عموما وخصوصا، كما قال صلى الله عليه وسلم لما طلب منه الصحابة، رضى الله عنهم، الوصية: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة 1. وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن، وأبي ذر، رضي الله عنه حين طلب منه الوصية: اتق الله حيثما كنت 2.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] .
قال ابن مسعود: تقوى الله حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وقال طلق بن حبيب، في تفسيرها: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وللسلف في تفسير التقوى عبارات متقاربة المعنى، وحقيقتها: جعل العباد بينهم وبين غضب الله وعقابه وقاية تقيهم ذلك، بفعل الطاعات، وترك المعاصي.
__________
1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95.
2 الترمذي: البر والصلة 1987 , وأحمد 5/153 ,5/158.(14/510)
وأعظم خصال التقوى، وآكدها، وأصلها، ورأسها: إفراد الله تعالى بالعبادة، وإفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة فلا يدعى مع الله أحد من الخلق، كائنا من كان، ولا يتبع في الدين غير الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم غير ما جاء به صلى الله عليه وسلم ولا يرد عند التنازع إلا إليه، وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
فيفرد الرب سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة من غاية الحب، وكمال الذل له جل شأنه، وخشيته، ومخافته، ورجائه، والتوكل عليه، والرهبة، والرغبة، والإنابة إليه والخشوع له، إلى غير ذلك من أنواع العبادة الواجب صرفها له، وحده لا شريك له، دون كل من سواه، من الأنبياء والملائكة، والصالحين، وغيرهم.
ويفرد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، والتحكيم عند التنازع؛ فمن دعا غير الله، من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، فما شهد أن لا إله إلا الله، شاء أم أبى؛ ومن أطاع غير الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه في خلاف ما جاء به الرسول، عالما، وحكّم القوانين الوضعية، أو حكم بها، فما شهد أن محمدا رسول الله، شاء أم أبى.
بل إما أن يكون كافرا، أو تاركا لواجب شهادة أن محمدا رسول الله، ويتبع هذين الأصلين العظيمين، فعل بقية فرائض الدين وواجباته التي أوجبها الله تعالى في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما هو داخل في واجب التقوى.(14/511)
ومن أهم خصال التقوى: الصلاة، والجهاد في سبيل الله; والجهاد على مراتب عديدة; من أشهرها وآكدها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا قوام للعباد والبلاد بدونهما; والمعروف: اسم عام يتناول التوحيد، فما دونه من الطاعات. وكذا المنكر، يشمل الشرك فما دونه، من البدع والمعاصي.
ومن أعظم الجرائم: تعاطي المسكرات من الخمور وغيرها. ومن المنكرات: جميع أنواع الميسر، وهو: القمار، كالشطرنج بجميع أنواعه; ومن أنواعه: اللعب بالورق، المسمى "الزنجفة"سواء كان اللعب به على عوض أو لا.
قال تعالي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [سورة المائدة آية: 90-91] .
والأحاديت في تغليظ تحريم الخمر والميسر، ووجوب الحد في الخمر، وشدة الوعيد فيه معلومة.
ومن أعظم المعاصي: استعمال الملاهي، من الفتح على السينماء وغيرها، ولا سيما ما يشتمل على المناظر والمسامع المحرمة، فإنها تشتمل من الصد عن ذكر الله،(14/512)
وعن الصلاة، والإغراء بالفواحش، وغير دلك، ما يعرفه أرباب البصائر.
ومن أكبر المنكرات: إكباب الجهال والشباب على مطالعة كتب الزيغ والإلحاد والزندقة، والصحف المشتملة على ذلك، وعلى الصور الخليعة، فما أحرى من أدمن النظر فيها من الشباب ونحوهم، أن يصبح أسيرا للشيطان، إن لم يقتله بالكلية، ويسلبه جميع الإيمان.
ومن المنكرات: التشبه بالكفار، ولا فرق بين الأمور الدينية والعادية، كالزي ونحوه، روى أبو داود بسند جيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تشبه بقوم فهو منهم 1. ويدخل فيه حلق اللحى، لما روى البخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خالفوا المشركين، احفوا الشوارب واعفوا اللحى 2.
ومن أعظم المنكرات: تصوير ذوات الأرواح، واتخاذها واستعمالها، ولا فرق بين المجسّد، وما في الأوراق مما أخذ بالآلة وغيره، ذكر معناه النووي رحمه الله، في شرح صحيح مسلم، وذكر أنه مذهب جماهير العلماء; والأحاديث في الوعيد على ذلك، والتغليظ فيه معلومة.
وأغلظ أنواعه: صور المعظمين، على وجه التعظيم والتبجيل، وهذا أحد الذريعتين المفضيتين إلى الوقوع في الشرك الأكبر، وهما فتنة القبور، وفتنة التماثيل، المشار إليهما في قوله صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح،
__________
1 أبو داود: اللباس 4031.
2 البخاري: اللباس 5892 , ومسلم: الطهارة 259.(14/513)
والعبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله 1.
ومن أعظم المنكرات، وأشدها ضررا: فشوّ الأغاني من "الراديوات"واستيلاؤها على ألسنةٍ كثيرًا، وشغف قلوبهم بها، فاستبدل كثير من الناس عمارة بيوتهم بأنواع الأذكار، وتلاوة القرآن، آناء الليل وآناء النهار، بأغاني أم كلثوم، وفلان وفلان، من مشاهير المغنين الفجار، بئس للظالمين بدلا; فيا لله ما أخسر صفقة أصحاب، هذا الاستبدال! وما أسوأ وأقبح هذا التحول والانتقال؟!
ومن أكبر الكبائر، وأعظم المنكرات، بل هو من جملة المكفرات: ترك الصلاة؛ فإنها قرينة التوحيد، في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي آخر ما يفقد من الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: كل شيء ذهب آخره، لم يبق منه شيء; وهي: عمود الدين، كما تقدم في حديث معاذ; وهي: أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة 2.
وتركها تهاونا وكسلا، مبيح للدم، بعد أن يدعى تاركها إلى فعلها، ويستتاب ثلاثا؛ فإن تاب ورجع إلى فعلها فذاك، وإلا تحتم قتله حدا عند قوم، وردة عند آخرين، وهو
__________
1 البخاري: الصلاة 434 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 528 , والنسائي: المساجد 704 , وأحمد 6/51.
2 الترمذي: الصلاة 413 , والنسائي: الصلاة 465 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1425 ,1426 , وأحمد 2/425.(14/514)
الراجح، وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين; بل قد نقل إسحاق بن راهويه، رحمه الله، الإجماع على أنه كافر.
ومن الأدلة على كفره، ما تقدم، وحديث: بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة 1، وحديث: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر 2، وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر، إلا الصلاة.
وقال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ْ} [سورة مريم آية: 59] ، قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارا.
وها هنا منكر فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وأعظم مما قدمناه من جميع المنكرات، وهو منكر عدم تغيير المنكرات، وعدم الغيرة لمحارم فاطر السماوات والأرض، والتماوت في ذلك، والتسويف فيه، والاغترار بهذه الزهرة الذاوية عن قرب، مع القدرة على التغيير.
ولهذا اشتد في ذلك الوعيد، وغلظ فيه التهديد، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
__________
1 مسلم: الإيمان 82 , والترمذي: الإيمان 2620 , وأبو داود: السنة 4678 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1078 , وأحمد 3/370 ,3/389 , والدارمي: الصلاة 1233.
2 الترمذي: الإيمان 2621 , والنسائي: الصلاة 463 , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1079 , وأحمد 5/346.(14/515)
وروى الترمذي عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم 1.
وروى ابن ماجة، والترمذي وصححه، عن أبي بكر الصديق، قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 105] ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه 2 ولأحمد: إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها في غير موضعها; فذكره.
وروى الترمذي، وأبو داود عن ابن مسعود،، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئا، فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم أطرا 3 وفي رواية أبي داود، قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم 4.
__________
1 الترمذي: الفتن 2169.
2 ابن ماجه: الفتن 4005.
3 الترمذي: تفسير القرآن 3047.
4 الترمذي: الفتن 2169.(14/516)
فيا أمراء المسلمين، ويا حماة الذين، ويا علماء شرع رب العالمين، ويا كافة إخواننا المسلمين الله الله أن تستلب نعمتكم عيانا، وأنتم تقدرون على ثبوتها فيكم، ألا وهي نعمة التوحيد، وتحكيم الشريعة المحمدية، وحفظ المحارم والأولاد والعز والشرف.
واعتصموا بالله جميعا في إقامة الحق، والقضاء على جميع المنكرات، والأخذ على أيدي السفهاء والعصاة، من قبل أن يحل بكم ما حل بمن قبلكم، من سالف الأمم، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنه الله تبديلا.
فعلى العلماء إقامة الحجة، وإيضاح المحجة، وأخذ ما جاء به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقوة، وأن يقوموا بواجب بث النصائح والإرشاد، للجماعات والأفراد، وأن يعلموا الجاهل، وأن يقوموا بواجب التعليم.
أعني تعليم العلوم الشرعية، المبعوث بها صفوة الخلق وخيرة البرية، علوم العقائد، والتوحيد بنوعيه، والعبادات، وعلوم الإيمان باليوم الآخر، وعلوم الحلال والحرام هذا والله هو العلم، وما سواه من أنواع العلوم المباحة في ذاتها، إن لم يكن معينا ومؤيدا لهذا العلم، وموصلا إلى اجتناء ثمراته، وخادما له في كافة حالاته، فإن الجهل به خير من العلم.
وعلى ولاة المسلمين تجريد صوارم العزمات، ومتابعة(14/517)
صواعق التغليظ والتهديدات، والضرب على أيدي العصاة، بيد من حديد، ليرجعوا إلى نجاتهم وحماتهم، وأن يؤكدوا على العلماء فردا فردا، غاية التأكيد أن يقوموا بواجبهم، ويساعدوهم، ويشدوا أعضادهم بالتنفيذ.
وليعلم أن طريق إزالة المنكرات من أبين شيء لسالكيه، وأسهل مطلوب لراغبيه، إن صدقنا الموقف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة آية: 119] ، وصلى الله على محمد.
[التذكير بما من الله به من فتح الحرم الشريف وبالأحاديث الواردة في منع البناء على القبور]
وقال الشيخ: سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى جناب الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أيده الله بالعز والتمكين، وجعله من حماة سنة سيد المرسلين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالموجب لتحرير الكتاب إبلاغ شريف جنابكم جزيل السلام، والنصيحة لكم، فإن النصيحة لكم تتعين على كل مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1.
ثم لا يخفى ما منّ الله به من فتح الحرم الشريف، وما
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/518)
حصل به من إعلاء كلمة الإسلام، وخذلان أهل الشرك والطغيان والآثام، وهدم ما أحدثه أهل الضلال، من القباب، والمقامات، والبنايات التي على القبور، هو من أكبر النعم عليكم، وعلى المسلمين.
وقد علم من عرف ما بعث الله به رسوله من الدين، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الواردة عنه أن البنايات على القبور، وإسراجها، واتخاذها مساجد، من أعظم البدع والمحدثات; وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وبالغ في النهي عنه، حتى لعن من فعله.
والأحاديث في ذلك لا تخفى على مثلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك 1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 2 تحذيرا لأمته أن يفعلوا ذلك، فيستحقوا اللعنة من الله، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قالت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج 3.
وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور، وغلظ في النهي عنها، لأنها ذريعة إلى عبادة القبور، والشرك بأربابها، وهذا هو المحذور الأكبر؛ وقد وقع الشرك وعبادة القبور، لما فعلت الأمة ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من البنايات على القبور،
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 532.
2 البخاري: الصلاة 436 , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 531 , والنسائي: المساجد 703 , وأحمد 1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 , والدارمي: الصلاة 1403.
3 الترمذي: الصلاة 320 , والنسائي: الجنائز 2043 , وأبو داود: الجنائز 3236 , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1575 , وأحمد 1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337.(14/519)
وإسراجها، واتخاذها مساجد وأعيادا.
وقد جمع هؤلاء الضلال بين فتنة القبور، وبين دعاء الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وهذا هو المذهب الوخيم، والشرك العظيم، و: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} الآية [سورة المائدة آية: 72] .
وبهذا تعلم - حفظك الله - أن هدم هذه المشاهد، واستئصالها ومحوها، وعدم إبقاء شيء منها من أعظم الحسنات، وأن تركها، أو ترك شيء منها، والإعراض عن التحريض على محوها وإعدامها، من أعظم السيئات على القادر على ذلك؛ فحينئذ يجب على الإمام أيده الله أن يحرص أشد الحرص على محو هذه القباب، وما أشبهها من مواطن الشرك.
وكان الناس يتحدثون أن الإمام أيده الله يريد أن يقرر رجلا يتفق عليه الناس، ويكون ذلك الرجل أميرا على الحرمين، على شريطة تقديم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحكيمهما، وعزل ما خالفهما.
فإذا كان المحكم في الحرمين الشريفين، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل على ما اقتضياه، في أصول الدين وفروعه، فما أحسنه من صنيع! ما على حسنه من مزيد; وما أجمله عند أهل الإسلام والتوحيد! وما أشقه وأصعبه على نفوس أهل الشرك والتنديد! : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ(14/520)
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] .
وقد قيل:
قالوا حديثك هند وهي مصغية ... يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا
وقد تعلم - سلمك الله - أن سلامة دين الإنسان، لا يحصل إلا بالقيام بأمر الله، والنصيحة لله ولعباده، والصدق مع الله، وعدم المداهنة في دين الله، والخوف من الوقوع فيما يضر دينه، ويقدح فيه.
فاحرص يا أخي على سلامة دينك، وإياك والإعراض عن دين الله، وعدم الالتفات إليه، وترك أهل الشرك والبدع والمعاصي، على ما كانوا عليه؛ فإن ذلك أمر عظيم، ومورد وخيم، أعاذك الله من ذلك.
ونحن نعلم، أو نظن غالبا أن الأمير بمكة إذا كان من أهل تلك الأمكنة، فلا بد أن يكون منه إخلال بما يجب من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وأن يحصل منه عدم اهتمام بدين الله، وإعراض عما أوجب الله على عباده، من القيام بأمر الله، والدعوة إلى توحيده، وإفراده بجميع أنواع العبادة، والنهي عما يخالف ذلك، من الشرك في العبادة، وما يؤول إليه من البدع والضلالات، التي تفضي بصاحبها إلى الشرك والكفر، والخروج من الدين.
وإذا أهمل المتولّى على الحرم ما يجب عليه من القيام(14/521)
بدين الله، فلا بد أن يقع المحذور الأكبر، ويعود أهل تلك المواطن إلى ما كانوا عليه قبل ولاية أهل الإسلام عليهم، من الشرك والبدع والمعاصي الظاهرة، فتعمر القباب على القبور، وتنتشر دعوة الغائبين والأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، ويظهر الزنى، وأكل الربا، وغير ذلك من المنكرات.
فينبغي للإمام أيده الله أن ينتبه لهذا الأمر، ويخاف أشد الخوف من أن يكون عليه كفل من الآثام، بسبب توليته من ليس له رغبة في دين الله، ولا التفات إلى القيام بشرائع الإسلام، والحث عليها وحمل الرعية عليها، والنهي عما ينافيها، من الشرك والبدع والمحدثات.
وطريق السلامة والخلاص للإمام أيده الله، من هذه الشبكة، والنجاة من هذه المعضلة، أن يأخذ العهد والميثاق على من يوليه على الحرمين، على اتباع الكتاب والسنة، والنهي عن الشرك، ودعوة الأموات، ونفي المعاصي والمخالفات، وعلى هدم القباب ونفي البنايات، وغير ذلك من المنكرات.
وليحذر الإمام سلمه الله من الإعراض عن ذلك، وعدم إلزام الأمير القيام بذلك كله، وليتأمل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَِ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-(14/522)
19] .
وقوله:: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} الآية [سورة المائدة آية: 49] .
وأنت أيدك الله إذا أخذت العهد والميثاق على من توليه، حصل لك بذلك سلامة دينك، وحصل لك الثناء والدعاء لك، من كل موحد يبلغه ذلك في جميع الأقطار؛ فإن حصل استمرار على ما تعهده إليه، وتأخذ الميثاق منه عليه، وذلك من أعظم النعم، ويحصل لكم من الأجر والثواب - إن شاء الله - ما وعد الله به أهل دينه، والدعاة إلى سبيله، وإن تكن الأخرى فسوف تنظر في أمرك، وتعرف الذي فيه المصلحة، من جهاد وغيره.
ولا يكن همّك وأعظم مطلوبك أن يحج المسلمون، وأن لا يمنعوا عن البيت، مع إعراضك عما ذكرته لك، من اهتمام بأهل الدين، وتجريد التوحيد؛ وقد علمت أن التوحيد هو أساس الأعمال الذي لا تصح بدونه، ولا تقبل إلا معه وهذه النصيحة كتبتها لك إعذارا وإنذارا، وقياما بما يجب لك علي من النصيحة، والخوف عليك من الوقوع فيما يضر دينك.
وأسأل الله تعالى أن يجعلك ممن يقبل النصائح، ويدرأ أسباب الندم والفضائح، وأن يثبتك علي الصراط المستقيم، وأن يجعلك من الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] . والله(14/523)
أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. حرر في 23 شعبان سنة 1343هـ. [التذكير بوجوب التفقه في الدين ومحبة وصول الخير ووجوب تعلم الدين]
وقال أيضا الشيخ: سعد، وعبد العزيز، ابنا الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد وعبد العزيز ابني حمد بن عتيق، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من إخواننا المسلمين من أهل الجنوب، وفقنا الله وإياهم لاتباع سبيل الهدى، وجنبنا مواقع الهلاك والردى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالموجب لهذا الكتاب، النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومحبة وصول الخير إليكم، فإن ذلك مما أمر الله به عباده، من التعاون على البر والتقوى، بل من واجبات الدين التي أوجب الله على عباده، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله، قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1.
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/524)
فالنصيحة لله سبحانة: الإيمان به، وعدم الشرك به، ووصفه بما تعرف به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وعدم الإلحاد في أسمائه وصفاته، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه.
والنصيحة لكتابه: الإيمان بأنه من عند الله، ووحيه وتنْزيله، وتلاوته مع تدبره، والعمل به واتباع ما فيه. والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم الإيمان به، ومحبته وتصديقه، والتمسك بسنته، واتباع ما جاء به من الهدى ودين الحق.
والنصيحة لأئمة المسلمين: طاعتهم فيما أمروا به من الحق، والجهاد معهم، وأداء الزكاة إليهم إذا طلبوها، وترك الخروج عليهم وإن جاروا، والدعاء لهم بالصلاح.
والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وآخرتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الحق، والحرص على إيصال الخير لهم ودفع المضار عنهم، وحثهم على تقوى الله تعالى، ونهيهم عن التفرق والاختلاف.
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 102-103] ، والتقوى: طاعة الله سبحانه وتعالى، بامتثال أمره، واجتناب نهيه. قال بعض السلف: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على(14/525)
نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. وقال بعض السلف: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم 1.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم 2، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: اعبدوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم 3.
ويجب علينا وعليكم أن نتعلم دين الله ونعمل به، وهو دينه الذي شرعه لعباده ورضيه لهم دينا، وجعل معرفته والعمل به سببا لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سببا لدخول النار.
وأعظم ذلك وأهمه: ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر به عباده، وتعبدهم بالقيام به، مما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واجتناب الشرك ووسائله، وتحكيم رسوله صلى الله عليه وسلم في الدقيق والجليل.
__________
1 مسلم: الأقضية 1715 , وأحمد 2/327 ,2/360 ,2/367 , ومالك: الجامع 1863.
2 ابن ماجه: المناسك 3056 , وأحمد 4/80 ,4/82 , والدارمي: المقدمة 227.
3 الترمذي: الجمعة 616 , وأحمد 5/262.(14/526)
والقيام بواجبات الدين وفرائضه، كالصلاة والزكاة، والحج وصوم رمضان، فإن هذه أركان الإسلام ومبانيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت 1.
فيجب على كل مسلم معرفة هذه الأركان، والعمل بها، والإتيان بها كما أمر الله سبحانه وتعالى، وبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، مع ما يلتحق بذلك من الحب في الله، والبغض في الله، وموالاة أهل الإسلام والتوحيد، ومعاداة أهل الكفر والشرك والتنديد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وعدم الخروج عليه، ونزع اليد من طاعته.
فإن في مخالفة ولاة الأمور، ونزع اليد من طاعتهم، من المضرات والمفاسد في الدين والدنيا ما لا يحصيه إلا الله، وقد منّ الله عليكم، وأنعم عليكم بنعمة الإسلام والدين، والدخول في ولاية المسلمين، والانتظام في سلكهم، فاعرفوا هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم، واشكروه عليها.
وعليكم بالتراحم، والتواصل، والتواد فيما بينكم، فإن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم تراحمهم وتعاطفهم،
__________
1 البخاري: الإيمان 8 , ومسلم: الإيمان 16 , والترمذي: الإيمان 2609 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 5001 , وأحمد 2/26.(14/527)
كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، بالحمى والسهر 1.
وعليكم بإفشاء السلام، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام وحسن الجوار، والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام.
واجتنبوا ما نهى الله عنه كالزنى، والربا، والغيبة، والنميمة، والكذب، وقول الزور، وعقوق الوالدين، والظلم والعدوان، والشدة على عباد الله المؤمنين; واحذروا المراء والخوض في دين الله، والإفتاء بالجهل، والقول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته، وشرعه وأحكامه.
فإن ذلك من أكبر أسباب الضلال، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العمل انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخد الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا 2.
فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 281] ، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [سورة الحاقة آية: 18] ، فنسأل الله الكريم أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم سنة، 1338 هـ 3.
__________
1 البخاري: الأدب 6011 , ومسلم: البر والصلة والآداب 2586 , وأحمد 4/270.
2 البخاري: العلم 100 , ومسلم: العلم 2673 , والترمذي: العلم 2652 , وابن ماجه: المقدمة 52 , وأحمد 2/162 ,2/190 ,2/203 , والدارمي: المقدمة 239.
3 ويلاحظ تأخير بعض هذه الرسائل عن مكانها لأجل تقارب ما قبلها في موضوعاتها.(14/528)
[وصية الشيخ سعد بن حمد بن عتيق إلى الإمام عبد العزيز آل فيصل بالتقوى والحرص على إقامة الدين]
وقال أيضا الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعد بن حمد بن عتيق، إلى الإمام المكرم: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، سلمه الله تعالى، وهداه، وجعله ممن اتبع هداه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: أوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله لعباده، قال تعالى:: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [سورة الزمر آية: 16] . والتقوى كلمة جامعة، يدخل فيها فعل جميع الطاعات، واجتناب المحرمات. ومن أعظم ذلك: الحرص على إقامة دين الله تعالى، وحمل الرعية على العمل بدينه وشرعه الذي شرعه لعباده، وتعبدهم بالقيام به، وخلقهم من أجله، وهو دين الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وهذه أركان الإسلام، ومبانيه التي بني عليها، كما أخبر بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
وأعظم ذلك: معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو إخلاص العبادة لله تعالى، واجتناب الشرك في العبادة، مثل دعاء القبور، والاستمداد من الأموات، وسؤالهم الحاجات وتفريج الكربات، وما يئول إلى ذلك ويفضي إليه، من بناء(14/529)
المساجد عند القبور، والصلاة عندها، وقصدها للدعاء، وغير ذلك من ذارئع الشرك ووسائله، كالحلف بغير الله، وقول الرجل: وحياة فلان، وقول الرجل: لولا الله وفلان; وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق ندا لله تعالى، ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت: قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده 1.
ومن أعظم ما أمر الله به: الصلاة، فإن الله تعالى افترضها على عباده، وجعلها أحد أركان الإسلام؛ فيجب المسارعة في إقامتها، والاجتماع لها في المساجد، والنهي عن التخلف عنها.
فعليكم بالاهتمام بهذه الأصول، وحمل الرعية على القيام بها على الوجه المطلوب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن ذلك من واجبات الدين; وقد وقع من كثيرين من الناس الإخلال بالصلاة، والتهاون بها، وعدم الاجتماع لها جمعة وجماعة.
وأعظم من بلغنا عنهم الإخلال بالصلاة، وعدم الاجتماع لها في المساجد: أهل جهة الحجاز، فعندهم من ذلك ما يفوق الوصف، كما وقع من كثير منهم الإخلال بالزكاة، وعدم اعتبار ما أمر الله ورسوله باعتباره.
ومن ذلك: عدم مراعاة نصاب الزكاة، وأخذهم من
__________
1 أحمد 6/371.(14/530)
القليل والكثير، وعدم الالتفات إلى الحدود الشرعية؛ فيما تجب فيه الزكاة، من الحبوب، والثمار، والمواشي، وهذا من الإعراض عما أوجب الله على عباده من العمل بالشريعة المحمدية.
ولا شك أن الذي يأخذ شيئا من المال الذي لا يبلغ النصاب، ويسميه زكاة، ويدعي أنه هو الزكاة التي أمر الله بها عباده وافترضها عليهم، أن فعل هذا من الجنايات على الشريعة، والتغيير لدين الله، وشرع دين لم يأذن به الله; وهذا مما يجب عليكم الاهتمام به، وتحذير العمال، وأمراء البلدان، من خرص شيء لا يبلغ النصاب فإن ذلك من المنكر الذي يجب إنكاره.
ومن أعظم المنكرات: اختلاط الرجال بالنساء، في البيوت، والمجالس، والأسواق، وخروج النساء بالزينة في الأسواق، والمعاملات الربوية، والكذب في البيوع، والتطفيف في المكيال والميزان، والظلم لعباد الله، والعدوان عليهم في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم.
وينبغي أن نذكر، في هذه الورقة مقادير ما تجب فيه الزكاة، من الحبوب، والثمار، والمواشي، ومقدار ما يؤخذ زكاة من الأموال المذكورة. فأما الإبل: فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمسا، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه; فإذا بلغت خمسا وعشرين(14/531)
ففيها بنت مخاض لها سنة; فإذا بلغت ستا وثلاثين، ففيها بنت لبون لها سنتان، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة لها ثلاث سنين.
فإذا بلغت إحدى وستين، ففيها جذعة لها أربع سنين; فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون، فإدا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان; فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة، ففيها ثلاث بنات لبون; ثم في كل أربعين بنت لبون; وفي كل خمسين حقة.
وأما البقر: فلا زكاة فيها حتى تبلغ ثلاثين; فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع له سنة; وفي أربعين مسنة لها سنتان; ثم في كل ثلاثين تبيع; وفي كل أربعين مسنة.
وأما الغنم: فلا زكاة عليها حتى تبلغ الأربعين; فإذا بلغت أربعين ففيها شاة; فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها شاتان; فإذا زادت على مائتين واحدة، ففيها ثلاث شياه; ثم في كل مائة شاة.
وأما الحبوب: فالنصاب منها مائتان وسبعون صاعا، بالصاع المعروف في بلدان نجد اليوم.
وأما التمر: فالنصاب منه أربعمائة وزنة، بالوزنة المعروفة في نجد اليوم، وأما القدر في الذي تجب زكاته: فما سقي بلا مؤونة، كالذي يسقى بالسيول والأمطار والثلج، فيجب فيه العشر، والدي يسقى بالسواني ونحوها، ففيه نصف العشر، وصلى الله على محمد.(14/532)
[حث النواب والأمراء على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على منع اختلاط الرجال بالنساء]
وقال بعضهم، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لهذه الأمة، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة; فلا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر عنه; فعلى العباد أن يأخذوا بما أتى به نبيه صلى الله عليه وسلم من الدين.
قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، ومن ذلك: الأمر والنهي، اللذان بهما قوام الدين؛ وبالقيام بهما صلاح البلاد والعباد، وبإضاعتهما يكثر الخبث ويعم الفساد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] .
فعلى نواب البلدان، الذين عينهم الإمام، وألزمهم القيام بذلك أن يعتنوا بهذا الأمر، ويقوموا به أتم القيام، ويلزم الأمراء مساعدتهم على ما ألزموا القيام به.(14/533)
لأن الأمر من قاعدة الحسبة، وأصلها هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضلها به على سائر الأمم التي أخرجت للناس.
وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية; ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، من ذوي الولاية، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة.
فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال عليه الصلاة والسلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم 1.
فيجب على الولاة أن يأمروا العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقبوا من لم يصل مع الجماعة في المساجد بالضرب والحبس، ويتعاهدوا الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة، وخروجهم عن المشروع، ألزموهم به، والاعتناء بإلزام الرعية بإقام الصلاة، وهي من أعظم كل شيء، فإنها عماد الدين، وأساسه وقاعدته.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أشد إضاعة.
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7288 , ومسلم: الحج 1337 , والنسائي: مناسك الحج 2619 , وابن ماجه: المقدمة 2 , وأحمد 2/508.(14/534)
ويأمر بالجمع والجماعات، وأداء الأمانة، والصدق، والنصح في الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة، والغش في المبايعات والصناعات، وتفقد أحوال المكاييل والموازين.
ويجب على الآمر أن يمنع النساء من الاختلاط بالرجال، في الأسواق ومجامع الرجال، كالمساجد، قال عليه الصلاة والسلام: ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء 1.
ويجب عليهم منع النساء من الخروج، متزينات متجملات متطيبات، ومنعهن من الثياب التي يكنّ بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات.
وفي الحديث: إن المرأة إذا تطيبت، وخرجت من بيتها، فهي زانية وصح منعها إذا أصابت بخورا، أن تشهد العشاء الآخرة في المسجد، ولا ريب أن اختلاط الرجال بالنساء، هو رأس كل بلية وشر.
وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى للعالمين; ومما بعثه الله به: الأمر بمحق المعازف والمزامير والملاهي; وفي الحديث: إن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال: يا رب، اجعل لي مجلسا; قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي مؤذنا; قال: المزمار.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أما كون المزمار
__________
1 البخاري: النكاح 5096 , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2740 ,2741 , والترمذي: الأدب 2780 , وابن ماجه: الفتن 3998 , وأحمد 5/210.(14/535)
مؤذنه، ففي غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والتصفيق والرقص اللذين هما المكاء والتصدية صلاته; فلا بد لهذه الصلاة من مؤذن وإمام ومأموم، فالمؤذن المزمار، والإمام المغني، والمأمومون الحاضرون.
وقال بعض العارفين: وقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا أوقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها؛ ثم كثر الجهل وقلّ العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا.
ثم ازداد الأمر حتى استزلهم الشيطان، وأسبغ عقولهم في حب اللهو وسماع الطقطقة، واعتقد أنه من الدين الذي يقرب من الله، فجاهروا به، وخالفوا الفقهاء والعلماء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
وقد صرح علماء الأمة بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، والضرب بالقضيب، وصرحوا أنه معصية يوجب الفسق، وترد به شهادته.
قال النووي: فإذا كان الزمر - الذي هو آلات اللهو - حراما، فكيف بما هو أشد منه، كالعود والطنبور؟ ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعائر الفسّاق.(14/536)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما تعتقد وتبغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن أصوات المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء; فالغناء يفسد القلب، فإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
والمقصود: أن هذه الأصوات المطربة، الحاصلة من "المحَّال"1 داخلة في مسمى المعازف والملاهي والمزامير، لأنها تصد عن ذكر الله وعن القرآن، وتجلب الغناء الذي هو قرآن الشيطان، وفعل السيئ وتقدم فعله.
والعوائد التي تخالف الشرع لا يقر الناس عليها، بل يجب إزالتها؛ والسكوت عن مثل ذلك، وعدم النهي عنه بخصوص، لا يدل على جواز فعله، ولا يقتضي عدم كراهته، لأن الدين ما شرعه الله على لسان رسوله; وبكل حال: فأصوات "المحَّال"من المحرمات بلا ريب.
وما أعظم ضرر الغفلة عن مثل ذلك وعدم النهي عنه، حتى يستحكم في أنفس الجهال، فيرون أنه من الدين، فإذا غير أنكرته طباعهم، لما في قلوبهم من الشك وعدم اليقين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان تتخذ فيه البدعة سنة، فإذا غيرت، قالوا غيّرت السنة والمحتج
__________
1 من آلات السواني.(14/537)
بالعادة أو فعل متقدم، بلا دليل شرعي، فحجته باطلة لا يلتفت إليها والحق - بحمد الله - واضح لمن وفق لقبوله.
ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن; وإقامة الحدود، والأمر [بالعقوبات] واجب على ولاة الأمور، والعقوبة تكون على فعل محرم، أو ترك واجب.
فإياكم عباد الله والمداهنة في الدين، وعدم الإنكار على من خالف سبيل المؤمنين، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده، ليخرجن أناس من أمتي من قبورهم، في صورة القردة والخنازير لمداهنتهم في المعاصي وكفهم عن المنهي، وهم يستطيعون.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يمنعن أحدكم هيبة الناس، أن يقول الحق إذا رآه، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يبعد من رزق أو كما قال.
وقال صلى الله عليه وسلم: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم، فلا يستجاب لهم وقال صلى الله عليه وسلم وإن آية سخط الله على العباد أن يسلط عليهم صبيانهم، فينهونهم فلا ينتهون.(14/538)
وقال علي رضي الله عنه: الجهاد ثلاثة: جهاد بيد، وجهاد بلسان، وجهاد بقلب.
فأول ما يغلب عليه من الجهاد جهاد اليد، ثم جهاد اللسان، ثم جهاد القلب؛ فإذا كان القلب لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، نكس وجعل أعلاه سافله.
وقال الحسن: لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا استووا فذلك حين هلاكهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمنازلهم من الله، على منابر من نور، يعرفون؟! الذين يحببون عباد الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده، ويمشون في الأرض نصحا; قيل: كيف يحببون عباد الله إلى الله؟ قال يأمرونهم بما يحب الله، وينهونهم عما يكرهه الله، فإذا أطاعوهم أحبوهم.
والأحاديث والآثار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كثيرة; والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين.(14/539)
[الشيخ سليمان بن سحمان يذكر الإمام عبد العزيز آل فيصل بأسماء الله وصفاته وكمال قدرته]
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الابتلاء والامتحان طهرة وتمحيصا لأهل الإيمان، ورجزا ونقمة على أهل الظلم والطغيان، وأزال به عن قلوب أوليائه، حجاب العجب ورؤية القدرة، وأعقبهم الصبر والإيقان، فيُري عباده عزته، ويبدي لهم لطفه، لتظهر آثار الحكمة لمن له بصيرة وعرفان.
إلى حضرة محبنا وفاضلنا، ذي السعادة والسيادة، الشيخ المفضل، والرئيس المبجل، الإمام: عبد العزيز بن الإمام المكرم عبد الرحمن آل فيصل، أمده الله بالتوفيق والتسديد، وخذل كل عدو له وللإسلام من قريب أو بعيد، وأزاح عنه علل الشكوك، ورزقه الإيقان والسلوك، وألبسه لباس العز والتمكين، ونصر به شريعة سيد المرسلين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأزكى وأشرف تحياته.
أما بعد: فإن من عرف الله بأسمائه وصفاته، وعزته وقدرته، وكمال مجده وملكه وغناه، وعرف نفسه بالنقص والعيب، والعجز والضعف، والفقر والذل، أوجب له الرضى والتسليم؛ فمقدورات الرب سبحانه وبحمده أنه حكيم عليم، ما شاء كان، وما لم يشأ لا يكون.
وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض تحت قهره، وفي قبضته وتصرفه; فإذا أيقن العبد بذلك، انزاحت عنه العلل، وعلم أن لنفسه(14/540)
دسائس وكمائن، فيعود عليها باللوم، والتوبيخ، والتبكيت.
وليعلم: أن العليم الحكيم إنما ابتلاه ليعلم صبره وإيقانه، فيزداد رغبة لربه وانطراحا بين يديه، وانكسارا ودخولا على ربه، من باب الافتقار الصرف فعند ذلك يعود عليه ربه بعائدة بره ولطفه وكرمه، ويمده بمدد يرى أثره في حياته، وعقباه في آخرته؛ والابتلاء والامتحان يتميز به صادق الإيمان من كاذبه.
وقد ابتلى الله أولياءه وأصفياءه، وخاصة رسله، قال الله تعالى لعبده ورسوله، فيما أوحاه إليه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 25-26] .
وكذلك ما جرى عليه صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد، حين كسرت رباعيته، وشج رأسه، وما ذلك لهوانه، وهوان أصحابه عليه، ولكن لزيادة ثوابهم، ورفعة درجاتهم: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 141] .
والمؤمن الموفق، إذا ناله شيء من الابتلاء، أوجب له عدم اتهام ربه بقضائه وقدره، وصبر واحتسب، وانتقل من الحال التي يكرهها الله، إلى الحال التي يحبها، وأما من ضعف صبره ويقينه، وقل احتسابه، فالمصائب لا تزيده إلا ريبا، وشكا، وإساءة ظن، واتهاما لمولاه، فيرجع بأخسر(14/541)
الصفقتين، وينقلب بأعماله وأحواله صفر اليدين.
وأنت - من فضل الله وكرمه - عوائد ربك ومننه عليك لا تحصى كم نالك من وصمة، وشدة وكربة، ورد الله لك الكرة المرة بعد المرة؟ وباء عدوك بالخزي والعار والمذلة; فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، فجلت عظمته، وعزت قدرته.
فاشكر مولاك الذي أنجاك، واصرف همتك لما يرضيه، واجعل أمره ونهيه، وخوفه ورجاءه، نصب عينيك؛ وأدم له التضرع والابتهال، والقيام بواجبات الشكر، تفز بخير الدنيا والآخرة، وتنال مطلوبك ومأمولك.
ونحن لما سمعنا ما أجرى الله، ضاقت بنا الأرض بما رحبت، ووددنا أن نفديك بأنفسنا، ومن تحت أيدينا، ولكن الكربة انفرجت في آن قريب، فلما سمعنا بسلامتك وعافيتك، اطمأنت نفوسنا ونفوس المسلمين، وظهر فيما بينهم الفرح والسرور.
ونرجو من الكريم المنان أن يديم لهم وجودك وسلامتك، وهدايتك لما فيه صلاح العباد والبلاد، لينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون؛ وإلا فالدنيا لا بد فيها من الافتراق، ولا بد لها من الزوال، والله ولي الهداية والتوفيق، وصلى الله على محمد.(14/542)
[الوصية بإخلاص العبادة وذكر بعض آيات في التوحيد وذكر عظم الشرك]
وقال بعضهم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ونصب الأدلة على صحته وبينه تبيينا، ومنّ على من أنعم به عليه، وكفى بربك هاديا ومعينا; إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المسلمين خاصة أهل الدين، وفقنا الله وإياهم للتمسك بحبله المتين، ورزقنا الاستقامة على الحق المبين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، وتدبر كتابه المجيد، الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . وقد حكم تعالى في كتابه، على إخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وأخبركم أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] .
وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
وأمركم بعبادته وحده، ونهاكم عن الشرك به، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو(14/543)
وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] .
فهذا أصل الدين وأساس ملة الإسلام، الذي لا يصح لأحد عمل إلا به، وهو دعوة جميع الرسل، وهو الذي خلق الله له جميع الخلق، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات آية: 56] .
والآيات في بيان هذا التوحيد، وأن جميع الرسل دعوا الناس إليه في القرآن أكثر من أن تحصر؛ يعرف ذلك من تدبره، وشرح الله صدره، ونصب الأدلة على أنه لا يستحق العبادة غيره، فمن ذلك ما ذكره الله تعالى من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا التي هي صفات الكمال، وكذلك ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته.
ولذلك صار الشرك في العبادة أعظم ذنب عُصي الله به، وأوجب على المؤمنين مقاطعة أهله، والبراءة منهم، وجهادهم، والكفر بهم، وأباح دماءهم وأموالهم؛ فلا يكون المؤمن موحدا إلا بهذا، وهو مقتضى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله، "قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] .
فلا يصح للمؤمن دين، إلا بموالاة أهل التوحيد ومحبتهم، وبغض أهل الشرك والنفاق، والبراءة منهم، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا(14/544)
بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
وهذه هي أصل عرى الدين.
فإياكم إياكم أن تنقضوا هذه العرى، بالغفلة والإعراض عنها، والاشتغال بالدنيا عن هذا الأصل العظيم، الذي لا يصح لكم دين إلا بالإتيان به باطنا وظاهرا، واعتقادا وعملا؛ وحاسبوا أنفسكم عن هذا الأصل العظيم، وميزوا الناس بدينهم، وقربهم من ربهم وبعدهم عنه، وعن العمل بما أمروا به.
فيا سعادة من صح له هذا الدين، وأحب في الله وأبغض في الله، وعادى في الله ووالى في الله، وقرب لله وأبعد لله، وأعطى لله ومنع لله، محبة للدين وعملا بما فرضه الله.
واعلموا أنه لا يقوم هذا الدين إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحث عليه كثيرة جدا.
الأمر الثاني: جهاد من خرج عن طاعة الله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 39] .
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36] ، وملاك ذلك: الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، علما وعملا.(14/545)
وقد أمر الله تعالى بالاجتماع على دينه، ونهى عن التفرق والاختلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية [سورة آل عمران آية: 103 - 105] .
الأمر الثالث: طاعة من ولاه الله أمر المسلمين، فيما يأمركم به من طاعة الله ورسوله، وما ينهاكم من معصية الله ورسوله ونحو ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كحديث العرباض بن سارية، مرفوعا: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي ... 1 إلخ.
وقد أعطاكم الله بهذا الدين، من جلائل النعم، ووفرتها ما لا يحصى، فاشكروا الله تعالى على ما أعطاكم من نعم الدين والدنيا، بامتثال ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، واتقاء سخطه وعقابه، وحلول نقمته وعذابه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
وفي الحديث: المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه 2. وقد ابتليتم بالهوى، وحب الدنيا
__________
1 الترمذي: العلم 2676 , وابن ماجه: المقدمة 42 , والدارمي: المقدمة 95.
2 البخاري: الإيمان 10.(14/546)
فإياكم إياكم أن تأمنوا مكر الله، واعتبروا بمن مضى من الدول، وما صاروا إليه، واحذروا غير الله، فـ: {نَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [سورة التوبة آية: 36] .
أعاذنا الله وإياكم من التمادي في التغيير، ونسأله التوبة النصوح، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
[أوجب الواجبات التوحيد وإجابة المرسلين ومعرفة ذلك والعمل به والحث على لزوم الشريعة]
وقال بعضهم، رحمهم الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لسلوك صراطه المستقيم، وجنبنا وإياهم طرق الجحيم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب هذا الكتاب، النصيحة لكم، والشفقة عليكم، ومعذرة من الله فيما أخذه علينا من الميثاق، من بيان أمره للعباد، والتحذير من ارتكاب نهيه، كما أوجب الله عز وجل علينا معرفته ومعرفة نبيه، ومعرفة ما شرعه هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وواجب على من علم: العمل بالعلم وتعليمه، والصبر على ذلك، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرإِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر آية: 1-2] ، إلى آخر السورة.(14/547)
وأوجب الواجبات: علم التوحيد; وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى شهادة أن محمدا رسول الله; فهاتان الكلمتان عليهما مدار الدين كله، ولهذا لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟.
فعبادة الله، هي إفراده سبحانه بأنواع العبادة، دون ما سواه، وإجابة المرسلين: طاعتهم فيما أمروا، واجتناب ما عنه نهوا وزجروا، وأن لا يعبد الله إلا بما شرعوا.
فإذا تحققتم هذا، فواجب عليكم معرفة هذين الأصلين، والعمل بهما؛ ولا يحصل هذا إلا بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدبر ما أمرا به وما نهيا عنه، والوقوف عند ذلك بالامتثال، خوفا ورجاء، ومحبة وشوقا إلى الله، وما لديه من النعيم، وهربا من العذاب الأليم.
فقد أقام الله ورسوله علينا حججه ببيان الحق، وأمرا باتباعه، وبيان الباطل، وأمرا باجتنابه; ووعدا وتوعدا، وحذرا وأنذرا، وبلغا البلاغ المبين، إجمالا وتفصيلا، حتى صار الدين لطالبه أوضح من الشمس في رابعة النهار; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات،
__________
1 أحمد 3/387.(14/548)
فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب 1 متفق عليه.
ففي هذا الحديث أن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وهو المحكم الذي لا يحتاج إلى بيان وتفسير من القرآن، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يفهمها كل من سمعها; وبين ذلك أمور، لا يعلمها إلا أهل العلم; وأن سليم القلب بالصلاح، يترك المتشابه، خشية من الوقوع في الحرام الصريح، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك 2.
إذا عرفتم هذا إجمالا، فأول ما يجب على الإنسان: معرفة التوحيد والتزامه، ومعرفة الشرك والبراءة منه وأهله، ثم معرفة فرضية الصلاة، وما وجب على المصلي فيها، من شروط وأركان وواجبات، وما يبطلها وما يخل فيها؛ والزكاة والصوم والحج مثل ذلك: هذه هي أركان الإسلام الخمسة.
ثم معرفة ما به قوام الإسلام، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد على حسب طاقة المكلف، ثم معرفة الحلال البيّن، والحرام البيّن، والورع عما بين ذلك من الشبهات، وسؤال أهل العلم عن المشكلات، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ
__________
1 البخاري: الإيمان 52 , ومسلم: المساقاة 1599 , والترمذي: البيوع 1205 , والنسائي: البيوع 4453 , وأبو داود: البيوع 3329 , وابن ماجه: الفتن 3984 , وأحمد 4/269 ,4/270 , والدارمي: البيوع 2531.
2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2518 , والنسائي: الأشربة 5711 , والدارمي: البيوع 2532.(14/549)
لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] .
وقد يقع بعض الناس في أمور، إما جهلا، وإما تهاونا وعدم مبالاة، من المخالفة لأمر الله وأمر رسوله، وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، فعلق الهداية تعالى في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فخطير على من خالف أمر الرسول، أو تهاون به أن ينقلب قلبه عن الحق، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام آية: 110] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [سورة الصف آية: 5] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى 1.
فالنجاة من غضب الله وعقابه، ودخول الجنة، في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والهلاك والعذاب، وحرمان النعيم في الدنيا والآخرة في معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالله الله عباد الله! الفرار من ذلك; والحذر الحذر مما يقرب إليه، من الوسائل الموصلة إلى تلك المسالك.
فما يقع من الناس: الإعراض عن العلم، مثل ثلاثة الأصول وغير ذلك من الواجبات; ومن ذلك التهاون بالذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والسخرية بهم، وعدم مساعدتهم ممن له قدرة على ذلك; ومن ذلك: الربا
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة 7280 , وأحمد 2/361.(14/550)
والغش، والسوم على السوم في البيع والشراء.
ومن ذلك: الخطبة في النكاح على خطبة المسلم، وتخبيب المرأة على زوجها، والخطبة في العدة، وقد ذكر شيخ الإسلام، رحمه الله: أن الخاطب في العدة يعزر; ومن ذلك: أن لا يتزوج مخطوبته، وهو مقتضى الأصول، فإن الشرع قد نهى عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد.
ومن ذلك: نكاح الشغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه; وهو: أن يزوج الرجل وليته، على أن يزوجه الآخر وليته، وليس بينهم صداق المثل; لكن يحصل من بعض الناس حيلة دعوا بها; وهو: أن يجعلوا مهرا دون مهرها، ولو لم يكن بينهم شرط.
وقد جاء في الحديث: لا تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل وللعلماء في هذا كلام طويل؛ لكن صالح القلب السليم من الفساد، ينظر إلى الحقائق، فلا يروج على الله البهرج بالتحيل، فإن الخطر شديد، والناقد بصير، والحساب عسير.
وقد جاء في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم; قال الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم 1 رواه أحمد.
ففي هذا الحديث: فضيلة من جمع هذه الخصال;
__________
1 أحمد 6/67.(14/551)
وهو: معرفة الحق وقبوله، وبذله لطالبه، والإنصاف من النفس؛ ولا يحصل هذا إلا بجهاد النفس عن شهواتها، وذلك بمخالفة الهوى بالبصيرة في الدين، والعمل به، وتعليمه، والصبر عليه، فالمؤمن ضالته الحقّ، ولو خالف نفسه، وهواه؛ والمنافق والفاسق، لا يقبل من الحق إلا ما وافق هواه.
فحذار حذار مما يسخط الجبار، ويكون عاقبة صاحبه دار البوار، فلا بد من يوم يشيب هوله المولود، وقال تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [سورة الحج آية: 2] .
فعليكم لزوم الشريعة تعلما وعملا، وإرشادا وموادة، فإن من كان بهذه المثابة، فالتوفيق له أقرب من حبل الوريد؛ وإياكم والتشاحن والتباغض على الدنيا، والحسد والكبر والفخر، وغير ذلك من المعاصي مما هو أكبر من ذلك.
لكن ذكرنا هذا لوجوده في كثير من الناس، عذرا أو نذرا، لأنه واجب على من عرف الحق نشره، وواجب على من لا يعلم أن يتعلم؛ وكل عليه أن يقوم بما يجب عليه، من العلماء والمتعلمين والولاة، من الأمراء والأئمة والنواب وعامة الناس.
فإن الدين النصيحة، كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، على حسب(14/552)
قدرتهم، كما في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإنه واجب على حسب القدرة في المراتب الثلاث، باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان.
والله المسؤول المرجو الإجابة أن يوفقنا وإياكم للحق والإصابة، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [التذكير بما جرى لبعض الأمم وسنن الله في ذلك وما يخرج في آخر الزمان من أشياء مذمومة]
ولبعضهم أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين سلك الله بهم طريقة سيد المرسلين، وأعاذهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب للخط النصيحة لي ولكم، والشفقة عليكم، والتذكير لكم، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] .
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [سورة الأعلى آية: 9] .
وقال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} [سورة غافر آية: 13] .
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [سورة آل عمران آية: 30] .
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ(14/553)
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 31] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 44] .
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [سورة إبراهيم آية: 7] .
فالشكر على ثلاثة أنواع:
نطق باللسان، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [سورة الضحى آية: 11] ، وعمل بالأركان، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، واعتقاد بالجنان، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 53] .
وفي سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر قال: كنت عاشر عشرة، رهط من المهاجرين، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها، إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن بأسلافهم الذين مضوا.
ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم. وما منع قوم زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا نكث قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم يعمل أئمتهم(14/554)
بما أنزل الله عز وجل إلا جعل الله بأسهم بينهم.
وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم إذا عمل العامل منهم بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيرا، فإذا كان الغد جالسه، وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس.
فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على ألسنة أنبيائهم، داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم.
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم ابن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم.
وذكر أبو عمر بن عبد البر، قال: بعث الله عز وجل ملكين إلى قرية: أن دمراها بما فيها، فوجدا فيها رجلا قائما يصلي في مسجد; فقالا: يا رب إن فيها فلانا يصلي; فقال الله: دمراها ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه في قط.(14/555)
وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد، عن مسعر: أن ملكا أمر أن يخسف بقرية، فقال: يا رب فيها فلان العابد، فأوحى الله عز وجل إليه: فبه فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط.
وذكر ابن أبي الدنيا، عن وهب بن منبه، قال: لما أصاب داود الخطيئة، قال: يا رب اغفر لي، قال: قد غفرت لك، وألزمت عارها بني إسرائيل; قال: يا رب كيف وأنت الحكم العدل لا تظلم أحدا، أعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري؟ فأوحى الله إليه: إنك لما عملت الخطيئة، لم يعجلوا عليك بالإنكار وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس ابن مالك أنه دخل على عائشة، هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة; فقالت: إذا استباحوا الزنى وشربوا الخمر، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمتها عليهم; قال: يا أم المؤمنين: أعذابا لهم؟ قالت: بل رحمة للمؤمنين، ونكالا وسخطا على الكافرين.
وفي مناقب عمر، عند ابن أبي الدنيا: أن الأرض تزلزلت على عهد عمر، فضرب بيده عليها، فقال: ما لك؟ أما إنها لو كانت القيامة، حدثت أخبارها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة، فليس فيها ذراع، ولا شبر، إلا وهو ينطق.
وقال كعب: إنما تزلزلت(14/556)
الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي، فترعد فزعا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب; يقول الله عز وجل: أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت؛ لأبعثن على أولئك فتنة، تدع الحليم حيرانا" 1.
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال علي: يأتي على الناس زمان، لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. مساجدهم يومئذ عامرة، وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء؛ منهم خرجت الفتنة، وفيهم تعود.
وقال حذيفة: إذا أذنب العبد، نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصبح كالشاة الربدا; وقيل أوحى الله إلى موسى عليه السلام: يا موسى، إن أول من مات من خلقي إبليس، وذلك أنه عصاني وإنما أعد من عصاني من الأموات 2.
وذكر من حديث سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: إذا ظهر الزنى بقرية، أذن الله عز وجل بهلاكها; ومن مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسنة، وتباغضوا بالقلوب
__________
1 الترمذي: الزهد 2404.
2 الترمذي: تفسير القرآن 3334 , وابن ماجه: الزهد 4244 , وأحمد 2/297.(14/557)
وتقاطعوا الأرحام، لعنهم الله عز وجل عند ذلك، فأصمهم الله وأعمى أبصارهم ومما ينبغي أن يعلم أن الذنوب تضر الأبدان، وضررها في القلب، كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرا وداءً، إلا وسببه الذنوب والمعاصي.
وفي مراسيل الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال هذه الأمة تحت يده وفي كنفه، ما لم يمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن أخيارها أشرارها، فإذا فعلوا ذلك، رفع الله عنهم يده، ثم سلط عليهم جبابرتهم، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفقر والفاقة.
وقال الحسن: إن الفتنة ما هي إلا عقوبة من الله عز وجل وذكر ابن أبي الدنيا، من حديث عمار بن ياسر، وحذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل إذا أراد بالعباد نقمة، أمات الأطفال، وأعقم النساء، فتنْزل النقمة وليس فيهم مرحوم.
وذكر مالك بن دينار، قال: قرأت في الحكم: يقول الله عز وجل: أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة؛ فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن أقبلوا عليّ أعطفهم عليكم.(14/558)
وذكر الإمام أحمد وغيره، عن قتادة: قال موسى: يا رب أنت في السماء، ونحن في الأرض، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال: إذا استعملت عليكم أشراركم، فهو علامة غضبي عليكم.
وذكر ابن أبي الدنيا، من حديث ابن عباس، يرفعه، قال: يأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: ممّ ذلك يا رسول الله؟ قال: مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره.
وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته. وقال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من ذي عقل، يقول في دعائه: اللهم لا تشمت بي الأعداء، ثم يشمت بنفسه كل عدو له; قيل كيف ذلك؟ قال: يعصي الله، ويشمت به في القيامة كل عدو له.
اللهم إني أسألك التوفيق والهداية إلى طريق الرشاد، ونعوذ بك من طريق أهل الغي والبدع والعناد; ونقول: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وصلى الله على محمد.(14/559)
[التذكير بأهمية النصيحة والتنبيه على ما وقع من قسوة القلوب وعدم المبالاة بواجبات الدين]
وقال بعضهم، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لقبول النصائح، وجنبني وإياهم طريق الفضائح، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة التوبة آية: 91] . وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة ـ والتكرير يفيد الاهتمام بالمكرر ـ; قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم 1.
وقد وقع في هذا الزمان قسوة في القلوب، وعدم مبالاة بما فات من أعمال الخير والطاعات، ولا سيما واجبات الدين، من صلاة وزكاة، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر.
والأمر بالمعروف: كلمة جامعة لكل معروف، والنهي عن المنكر: كلمة جامعة لكل منكر; فالمنكرات واقعة بين أناس، ولا يشعرون أنها منكرات، أو يشعرون ولا يبالون بها. فمن ذلك: عدم المبالاة بما خرج من اللسان، كالاستهزاء بالدين، وبمن يأمر بشيء من الدين; كمن إذا قيل له: لا تتكاسل عن الصلاة، ولا تلعن، ولا تخالط النساء،
__________
1 مسلم: الإيمان 55 , والنسائي: البيعة 4197 , وأبو داود: الأدب 4944 , وأحمد 4/102.(14/560)
وغير ذلك، أخذ يقول: خلّ عنا طوعك، ويعلج لسانه.
وهذا من أعظم المنكرات، ولكن لعدم مبالاتهم، لا يبالون بوقوعه منهم، بل عده العلماء من المحبطات للإيمان، والكفر بعد الإيمان، واستدلوا بقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] .
وقد ترجم شيخنا، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في "كتاب التوحيد"ترجمة ذكر فيها الآيات، والأحاديث الدالة على انتقاض إسلام متعاطي مثل ذلك، وذكر أيضا في بعض رسائله، أنه داخل في مثل ذلك: مد الشفة وغمز بالعين.
وقد ذكر لنا أن عبد الله بن الشيخ لما غزا مع عبد الله بن سعود، ومر رجل من المسلمين رجلا يغني، فنهاه عن ذلك، ثم رد عليه المنهي وقال: خلّ عنا طوعك; أنكر ذلك الشيخ عبد الله غاية الإنكار، وذهب إلى عبد الله بن سعود، وقال: تغزو العدو البعيد، وتترك العدو الباطني؟ فأمر به فضرب.
وهذا أمر يقع ولا يبالى به، ولا يرى منكرا; وإن رئي منكرا، فلا أحد ينكره; ويتعاطاه متعاطيه عامدا لذلك، عالما به أنه منكر.
ومن المنكرات: مخالطة الرجال للنساء الأجنبيات، في الأسواق والسكك، لا سيما أيام العرضات، ومع ذلك تجدها ووجهها باد، وما عليها إلا شيلة رهيفة، وتجدها تقف للرجال تنظر إليهم وينظرون إليها; وأول معصية وقعت في(14/561)
بني آدم، خلطة الرجال بالنساء، ثم الزنى.
ومن المنكرات: قذف الرجال بعضهم بعضا، والنساء بعضهن بعضا ; يقول الرجل لأخيه: يا زاني، يا ولد القحبة; وتقول المرأة لأختها: يا زانية، يا قحبة; وهذا من أعظم المنكرات، بل من السبع الموبقات.
ومن المنكرات أيضا: لعن الرجل لأخيه، ولعن الصبيان بعضهم بعضا، ومع ذلك هذه المنكرات لا يبالى بها، ولا ينكرها منكر; وإن أنكرت فعلى ضعف; وقد أعظم القرآن والسنة أمرها وشناعتها، ليست بخافية على العامة، فضلا عن الخاصة.
فيجب على ولاة الأمور إنكار المنكرات، والأمر بالمعروف; وقد ذكر بعض العلماء أن على ولاة الأمور عبودية تخصهم ليست على غيرهم، وعلى العلماء عبودية تخصهم؛ فعلى ولاة الأمور تنفيذ أمر الله، وعلى العلماء التبليغ والنصح، وعدم الغفلة عن التناصح، لمن له قدرة على ذلك؛ وعلى العامة القبول والمساعدة
ومما هو لازم وواجب: قسر الجاهل على تعلم دينه بدليله; ومن ذلك: زجر الناس من أكل أعراض بعضهم بعضا; وبالجملة: فكل ما حرم الله فهو منكر، وكل ما أمر الله به فهو معروف، فيجب إنكار المنكر، والائتمار بما وجب من الأمر، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(14/562)
فائدة: روي أن عيسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - مر على قرية فوجد أهلها أمواتا على الطرقات من غير دفن، فسأل ربه عنهم، فأوحى الله تعالى إليه: إذا كان الليل، فادعهم إنهم يجيبونك.
فلما كان الليل ناداهم، فقال رجل منهم: لبيك يا روح الله; قال: ما قصتكم؟ قال: بتنا في عافية، وأصبحنا في الهاوية، قال: ولِمَ؟ قال: بحبنا للدنيا كحب الصبي لأمه، إذا أقبلت فرح، وإذا أدبرت بكى; قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال إنهم ملجمون بلجام من النار، بأيدي ملائكة غلاظ شداد.
قال: كيف أنت أجبتني من بينهم؟ قال: لست منهم، بل مررت بهم، فلما نزل العذاب أصابني ما أصابهم، وأنا مطروح على شفير جهنم، فلا أدري أنجو أم لا.
وفقنا الله وإياكم إلى طريق الخير والصلاح والهدى، وعصمنا وإياكم من أسباب الجهل، وطريق المعاصي والردى، وسلمنا من شرور أنفسنا، فإن النفس أشر العداء; والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.
آخر الجزء الرابع عشر من الدرر السنية ويليه
الجزء الخامس عشر إن شاء الله تعالى.
صلى الله عليه وسلم(14/563)
المجلد الخامس عشر: (القسم الأول من البيان الواضح وأنبل النصائح عن ارتكاب الفضائح)
مقدمة
...
[مقدمة]
القسم الأول من البيان الواضح وأنبل النصائح عن ارتكاب الفضائح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، يبصرونهم عن العمى، ويصبرون منهم على الأذى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، أنزل كتابه المبين، هدى ورحمة، وذكرى للمؤمنين.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، أرسله الله تبصرة ورحمة للعالمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد: فحيث حصل بسبب الاختلاط بأهل الخارج، المشابهة في بعض المحظورات، من أنظمة، وتعليم، وترك فرائض، ومشابهة في المكس، واللباس، وحلق اللحى، والتصوير، والتبرج، والملاهي، والتنزه، وغير ذلك مما حدث في هذا العصر، وهو ما بعد وفاة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله، سنة 1339 هـ.(15/5)
مع أنهم لا يرون أنهم في رتبة طبقة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والإمام فيصل، وكذلك أولئك، لا يرون أنهم يماثلون طبقة مجدد الدعوة، وذريته الذين بذلوا مهجهم، وأبناءهم، وأموالهم، في جهاد من يليهم، إلى أن يدخلوهم في الإسلام طوعا وقسرا، فضلا عن عصر النبوة والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من الأئمة المهديين، فلما حدث من ذلك، من المعاول الهدامة لدين الإسلام، استعنت بالله جل وعلا، أن أثبت ما وقفت عليه من نصائح بعض علمائنا 1 وما لم أقف على شيء منه، أورد قبله ما تيسر بلاغا عن الله، وإقامة لحججه وبيناته من كتاب الله وسنة نبيه، على عباده، وتوكلا على الله، واتباعا لقوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 54] ، وامتثالا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "وأن تقول الحق ولا تخاف في الله لومة لائم"
وأسأله تعالى أن يوفق علماء هذا العصر، الذين هم ما بين قاض ومعلم وغيرهم، بأن يتساعدوا مع ولاة الأمر، على أن يخففوا وطأة هذه المنكرات التي حدثت، فيبنوا ما تهدم مما أطده سلفهم، إلى أن يعود الأمر إلى نصابه. وأبدأ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إنه
__________
1 وبعض ما وقفت عليه, أضفته إلى مجموع رسائلهم, كل رسالة فيما يليق بها من تلك المجلدات.(15/6)
إذا استقام قضى على تلك المحظورات، فأقول:(15/7)
[الباب الأول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الباب الأول
أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثنى على من قام به، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] ، وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان" 2، وقال صلى الله عليه وسلم "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده" 3.
__________
1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .
2 مسلم: الإيمان (50) .
3 أبو داود: الملاحم (4336) .(15/7)
ويأتي من النصائح ما فيه كفاية.
[نصيحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد]
وأبدأ بنصيحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، لتصويره الواقع فيها، فقال رحمه الله تعالى 1:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة إخواننا المسلمين، وفقني الله وإياهم للعمل بما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومناهيه، آمين. سلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
وبعد: فلا يخفى ما أصيب به الإسلام والمسلمون، من الشرور والفتن، والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بالوداع، والنفاق قد أشرف وأقبل باطلاع. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره، لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره؛ ولم يقوموا بالدعوة إليه، بغرس محبته في القلوب بذكر ما تقدم؛ فإن الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج اللذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة.
والاجتماع المأمور به، في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [سورة آل عمران آية: 103] تهدمت مبانيه،
__________
1 نقلت من الطبعة الثالثة في مؤسسة النور.(15/8)
والائتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
نرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو ركن من أركان الإسلام، في قول طائفة، من العلماء، ضعف جانبه، وكثر في الناس مجانبه، وتنوعت مقاصد الخلق، وتباينت آراؤهم؛ فالمنكر للمنكر في هذه الأزمنة، يقول الناس فيه: ما أكثر فضوله، وما أسفه رأيه! وربما غمزوه بنقص في عقله؟ ومن سكت وأخلد، قيل: ما أحسن عقله، وما أقوى رأيه، في معاشرته للناس، ومخالطته لهم!
والله قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فأخص أوصاف المؤمنين، المميزة لهم عن غيرهم، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورأس الأمر بالمعروف: الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له، وتبصيرهم بما دل عليه كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتحذيرهم من مخالفة ذلك.
قال الإمام الغزالي، في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] : وصف الله المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خارج عن هؤلاء المؤمنين. انتهى، وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [سورة الأعراف آية: 165] ما يدل على أن الناجي هو(15/9)
الذي ينهى عن السوء، دون الواقع فيه والمداهن.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الأعظم للدين، والمهم الذي بعث الله لأجلة النبيين، ولو أهمل لأضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعم الفساد، وهلك العباد; إن في النهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والكمالات، فإذا أهمل أو تسوهل فيه، تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور، بلا مبالاة ولا خجل.
ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم؛ ثم يتجرأ الكثيرون، أو الأكثر على ارتكابها، ولكن يا للأسف! استولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، حيث اندرس من هذا الباب عمله وعلمه، وانمحى معظمه ورسمه، واسترسل الناس في اتباع الأهواء والشهوات.
ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ للشريعة، وحماية لأحكامها، تدل عليه- بعد إجماع الأمة، وإرشاد العقول السليمة إليه- الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، مثل قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ?يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران آية: 113-114] ، فدلت الآية الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإيمان(15/10)
بالله واليوم الآخر، حيث، لم يشهد لهم بذلك إلا بعد أن أضاف إليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد ذم سبحانه وتعالى: من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] وهذا غاية التشديد، ونهاية التهديد، فبين سبحانه وتعالى: أن السبب للعنهم هو: ترك التناهي عن المنكر، وبين أن ذلك بئس الفعل.
ولا شك، أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عنه، فقد أعانه عليه، بالتخلية بينه وبين ذلك المنكر، وهو عدم الجد في إبعاد أخيه عن ارتكابه. قال ابن عباس رضي الله عنه: "لعنوا في كل لسان على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ولعنوا على عهد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن".
{لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ?} [سورة المائدة آية: 63]
قال القرطبي: وبخ سبحانه وتعالى علماءهم في تركهم نهيهم، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 63] ، كما وبخ من سارع في الإثم، بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة آية: 62] ، وقال: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر. ا. هـ.(15/11)
فإن الأمة في عهد استقامتها وتمسكها بالسنن، لا تطيق أن ترى بين أظهرها عاصيا ولا معصية؛ فإذا رأت شيئا من ذلك ثارت ثورة الأسد، ولم تهدأ إلا إذا أذاقت المجرم ما يليق به، وما يستحق على قدر جريمته، تفعل ذلك غيرة على دينها وطلبا لمرضاة ربها. والمجرمون إذا رأوا ذلك، كفوا عن إجرامهم وبالغوا في التستر، إذا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون.
فإذا لم تستقم الأمة، ولم تراع سنن دينها، ضعفت غيرتها، أو انعدمت انعداما كليا في نفوسها؛ إذ لو شاهدت ما شاهدت من المعاصي، إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة، لا يخاف معها العاصي، ولا ينزجر عن معصيته؛ بم وإما أن يتفق الجميع على الإغماض عن ذلك العاصي، فيفعل ما يشاء بدون خوف ولا خجل، وإذاً يرفع ذوو الإجراء رؤوسهم غير هيابين، ولا خجلين من أحد.
ولقد وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عند كل أحد، حتى من يرجى ويظن أنهم حماة الإسلام، وأبطال الدين، مما جعل العصاة يمرحون في ميادين شهواتهم، ويفتخرون بعصيانهم، بدون حسيب ولا رقيب؛ ولو شئت لقلت- ولا أخشى لائما- نحن في زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل، وأصبحت الدولة لهم. وأهل الفضيلة، المتمسكون بأهداب دينهم، عندما ينكرون على المجرمين إجرامهم، يكونون كالمضغة في الأفواه(15/12)
البذيئة، ترميهم بكل نقيصة، وأقل ما يقولون: إنهم متأخرون، جامدون في بقايا قرون الهمجية، يبتسمون ويقهقهون، ويغمزون بالحواجب والعيون، ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بهم، ويضحكون من عقولهم، لما راجت الرذيلة في هذا العصر هذا الرواج.
وما درى هؤلاء المرذولون، أنهم في غاية من السقوط والهمجية، التي ليست دونها همجية، لفساد عقولهم، وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم ; وناهيك لو قام كل منا بما عليه من الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الناس وعظتهم، وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم، لاستقر الخير والمعروف فينا، وامتنع فشو الشر والمنكر بيننا، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] .
وقد صرح العلماء رحمة الله عليهم بأنه يجب على الإمام أن يولي هذا المنصب الجليل، والأمر الهام، الذي هو في الحقيقة مقام الرسل، محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون ذا رأي وصرامة، وقوة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
فدلت الآية الكريمة على أنه يجب على المسلمين أن تقوم منهم طائفة بوظيفة الدعوة إلى الخير، وتوجيه(15/13)
الناس، وعظتهم وتذكيرهم إلى ما فيه صلاحهم، واستقامة دينهم، وأن يكونوا على المنهج القويم، والصراط المستقيم.
والمخاطب بهذا كافة المسلمين، فهم المكلفون، لا سيما الإمام الأعظم، وأن يختاروا طائفة منهم، تقوم بهذه الفريضة الهامة، التي هي أحد أركان الإسلام في قول طائفة من العلماء. قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الذي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يا للأسف على منام القلوب، وقيام الألسنة بالقول، والتأويه على الإسلام، بما لا حقيقة له، لقد انطمس المعنى وذهب اللب، وما بقي إلا قشور ورسوم.
واكتفى الكثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه، بدون أن يعملوا به، ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرا وإنذارا، وأمرا ونهيا، وتبصيرا للناس بدينهم؛ بذكر فضله وعظمته، وإيضاح أسراره وحكمه، وغرس العقيدة الحقة في قلوبهم، فهذا واجب المسلمين بعضهم لبعض، كل على قدر استطاعته ومقدرته.
هذا، وأسأل الله أن يوفق المسلمين، وولاة أمورهم، لما فيه صلاحهم، وصلاح دينهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين.(15/14)
[كلمة وجهها الشيخ محمد بن إبراهيم إلى المسلمين في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله 1
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، إلى إخواننا المسلمين، جعلنا الله وإياهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له الأنبياء والمرسلين؛ فلو طوى بساطه، وأهمل علمه وعمله لفشت الضلالة وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الروم آية: 41] . فنعوذ بالله من اندراس هذا المهم العظيم، واستيلاء المداهنة على القلوب، وذهاب الغيرة الدينية.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو عنوان الإيمان، ودليل السعادة والفلاح، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
__________
1 من مطبوعات الإدارة العامة للإفتاء سنة 1376هـ.(15/15)
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] .
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة آل عمران آية: 110] ، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79]
وهذا غاية في التغليظ، إذ علل استحقاقهم اللعنة، باستهانتهم بأمر الله، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى أبو داود، والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 1
وعن حذيفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده،
__________
1 أبو داود: الملاحم (4336) .(15/16)
لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" 1
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله فيه يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" 2 رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه.
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى جبريل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها؟ قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانا، لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط".
وعن جرير مرفوعا: "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا عليه، إلا أصابهم الله بعذابه " 3 رواه أحمد وغيره، وفي مراسيل الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه، ما لم يمال قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن خيارها أشرارها. فإذا هم فعلوا ذلك، رفع الله يده عنهم، ثم سلط عليهم جبابرتهم، فيسومونهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر".
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمر الصنعاني
__________
1 الترمذي: الفتن (2169) .
2 الترمذي: الفتن (2168) , وابن ماجه: الفتن (4005) .
3 أبو داود: الملاحم (4339) , وابن ماجه: الفتن (4009) , وأحمد (4/363) .(15/17)
قال: "أوحى الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم، وستين ألفا من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم".
وذكر الإمام أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعوا خياركم، فلا يستجاب لهم، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم".
وفي الطبراني، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما طفف قوم مكيلا، ولا بخسوا ميزانا، إلا منعهم الله القطر، وما ظهر في قوم الزنى، إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون. ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضا، إلا سلط الله عليهم عدوهم. ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط، إلا ظهر فيهم الخسف؟ وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم".
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف(15/18)
الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2 وعن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها، مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها. فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة. فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه، ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه، وأهلكوا أنفسهم" 3 رواه البخاري.
والأحاديث في الحث على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كثيرة جدا. فاتقوا الله عباد الله، وهبوا من رقدتكم، واستيقظوا من غفلتكم، وقوموا بأمر ربكم، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتناصحوا فيما بينكم، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
وكل إنسان مسؤول بحسبه، وعلى قدر طاقته واستطاعته، ففي الحديث: "ما منكم من أحد إلا وهو على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يوتى الإسلام من قبله" وعلى الآمر بالمعروف أن يستعمل أنجع الوسائل، لإزالة المنكر وتغييره.
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
__________
1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .
2 مسلم: الإيمان (50) .
3 البخاري: الشهادات (2686) , والترمذي: الفتن (2173) , وأحمد (4/268 ,4/269 ,4/270 ,4/273) .(15/19)
الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125]
كما أن عليه أن يصبر ويحتسب إذ أوذي في الله، أو أسمع ما يكره، قال تعالى، حاكيا عن لقمان في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [سورة لقمان آية: 17] . والقائم في هذا الأمر ستكون له العاقبة الطيبة والذكر الجميل، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] .
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقوم بذلك على الغني والفقير، والقريب والبعيد، والشريف والوضيع، ولا يخاف في الله لومة لائم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: "إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1
وتحرم الشفاعة لأهل الجرائم، فعن ابن عمر مرفوعا: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره" 2. وفي الموطأ: "إذا بلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع" 3، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من آوى محدثا" 4. أعاذنا الله وإياكم من أسباب غضبه وأليم عقابه، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم. وصلى الله على نبينا محمد،
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3475) , ومسلم: الحدود (1688) , والترمذي: الحدود (1430) , والنسائي: قطع السارق (4898 ,4899 ,4902 ,4903) , وأبو داود: الحدود (4373) , وابن ماجه: الحدود (2547) , وأحمد (6/162) , والدارمي: الحدود (2302) .
2 أبو داود: الأقضية (3597) , وأحمد (2/70) .
3 مالك: الحدود (1580) .
4 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) .(15/20)
وآله وصحبه أجمعين، 18\9 سنة 1376 هـ.
[حث الشيخ صالح الخريصي العلماء والرؤساء على القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر والنهي]
وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله 1:
بعد حمد الله والثناء عليه، والتحذير من حلول العقوبات، فيا معشر العلماء، والرؤساء، والأمراء، ومن ولاه الله أمرا من أمور المسلمين، قوموا بما أوجب الله عليكم، من الأمر والنهي، والدعوة والإرشاد، والتعليم، والتحذير، والإنذار؛ وذودوا الخلق عن المراتع الوخيمة، والأعمال السيئة الذميمة؛ فإنكم مسؤولون أمام الله تبارك وتعالى عن ذلك؛ فأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.
واعلموا أن الله قد أخذ عليكم الميثاق، وأن عليكم من الواجب ما ليس على غيركم؛ فإنكم قادات الناس، ودعاة الناس ورعاتهم؛ فإن أصيبوا فبسببكم، وسبب تفريطكم وإهمالكم. والأمر ظاهر لا خفاء فيه، أما علمتم أن الله تبارك وتعالى إذا أطيع رضي، وإذا رضي بارك، وليس لبركته نهاية؟ وإذا عصي غضب، وإذا غضب لعن، ولعنته تبلغ السابع من الولد.
فيا عباد الله، أما ظهرت المنكرات وانتشرت في ناديكم، وفي حاضرتكم وبواديكم؟! فلم يشمئز منها قلب،
__________
1 وقد نشرت أكثر من مرة ولم تؤرخ.(15/21)
ولم يتمعر منها وجه، ولم تنكرها فطرة 1 فأين الغيرة الدينية؟ وأين الأنفة الإسلامية؟ وأين الشهامة العربية؟ وأين الغريزة الإيمانية؟
أما هذه الصلاة تقام، هي أعظم شعائر الإسلام، وتصلى، وكل على سبيله؟ أما هذه الأغاني تشاع وتذاع في الإذاعات، والسينمات، من غير نكير؟ أما هذا السفور من بعض النساء قد ظهر وانتشر، ولم يؤمرن بالتحجب والتستر؟
أما تغارون؟ أما تستحيون؟ وهو أعظم داعية إلى الخناء والفجور؟ أما هذه بناتكم يلبسن لباس الإفرنج، ويتزيين بزيهم، من غير مبالاة ولا مخافة؟! أما هذا من المنكرات والسخافة؟ لأن من تشبه بقوم فهو منهم؟ أما أمركم الله بتأديبهن وصيانتهن وأمرهن ونهيهن؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: 6] أي: مروهم وانهوهم وعلموهم.
أما هذا التتن الخبيث يشرب في كثير من الشوارع، من غير استتار ولا خفاء، ولا منكر ولا رادع؟ أما هذه المصورات المحرمة تصور جهارا، لا يخشى مصورها ومتخذها عتابا ولا إنكارا؟ أما هذه اللحى تحلق علانية في وسط النهار، مع أن حلقها مثلة ومنقصة وعار، ولا يوجد من ينكر ويغار؟!.
__________
1 إلا من شاء الله وهم قليلون.(15/22)
وهذه الأشياء وأضعافها، وأضعاف أضعافها ظاهرة في أسواقكم من غير استتار، أتنكرون وتقولون: إنها ليست ظاهرة، فليس الخبر كالعيان؟ أم تقرون وتقولون: لا قدرة لنا؟ كلا والله إن لكم السلطة التامة، والقدرة النافذة، التي لم تكن لغيركم.
ولكن احذروا عقوبة الله وتغييره، فإنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا غير العباد غير عليهم، جزاء وفاقا. فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم ترحمون، وقوموا لله مثنى وفرادى بقوة وثبات، وليأخذ بعضكم على يد بعض، حتى يرجع الأمر إلى نصابه، ويكون على السداد والصواب، لتفوزوا غدا بثوابه، وتأمنوا من نقمته وعقابه.
وعلى سامع هذه الكلمة أن يلقي إليها السمع وهو شهيد، وينظر بطرفه إلى الواقع، حتى يتبين له أن ما قلته ليس فيه مجازفة، ولا خروج عن الحالة التي نحن عليها، وأن الهدف والمطلوب، هو: إصلاح حالتنا الراهنة، ومعالجتها مادام العلاج يفيد، قبل أن يحال بيننا وبين ما نحاول ونريد.
والله المسؤول المرجو الإجابة أن يصلح أئمتنا وعلماءنا وقضاتنا، وأن يجعلهم لأهل الخير أئمة وقادة، وأن يجعل لهم العمل بذلك سجية وعادة، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته.(15/23)
[فصل فيمن يتولى الحسبة متبرعا أو بعقد]
فيمن يتولى الحسبة، سواء كان متبرعا، أو بعقد من ولاة الأمر، فيتعين عليه الأمر والنهي أبلغ ممن سواه؛ ويتأكد التعين عليه، إذا كان له على ذلك رزق من بيت المال؛ بل كل من رأى منكرا فعليه تغييره، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره ... " 1 الحديث.
وقال شيخ الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن. وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذكر ما ليس فيه حد، فالتعزيز فيه بحسب خفة الذنب وعظمته، وكثرته وقلته، وبحسب حال الشخص؛ فمنهم من تعزيره بالكلام، ومنهم من تعزيره بالحبس، أو الضرب، أو النفي؛ وصاحب الحسبة كالشاهد.
وقال هو والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، وغيرهما: يشترط في الآمر والناهي أن يكون عالما فيما يأمر به، عالما فيما ينهى عنه، حليما، فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، صابرا على ما ناله من الأذى، وإلا أفسد أكثر مما يصلح.
وفي عصر الشيخ: عبد الله، وكذا من قبله من سلفنا، الذين يأمرون وينهون متطوعة، لهم علم وحلم، وصبر، وأمر نافذ. وفي هذا العصر أغدقت عليهم الأرزاق،
__________
1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .(15/24)
وضعفوا عما تعلق في رقابهم؛ وإن أمروا أو نهوا، فعلى الضعيف مع كسل كثيف.
وأما المترفون وحواشي بعض الرؤساء، وحواشي بعض العلماء، فإياهم وإياهم، فلو قيل لأحدهم وهو جار المسجد: لم تحضر الجماعة، أو: ليس من عادتك فعل الصلاة، أو قيل لأولياء تلك المتبرجات امنعوهن من ذلك، أو أنكرت بدعة وبلغ الأمر إلى رئيس، فإما الفصل من الوظيفة، أو الحبس، أو الإبعاد من البلد. وكثيرا ما يضاف إلى أهل الحسبة بوساطات ونحوها، ممن لا ينبغي أن يضاف إليهم.
وجرت بدع في هذا العصر، وهي: سير بعض أهل الحسبة في الأسواق، بطقطقة ما له صوت، ورفع الصوت بالصلاة الصلاة، قبيل الأذان، وبعده الذي هو أعظم شعائر الإسلام، فيضعفون مكانته في القلوب، ويقل أن يجاب أو يستجاب له، إذ هو تعظيم رب العالمين، والشهادة له بالوحدانية، والشهادة لرسوله بالرسالة، والمناداة إلى تلك الفريضة، بحي على الصلاة، أي: هلموا وأقبلوا إلى عبادة ربكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ثم يختتم بلا إله إلا الله، التي يدخل بها الكافر في الإسلام، ويقول المستمع كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد.
رجعنا إلى من يسند إليه بعض التعزيرات، وهم بعض الشرط الذين قد يضافون إلى رجال الحسبة، وليست فيهم(15/25)
الخصال التي لا بد أن يكون لأهل الحسبة، بل انتفت من وجوه: الأول: الزي الظاهر زي الأعاجم في اللباس، الذي لم يكن في المسلمين قبل.
الوجه الثاني: شرب أكثرهم التتن. الوجه الثالث: أكثرهم يحلق اللحى أو أكثرها، ويأتي ذكر تحريمهما. الرابع: قد اشتهرت خيانتهم، فهم يأمرون العاصي بإنكار ما نسب إليه، وإن كان قد اعترف قبل، وعلم ذلك منه أهل الحسبة، ولا يجوز أن يولى على المسلمين الخائن من الشرط وغيرهم.
والخامس: يجب على المحتسبين أن يغيروا المنكرات على القوي والضعيف، وأن لا يسلكوا مسلك أهل الكتاب. ومن أراد النجاة إذا وقف بين يدي جبار السماوات والأرض، فالطريق واضح.(15/26)
[رسالة الشيخ عبد الله بن حميد إلى ولي العهد في تقصير كثير من المسؤلين في الدين]
وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم: صاحب السمو ولي العهد، ورئيس مجلس الوزراء، فيصل بن عبد العزيز، أعزه الله بطاعته، وأمده بعنايته، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده: لا يخفى على سموكم الكريم، ما قد حصل في هذه الأوقات الأخيرة، من النقص الكبير في الدين، وعدم الاكتراث بأوامره ونواهيه، من كثير من المسؤولين في الدولة، على ما أعطاهم الله من النعم الوافرة في الأبدان، وفي الأموال والجاه. ومع ذلك لم يعطوا هذه النعم حقها من الشكر، ولم يحصل عندهم أي غيرة على الدين، ولم يتأثروا بما أصيب به الإسلام من النقص الكبير، ولم يظهر منها كراهية لذلك، بل الكثير منهم- عياذا بالله- أصبحوا ضدا للدين وأهله، وصمدوا صمودا منكرا أمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ولا يخفى: أن مثل أولئك، لا تبرأ الذمة بتوليتهم أعمال المسلمين، فإذا كان هذا بالنسبة للمسؤولين في الدولة، فكيف بمن سواهم، الذين هم من الرعاع، الذين يقول في وصفهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (وسائر الناس همج رعاع أتباع كل ناعق) ؟!(15/27)
الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فهم اتباع كل ناعق ضد الدين، أتباع كل ناعق ضد السياسة، أتباع كل ناعق ضد الأخلاق وحسن السيرة، أتباع كل ناعق ضد الأمن والطمأنينة.
أتباع كل ناعق ضد الملوكية والولايات الشرعية، أتباع كل ناعق بالفتن، أتباع كل ناعق بالحرية المزعومة الغربية، أتباع كل ناعق بسقوط المروءات، أتباع كل ناعق وإن جهلوا غاية الناعق، ومبدأه ومقاصده، كما يقول المفتون في قبره: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
فإذا كانت هذه أحوال البعض من الناس، ثم صار كثير من المسؤولين في الدولة مثلهم، متى تستقيم الأحوال؟ متى تتم الأمور؟ متى تقوم دعائم الدين؟ متى تتمكن أسس الملك؟ إن الدين والملك أخوان، فمن كان ضد الدين فهو ضد ملوك الإسلام وأهله؛ ومن كان ضد ولاة الأمور فهو ضد الدين، وإن تظاهر بالنصرة للإسلام؛ لأن الإسلام ينهاه عن كل ما يمس السياسة الرشيدة؛ والإسلام يقول: (من فارق الجماعة قيد شبر فمات، فميتته ميتة جاهلية) والإسلام يقول: (من أهان إمام المسلمين أهانه الله) ، والإسلام يقول: (السلطان ظل الله في أرضه، فمن خرج على الإمام يريد نصرة الإسلام بزعمه فهو كاذب، ما لم يعين ما أخل به الإمام، ويناصحه سرا مرارا، ثم يعلن له ذلك عند العجز عنها في السر) .(15/28)
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون عليكم ولاة تعرفون منهم وتنكرون، قال رجل: أفلا تنابذهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" 1 فهذه سياسة الإسلام للشعوب مع ولاة أمورها، لما يترتب- على منازعة الوالي من ذهاب الإسلام، وتسلط الأعداء، وإراقة الدماء، والفوضى، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، كما هو مشاهد الآن في كثير من البلاد العربية وغيرها. كل انقلاب يحدث، يذهب فيه عشرات الألوف من الناس، كما هو مشاهد الآن في مصر، والعراق، وسوريا، واليمن، والجزائر، وغيرها نسأل الله السلامة.
وبما أنه قد علم أن الدين والملك أخوان، يقوى هذا بقوة صاحبه، ويضعف بضعفه، كان من المتعين على ملوك الإسلام، التمسك بالدين وحمايته، وصيانته عن كل ما يناقضه أو ينقصه، لا سيما مثلكم.
فإنه لم يبق الآن من ملوك الإسلام، من يؤمل فيهم النصرة للدين سوى هذه الأسرة الميمونة؛ ولا تزال هي محط أنظار العالم الإسلامي، كيف لا وأنتم حماة الحرمين الشريفين، وحماة قبلة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها؛ وأسلافكم الأفاضل، هم كانوا حماة الدين، ومنارا ساطعا لرفع راية التوحيد.
فلذا يجب عليكم امتثال أوامر الدين، وإقامة الحدود
__________
1 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/295 ,6/321) .(15/29)
الشرعية، والاتباع للسياسة الإسلامية، وتوقير العلماء، وإظهار المنزلة العالية لهم بين الناس، وإزالة المنكرات، وقمع المفسدين، لأنكم متى عملتم بهذا صار العلماء ورجال الدين ألسنة لكم، ودعاة على رؤوس المنابر في تأييدكم.
وعامة الناس يحترمون العلماء، وينظرون ماذا يقولون في كل وقت، خصوصا في هذه البلاد، سوى أنه يوجد ثلة من المنحرفين، سفهاء الأحلام، طياشة العقول، يجنحون للحريات، ويميلون للفوضى، ويشعلون نار الفتنة، ويسممون أفكار النشء الصغير بنواديهم الخليعة، وتمثيلياتهم الماجنة؛ فهؤلاء هم الآن أقلية مستضعفون، إلا أنهم إن تركوا استفحل شرهم، وعظم خطرهم على الدين والسياسة.
فالواجب قمعهم، وإيقافهم على حدهم، والأخذ على أيديهم، في تطبيق الحدود الشرعية عليهم، وإلزامهم أوامرها، فإنهم متى كان لهم من الأمر شيء، لم يرعووا إلى سنة أو كتاب، ولم يروا حقا لوال من ولاة الأمور، ولم يحترموا عالما بعلمه، ولم يكرموا شيخا لكبره، ولم يرحموا صغيرا لصغره.
وإنه لمن واجب العلماء نحو أئمتهم، مناصحتهم، وإبداء ما يرونه مخلا بالدين، وبيان ما يجب على الملوك فعله، وما يجب عليهم اجتنابه، وأنه في هذه الأيام قد(15/30)
حدثت أمور منكرة، لا يقرها شرع، ولا يرضاها عقل، ولا تقبلها فطرة سليمة.
فيجب عليكم الوقوف أمامها، ومنعها منعا باتا، غيرة لله، وحماية لدينه، وإعلاء لكلمة الحق، فإن هذا هو سبب نصرتكم على أعدائكم، وتمكينكم في الأرض، وبقاء عزكم وملككم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج آية: 40] ، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] .
ومن أهم ما يجب المبادرة إلى رفعه وإزالته، أو دفعه وعدم إقراره، هو: وجود هذه السينماآت التي انتشرت في أكثر الأماكن، وما يعرض فيها من صور خليعة، وأمراض أخلاقية فتاكة، تقتل ما في الإنسان من رجولية، أو مروءة أو ديانة. إنها والله فخ نصبه لنا أعداؤنا، ليذهبوا ما فينا من حماسة أخلاقية، امتاز بها المسلمون على غيرهم، وقد أدركوا ما يريدون من كثير من أبناء المسلمين بسببها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنها: وجود التلفزيون، وفشوه في كثير من البلاد، كما هو في المقاطعة الشرقية. ومنها: وجود بعض المنكرات في الأسواق، كآلات الطرب فى بيعها علنا، واستعمالها مجاهرة. ومنها: أصوات النساء والأغاني، منطلقة من هذه البلاد المقدسة، باسم مكة المكرمة، التي يجب أن تصان عن هذه الأمور.(15/31)
بل الواجب أن تحارب مثل هذه الأشياء، وأن تعمل كل ما في وسعها لمحو هذه الأمور المنكرة عن إذاعات المسلمين; فليتها كانت كفافا لا علي ولا ولي. ومنها: عدم مراقبة الصحف المحلية، من الناحية الدينية، فكل جاهل يكتب ويفتي في مسائل هامة، ويخالف القرآن والسنة، ويحل ويحرم ويكذب على العلماء، وينقل نقولات خاطئة بلا خجل ولا حياء، ثم يترك ولا يوقف عند حده.
ومنها: عدم تعزيز جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو أهمها، بل هو الأساس لكل ما سبق، وإنه لمن أعظم الفروض: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعزيزه بكل ممكن؛ وهو الآن قد ذهب إلا مسماه، وذلك يرجع لعدة عوامل.
منها: أنهم سلبوا سلطتهم، بكونهم لا يؤتمنون على التحقيقات مع المجرمين، ولا يتولون شيئا من ذلك، ثم يسند هذا إلى الشرطة. فهل الشرطة أعلم منهم بأحكام الشريعة؟ أو أقرب منهم إلى العدل والإنصاف؟ أو أشد تحريا لأداء الأمانة وبيان الواقع منهم؟!
ومنها: أن هذا العمل كسر شوكتهم، وحطم لمعنويتهم أمام الجمهور، حتى أصبحوا كلا شيء أمام الجمهور، بل شيء ولكنه محتقر. ومنها: أنه متى تكلم شخص ضدهم وتبين خطؤه عليهم وكذبه وافتراؤه، لم يحصل أي ردع من قبل الحكومة.(15/32)
وغير خاف على سموكم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو قوام الدين، وأن قوام الملك والدولة هو التمسك بالدين؛ فإن الناس متى جهلوا دينهم أضاعوا حد الله وحقوق عباده، وجمهور الناس اليوم- ولله الحمد- في كفة أهل العلم، ويحبونهم ويحبون ولاتهم، ويوالونهم ويدعون لهم، ويتمنون لهم الهدوء والطمأنينة، إلا أنهم يلومونهم في بعض الأشياء التي تمس الدين، وكذلك يلومون طلبة العلم أكثر من لومهم الحكومة.
ويقولون لنا: أنتم المقصرون، ولم تتكلموا مع الحكومة، ولم تبلغوها الواقع على حقيقته، وقد كثر علينا اللوم منهم مشافهة ومكاتبة، ونسبوا كل هذا التحلل إلينا، بل يقولون: كل هذا التقصير إنما هو من العلماء، أما الحكومة فهي لم تقف أمامهم ضد ذلك.
ونحن نكتب هذه الكلمة، نصحا لكم حيث أوجب الله ذلك علينا، ونصحا للأمة، وخروجا من معرة الكتمان، ومعذرة إلى الله سبحانه، ثم إلى خلقه.
والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم بالهداية والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه، آمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(15/33)
[رسالة الشيخ عبد الله بن حميد في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم واجبات الدين]
وقال أيضا الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الناصح الأمين، وآله وصحبه والتابعين. وبعد: فقد كثر الخوض في هذه الأيام، حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر ذلك في بعض الصحف المحلية؛ وتجرأ بعض الكتاب وأكثروا من الكلام الذي لم يستمد من كتاب الله وسنة رسوله، إنما هو أفكار وآراء مجردة عن الدليل الشرعي، فلذا رأينا: أنه من المتعين التنبيه على هذا الموضوع، وبيان مكانته من الشريعة، على سبيل الاختصار، والاكتفاء ببعض الأدلة التي تبين الحق لطالبيه، وتقيم الحجة على المعاند.
فأقول: لا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم واجبات الدين، بل هو من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها، وقد ألحقه بعضهم بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها؛ وهو من فروض الأعيان عند طائفة من العلماء، وعند آخرين من فروض الكفاية؛ فلا يسقط عن المكلفين إلا إذا قام به طائفة منهم تحصل بها الكفاية؛ وهذا
__________
1 نشرت في جريدة البلاد وغيرها سنة 1382 هـ.(15/34)
شيء معلوم من الكتاب والسنة وكلام العلماء، حتى إنه لشدة اهتمامهم به، يذكرونه في كتب العقائد والتوحيد.
وإليك شيء من الأدلة، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
فأنت ترى الآية المذكورة أولا، صريحة بالأمر للمسلمين أن تكون منهم أمة تدعو الناس إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ والأمر متقرر عند الأصوليين أنه يقتضي الوجوب ما لم يصرفه صارف؛ ولم يوجد في هذا الأمر ما يصرفه، بل وجد ما يؤكده، فتعين وجوبه.
والآية الثانية أيضا: دالة على أن هذه الأمة خير الأمم، وهذه الخيرية إنما حصلت لها بهذا الوصف، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال مجاهد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] : كنتم خير الناس للناس، على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، "قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون(15/35)
بهم في السلاسل، فتدخلونهم الجنة".
فتأمل: كيف عبر بذكر السلاسل، ومن المعلوم أن السلاسل من أقوى ما يقاد بها الممتنع عن الدخول في الشيء، فتكون هذه القيادة، هي السبب في دخولهم الجنة، وسلامتهم من العذاب، وبسببها كانوا هم خير الناس للناس.
والآية الثالثة دلت على شدة وعيد من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن بني إسرائيل لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنوا على ألسنة رسلهم؛ واللعن هو: الطرد والإبعاد عن الله وعن رحمته، وأي عقوبة أعظم من هذه؟
وجاء عن "ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} الآية [سورة المائدة آية: 78] . قال: (لعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن".
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".(15/36)
قال: "والذي نفسي بيده: لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 1. فانظر: كيف حث الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم أمته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكده بعده تأكيدات، أكده بنون التوكيد الثقيلة، وبين عقوبته وهو: اللعن كما لعن من قبلهم.
ثم تأمل كيف بين صلى الله عليه وسلم صفة النهي عن المنكر ودرجاته، ووضح وجوبه، وأتى بالصيغة الدالة على العموم، ليشمل عموم المسلمين؟ فقال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" 2.
فكيف مع هذه الصراحة الواضحة يتجاسر أحد ممن ينتمي إلى الإسلام، على مصادمتها وردها علنا، على صفحات الجرائد، أليس هذا ردا على القرآن؟ أليس هذا تهجما على الرسول؟ أليس هذا تضليلا لعلماء المسلمين؟ أليس هذا نقضا لركن من أركان الشريعة؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ما الذي حمل بعض الكتاب على هذا التهجم، أبغضا وكراهية للدين؟ أم جهلا بشرائعه وتعاليمه؟ أم شرقا بدعوته وسننه القويمة؟ أم عجزا عن أداء واجباته؟!
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3047) , وأبو داود: الملاحم (4336) , وابن ماجه: الفتن (4006) .
2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .(15/37)
فليتهم إذ عجزوا عنهما كفوا ألسنتهم وأقلامهم، ولم يقفوا أمام من قاموا بأداء هذا الواجب، ألم يبلغهم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "لينقضن الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال في الأرض: الله الله" 1 "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم" 2، "ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم".
وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا: "أيها الناس إن الله يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أحيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطكم" 3، وفي حديث ابن عباس: "وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم".
فكيف مع وجود هذه الآيات البينات، وهذه الأحاديث يتظاهر أناس بتهجين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحط من قدر من قام به، والنداء بإلغاء هذه الطائفة، وتخطئتهم، وانتقادهم بأشياء إما غير واقعية وهم فيها مصيبون، بل هي من واجباتهم.
أينكر عليهم الضرب والتعزير في موضعه المشروع؟ أليس هذا هو امتثال قول النبي الكريم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" 4 ألم يفعل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ألم يرجم
__________
1 أحمد (4/232) .
2 أحمد (5/391) .
3 ابن ماجه: الفتن (4004) , وأحمد (6/158) .
4 مسلم: الإيمان (49) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأحمد (3/20 ,3/49 ,3/54) .(15/38)
الزاني؟ ألم يقطع يد السارق؟؟ ألم يجلد ويغرب الزاني؟ ألم يفعل ذلك خلفاؤه الراشدون، ويستمر عمل المسلمين على هذا؟
"ألم يأمر عمر رضي الله عنه بالهجوم على البيت الذي قيل له إن فيه خمرا؟ ألم يحرق البيت ويؤدب صاحبه؟ ألم يسمه فويسقا؟ وكان يدعى رويشدا، ألم يحبس على مجرد تهمة؟ " ألم يكن هذا صنيع ملوك الإسلام كلهم.؟ يسندون أمر الحسبة إلى طائفة معينة تتولى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ألم يذكر العلماء في كل مذهب باب التعزير، وهو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا قصاص؟.
وإليك شيئا من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله، المتوفى عام 751هـ في بيان بعض من واجباتهم، قال: وأما ولاية الحسبة فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة، وأهل الديوان ونحوهم. فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمسة في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس. وإنه لمن العجب العجاب أن يستدل أحد الكتاب، على عدم صلاحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باستنكار رجل أجنبي رأى أحد أعضاء الهيئة وهو يأمر(15/39)
الناس بالذهاب إلى الصلاة، ويوقفهم بكلامه وقرعه بعصاه. الله أكبر يا للإسلام ويا للعقول الصحيحة، أيدفع بهذا الاستنكار كلام الله وكلام رسوله، وإجماع الأمة؟!
كيف يليق بهذا الكاتب، أن يتفوه بمثل هذا الاستدلال الساقط؟ أين هذا الكاتب من قوله عليه السلام: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" 1 الحديث، رواه مسلم عن أبي هريرة.
ثم إن هؤلاء الكتاب، ينتقدون هذه الطائفة- أي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر- بإعفائهم اللحى وعدم حلقها، وينتقدونهم بالتسوك. الله أكبر، كيف ينتقدون من يعمل بالسنة النبوية؟ !
ألم تكن هذه صفتة صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكونوا بهذا العمل متمسكين بسنته صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك، وفي فعله وفي تقريره؟ كيف أصبح المعروف عند قوم منكرا والمنكر معروفا؟ !!
ويرحم الله العلامة أبو الوفاء بن عقيل المتوفى عام 513 هجرية، حيثما يقول في فنونه: من أعظم منازع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح؛ فهذا أشق ما يحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس
__________
1 البخاري: الأحكام (7224) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651) , والنسائي: الإمامة (848) , وأبو داود: الصلاة (548) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) , وأحمد (2/424) , ومالك: النداء للصلاة (292) , والدارمي: الصلاة (1274) .(15/40)
أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع.
إلى أن قال: لو سكت المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا؛ فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس وظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك، فالقائم بها يعد مبتدعا مبدعا. انتهى كلامه رحمه الله.
أسأله تعالى: أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه، ويعصمنا من الزيغ والبدع وإخواننا المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
[رسالة الشيخ عبد الله بن حميد إلى كافة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وقال أيضا، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرهم من إخواننا، وفقنا الله وإياهم للعمل بما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومناهيه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن من المتعين علينا وعليكم، التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح النافعة العامة، ما لا يحيط به علما إلا الله، وقد رأينا كما رأى غيرنا من انتقاض عرى الإسلام عروة عروة، وبدو اختفاء معالمه.(15/41)
وما غلب على أكثر الخلق من الإعراض عما خلقوا له، واشتغالهم بالفاني عن الباقي، وظهور سلطان حب الدنيا، واستيلاؤه على القلوب، وفشو المنكرات، وتتابع ظهورها، بدون مغير لها ولا منكر؛ وهذا مما يدل على أن الإسلام قد بدأ مرضه في هذه الديار، وأن أوامره ونواهيه خف وقعها في النفوس.
فالواجب على كل مسلم أن يهتم بهذا الأمر أشد الاهتمام، ويبذل كل ما يقدر عليه، في سبيل إصلاح دين المسلمين، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يختص بواحد دون آخر. فإن جميع بني آدم لا تتم مصالحهم في الدنيا ولا في الآخرة، إلا بالاجتماع، والتعاون، والتناصر، على جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، في حين أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لم يبق فيه إلا رسوم قليلة، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه.
وإذا لم يؤخذ على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . وإنه لمن آكد قواعد الأديان، وأعظم منافع الإسلام، وهو مقام الرسل حيث يثقل صاحبه على الطباع وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويبغضه أهل الخلاعة؛ وبه تحيا السنن وتموت البدع، فلو سكت(15/42)
المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا.
فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضى الله عز وجل أن يعتني بهذا المقام، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص لله نيته، ولا يهاب من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى، قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [سورة الحج آية: 40] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] .
وإنما الأجر على قدر النصب، فلا يتركه لصداقته ومودته، ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته، توجب عليه حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها؛ وصديق الإنسان ومحبه من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه.
وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك نفع في دنياه؛ وإنما كان إبليس عدو لنا لهذا. وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أولياء للمؤمنين، لسعيهم في مصالح أخراهم وهدايتهم إليها.
والأمر بالمعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، وتقرب إليه، وإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع وحث عليه ورغب فيه؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه صلاح للعباد في المعاش والمعاد،(15/43)
ولا يتم ولا يستقيم لهم حال بدونه؛ وهو أن أمور الناس لا تستقيم، ولا تنتظم أحوالهم في الدنيا ولا في الآخرة، إلا بطاعة الله ورسوله، بالامتثال لأوامره، والانتهاء عن زواجره.
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: سمت هذه الأمة، وارتفعت على غيرها من الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] . ومراتبة ثلاث: باليد، واللسان، والقلب، وثالثها أضعفها إيمانا. فعدم إنكار المنكر بالقلب؛ دليل على ذهاب الإيمان.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (هلك من لم يعرف المعروف وينكر المنكر بالقلب) يشير رضي الله عنه إلى أن معرفته المعروف والمنكر بالقلب، فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك. ومتى سكت الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تطلبا لرضى الخلق واستجلابا لمودتهم، فهو أخبث حالا من الزاني والسارق وشارب الخمر.
قال ابن القيم رحمه الله: ليس الدين بمجرد ترك المحرمات, بل والقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله عز وجل كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيله، والنصرة لله ورسوله وكتابه ودينه، والنصح لعباده؛ وأقل الناس دينا، وأمقتهم لله من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها.(15/44)
والداعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تارة طلب الثواب من الله والتقرب لله بذلك، وتارة خوف العقاب والإثم في تركه، وتارة الغضب لله إذا انتهكت محارمه، وتارة النصيحة للمسلمين والرحمة بهم، والشفقة عليهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا فيه أنفسهم من التعرض لسخط الله وعقوبته، في الدنيا والآخرة.
وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وأن يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، فمن لاحظ ما تقدم، هان عليه ما يلقاه من الأذى في الله عز وجل كما قال بعض السلف: "وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله ورسوله، ولو قرض لحمي بالمقاريض".
فالنهي عن المنكر حفاظ الدين، وسياج الآداب والفضائل، فإذا ترك تجرأ الفساق على إظهار فسقهم وفجورهم، ومتى صارت الدهماء يرون المنكرات بأعينهم ويسمعونها بآذانهم تزول وحشتها وقبحها من قلوبهم، ثم يتجرأ الكثيرون أو الأكثرون على اقترافها فيعظم البلاء ويشتد الخطب.
وناهيك لو قام كل واحد منا بنصيحة الآخر، دعوة وأمرا ونهيا، لامتنع فشو الشر فينا والمنكرات، واستقر الخير والمعروف بيننا {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] .(15/45)
غير أن الناصح الداعي، والآمر الناهي، ينبغي أن يوطن نفسه على الصبر، ويثق بالثواب من الله عز وجل؛ ومن وثق بالثواب من الله، لم يجد مس الأذى، وهان عليه كل ما يلاقيه في سبيل ذلك.
وحين لم يرد بعمله إلا وجه الله والدار الآخرة، فإن الله يحفظه من بأس الصائلين والمعتدين، وذلك ببركة إخلاصه وحسن مقصده وقوة توكله على الله.
فإن من أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها، وفي الألسن الذربة فقيدها، وفي يد السلطة فعقلها، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، 19\2\1378 هـ.
[رسالة من صالح الخريصي إلى من يراه من المسلمين في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من صالح بن أحمد الخريصي، إلى من يراه من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم لما يرضيه، وجنبنا وإياهم أسباب سخطه ومناهيه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: تعلمون ما أوجبه الله علينا وعليكم، وعهده إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم من التعاون على البر والتقوى، ونصيحة بعضنا(15/46)
البعض، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وبالقيام بهذه الأمور على وجهها تتم سعادتنا بالدنيا والآخرة، قال الله عز وجل وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [سورة السجدة آية: 24] ، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 71] ،
وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 40-41] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] ، وقال صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1، وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 2.
__________
1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92) .
2 مسلم: الإيمان (50) .(15/47)
فإذا بلغ الإنسان إلى غاية لا يعرف قلبه المعروف، ولا ينكر المنكر، فلا خير فيه؛ لكن هذا الواجب يختلف باختلاف درجات أهله ومنازلهم.. فعلى العلماء من واجب التبليغ والنصيحة وبذلها والقيام بواجبها ما ليس على غيرهم، فإن الله أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وأخذ عليهم أن لا يقولوا عليه إلا الحق.
وعلى أهل الحسبة- وهم النواب- من الحق الواجب من القيام بما في رقابهم ما ليس على آحاد الناس؛ فإنهم مسؤولون أمام الله يوم القيامة عما استرعاهم عليه وأسند إليهم؛ والعذر منتف، والحجة قائمة، لأن الولاية بحمد الله مساعدة على حسب الحال.
وعلى أئمة المساجد والمؤذنين ما ليس على غيرهم، من تفقد جماعتهم، وإرشادهم وتعليمهم، والقيام على المتخلف منهم، ورفع أمره إلى أهل الحسبة؛ فإن الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن.
ومن لم يقم بهذه الوظيفة على وجهها، فليتق الله وليعاف المسلمين من شره، فإن بقاءه على هذه الحالة نقص ظاهر عليه وعلى جماعته؛ كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل أحد بحسبه، والرجل مسؤول عن أهل بيته ومن تحت يده، ومسؤول عن جاره.(15/48)
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: 6] ، ومعنى الآية: مروهم وانهوهم، وعلموهم وأرشدوهم، وخذوا على أيديهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم" 1.
وقال في حق الأهل والعيال: "ولا ترفع عنهم عصاك أدبا، وأخفهم في الله عز وجل" 2 وقال: "ما نحل والد ولده" 3 أي أعطاه عطية "أفضل من أدب حسن" 4 وقال: "لأن يؤدب أحدكم ولده خير من أن يتصدق بصاع" 5، وورد "أن الجار يتعلق بجاره، ويوقفه بين يدي الله عز وجل ويقول: يا رب، سل هذا لما خانني؟ فيقول: يا رب ما خنته في أهل ولا مال، ويقول: رآني على ذنب كذا وكذا، فلم يأمرني ولم ينهني" معناه: رآني على فعل محظور، أو ترك مأمور.
وقال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال: أنصره إذا كان مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: "تحجزه وتمنعة من الظلم" 6 فهذا نصره في الحقيقة، فإذا أمرته ونهيته وأدبته فقد نصرته؛ وإذا تركته فقد خنته وغششته، وتحملت تبعته يوم القيامة؛ وهو كالغريق في
__________
1 أبو داود: الملاحم (4336) .
2 أحمد (5/238) .
3 الترمذي: البر والصلة (1952) , وأحمد (3/412) .
4 الترمذي: البر والصلة (1952) , وأحمد (3/412) .
5 الترمذي: البر والصلة (1951) .
6 البخاري: المظالم والغصب (2444) , والترمذي: الفتن (2255) , وأحمد (3/99 ,3/201) .(15/49)