قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . فلا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله والانقياد للعمل به ; وهي: كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة.
الأول: العلم بمعناها، نفيا وإثباتا.
الثاني: اليقين، وهو: كمال العلم بها، المنافي للشك والريب.
الثالث: الإخلاص، المنافي للشرك.
الرابع: الصدق، المانع من النفاق.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه، والسرور بذلك.
السادس: القبول، المنافي للرد؛ فقد يقولها من يعرفها، لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها، تعصبا، وتكبرا، كما قد وقع من كثير.
السابع: الانقياد بحقوقها، وهي: الأعمال الواجبة إخلاصا لله، وطلبا لمرضاته.
إذا عرفت ذلك؛ فقولك: لا إله إلا الله، فلا: نافية للجنس، والإله هو المألوه بالعبادة، وهو: الذي تألهه القلوب، وتقصده رغبة إليه في حصول نفع، أو دفع ضر، كحال من عبد الأموات، والغائبين، والأصنام; فكل معبود: مألوه بالعبادة، وخبر لا المرفوع محذوف، تقديره: حق، وقوله: إلا الله: استثناء من الخبر المرفوع، فالله سبحانه هو الحق، وعبادته وحده هي الحق، وعبادة غيره منتفية بلا في هذه الكلمة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ(2/246)
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ، فإلهية ما سواه باطل، فدلت الآية على أن صرف الدعاء الذي هو مخ العبادة عنه لغيره، باطل.
فتبين أن الإلهية هي العبادة، لأن الدعاء من أفرادها، فمن صرف منها شيئا لغيره تعالى، فهو باطل. والقرآن كله يدل على أن الإلهية هي العبادة، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] . فذكر البراءة من كل معبود سوى الله، ولم يستثن إلا عبادة من فطره، ثم قال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، أي: لا إله إلا الله، فعبر عن الإلهية بالعبادة، في النفي والإثبات.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . فقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [سورة الجن آية: 20] ، هو معنى: إلا الله في كلمة الإخلاص. وقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ، هو: المنفي في كلمة الإخلاص بلا إله، فتبين: أن لا إله إلا الله دلت على البراءة من الشرك في العبادة، في حق كل ما سوى الله، وقال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] ، والدين، هو: العبادة.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الكهف آية: 110] ، أي:(2/247)
الذي لا تصلح الإلهية إلا له وحده، فانتفت الإلهية وبطلت في حق كل ما سوى الله والقرآن يبين بعضه بعضا ويفسره، والرسل إنما يفتتحون دعوتهم بمعنى لا إله إلا الله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 65] .
فتبين أن الإلهية هي: العبادة، ولهذا قال قوم هود لما قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] . فتبين بالآية أنهم لم يستنكفوا من عبادة الله، لكنهم أبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده، فلم ينفوا ما نفته لا إله إلا الله، فاستوجبوا ما وقع بهم من العذاب، لعدم قبولهم ما دعاهم إليه من إخلاص العبادة، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [سورة الأحقاف آية: 21] ، وهم الرسل جميعهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] . وهذا هو معنى كلمة الإخلاص الذي اجتمعت عليه الرسل.
فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة هود آية: 2] ، هو معنى: "لا إله"، وقوله {إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص; فهذا هو تحقيق معناها بحمد الله; وإنذار الرسل جميعهم أممهم عن الشرك في العبادة، وأن يخلصوها لله وحده لا شريك له ; فما ذكرناه في هذه الآيات في معناها، كافٍ، وافٍ، شافٍ; ولله(2/248)
الحمد والمنة.
وأما تعريف العبادة، فقد قال العلامة ابن القيم، رحمه الله في الكافية الشافية:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
فذكر أصل العبادة التي يصلح العمل مع حصولها، إذا كان على السنة، فذكر قطبيها، وهما: غاية المحبة لله، في غاية الذل له؛ والغاية تفوت بدخول الشرك وبه يبطل هذا الأصل، لأن المشرك، لا بد أن يحب معبوده، ولا بد أن يذل له، ففسد الأصل بوجود الشرك فيه؛ ولا تحصل الغاية فيهما إلا بانتفاء الشرك، وقصر المحبة والتذلل لله وحده، وبهذا تصلح جميع الأعمال المشروعة، وهي المراد بقوله: وعليهما فلك العبادة دائر، والدائر هي الأعمال، ولا تصلح إلا بمتابعة السنة.
وهذا معنى قول الفضيل بن عياض رحمه الله، في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [سورة هود آية: 7] ، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه، وأصوبه; قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا; والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان(2/249)
على السنة.
وأما أقسام التوحيد، فهي: ثلاثة:
توحيد الإلهية، وهي: العبادة كما تقدم، فهي تعلق بأعمال العبد، وأقواله الباطنة والظاهرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فمن صرف منها شيئا لغير الله، فهو مشرك بالله; فهذا هو الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بالإنذار عنه، وترتبت عليه عقوبات الدنيا والآخرة، في حق من لم يتب منه.
ويسمى هذا التوحيد، إذا كان لله وحده: توحيد القصد، والطلب، والإرادة; وهو الذي جحده المشركون من الأمم؛ وقد بعث الله نبينا محمدا بالأمر به، والنهي عما ينافيه من الشرك، فأبى المشركون إلا التمسك بالشرك الذي عهدوه من أسلافهم، فجاهدهم على هذا الشرك، وعلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 4"5] إلى قوله {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 6] .
النوع الثاني: توحيد الربوبية، وهو: العلم والإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو المدبر لأمور خلقه جميعهم، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ(2/250)
وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] . وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهذا النوع قد أقر به المشركون، كما دلت عليه الآيات.
والنوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات الكمال التي تعرف بها سبحانه إلى عباده، وينفي ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا النفي أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية. فأهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، يثبتون لله هذا التوحيد، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، وهذا النوع والذي قبله، هو: توحيد العلم والاعتقاد.
وأما تعريف التوحيد، فقد ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية بقوله:
فالصدق والإخلاص ركنا ذلك الت ... وحيد كالركنين للبنيان
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا ... د فلا يزاحمه مراد ثان
والصدق توحيد الإرادة وهو بذ ... ل الجهد لا كسلا ولا متوان
ثم ذكر توحيد المتابعة فقال:(2/251)
والسنة المثلى لسالكها فتوح ... يد الطريق الأعظم السلطان
فلواحد كن واحدا في واحد ... أعني طريق الحق والإيمان
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الإخلاص، بمثل ما ذكره ابن القيم، رحمه الله، فقال: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه.
وأما أقسام العلم النافع، الذي يجب معرفته واعتقاده، فهو: يتضمن ما سبق ذكره؛ وهو ثلاثة أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية، قال:
والعلم أقسام ثلاثة ما لها ... من رابع خلوا عن الروغان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثان
وبهذا تم الجواب عما أوردناه، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[تعريف أقسام العلم النافع ومعرفة لا إله إلا الله وشروطها]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله، والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران(2/252)
آية: 64] .
ومعنى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة على الله، وترك الشرك كله.
وقال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] . {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] . {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] . فهذا، هو حقيقة معنى: لا إله إلا الله; وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده وهذا هو معناها الذي دلت عليه هذه الآيات وما في معناها; فمن تحقق ذلك وعلمه، فقد حصل له العلم بها، المنافي لما عليه أكثر الناس، حتى من ينتسب إلى العلم، من الجهل بمعناها.
فإذا عرف ذلك، فلا بد له من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد، لأن كثيرا ممن يقولها ويعرف معناها، لا يقبلها، كحال مشركي قريش، والعرب، وأمثالهم، فإنهم عرفوا ما دلت عليه، لكن لم يقبلوا، فصارت دماؤهم، وأموالهم، حلالا لأهل التوحيد، فإنهم كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة الصافات آية: 35] ، {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 36] . عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله.
ولا بد أيضا من الإخلاص المنافي للشرك، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] ، إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14"15] ، وفي(2/253)
حديث عتبان: " من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله ".
ولا بد أيضا من المحبة المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة وقبول إلا بمحبة ما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك؛ فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فصارت محبتهم لله ولدينه خاصة، فأحبوا لله ولدينه، ووالوا لله ولدينه، فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا من أبغضه الله.
وفي الحديث: " وهل الدين إلا الحب والبغض "، ولهذا وجب أن يكون الرسول أحب إلى العبد من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين فإن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم شهادة أن محمدا رسول الله، وتقتضي متابعته، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] .
ولا بد أيضا من الانقياد لحقوق لا إله إلا الله، بالعمل بما فرضه الله وترك ما حرمه الله، والتزام ذلك، وهو ينافي الشرك، فإن كثيرا ممن يدعي الدين يستخف بالأمر والنهي، ولا يبالي بذلك.
والإسلام حقيقته أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: {بَلَى(2/254)
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [سورة البقرة آية: 112] . وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله.
ولا بد أيضا لقائل هذه الكلمة من اليقين بمعناها، المنافي للشك والريب، كما في الحديث الصحيح: "مستيقنا بها قلبه، غير شاك فيها" ومن لم يكن كذلك فإنها لا تنفعه، كما دل عليه حديث: سؤال الميت في قبره.
ولا بد أيضا من الصدق المنافي للكذب، كما قال تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ، فالصادق يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله، ويعمل بما تقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، فيصدق قلبه لسانه. فلا تصح هذه الكلمة، إلا إذا اجتمعت هذه الشروط؛ وبالله التوفيق.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى، في جواب له:
وسرنا ما ذكرت من معرفتك جهل أكثر الناس بمعنى لا إله إلا الله، وإن تكلموا بها لفظا، فقد أنكروها معنى، فانتبه لأمور ستة أو سبعة، لا يسلم العبد من الكفر والنفاق إلا باجتماعها، وباجتماعها والعمل(2/255)
بمقتضاها، يكون العبد مسلما; إذ لا بد من مطابقة القلب للسان، علما، وعملا، واعتقادا، وقبولا، ومحبة، وانقيادا.
فلا بد من العلم بها المنافي للجهل، ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك; ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف المشركين والمنافقين؛ ولا بد من اليقين المنافي للشك والريب; فقد يقولها وهو شاك في مدلولها ومقتضاها; ولا بد من المحبة المنافية للكراهة؛ ولا بد من القبول المنافي للرد، فقد يعرف معناها ولا يقبله، كحال مشركي العرب.
ولا بد أيضا من الانقياد المنافي للشرك، لترك مقتضياتها، ولوازمها، وحقوقها، المصححة للإسلام والإيمان; فمن تحقق ما ذكرته، ووقع منه موقعا، صرف الهمة إلى تعلم معنى: لا إله إلا الله; وصار على بصيرة من دينه، وفرقان، ونور، وهدى، واستقامة. وبالله التوفيق.
[رد قول أن المستثنى بإلا في لا إله إلا الله دخل في المنفي]
وقال أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
زعم من لا علم لديه: أن المستثنى بإلا في لا إله إلا الله، دخل في عموم المنفي، في اسم لا; وهذا خطأ بين، من وجوه:"
الأول: أن النفي يناقض الإثبات، فاجتماع النفي والإثبات في جملة جمع بين النقيضين، وهما(2/256)
لا يجتمعان، فيمتنع الجمع بينهما.
الثاني: أن لا النافية للجنس لها اسم وخبر، ولا بد، فلا تتم فائدة اسمها إلا بخبرها، والخبر الجزء المتم للفائدة، ف "لا" حرف نفي، و"إله" اسمها، مبني معها على الفتح، والخبر المقدر، وهو " حق " على الصحيح، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [سورة الحج آية: 6] ، والخبر وصف في المعنى، قيد في الاسم، وقد خص من الإلهية ما ليس بحق، وفائدته: إخراج الإله الحق من المنفي، لتخصيص المنفي بانتفاء حقيقته، وهذا ظاهر لمن له أدنى فهم، فالاستثناء من الخبر، المقيد في حقيقة المستثنى، وهو الله تعالى، دون ما يعبد من دونه، وكل ما يعبد من دونه هو المنفي بحرف النفي، فيكون النفي منصبا على كل مألوه ليس بحق، وأما الحق فثابت لم ينتف، بدليل الوصف المثبت له.
الثالث: أن الآية، وهي قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] ، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] ، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، فأتى بمعناها، نفيا وإثباتا، فيجري في مدلولها ما جرى في الدال، وهو: لا إله إلا الله، فلا يجوز في قلب مسلم أن يعتقد أن إبراهيم عليه السلام، تبرأ من معبوده، الذي فطره، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} [سورة الزخرف آية: 26] ، ثم أثبته بقوله (إلا) ، هذا لا يقع اعتقاده من مسلم عرف هذه الكلمة ومعناها.(2/257)
والحق الذي يجب اعتقاده، ويدان الله به: أن الخليل عليه السلام تبرأ من كل ما كانوا يعبدونه سوى الله سبحانه، المستحق للعبادة وحده، سبحانه وبحمده، فاستثناه تعالى من معبوداتهم، لأنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون غيره، والقرآن يدل على هذا، كما هو ظاهر في آيات التوحيد، كما قال تعالى عن الخليل عليه السلام أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الصافات آية: 86"87] .
وقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48] ، وقال عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، لكن الجاهل أعمى، ولهذا تجد أكثرهم يتعصب لجهله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وصلى الله على محمد.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الإمام فيصل في معنى لا إله إلا الله]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإمام المكرم: فيصل، كرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/258)
وبعد: فاعلم أن لا إله إلا الله لها معنى عظيم، يستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وخلقهم لأجله والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة.
ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء من أئمة الإسلام فدونك كلام العماد ابن كثير، رحمه الله، في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] ، ذكر أن هذه السورة، سوره البراءة من العمل، الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشا دعوا رسول الله (إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 2] ، يعني من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ، وهو الله وحده؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ; والمشركون يعبدون غير الله.
قلت: فدلت هذه السورة الكريمة على البراءة من عبادة أصنام المشركين، وأوثانهم; فأمر الله نبيه (أن يتبرأ من دين المشركين وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات، والعزى، ومناة، وغيرها; وقد أخبر الله عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه قال لأبيه، وقومه: {مَا} [سورة الشعراء آية: 70] ، إذا كنتم {تَعْبُدُونَ} ؟ [سورة الشعراء آية: 70] ، فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها، وهي موجودة في الخارج، واستثنى(2/259)
من معبوداتهم رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام.
فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، فأخبر تعالى أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [سورة الصافات آية: 86] . وأخبر عنه أنه قال لقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26"28] ، وهي: "لا إله إلا الله" بإجماع أهل الحق، فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج؛ فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] ، هو معنى النفي في قوله: "لا إله" وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] ، هو معنى: " إلا الله ". وهذا كاف في البيان لمثلك، الذي قد عرفه الله معنى لا إله إلا الله.
وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} الآية [سورة الصافات آية: 35] . عرفوا أن "لا إله إلا الله"، علم على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها، من أوثانهم وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل، كما قالت عاد: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، عرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباوهم، فتبين بهذا أن "لا إله إلا الله"، نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن، من حين حدوث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم(2/260)
الساعة.
وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه، يعرفونه، حتى الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمتكلمون، من كل أشعري، وكرامي، وماتريدي; وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله، فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك.
وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد، فإنهم لا يقولون بهذا المعنى، ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي بلا إله إلا الله كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو الله، فهو المنفي، وهو المثبت، بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الوجود المطلق، فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا.
وشبيه قولهم هذا قول أهل وحدة الوجود، القائلين بأن الله تعالى هو الوجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله: "إلا الله" هو الوجود بعينه; ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود; كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء.
فخذ قولي، واقبله، وفقك الله، فلقد عرفت بحمد الله ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد; ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة، أن(2/261)
تقدير خبر " لا " موجود; وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم.
وتقدير خبر "لا" موجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين، لعنهم الله، على قولهم: إن الله هو الموجود، فلا وجود إلا الله، فهذا معنى قوله: إنه كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، فغير المعنى الذي دلت عليه لا إله إلا الله، من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها، كما قال المسيح عليه السلام: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] .
ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل. والمنفي بلا إله إلا الله هو المعبودات الباطلة، والمستثنى بإلا هو سبحانه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [سورة الحج آية: 6] . وقال في آخر السورة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] . وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة لقمان آية: 30] .
فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [سورة الحج آية: 6] ، هو المستثنى: إلا "الله"، وهو الحق، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ(2/262)
الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ، هو المنفي بلا إله؛ وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم في معنى كلمة الإخلاص، فكابر المعقول والمنقول، بدفعه ما جاء به كل رسول.
نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين ; وفي الحديث: " رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني " 1. وقد كان أبو بكر الصديق يقرأ في الركعة الأخيرة من المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] .
وهذا بحمد الله كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل ; وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
[رسالة تتضمن الوصية بتقوى الله]
وله أيضا، مع مشاركة:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، وعلي بن حسين، وإبراهيم بن سيف، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، رزقنا الله وإياهم الفقه في الدين، والإيمان واليقين. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، ونذكركم ما أنعم الله به علينا وعليكم، من دين الإسلام الذي رضيه لكم دينا; كما قال تعالى: {الْيَوْمَ
__________
1 أبو داود: الأدب (5061) .(2/263)
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] .
وليس الإسلام بمجرد الدعوى والتلفظ بالقول، وإنما معناه: الانقياد لله بالتوحيد والخضوع، والإذعان له بالربوبية والإلهية، دون كل ما سواه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256] . وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [سورة الروم آية: 30] ، إلى قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 32] . وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية [سورة البينة آية: 5] . وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الآية [سورة يوسف آية: 40] .
وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [سورة فصلت آية: 6] . والإله: الذي تألهه القلوب، محبة، ورجاء، وتعظيما، وتوكلا، واستعانة، ونحو ذلك من أنواع العبادة، الباطنة، والظاهرة.(2/264)
فالتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، كما تقدم بيانه، ولا يحصل ذلك إلا بالبراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا، كما ذكر الله تعالى ذلك عن إمام الحنفاء، عليه السلام، بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الآية [سورة الزخرف آية: 26] ، وقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78"79] .
فتأمل: كيف ابتدأهم بالبراءة من المشركين، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، ومدلولها، لا بمجرد قولها باللسان، من غير معرفة وإذعان، لما تضمنته كلمة الإخلاص، من نفي الشرك، وإثبات التوحيد ; والجاهلون من أشباه المنافقين يقولونها بألسنتهم، من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها; ولهذا تجد كثيرا ممن يقولها باللسان، إذا قيل له: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، اشمأز من هذا القول، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وقال تعالى لنبيه محمد (: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 105"106] ، والحنيف، هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وقد قال تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}(2/265)
[سورة العنكبوت آية: 56] .
وتقديم المعمول يفيد الحصر، كما في هذه الآية وأشباهها.
قال: العماد ابن كثير، رحمه الله، في معنى قوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} : [سورة البقرة آية: 130] ، فيها الرد على المشركين المخالفين لملة إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه، فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك قومه، حتى تبرأ من أبيه، كما ذكر الله ذلك عنه في قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة مريم آية: 48"49] ، وكيف بادأهم بذكر اعتزالهم أولا، ثم عطف عليه باعتزال معبوداتهم، كما في سورة الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ؛ وهذا هو حقيقة التوحيد.
وقد أرشد الله نبيه محمدا (والمؤمنين أن يأتموا بخليله في ذلك، ويتأسوا به، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
ولهذا الأصل العظيم، الذي هو ملة إبراهيم، شرع الله جهاد المشركين، فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا(2/266)
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36] ، وفي الحديث: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له " 1.
ومع هذا حذر الله نبيه (وعباده المؤمنين من الركون إليهم، فقال: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 74"75] ، وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الآية [سورة هود آية: 113] . وأظلم الظلم: الشرك بالله، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [سورة الممتحنة آية: 1] ، ومن المعلوم أن الذين نزلت هذه الآية في التحذير عن توليهم ليسوا من اليهود ولا من النصارى; ولا ريب أن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين البراءة من كل مشرك، وإظهار العداوة لهم والبغضاء، وحرم على المؤمنين موالاتهم والركون إليهم.
ومعلوم أن مشركي العرب لا يقولون: إن آلهتهم تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها، وشركهم إنما هو في التأله والعبادة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 165] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ
__________
1 أحمد (2/50) .(2/267)
اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ، والآية الثانية.
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] .
والآيات في بيان الشرك في العبادة، وأنه دين المشركين، وما تضمنه القرآن من الرد عليهم، وبيان ضلالهم، وضياع أعمالهم أكثر من أن تحصر; ويكفي اللبيب الموفق لدينه بعض ما ذكرناه من الآيات المحكمات؛ وأما من لم يعرف حقيقة الشرك، لإعراضه عن فهم الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، فكيف يعرف التوحيد؟ ومن كان كذلك، لم يكن من الإسلام في شيء، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم.
وأما من شرح الله صدره للإسلام، وأصغى قلبه إلى ذكر الله من الآيات المحكمات في بيان التوحيد المتضمن لخلع الأنداد التي تعبد من دون الله، والبراءة منها ومن عابديها، عرف دين المرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا(2/268)
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
وكلما ازداد العبد تدبرا لما ذكره الله تعالى في كتابه، من أنواع العبادة التي يحبها الله من عبده ويرضاها، عرف أن من صرف شيئا منها لغير الله فقد أشرك، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية [سورة الكهف آية: 110] ، ويجمع أنواع العبادة تعريفها بأنها: كل ما يحبه الله ورسوله، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة.
إذا فهمتم ذلك وعقلتموه، علمتم أن من المصائب في الدين ما يقع اليوم من كثير ممن يدعي الإسلام، مع هؤلاء الذين يأتونهم من أهل الشمال، وهم يعلمون أن الأوثان التي تعبد، وتقصد بأنواع العبادة، موجودة في بلادهم، وأن الشرك يقع عندهم، من الأقوال، والأعمال، ولا يحصل منهم نفرة ولا كراهة له; مثل هؤلاء الذين لا يعرف منهم أنهم عرفوا ما بعث الله به رسوله من توحيده، ولا أنكروا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، بل الواقع منهم إكرامهم وإعظامهم، بل زوجوهم نساءهم، فأي موالاة أعظم من هذا؟! وأي ركون أبين من هذا؟ أين العداوة لهم والبغضاء؟ هل كان ذلك الذي شرع الله وأوجبه على عباده، خاصا بأناس كانوا فبانوا؟ والناس بعد أولئك القرون(2/269)
قد صلحوا; أم كان الشرك 1.
[رسالة إلى أهل القصيم وذكر ما من الله به من التوحيد]
وله أيضا قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان من أهل القصيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: اعلموا وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع، والعمل به، تفهمون أن الله سبحانه منَّ على أهل نجد بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه وهذه نعمة عظيمة، خص الله أهل نجد بالقيام فيها، من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها.
والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار، بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] . وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] . وهو القرآن، ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها، إلا من القرآن؛ والقرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص: " لا إله إلا الله ". ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة، من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له; والموالاة في ذلك
__________
1 آخر ما وجد.(2/270)
فمن الآيات التي بين الله تعالى فيها، هذه الكلمة، قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [سورة الزخرف آية: 26"27"28] ، وهي: لا إله إلا الله، وقد افتتح قوله، بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو: الله تعالى، الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له.
ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة، يتعذر حصرها، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، والكلمة هي: لا إله إلا الله; بالإجماع، ففسرها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي نكون فيها سواء، علما، وعملا، وقبولا، وانقيادا، فقال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] ، فنفى ما نفته: لا إله إلا الله، بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله، بقوله: {إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، وقال: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] .
فهذا أعظم أمر أمر الله به عباده، وخلقهم له ; ففي قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة يوسف آية: 40] ، نفي الشرك الذي نفته: لا إله إلا الله، وقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، هو: الإخلاص الذي أثبتته: لا إله إلا الله، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، قضى: أي أمر {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] ، فيه من النفي ما في معنى: لا إله، وقوله {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، هذا هو الإثبات(2/271)
الذي أثبتته "لا إله إلا الله"؛ وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] ، فهذا هو الذي أمر به ودعا الناس إليه، وهو: إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك، قولا، وفعلا، واعتقادا.
وقد فعل ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الأنبياء آية: 108] ، بين تعالى أن توحيد الإلهية هو الإسلام، والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد، وهو أساس الملة ودعوة المرسلين؛ والدين كله من لوازم هذا الأصل، وحقوقه.
وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] . فمن تدبر القرآن، وتذكر به، عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . هذا ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم.(2/272)
[رسالة إلى الأحساء فيما دلت عليه كلمة الإخلاص]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: الأمير محمد بن أحمد، والشيخ عبد اللطيف بن مبارك، وأعيان أهل الأحساء، وعامتهم، رزقنا الله وإياهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع والأهواء، ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله من النور والهدى; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الباعث على هذا الكتاب هو النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ وأوصيكم بما دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله، وما تضمنته من نفي الإلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة من كل دين يخالف ما بشر الله به رسله من التوحيد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [سورة فصلت آية: 6] .
وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ(2/273)
خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة فصلت آية: 13"14] . وهذه الآية وما في معناها تتضمن النهي عن الشرك في العبادة، والبراءة منه ومن المشركين، من الرافضة وغيرهم ; والقرآن من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل العظيم، فلا غناء لأحد عن معرفته، والعمل به باطنا وظاهرا.
قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] . وهذا هو مضمون شهادة ألا إله إلا الله، كما تقدمت الإشارة إليه.
ومضمون شهادة أن محمدا رسول الله: وجوب اتباعه، والرضى به نبيا ورسولا، ونفي البدع، والأهواء المخالفة لما جاء به (؛ فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك وقبوله، ومحبته والانقياد له، قولا وعملا، باطنا وظاهرا.
[رسالة إلى الشتري وغيره ووصيتهم بتدبر الكتاب]
وله: أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: صالح الشثري، وزيد بن محمد، وإخوانهم، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن(2/274)
الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها; وأوصيكم بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دوال التوحيد، والتفكر في مدلولاته، ولوازمه، وملزوماته، ومكملاته، ومقتضياته، ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته.
فالخطر به شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه، وصفاته، التي تجلو الريب والشكن قلب كل مريد، واعتصم بها عن كل شيطان مريد، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [سورة البروج آية:12" 16] .
فقد عمت البلوى، بالجهل المركب والبسيط، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة آل عمران آية: 120] . فالله الله، في التحفظ على القلب، بكثرة الاستغفار من الذنب! جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة، وأخلص لله أقواله وأعماله.
وسئل رحمه الله تعالى عمن يعرف التوحيد ويعتقده، ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه، هل له أن يحدث بما سمعه وحفظه، من العلم، ولو لم يقرأ في النحو، أو لا؟(2/275)
فأجاب: من المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء، إنما كان دأبهم طلب ما هو الأهم، والنحو، إنما يراد لغيره، فيأخذ الرجل منه ما صلح لسانه ; فانشر ما علمت من العلم، خصوصا علم التوحيد، الذي هو في الآيات المحكمات كالشمس في نحر الظهيرة، لمن رغب فيه وأحبه وأقبل عليه.
وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم، بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] . وقد أرشد الله تعالى عباده إلى تدبر كتابه، وذم من لم يتدبره، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 51] .
وأخبر عن جن نصيبين، أنهم لما سمعوا قراءة النبي للقرآن بوادي نخلة، منصرفه من الطائف: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الآية [سورة الأحقاف آية: 29"30] ، وأخبر تعالى عنهم، في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن، من الاستعاذة بهم، إذا نزلوا واديا.
وأخبر تعالى عن هدهد سليمان، أنه أنكر الشرك،(2/276)
وهو طائر من جملة الطير، قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة النمل آية: 22"25] .
فحدث الهدهد، سليمان عليه السلام، بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرف الهدهد ; فأنكروه، وعرفوا الإخلاص فالتزموه؛ وبالله التوفيق، وسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه، بعلمه وحكمته وعدله.
[فائدة في حقيقة التوحيد]
وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
فائدة عظيمة النفع لمن تدبرها وفهمها، في حقيقة التوحيد والمتابعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في: كتاب المفتاح: الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: أن الله سبحانه خلق خلقه لعبادته، الجامعة لمحبته ومرضاته، المستلزمة لمعرفته؛ ونصب للعباد علما، لا كمال لهم إلا به، وهو: أن تكون حركاتهم كلها واقعة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛ فكمال العبد،(2/277)
الذي لا كمال له إلا به، أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله ويرضاه، ولهذا جعل اتباع رسله دليلا على محبته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] .
قال بعض العلماء: المحب الصادق إن نطق نطق بالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضاة الله، فهو لله وبالله، ومع الله ; ومعلوم أن صاحب هذا المقام أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها، ولا السكون المحبوب له من غيره، إلا بالعلم، فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته، لأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إلى العلم، كحاجته إلى الطعام والشراب.
ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وأن من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة؛ قال ذو النون" وقد سئل عن السفلة" فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى، ولا يتعرفه.
وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى الرجل وقد أعطي من الكرامات حتى يترفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، ومعرفة الشريعة. وقال أبو حمزة: من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه; ولا دليل إلى الله، إلا بمتابعة(2/278)
رسول الله " في أقواله، وأفعاله، وأحواله.
وقال محمد بن فضل، الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يد أربعة أصناف: صنف: لا يعملون بما يعلمون. وصنف: يعملون بما لا يعلمون. وصنف: لا يعلمون ولا يعملون، وصنف: يمنعون الناس من التعلم.
قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة; فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة.
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله. وهذان الصنفان، هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
الصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة.
الصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض; وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعة الأصناف هم الذين ذكرهم هذا(2/279)
العارف، رحمه الله تعالى; وهؤلاء كلهم، على شفا جرف هار، وعلى سبيل هلكة، وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في مرضاته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة الشورى آية: 27] . ولا ينكشف سر هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم; فعاد الخير بحذافيره، إلى العلم وموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل وموجبه. انتهى.
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن عبد اللطيف، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: هذا الوجه 1 من أنفع ما رأيت في تحقيق التوحيد والمتابعة، فأنت اقرأه على الإمام، فيا سعادة من عقله وصار على باله، والله أعلم.
__________
1 يشير إلى الوجه الرابع والثلاثين بعد المائة عند منتهاه في هذه الصفحة, وتقدمت بدايته في صفحة 277 , وهو من كلام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة ج/1 صفحة 159 - 160.(2/280)
[رسالة الإمام فيصل إلى أشراف اليمن يأمرهم بالإخلاص وترك الشرك]
قال الإمام: فيصل بن تركي، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من فيصل بن تركي بن سعود، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من أشراف اليمن، وعلمائهم، ووجوه القبائل ; سلمهم الله من النار، ومن غضب الجبار، ورزقهم إخلاص العبادة للواحد القهار، ووفقهم لاتباع سبيل محمد النبي المختار، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه المقربين منهم والأبرار، وسلم تسليما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه قد وصل إلينا من جهتكم الشيخ صالح بن سعيد الجوني، فأحببت أن أكتب معه إليكم نصيحة مختصرة، وفي الحديث: " الدين النصيحة " 1، وهو من الأحاديث الصحيحة، فأعظم ما يستنصح به العبد، وينصح به غيره:3صض الإيمان بالله، والعمل له، والتواصي بالحق، والصبر عليه.
فأصل دين الإسلام، وأساسه الذي تنبني عليه الأعمال، وتصح به الأقوال والأفعال، هو: إخلاص العبادة بجميع
__________
1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) .(2/281)
أنواعها لله تعالى؛ وهي منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح; ولا يكون مخلصا إلا بترك الشرك في العبادة، والبراءة منه.
وأفضل الأعمال: الأركان الخمسة، التي أعظمها تجريد التوحيد، والبراءة من الشرك والتنديد، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل، ثم قال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الآيات [سورة الشورى آية: 15] .
وقال تعالى لنبيه محمد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، فسبيله، وسبيل أتباعه: النهي عن الشرك، والدعوة إلى الإخلاص; ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .
وقد بين تعالى ما وصى به عباده من ذلك، وما نهى عنه من الشرك في العبادة، فأخبر عن رسوله نوح ومن بعده من الرسل، عليهم السلام، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] . وقال خطابا لنبيه ولأمته: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}(2/282)
[سورة الإسراء آية: 23] .
قال العلماء رحمهم الله تعالى: قضى: وصى، وقيل: أمر، وهما بمعنى واحد.
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] . والإسلام هو: الإخلاص، لأنه شرط لكل عمل، وكل عمل مفتقر إليه، وقد فسره علماء السلف بالإخلاص، كما في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112] ، وقوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة لقمان آية: 22] . قالوا: إسلام الوجه: الإخلاص، والإحسان، والمتابعة؛ والقرآن من أوله إلى آخره، وكذلك السنة، في تقرير هذين الأصلين.
ومن تدبر سيرة النبي قبل هجرته، وبعدها، وما كان عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة، عرف حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وتبين له كثرة المنحرفين عنه في هذه الأزمنة، وقبلها، فإن الأمة بعد القرون الثلاثة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، وذلك بعد ظهور دول الأعاجم، والقرامطة في المشرق; وبني عبيد القداح في مصر والمغرب، وظهرت الفلسفة، وغيرها من أصول البدع، وظهر الشرك.
وكل قرن ينحل فيه عقد الإسلام، حتى اشتدت الغربة، وعظم الافتراق، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، ونشأ(2/283)
عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وجهل الناس التوحيد الذي دعت إليه الرسل وبعث به إمامهم وسيدهم محمد (، ووقعوا في الشرك الذي نهى الله عنه ورسوله، حتى ظنوه من أفضل القربات {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] .
فيجب على من نصح نفسه، وطلب لها الخلاص من عذاب الله، أن يسعى في خلاصها بالإخلاص لله وحده، بجميع أنواع العبادة التي موردها القلب، واللسان، والجوارح، ويطلب العلم الذي ينجو به من النار، ويدخل به جنات تجري من تحتها الأنهار، ويصح به إيمانه، وتنفعه معه أعماله.
ومن عرف ما جرى من الأمم مع الرسل، وما ذكره الله عن الأكثر، وما جرى من اليهود مع نبينا محمد، لم يغتر بكثرة المخالفين لهذا الدين، ولا يصدفه عن الحق المبين زخرف الملحدين المزخرفين، كما قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102] ، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] ، وقال في حال اليهود: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] .
وفي الحديث الصحيح عن النبي (أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود(2/284)
والنصارى؟ قال فمن ;" 1 يعني أنهم هم المراد، ولهذا قال سفيان بن عيينة، رحمه الله: من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى ; هذا وهو في القرن الثاني من القرون الثلاثة المفضلة، فما الظن بمن. بعدهم من القرون التي فيها هؤلاء الخلوف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، بنص الحديث؟ وفي حديث أنس مرفوعا: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم 2 سمعته من نبيكم ".
ولهذا لما اشتدت غربة الإسلام في هذه الأزمان وقبلها، عاد الأمر إلى: أن من دعا بدعوى المرسلين، وقال: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، قيل له: تنقصت الأنبياء والصالحين ; فأشبهوا من قال الله فيهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وقد أمر الله تعالى بإخلاص العبادة له في مواضع كثيرة، من كتابه، ونهى نبيه (وأمته أن يدعوا أحدا من دونه، فقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية [سورة يونس آية: 106] .
وقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] ، وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/179) .(2/285)
إِلَّا هُوَ} [سورة القصص آية: 88] ، وقال: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} [سورة غافر آية: 66] ، وقال: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} الآية [سورة الأنعام آية: 56] . وهذه الآيات تحقق أن الدعاء عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك بالله، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] .
وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فبين في هذه الآية أن دعوة غيره كفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
فتدبروا: ما في هذه الآيات من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، والبيان الذي لا يخفى حتى على البليد.
وهذا النهي عام، يتناول كل مدعو من الأنبياء، فمن دونهم، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا(2/286)
يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] . نزلت هذه الآيات فيمن يدعو: المسيح بن مريم وأمه، وعزيرا، والملائكة، على الصحيح من أقوال المفسرين; وعليه أكثرهم. يقول الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
ولا ريب أن المسيح بن مريم والملائكة أحياء، لكنهم غافلون عمن دعاهم، ولا يستجيبون لهم بشيء، وأما العزير ومريم فقد ماتا، فلا يدعى ميت ولا غائب: فبطل بهذه الآية كل ما ادعاه المشركون في معبوديهم، كقولهم: ندعوهم؛ لأن لهم صلاحا، وترجى شفاعتهم. ونظائر هذه الآية، في القرآن كثير في الرد على من دعا الأنبياء والصالحين والملائكة ونحوهم.
ومع هذا البيان، فلا بد من وجود من يجادل في آيات الله، كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 4"5] . وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ(2/287)
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] .
يخبر تعالى أنه لا بد للحق من أعداء يجادلون في آيات الله وحججه، وبيناته، تحذيرا عنهم وعن الإصغاء إليهم وإلى شبهاتهم، وعن طاعتهم، فأقام تعالى الحجة على عباده، وحذر وأنذر، وبيَّن وأظهر: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الأنعام آية: 149] .
وكل شبهة، يلقيها أهل الباطل على أهل الحق، ففي الكتاب والسنة ما يبطلها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] .(2/288)
[جواب أبا بطين في تعريف العبادة والإخلاص]
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم، دام فضلكم، في تعريف العبادة وتعريف توحيد العبادة، وأنواعه؟ وتعريف الإخلاص؟ وما بين الثلاثة من العموم والخصوص؟ وهل هو مطلق، أو وجهي؟ وما معنى الإله؟ وما معنى الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه والكفر به؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما العبادة في اللغة، فهي: من الذل; يقال; بعير معبد، أي: مذلل، وطريق معبد، إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، وكذلك الدين أيضا، من الذل، يقال دنته، فدان، أي: ذللته، فذل ; وأما تعريفها في الشرع، فقد اختلفت عباراتهم، في تعريفها، والمعنى واحد.
فعرفها طائفة بقولهم هي: ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي; وعرفها طائفة بأنها: كمال الحب مع كمال الخضوع ; وقال أبو العباس، رحمه الله تعالى: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة.(2/289)
فالصلاة، والزكاة، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وجهاد الكفار، والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك، من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمته، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، فالدين كله داخل في العبادة. انتهى.
ومن عرفها بالحب من الخضوع، فلأن الحب التام، مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب والانقياد له، فالعبد، هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه وذله له، تكون طاعته; فمحبة العبد لربه وذله له يتضمن عبادته وحده لا شريك له ; والعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله، بغاية المحبة له، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ليس العبادة غير توحيد المـ ... حبة مع خضوع القلب والأركان
والحب نفس وفاقه فيما يحب ... وبغض ما لا يرتضى بجنان
ووفاقه نفس اتباعك أمره ... والقصد وجه الله ذي الإحسان(2/290)
فعرف العبادة بتوحيد المحبة مع خضوع القلب والجوارح، فمن أحب شيئا وخضع له، فقد تعبد قلبه له، فلا تكون المحبة المنفردة عن الخضوع عبادة، ولا الخضوع بلا محبة عبادة; فالمحبة والخضوع ركنان للعبادة، فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر، فمن خضع لإنسان مع بغضه له، لم يكن عابدا له، ولو أحب شيئا، ولم يخضع له، لم يكن عابدا له، كما يحب ولده وصديقه. ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة الكاملة والذل التام إلا الله سبحانه.
إذا عرف ذلك، فتوحيد العبادة هو: إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة المتقدم تعريفها، وهو نفس العبادة المطلوبة شرعا، ليس أحدهما دون الآخر; ولهذا قال ابن عباس: "كل ما ورد في القرآن من العبادة، فمعناه التوحيد" وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون. وأما العبادة من حيث هي، فهي أعم من كونها توحيدا عموما مطلقا، فكل موحد عابد لله، وليس كل من عبد الله يكون موحدا، ولهذا يقال عن المشرك: إنه يعبد الله، مع كونه مشركا، كما قال الخليل (: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية:75" 77] . وقال عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية:(2/291)
29" 27] .
فاستثنى الخليل ربه من معبوديهم، فدل على أنهم يعبدون الله.
فإن قيل: ما معنى النفي في قوله سبحانه: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ؟ قيل: إنما نفى عنهم، الاسم الدال على الوصف والثبوت; ولم ينف وجود الفعل الدال على الحدوث والتجدد، وقد نبه ابن القيم، رحمه الله تعالى، على هذا المعنى اللطيف في بدائع الفوائد، فقال لما انجر كلامه على سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] : وأما المسألة الرابعة، وهو أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى.
وذلك" والله أعلم" لحكمة بديعة، وهي: أن المقصود الأعظم، براءته من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت ; فأتى أولا بصيغة الفعل، الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل، الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي.
وأما في حقهم، فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت، دون الفعل; أي: الوصف الثابت اللازم للعابد لله، منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتا لكم، وإنما(2/292)
يثبت لمن خص الله وحده بالعبادة، لم يشرك معه فيها أحدا، وأنتم لما عبدتم غيره، فلستم من عابديه، وإن عبدتموه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله، ويعبد معه غيره، كما قال تعالى، عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، أي اعتزلتم معبوديهم، إلا الله، فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قول المشركين، عن معبوديهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، فهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، لم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى الوصف؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله، موصوفا بها.
فتأمل هذه النكته البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وإن عبده، ولا المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلا، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدا في عبادته؛ وأنه إن عبده وأشرك به غيره، فليس عابدا لله، ولا عبدا له؛ وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي أحد سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وأما الإخلاص فحقيقته: أن يخلص العبد لله، في أقواله، وأفعاله، وإرادته، ونيته، وهذه هي: الحنيفية،(2/293)
ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي: حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] ، وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] .
وقد تظاهرت دلائل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، على اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه، ولهذا كان السلف الصالح يجتهدون غاية الاجتهاد في تصحيح نياتهم، ويرون الإخلاص أعز الأشياء وأشقها على النفس، وذلك لمعرفتهم بالله وما يجب له، وبعلل الأعمال وآفاتها، ولا يهمهم العمل لسهولته عليهم; وإنما يهمهم سلامة العمل وخلوصه من الشوائب المبطلة لثوابه، والمنقصة له.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (أمر النية شديد) . وقال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئا، أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي". وقال يوسف بن إسباط: "تخليص النية من فسادها، أشد على العاملين من طول الاجتهاد". وقال سهل بن عبد الله: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، ولأنه ليس لها فيه نصيب". وقال يوسف بن الحسين: (أعز شيء في الدنيا: الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي،(2/294)
وكأنه ينبت فيه على لون آخر، فيجب على من نصح نفسه أن يكون اهتمامه بتصحيح نيته، وتخليصها من الشوائب، فوق اهتمامه بكل شيء، لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى) .
وأما ما بين الثلاثة من العموم والخصوص، وهل هو وجهي، أو مطلق؟
فقد قدمنا أن العبادة من حيث هي أعم من توحيد العبادة، عموما مطلقا، وأن العبادة المطلوبة شرعا هي نفس توحيد العبادة ; ودل كلام ابن القيم رحمه الله أن توحيد العبادة أعم من الإخلاص، حيث قال:
فلواحد كن واحدا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان
هذا وثاني نوعي التوحيد تو ... حيد العبادة منك للرحمن
أن لا تكون لغيره عبدا ولا ... تعبد بغير شريعة الإيمان
فتقوم بالإسلام والإيمان وال ... إحسان في سر وفي إعلان
والصدق والإخلاص ركنا ذلك الت ... وحيد كالركنين للبنيان
إلى أن قال:
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا ... د فلا يزاحمه مراد ثان
والصدق توحيد الإرادة وهو بذ ... ل الجهد لا كسلا ولا متوان
والسنة المثلى لسالكها فتو ... حيد الطريق الأعظم السلطان
فقوله رحمه الله: والصدق، والإخلاص، ركنا ذلك التوحيد، جعل الإخلاص، أحد ركني العبادة، والصدق ركنه(2/295)
الآخر، وفسر الصدق بما ذكر. وقال في بعض كلامه: ومقام الصدق جامع للإخلاص; فعرفنا رحمه الله أن توحيد العبادة أعم من الإخلاص، ولم يذكر إلا عموما مطلقا. وأما العموم الوجهي، فالظاهر، أن المراد به: إذا كان أحد الشيئين أعم من وجه، وأخص من وجه ; والعموم الذي بين مطلق العبادة، وبين توحيد العبادة، والإخلاص، مطلق لا وجهي.
وأما الإله، فهو: الذي تألهه القلوب، بالمحبة، والخضوع، والخوف، والرجاء، وتوابع ذلك من: الرغبة، والرهبة، والتوكل، والاستغاثة، والدعاء، والذبح، والنذر، والسجود; وجميع أنواع العبادة: الظاهرة والباطنة ; فهو إله، بمعنى: مألوه، أي: معبود. وأجمع أهل اللغة أن هذا معنى الإله، قال الجوهري: أله بالفتح، إلهة، أي: عبد عبادة، قال: ومنه قولنا: الله، وأصله: إله، على فعال، بمعنى مفعول، لأنه مألوه، بمعنى معبود، كقولنا: إمام، فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مؤتم به; قال: والتأليه: التعبيد; والتآله: التنسك والتعبد; قال رؤبة:
سبحن واسترجعن من تأله ... .........................................
انتهى
وقال في القاموس: أله، إلهة، وألوهة: عبد، عبادة ; ومنه لفظ الجلالة ; واختلف فيه على عشرين قولا ; يعني في لفظ الجلالة، قال، وأصله: إله، بمعنى: مألوه;(2/296)
وكل ما اتخذ معبودا، إله عند متخذه; قال، والتأله: التنسك والتعبد. انتهى. وجميع العلماء من المفسرين، وشراح الحديث، والفقه، وغيرهم، يفسرون الإله بأنه: المعبود.
وإنما غلط في ذلك بعض أئمة المتكلمين، فظن أن الإله هو القادر على الاختراع، وهذه زلة عظيمة وغلط فاحش، إذا تصوره العامي العاقل تبين له بطلانه، وكأن هذا القائل، لم يستحضر ما حكاه الله عن المشركين في مواضع من كتابه، ولم يعلم أن مشركي العرب وغيرهم يقرون بأن الله هو القادر على الاختراع، وهم مع ذلك مشركون. ومن أبعد الأشياء أن عاقلا يمتنع من التلفظ بكلمة يقر بمعناها، ويعترف به، ليلا ونهارا، سرا وجهارا; هذا ما لا يفعله، من له أدنى مسكة من عقل.
قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الألوهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع، دون غيره، فقد شهد ألا إله إلا الله; فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان آية: 25] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ(2/297)
أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] الآيات، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . قال ابن عباس: (تسألهم من خلق السماوات والأرض; فيقولون: الله; وهم مع هذا، يعبدون غيره) .
وهذا التوحيد من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه لله. والإله، هو: المألوه، الذي تألهه القلوب; فهو إله بمعنى مألوه لا بمعنى أله. انتهى.
وقد دل صريح القرآن على معنى الإله، وأنه هو المعبود، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26"28] ، قال المفسرون: هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، أي: ذريته ; قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده; والمعنى: جعل هذه الموالاة، والبراءة من كل معبود سواه، كلمة باقية في ذرية إبراهيم، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم، بعضهم عن بعض، وهي كلمة: لا إله إلا الله.
فتبين: أن موالاة الله بعبادته والبراءة من كل معبود سواه، هو معنى لا إله إلا الله. إذا تبين ذلك، فمن صرف لغير الله شيئا من أنواع العبادة المتقدم تعريفها، كالحب،(2/298)
والتعظيم، والخوف، والرجاء، والدعاء، والتوكل، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألها، وعبادة وشركا. ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلو سمى: الزنى، والربا، والخمر، بغير أسمائها، لم يخرجها تغيير الاسم عن كونها: زنى، وربا، وخمرا، ونحو ذلك.
ومن المعلوم أن الشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنا مسبة الرب وتنقصه، وتشبيهه بالمخلوقين؛ فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته: توسلا، وتشفعا، وتعظيما للصالحين، وتوقيرا لهم، ونحو ذلك; فالمشرك مشرك، شاء أم أبى، كما أن الزاني زان، شاء أم أبى، والمرابي مراب، شاء أم أبى.
وقد أخبر النبي (أن طائفة من أمته يستحلون الربا، باسم البيع، ويستحلون الخمر، باسم آخر غير اسمها، وذمهم على ذلك؛ فلو كان الحكم دائرا مع الاسم، لا مع الحقيقة، لم يستحقوا الذم، وهذه من أعظم مكائد الشيطان لبني آدم، قديما وحديثا ; أخرج لهم الشرك في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم; وغير اسمه بتسميته إياه: توسلا، وتشفعا، ونحو ذلك; والله الهادي إلى سواء السبيل.
وأما: تعريف الطاغوت، فهو مشتق من طغا، وتقديره(2/299)
طغوت، ثم قلبت الواو ألفا، قال النحويون: وزنه: فعلوت، والتاء زائدة، قال الواحدي: قال جميع أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحدا، وجمعا، ويذكر، ويؤنث ; قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] . فهذا في الواحد، وقال تعالى في الجمع: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة آية: 257] .
وقال في المؤنث: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [سورة الزمر آية: 17] . قال: ومثله: في أسماء الفلك، يكون واحدا، وجمعا، ومذكرا، ومؤنثا; قال: قال الليث، وأبو عبيدة، والكسائي، وجماهير أهل اللغة، الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، وقال الجوهري، الطاغوت: الكاهن، والشيطان، وكل رأس في الضلال; وقال مالك، وغير واحد من السلف، والخلف: كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت.
وقال: عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين: "الطاغوت الشيطان" قال ابن كثير: وهو قول قوي جدا، فإنه يشمل كل ما عليه أهل الجاهلية من: عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها ; وقال الواحدي، عند قول الله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] : كل معبود من دون الله فهو(2/300)
جبت وطاغوت; قال ابن عباس في رواية عطية: "الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين يكونون بين أيديهم، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس؟ " وقال" في رواية الوالبي": "الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر". وقال بعض السلف في قوله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 60] : إنه كعب بن الأشرف; وقال بعضهم: حيي بن أخطب، وإنما استحقا هذا الاسم، لكونهما من رؤساء الضلال، ولإفراطهما في الطغيان، وإغوائهما الناس، ولطاعة اليهود لهما في معصية الله؛ فكل من كان بهذه الصفة، فهو طاغوت، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 60] لما ذكر ما قيل إنها نزلت في من طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف، أو إلى حاكم الجاهلية، وغير ذلك، قال: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا.
فتحصل من مجموع كلامهم رحمهم الله: أن اسم الطاغوت يشمل كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال، يدعو إلى الباطل، ويحسنه، ويشمل أيضا: كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله ; ويشمل أيضا: الكاهن، والساحر، وسدنة الأوثان، الداعين إلى عبادة المقبورين وغيرهم، بما(2/301)
يكذبون من الحكايات المضلة للجهال، الموهمة أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من توجه إليه وقصده، وأنه فعل كذا وكذا، مما هو كذب أو من فعل الشياطين، ليوهموا الناس أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من قصده؛ فيوقعوهم في الشرك الأكبر وتوابعه. وأصل هذه الأنواع كلها، وأعظمها: الشيطان، فهو: الطاغوت الأكبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/302)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في معنى العبادة]
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، الطيبين الطاهرين; أما بعد: فقد ورد علينا رسالة من شيخنا العلامة، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، متعنا الله بوجوده، متضمنة للإفادة، أخرجها مخرج السؤال، بقوله: عرفونا، ما معنى: العبادة؟ ويكون التعريف جامعا مانعا، وكذلك الإله المنفي، بكلمة الإخلاص، والإلهية المثبتة للحق سبحانه وتعالى؟
فالجواب، وبالله التوفيق: أما تعريف العبادة، فقد عرفها شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في فوائده على كتابه: كتابه التوحيد، بأن العبادة هي: التوحيد، لأن الخصومة فيه، وأن من لم يأت به لم يعبد الله، فدل على أن التجرد من الشرك، لا بد منه في العبادة، وإلا فلا يسمى عبادة.
وقال الشيخ تقي الدين،: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، فهي الغاية(2/303)
المحبوبة له تعالى: وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال نوح عليه السلام، لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، ?وكذلك هود، وصالح; وذلك أن الإله، يطلق على كل معبود بحق وباطل; والإله الحق هو الله; قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] .
ويسمى هذا النوع: توحيد الإلهية، لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو: أشد المحبة لله وحده لا شريك له؛ وذلك يستلزم إخلاص العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده، وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] .
فالموحد: من جمع قلبه ولسانه، مخلصا لله تعالى في الإلهية المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستغاثة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء، بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه، وامتثال أمره، ناظرا إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء، والأولياء، مميزا بين الحقين، وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته،(2/304)
ومحبته; وموالاته، وطاعته، وهذا من تحقيق "لا إله إلا الله".
لأن معنى "الإله" عند الأولين: ما تألهه القلوب بالمحبة التي كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع; قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 165] ؛ فالمحبة التي لله، غير المحبة التي مع الله، قال الله تعالى، عن الكفار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] .
فمعنى شهادة ألا إله إلا الله أن يقولها نافيا بقلبه ولسانه الإلهية عن كل ما سواه، ومثبتها لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق؛ فيكون معرضا بقلبه عن جميع المخلوقات، لا يتألههم فيما لا يقدر عليه إلا الله، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات؛ وذلك يتضمن إرادة القلب في عبادته ومعاملته، ومفارقته في ذلك كل ما سواه; فيكون مفرقا في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالما بالله، ذاكرا له، عارفا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم بعبادته وأفعاله، وصفاته; ويكون محبا له، مستعينا به لا بغيره، متوكلا عليه لا على غيره.
وهذا هو معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية:(2/305)
5] ، وهي من خصائص الإلهية، كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم، وخلقه السماوات والأرض وما فيهما من الآيات، من خصائص الربوبية التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، حتى إبليس لعنه الله معترف بها في قوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39] ، وقوله: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سورة الأعراف آية: 14] مقر بأن كل شيء في يده سبحانه، وإنما كفر بعناده وتكبره عن الحق، وطعنه فيه؛ وكذلك المشركون الأولون، يعرفون ربوبيته، وهم بها له معترفون، كما ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وغيرها من الآيات، وكما يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك.
فمن ترك التوحيد، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله، بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن إلا من الله، والتجأ إلى ذلك الغير، مقبلا عليه بقلبه، طالبا شفاعته، متوكلا عليه، راغبا إليه فيها، تاركا ما هو المطلوب المتعين عليه، متعلقا على المخلوق لأجله، فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم. ولا نشأت فتنة في الوجود، إلا بهذا الاعتقاد، فصار شقيا بالإرادة الكونية.
والإرادة الدينية أصل في إيجاد المخلوق، والإرادة الكونية أصل فيمن كتبت عليه الشقاوة، فلا ييسر إلا لها،(2/306)
ولا يعمل إلا بها، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118"119] . فهي الإرادة الكونية، وهي لا تعارض الإرادة الدينية، التى هي أصل إيجاد المخلوقات؛ فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، فقد يعبدون، وقد لا يعبدون؟ وقوله: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " 1، وكما في حديث القبضتين؟ فبهذا يتبين الفرق، بين الإرادة الكونية، والإرادة الدينية.
وأما تعريف الشرك وأنواعه، فقد عرفه شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في: كتاب التوحيد، فذكر أنواعه وأقسامه، وجليه وخفيه، وأكبره وأصغره، خصوصا الشرك في العبادة، مما عساك لا تجده مجموعا في غيره من الكتب المطولات، فإن الإيمان النافع لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقا.
وأما أنواعه، فمنها: الشرك في الربوبية، وهو نوعان: شرك التعطيل كشرك فرعون، وشرك الذي حاج إبراهيم في ربه، ومنه شرك طائفة ابن عربي، ومنه: شرك من عطل أسماء الرب سبحانه وأوصافه، من غلاة الجهمية، ومنه: شرك من جعل مع الله إلها آخر، ولم يعطل ربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة.
النوع الثاني: الشرك في أسمائه وصفاته: ومنه تشبيه
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4949) , ومسلم: القدر (2647) , والترمذي: القدر (2136) , وابن ماجه: المقدمة (78) , وأحمد (1/82 ,1/157) .(2/307)
الخالق بالمخلوق، كمن يقول: يد كيدي; وهو شرك المشبهة.
والنوع الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة، فكل ما ذكرنا من توحيد الإلهية، وأنواع العبادة، والقصد، التي لا يستحقها إلا الله، صرفها إلى غيره شرك.
النوع الثاني من شرك العبادة: الشرك الأصغر، كالرياء، والسمعة، والعمل لأجل الناس. وقد قال شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، ومنه: الشرك في الألفاظ، كقول: ما شاء الله وشئت، ونحوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر. فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار. ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر، مع حسنات راجحة، دخل الجنة. ومن خلص من الأكبر، لكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته، دخل النار، وذلك على سبيل الإشارة والاختصار. والله أعلم.
وأجاب أيضا:
وقولك: هل تعريف العبادة تعريف العبودية؟ المراد: هل معناهما واحد؟. فالعبادة أخص من العبودية، واسم(2/308)
العبودية عام. قال ابن القيم، رحمه الله، في المدارج: العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السماء والأرض كلهم: مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، وهي: عبودية القهر والملك، قال تعالى:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] ، فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة، والمحبة، واتباع الأوامر، قال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [سورة الفرقان آية: 63] .
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قول من يقول: إن الأمر بعبادة الله وحده لا يفيد النهي عن الشرك، بل لا بدّ من النهي عن الشرك.
فأجاب: قول الجاهل، الكاذب على الله، الهاضم لكلام الله عما أريد منه، من قوله: إن الأمر بعبادة الله وحده لا يفيد النهي عن الشرك، بل لا بد من النهي عن الشرك، فهذا مخطئ ضال؛ والوعيد الشديد فيمن قال في القرآن برأيه ولو أصاب; فكيف بمن قال برأيه وأخطأ؟ وقد قال ابن عباس: (كل ما ورد في القرآن من الأمر بالعبادة،(2/309)
فمعناها التوحيد) ، وعلى هذا جميع المفسرين، والعلماء.
فعلى قول هذا الجاهل: إن قوله سبحانه: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [سورة البقرة آية: 21] ، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وقوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 92] ، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، ونحو ذلك، لا يفيد النهي عن الشرك، فإذا كانت العبادة المأمور بها، هي التوحيد والتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، ونفيها عمن سواه، وهو معنى لا إله إلا الله، التي حقيقتها إثبات العبادة لله وحده، ونفي الشركة عن الله سبحانه فيها، وهذا أمر واضح ما يحتاج إلى إيضاح، فقد تبين بطلان قوله بما ذكرناه.
وسئل عن معنى: لا إله إلا الله؟ وما تنفي، وما تثبت؟
فأجاب رحمه الله: أول واجب على الإنسان: معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة محمد آية: 19] ، وقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [سورة الزخرف آية: 86] ، أي بلا إله إلا الله، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] ، بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فأفرض الفرائض: معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بها والعمل بمقتضاها؛ فالإله هو: المعبود، والتأله: التعبد، ومعناها: لا معبود إلا الله ; نفت الإلهية عمن سوى الله،(2/310)
وأثبتتها لله وحده.
فإذا عرفت أن الإله هو: المعبود، والإلهية هي: العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأفعال; فالإله، هو: المعبود المطاع؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو مشرك، وذلك كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر; وكذلك التوكل، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة؛ وإفراد الله سبحانه بالعبادة، ونفيها عمن سواه، هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله.
فمن قال: لا إله إلا الله، بصدق ويقين، أخرجت من قلبه كل ما سوى الله، محبة وتعظيما، وإجلالا، ومهابة، وخشية، وتوكلا. فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله، ولا كراهة لما يحبه؛ وهذا حقيقة الإخلاص، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله، مخلصا من قلبه، دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار " 1.
"قيل للحسن البصري: إن ناسا، يقولون: من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال، من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها، وفرضها" إلخ. وغالب من يقول لا إله إلا الله، إنما يقولها تقليدا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، فلا يعرف الإخلاص فيها؛ ومن لا يعرف ذلك، يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت؛ وغالب من يفتن في القبور،
__________
1 أحمد (5/236) .(2/311)
أمثال هؤلاء، كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. والله أعلم.
وسئل: أيضًا، عن معنى لا إله إلا الله، وعمن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله، وهل من قالها ودعا نبيا أو وليا تنفعه؟ أو هو: مباح الدم والمال، ولو قالها؟
فأجاب رحمه الله: معنى "لا إله إلا الله" عند جميع أهل اللغة، وعلماء التفسير، والفقهاء كلهم، يفسرون الإله بالمعبود; والتأله: التعبد، وأما العبادة، فعرفها بعضهم بأنها: ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور وترك المحظور، من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه.
فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله، كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فهو مشرك. ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبدون من دونه، لأن معنى لا إله إلا الله: إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه؛ وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه: البراءة منه، واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قوله تعالى: {فَمَنْ
__________
1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/345 ,6/354) , ومالك: النداء للصلاة (447) .(2/312)
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] .
والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله " 1، فقوله: "وكفر بما يعبد من دون الله" الظاهر: أن هذا زيادة إيضاح; لأن لا إله إلا الله، متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله.
ومن قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر، كدعاء الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، فهذا مشرك، شاء أم أبى، و {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، و {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، ومع هذا فهو شرك، ومن فعله فهو كافر.
ولكن كما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر، حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن أصر بعد البيان، حكم بكفره، وحل دمه وماله; وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة الأنفال آية: 39] ، أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله، قوتلوا لأجل هذا
__________
1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .(2/313)
الوثن، أي لإزالته، وهدمه، وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله.
والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، أي: الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له" 1 فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله، فالسيف مسلول عليه، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، عن إنكار النبي على من قال نستشفع بالله عليك.. إلخ.
فقال: وما سألت عنه، من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله، لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله، أي: نطلب منك، أن تدعو الله أن يغيثنا، لأن الداعي شافع; ومعنى نستشفع بالله عليك: نطلب من الله أن يطلب منك أن تدعو لنا، وتستسقي لنا؛ فالله سبحانه يشفع إليه، ولا يستشفع هو إلى أحد.
وأما آخر الحديث الذي أشار إليه، بعد قوله: "لا يستشفع به على أحد، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، إن عرشه على سماواته وأرضه، هكذا بأصابعه، مثل القبة" 2 وفي لفظ: "وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق
__________
1 أحمد (2/50) .
2 أبو داود: السنة (4726) .(2/314)
أرضه، هكذا وقال بأصابعه مثل القبة" وقوله في الحديث الآخر: "إنه لا يستغاث بي" الحديث.
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كقوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] ؛ وإذا أقبل عليك عدو، واستغثت بأصحابك ليعينوك، فهذا استغاثة بهم، والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة.
وسئل: أيضا، رحمه الله، عن سؤال الله بحق الكعبة، وطوافي عليك يا رب! وبحق محمد، ومدينته، عليك يا رب! وبحق القرآن، عليك يا رب! وبحق جبرائيل، والملائكة، والجنة، والنار، والشمس، والقمر، والأقطاب، والأبدال، والأوتاد، وغيرها؟
فأجاب: السؤال بهذه الأشياء التي ذكرتم، باطل لا أصل له؛ والمشروع إنما هو سؤاله سبحانه بأسمائه وصفاته، كما في الأحاديث المشهورة، والله أعلم.
[رسائل الشيخ عبد اللطيف أن الله خلق الخلق لعبادته]
قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
اعلم رحمك الله أن الله خلق الخلق لعبادته، الجامعة(2/315)
لمعرفته، ومحبته، والخضوع له، وتعظيمه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإسلام الوجه له; وهذا، هو الإيمان المطلق، المأمور به في جميع الكتب السماوية، وسائر الرسالات النبوية؛ ويدخل في باب معرفة الله تعالى توحيد الأسماء، والصفات فيوصف سبحانه بما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز ذلك، ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة.
وجميع ما في الكتاب والسنة يجب الإيمان به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة الأعراف آية: 180] ، فأسماؤه كلها حسنى، لأنها تدل على الكمال المطلق، والجلال المطلق، والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعطله، ولا نلحد فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق، فإن تعطيل الصفات، عما دلت عليه كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر.
وقد قال مالك بن أنس، رحمه الله، لما سأله رجل، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، كيف استوى؟ فاشتد ذلك على مالك رحمه الله.، حتى علته الرحضاء، إجلالا لله وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. يريد رحمه الله(2/316)
تعالى السؤال عن الكيفية.
وهذا الجواب: يقال في جميع الصفات، لأنه يجمع الإثبات والتنزيه ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان به وبربوبيته العامة الشاملة لجميع الخلق والتكوين، وقيوميته العامة الشاملة لجميع التدبير والتيسير والتمكين؛ فالمخلوقات بأسرها، مفتقرة إلى الله، في قيامها، وبقائها، وحركاتها، وسكناتها، وأرزاقها، وأفعالها، كما هي مفتقرة إليه في خلقها، وإنشائها، وإبداعها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [سورة فاطر آية: 15"17] .
ويدخل في الإيمان به إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تضمنته شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله. فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة بجميع أنواعها عما سواه تعالى، من كل مخلوق. ومربوب؟ وأثبت ذلك على وجه الكمال الواجب والمستحب لله تعالى، فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة، إذ هو الإله الحق المستحق، المستقل بالربوبية، والملك، والعز، والغنى، والبقاء.
وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا، ولا ضرا; فعبادة سواه من أظلم الظلم، وأسفه السفه; والقرآن كله راد على من أشرك بالله، في هذا التوحيد، مبطل لمذهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمر(2/317)
ومرغب في إسلام الوجه لله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته؛ ومعنى العبادة في أصل اللغة لمطلق الذل والخضوع، ومنه: طريق معبد إذا كان مذللا، قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر:
تبارى عتاقا ناجيات واتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
واستعملها الشارع في العبادة الجامعة لكمال المحبة، وكمال الذل والخضوع. وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] . وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك، أفسدها، وأبطلها; ولا تسمى عبادة، إلا مع التوحيد؟ قال ابن عباس: "ما جاء في القرآن من الأمر بعبادة الله إنما يراد به التوحيد". انتهى.
ويدخل في العبادة الشرعية كل: ما شرعه الله ورضيه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، كمحبة الله، وتعظيمه، وإجلاله، وطاعته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار واليتيم والمملوك والمسكين وابن السبيل، وكذا النحر والنذر، فإنهما من أجل العبادات وأفضل الطاعات، وكذا الطواف ببيته تعالى، وحلق الرأس تعظيما وعبودية، وكذا سائر الواجبات(2/318)
والمستحبات.
فحق الله على العباد: أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا والشرك في العبادة ينافي هذا التوحيد ويبطله، كما قال تعالى، لما ذكر حال خواص أوليائه ومقربي رسله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] . والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1، والند: المثل والشبيه.
فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله، فقد أشرك به، شركا يبطل التوحيد وينافيه، لأنه شبه المخلوق بالخالق، وجعله في مرتبته، ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به تعالى، كما قال الخليل عليه السلام: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الصافات آية: 86"87] .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته، وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله، من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد
__________
1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) .(2/319)
بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه.
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، والذي يعينهم على قضاء حوائجهم إلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم، وعجزهم، وضعفهم وقصور علمهم.
فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به طن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح. انتهى.
إذا عرفت هذا، فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات، والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها:" وهو أصلها" كمال المحبة، وكمال الذل والخضوع، كما تقدم. هذا سر العبادة وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب، وكمال الخضوع، فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة والعبودية، وأثنى عليه" سبحانه" بذكر أوصافه(2/320)
العلى، فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه، لأنه ينقص هذه المحبة، والخضوع، والإنابة، والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به.
والله لا يغفر أن يشرك به، لأنه يتضمن التسوية بينه تعالى وبين غيره في المحبة والتعظيم، وغير ذلك من أنواع العبادة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، أخبر سبحانه أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] ، فهذه تسوية في المحبة والتأله، لا في الذات والأفعال والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير إلهه الحق، فقد أعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه.
والمحبة: ثلاثة أنواع: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذا لا يستلزم التعظيم.
والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ونحوها، وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثالث: محبة أنس وألفة، وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر، بعضهم لبعض، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا. فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون(2/321)
شركا في محبة الله سبحانه، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق.
وأما المحبة الخاصة، التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية، المستلزمة للذل والخضوع، والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن، الذي إذا مات عليه دخل الجنة، باعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها.
فهي أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها; وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل، فهي: قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام؛ ولأجلها أنزل الله الكتاب، والحديد، فالكتاب هاد إليها ودال عليها، ومفصل لها; والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها، ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار، أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها. والنار دار من أشرك فيها(2/322)
مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها. فالقيام بها واجب، علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله.
فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتيقظ لهذة المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله، فإن الشأن كله فيها، والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر آية: 92"93] ، قال غير واحد من السلف: عن قول لا إله إلا الله; وهذا حق، فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ ماذا أجبتم المرسلين؟ ". فالسؤال عما كانوا يعبدون السؤال عنها نفسها، والسؤال عن ماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريقة المؤدية، هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها.
وأمر هذا شأنه، حقيق أن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضلة، بل يجعل هو المطلوب الأعظم، وما سواه إنما يطلب على فضلة، والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك، علما وعملا وحالا. ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته ; وصلى الله على محمد.(2/323)
وسئل أيضًا الشيخ: ٍعبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه، من المعاداة والموالاة؟
فأجاب: معرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية، من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة، وأن تعبده مخلصا له الدين; والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة فيدخل في ذلك قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح؛ وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] ، بالتوحيد في العبادة، لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس.
إذا عرفت هذا، عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله؛ وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه، والعدل به، وتضمن مسبة الله; فإن الشرك الأكبر يتضمنهما، ولهذا ينزه الرب تعالى، ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة القصص آية: 68] ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2/324)
[سورة الصافات آية: 180"182] ، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .
ومحل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية، وواجباتها ومستحباتها; سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها، فالأول: العقائد، وهي: التوحيد العلمي. وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات، من أحسنها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأما الثاني، وهو: علم أعمال القلوب وسيرها، المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم رحمه الله تعالى، في شرح المنازل، وفي: سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة، فالمصنفات فيها أكثر من أن تحصر; وبالجملة: فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر، إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى.
وأما الموالاة والمعاداة، فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " وأصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض؛ وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال؛ والولي ضد العدو.
[جواب الشيخ عبد اللطيف عن معنى لا إله إلا الله]
وسئل أيضا الشيخ عبد اللطيف، عن معنى لا إله إلا الله، فأجاب:(2/325)
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى; وبعد: فقد خاض بعض الجاهلين في معنى كلمة الإخلاص وإعرابها، وأتى بخلط وجهل لا يسع السكوت عليه؛ فنقول: اعلم أن لا إله إلا الله هي كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وأصل دين الإسلام، ومفتاح دار السلام; قد دلت بمنطوقها وموضوعها على نفي استحقاق الإلهية عن غيره تعالى، والبراءة من كل معبود سواه، قولا وفعلا، وإثبات استحقاق الإلهية على وجه الكمال لله تعالى.
فالأول: وهو النفي، يستفاد من: لا واسمها وخبرها المقدر؛ والإثبات: يستفاد من الاستثناء، لأن الإثبات بعد النفي المتقدم أبلغ من الإثبات بدونه؛ وهذه طريقة القرآن، يقرن بين النفي والإثبات غالبا، كما في هذا الموضع، لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 256] ، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 1"2] ، وقال عن نبيه يوسف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.(2/326)
قال ابن القيم رحمه الله: وطريقة القرآن في مثل هذا، أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته: وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي؛ فلا يكون التوحيد، إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا الله. انتهى.
ولذلك أفادت هذه الكلمة، الحصر والاختصاص؛ وقرر بعض المحققين لهذه الكلمة الطيبة، وما شابهها من الآيات التي ابتدأت بنفي الإلهية والعبادة عن غير الله، أن ذلك أبلغ وآكد في الإثبات والاختصاص; ومنه: لا رجل إلا زيد، أو: لا كريم إلا زيد، فإنه مع إفادته نفي الصفة عن غير المستثنى، أفاد إثباتها له على وجه الكمال الذي لا يتأتى بمجرد الإثبات، من غير نفي، فلا تقيده: زيد رجل; أو زيد كريم; ولأن بين النفي والإثبات هنا تلازم من كل وجه، فلا براءة من الشرك وعبادة غير الله إلا بتوحيده، ولا توحيد إلا بالبراءة من كل معبود سوى الله؛ وكما تضمنت العلم، فهي تتضمن العمل؛ ولا يتصور وجود شهادة، وإذعان وإتيان بمدلولها إلا مع العلم والعمل، وهذا الذي قررناه تدل عليه عبارات أهل العلم، من اللغويين والمفسرين وغيرهم.
والإله وضع لكل معبود، حقا كان أو باطلا، لأنه مشتق من الإلهة، بمعنى: العبادة، قال في القاموس: أله، يأله، إلهة، وألوهية: عبد، يعبد، عبادة; وكل من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها. انتهى، وقال غيره: إله، اسم(2/327)
جنس، يقع على كل معبود; والإله، بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب. قال شيخ الإسلام: الإله هو الذي تألهه القلوب، محبة، وذلا وإنابة، وتعظيما، وتوكلا، وخوفا، ورجاء. وكذا قال ابن القيم، وابن رجب، وغيرهما من أهل العلم. وبعد التعريف، والتفخيم، صار علما على ربنا جل وعلا، قال سيبويه: هو أعرف المعارف; قال تعالى متمدحا بذلك: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [سورة مريم آية: 65] ، والدليل على أنه بمعنى العبادة، قول رؤبة:
لله در الغانيات المُدَّهِ ... سبحن واسترجعن من تأله
يعني تعبد، وقرأ ابن عباس: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] ، أي: عبادتك، وزنا ومعنى) ; وأما التعبيد، فهو في الأصل: التذليل، كما قال الشاعر:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والمور المعبد هو: الطريق المذلل. وفي الاصطلاح: هي أخص، لأنه لا بد فيها من وجود الركن الأعظم، وهو الحب، قال في الكافية:"
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
والقطب: الأس الذي عليه المدار. وبهذا يتبين أن المقصود: نفي استحقاق العبادة عن غيره تعالى، لا نفي وجود التأله والتعبد لسواه; فإن نفي وجوده مكابرة للحس والنص، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ(2/328)
عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ، وقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، وقال عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [سورة يس آية: 23] ، فسمى معبوداتهم على اختلاف أجناسها آلهة؛ وعبادة غير الله وجدت وانتشرت، واشتهرت في الأرض، من عهد قوم نوح، وقد تقدم أن من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها؛ ويدل عليه، قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] .
وقد غلط هنا بعض الأغبياء، وقدر الخبر: "موجود"، وبعضهم قدره: "ممكن"، ومعناه: أنه لا يوجد، ولا يمكن وجود إله آخر، وهذا جهل بمعنى الإله; ولو أريد بهذا الاسم الإله الحق وحده، لما صح النفي من أول وهلة؛ والصواب: أن يقدر الخبر: "حق"، لأن النزاع بين الرسل وقومهم في كون آلهتهم حقا أو باطلا، قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 24] ، وأما إلهية الله فلا نزاع فيها، ولم ينفها أحد ممن يعترف بالربوبية.
لكن زعموا أن إلهية أندادهم وأصنامهم، حق أيضا، ولذلك قالت لهم رسلهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ؛ وبادر منهم من جحد ذلك بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، لما دعي إلى هذه الكلمة، فأنكروا إبطال عبادتها المستلزم لإبطال تسميتها، وهذا مستفيض عندهم، قد ارتاضت به(2/329)
ألسنتهم، لا يحتاجون فيه إلى موقف ومعلم، بل عرفوه بمجرد الوضع، قال أبو جهل لأبي طالب لما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى كلمة الإخلاص: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فعرف بعربيته أنها تبطل عبادة وإلهية من عبده عبد المطلب وقومه، وهذا قصر إفراد، لا قصر قلب، لأن المقصود إفراده بالإلهية واستحقاقها.
فيكون النفي على هذا منصبا على الخبر، وهو: "حق" المقدر. وتقديره: موجود، أو ممكن، لا يفيد ما تقدم، إلا إذا وصف الاسم بحق; وقيل: لا إله حق موجود، فحينئذ يستقيم الكلام، ويرجع إلى ما قلنا.
و"لا" هذه هي: النافية للجنس، واسمها يبنى معها على الفتح، على المشهور، والخبر ما مر تقريره، و"إلا" أداة استثناء، وما بعدها هو المستثنى، وهو مرفوع، والعامل فيه، هو العامل في الخبر لأنه بدل منه عند البصريين، وعند الكوفيين هو عطف نسق، قال ثعلب: كيف يكون بدلا، وهو موجب، ومتبوعه منفي يريد أن التابع والمتبوع لا بد أن يتوافقا نفيا وإثباتا، وأجيب عنه بأنه بدل منه في عمل العامل؛ وتخالفهما في النفي والإيجاب لا يمنع البدلية، وأجاب خالد الأزهري بأن محل اشتراط ذلك في غير بدل البعض.
قلت: وبما قالوه، يعلم أن المستثنى مغاير للمستثنى منه معنى ولفظاً، فمن أجهل خلق الله وأضلهم من(2/330)
فهم دخول المثبت في المنفي، والمستثنى في المستثنى منه; فكيف يتوهم من يعقل ما يقول دخول الإله الحق في اسم: "لا" المنفي؟! وهل بعد هذا التوهم من الضلال، أمد ينتهي إليه؟ وقد ترد "إلا" بمعنى: غير، كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء آية: 22] ، وذلك إذا كان الموصوف جمعا أو شبهه، ويؤيده حديث الاستفتاح: "سبحانك اللهم وبحمدك.... ولا إله غيرك" وعاقبت "غير" "إلا" في هذا المحل، وهي تفيد مغايرة ما قبلها لما بعدها بالذات، كما إذا قلت: جاءني رجل غير زيد، وفي الصفات، كقولك: خرجت بوجه غير الذي دخلت.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه رفع إلي رسالة لرجل فارسي تكلم فيها على معنى: لا إله إلا الله، وأتى بخلط وضلال، يخالف ما عليه أهل العلم في هذا المقام، من ذلك: أنه افتتح رسالته بقوله: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات، وهذه العبارة دائرة بين أمرين: إما سوء المعتقد، والقول بأنه تعالى في كل مكان، كما هو قول أهل الحلول، وإما الجهل بالعربية ومعاني الحروف، ولا يقال إن "الباء" بمعنى "من" لأنها لا تنوب إلا عن "من" التبعيضية، ويشترط في نيابتها أن تشرب معنى لا يستفاد من "من"، وقد اجتمع الأمران في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [سورة الإنسان آية: 6] ، وقول الشاعر:(2/331)
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
ثم قال في رسالته: وبالله التمسك والاعتصام; والتمسك إنما يكون بدينه، وكتابه، وأمره، ولا يقال: تمسكت بالله، لأن التمسك بمعنى: الالتزام والأخذ والثبات; ولا تليق هذه المعاني هاهنا، وقال في رسالته: إن الإله وضع في اللغة للمعبود فقط، لا بقيد الحقيقة أو البطلان; وهذه العبارة كذب على اللغة، فإن كتب اللغة بأجمعها، دلت وقررت أن الإله موضوع لكل معبود، وأدلة ذلك تعرف في مواضعها، فلا نطيل بذكرها.
وأيضا هذه العبارة فاسدة، من جهة المعنى، فإنه لا يتصور، ولا يوجد إله غير مقيد، ولا موصوف بحق أو باطل، هذا كلام لا يعقل، فكيف ينسب إلى اللغة، أو ينقل، فإن القسمة في مسمى الإله ثنائية، إما حق أو باطل؟ وتجويز الثالث مستحيل عقلا وشرعا، ولا يقول هذه العبارة إلا مخبول في عقله، جاهل في حكايته ونقله.
وقال في رسالته: إن الإله في "لا إله إلا الله" واقع على الإله الحق، وسميت آلهة، باعتبار زعم من عبدها، وهذا منه جهل عريض، وظلمات مركبة، كيف يقع في ذهن من له أدنى تعقل وتفهم تجويز ذلك، وأن الله ورسوله يسميها آلهة، باعتبار زعمهم، ويجاريهم في هذا الزعم والتسمية، ثم يكفرهم بهذا، ويبيح دماءهم وأموالهم،(2/332)
ونساءهم، لعباده المؤمنين؟ ويرتب على تركه والبراءة منه، ما رتبه من الإسلام والإيمان، والأحكام الدنيوية والأخروية.
ولو جارى قريشا، وسماها أسماء تختص بالحق، لما حصل التوحيد والإيمان، من مدلول هذه الكلمة، ولما قالوا له: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ؛ لأن المثبت عين المنفي، على زعم هذا، وهو الإله الحق; وهذا تغيير لدين الإسلام، وإلحاد في معنى كلمة الإخلاص، وتأييد لما زعمه عباد الأصنام، من أنها حق لا باطل {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40 والروم آية 30] .
ولذلك راج بهرجه على جهلة المدعين للطلب، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق في المعتقد، فأي ريح هبت مالت بهم، وأي غرض عرض عصفهم؛ فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد.
ويرده قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] . وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} الآية [سورة النمل آية: 14] ؛ فإن فيها أنهم يعرفون بطلانها، ولا يعتقدون في الباطن أنها حق، وهذا يبطل قوله: سميت آلهة باعتبار اعتقاد من عبدها، ويبطل قوله: وأن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع اعتقاد العابد أنها حق.(2/333)
وقال في رسالته: إن إله وضع للمفهوم الكلي، يريد به تقرير ما مر من الباطل، والكلي هو الذي لا يتقيد بذات، ولا بصفة. وهذه قضية كاذبة خاطئة، لم يوضع إلا للجنس الشايع في أفراده، والمعاني الكلية لا توجد إلا ذهنية، لا خارجية؛ ولذلك ضل من ضل من المتكلمين في إثبات وجود الرب، ووجود ذاته، وقال بنفي الصفات؛ بناء على أن الكلي لا يتقيد، ولا يتخصص بصفة من الصفات؛ وهذا من أكبر قواعدهم، وإفكهم الذي جر إليهم الكفر الجلي، وجحد ما في الكتاب والسنة من الصفات.
وكلام السلف: في تكفيرهم وتضليلهم موجود مشهور، لا نطيل بذكره، فمن أقل ما قيل فيهم، قول محمد بن إدريس الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام.
وأصل ضلال: جهم، أنه لقي قوما من السمنية، فجادلهم بالكلام والمنطق، فقالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال: نعم. قالوا: فهل رأيته؟ هل سمعته؟ أو لمسته؟ أو ذقته؟ قال: لا; فتحير الخبيث أريعين يوما، لا يدري من يعبد. ثم استدرك حجة من جنس حجج النصارى، وقال لهم: أنتم تقولون بوجود الروح، هل رأيتموها؟ أو سمعتموها؟ أو لمستموها؟ أو ذقتموها؟ قالوا:(2/334)
لا، قال: فكذلك، هو، روح غائب عن الأبصار.
وهذا الكلام الذي أورده السمنية على جهم، باطل مموه؛ وهؤلاء يقال لهم: السفسطائية، وأصل هذه الكلمة ومعناها: الحكمة المموهة. وحق الكلام أن يقال: ما لا يحس، ولا يمكن الإحساس به، لا يكون موجودا، فموهوا بأن ما لا يحسه هو، ويدركه بحواسه، لا يكون موجودا. فارتبك الغبي، ولم يفرق بين ما لا يمكن إحساسه، وما لا يدركه هو بحاسته، فأجاب بجوابه الفاسد المتقدم.
ولو هدي للعقل والنقل، لفرق بين العبارتين، وقال لهم: الله تعالى يمكن الإحساس به، فيرى يوم القيامة، ويسمع كلامه، وقد أدرك موسى كلامه بحاسة سمعه، وسمعته ملائكته وما شاء من خلقه؛ والإنسان يقر ضرورة بوجود أشياء لا يحس بها هو، مما يعرف بضرورة العقل، كوجود بعض الأماكن والأمم، بل وأصله الذي تكون منه، وهو مادته، لا يحس به هو، ولا ينكره عاقل، لكنه يمكن أن يحس به غيره.
فإحساس الإنسان نوع; وإمكان الإحساس نوع آخر؛ وبسبب عدم التفرقة، ضل جهم وشيعته; وجره الكلام المموه إلى الكفر البواح، والانسلاخ من الدين; فكيف يقول عاقل بقول لم يسبق إليه؟ ولا يصح له معنى، عند أهل العلم والإيمان؟ ويعتمد عبارة منطقية في مثل هذا(2/335)
الشأن، هذا لو سلم أن المناطقة أوردوها هنا. والصواب أنها مختلقة، لا محكية. مع أن عبارة صاحب هذه الرسالة فاسدة من جهة أخرى، وهو أنه زعم في أول رسالته أن المراد باسم الإله هو: الإله الحق، وأن آلهة المشركين سميت بذلك باعتبار اعتقادهم فيها، وقد تقدم هذا عنه، ولكن سيق هنا لبيان تناقضه؛ فإن التقييد ينافي المعنى الكلي. فكلامه تخريف، وظلمات بعضها فوق بعض {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وفي آخر كلامه اضطرب: وقال: وضع للمفهوم الكلي، وإن لم يوجد منه إلا فرد، كالشمس; وهذا مع مخالفته ما تقدم، فهو غلط قبيح، من وجوه: منها: أنه يلزم عليه أن المنفي عين المثبت، وأنه مساو لاسم الله في معناه، ومدلوله. وهذا ضلال مبين، ولا يستقيم معه نفي إلهية ما سوى الله، ولا تدل الكلمة الطيبة على التوحيد على زعم هذا، لأن المنفي هو المثبت، فأي نفي وأي توحيد يبقى مع اتحادهما معنى.
وقد تقدم إبطال هذا، ورده، وأن الله سمى معبودات المشركين آلهة، وأبطل عبادتها، وإلهيتها. وقد تقدم قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ، وقوله عن صاحب يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [سورة يس آية: 23] ، فسماها آلهة مع الحكم بأنها لا تغني(2/336)
عنهم شيئا، ولا ينقذونهم، وقال منكرا على من عبد سواه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74] . وحكى عن خليله: إبراهيم، أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، جعلها إفكا، مع تسميتها آلهة، فأي شبهة تبقى مع هذا؟ وكيف يقول من يسمع هذه الآيات ويفهمهما: أن الله سماها آلهة باعتبار اعتقاد المشركين، وأن "إله" وضع للإله الحق، ولا يقال لغيره إله، فنعوذ بالله من الجهل والعمى.
وقول المناطقة: إن الشمس وضعت لكل كوكب نهاري، مردود، لأن الله هو الذي وضع الأسماء، وعلمها آدم، وحين التعليم والوضع، لم يكن في الخارج إلا هذا الكوكب المعروف، فدعوى: دخول غيره، لو فرض وجوده، باطل.
وقال في رسالته: إن الاستثناء وقع من الإخراج المنوي، يريد به الجواب عن الاعتراض، الذي مر، وهو: أن كلمة التوحيد، على تقريره، لا تفيد النفي والإبطال لآلهة المشركين، ولكل ما عبد من دون الله، وأن المثبت عين هذا المنفي، والمستثنى نفس المستثنى منه.
وحاصل جوابه: أن الإخراج والإبطال وقع بالنية، فاستثني من المنوي، وهذا تصريح منه بأن لا إله إلا الله ما نفت، ولا أخرجت، ولا أبطلت شيئا، إلا بالنية; وأنها لم تدل على التوحيد باللفظ، وهذا الجهل العريض(2/337)
الأكبر لم يسبقه إليه سابق، ولم يقل به من يعرف معنى الكلام؛ حتى المشركون يعرفون ويفهمون من هذه الكلمة إبطال آلهتهم، ونفي استحقاقها للعبادة، ولذلك قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، فعرفوا النفي، أنه من اللفظ، وعرفوا المعنى المقصود من الإله، وعرفوا المراد من الاستثناء، وكل هذا عرفوه بمجرد اللغة، وكونهم عربا؛ فجاء هذا الفارسي الذي لا يعرف لغتهم، ولا يحسن شيئا منها، فخبط خبط عشواء، وهرول ولكنه في ظلماء؛ شعرا:
ما كل داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصم بنعي بعض من ناحا
وهذا القول: لم يسبقه إليه عاقل، يفهم ما يقول. والنحاة مجمعون على أن الاستثناء من المذكور، لفظه وحكمه، إلا أن السهيلي قال: لم يدخل المستثنى في المستثنى منه، بل الاستثناء أثبت حكما مستقلا مغايرا لما قبله، وقال بعضهم: الاستثناء أخرج من الحكم المذكور، لا من اللفظ. ومذهب الجمهور: أن الاستثناء من اللفظ والحكم معا، الاسم من الاسم، والحكم من الحكم، ومن الممتنع: إخراج الاسم المستثنى منه، مع دخوله تحته في الحكم، فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة، فإنه لو شاركه في حكمه، لدخل معه في الحكم والاسم جميعا، فكان استثناؤه غير معقول.
ورد أهل هذا القول: زعم من زعم أن المستثنى مسكوت عن حكمه قبل الاستثناء، نفيا وإثباتا، وأبطلوا ذلك(2/338)
من وجوه؛ منها: أنك إذا قلت: ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا عمرا، ونحو ذلك من الاستثناءات المفرغة، لم يشك السامع أن الأحكام المذكورة أثبتت لما بعد "إلا" كما سلبت عن غيره؛ ولو قيل إنه مسكوت عنه، لما أفهم إثبات هذه الأفعال لما بعد "إلا".
ومنها: أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقول: لا إله إلا الله، لأنه على هذا التقدير الباطل، لم يثبت الإلهية لله. فهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله بوصف الاختصاص؛ فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة انتهى ملخصا.
وهو يبطل كلام الفارسي، ويبين جهله من وجوه:
فالأول: إجماعهم على أن الاستثناء باللفظ، والإخراج باللفظ، خلافا له.
والثاني: أنهم متفقون على مغايرة إلا لما قبلها في الحكم واللفظ.
ومنها: اتفاقهم على سلب الحكم عما قبل "إلا" وإثباته لما بعدها، فتأمل؛ ثم أتى بطامة أخرى، كأخواتها، فقال: إنه لا حاجة إلى تقدير في الخبر، بل يقدر من الأفعال العامة، كالوجود، والإمكان، وهذا مبني على أساسه الفاسد، الواهي، وهو قوله: إن "إله" يستعمل ويراد به: الإله الحق، في الكلمة الطيبة، فكونه حقا، يستفاد عنده من اسم "لا" وهو: إله، فلا حاجة إلى أن يجعل الخبر حقا، وكل من تصور المعنى المراد أي تصور، يعرف أن(2/339)
المنفي كون هذه الآلهة التي عبدت من دون الله حقا، ويعرف فساد هذا القول، وقد مر تقريره في كلامنا.
والنّزاع بين الرسل ومن خالفهم، في حقيقة معبوداتهم مع الله، لا في وجودها، فإن الوجود أمر محسوس لا ينكر، ولكن أهل الكلام يكذبون بالحسيات والبديهيات، ويزعمون أنهم أهل العلم والعقليات، ويسمون نصوص الكتاب والسنة ظنيات، وقواعد المناطقة قطعيات، فلا عجب من ضلالهم في معنى هذه الكلمة. وما أحسن ما حكى الله عن رسله من قولهم، لمن كذب بتوحيده، وشك فيما جاءت به رسله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة إبراهيم آية: 10] ، لأن هذا من أظهر الظاهرات، وأوضح الواضحات، وأبين البينات.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما قوله: إن المشتق يتحد مع المشتق منه في المعنى، فهي عبارة جاهلية تدل على إفلاس قائلها من العلم، لا سيما علم الصرف واللغة، كفى بالجهل قائلا: الله مشتق من: إله، أو من الآلهة، وهو لا يوافقه، ولا يتحد معه في المعنى، وضرب من الضرب، وشرف من الشرف، هذا في الاشتقاق الأصغر، والاشتقاق الأكبر مثل ذلك وأظهر، كما في خلق، وخرق، وأمثالهما؛ فإن المدار في ذلك على الاتفاق في معظم الحروف. واشتق عمرو" وهو دال على الذات" من التعمير، وهو المصدر، واشتق محمد(2/340)
من الحمد، وبينهما تفاوت في اللفظ والمعنى، ولو قيل: إنه يتضمنه وزيادة، لصح الكلام، واستقام. وبالجملة: فلا يقول هذا إلا من لا يعرف ما يتكلم به؛ وقال بعد ما سبق من الهذيان: وحاصل المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، كأنه أراد عما سوى الله، فقال: لما; فلم يفرق بين معنى اللام، وعن ; ومن بلغت به الجهالة، إلى هذه الغاية والحالة، سقط معه البحث والمقالة.
وذكر لي أنه يزعم، أو بعض تلامذته: أن هذا التخليط مأخوذ من كلام شيخ الإسلام، وهذا من أعجب العجب، كيف ينسب إليه هذا الجهل والضلال، مع وفور عقله وعلمه، ومتانة دينه وجودة بحثه، وامتيازه في العلوم. ولكن إن صح هذا، فله فيه سلف، نقل لنا عن داود بن جرجيس العراقي، أنه يزعم أنه يرد على شيخنا بكلام ابن تيمية، وابن القيم، فلما وقفنا على كلامه، إذا هو من أجهل خلق الله بكلامه ودينه، وبكلام نبيه، وبكلام أولي العلم من خلقه.
وأبلغ من قول هذين وأعجب، قول اليهود: إن إبراهيم كان يهوديا، وقول النصارى: بل كان نصرانيا، فرد الله عليهم بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة آل عمران آية: 67] . وأما قوله: هذا ما ظهر لي، فصدق في هذه، وهل يظهر الحق والصواب إلا لمن اعتصم بالسنة والكتاب; وأما من(2/341)
أعرض عن ذلك، فقد سد على نفسه الباب، وكشف حجابه عن فهم المراد والخطاب. وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 160] .
خاتمة، تتضمن النصيحة لله، ولرسوله، وكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، لا سيما جهال الطلبة، الذين لا بصيرة لهم بدين الله، ولا معرفة لهم بحدود ما أنزل الله على رسوله، فاعلم أن أمر المسلمين ما زال مستقيما في القرن الأول، والقرن الثاني، على ما كان عليه السلف الصالح، في أفضل أبواب العلم، وأشرفها، وأوجبها، وهو: باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وفي: باب عبادته وحده لا شريك له.
ثم دخل في أمور المسلمين، مع ولاة الأمور، من قصر في باب العلم باعه، وقل في شرع نبيه نظره واطلاعه، قوم أعيتهم السنن أن يحفظوها، وأبت عليهم الأحكام أن يعرفوها، فطلبوا علوم الأوائل من أهل منطق اليونان واستحسنوها؛ وتركوا السنة والقرآن وما فيهما من الأحكام، ولم يعظموها؛ منهم: بشر المريسي، وابن أبي دؤاد، وكانا قد تمكنا من عبد الله: المأمون، أمير المؤمنين الخليفة العباسي، وزينا لديه المنطق وحسناه، وأنه ميزان العقول والأفكار.
فلهج به المأمون واشتغل، واعتقد أنه امتاز على من(2/342)
سبقه في باب معرفة الله، وما يجب له وما يستحيل عليه; وما زال به ذلك حتى ألزم الناس برأيه، ورفع شأن من وافقه وكان على طريقه، وولاهم الولايات، وعزل من خالفه وأهانه، وحبس وشرد وابتلي المؤمنون به، وجرى على الإسلام أعظم محنة، وأكبر بلية; وكتب إلى وزيره ببغداد يذم أهل السنة ويعيبهم، ويصفهم بالجهالة والضلالة، وأنهم حشو وسفلة، ولا نظر لهم ولا علم، ولا نور ولا فهم، يعني بذلك الإمام أحمد، ومن كان على طريقه المثبتين للصفات، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق.
ويقول في كتابه: إن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر، من حشو الرعية، وسفلة العامة، ممن لا نظر لهم ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله تعالى، وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه، وأنهم انتسبوا إلى السنة والجماعة، وأنهم أهل الحق، وأن من سواهم أهل الباطل، والكفر، وإنما هم أوعية الجهالة وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله. وأطال الكلام، وأمر وزيره بامتحانهم على موافقته على ما اعتقد من أن القرآن مخلوق، وأمره أن يحبس، ويفعل، ويفعل، بمن امتنع عن هذا القول.
ولما بلغه أن أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وأحمد بن نصر، امتنعوا من الإجابة إلى رأيه، أمر بحملهم(2/343)
إليه في القيود. وكان بطوس في بعض غزواته، فدعا الله أحمد بن حنبل أن لا يريه إياه، فمات المأمون قبل وصولهم، فردوا إلى بغداد. ثم امتحنهم أخوه المعتصم وابنه الواثق، وجرى على الإسلام والقرآن أعظم محنة من العناية بمنطق اليونان، حتى ضرب أحمد بن حنبل بالسياط، وقتل أحمد بن نصر، وبعض العلماء شرد، وهاجر.
فلما تولى أمير المؤمنين أبو جعفر المتوكل رفع المحنة، ونشر السنة، وأمر بلعن الجهمية على المنابر، وقرب الإمام أحمد وأكرمه، وأخذ برأيه، ورفع شأن السنة والقرآن، فهو الذي هدم مشهد الحسين، وما عليه من البناء الذي أحدثه الناس، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا.
فتأمل ما جرّ المنطق على أهله من البلايا والمحن، وما أوقعهم فيه من التعطيل والريب والفتن; فكيف يستجيز من له أدنى عقل أو دين، أن يقرأ كتب المنطق وعلوم اليونان؟! ويدع الاشتغال بعلوم السنة والقرآن؟! وهل هذا إلا زيغ في القلوب؛ ومثل هذا لا يوفق لطلب العلم، من كتاب الله وفهمه؛ قال ابن عيينة، في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الأعراف آية: 146] أي: عن فهم القرآن.
فأي ذريعة وأي وسيلة إلى ترك كتاب الله، وسنة نبيه، ومعرفته وتوحيده، أضر وأقرب من المنطق، والأخذ عن أهله، وخلط دين الله به; فنسأل الله الثبات على دينه،(2/344)
وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه الذين ينصرونه ويذبون عن دينه وكتابه، وينفون عنه تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[رسالة للشيخ سليمان بن سمحان في التحذير من البدع]
قال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي أوضح المحجة للسالكين، وأقام الحجة على جميع المكلفين، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، الصادق الأمين، الذي علم الله به من الجهالة، وهدى به من الضلالة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين; فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، قد أكمل لنا الدين، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، فليس لأحد من الناس أن يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا أن يزيد فيه بعد أن أكمله الله، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ، وقال صلى الله عليه وسلم:(2/345)
" تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم من النار إلا وقد حدثتكم به " وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2 رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 3.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما"، وفي صحيح مسلم: أن بعض المشركين، قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل) . فإذا تحققت هذا وعلمته، فالواجب على المسلم أن يقتدي ولا يبتدي وأن يتبع، ولايبتدع; كما قيل:
فخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع
فقد حذر صلى الله عليه وسلم أصحابه عن البدع، ومحدثات الأمور، وأمرهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، ونهاهم عن الغلو في الدين، واتباع غير سبيل المؤمنين; قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " 4، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى،
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (5) .
2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) .
3 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) .
4 النسائي: مناسك الحج (3057) .(2/346)
وقال صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله، وأن يتمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم القدوة، وبهم الأسوة، وما من خير إلا وقد سبقونا إليه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه; فخذوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم".
وقال الإمام: محمد بن وضاح، في كتاب البدع والنهي عنها: أخبرنا الحكم بن المبارك، أخبرنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: "كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج: قمنا إليه جميعا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر(2/347)
والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه.
قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة؛ فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة؛ فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة؛ قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً، أنتظر رأيك، وأنتظر أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى، نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تنكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير؛ قال: وكم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم." وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك، يطاعنونا يوم النهروان، مع الخوارج" انتهى.
فإذا كان هذا حال هؤلاء القوم، وهم إنما يكبرون الله،(2/348)
ويحمدونه، ويسبحونه، قد كانوا مفتتحين باب ضلالة لأنهم عملوا عملا لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فأفضى بهم إلى الغلو في الدين، والمجاوزة للحد، أن مرقوا من الإسلام، فصار أكثرهم يطاعنون الصحابة مع الخوارج، يوم النهروان.
فإذا تبين هذا، وما ذكرته قبل ذلك، مما تقدم بيانه، فاعلم أنه قد حدث في هذه الأزمان من بعض الإخوان، من الغلو والمجاوزة للحد، في بعض المسائل الدينية، والأوامر الشرعية، ما يجب على كل مسلم إنكاره، وبيان خطأ من أحدثه في الدين، من غير بينة ولا برهان ولا حجة يجب المصير إليها، من السنة والقرآن، ولا قال بها أحد من أئمة الإسلام الذين هم معالم الهدى، ومصابيح الدجى، وهم القدوة، وبهم الأسوة في بيان مراتب الدين والأحكام، إلى أن قال:
وأذكر قبل الشروع في الكلام على هذه المسائل والجواب عنها، معنى لا إله إلا الله، وما ذكره العلماء في ذلك، وما ذكره شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، مفتي الديار النجدية، رحمه الله تعالى، من شروطها التي لا يصح إسلام أحد من الناس إلا إذا اجتمعت له هذه الشروط، وقال بها، علما، وعملا، واعتقادا، وكذلك نواقض الإسلام العشرة، التي ذكرها شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، لأن هذا هو الأصل الذي(2/349)
تتفرع عليه هذه المسائل، وتنبني عليه أحكامها.
فأقول، وبالله التوفيق، وبه العصمة والثقة:
اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، هي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله جميع العباد؛ فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، وأنها لا تنفعه إلا بعد الصدق، والإخلاص، واليقين، لأن كثيرا ممن يقولها في الدرك الأسفل من النار.
فلا بدّ في شهادة ألا إله إلا الله من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل نوع من هذه الأنواع لم يكن الرجل مسلما؟ فإذا كان الرجل مسلما. وعاملا بالأركان، ثم حدث منه قول، أو فعل أو اعتقاد يناقض ذلك، لم ينفعه قول: لا إله إلا الله؛ وأدلة ذلك في الكتاب والسنة، وكلام أئمة الإسلام، أكثر من أن تحصر.
وقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن قتادة، قال(2/350)
حدثنا: أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم" ومعاذ، رضي الله عنه رديفه على الرحل" قال: "يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال: يا معاذ. قال لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثا، قال: ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، صدقا من قلبه، إلا حرم الله تعالى عليه النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
قال شيح الإسلام، وغيره، في هذا الحديث ونحوه: أنه فيمن قالها، ومات عليها كما جاءت مقيدة، لقوله: " خالصا من قلبه " غير شاك فيها، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، دخل الجنة، لأن الإخلاص، هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك.
فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة؛ وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله، يدخل النار، ثم يخرج منها؛ وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله؛ وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً(2/351)
رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال.
وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها تقليدا وعادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت، وفي القبور، أمثال هؤلاء، كما في الحديث: " سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1. وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] .
وحينئذٍ: فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذا الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا تترك له ذنبا إلا محي عنه، كما يمحوا الليل النهار.
فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له، ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص
__________
1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/345 ,6/354) , ومالك: النداء للصلاة (447) .(2/352)
درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته، ومات مصرا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص، فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك؛ بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر؛ فإن سلم من الأكبر، بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات؛ فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن، من غير ذوق طعم وحلاوة.
فهؤلاء، لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول(2/353)
الجنة، فإذا كثرت الذنوب، ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث. ومخالطة أهل الباطل، وكره مخالطة أهل الحق.
فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله، قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه.
فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها، موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب؛ بخلاف من يقولها بيقين، وصدق ثابت، فإنه لا يموت مصرا على الذنوب; إما ألا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذي يدخل النار ممن يقولها، إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات، أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك(2/354)
بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات، فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصاً.
وقال الوزير، أبو المظفر، في الإفصاح: قوله "شهادة أن لا إله إلا الله" يقتضي: أن يكون الشاهد عالما بلا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . قال: واسم (اللَّهِ) مرتفع بعد (إِلَّا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
وقال في البدائع، ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المنفي، قال: بل هو مخرج من النفي وحكمه، فلا يكون داخلا في المنفي، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: "لا إله إلا الله" لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت لنفي الإلهية عما سوى الله تعالى، إثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله؛ ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي، في تفسير " لَا إِلَهَ إِلَّا(2/355)
اللَّهُ ": أي: لا معبود إلا هو. وقال الزمخشرى: الإله من أسماء الأجناس، كالرجل، والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
قال شيخ الإسلام: الإله هو: المعبود المطاع؛ فإن الإله هو: المألوه، والمألوه هو: الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد، هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو: المحبوب المعبود، الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده.
ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته؛ فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال، وذوق، فإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: الإله الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء، وتوكلاً.
وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه وسؤالا منه،(2/356)
ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل. فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، عن أله إلهة، أي: عبد عبادة، قال: الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء، وإجماع منهم؛ فدلت: "لا إله إلا الله" على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، كائنا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده، دون كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [سورة الجن آية: 1"2] .
فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله، وعمل به. وأما من قالها من(2/357)
غير علم، واعتقاد، وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب؛ فقوله في الحديث: "وحده لا شريك له" تأكيد، وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح عن ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين.
فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك، المنافي لكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم، جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا، وجحدوها معنى: فتجد أحدهم يقولها، وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتوكل، والدعاء، وغير ذلك، من أنواع العبادة.
بل زاد شركهم على شرك العرب، بمراتب فإن أحدهم إذا وقع في شدة، أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله؛ بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد، فإنهم يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} الآية [سورة العنكبوت آية: 65] .
فبهذا تبين أن مشركي هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم. انتهى من فتح المجيد، فهذا بعض ما ذكره بعض العلماء، في معنى لا(2/358)
إله إلا الله، وفيه كفاية: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] .
فصل:
وأما شروطها التي ذكر شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أنه لا بد منها في شهادة أن لا إله إلا الله، فقال رحمه الله: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها.
الأول: العلم المنافي للجهل؛ فمن لم يعرف المعنى، فهو جاهل بمدلولها.
الثاني: اليقين المنافي للشك، لأن من الناس من يقولها، وهو شاك فيما دلت عليه من معناها.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك؛ فإن لم يخلص أعماله كلها لله، فهو مشرك شركا ينافي الإخلاص.
الرابع: الصدق المنافي للنفاق، لأن المنافقين يقولونها، ولكنه لم يطابق ما قالوه، لما يعتقدونه، فصار قولهم كذبا، لمخالفة الظاهر للباطن.
الخامس: القبول المنافي للرد، لأن من الناس من يقولها، مع معرفته معناها، لكن لا يقبل ممن دعاه إليه، إما كبرا، أو حسدا، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من القول، فتجده يعادي أهل الإخلاص، ويوالي أهل الشرك ويحبهم.
السادس: الانقياد المنافي للشرك، لأن من الناس من يقولها وهو يعرف معناها لكنه لا ينقاد للإتيان بحقوقها،(2/359)
ولوازمها من الولاء، والبراء، والعمل بشرائع الإسلام، ولا يلائمه إلا ما وافق هواه، أو تحصيل دنياه; وهذه حال كثير من الناس.
السابع: المحبة المنافية لضدها. انتهى ما ذكره الشيخ.
فإذا تبين لك هذا وعرفته، وتحققت أن لا إله إلا الله هي كلمة الإخلاص، وهي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى; وهي العروة الوثقى، فاعلم أن هذه الكلمة نفي وإثبات: نفي الإلهية عما سوى الله من المخلوقات، وإثباتها لله وحده لا شريك له، وأنها لا تنفع قائلها إلا باجتماع هذه الشروط التي تقدم ذكرها. فمن عرف معناها، وعمل بمقتضاها، وتحقق بها علما وعملا واعتقادا، فقد استمسك بالإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] .
فإذا علمت هذا، فقد ذكر أهل العلم نواقض الإسلام، وذكر بعضهم أنها قريب من أربعمائة ناقض، ولكن الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، من نواقض الإسلام، وأنها عشرة.(2/360)
فقال رحمه الله: اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، ومنه: الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت، على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65] .
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف. فمن فعله أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [سورة البقرة آية: 102] .
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا(2/361)
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] .
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: 22] . ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. انتهى.
[جواب الشيخ سليمان عن الفرق بين التوحيد العلمي والإرادي]
وسئل الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: عن الفرق بين التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي؟
فأجاب: الفرق بينهما "الأول: هو توحيد الأسماء والصفات والثاني: هو توحيد الإلهية. ثم وجدت لابن القيم رحمه الله ما لفظه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه. وتكليمه، لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع حد الإفصاح، كما(2/362)
في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص، بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] ، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس، ووسطها، وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن، فهي متضمنة لنوعي التوحيد.
بل نقول قولا كليا: إن كل آية في القرآن، فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري؛ وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الثاني، ويليه: الجزء الثالث، كتاب الأسماء والصفات.(2/363)
المجلد الثالث: (كتاب الأسماء والصفات)
كتاب الأسماء والصفات
...
قال الحبر الحجة الثقة، الإمام الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين، محيي السنة في العالمين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الثواب.
بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فقد وصل كتابك تطلب شيئا من معنى كتاب المويس، الذي أرسل لأهل الوشم، وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه، فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك، من غير مجازفة، بل أنا مقتصر، فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار؛ وذلك أن كتابه مشتمل على الكلام، في ثلاثة أنواع من العلوم: الأول: علم الأسماء والصفات الذي يسمى: علم أصول الدين ; ويسمى أيضا: العقائد، والثاني: الكلام على التوحيد والشرك، والثالث: الاقتداء بأهل العلم، واتباع الأدلة، وترك ذلك.(3/5)
أما الأول: فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال: ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض ; وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين، إحداهما: أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه الثانية: أنه لم يفهم صورة المسألة، وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف، أنهم لا يتكلمون في هذا النوع، إلا بما تكلم الله به ورسوله، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، أثبتوه، مثل: الفوقية، والاستواء، والكلام، والمجيء، وغير ذلك، وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله، نفوه، مثل: المثل، والند، والسمي، وغير ذلك.
وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والعرض، والجهة، وغير ذلك، لا يثبتونه؛ فمن نفاه، مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه، فهو عند أحمد والسلف مبتدع؛ ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره، فهو عندهم مبتدع ; والواجب عندهم: السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس، أنه قال: لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده؛ ومثله في ذلك كمثل حنفي، يقول: الماء الكثير، ولو بلغ قلتين، ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير، فإذا سئل عن الدليل، قال قوله صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شيء "1، فيستدل
__________
1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .(3/6)
بدليل خصمه؛ فهل يقول هذا من يفهم ما يقول؟ وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة.
قال الشيخ تقي الدين - بعد كلام له على من قال: إنه ليس بجوهر، ولا عرض، ككلام صاحب الخطبة - قال رحمه الله: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ: الجوهر، والجسم، والتحيز، والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ؛ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك؛ وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود: أن الأئمة، كأحمد وغيره، لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، لم يوافقوهم، لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
إذا تدبرت هذا، عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه، على الخطيب الكلام في هذا، هو عين الصواب؛ وقد اتبعا في ذلك إمامهما أحمد بن حنبل وغيره، في إنكارهم ذلك على المبتدعة، ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك، وأن الله جسم، وكذا وكذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا(3/7)
جوهر، ولا كذا ولا كذا ; وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت ; من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه، فالذي يقول: ليس بجسم، ولا، ولا، هم الجهمية، والمعتزلة ; والذين يثبتون ذلك هو: هشام وأصحابه؛ والسلف بريئون من الجميع، من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه.
فالمويس لم يفهم كلام الأحياء، ولا كلام الأموات، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة، مذهب السلف ; وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات، كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك: استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم ; ومن كلام أبي الوفاء ابن عقيل قال: أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا، ما عرفا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم، خير لك من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت، انتهى.
وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم، بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما، مثل أبي بكر وعمر، فهو عنده على مذهب هشام الرافضي؛ فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر، أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحبه أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع.(3/8)
وقوله في الكتاب: ومذهب أهل السنة: إثبات من غير تعطيل، ولا تجسيم، ولا كيف، ولا أين، إلى آخره ; وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة، ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة ; وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال للجارية: " أين الله؟ " فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة ; وأن إنكارها مذهب أهل السنة، كما قيل، وعكسه بعكسه. وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه ; فغلط عليهم في إثباته؛ وأما التعطيل والكيف، فصدق في ذلك، فجمع لكم أربعة ألفاظ، نصفها حق من عقيدة الحق، ونصفها باطل من عقيدة الباطل، وساقها مساقا واحدا، وزعم: أنه مذهب أهل السنة ; فجهل وتناقض.
وقوله أيضا: ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام، إلى آخره، وهذا أيضا من أعجب جهله؛ وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة، يثبتون الصفات السبع، وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله، ويؤلونه ; وأما أهل السنة، فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه ; وذلك صفات كثيرة، لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة، وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل.
إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه: الأول: أنه(3/9)
لم يفهم الرسالة التي بعثت إليه.
الثاني: أنه بهت أهلها، بإثبات الجسم وغيره.
الثالث: أنه نسبهم إلى الرافضة ; ومعلوم أن الرافضة من أبعد الناس عن هذا المذهب وأهله.
الرابع: أنه نسب من أنكر هذه الألفاظ إلى الرفض والتجسيم، وقد تبين أن الإمام أحمد وجميع السلف ينكرونه ; فلازم كلامه: أن مذهب الإمام أحمد وجميع السلف مجسمة على مذهب الرفض.
الخامس: أنه نسب كلامهما إلى الفرية الجسمية ; فجعل عقيدة إمامه وأهل السنة فرية جسمية.
السادس: أنه زعم أن البدع اشتعلت في عصر الإمام أحمد، ثم ماتت حتى أحياها أهل الوشم، فمفهوم كلامه بل صريحه: أن عصر الإمام أحمد وأمثاله، عصر البدع والضلال ; وعصر ابن إسماعيل عصر السنة والحق.
السابع: أنه نسبهما إلى التعطيل ; والتعطيل إنما هو جحد الصفات.
الثامن: بهتهما أنهما نسبا من قبلهما من العلماء إلى التعطيل، لكونهما أنكرا على خطيب من المبتدعة، وهذا من البهتان الظاهر.
التاسع: أنه نسبهما إلى وراثة هشام الرافضي.
العاشر: أن المسلم أخو المسلم، فإذا أخطأ أخوه، نصحه سرا، وبين له الصواب، فإذا عاند أمكنه المجاهرة بالعداوة ; وهذا لما راسلاه، صنف عليهما ما علمت، وأرسله إلى البلدان، اعرفوني، اعرفوني، فإني قد جئت من الشام.
وأما التناقض، وكون كلامه يكذب بعضه بعضا،(3/10)
فمن وجوه: منها: أنه نسبهما تارة إلى التجسيم، وتارة إلى التعطيل؛ ومعلوم أن التعطيل ضد التجسيم، وأهل هذا أعداء لأهل هذا، والحق وسط بينهما. ومنها: أنه نسبهما إلى الجهمية وإلى المجسمة ; والجهمية والمجسمة بينهما من التناقض والتباعد، كما بين السواد والبياض، وأهل السنة وسط بينهما. ومنها: أنه يقول مذهب أهل الحق إثبات الصفات، ثم يقول: ولا أين، ولا، ولا، وهذا تناقض. ومنها: أنه يقول: ما أثبته الله ورسوله أثبت، ثم يخص ذلك بالصفات السبع، فهذا عين التناقض.
فعقيدته التي نسب لأهل السنة، جمعها من نحو أربع فرق من المبتدعة، يناقض بعضهم بعضا، ويسب بعضهم بعضا ; ولو فهمت حقيقة هذه العقيدة، لجعلتها ضحكة. ومنها: أنه يذكر عن أحمد أن الكلام في هذه الأشياء مذموم، إلا ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، ثم ينقل لكم إثبات كلام المبتدعة ونفيهم، ويتكلم بهذه العقيدة المعكوسة، ويزعم أنها عقيدة أهل الحق، هذا ما تيسر كتابته عجلا، على السراج في الليل.
والمأمول فيك: أنك تنظر فيها بعين البصيرة، وتتأمل هذا الأمر، واعرض هذا عليه، واطلب منه الجواب عن كل كلمة من هذا، فإن أجابك بشيء فاكتبه وإن عرفته باطلا، وإلا فراجعني فيه أبينه لك؛ ولا تستحقر هذا الأمر، فإن(3/11)
حرصت عليه جدا، عرفك عقيدة الإمام أحمد وأهل السنة، وعقيدة المبتدعة، وصارت هذه الواقعة أنفع لك من القراءة في علم العقائد، شهرين أو ثلاثة، بسبب أن الخطأ والاختلاف، مما يوضح الحق، ويبين الخطأ فيه.
وسئل عن قول الشيخ، في تسمية المعبودات أربابا، إذ الرب يطلق على المالك، والمعبود، وعلى الإله، وكل اسم من أسمائه جل وعلا له معنى يخصه بالتخصيص، دون التداخل والتعميم.
فأجاب: الرب، والإله، في صفة الله تبارك وتعالى، متلازمة غير مترادفة ; فالرب، من الملك، والتربية بالنعم، والإله، من التأله وهو: القصد لجلب النفع، ودفع الضر بالعبادة ; وكانت العرب تطلق الرب على الإله، فسموا معبوداتهم أربابا لأجل ذلك، أي: لكونهم يسمون الله ربا، بمعنى: إلها. والله أعلم.
[جواب أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب عن آيات الصفات الواردة في الكتاب]
سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى، عن آيات الصفات الواردة في الكتاب، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وكذلك قوله: {لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة طه آية: 39] ، وقوله: {بِأَعْيُنِنَا} ، وقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] وقوله:
{وَجَاءَ(3/12)
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وغير ذلك في القرآن، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين أصبعين، من أصابع الرحمن "1، وكذلك النفس، وقوله: "إن ربكم ليضحك "، وقوله: " حتى يضع رجله فيها، فتقول: قط قط "2، وغير ذلك مما لا يحصره هذا القرطاس، على ما تحملون هذه الآيات، وهذه الأحاديث في الصفات؟
فأجابوا بما نصه:
الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها: ما قال الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان، وهو: الإقرار بذلك. والإيمان من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام مالك، لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلته الرحضاء، يعني: العرق، وانتظر القوم ما يجيء منه فيه ; فرفع رأسه إليه وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ; وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج ; ومن أَوّل الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله.
وهذا الجواب من مالك في الاستواء، شاف كاف، في جميع الصفات، مثل: النّزول، والمجيء، واليد،
__________
1 الترمذي: القدر (2140) , وابن ماجه: الدعاء (3834) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4850) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2846 ,2847) , وأحمد (2/276 ,2/314 ,2/507) .(3/13)
والوجه، وغيرها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة. وثبت عن محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، أنه قال: اتفق الفقهاء كلهم، من الشرق إلى الغرب، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا تشبيه؛ فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يشبهوا، ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، فمن قال بقول جهم فارق الجماعة. انتهى كلامه.
وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [سورة النساء آية: 115] الآية، وهذا أمر قد اتفق عليه السلف والأئمة رضي الله عنهم؛ ولكن الذين في قلوبهم زيغ، من أهل الأهواء والبدع، كالجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين، لا يفهمون من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة، إلا التأويلات المستكرهة ; ويجحدون ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله.
وما أحسن ما قال نعيم بن حماد، شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها ; وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(3/14)
[سورة الشورى آية: 11]
فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] رد على المشبهة، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] رد على المعطلة؛ والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن المؤمنين يقولون في ذات الله: لا تشبه الذوات ; فكذلك يقولون في صفات الله: لا تشبه الصفات.
[فصل في القرآن: صفة لله غير مخلوق]
وأما القرآن، فهو صفة لله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة من هذه الأمة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والله سبحانه وتعالى هو الذي تكلم به، وسمعه جبرائيل من الله، وبلغه جبرائيل إلى محمد ; وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته. فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري ; وهذا أمر مفهوم معقول عند من لم تغير فطرته التي فطره الله عليها، كما يقال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "1 هذا كلام رسول الله، وأما الصوت والنغمة والحركة، فهو: صوت المبلغ ونغمته وحركته، وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود آية: 1] ، وقوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] ، وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة فصلت آية: 1-2] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] .
وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) .(3/15)
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [سورة التكوير آية: 19-21] الآية فقال العلماء رحمهم الله: أضافه سبحانه إلى جبرائيل إضافة تبليغ، لأنه هو الذي بلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ردا على المشركين الذين يقولون: إنه تعلمه من الشيطان، أو من البشر، كما أضافه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كآية الحاقة، إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 40-41-42-43] . فتارة يضيفه سبحانه إلى الرسول الملكي، كما في سُوَرٍ ; وتارة يضيفه إلى الرسول البشري، كما في الحاقة؛ وأما الذي تكلم به ابتداء، وإنشاء، فهو الله سبحانه وتعالى.
[فصل في صفات الله قديمة أذلية لا ابتداء لها]
فصل: واعلم أن صفة الكلام لله تعالى قديمة أزلية، لا ابتداء لها، كسائر صفات الله تعالى، من الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، وسائر الصفات ; لأنه تبارك وتعالى هو الأول فليس قبله شيء، بجميع صفاته، لم تتجدد بوصفه، كما يقوله بعض أهل الأهواء والبدع، من الكرامية ومن سلك سبيلهم.
وأما أهل السنة والجماعة، فمجمعون على ما ذكرنا، من أن الله تعالى قديم بجميع صفاته، الكلام وغيره، قال الإمام أحمد رحمه الله في كتاب: الرد على الزنادقة(3/16)
والجهمية: لم يزل الله تعالى متكلما إذا شاء، ومتى شاء، ولا نقول: إنه كان لا يتكلم حتى خلقه ; ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علما يعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة، حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة، حتى خلق لنفسه عظمة، انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله إمام السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يجوز غيره، والقرآن تكلم به سبحانه بمشيئته وقدرته، وذلك أن أهل السنة والجماعة يثبتون الأفعال الاختيارية، من الكلام وغيره من الصفات، كما أنه سبحانه كلم موسى بمشيئته وقدرته ; ويكلم من شاء من خلقه بمشيئته وقدرته، إذا شاء، ومتى شاء، بلا كيف. والله أعلم.
المسألة الثانية: أن الإمام الغزالي من أئمة السنة، ومن أكابر المصنفين، وصنف إحياء علوم الدين، فهل تنقمون على هذا الكتاب شيئا مخالفا لما جاء به الكتاب؟ الجواب: أبو حامد، رحمه الله، كما قال فيه بعض أئمة الإسلام: تجد أبا حامد، مع ما له من العلم، والفقه، والتصوف، والكلام، والأصول، وغير ذلك، ومع الزهد، والعبادة، وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية، يذكر في كتاب الأربعين ونحوه، ككتاب: "المظنون به على غير(3/17)
أهله ". فإذا طلبت ذلك الكتاب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراته، إلى أن قال: فإن أبا حامد كثيرا ما يحيل على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم، من إدراك الحقائق، وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع، وسبب ذلك: أنه قد علم بذكائه، وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة، من الاضطراب ... إلى أن قال: ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل، وإنما ذلك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته، يدفعون وجود هذه الكتب عنه.
وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمراد كلامه، ومشابهة بعضه بعضا، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت، مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأنه ليس عندهم من الذكاء والطلب، ما يتعرفون به إلى طريق خاصة هذه الأمة، من الذين ورثوا من الرسول العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن، وهم أهل الفهم لكتاب الله، والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا: كان أبو عمرو بن الصلاح يقول فيما رأيت بخطه: أبو حامد كثر القول فيه، ومنه ; فأما هذه الكتب - يعني المخالفة للحق - فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت(3/18)
عنه، ويفوض أمره إلى الله، ومقصوده أنه لا يذكر بسوء، لأن عفو الله عن الناسي، والمخطئ، وتوبة المذنب، تأتي على كل ذنب، ولأن مغفرة الله بالحساب منه، ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب، تأتي على محقق الذنوب ; فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين، إلا ببصيرة، لا سيما مع كثرة الإحسان، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، والقصد الحسن.
وهو رحمه الله يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهره في قالب التصوف، والعبارات الإسلامية، ولهذا رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر ابن العربي المالكي، قال فيه: أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. ورد عليه أبو عبد الله المازري، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو الحسن المرغيناني، رفيقه، والشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك، وأبو زكريا النواوي، وابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وغيرهم.
وأما كتابه الإحياء، فمنه ما هو مردود عليه، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو متنازع فيه، وفيه فوائد كثيرة، لكن فيه موارد مذمومة؛ فإن فيه موارد فاسدة، من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد، والنبوة، والمعاد، فإذا ذكرت معارف الصوفية، كان بمنْزلة من أخذ عدوا للمسلمين، فألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين، على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا:(3/19)
أمرضه الشفاء، وفيه أحاديث وآثار موضوعة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية، وفيه أشياء من كلام العارفين المستقيمين، وفيه من أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس، انتهى ملخصا.
وفيما ذكرنا يتبين لك حال هذا الرجل، وحال كتابه في إحياء علوم الدين، وهذا غاية ما نعتقده فيه، لا نرفعه فوق منزلته فعل الغالين، ولا نضعه من درجته كما وضعه بعض المقصرين، فإن من الناس من يغلو فيه وفي كلامه الغلو العظيم، ومنهم من يذمه ويهدر محاسنه، ويرى تحريق كتابه؛ وسمعنا أن منهم من يقول: ليس هذا إحياء علوم الدين، بل إماتة علوم الدين؛ والصراط المستقيم: حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين.
وورد عليهم سؤال، هذا نصه:
بلغنا: أنكم تكفرون أناسا من العلماء المتقدمين، مثل ابن الفارض، وغيره، وهو مشهور بالعلم، من أهل السنة.
فأجابوا: ما ذكرت أنا نكفر ناسا من المتقدمين، وغيرهم، فهذا من البهتان الذي أشاعه عنا أعداؤنا، ليجتالوا به الناس عن الصراط المستقيم، كما نسبوا إلينا غير ذلك من البهتان أشياء كثيرة، وجوابنا عليها أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ؛ ونحن لا نكفر إلا رجلا عرف(3/20)
الحق وأنكره، بعدما قامت عليه الحجة، ودعي إليه فلم يقبل، وتمرد وعاند، وما ذكر عنا من أنا نكفر غير من هذا حاله، فهو كذب علينا.
وأما ابن الفارض وأمثاله من الاتحادية، فليسوا من أهل السنة بل لهم مقالات شنع بها عليهم أهل السنة، وذكروا أن هذه الأقوال المنسوبة إليه كفريات، منها قول ابن الفارض في التائية، شعرا:
وإن خر للأصنام في البيد عاكف ... فلا تعني بالإنكار للعصبية
وإن عبد النار المجوس فما انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجة
فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يضمروا عقد نية
فمن أهل العلم من أساء به الظن، بهذه الألفاظ وأمثالها، ومنهم من تأول ألفاظه، وحملها على غير ظاهرها، وأحسن فيه الظن. ومن أهل العلم والدين من أجرى ما صدر منه على ظاهره، وقال: هذه الأشعار ونحوها، تتضمن مذهب أهل الاتحاد من القائلين بوحدة الوجود والحلول، كقصيدته المسماة: نظم السلوك، ومثل كثير من شعر ابن إسرائيل، وابن عربي، وابن سبعين، والتلمساني، وما يوافقها من النثر الموافق لمعناها.
فهذه الأشعار من فهمها، علم أنها كفر وإلحاد، وأنها مناقضة للعقل والدين، ومن لم يفهمها وعظم أهلها، كان بمنْزلة من سمع كلاما لا يفهمه، وعظمه، وكان ذلك من دين(3/21)
اليهود والنصارى والمشركين، وإن أراد أن يحرفها ويبدل مقصودهم بها، كان من الكذابين البهاتين المحرفين لكلم هؤلاء عن مواضعه؛ فلا يعظم هؤلاء وكلامهم، إلا أحد رجلين: جاهل ضال، أو زنديق منافق ; وإلا فمن كان مؤمنا بالله ورسوله، عالما بمعاني كلامهم، لا يقع منه إلا بغض هذا الكلام وإنكاره، والتحذير منه، وهذا كقول ابن الفارض:
لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صَلَّت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي فرقها عن فرقة الفرق رفعت
فإن دُعِيت كنتُ المجيب، وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبّت
وإن نال بالتنْزيل محراب مسجد ... فما نال بالإنجيل هيكل بعثت
إن خر للأصنام ... إلخ، البيت السابق، وذكر أبياتا لابن إسرائيل وغيره، ثم قال: وحقيقة قول هؤلاء أنهم قالوا في مجموع الوجود أعظم مما قالته النصارى في المسيح، فإن النصارى ادعوا أن اللاهوت الذي هو الله، اتحد مع الناسوت، وهو ناسوت المسيح، أو حَلّ فيه، مع كفرهم الذي أخبر الله به، كما قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] ، فهم مع هذا الكفر، يقرون أن الله خلق السماوات والأرض، وأنه مغاير للسماوات(3/22)
والأرض، ويقولون: إنه قد حلّ في المسيح، واتحد به، وهؤلاء يقولون بالحلول والاتحاد في جميع العالم، ولا يقرون أن للعالم صانعا مباينا له، بل يقولون: وجود المخلوق هو وجود الخالق، ويقولون في جميع المخلوقات نظير قول النصارى في المسيح، لكن النصارى يثبتون خالقا كان مباينا للمسيح، وهؤلاء لا يثبتون خالقا مباينا للمخلوقات، فقولهم أعظم حلولا واتحادا، وأكبر فسادا وإلحادا من قول النصارى انتهى.
فتأمل كونه رحمه الله أطلق على هذا القول أنه كفر، ولم يتعرض لتكفير قائله، فافهم الفرق، لأن إطلاق الكفر على المعين الذي لم تقم عليه الحجة، لا يجوز، وأظن هذا الإمام الذي قال فيهم هذا الكلام رحمه الله، ظن أن الحجة لم تقم على قائل هذا الكلام، وأن ابن الفارض وأمثاله، لجهالتهم، لا يعلمون ما في كلامهم، ومذهبهم من الكفر، ومن أحسن فيهم الظن من العلماء، كما قدمنا، حمل كلامهم على محامل غير هذه، وأولها تأويلا حسنا، على غير ظاهرها.
وقال السائل أيضا: السنوسي المغربي، مصنف السنوسية، هو من أئمة أهل السنة والجماعة، وتكلم بالسنوسية المعروفة بعلم الصفات، فهل تنقمون عليه شيئا من ذلك؟ إلخ.
الجواب: السنوسي ليس من أئمة السنة والجماعة، فإن(3/23)
أهل السنة والجماعة هم الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر " أن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " والسنوسي المذكور، صنف كتابه: أم البراهين، على مذهب الأشاعرة، وفيها أشياء كثيرة مخالفة ما عليه أهل السنة، فإن الأشاعرة قد خالفوا ما عليه السلف الصالح في مسائل؛ منها: مسألة العلو، ومسألة الصفات، ومسألة الحرف والصوت.
فالسلف والأئمة يصفون الله بما وصف به نفسه، في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يثبتون ما أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فإنه كما أن ذاته ليست كالذوات المخلوقات، فصفاته ليست كالصفات المخلوقات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منَزه عن كل نقص وعيب. فهم متفقون على أن الله فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان، وقالوا لعبد الله بن المبارك: "بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه". وقال(3/24)
أحمد بن حنبل كما قال هذا، وهذا ; وقال الشافعي: "خلافة أبي بكر حق، قضاها الله فوق سماواته، وجمع عليها قلوب أوليائه"، وقال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون، نقول بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته".
والسنوسي قد خالف أئمة السنة في هذه المسألة ; وعبارته في أم البراهين قال: ومما تستحيل في صفته تعالى عشرون صفة، فذكر منها: وأن يكون في جهة ; قال الشارح لها، وهو محمد بن عمر التلمساني: هذا أيضا من أنواع المماثلة المستحيلة، وهي كونه تعالى في جهة، فلا يقال: إنه تعالى فوق العرش ; فقد تبين لك مخالفته السلف الصالح، ومنها: مسألة الصفات، فإن السنوسي أثبت الصفات السبع فقط.
وأما أهل السنة والجماعة فيصفون الله بجميع ما وصف به نفسه، كما يليق بجلاله وعظمته، فيثبتون النّزول، كما وردت بذلك السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينْزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل "1 إلخ، ويثبتون صفة اليدين، كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك صفة الوجه الكريم، كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك الضحك الذي وردت به السنة، والتعجب، والغضب، والرضى، والقبضتان، والأصابع، فيصفون الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يفهمون من جميع ذلك إلا ما يليق بالله وعظمته، لا ما يليق بالمخلوقات من
__________
1 البخاري: الجمعة (1145) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) .(3/25)
الأعضاء والجوارح، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فيحصل بذلك: إثبات ما وصف به نفسه في كتابه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ويحصل أيضا نفي التشبيه والتكييف في صفاته، ويحصل أيضا ترك التأويل، والتحريف، المؤدي إلى التعطيل، ويحصل أيضا إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته، لا على ما نعقله نحن من صفات المخلوقين، وأما الأشاعرة فيؤلون النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله، فيؤلون الاستواء بالاستيلاء، والنّزول بنُزول الأمر، واليدين بالقدرتين والنعمتين، والقدم بقدم صدق، وأمثال ذلك.
وأما أهل السنة والجماعة فيصفون الله بهذه الصفات، وغيرها، مما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يكيفون، ولا يشبهون; والكلام عندهم في الصفات فرع على الكلام في الذات، فكما أن ذاته لا تشبه ذوات خلقه، فكذلك صفاته لا تشبه صفات خلقه، فإذا ثبت وصفه تعالى بالصفات السبع، على ما يليق بجلاله، فكذلك باقي الصفات.
وأما مسألة الحرف والصوت، فتساق هذا المساق، فإن الله تعالى: قد تكلم بالقرآن المجيد، وبجميع حروفه، فقال: "الم"، وقال: "المص"، وقال: " ق "؛ وكذلك جاء في الحديث: " فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب "1، وفي الحديث: " لا أقول الم حرف، ولكن
__________
1 أحمد (3/495) .(3/26)
ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"1 فهؤلاء، أي الأشاعرة، ما فهموا من كلام الله، إلا ما فهموا من كلام المخلوقين، فقالوا: إذا قلنا بالحرف، أدى ذلك إلى القول بالجوارح واللهوات ; وكذلك: إذا قلنا بالصوت، أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة، عملوا في هذا من التخبيط، كما عملوا فيما تقدم من الصفات.
والتحقيق هو أن الله تكلم بالحروف، كما يليق بجلاله وعظمته ; فإنه قادر لا يحتاج إلى جوارح، ولا إلى لهوات؛ وكذلك له صوت كما يليق به، يسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة ; كلام الله يليق به، وصوته كما يليق به ; ولا ننفي الحروف والصوت عن كلامه، لافتقارهما هنا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له، ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف ; لا قوله: هذا عبارة عن ذلك.
فإن قيل: هذا الذي يقرأ القارئ، هو عين قراءة الله، وعين تكلمه به هو؟
قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتديا، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا، ولفظ القاري في غير القرآن مخلوق، وفي غير القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه، ولهذا منع
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن (2910) .(3/27)
السلف عن قول: لفظي بالقرآن مخلوق لأنه يتميز، كما منعوا عن قول: لفظي بالقرآن غير مخلوق ; فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق، وفي التلاوة مسكوت عنه، لئلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن، وأما ما أمر السلف بالسكوت عنه، فيجب السكوت عنه. انتهى من قول بعض مشايخ الإسلام.
[جواب أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب عن رؤية الله تعالى ورؤية النبي ربه في الدنيا]
وسئل أيضا أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، عن الرؤية:
فأجابوا: وأما رؤية الله تعالى يوم القيامة، فهي ثابتة عندنا، وأجمع عليها أهل السنة والجماعة، والدليل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع; أما الكتاب، فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة آية: 22-23] وقال المفسرون المعنى: أنها تنظر إلى الله عز وجل كرامة لهم من الله، ومن أعظم ما يتنعم به أهل الجنة يوم القيامة، كما ورد ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أخبر أن الكفار يحجبون عن الله، فدل ذلك على أن ذلك خاص بهم، وأن المؤمنين ليسوا كذلك، بل يرون الله يوم القيامة، والدليل الذي من القرآن قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب(3/28)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك هو النظر إلى وجه الله.
وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] فمن أحسن الأجوبة فيها: جواب حبر الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس - لما قال: إن محمدا رأى ربه - فقال له السائل: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] فقال: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] أي: لا تحيط به، ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أفتدركها كلها؟ قال: لا، أو كما قال.
وأما قوله تبارك وتعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} الآية فذكر العلماء أن المراد لن تراني في الدنيا، وأيضا: الآية دليل واضح على جوازها، وإمكانها، لأن موسى عليه السلام أعلم بالله من أن يسأله ما لا يجوز عليه، أو يستحيل، خصوصا ما يقتضي الجهل، ولذلك رد بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} دون لن أرى، ولن أريك، ولن تنظر إلي ; فبذلك تبين لك، أنها دالة على مذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بإثبات رؤية الله يوم القيامة ; ورادة لمذهب الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من أهل الأهواء والبدع.
وأما السنة: فثبت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد، من حديث جرير بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما سأله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " إنكم سترون(3/29)
ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته "1.
وكذلك ثبت ذلك في أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الإجماع، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء؛ والخلاف الذي وقع بين الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، إنما ذلك رؤيته في الدنيا، فابن عباس وغيره أثبتها، وعائشة تنفيها، والله أعلم.
[جواب الشيخ عبد الله عن رجلين تنازعا في تكليم الله لموسى]
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن رجلين تنازعا، فقال أحدهما: إن الله كلم موسى تكليما، وسمعته أذناه، ووعاه قلبه، وإن الله كتب التوراة بيده، وناولها من يده إلى يده، وقال الآخر: إن الله كلم موسى بواسطة، وإن الله لم يكتب التوراة بيده، ولم يناولها من يده إلى يده.
فأجاب: القائل إن الله كلم موسى تكليما، كما أخبر في كتابه، فمصيب؛ وأما الذي قال: كلم موسى بواسطة، فهذا ضال مخطئ، بل نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن هذا إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الشورى آية: 51] الآية ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وبين تكليمه بواسطة كما أوحى إلى غير موسى، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] ، إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] .
__________
1 البخاري: الأذان (806) والرقاق (6574) , ومسلم: الإيمان (182) والزهد والرقائق (2968) , والترمذي: صفة الجنة (2554) , وأبو داود: السنة (4730) , وابن ماجه: المقدمة (178) , وأحمد (2/275 ,2/389 ,2/533) , والدارمي: الرقاق (2801) .(3/30)
والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين، والسنن، وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم " التقى آدم وموسى، قال آدم: أنت موسى، الذي كلمك الله تكليما، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه "1، وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاما، في بعض الأجسام، سمعه موسى ; وفسروا التكليم بذلك.
وأما قوله: "إن الله كتب التوراة بيده" فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطئ ضال، وإذا أنكره بعد معرفته بالحديث الصحيح، فإنه يستحق العقوبة، وأما قوله ناولها من يده إلى يده ; فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو كذلك عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم هذا اللفظ مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك، فقد أخطأ، والله أعلم.
[الأخذ بالإجماع السكوتي عن الصحابة]
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: هل يتأكد الأخذ بالإجماع السكوتي عن الصحابة رضي الله عنهم ... إلخ؟
فأجاب: الذي عليه أكثر الفقهاء، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، أن الأمر إذا اشتهر بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكره منهم أحد، كان إجماعا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد خيرهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختارهم
__________
1 أبو داود: السنة (4702) .(3/31)
لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". انتهى.
وباتباع السلف الصالح، والأخذ بهديهم وسلوك طريقتهم، والسكوت عما سكتوا عنه، يزول عن المؤمن شبهات كثيرة، وبدع وضلالات شهيرة، أحدثها المتأخرون بعدهم، كالكلام في تأويل آيات الصفات وأحاديثها، بالتأويلات المستكرهة التي لم تعهد عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإنهم سكتوا عن تفسير ذلك بالتأويلات الباطلة ; وقالوا: أمروها كما جاءت.
وقال بعضهم في صفة الاستواء، لما سأله سائل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما تواتر ذلك عن الإمام مالك رحمه الله، وما أجاب به مالك رحمه الله في هذه المسألة، هو جواب أهل السنة والجماعة في آيات الصفات وأحاديثها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، مثل المجيء، واليد والوجه، والمحبة، والغضب والرضى، وغير ذلك من الصفات الواردة في الكتاب والسنة.
وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي(3/32)
سلمة الماجشون، أنه قال: عليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها، ويقتصر عليها، وإن سنة من قدم قد علم ما في خلافها من الزلل، والخطأ، والحمق، والتعمق ; فارض لنفسك ما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه من نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، إنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
[بحث في آيات الصفات وأحاديثها]
وله: أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الجواب - وبالله التوفيق - عن المبحث الأول عن آيات الصفات وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام، فنقول: الذي نعتقد وندين الله به، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من الأئمة الأربعة وأصحابهم، رضي الله عنهم(3/33)
أجمعين، وهو: الإيمان بذلك، والإقرار به، وإمراره كما جاء، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
وقد شهد الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان، فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [سورة التوبة آية: 100] الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الفتح آية: 18] الآية.
فثبت بالكتاب لهم أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فمن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين؛ بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها، صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها، فسكتوا عما لم يعلموه، وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع، والوقوف حيث(3/34)
وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها والعدول عن طريقهم، وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم، وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف والمحدثات الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] ، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] . ونرجوا أن يجعلنا الله تعالى ممن يقتدي بهم، في بيان ما بينوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه.
والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها، قابل لها غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأولوه، ولا شبهوه بصفات المخلوقين، إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وتأديبه، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته.
ولما سئل مالك بن أنس عن الاستواء كيف هو؟ فقيل له: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله، وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان(3/35)
به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج. ومن أول الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله.
وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات، مثل النّزول، والمجيء، واليد، والوجه، وغيرها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة.
وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله تعالى، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام.
وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة، يصفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنْزيله، وشهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون به تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه،(3/36)
تحريف المعتزلة والجهمية، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومن عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد، والتنْزيه ; وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا في نفي النقائص بقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 3-4] .
وثبت عن الحميدي شيخ البخاري، وغيره من أئمة الحديث، أنه قال: أصول السنة، فذكر أشياء، وقال: ما نطق به القرآن والحديث، مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [سورة المائدة آية: 64] ، ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده، ولا نفسره ; ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومن زعم غير هذا فهو جهمي.
فمذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات، فرع على الكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه؛ كما أن إثبات الذات، إثبات وجود، لا إثبات كيفية، ولا تشبيه، فكذلك الصفات؛ وعلى هذا مضى السلف كلهم، ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك، لطال الكلام جدا؛ فمن كان قصده الحق، وإظهار الصواب،(3/37)
اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال، لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل، والله الموفق.
وقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وأمره أن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، ومن المحال في العقل والدين، أن يكون السراج المنير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله، بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه؛ فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين، لم يحكموا هذا الباب اعتقادا، وقولا؟!
ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته(3/38)
كل شيء حتى الخراءة، وقال: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "1، وقال فيما صح عنه أيضا: " ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم "2، وقال أبو ذر: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فذكر به بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم؛ حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه" رواه البخاري، محال مع هذا أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب؛ بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أو يظن أنه قد وقع من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخلال بهذا؟! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها، قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه.
ثم من المحال أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين،
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) .
2 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191) .(3/39)
لأن ضد ذلك إما لعَدَم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع ; أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة في طلب العلم، أو همة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وليست النفوس الزكية إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الباب، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي، الذي هو أقوى المقتضيات، أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة، في مجموع عصورهم؟ هذا، لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على الدنيا، وغفلة عن ذكر الله ; فكيف يقع في أولئك الفضلاء، والسادة النجباء؟!
وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائلينه، فهذا لا يعتقده مسلم، عرف حال القوم، ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السابقين، كما قد يقوله بعض الأغبياء، ممن لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله، والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم; فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف، إنما أُتُوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنْزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {ومِنهم أمّيّونَ(3/40)
لايَعلَمونَ الكِتابَ إلاّ أمَانيّ وإنْ هُم إلاّ يَظنّون} .
وأن طريقة الخلف هي استخراج معانى النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها أهل الجهل والضلال، من الجهمية والمعتزلة والرافضة، ومن سلك سبيلهم من الضالين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف؛ وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع؛ فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية، ظنوها بينات وبراهين قاطعات، وهي شبهات وضلالات متناقضات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه.
فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما(3/41)
أميين، بمنْزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم، ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله، وهذا القول إذا تدبره الإنسان، وجده في نهاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون، لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين، الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم، بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له، فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم، حيث يقول:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ(3/42)
اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] .
وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] . قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت، أرباب الكلام.
كيف يكون هؤلاء أعلم بالله وآياته، من السابقين الأولين؟ !
ومن تأمل ما ذكرنا علم أن الضلال والتهوك، إنما استولى على كثير من المتأخرين، بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين لهم بإحسان، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله، بإقراره على نفسه، وشهادة الأمة على ذلك ; وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء.
وقد فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم،(3/43)
وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا؛ ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، حرف واحد يخالف ذلك، لا نص، ولا ظاهر؛ ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية.
بل قد ثبت في الصحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول: " ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إليهم، ويقول: اللهم اشهد، غير مرة "1. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون، النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصا، وإما ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة، ضررا محضا في أصل الدين، فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص، أو ظاهر في خلاف الحق؟!
ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا
__________
1 البخاري: الحج (1741) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37 ,5/39 ,5/49) .(3/44)
يدلون عليه، حتى يجيء أنباط الفرس، وفروخ الفلاسفة، فيبينون للأمة العقيدة الصحيحة، التي يجب على كل مكلف أو فاضل اعتقادها! وهم مع ذلك أحيلوا في معرفتها على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة، نصا أو ظاهرا; يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات، لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها، فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه، أو انفوه!
ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون في أمته من الاختلاف، ثم قال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله "1، وروي أنه قال في صفة الفرقة الناجية " هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "2، فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن، في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلفون منكم بعد القرون الثلاثة؟ !
ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما أخذت عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين ; فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة
__________
1 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/17 ,3/26 ,3/59) .
2 الترمذي: الإيمان (2641) .(3/45)
الجهمية إليه ; وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أصل هذه المقالة، مقالة التعطيل والتأويل، مأخوذة من تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يسلك سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصالحين؟ !
وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون: تجرى على ظواهرها، وقسمان يقولون: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتون. أما الأولون فقسمان، أحدهما: من يجريها على ظاهرها، من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، وإليهم توجه الرد بالحق ; والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله: العليم، والقدير، والرب، والموجود، والذات، على ظاهرها اللائق بجلال الله. فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضى، والغضب، ونحو ذلك، في حق العبد أعراض؛ والوجه، واليد والعين في حقه أجسام.(3/46)
فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما، وقدرة، وكلاما، ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله، ويداه، ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين ; وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم ; وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح لمن هداه الله، فإن الصفات كالذات. فكما أن ذات الله ثابتة حقيقية، من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقية، من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين، فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟
ومن المعلوم: أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] إلا ما يناسب المخلوقين، فقد ضل في عقله ودينه. وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة، على الوجه الذي(3/47)
ينبغي؛ بل هذه المخلوقات في الجنة، قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، وقد أخبر الله سبحانه أنه {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [سورة السجدة آية: 17] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "1.
فإذا كان نعيم الجنة، وهو خلق من خلق الله تعالى، كذلك، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟ وهذه الروح التي في بني آدم، قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفيته تعالى؟ مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النّزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة.
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله تعالى، وأن الله تعالى لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما، ويثبتون بعض الصفات، وهي السبع، أو الثمان، أو الخمس عشرة، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، فهؤلاء قسمان: قسم يتأولونها، ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى: استولى، أو بمعنى: علو المكانة والقدر، أو بمعنى: طهور نوره للعرش، أو بمعنى: انتهاء الخلق إليه، إلى غير
__________
1 البخاري: بدء الخلق (3244) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824) , والترمذي: تفسير القرآن (3197) , وابن ماجه: الزهد (4328) , وأحمد (2/313 ,2/438 ,2/466 ,2/495) , والدارمي: الرقاق (2828) .(3/48)
ذلك من معاني المتكلمين، وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه.
وأما القسمان الواقفان، فقسم يقولون: يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله، ونحو ذلك ; وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقسم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وتلاوة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات كلها ; فهذه الأقسام الستة، لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.
والصواب في ذلك: القطع بالطريقة السلفية، وهي: اعتقاد الشافعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهي: اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم؛ فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رحمه الله. واعتقاد هؤلاء، هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو: ما نطق به الكتاب والسنة، في التوحيد، والقدر، وغير ذلك.
قال الشافعي رحمه الله، في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، فبين رحمه الله، أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في(3/49)
كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجارية: " أين الله؟ قالت: في السماء ; قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة "1 وهذا الحديث رواه الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه، وغيرهم.
وأهل السنة يعلمون أن ليس معنى ذلك، أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه ; فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا.
وقال الأوزاعي: كنا، والتابعون متوافرون، نقر بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
فمن اعتقد أن الله في جوف السماء، محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على سريره، فهو ضال
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3282) .(3/50)
مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، فهو معطل فرعوني، ضال مبتدع.
فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36] ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السماوات، فإنه لما كان ليلة المعراج وعرج به إلى السماء، وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، وهذا الحديث في الصحاح، فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال مشبه. قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، ولا رسوله تشبيها، انتهى.
ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل، وقد قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام آية: 68] .(3/51)
واعلم أن كثيرا من المصنفين ينسب إلى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي حنيفة، من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه، ويقولون لمن تبعهم: هذا الذي نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة، تبين كذبهم في ذلك، كما تبين كذب كثير من الناس فيما ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضيفونه إلى سنته، من البدع، والأقوال الباطلة.
ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء، ويكون أولئك العقلاء من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة؛ فقد قال الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟ وقال أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ; وقال: علماء الكلام زنادقة ; وكثير من هؤلاء، قرؤوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها، فإنهم يجدون في تلك الكتب: أن الله لو كان فوق الخلق لزم التجسيم، والتحيز، والجهة، وهم لا يعلمون حقائق هذه الألفاظ، وما أراد بها أصحابها.
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره، فليدع بما رواه مسلم(3/52)
في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، يصلي يقول: " اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك، فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1، فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين، انفتح له الباب، وتبين له الصواب، بمشيئة الملك الوهاب، وصلى الله على محمد.
[جواب الشيخ حمد بن معمر عن آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك]
سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومثل قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح آية: 10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ينْزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"، إلى غير ذلك مما ظاهره يوهم التشبيه؟ فأفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ذلك؟ وكيف مذهبه؟ ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره، مع التنْزيه؟ أم تؤولون؟ وابسطوا الكلام على ذلك، وأجيبوا جوابا شافيا، تغنموا أجرا وافيا.
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) .
2 البخاري: الجمعة (1145) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) .(3/53)
فأجاب بما نصه:
الحمد لله رب العالمين، قولنا في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك، ما قاله الله ورسوله، وما قاله سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ; بل نؤمن بأن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف، ولا نمثل صفاته بصفات خلقه ; لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه؛ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; فهو فسبحانه ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل خلافا للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل خلافا للمعطلة.
فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنْزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم،(3/54)
كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن، والحديث؛ وهكذا مذهب سائرهم، كما سننقل عباراتهم بألفاظها إن شاء الله تعالى.
ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون، فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن، نفيا وإثباتا ; وهم أشد تعظيما لله، وتنْزيها له، عما لا يليق بجلاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه.
ولا يقال: هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان، إثباتا بلا تشبيه، وتنْزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك.(3/55)
فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات؛ فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه سبحانه لا شبيه لذاته ولا لصفاته.
قال الإمام أحمد لما سئل عن التشبيه: هو أن يقول: يد كيدي، ووجه كوجهي، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليسا كالأسماع والأبصار؛ وهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منَزه عن كل نقص وعيب، وهو سبحانه في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي قيوم، سميع بصير، عليم خبير، رؤوف رحيم {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الفرقان آية: 59] ، وكلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا.
لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتَجَلِّيه تجلّي(3/56)
أحد، بل نعتقد أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه، وحسن أسمائه، وعلو صفاته، ولا يشبه به شيء من مخلوقاته، وأن ما جاء من الصفات مما أطلقه الشرع على الخالق وعلى المخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ.
والله سبحانه قد أخبر أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وحريرا، وذهبا، وقد قال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء"، فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه الموجودة مع اتفاقها في الأسماء، فالخالق جل وعلا أعظم علوا ومباينة لخلقه، من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتفقت الأسماء.
وأيضا فإن الله سبحانه قد سمي نفسه، حيا، عليما، سميعا، بصيرا، ملكا رؤوفا، رحيما ; وقد سمى بعض مخلوقاته حيا، وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رؤوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم. ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.
قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] ، وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ(3/57)
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [سورة يونس آية: 31] ،
وقال: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة التحريم آية: 2] ، وقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [سورة الذاريات آية: 28] ، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [سورة النساء آية: 58] ، وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [سورة الإنسان آية: 2] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة آية: 143] ، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] ، وليس بين صفة الخالق والمخلوق مشابهة، إلا في اتفاق الاسم.
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها، على أن الله سبحانه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، والعرش وما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل شيء، لا يحتاج إلى العرش ولا إلى غيره، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فمن قال: إن الله ليس له علم، ولا قدرة، ولا كلام، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا استوى على العرش، فهو معطل ملعون، ومن قال: علمه كعلمي، أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي، أو استواؤه كاستوائي، ونزوله كنُزولي، فإنه ممثل ملعون، ومن قال هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، باتفاق أئمة الدين.
فالممثل يعبد صنما ; والمعطل يعبد عدما؛ والكتاب والسنة فيهما الهدى والسداد، وطريق الرشاد، فمن اعتصم بهما هدي، ومن تركهما ضل. وهذا كتاب الله من أوله إلى(3/58)
آخره، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة، قد دل ذلك بما هو نص، أو ظاهر، في أن الله سبحانه فوق العرش، مستو على عرشه، ونحن نذكر من ذلك بعضه، قال الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة السجدة آية: 4] .
وقد أخبر سبحانه باستوائه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه، فذكر في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، وتنْزيل السجدة، والحديد، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [سورة الملك آية: 16] .
وأخبر عن فرعون أنه قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36] ، ففرعون كذب موسى في قوله: إن الله في السماء، وقال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] ، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة النحل آية: 102] .(3/59)
وتأمل قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، فقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [سورة هود آية: 7] ، يتضمن إبطال قول الملاحدة، القائلين بقدم العالم، وأنه لم يزل، وأنه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب، جعله لازما لذاته، أزلا وأبدا، غير مخلوق، كما هو قول ابن سينا، وأتباعه الملاحدة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] يتضمن إبطال قول المعطلة الذين يقولون: ليس على العرش سوى العدم، وأن الله ليس مستويا على العرش، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم مجامعه، وجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إلى الناس، ويقول: "اللهم اشهد"، وسيأتي الحديث إن شاء الله تعالى ; فأخبر في هذه الآية الكريمة أنه على عرشه، وأنه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سورة سبأ آية: 2] ، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، فأخبر أنه مع علوه على خلقه، وارتفاعه، ومباينته لهم، معهم بعلمه أينما كانوا.
قال الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء. وقال نعيم بن حماد لما سئل عن(3/60)
معنى هذه الآية: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، وسيأتي هذا مع ما يشابهه من كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وغيرهما، وليس معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] أنه: مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان.
وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ; وأخبر تعالى أنه ذو المعارج تعرج الملائكة والروح إليه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن ملائكته يخافون ربهم من فوقهم، فكل هذا الكلام الذي ذكره الله، من أنه فوق عباده، على عرشه، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة.
وهو سبحانه، قد أخبر أنه قريب من خلقه، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] الآية، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "1، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ
__________
1 أحمد (4/402) .(3/61)
إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] .
وكل ما في الكتاب والسنة، من الأدلة الدالة على قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ; فإنه سبحانه علي في دنوه، قريب في علوه ; وقد أجمع سلف الأمة، على أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته، على عرشه، وهو مع خلقه بعلمه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسيأتي الكلام مع زيادة عليه من كلام الإمام أحمد، وغيره إن شاء الله تعالى.
وأما الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فكثيرة جدا، منها ما رواه مسلم في صحيحه، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: " لطمت جارية لي، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: بلى، ائتني بها. قال: فجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "1 وفي الحديث مسألتان، إحداهما: قول الرجل لغيره: أين الله؟ وثانيهما: قول المسئول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930) .(3/62)
عنه، قال: " كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" 1، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله الخلق، كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي "2، وفي لفظ آخر: " كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده، إن رحمتي تغلب غضبي "3، وفي لفظ: "فهو مكتوب عنده فوق العرش "4، وهذه الألفاظ كلها في صحيح البخاري.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "5.
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الرب وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "6.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3213) .
2 البخاري: بدء الخلق (3194) , ومسلم: التوبة (2751) , والترمذي: الدعوات (3543) , وابن ماجه: المقدمة (189) والزهد (4295) , وأحمد (2/259) .
3 البخاري: بدء الخلق (3194) والتوحيد (7404 ,7422 ,7453 ,7553 ,7554) , ومسلم: التوبة (2751) , والترمذي: الدعوات (3543) , وابن ماجه: المقدمة (189) والزهد (4295) , وأحمد (2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466) .
4 البخاري: بدء الخلق (3194) , ومسلم: التوبة (2751) , وأحمد (2/257 ,2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381) .
5 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/405) .
6 البخاري: مواقيت الصلاة (555) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632) , والنسائي: الصلاة (485) , وأحمد (2/257 ,2/312 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (413) .(3/63)
اشتكى منكم أو اشتكى أخ له، فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاك، على هذا الوجع فيبرأ "1 أخرجه أبو داود.
وفي الصحيحين في قصة المعراج، وهي متواترة: "وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السماوات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه، وفرض عليه خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، ينْزل من عند ربه إلى موسى، فيسأله: كم فرض عليك؟ فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فسله التخفيف".
وذكر البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، حديث أنس، حديث الإسراء، وقال فيه: " ثم علا به جبريل فوق ذلك، بما لا يعلم إلا الله، حتى جاوز سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع، فليخفف عنك ربك، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره، فأشار عليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال وهو في مكانه: يا رب خفف عنا "2 وذكر الحديث.
__________
1 أبو داود: الطب (3892) .
2 البخاري: التوحيد (7517) , ومسلم: الإيمان (162) , والنسائي: الصلاة (449) .(3/64)
ولما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، بأن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذريتهم، وتغنم أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة "، وفي لفظ: " من فوق سبع سماوات "، وأصل القصة في الصحيحين، وهذا السياق لمحمد بن إسحاق في المغازي. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في أديم مقروض، لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة: بين عيينة بن حصن بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء "1.
وفي سنن أبي داود من حديث جبير بن مطعم، قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! ! فما زال يسبح، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك! أتدري ما الله؟ إن شأنه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه، إنه لفوق سماواته على عرشه، وإنه عليه لهكذا، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"، وقد ساق الذهبي هذا الحديث في كتاب العلو، من رواية محمد بن إسحاق، ثم قال: هذا
__________
1 البخاري: المغازي (4351) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/68 ,3/73) .(3/65)
حديث غريب جدا ; وابن إسحاق حجة في المغازي، إذا أسند ; وله مناكير، وعجائب، فالله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا، أم لا؟
والله عز وجل ليس كمثله شيء، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره ; والأطيط الواقع بذات العرش، من جنس الأطيط الحاصل في الرحل، فذاك صفة للرحل وللعرش، ومعاذ الله أن نعده صفة الله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت، وقولنا في هذه الأحاديث: إنا نؤمن بما صح منها، وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال، واختلف العلماء في قبوله وتأويله، فإنا لا نتعرض له بتقرير، بل نرويه في الجملة، ونبين حاله، وهذا الحديث إنما سقناه لما فيه مما تواتر، من علو الله على عرشه، مما يوافق آيات الكتاب.
وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، من حديث العباس بن عبد المطلب، قال: " كنت جالسا بالبطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فنظر إليها، فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن. قالوا؟ والمزن، قال: والعنان قالوا: والعنان. قال: هل تدرون بُعْد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بُعْدَ ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى(3/66)
السماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله عز وجل فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم "1.
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة: " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "2.
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "3 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي جامع الترمذي أيضا عن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه حصين: " كم تعبد اليوم إلها قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء، قال: يا حصين أما إنك لو أسلمت، علمتك كلمتين ينفعانك. قال: فلما أسلم حصين، قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي "4 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وابن ماجه: المقدمة (193) .
2 أبو داود: الأيمان والنذور (3284) , وأحمد (2/291) .
3 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941) .
4 الترمذي: الدعوات (3483) .(3/67)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها، حتى يرضى عنها "1. وفي حديث الشفاعة، الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فأدخل على ربي تبارك وتعالى وهو على عرشه "، وذكر الحديث، وفي بعض ألفاظ البخاري: " فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه "2 وصح عن أبي هريرة، بإسناد مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله ملائكة سيارة، يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم، فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم "3 وأصل الحديث في صحيح مسلم، ولفظه: " فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء، فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم، من أين جئتم؟ "4 الحديث.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا، لا يتسع هذا الجواب لبسطها، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، وألهمه رشده ; وأما من أراد الله فتنته، فلا حيلة فيه، بل لا تزيده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالا، كما قال تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [سورة المائدة آية: 64] وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [سورة الإسراء آية: 82] ، وقال جل ذكره: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ} [سورة البقرة آية: 26] ، وقال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً
__________
1 مسلم: النكاح (1736) .
2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/244) .
3 البخاري: الدعوات (6408) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) , والترمذي: الدعوات (3600) , وأحمد (2/251 ,2/358 ,2/382) .
4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) , وأحمد (2/382) .(3/68)
إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 125] ، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت: 44] .
والمقصود: أن نصوص الكتاب والسنة قد نطقت; بل قد تواترت بإثبات علو الله على خلقه، وأنه فوق سماواته، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا هو؛ فإن قال السائل: كيف استوى على عرشه؟ قيل له: كما قال ربيعة ومالك وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وكذلك إذا قال: كيف ينْزل ربنا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته، قيل: ونحن لا نعلم كيف نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، فكيف تطالبني بكيفية استوائه على عرشه، وتكليمه، ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟
وإذا كنت تقر بأن له ذاتا حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فاستواؤه ونزوله وكلامه ثابت في نفس الأمر، ولا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم، فإنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات(3/69)
حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، فإذا كانت ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، فصفات الخالق لا تشبه صفات المخلوقين.
وكثير من الناس يتوهم في كثير من الصفات أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في محاذير، منها: أنه مثّل ما فهم من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل ; ومنها: أن ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله، من صفات الإلهية اللائق بجلال الله وعظمته.
ومنها: أن يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الجمادات، وصفات المعدومات، فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله من التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسمائه وآياته؛ ومثال ذلك: أن النصوص كلها قد دلت على وصف الإله تبارك وتعالى بالفوقية، وعلوه على المخلوقات، واستوائه على عرشه، وليس في كتاب الله والسنة، وصف له بأنه لا داخل العالم، ولا خارجا عنه، ولا مباينه، ولا مداخله.(3/70)
فيظن المتوهم أنه إذا وصف الله تعالى بالاستواء على العرش، كان الاستواء كاستواء الإنسان على ظهر الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [سورة الزخرف آية: 12-13] ، فيخيل لهذا الجاهل بالله وصفاته، أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل هو غني عن العرش وغيره، وكل ما سواه مفتقر إليه، فكيف يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه، تعالى الله عن ذلك وتقدس.
وأيضا فقد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضا فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه، إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجا إلى عرشه أو خلقه؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار؟ وهو ليس يستلزم في المخلوقات ; وكذلك قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [سورة الملك آية: 16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء "1؟ وقوله في رقية المريض: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك "2، فمن توهم من هذه
__________
1 البخاري: المغازي (4351) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/68 ,3/73) .
2 أبو داود: الطب (3892) .(3/71)
النصوص أن الله في داخل السماوات، فهو جاهل ضال، باتفاق العلماء.
فلو قال القائل: العرش في السماء أو في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء، أم في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولم يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة، فإن السماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [سورة الحج آية: 15] ، وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان آية: 48] . ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، كان المفهوم من قوله: في السماء أنه في العلو، وأنه كان فوق كل شيء؛ وكذا الجارية، لما قال لها: "أين الله؟ قالت: في السماء "1 إنما أرادت العلو، مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها.
وإذ قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط بها، إذ ليس فوق العالم إلا الله، كما لو قيل: العرش في السماء، كان المراد أنه عليها، كما قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة آل عمران آية: 137] ، وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] ، وقال عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] .
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3282) .(3/72)
وبالجملة، فمن قال: إن الله في السماء، وأراد أنه في جوف السماء، بحيث تحصره وتحيط به، فقد أخطأ، وضل ضلالا بعيدا؛ وإن أراد بذلك أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه فقد أصاب، وهذا اعتقاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
ومن لم يعتقد ذلك، كان مكذبا الرسل، متبعا غير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه، نافيا له، ولا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يقصده ويسأله؛ وهذا قول الجهمية.
والله تعالى قد فطر العباد، عربهم وعجمهم، على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو، ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه، معنى طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، بل قد فطر الله على ذلك جميع الأمم، في الجاهلية والإسلام،; إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها، في جاهليتها وإسلامها، معترفة بأن الله في السماء، أي على السماء.
فهو سبحانه قد أخبر في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه استوى على عرشه، استواء يليق بجلاله، ويناسب(3/73)
كبرياءه، وهو غني عن العرش، وعن حملة العرش، والاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قالت أم سلمة، وربيعة، ومالك؛ وهذا مذهب أئمة المسلمين، وهو الظاهر من لفظ (استوى) ، عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السليمة التي لم تنحرف إلى تعطيل، ولا إلى تمثيل.
وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطى، المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين، حيث قال: من زعم، أن الرحمن على العرش استوى، خلاف ما يقر في نفوس العامة، فهو جهمي، فإن الذي أقره الله في فطر عباده وجبلهم عليه: أن ربهم فوق سماواته.
وقد جمع العلماء في هذا الباب مصنفات كبارا وصغارا، وسنذكر بعض ألفاظهم في آخر هذه الفتوى إن شاء الله تعالى وليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا عن أئمة الدين، حرف واحد يخالف ذلك؛ ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه في كل مكان، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما(3/74)
خطب خطبته العظيمة، يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول: " اللهم هل بلغت فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد " وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث.
واعلم أن كثيرا من المتأخرين يقولون: هذا مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها، إقرارها على ما جاءت، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا لفظ مجمل، فإن قول القائل: ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين، وصفات المحدثين، فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال هذا فقد أصاب، لكن أخطأ في إطلاق القول أن هذا ظاهر النصوص، فإن هذا ليس هو الظاهر، فإن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بالذات المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، وننَزه ذاته المقدسة عن الأشباه، من غير أن نتعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته: نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة، من غير أن نتعقلها، أو نشبهها أو نكيفها، أو نمثلها بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى الاستواء الاستيلاء، ولا معنى نزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا نزول رحمته، ونحو ذلك؛ بل نؤمن بأنها صفات(3/75)
حقيقة، والكلام فيها كالكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه؛ فإذا كانت الذات تثبت إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.
ومن ظن أن نصوص الصفات لا يُعقَل معناها ولا يدري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن يقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ويعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله، وأنها بمنْزلة (كهيعص، حم، عسق، المص) وظن أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يعلمون حقيقة قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ونحو ذلك، فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف.
وهذا الظن يتضمن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة، وأنهم كانوا يقرؤون هذه الآيات ويروون حديث النّزول وأمثاله ولا يعرفون معنى ذلك، ولا ما أريد به، ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعرف معناه، فمن ظن أن هذه عقيدة السلف، فقد أخطأ في ذلك خطأ بينا ; بل السلف رضي الله عنهم أثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات؛ فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهدى بين ضلالين، خرج من مذهب المعطلين والمشبهين، كما(3/76)
خرج اللبن: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [سورة النحل آية: 66] .
وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل، ولا نمثل، ولا نؤول، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر، ولا نقول: له يد كأيدي المخلوقين، ولا أن له وجها كوجوههم، ولا سمعا وبصرا كأسماعهم وأبصارهم، بل نقول: له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازا، ليست كصفات المخلوقين، فكذلك قولنا في وجهه ويديه وكلامه واستوائه.
وهو سبحانه قد وصف نفسه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 3] ، {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [سورة الحشر آية: 23] ، إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى ; ووصف نفسه بما ذكره من الصفات، كسورة الإخلاص، وأول الحديد، وأول طه، وغير ذلك، ووصف نفسه، بأنه يحب ويكره، ويمقت، ويرضى، ويغضب، ويأسف، ويسخط، ويجيء، ويأتي، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما وحياة، وقدرة، وإرادة، وسمعا، وبصرا، ووجها، ويدا، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن(3/77)
الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السماوات مطويات بيمينه.
ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينْزل إلى السماء الدنيا، وأنه يفرح، ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، وغير ذلك، مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وكل هذه الصفات تساق مساقا واحدا، وقولنا فيها، كقولنا في صفة العلو والاستواء، فيجب علينا الإيمان بكل ما نطق به الكتاب والسنة من صفات الرب جل وعلا، ونعلم أنها صفات حقيقة لا تشبه صفات المخلوقين، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات؛ فلا نمثل ولا نعطل. وكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله، فيجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة، وأئمتها، مع أن عامته منصوص عليه في الكتاب والسنة.
وأما ما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا، فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظ أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل منه، وإن أراد باطلا رد عليه، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى؛ كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك، فيقول بعض الناس: ليس في جهة، ويقول آخر: بل هو في(3/78)
جهة، فإن هذه الألفاظ مبتدعة في النفي والإثبات، وليس على أحدهما دليل من الكتاب ولا من السنة، ولا من كلام الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام؛ فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله سبحانه وتعالى في جهة، ولا قال: إن الله ليس في جهة، ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز.
والناطقون بهذه الألفاظ يريدون معنى صحيحا، وقد يريدون معنى فاسدا، فإذا قال: إن الله في جهة ; قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد أنها تحصره وتحيط به؟ أم تريد أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم؟ فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات ; فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله محصورا في المخلوقات، فهذا باطل ; وإن أردت أن الله تعالى فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه ; بل هو العالي عليها، المحيط بها.
وقد قال تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "1، فمن تكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقار كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال: إن الله ليس في جهة ; قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك: أنه ليس فوق
__________
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , والدارمي: الرقاق (2799) .(3/79)
السماوات رب يعبد، ولا على العرش إله يصلى له ويسجد، ومحمد لم يعرج بذاته إليه، فهذا معطل؛ وإن قال: مرادي بنفي الجهة، أنه لا تحيط به المخلوقات، فقد أصاب، ونحن نقول به.
وكذلك من قال: إن الله متحيز، إن أراد أن المخلوقات تحوزه وتحيط به، فقد أخطأ، وإن أراد أنه محتاز عن المخلوقات، بائن عنها، عال عليها، فقد أصاب ; ومن قال: إنه ليس بمتحيز، إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه، فقد أصاب، وإن أراد بذلك أنه ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل العالم ولا خارجه، فقد أخطأ ; فإن الأدلة كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته، عال عليها، فقد فطر الله على ذلك الأعراب والصبيان، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب، والصبيان ; أي: عليك بما فطرهم الله عليه، فإن الله فطر عباده على الحق، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة "1 الحديث.
[فصل في قوله تعالى يد الله فوق أيديهم]
فصل: وأما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح آية: 10] ، فاعلم أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع: مفرد كهذه وكقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، وجاء مثنى كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وكقوله: {مَا
__________
1 البخاري: الجنائز (1385) , ومسلم: القدر (2658) , والترمذي: القدر (2138) , وأبو داود: السنة (4714) , وأحمد (2/233 ,2/253 ,2/275 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410 ,2/481) , ومالك: الجنائز (569) .(3/80)
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] .
وجاء مجموعا كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . فحيث ذكر اليد مثناة، أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعل بالباء إليها، فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وحيث ذكرها مجموعة، أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء؛ فلا يحتمل {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، فإن كل أحد يفهم من قوله: عملت أيدينا، ما يفهمه من قوله: عملنا، وخلقنا، كما يفهم من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] .
وأما قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلو كان المراد منه مجرد الفعل، لم يكن لذكر اليد - بعد نسبة الفعل إلى الفاعل - معنى، فكيف وقد دخلت الباء، فالفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه، كقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي بالباء إلى يده مفردة، أو مثناة، فهو ما باشرته يده. ولهذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده" فلو كانت اليد هي القدرة، لم يكن لها اختصاص بذلك، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن أهل الموقف يأتون آدم، فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من(3/81)
روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء "1، فذكروا أربعة أشياء كلها خصائص، وكذلك قال آدم لموسى عليهما السلام، في محاجته له: " اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده" 2، وفي لفظ آخر: " كتب الله لك التوراة بيده " 3، وهو من أصح الأحاديث، وكذلك في الحديث المشهور "إن الملائكة قالوا: يا رب، خلقت بني آدم يأكلون، ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فقال الله: لا أجعل صالح من خلقت بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له كن فكان".
وأيضا فإنه لو كان قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مثل قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لكان آدم والأنعام سواء، وأهل الموقف قالوا: "أنت أبو البشر، خلقك الله بيده"4 يعلمون لآدم تخصيصا وتفضيلا، بكونه مخلوقا باليدين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" يقبض الله سماواته بيده اليمنى، والأرض بيده الأخرى "5 وقال صلى الله عليه وسلم: " يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة "6 الحديث، وفي صحيح مسلم في أعلى أهل الجنة منْزلة " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها "7 وقال عبد الله بن الحارث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يسكنها مدمن الخمر، ولا ديوث ".
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) .
2 البخاري: القدر (6614) , ومسلم: القدر (2652) , والترمذي: القدر (2134) , وأبو داود: السنة (4701) , وابن ماجه: المقدمة (80) , وأحمد (2/248 ,2/264 ,2/268 ,2/287 ,2/314 ,2/392 ,2/398 ,2/448 ,2/464) , ومالك: الجامع (1660) .
3 مسلم: القدر (2652) , وأبو داود: السنة (4701) , وابن ماجه: المقدمة (80) .
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .
5 البخاري: التوحيد (7413) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87) .
6 البخاري: التوحيد (7419) , ومسلم: الزكاة (993) , والترمذي: تفسير القرآن (3045) , وابن ماجه: المقدمة (197) , وأحمد (2/242 ,2/313 ,2/500) .
7 مسلم: الإيمان (189) .(3/82)
واحدة، يتكفاها الجبار، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة "1، وفي الصحيح مرفوعا: " إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل "2، وفي الصحيح أيضا مرفوعا: " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين "3، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خلق الله آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، ثم استخرج ذريته منه، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون "4 الحديث، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - إلا أخذها الرحمن بيمينه، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل "5 متفق على صحته.
وقال نافع: عن ابن عمر: سألت ابن أبي مليكة6 عن يد الله، أواحدة؟ أم اثنتان؟ فقال، اثنتان، وقال عبد الله بن عباس: " ما السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهما في يد الله، إلا كخردلة في يد أحدكم "، وقال ابن عمر، وابن عباس: "أول شيء خلق الله القلم، فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمنى، فكانت الدنيا وما فيها من عمل معمول، في بر، وبحر، ورطب، ويابس، فأحصاه عنده"، وقال ابن وهب عن أسامة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
__________
1 البخاري: الرقاق (6520) .
2 مسلم: التوبة (2759) , وأحمد (4/395 ,4/404) .
3 مسلم: الإمارة (1827) , والنسائي: آداب القضاة (5379) , وأحمد (2/160) .
4 الترمذي: تفسير القرآن (3075) , وأبو داود: السنة (4703) , وأحمد (1/44) , ومالك: الجامع (1661) .
5 مسلم: الزكاة (1014) , والنسائي: الزكاة (2525) , وابن ماجه: الزكاة (1842) , وأحمد (2/538) .
6 الصواب (نافع بن عمر الجمحي سالت ابن أبي مليكة) كما في كتاب النقض للدارميص 286، وابن أبي مليكة تلميذ لابن عمر رضي الله عنهما (انظر التهذيب لابن حجر 5/307) وليس العكس.(3/83)
[سورة الزمر آية: 67] ،
قال: "مطوية في كفه يرمي بها، كما يرمي الغلام بالكرة" وهذه النصوص التي ذكرنا هي غيض من فيض، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} .
فصل في ذكر بعض ما ورد عن الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين
في مسألة علو الرب تبارك وتعالى على خلقه،
وأنه على عرشه المجيد، فوق سماواته:
روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: "يا أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون، فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماء، فإن إلهكم لم يمت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [سورة آل عمران آية: 144] الآية. وروى البخاري في تاريخه، عن ابن عمر، أن أبا بكر قال: "من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله في السماء حي لا يموت" وروى ابن أبي شيبة عن قيس قال: لما قدم عمر الشام، استقبله الناس، وهو على بعير، فقالوا: "يا أمير المؤمنين، لو ركبت برذونا يلقاك عظماء الناس، ووجوههم، فقال عمر رضي الله عنه: ألا أراكم ههنا؟ إنما الأمر من ههنا، وأشار بيده إلى السماء".(3/84)
وروى عثمان بن سعيد الدارمي أن امرأة لقيت عمر بن الخطاب وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها، وأصغى لها، حتى انصرفت، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالا من قريش، على هذه العجوز، قال: "ويلك! أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة، سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف مني إلى الليل ما انصرفت، حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضرني صلاة، فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها" وقال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب، روينا من وجوه صحيحة: أن "عبد الله بن رواحة، رضي الله تعالى عنه، مشى إلى أمة له، فنالها، فرأته امرأته، فجحدها، فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن، فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بالله، وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن" وروى الدارمي بإسناده عن ابن مسعود، قال: "العرش فوق الماء والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"، قال الحافظ الذهبي: رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ واللالكائي(3/85)
والبيهقي، وابن عبد البر، وإسناده صحيح.
وروى الأعمش عن خيثمة عن عبد الله إن العبد ليهم بالأمر من التجارة، حتى إذا استيسرت له، نظر الله إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملَك: اصرفه عنه، فيصرفه عنه. وقال عبد الله بن عباس: "تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيه سبعة أنوار، والله فوق ذلك" ورواه عبد الله بن الإمام أحمد، وروى الدارمي: أن ابن عباس قال لعائشة، حين استأذن عليها، وهي تموت: "وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات"، وروى الدارمي عن نافع قال: قالت عائشة: "وأيم الله لو كنت أحب قتله لقتلته - يعني عثمان - وقد علم الله فوق عرشه أني لا أحب قتله".
وفي الصحيحين: أن زينب كانت تفتخر على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، وقد تقدم ذلك، وفي لفظ لغيرها كانت تقول: "زوجني الرحمن من فوق عرشه كان جبرائيل السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك".
وقال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدثته عائشة، قال: "حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سماوات"، وقال قتادة: قالت بنوا(3/86)
إسرائيل: "يا رب أنت في السماء، ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك، وغضبك؟ قال: "إذا رضيت عليكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت استعملت عليكم أشراركم "" رواه الدارمي.
وقال سليمان التيمي: لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء ; وقال كعب الأحبار، قال الله عز وجل في التوراة: "أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء من أعمالهم"، وقال مقاتل في قوله تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] ، قال: بعلمه، يعلم نجواهم، ويسمع كلامهم، وهو فوق عرشه، وعلمه معهم ; وقال الضحاك في الآية: هو الله على العرش، وعلمه معهم. وقال عبيد بن عمير: " ينْزل الرب شطر الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى إذا كان الفجر، صعد الرب عز وجل "1 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد، وقال الحسن: "ليس شيء عند ربك من الخلق أقرب من إسرافيل، وبينه وبينه سبعة حجب، كل حجاب منها مسيرة خمسمائة عام، وإسرافيل دون هؤلاء، ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم السابعة".
وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى الأوزاعي قال: "كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله تعالى جل ذكره فوق
__________
1 أحمد (4/81) .(3/87)
عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته". وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: علماء الصحابة الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الآية هو: على العرش وعلمه في كل مكان ; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
وروى أبو بكر الخلال، في كتاب السنة، عن الأوزاعي، قال: سئل مكحول والزهري، عن تفسير الأحاديث، فقالا: "أمروها كما جاءت" ; وروي أيضا: عن الوليد بن مسلم، قال سألت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية، فقالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف".
فقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة؛ والزهري ومكحول، هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون، هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ; فمالك إمام الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، وسفيان الثوري إمام أهل العراق.
وقال الأوزاعي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول"، وقال(3/88)
سفيان الثوري في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] قال: "علمه؟ ?" وروى الخلال بإسناد كل رجاله أئمة، عن سفيان بن عيينة، قال سئل ربيعة بن عبد الرحمن، عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق" ; وهذا الكلام مروي عن مالك، تلميذ ربيعة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن الله كلم موسى، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربتم أعناقهم. وابن مهدي هذا، هو الذي قال فيه علي بن المديني: "لو حلِّفت بين الركن والمقام، إني ما رأيت أعلم منه لحلفت" وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن عامر الضبعي، أنه ذكر عنده الجهمية، فقال: هم أشر قولا من اليهود والنصارى وقد أجمع أهل الأديان، مع المسلمين، على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء.
وقال عباد بن العوام - أحد أئمة الحديث بواسط - كلمت بشرا المريسي وأصحابه، فرأيت آخر كلامهم: ليس على العرش شيء. أرى والله أن لا يناكحوا، ولا يوارثوا. وقال: علي بن عاصم، شيخ الإمام أحمد: احذروا من(3/89)
المريسي وأصحابه، فإن كلامهم الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم فلم يثبت أن في السماء إلها، وقال حماد بن زيد: الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء؛ وكان من أشد الناس على الجهمية، وقال وهب بن جرير: إياكم ورأي جهم وأصحابه، فإنهم يحاولون أن ليس في السماء شيء ; وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني، صاحب الشافعي، له كتاب في الرد على الجهمية، قال فيه: باب قول الجهمي في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . زعمت الجهمية أن معنى استوى استولى ; قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر ; ويقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر سبحانه وتعالى أنه خلق العرش قبل السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه فيها، ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلو، والاحتجاج عليه.
وقال عبد الله، بن الزبير الحميدي شيخ البخاري: وما نطق به القرآن والحديث، مثل قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، ومثل قوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(3/90)
[سورة الزمر آية: 67] ،
وما أشبه هذا، من القرآن والحديث، لا نزيد فيه، ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ; ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.
وروى ابن أبي حاتم، قال: جاء بشر بن الوليد، إلى أبي يوسف، فقال: تنهاني عن الكلام، وبشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون؟ فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله في كل مكان ; فبعث أبو يوسف، وقال: عليّ بهم، فانتهوا إليهم، وقد قام بشر، فجيء بعلي الأحول، والشيخ الآخر، فنظر: أبو يوسف إلى الشيخ، فقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك؟ وأمر به إلى الحبس، وضرب عليا الأحول، وطوف به، وقد استتاب أبو يوسف بشرا المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه. وهي قصة مشهورة، ذكرها ابن أبي حاتم وغيره، وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا.
وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء كلهم، من المشرق إلى المغرب، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه؛ فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة كلهم ; فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا(3/91)
بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا. فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه وصفه بصفة لا شيء.
وقال محمد أيضا في الأحاديث التي جاءت: "إن الله يهبط إلي السماء الدنيا" ونحو هذه الأحاديث، قد رواها الثقات، فنحن نؤمن بها، ولا نفسرها، ذكر ذلك عنه أبو القاسم اللالكائي، وقال سفيان بن عيينة وقد سئل عن حديث: " إن الله يحمل السماوات على أصبع " وحديث: " القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن "1 فقال سفيان: هي كما جاءت نقر بها، ونحدث بها بلا كيف، وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم، فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود، فقال الأصمعي: هذه كافرة بهذه المقالة. أما هذا الرجل وامرأته فما أولاهما بأن: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد آية: 3-4] وقال إسحاق بن راهويه إمام أهل المشرق، نظير أحمد، وقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، قال: حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه، ثم قال: وأعلى شيء في ذلك وأثبته قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وروى الخلال في كتاب السنة، قال: قال إسحاق بن راهويه، قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء أسفل الأرض السابعة، في
__________
1 سنن الترمذي: كتاب القدر (2140) وكتاب الدعوات (3522) , ومسند أحمد (3/112 ,4/182 ,6/91 ,6/301 ,6/315) .(3/92)
قعور البحار، وفي كل موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علما.
وقال قتيبة بن سعيد: هذا قول أئمة الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا بأنه في السماء السابعة على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . وقتيبة هذا أحد أئمة الإسلام، وحفاظ الحديث ; وقال عبد الوهاب الورّاق: من زعم أن الله هاهنا، فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، صح ذلك عنه ; وهو الذي قال فيه الإمام أحمد، وقد قيل له: من نسأل بعدك؟ فقال: عبد الوهاب، وقال خارجة بن مصعب: الجهمية كفار، أبلغ نساءهم أنهن طوالق لا يحللن لهم، ثم تلا " طه " إلى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي، وأبا زرعة، عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك؟ فقال: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا، ومصرا وشاما، ويمنا، فكان مذهبهم: أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، وأحاط بكل شيء علما.
وقال أبو زرعة أيضا: هو على العرش استوى، وعلمه في كل مكان. من قال غير هذا فعليه لعنة الله. وقال(3/93)
علي بن المديني الذي سماه البخاري: سيد المسلمين، وقيل: ما تقول الجماعة في الاعتقاد؟ فقال: يثبتون الكلام، والرؤية، ويقولون: إن الله على العرش استوى. فقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقال: اقرأ أول الآية، يعني: بالعلم، لأن أول الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [سورة المجادلة آية: 7] .
وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا، بأنه فوق سبع سماوات، على العرش استوى بائن من خلقه، لا نقول كما قالت الجهمية" رواه عنه الدارمي، والحاكم، والبيهقي، بأصح إسناد وصح عن ابن المبارك أيضا أنه قال: "إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود، والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية". وقال نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ثم تلا قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الآية وقال محمد بن إسماعيل - البخاري -: سمعت نعيم بن حماد يقول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيها.(3/94)
فصل في ذكر أقوال الأئمة الأربعة رضي الله عنهم
[في علو الرب واستوائه فوق العرش]
ذكر قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: روى البيهقي في كتاب الصفات عن نعيم بن حماد، قال: سمعت نوح بن أبي مريم يقول: كنت عند أبي حنيفة، أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ، كانت تجالس جهما فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف نفس، فقيل لها: إن ههنا رجلا قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبد؟ فسكت عنها. ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها. ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا: إن الله عز وجل في السماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ؟ قال هو كما تكتب إلى الرجل، إني معك، وأنت غائب. عنه ثم قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله، فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، واتبع مطلق السمع، بأن الله تعالى في السماء.
وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور، المروي بالأسانيد،(3/95)
عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة، عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء أو الأرض؟ قال: قد كفر. إن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق سماواته، فقلت: إنه يقول: أقول: إنه على العرش، ولكنه قال: لا أدري العرش في السماء، أم في الأرض؟ قال إذا أنكر أنه في السماء، فقد كفر، لأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وفي لفظ: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء أو في الأرض؟ قال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق سماواته، روى هذا شيخ الإسلام، أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب: الفاروق ; وقال الإمام: أبو محمد موفق الدين بن قدامة: بلغني عن أبي حنيفة رحمه الله، أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء، فقد كفر.
فتأمل هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه، أنه كفّر الواقف، الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض; فكيف يكون حكم الجاحد النافي، الذي يقول: ليس في السماء، ولا في الأرض؟ واحتج أبو حنيفة على كفره، بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، بين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، فقال: وعرشه فوق سماواته، وبين بهذا أن قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] فوق العرش، ثم أردف ذلك بكفر(3/96)
من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض، قال: لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، وأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.
وذكر أصحاب أبي حنيفة من بعده، كأبي يوسف، ومحمد، كما قدمنا، ما روينا عنهم، وكذلك هشام بن عبد الله، كما روى ابن أبي حاتم وشيخ الإسلام بإسنادهما أن هشام بن عبيد الله، صاحب محمد بن الحسن، قاضي الري، حبس رجلا في التجهّم، فتاب، فجيء به ليمتحنه، فقال: الحمد لله على التوبة؛ فامتحنه هشام، فقال: أتشهد أن الله على عرشه، بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه؟ فقال ردوه إلى الحبس، فإنه لم يتب، وسيأتي كلام الطحاوي، إن شاء الله تعالى.
وفي الفقه الأكبر أيضا، عن أبي حنيفة: لا يوصف الله بصفات المخلوقين، ولا يقال إن يده قدرته، ولا نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف ; وقال في الفقه الأكبر {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة طه آية: 5] ليست كأيدي خلقه، وهو خالق الأيدي جل وعلا، ووجهه ليس كوجوه خلقه، وهو خالق كل الوجوه، ونفسه ليست كنفوس خلقه، وهو خالق النفوس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية:11] . وقال في الفقه الأكبر أيضا: وله تعالى يد، ووجه، ونفس، بلا كيف،(3/97)
ذكرها الله تعالى في القرآن، وغضبه ورضاه، وقضاه وقدرته، من صفاته تعالى، بلا كيف، ولا يقال: غضبه عقابه، ولا رضاه ثوابه، انتهى.
ذكر قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، رضي الله عنه قال عبد الله بن نافع: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء، رواه عبد الله، بن الإمام أحمد. وروى أبو الشيخ الأصبهاني، وأبو بكر البيهقي، عن يحيى بن يحيى، قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج. وتقدم عن شيخه ربيعة، مثل هذا الكلام.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فإنما نفوا الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه، على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا أمروها بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنْزلة حروف المعجم، وأيضا: فإنه لا يحتاج إلى نفي الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى،(3/98)
وإنما يحتاج إلى نفي الكيفية إذا أثبتت الصفات ; وأيضا فإن من ينفي الصفات لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف ; فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف.
وأيضا فقولهم: أمّروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت، لغو من القول.
قال الذهبي، بعد ما ذكر كلام مالك وربيعة الذي قدمناه: وهذا قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم، كما أخبر به في كتابه، وأنه كما يليق به، ولا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك، نفيا، ولا إثباتا، بل نسكت، ونقف، كما قد وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إليه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره، وإمراره، والسكوت عنه؛ ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله، لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في(3/99)
نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; وقد تقدم ما رواه الوليد بن مسلم عن مالك بما أغنى عن إعادته. وقال أبو حاتم الرازي: حدثني ميمون بن يحيى البكري قال: قال مالك: من قال القرآن مخلوق، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه.
روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري، عن أبي شعيب، وأبي ثور، كلاهما عن محمد بن إدريس، رحمه الله، قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم، مثل سفيان، ومالك، وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينْزل إلى السماء الدنيا كيف شاء، وذكر سائر الاعتقاد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فيما روى عنه العدول، فإن خالف أحد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، وأما قبل ثبوت الحجة عليه(3/100)
فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر; ولا يكفر بالجهل بها أحد، إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها.
ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه، كما نفى سبحانه التشبيه عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وصح عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حق، قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب عباده; انتهى; ومعلوم أن المقضي في الأرض، والقضاء فعله سبحانه المتضمن لمشيئته وقدرته; وقال في خطبة رسالته: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.
ذكر قول الإمام: أحمد بن حنبل رضي الله عنه: قال الخلال في كتاب السنة: حدثنا يوسف بن موسى قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قلت لأبي: ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، لا يخلو شيء من علمه. قال الخلال: وأخبرني الميموني قال: سألت أبا عبد الله، عمن قال: إن الله ليس على العرش فقال: كلامهم كله يدور على الكفر.
وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله، ما معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7](3/101)
وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد، ولا صفة {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل قال: إن الله معنا، وتلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، قال: يأخذون بآخر الآية، ويدعون أولها، هلا قرأت عليه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة المجادلة آية: 7] بالعلم معهم، وقال في سورة (ق) : {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا يقول: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] أقول هذا، ولا أجاوزه إلى غيره; فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية، قلت: فكيف تقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ؟ قال: علمه في كل مكان، وعلمه معهم، وقال: أول الآية يدل على أنه علمه. وقال في موضع آخر: وأن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة، يعلم ما تحت الأرض السفلى، وأنه غير مختلط بشيء من خلقه هو تبارك وتعالى بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه.
وقال في كتاب الرد على الجهمية الذي رواه الخلال وقال: كتب هذا الكتاب من خط عبد الله بن الإمام أحمد، وكتبه عبد الله من خط أبيه، قال فيه: باب بيان ما أنكرت الجهمية، أن يكون الله على العرش; وقد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . قلنا لهم: ما أنكرتم أن يكون الله على(3/102)
العرش؟ فقالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو تحت العرش، وفي السماوات، وفي الأرض; قال أحمد: فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظمة الرب شيء: أجسامكم، وأجوافكم، والحشوش، والأماكن القذرة، ليس فيها شيء من عظمته، وقد أخبرنا الله عز وجل أنه في السماء، فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [سورة الملك آية: 16] ، الآيتين وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] .
وقال أيضا في الكتاب المذكور:، ومما أنكرت الجهمية الضلال أن الله على العرش، وقد قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] . ثم ساق أدلة القرآن، ثم قال: ومعنى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ، يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علمه مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك لقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] .
قال الإمام أحمد: ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلا(3/103)
كان في يده، قدح من قوارير وفيه شيء، كان ابن آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق علما، من غير أن يكون في شيء مما خلق; قال: مما تأولت الجهمية من قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقالوا: إن الله معنا، وفينا; فقلنا لهم: قطعتم الخبر من أوله، لأن الله افتتح الخبر بعلمه، وختمه بعلمه.
قال أحمد: وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان; فقل له: أليس شيئا؟ فيقول: نعم; فقل له: فحين خلق الشيء، خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس، والشياطين، وإبليس في نفسه; وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم دخل فيهم، كفر أيضا، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر; وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة.
قال أحمد: وقلنا للجهمية: حين زعمتم أن الله في كل مكان، أخبرونا عن قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [سورة الأعراف آية: 143] أكان في الجبل بزعمكم؟ فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن تجلى له; بل كان سبحانه على العرش، فتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى(3/104)
الجبل شيئا ما رآه قط قبل ذلك. انتهى كلام الإمام أحمد، الذي نقلناه من كتاب الرد على الجهمية.
وروى الخلال عن حنبل، قال: قال أبو عبد الله - يعني أحمد -: نؤمن أن الله على العرش بلا كيف، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده حاد; وصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية.
وقال حنبل أيضا: سألت أبا عبد الله، عن الأحاديث التي تروى: " إن الله سبحانه ينْزل إلى السماء الدنيا "1 و " إن الله يُرى في الآخرة " و " إن الله يضع قدمه " وأشباه هذه الأحاديث; فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق، ولا نرد منها شيئا، ونعلم: أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد: ليس كمثله شيء في ذاته، كما وصف نفسه; قد أجمل الله الصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة، ليس يشبه شيئا; وصفاته غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سَمِيعٌ بَصِيرٌ بلا حد، ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث،
__________
1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأبو داود: الصلاة (1315) , وأحمد (2/258 ,2/419) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) .(3/105)
فنقول كما قال، ونصفه بما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ونؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه، من كلام، ونزول، وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا حد إلا بما وصف به نفسه، سميع، بصير، لم يزل متكلما، عليم، غفور {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [سورة الأنعام آية: 73] {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} .
فهذه صفات وصف بها نفسه، لا تدفع، ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] وهو {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] وهو: سميع بصير بلا حد ولا تقدير; ولا نتعدى القرآن والحديث، تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة; قلت له: المشبهة ما تقول؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه. انتهى. وكلام الإمام أحمد رحمه الله في هذا كثير، فإنه امتحن بالجهمية رضي الله عنه وعن إخوانه من أئمة الدين.(3/106)
فصل:
[الشيخ محمد وأتباعه يصفون الله بما وصف به نفسه]
قد بينا فيما تقدم عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس يوم المآب، وبينا عقيدته هو وأتباعه، عقيدة السلف الماضين، من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين، الذين رفع الله منارهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين.
فشيخنا رحمه الله وأتباعه يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزون القرآن والحديث، لأنهم متبعون لا مبتدعون، ولا يكيفون ولا يشبهون ولا يعطلون، بل يثبتون جميع ما نطق به الكتاب من الصفات، وما وردت به السنة مما رواه الثقات، يعتقدون أنها صفات حقيقة منَزّهة عن التشبيه والتعطيل، كما أنه سبحانه له ذات حقيقة، منَزّهة عن التشبيه والتعطيل؛ فالقول عندهم في الصفات، كالقول في الذات; فكما أن ذاته ذات حقيقة لا تشبه الذوات، فصفاته صفات حقيقة لا تشبه الصفات; وهذا هو اعتقاد سلف الأمة وأئمة الدين; وهو مخالف لاعتقاد المشبهين، واعتقاد المعطلين، فهو كالخارج: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [سورة النحل آية: 66] ، فهو وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.(3/107)
فلما قررنا عقيدتنا، في أول الجواب، وأوردنا على ذلك الأدلة، من الكتاب والسنة، أتبعنا ذلك بفصل ذكرنا فيه بعض ما ورد، عن الصحابة، والتابعين وتابعيهم، يؤيد ما ذكرناه، ويحقق ما قلناه، لأنهم مصابيح الدين، وقدوة العالمين; وهم أهل اللغة الفصحاء، واللسان العربي; فإن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا نزول القرآن، ونقلوه إلينا وفسروه; فهم قد تلقوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون; فتعلموا من الصحابة ألفاظ القرآن ومعانيه; فنقلوا عنهم تأويله كما نقلوا تنْزيله; ونقلوا الأحاديث الواردة في الصفات، ولم يتأولوها كما تأولها النفاة، بل أثبتوها صفات حقيقة لرب العالمين، منَزّهة عن تعطيل المعطلين، وتشبيه المشبهين; فإن الصحابة رضي الله عنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا; وهم سادات الأمة، وكاشفو الغمة; فالمسلمون بهديهم يهتدون، وعلى منهاجهم يسلكون.
[فصل ما قاله العلماء في علو الله سبحانه واستوائه]
ثم إنا لما نقلنا كلام الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، أتبعناه بفصل ذكرنا فيه كلام الأئمة الأربعة، أئمة المذاهب المتبعة، ليتبين صحة ما قلناه، وما إليهم نسبناه، ويعلم من كان قصده الحق أن الأئمة على عقيدة واحدة مجمعون، وللسلف الصالح متبعون.(3/108)
فلما تبين ما قلناه، واتضح ما قررناه: أحببت أن أختم هذا الجواب بفصل أذكر فيه بعض ما قاله العلماء بعدهم، ليعلم الواقف على هذا الجواب أن هذا الاعتقاد الذي ذكرناه، هو اعتقاد أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدميهم ومتأخريهم، لأن إجماعهم حجة قاطعة، لا تجوز مخالفته، فكيف وقد شهدت له النصوص القرآنية والسنة النبوية؟ وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
فصل: قال الإمام حافظ الشرق، وشيخ الإسلام: عثمان بن سعيد الدارمي، في كتاب النقض على بشر المريسي، قال الذهبي: وهو مجلد سمعناه من أبي حفص القواس قال فيه: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين، على أن الله فوق عرشه فوق سماواته، لا ينْزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشُكّوا أنه ينْزل يوم القيامة، ليفصل بين عباده ويحاسبهم، وتشقق السماوات لنُزوله، فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينْزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات، إنما هو أمره وعذابه، كقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [سورة النحل آية: 26] وإنما هو: أمره وعذابه، انتهى من هذا الكتاب.(3/109)
قال وقد ذكر الحلول وحكى هذا المذهب، إنزاه لله من السوء عن مذهب من يقول به هو بكماله وجماله، وعظمته وبهائه، فوق عرشه، فوق سماواته، فوق جميع الخلائق، في أعلى مكان وأظهر مكان، حيث لا خلق هناك ولا إنس، ولا جان، أي الحزبين أعلم بالله؟ وأشد تعظيما وإجلالا له؟ وقال في هذا الكتاب: علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه، ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض، يعلم ما في الأرض.
وقال في موضع آخر: والقرآن كلام الله، وصفة من صفاته خرج منه كما شاء أن يخرج، والله بكلامه، وعلمه، وقدرته، وسلطانه، وجميع صفاته غير مخلوق; وهو بكماله على عرشه. وقال في موضع آخر، وقد ذكر حديث البراء بن عازب الطويل، في شأن الروح، وقبضها، وفيه: "فتصعد روحه، حتى تنتهي إلى السماء السابعة" وذكر الحديث، ثم قال: وفي قوله: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [سورة الأعراف آية: 40] دلالة ظاهرة أن الله فوق السماء، لأنه لو لم يكن فوق السماء، لما عرج بالأرواح والأعمال، ولما أغلقت أبواب السماء عن قوم، وفتحت لآخرين. وقال في موضع آخر: ولكنا نقول: رب عظيم، وملك كبير، نور السماوات والأرض، وإله السماوات والأرض، على عرش مخلوق عظيم، فوق السماء السابعة، دون ما سواها من الأماكن; من لم يعرفه بذلك، كان كافرا به وبعرشه.(3/110)
قال: وقد اتفقت كلمة المسلمين والكافرين، على أن الله في السماء، وعرفوه بذلك، إلا المريسي وأصحابه، حتى الصبيان، الذين لم يبلغوا الحنث; وساق حديث حصين: " كم تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحدا في السماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذي تعده لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء "1 وقال أيضا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية: " أين الله؟ " فيه تكذيب لمن يقول: هو في كل مكان، وإن الله لا يوصف بـ (أين) بل يستحيل أن يقال: أين هو؟ والله فوق سماواته، بائن من خلقه; فمن لم يعرفه بذلك، لم يعرف إلهه الذي يعبده; هذا كله كلام عثمان بن سعيد في كتابه المذكور; وهو قال فيه أبو الفضل القراب: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه; أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه عن البويطي، والحديث عن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأثنى عليه أهل العلم.
وقال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي في جامعه، لما روى حديث أبي هريرة، وهو حديث منكر، قاله الذهبي: " لو أدلى أحدكم بحبل، لهبط على الله "2 قال معناه: لهبط على علم الله، قال: وعلم الله، وقدرته، وسلطانه، في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف نفسه في كتابه، وقال في حديث أبي هريرة: " إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه "3 قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما
__________
1 الترمذي: الدعوات (3483) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .
3 الترمذي: الزكاة (662) , وأحمد (2/404) .(3/111)
يشبهه من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى، إلى سماء الدنيا، قالوا: ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن به، ولا نتوهم، ولا نقول كيف; هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك; قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف; وهكذا قول أهل العلم، من أهل السنة والجماعة.
وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات; وقالوا: هذا تشبيه، وفسروها على غير ما فسرها أهل العلم; وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وإن معنى اليد ههنا النعمة; وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه، إذا قال: يد كيدي، أو مثل يدي، أو سمع كسمعي، فهذا التشبيه; وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف; ولا يقول: مثل سمع، وكسمع، فهذا لا يكون تشبيها; قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] هذا كله كلام الترمذي.
وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، في كتاب صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر. وقال في تفسيره الكبير في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] قال: علا وارتفع; وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] عن الربيع بن أنس، أنه يعني: ارتفع; وقال في قوله(3/112)
عز وجل
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً سورة آية: 36-37] يقول: وإني لأظن موسى كاذبا فيما يقول، ويدعي أن له ربا في السماء، أرسله إلينا; وتفسيره هذا مشحون بأقوال السلف على الإثبات.
وقال في كتاب التبصير في معالم الدين: القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا، وذلك نحو إخباره أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له وجها بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن له قدما بقول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى يضع رب العزة فيها قدمه "1، وأنه يضحك بقوله: "لقي الله وهو يضحك إليه "، وأنه يهبط إلى سماء الدنيا، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن له أصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن "2 فإن هذه المعاني، التي وصفت ونظائرها، مما وصف الله به نفسه ورسوله، مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها. ذكر هذا الكلام عنه أبو يعلى في كتاب: إبطال التأويل. ومن أراد معرفة أقوال السلف التي حكاها عنهم في تفسيره فليطالع كلامه عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [سورة الأعراف آية: 143] ، وقوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [سورة الشورى آية: 5] .
__________
1 البخاري: الأيمان والنذور (6661) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2848) , والترمذي: تفسير القرآن (3272) , وأحمد (3/234) .
2 ابن ماجه: المقدمة (199) , وأحمد (4/182) .(3/113)
وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى، فوق سبع سماوات، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة، لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة.
ذكر قول إمام الشافعية في وقته: أبو العباس بن سريج رضي الله عنه: ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني، في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة، فقال: الحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وعلى كل حال، وصلى الله على محمد المصطفى، وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل. سألت - أيدك الله بتوفيقه - بيان ما صح لدي من مذهب السلف، وصالحي الخلف، في الصفات الواردة في الكتاب، والسنة؟ فاستخرت الله، وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء، وهو: أبو العباس بن سريج، رحمه الله، وقد سئل مثل هذا السؤال.
فقال: أقول وبالله التوفيق: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقع، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الأفكار أن تحيط، وعلى الألباب أن تصف، إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة، والسنة والجماعة، من السلف الماضين، والصحابة والتابعين، من الأئمة المهديين الراشدين، المشهورين إلى زماننا هذا، أن جميع الآي(3/114)
الواردة عن الله في ذاته وصفاته، والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفاته، التي صححها أهل النقل: يجب على المرء المسلم، الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله كما أمر، وذلك مثل قوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] .
ونظائرها مما نطق به القرآن، كالفوقية، والنفس، واليدين، والسمع، والبصر، والكلام، والعين، والنظر، والإرادة، والرضى، والغضب، والمحبة، والكراهة، والعناية، والقرب، والبعد، والسخط، والاستحياء، والدنو كقاب قوسين أو أدنى، وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء، وقوله للملائكة، وقبضه، وبسطه، وعلمه، ووحدانيته، وقدرته، ومشيئته، وصمدانيته، وفردانيته، وأوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، وحياته، وبقائه، وأزليته، ونوره، وتجليه، والوجه، وخلق آدم بيده، ونحو قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] وسماعه من غيره، وسماع غيره منه، وغير ذلك من صفاته المذكورة في كتابه المنزل.(3/115)
وجميع ما لفظ به المصطفى من صفاته، كغرس جنة الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك، والتعجب، ووضعه القدم، وذكر الأصابع، والنّزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وكغيرته، وفرحه بتوبة العبد، وأنه ليس بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، وحديث القبضتين، وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من حثياته، فيدخلهم الجنة.
وحديث القبضة، التي يخرج بها من النار قوما لم يعملوا خيرا قط، وحديث: " إن الله خلق آدم على صورته "1، وفي لفظ: " على صورة الرحمن "، وإثبات الكلام بالحرف والصوت، وكلامه للملائكة، ولآدم ولموسى ومحمد، وللشهداء وللمؤمنين عند الحساب وفي الجنة، ونزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكون القرآن في المصاحف، وما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن، وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه، وحديث معراج الرسول صلى الله عليه وسلم ببدنه ونفسه، وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة، الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا، مما صح عنه، اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن: أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها، ولا ننقص منها، ولا نفسرها، ولا نكيفها، ولا نشير إليها بخواطر القلوب، بل
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/251 ,2/434 ,2/463 ,2/519) .(3/116)
نطلق ما أطلقه الله، ونفسر ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، والأئمة المرضيون، من السلف، المعروفين بالدين والأمانة.
ونجمع على ما أجمعوا عليه، ونمسك عما أمسكوا عنه، ونسلم الخبر لظاهره، والآية لظاهرها، لا نقول بتأويل المعتزلة، والأشعرية، والجهمية، والملحدة، والمجسمة، والمشبهة، والكرامية، والمكيفة; بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب، والقول سنة، وابتغاء تأويله بدعة; هذا آخر كلام أبي العباس بن سريج، الذي حكاه أبو القاسم الزنجاني في أجوبته.(3/117)
ذكر قول الإمام الطحاوي، إمام الحنفية في وقته، في الحديث، والفقه، ومعرفة أقوال السلف
قال في عقيدته المعروفة عند الحنفية: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رضي الله عنهم.
نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله، منه بدأ، بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة، ليس بمخلوق، فمن سمعه، وزعم أنه كلام البشر، فقد كفر; والرؤية لأهل الجنة حق، بغير إحاطة ولا كيفية، وكل ما جاء في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا يثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حضر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه خالص التوحيد، وصحيح الإيمان; ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنْزيه ... إلى أن قال: والعرش، والكرسي، حق، كما بين في كتابه، وهو مستغن عن العرش، وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وذكر سائر الاعتقاد.(3/118)
ذكر قول الإمام، أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، إمام الطائفة الكلابية، وكان من أعظم الناس إثباتا للصفات، والفوقية، وعلو الله على عرشه، منكرا لقول الجهمية؛ وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب، وأن القرآن معنى قائم بالذات، وهو أربع معان; ونصر طريقته أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وخالفه في بعض الأشياء، ولكنه على طريقه في إثبات الصفات، والفوقية، وعلو الله على عرشه كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه إن شاء الله تعالى.
حكى ابن فورك في كتابه المجرد، فيما جمعه من كلام ابن كلاب، أنه قال: وأخرج من النظر والخبر، قول من قال: لا هو في العالم، ولا خارجا منه; فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له صفه بالعدم، لما قدر أن يقول أكثر من هذا; ورد أخبار الله أيضا، وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول، ثم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، أعلمهم بالأين واستصوب قول القائل: إنه في السماء، وشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون: الأين ويحيلون القول به.
قال: ولو كان خطأ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك، فتوهمي أنه محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي إنه في كل(3/119)
مكان، لأنه هو الصواب، دون ما قلت. كلا! فلقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه من الإيمان، بل الأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ ! والكتاب ناطق بذلك، وشاهد له.
وقد غرس في بنية الفطرة، ومعارف الآدميين من ذلك، ما لا شيء أبين منه، ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدا من الناس، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول أين ربك؟ إلا قال: في السماء، أفصح، أو أومى بيده، أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح، ولا يشير إلى غير ذلك; ولا رأينا أحدا إذا عن له الدعاء، إلا رافعا يده إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يُسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم، وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن، انتهى كلامه.
ذكر قول الإمام أبي الحسن الأشعري، صاحب التصانيف، إمام الطائفة الأشعرية: قال في كتابه الذي سماه اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين لذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية، وغيرهم ... إلى أن قال: ذكر مقالة أهل السنة، وأصحاب الحديث، جملة قولهم: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله وبما جاء عن الله(3/120)
وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج.
وأقروا أن لله علما، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر "1 كما جاء الحديث; ويُقرّون أن الله يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء ... إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويروونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.
وذكر الاستواء في هذا الكتاب المذكور، في باب: هل الباري تعالى في مكان دون مكان؟ فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة، منها: قال أهل السنة، وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء; وأنه على العرش استوى كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف؛ وإن له يدين، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وإنه يَنْزل إلى سماء
__________
1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/433) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1479) .(3/121)
الدنيا كما جاء في الحديث، ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه، بمعنى: استولى، وتأولوا اليد بمعنى: النعمة; وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] أي: بعلمنا.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب جمل المقالات: هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من الله، وما تلقاه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد أحد، فرد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين، بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] .
وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ: من قال بالوقف أو باللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون؛ ثم ساق بقية قولهم.
وقال في هذا الكتاب: وقالت المعتزلة: إن الله استوى(3/122)
على عرشه بمعنى: استولى، هذا نص كلامه; وقال في هذا الكتاب أيضا: وقالت المعتزلة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] يعني: استولى. قال: وتأولت اليد بمعنى: النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] أي: بعلمنا. فالأشعري رحمه الله، إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية، وصرح بخلافه، وأنه خلاف قول أهل السنة.
وقال الأشعري أيضا: في كتابه: الإبانة، في أصول الديانة في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، وقال حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36-37] كذب موسى، في قوله: إن الله فوق السماوات، وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [سورة الملك آية: 16] ، فالسماوات فوقها العرش.
فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] يعني: جميع السماوات;(3/123)
وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات; قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله مستو على العرش، الذي هو فوق السماوات؛ فلولا أن الله على العرش، لم يرفعوا أيديهم نحو العرش; وقد قال قائلون - من المعتزلة، والجهمية، والحرورية - إن معنى استوى: استولى، وملك، وقهر، وأنه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.
فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش، وبين الأرض السابعة، لأنه قادر على كل شيء، وكذا لو كان مستويا على العرش بمعنى: الاستيلاء، لجاز أن يقال: هو مستو على الأشياء كلها; ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخلية، والحشوش; فبطل أن يكون الاستواء على العرش: الاستيلاء، وذكر أدلة من الكتاب والسنة، والعقل، سوى ذلك; وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهره الحافظ ابن عساكر، واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محي الدين النواوي.
فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإمام، الذي ينتسب إليه الأشاعرة اليوم، لأنه إمام الطائفة المذكورة، كيف صرح بأن عقيدته في آيات الصفات وأحاديثها اعتقاد أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين; ولم يحك تأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بمعنى النعمة،(3/124)
والعين بمعنى العلم، إلا عن المعتزلة والجهمية; وصرح أنه خلاف قوله، لأنه خلاف قول أهل السنة والجماعة.
ثم تجد المنتسبين إلى عقيدة الأشعري قد صرحوا في عقائدهم، ومصنفاتهم، من التفاسير وشروح الحديث، بالتأويل الذي أنكره إمامهم، وبين أنه قول المعتزلة والجهمية، وينسبون هذا الاعتقاد إلى الأشعري وهو قد أنكره ورده وأخبر أنه على غير عقيدة السلف من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم; وأنه على عقيدة الإمام أحمد، كما سيأتي لفظه بحروفه إن شاء الله.
وأعجب من هذا: أنهم يذكرون في مصنفاتهم أن عقيدة السلف أسلم، وعقيدة الخلف أعلم وأحكم! فسبحان مقلب القلوب كيف يشاء، كيف يجتمع في قلب من له عقل ومعرفة، أن الصحابة أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأنهم الذين شاهدوا التَنْزيل وعلموا التأويل، وأنهم أهل اللغة الفصحاء، واللسان العربي الذي نزل القرآن بلغتهم وأنهم الراسخون في العلم حقا، وأنهم متفقون على عقيدة واحدة، لم يختلف في ذلك اثنان.
ثم التابعون بعدهم سلكوا سبيلهم، واتبعوا طريقهم، ثم الأئمة الأربعة وغيرهم مثل الأوزاعي، والسفيانين، وابن المبارك، وإسحاق، وغيرهم من أئمة الدين الذين رفع الله قدرهم بين العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، كل هؤلاء على عقيدة واحدة مجمعون، ولكتاب(3/125)
ربهم وسنة نبيهم متبعون.
ثم بعد معرفته لهذا وإقراره، يقوم في قلبه أن عقيدة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف؟ ! فسبحان من يحول بين المرء وقلبه، فيهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] .
وكيف يكون الخالفون أعلم من السابقين؟ ! بل من زعم هذا فهو لم يعرف قدر السلف; بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين، حقيقة المعرفة المطلوبة; فإن هؤلاء الذين يفضلون طريقة الخلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنْزِلة الأميين الذين قال الله فيهم: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [سورة البقرة آية: 78] ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع الاحتمالات، وغرائب اللغات; فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة، كما قدمناه; وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وكيف يكون الخلف أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من أهل العلم والإيمان، الذين هم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى؟! فنسأل الله أن لا(3/126)
يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا ولإخواننا المسلمين من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. وإنما ذكرنا هذا في أثناء كلام أبي الحسن الأشعري لأن أهل التأويل اليوم الذين أخذوا بطريقة الخلف، ينتسبون إلى عقيدة الأشاعرة، فيظن من لا علم عنده، أن هذا التأويل طريقة أبي الحسن الأشعري، وهو رضي الله عنه قد صرح بأنه على طريقة السلف، وأنكر على من تأول النصوص، كما هو مذهب الخلف; وذكر أن التأويل مذهب المعتزلة والجهمية.
قال الإمام الذهبي في كتاب العلو: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله، ورأسه في حجري، فكان يقول شيئا في حال نزعه: لعن الله المعتزلة، موهوا ومخرقوا.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، في كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري: فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، موافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة.
فاسمع ما ذكره في كتابه الإبانة، فإنه قال: الحمد لله(3/127)
الواحد العزيز، الماجد المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد، وساق خطبة رد فيها على المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، وبين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الصحابة ... إلى أن قال: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟
قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى لله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث; ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين; فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: أنا نقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله; وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها،(3/128)
وأن الله يبعث من في القبور; وأن الله تعالى مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن له يدين كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] ، وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] .
ونثبت لله قدرة، ونثبت له السمع، والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة، والخوارج، والجهمية; ونقول: إن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وأنه لا يكون شيء في الأرض، من خير، أو شر إلا ما شاء الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله، مقدرة له، كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات آية: 96] وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا؛ وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين - إذا رآه المؤمنون - هم عنه محجوبون، كما قال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] .
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا، وندين أن الله تعالى مقلب القلوب، وأن القلوب(3/129)
بين أصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص; ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل، من النّزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب يقول: " هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ "1، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل; ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم.
ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [سورة النجم آية: 8-9] ... إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، ونحتج لما ذكرناه من قولنا، وما بقي منه، بابا بابا، وشيئا شيئا.
ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد، ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. انتهى; قال شمس الدين الذهبي رحمه الله: فلو انتهى أصحابنا المتكلمون، إلى مقالة أبي الحسن ولزموها، لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ذكر قول أبي الحسن علي بن مهدي الطبراني
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأحمد (2/433 ,3/94) .(3/130)
المتكلم، تلميذ الأشعري: قال في كتاب مشكل الآيات له في باب قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] :
اعلم أن الله فوق السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء: الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي; فالقديم جل جلاله، عال على عرشه، يدلك على أنه في السماء، عال على عرشه، قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ، وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، وزعم البلخي: أن استواء الله على العرش، هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق.... أي استولى عليها.
قال: ويدل على أن الاستواء - هاهنا - ليس بالاستيلاء، لأنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته; فبان بذلك فساد قوله; ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان، أي: استولى، إذا تمكن بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا، لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء.(3/131)
ثم قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ؟ قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] بمعنى على الأرض، وقال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] . فإن قيل: ما تقولون في قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ؟ قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في (السماوات) ثم يبتدئ: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [سورة الأنعام آية: 3] ، وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق، ملك، لدل على أن ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما.
ذكر قول الإمام الزاهد: أبي عبد الله بن بطة، قال في كتاب الإبانة - وهو ثلاثة مجلدات -: باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه.
أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين، على أن الله على عرشه، فوق سماواته، بائن من خلقه; فأما قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد آية: 4] فهو كما قالت العلماء، واحتج الجهمي بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقال: معنا وفينا; وقد فسر العلماء أن ذلك علمه; ثم قال تعالى في آخرها: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المجادلة آية: 7] .
ثم إن ابن بطة سرد بأسانيده أقوال من قال إنه علمه،(3/132)
فذكره عن الضحاك، والثوري، ونعيم بن حماد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وكان ابن بطة، من كبار الأئمة رضي الله عنه، سمع من البغوي وطبقته، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
ذكر قول الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، شيخ المالكية في وقته، قال في أول رسالته المشهورة، في مذهب الإمام مالك: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد، بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه، قال الإمام أبو بكر محمد بن وهب المالكي، شارح رسالة ابن أبي زيد، لما ذكر قوله - وأنه فوق عرشه المجيد -: معنى (فوق) و (على) واحد عند جميع العرب; ثم ساق الآيات، والأحاديث - إلى أن قال -: وقد تأتي لفظة (في) في لغة العرب، بمعنى (فوق) ، كقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [سورة الملك آية: 15] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] قال أهل التأويل، يريد فوقها; وهو قول مالك مما فهمه عن التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء، يعني فوقها; فكذلك قال الشيخ أبو محمد، إنه فوق عرشه; ثم بين أن علوه فوق عرشه، إنما هو بذاته، بائن عن جميع خلقه، بلا كيف، وهو بكل مكان بعلمه، لا بذاته، فلا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، انتهى كلام الشارح.
وذكر ابن أبي زيد في كتابه المفرد في السنة تقرير(3/133)
العلو، واستواء الرب على العرش بذاته، وقرره أتم تقرير; وقال في مختصر المدونة: وأنه تعالى فوق عرشه بذاته، فوق سماواته دون أرضه.
قال الحافظ الذهبي، لما ذكر قول ابن أبي زيد: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، قد تقدم مثل هذه العبارة، عن أبي جعفر بن أبي شيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي. وكذلك أطلقها يحيى بن عمار، واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له، فإنه قال: وأئمتنا كالثوري، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان; وكذلك أطلقها ابن عبد البر، وكذا عبارة شيخ الإسلام: أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال في أخبار شتى: إن الله في السماء السابعة، على العرش بنفسه، وكذا قال أبو الحسن الكرجي، الشافعي، تلك القصيدة:
عقائدهم أن الإله بذاته على عرشه مع علمه بالغوائب
وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين ابن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة، وأصحاب الحديث وكذا أطلق هذه اللفظة: أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ، والشيخ عبد القادر الجيلي، والفتى عبد العزيز القحيطي وطائفة، والله تعالى خالق كل شيء، ومدبر الخلائق بذاته، لا معين(3/134)
ولا موازر وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة بين كونه معنا، وبين كونه فوق العرش، فهو معنا بالعلم، وهو على العرش، كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء، كما قدمنا، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام; وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير، وكان غاية في معرفة الأصول، وقد نقموا عليه في قوله بذاته، فليته تركه، انتهى كلام الذهبي.
ذكر قول القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، الأشعري:
قال في كتابه التمهيد في أصول الدين - وهو من أشهر كتبه -:فإن قال قائل: فهل تقولون إن الله في كل مكان؟ قلنا: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [سورة الملك آية: 16] ، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان، وفي فمه، وفي الحشوش، والمواضع القذرة، التي يرغب عن ذكرها، تعالى الله عن ذلك.
ثم قال في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، المراد: أنه إله عند أهل السماء، وإله عند أهل الأرض، كما تقول العرب: فلان(3/135)
نبيل، مطاع في المصرين; أي: عند أهلهما، وليس يعنون أن ذات المذكور، بالحجاز والعراق موجودة; وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] يعني: بالحفظ، والنصر، والتأييد; ولم يرد أن ذاته معهم، تعالى; وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه آية: 46] محمول على هذا التأويل; وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] يعني أنه عالم بهم، وبما خفي من سرهم ونجواهم.
وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال، قياسا على هذا: إن الله بالقيروان، ومدينة السلام، ودمشق، وإنه مع الثور، والحمار، وإنه مع الفساق، ومع المصعدين إلى حلوان، قياسا على قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [سورة النحل آية: 128] فوجب: التأويل على ما وصفنا أولا، ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... ..................
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر; والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا; وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي: استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه.
ثم قال: باب فإن قال قائل: ففصلوا لنا صفات ذاته من صفات أفعاله، لنعرف ذلك; قيل له: صفات(3/136)
ذاته هي التي لم يزل، ولا يزال موصوفا بها، وهي: الحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والبقاء، والوجه، واليدان، والعينان، والغضب، والرضاء; وصفات فعله، هي: الخلق، والرزق، والعدل، والإحسان، والتفضل، والإنعام، والثواب، والعقاب، والحشر، والنشر; وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها; ثم ساق الكلام في الصفات.
وقال في كتاب الذب عن أبي الحسن الأشعري: كذلك في قولنا، في جميع المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله; إذ صح من إثبات اليدين، والوجه، والعينين، ونقول: إن الله يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام وإنه يَنْزل إلى السماء الدنيا كما في الحديث، وإنه مستو على عرشه ... إلى أن قال: وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس، ولا تصوير، كما روي عن الزهري، عن مالك في الاستواء، فمن تجاوز هذا، فقد تعدى، وابتدع، وضل. انتهى.
قال الحافظ شمس الدين الذهبي - لما ذكر كلامه هذا - فهذا: نص هذا الإمام، وأين مثله في تبحره، وذكائه، وتبصره بالملل والنحل؟ فلقد امتلأ الوجود بقوم لا يدرون ما السلف، ولا يعرفون إلا السلب، ونفي الصفات وردها،(3/137)
صم، بكم، غتم، عجم، يدعون إلى العقل، ولا يكونون على النقل; فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ذكر قول الإمام أبي عمر: محمد بن عبد الله الأندلسي الطلمنكي المالكي:
قال في كتاب الأصول - وهو مجلدان -: أجمع المسلمون من أهل السنة أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة أن الله على العرش على الحقيقة، لا على المجاز; ثم ساق بسنده عن مالك، قوله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان; ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنه، على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ونحو ذلك من القرآن، أن ذلك علمه، فإن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، هذا لفظه في كتابه.
فانظر إلى حكاية إجماع المسلمين من أهل السنة، على أن الله استوى على عرشه بذاته، وأطلق هذه اللفظة غير واحد من أئمة السنة، وحكاها كثير من العلماء عن الأئمة الكبار، كما تقدم عن الحافظ أبي نصر السجزي وغيره; فكيف نقموها على ابن أبي زيد وحده لما ذكرها في رسالته؟ ! كما ذكره الذهبي; وكان الطلمنكي هذا من كبار الحفاظ، وأئمة القراء بالأندلس، عاش بضعا وثمانين سنة، وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة.(3/138)
ذكر قول شيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني: قال في رسالته في السنة:
ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته، على عرشه، كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة، وأعيان الأئمة من السلف، لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وإمامنا الشافعي احتج في المبسوط، في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة بخبر معاوية بن الحكم: "فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة السوداء، ليعرف أمؤمنة أم لا، فقال لها: أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، إذ كانت أعجمية، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "، حكم بإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
كان الصابوني هذا: فقيها محدثا، وصوفيا واعظا، كان شيخ نيسابور في زمانه، له تصانيف حسنة، سمع من أصحاب ابن خزيمة، والسراج، وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
ذكر قول الإمام، العالم العلامة، حافظ المغرب، إمام السنة في زمانه، أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري الأندلسي، صاحب التمهيد والاستذكار، والتصانيف النفيسة.
قال في كتاب التمهيد في شرح الحديث الثامن لابن(3/139)
شهاب: حديث النّزول هذا صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ، ومعنى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني على العرش، وقد تكون (في) بمعنى (على) ، ألا ترى إلى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] أي: على الأرض، وكذلك قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] ، وهذا يعضده قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] وما كان مثله في الآيات، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة.
وأما دعواهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغلبه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على الحقيقة، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب، من معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند(3/140)
السامعين.
والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار، والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] قال: علا، وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي: استقر، واحتج بقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [سورة القصص آية: 14] أي: انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد; قال ابن عبد البر: والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [سورة الزخرف آية: 13] الآية، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [سورة المؤمنون آية: 28] ، وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ} [سورة هود آية: 44] .
وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الله بن مجاهد عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.
فالجواب: أن هذا حديث منكر، ونقلته مجهولون، ضعفاء; فأما عبد الله بن داود الواسطي، وابن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف; وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل(3/141)
هذا الحديث لو عقلوا؟! أما سمعوا قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36] فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبا.
فإن احتج بقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] وبقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ، وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، زعموا أن الله في كل مكان بنفسه، وبذاته، تبارك اسمه وتعالى جده.
قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم، وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات، على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك: أنه في السماء إله معبود أهل السماء، وفي الأرض إله معبود أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التّنْزيل، يشهد أنه على العرش; فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر; وأما قوله في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد بأنه معبود أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع.
ومن الحجة أيضا: في أنه عز وجل على العرش، فوق السماوات السبع، أن الموحدين أجمعين، من العرب(3/142)
والعجم، إذا كربهم أمر ونزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين لها، مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى; هذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته; وقد " قال صلى الله عليه وسلم للأمة السوداء: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت رسول الله، قال: فأعتقها، فإنها مؤمنة "1 فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء.
قال: وأما احتجاجهم بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، قال: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وذكر سنيد عن الضحاك في هذه الآية، قال: هو على العرش، وعلمه معهم أينما كانوا; قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله; وقال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء والأرض، مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى أخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء، مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تبارك وتعالى على العرش، يعلم أعمالكم" وقد ذكر هذا الكلام، أو قريبا منه، في كتاب الاستذكار.
وقال أبو عمر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعين، الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى:
{مَا
__________
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3284) , وأحمد (2/291) .(3/143)
يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] هو على العرش، وعلمه في كل مكان; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وقال أيضا: أهل السنة مجمعون، على الإقرار بالصفات، الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك.
وأما الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة; ويزعمون: أن من أقر بها مشبه; وهم عند من أقر بها نافون للمعبود; قال الحافظ الذهبي: صدق والله، فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب، وأن يشابه المعدوم ولقد كان أبو عمر بن عبد البر، من بحور العلم، ومن أئمة الأثر، قل أن ترى العيون مثله; واشتهر فضله في الأقطار، مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، عن ست وسبعين سنة.
ذكر قول الإمام أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي:
قال في شرح الملخص - لما ذكر حديث النّزول -: وفي هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سماوات من غير مماسة1 ولا تكييف كما قال أهل العلم، ودليل قولهم قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
__________
1 لفظ المماسة مبتدع, لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة.(3/144)
[سورة الأعراف آية: 54] ،
وقوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [سورة المعارج آية: 2-3] والعروج هو الصعود; قال مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان; يريد بقوله: في السماء أي: على السماء - إلى أن قال -: وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء; وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء; لأن الاستيلاء في اللغة بعد المغالبة، والله لا يغالبه أحد; ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك; وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع ادعاء ذلك ما يجب التسليم له; ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين; والاستواء معلوم في اللغة، وهو العلو والارتفاع، والتمكن في الشيء.
فإن احتج أحد عليه وقال: لو كان كذلك لأشبه المخلوقات، لأن ما أحاطت به الأمكنة، واحتوت فهو مخلوق; قيل: لا يلزم ذلك، لأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ، ولأنه لا يقاس بخلقه، كان قبل الأمكنة; وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل، لا في مكان، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه؟ ! أو يجري(3/145)
بينه وبينهم تمثيل، أو تشبيه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فإن قال قائل: وصفنا ربنا بأنه كان في الأزل لا في مكان، ثم خلق الله الأماكن، فصار في مكان; وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال، إذا زال عن صفته في الأزل، صار في مكان دون مكان، قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، فإن قال: إنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن; فقد أوجد الأشياء والأماكن معه في أزليته، وهذا فاسد.
فإن قال: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟ ! قيل له: أما الانتقال وتغير الحال، فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه، لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا، وكذلك نقلته لا توجب مكانا، وليس هو في ذلك كالخلق، ولكنا نقول: استوى من لا مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحد، كما نقول: له عرش، ولا نقول له سرير; ونقول: هو الحليم، ولا نقول هو العاقل; ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول صديق إبراهيم; لأنا لا نسميه، ولا نصفه، ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه، ولا ندفع ما وصف به نفسه، لأنه دفع للقرآن.(3/146)
ذكر قول الحافظ: أبي بكر الخطيب رحمه الله تعالى
قال: أما الكلام في الصفات، فمذهب السلف: إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله; فإذا كان إثبات رب العالمين معلوما، فإنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف; فإذا قلنا: يد، وسمع، وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد: القدرة، ولا أن معنى، السمع، والبصر: العلم; ولا نقول: إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا تشبه بالأيدي، والأسماع، والأبصار التي هي جوارح، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] . انتهى.
قال الحافظ الذهبي: المراد بظاهرها أي: لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة، غير ما وضعت له; كما قال مالك وغيره: الاستواء معلوم; وكذلك القول في السمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والوجه، ونحو ذلك، هذه الأشياء معلومة فلا تحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في(3/147)
جميعها مجهول عندنا; قال: والمتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحدا سبقهم إليها; قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد.
فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران: أحدهما: أنه لا تأويل غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم; وكما قال سفيان، وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة معروفة، واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، وهذا مذهب السلف، مع اتفاقهم أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له في ذاته ولا في صفاته. الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد; فإن الله فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكنها ما لها مثل ولا نظير، فمن الذي عاينه ونعته لنا؟
والله إنا لعاجزون، كالون، حائرون، باهتون، في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة، إذا توفاها باريها، وكيف يرسلها، وكيف تنتقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره؟ ثم رآه في السماء السادسة، وحاوره، وأشار إليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم؟ وحجه آدم بالقدر(3/148)
السابق؟ وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟
وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم، وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم، وحسنهم، وصفاء جوهرهم النوراني؟ فالله أعلى وأعظم; وله المثل الأعلى، والكمال المطلق، ولا مثل له، وأصلا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 52] . انتهى كلام الذهبي; توفي الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ولم يكن ببغداد مثله في معرفة هذا الشأن.
ذكر قول الإمام عالم المشرق أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي.
قال في كتاب الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم: تأويلها والتزام ذلك في آي الكتاب، وما يصح من السنن; وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل، والذي نرتضيه دينا، وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل القاطع السمعي في ذلك، وأن إجماع الأمة حجة متبعة، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن(3/149)
التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فلتجر آية الاستواء، وآية المجيء، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] على ذلك.
قال الإمام أبو الفتح محمد بن علي: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرض موته، فقال لنا: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور; توفي إمام الحرمين سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وله ستون سنة، وكان من بحور العلم في الأصول والفروع، يتوقد ذكاء.
ذكر قول الإمام الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الإصبهاني مصنف كتاب: الترغيب والترهيب:
قال في كتاب الحجة: قال علماء السنة: إن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان. قال: وروي عن ابن عباس، في تفسير قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] قال: هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، ثم ساق الآثار; قال: وزعم هؤلاء، أن معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي ملكه، وأنه لا اختصاص له بالعرش أكثر مما له بالأمكنة، وهذا إلغاء لتخصيص العرش وتشريفه.(3/150)
قال أهل السنة: استوى على العرش، بعد خلق السماوات والأرض، على ما ورد به النص، وليس معناه: المماسة، بل هو مستو على عرشه بلا كيف، كما أخبر عن نفسه; قال: وزعم هؤلاء، أنه لا يجوز الإشارة إلى الله بالرؤوس، والأصابع، فإن ذلك يوجب التحديد؛ وأجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء، أن ذلك بمعنى: علو الغلبة، لا علو الذات; وعند المسلمين إن لله علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو; لأن العلو صفة مدح، فثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.
وفي منعهم الإشارة إلى الله تعالى من جهة الفوق، خلاف لسائر الملل لأن جماهير المسلمين وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله من جهة الفوق في الدعاء والسؤال واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة وقد أخبر عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [سورة آية: 36-37] فكان فرعون قد فهم عن موسى أنه يثبت إلها فوق السماء، حتى رام بصرحه أن يطلع إليه; واتهم موسى بالكذب في ذلك; والجهمية لا تعلم أن الله فوقها بوجود ذاته، فهم أعجز فهما من فرعون، بل وأضل; وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم بإيمان الجارية حين قالت: إن الله في السماء، وحكم الجهمي بكفر من يقول ذلك. انتهى كلام أبي(3/151)
القاسم رحمه الله، توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
ذكر كلام الإمام العالم العلامة أبي عبد الله القرطبي، صاحب التفسير الكبير.
قال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : هذه مسألة: قد بينا فيها كلام العلماء في كتاب الأسني في شرح الأسماء الحسنى، وذكرنا فيها أربعة عشر قولا ... إلى أن قال: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة، وخص عرشه بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة.
قال الحافظ الذهبي: وقال القرطبي أيضا في الاستواء: الأكثر من المتقدمين، والمتأخرين المتكلمين يقولون: إذا وجب تنْزيه الباري جل جلاله عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة أنه متى اختص بجهة، أن يكون في مكان وحيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للتحيز والتغير والحدوث; هذا قول المتكلمين.
ثم قال الذهبي: قلت: نعم، هذا ما اعتمده نفاة(3/152)
الرب عز وجل، أعرضوا عن الكتاب والسنة وأقوال السلف، وفطر الخلائق; وإنما يلزم ما ذكروه في حق الأجسام، والله تعالى لا مثل له، ولازم صرائح النصوص حق، ولكنا لا نطلق عبارة إلا بأثر.
ثم نقول: لا نسلم أن كون الباري على عرشه فوق السماوات يلزم منه أنه في حيز وجهة، إذ ما دون العرش يقال فيه حيز وجهات، وما فوقه فليس هو كذلك، والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة، وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان، محتجين بقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ؛ فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم.
فأما القول الثالث المتولد بآخره بأنه تعالى ليس في الأمكنة، ولا خارجا عنها، ولا فوق عرشه، ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متميزة، ولا بائنةعن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم، مع ما فيه من مخالفات الآيات والأخبار؛ ففر بدينك، وإياك وآراء المتكلمين؛ وآمن بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وفوض أمرك إلى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام الذهبي.(3/153)
ذكر قول الإمام محيي السنة: أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، صاحب معالم التنْزيل، قال عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : قال الكلبي ومقاتل: استقر; وقال أبو عبيدة: صعد; وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء; وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به، وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] : قال ابن عباس وأكثر المفسرين من السلف: ارتفع إلى السماء وقال في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] : الأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله ويعتقد أن الله منَزّه عن سمات الحدوث؛ على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة. وقال في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] : بالعلم. كان محيي السنة من كبار أئمة مذهب الشافعي، زاهدا ورعا، توفي سنة عشر وخمسمائة، وقد قارب الثمانين.
قال الحافظ الذهبي - لما ذكر قول الكلبي، ومقاتل المتقدم -: لا يعجبني قوله: استقر; بل أقول كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم. انتهى كلامه رحمه الله. وهذا الذي(3/154)
حكاه البغوي عن الكلبي ومقاتل، ذكره ابن جرير، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] قال: ارتفع وعلا، وقال الشيخ أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وقد علم أن بين مسمى الاستواء، والاستقرار، والقعود، فروقا معروفة.
ذكر قول الإمام، العالم العلامة، الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير: قال في تفسيره في سورة الأعراف: وأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فللناس في ذلك المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين، قديما وحديثا، وهو: إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل; والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه; و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي، شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها; فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله النقائص، فقد سلك سبيل الهدى. انتهى كلام الحافظ ابن كثير، وفيما نقلناه من كلام الأئمة خير كثير. ولو تتبعنا كلام العلماء في(3/155)
هذا الباب، لحصل منه مجلد كبير.
وقد أضربنا عن كلام الحنابلة صفحا، فلم ننقل منه إلا اليسير، لأنه قد اشتهر عنهم إثبات الصفات، ونفي التكييفات; فمذهبهم بين الناس مشهور، وفي كتبهم مسطور، وكلامهم في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يسطر، ولهذا كان أهل البدع يسمونهم الحشوية، لأنهم قد أبطلوا التأويل، واتبعوا ظاهر التَنْزيل، وخالفوا أهل البدع والتأويل. وأما غيرهم من أهل المذاهب، فكثير منهم قد خالفوا طريقة السلف، وسلكوا مسلك الخلف; فلهذا نقلنا كلام أئمة الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأئمة أهل الكلام، كابن كلاب، والأشعري، وأبي الحسن بن مهدي، والباقلاني، ليعلم الواقف على ذلك، أن هؤلاء الأئمة متبعون للسلف، يثبتون لله الصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، ويعرف أن هذا الاعتقاد الذي حكيناه عن شيخنا محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، هو الاعتقاد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وكلام الصحابة وسائر الأمة.
فنحن لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله; لا نتجاوز القرآن والحديث؛ وما تأوله السابقون الأولون تأولناه، وما أمسكوا عنه أمسكنا عنه; ونعلم أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله(3/156)
أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وليس كمثله شيء، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا، فإن الله منَزّه عنه حقيقة; فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع الحدوث لامتناع العدم عليه; فلا نمثل صفات الله بصفات الخلق، كما أنا لا نمثل ذاته بذات الخلق، ولا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نعطل أسماءه الحسنى وصفاته العلى; بخلاف ما عليه أهل التعطيل والتمثيل.
فالمعطلون لم يفهموا من صفات الله إلا ما هو اللائق بالمخلوق، فشرعوا في نفي تلك المفهومات بأنواع التأويل، فعطلوا حقائق الأسماء والصفات، وشبهوا الرب تبارك وتعالى بالجمادات العارية عن صفات الكمال ونعوت الجلال; فجمعوا بين التعطيل والتمثيل; عطلوا أولا، ومثلوا آخرا; والممثلون عطلوا حقيقة ما وصف الله به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال; وشبهوا صفاته بصفات خلقه; فمثلوا أولا، وعطلوا آخرا.
فمن فهم من نصوص الكتاب والسنة في صفات الرب جل وعلا ما يفهمه من صفات المخلوقين، فقد ضل في عقله ودينه، وشبه الله بخلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . ومن نفى ظاهر النصوص، وزعم أنه ليس لها في الباطن مدلول، هو صفة لله، وأن الله لا صفة له ثبوتية، أو يثبت بعض الصفات كالصفات السبع، ويؤول ما عداها، كقوله:(3/157)
استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، وكقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] أي: نعمتاه، نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، ونحو ذلك مما قد عرف من مذهب المتكلمين، فهؤلاء نفاة الصفات.
ومذهبهم مأخوذ عن جهم بن صفوان؛ فإن أول من حفظ عنه إنكار الصفات هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه; والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان انتشار مقالة الجهمية في المائة الثانية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته; وكلام الأئمة، مثل مالك، وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، في ذمه وتضليله كثير جدا.
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وتلقاها عنه الخلف، ونصروها، وقرروها; وكثير منهم يحكي القولين، فيذكر مذهب السلف ومذهب الخلف; ثم يقول: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، فصدق في قوله: مذهب السلف أسلم; وكذب وافترى في قوله: ومذهب الخلف أعلم وأحكم; بل مذهب السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، كما تقدم تقريره.(3/158)
فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين; وأن يجنبنا طريق المنحرفين عن المنهج القويم، من المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الصفات]
سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، هل يقال في جميعها: صفات قائمة بالذات فقط؟ أو يقال ذلك في بعضها؟ ويقال في بعضها: صفات أفعال؟ فأجاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، يظهر بذكر ما كان عليه السلف الصالح، رضي الله عنهم، ومتبوعيهم من أهل السنة والجماعة، وذكر اختلاف مَنْ بعد السلف في الأفعال الاختيارية، فنقول: اعلم أن السلف رضي الله عنهم، من الصحابة والتابعين وأتباعهم، لا يرون توسعة الكلام في ذلك، لما قام في قلوبهم من معرفة الله بأسمائه وصفاته; ولم يكونوا يتحاشون عن إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله سبحانه، تمسكا بالقرآن والأثر; فلا يشبهون الله بخلقه، ولا يحرفون معاني أسمائه(3/159)
وصفاته بلا علم.
وعلى هذا أئمة الإسلام بعدهم، كالأئمة الأربعة ومن في طبقتهم، ومن بعدهم من أئمة الحديث وغيرهم ممن سلك سبيلهم في العلم والدين، كما ينقله العلماء رحمهم الله ويروونه، كالأثرم صاحب الإمام أحمد، في كتاب السنة، وأبي بكر الخلال في كتاب السنة، بالسند المتصل عن الفضيل بن عياض رحمه الله، أنه كان يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْوَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة آية: 1-2-3-4] . فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه ... إلخ.
وقال أبو عثمان الصابوني، الملقب شيخ الإسلام، في رسالته المشهورة في السنة: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنُزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف; بل: يثبتون له ما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه; وروى بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم، قال: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا "1 كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب: كيف؟ إنما ينْزل بلا كيف. وبإسناده عن عبد الله بن المبارك، أنه سأله سائل عن النّزول ليلة النصف من شعبان؟ فقال
__________
1 البخاري: التوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) .(3/160)
عبد الله: يا ضعيف! ليلة النصف! يَنْزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، كيف يَنْزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد الله بن المبارك: يَنْزل كيف شاء.
وقال أبو عثمان الصابوني: فلما صح خبر النّزول، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النّزول، على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها له بنُزول خلقه، وعلموا، وعرفوا، وتحققوا، واعتقدوا: أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما تقوله المشبهة والمعطلة، علوا كبيرا، ولعنهم لعنا كبيرا; فقلت: قد صنف الناس من أهل الحديث أتباع السلف في هذا المعنى مصنفات كثيرة، كالإمام أحمد، وبعض أصحابه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وأبي بكر الأثرم، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وغيرهم من أئمة الإسلام، وردوا على معتزلة الجهمية ونحوهم ما نفوه من قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى.
قال شيخ الإسلام، في كتاب العقل والنقل: أهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله من الصفات والأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته؛ والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا; وأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، ووافقه على هذا أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن(3/161)
الأشعري، وغيرهما. وأهل السنة والجماعة على إثبات النوعين; وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني، وعثمان بن سعيد، وغيرهما.
ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث، كالبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهم من العلماء الذين أدركهم محمد بن إسحاق بن خزيمة، كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته من أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة حلول الحوادث; ويقولون: إن الله منَزّه عن الأعراض، والأبعاض، والحوادث، والحدود; ومقصودهم نفي الصفات، ونفي الأفعال، ونفي مباينته للخلق، وعلوه على العرش.
وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات، أهل السنة، بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب; فإنهم إذا قالوا: إن الله مُنَزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منَزّه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام; ولا ريب أن الله مُنَزّه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا.(3/162)
وكذلك إذا قالوا: إن الله مُنَزّه عن الحدود، والأحياز، والجهات، أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحويه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح; ومقصودهم أنه ليس مباينا للخلق، ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدا لم يعرج به إليه، ولم يَنْزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه بشيء، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية.
وإذا قالوا: إنه ليس بجسم، أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق; وهذا المعنى صحيح; ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى، ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك; وإذا قالوا: لا تحله الحوادث، أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين، فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح؛ ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام، ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء، أو نزول، أو إتيان، أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها، لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا; بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل(3/163)
ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك، وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا، وخالفوهم في إثبات الصفات; وكان ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه بنفسه فوق المخلوقات.
والأشعري وأئمة أصحابه، كأبي الحسن الطبري، وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي، والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن، كالاستواء، والوجه، واليدين، وإبطال تأويلها، ليس لهم في ذلك قولان أصلا; ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلا، بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم، يذكر أن ذلك قوله.
وأما مسألة: قيام الصفات الاختيارية، فإن ابن كلاب، والأشعري، وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم، بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم، وشاع النّزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم.
وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته: القاضي أبو يعلى، وأتباعه كابن(3/164)
عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة، وهذا تارة; وممن يخالفهم في ذلك: أبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو عبد الله بن مندة، وأبو نصر السجزي، ويحيى بن عمار السجستاني، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو عمر بن عبد البر، وأمثالهم; وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعض المتفلسفة أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف، وإن أنكروه، وقرر ذلك.
وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير، يوجد في كتب التفسير والأصول; قال إسحاق بن راهويه: حدثنا بشر بن عمر، سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: ارتفع; وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع; قال: وقال مجاهد: استوى: علا على العرش; قال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: قال ابن عباس، وأكثر مفسري السلف: "اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارتفع إلى السماء"، وكذلك قال الخليل بن أحمد; وروى البيهقي في كتاب الصفات: قال الفراء: {ثُمَّ اسْتَوَى} أي: صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعدا، فاستوى قائما; وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: " وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ".(3/165)
والتفاسير المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي بكر بن مردويه; وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد، وغيرهم، ومن قبلهم، مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير عبد الرزاق، وتفسير سنيد، ووكيع بن الجراح، فيها من هذا الباب والموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يحصى; وكذلك الكتب المصنفة في السنة، التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين.
وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، في مسائله المعروفة، التي نقلها عن أحمد وإسحاق، وغيرهما، وذكر معهما من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وغيرهم، ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات، قال في آخره في الجامع، باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها; وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز، والشام، وغيرهم عليها؛ فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع، خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق; وهو مذهب(3/166)
أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم، ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم.
وذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمامة، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأمر البرزخ، والقيامة، وغير ذلك - إلى أن قال -: وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده; والله على عرشه عز ذكره، وتعالى جده، ولا إله غيره؛ والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم، ويتحرك، ويسمع، ويبصر، وينظر، ويقبض، ويبسط، ويفرح، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو، ويغفر ويعطي، ويمنع وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء وكما شاء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ... إلى أن قال: ولم يزل الله متكلما عالما {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] .
قال البخاري: وقال الفضيل بن عياض: "إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء" قال البخاري: وحديث يزيد بن(3/167)
هارون عن الجهمية، فقال: من زعم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] على خلاف ما تقرر في قلوب العامة، فهو جهمي.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات، لما ذكر مقالة أهل السنة وأهل الحديث، فقال: ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينْزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر ... "1 كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن به الله; ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] قال الأشعري: وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول، وإليه نذهب.
وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل قيل له: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم عز وجل؟ ويكلمونه؟ ويكلمهم؟ قال: نعم ينظر إليهم وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه، كيف شاء وإذا شاء. قال: وأخبرني عبد الله بن حنبل، أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي: نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) .(3/168)
حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده حاد; فصفات الله له ومنه; وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار; وهو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب ولا يدركه وصف واصف; وهو كما وصف نفسه، وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته، وسلطانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وكان الله قبل أن يكون شيء، والله هو الأول، وهو الآخر، ولا يبلغ أحد حد صفاته.
قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى: " ينْزل إلى السماء الدنيا "1، " وأن الله يضع قدمه " 2، أو ما أشبه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف، ولا معنى، أي: لا نكيفها، ولا نحرفها بالتأويل، فنقول معناها كذا، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] .
وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] في ذاته، كما وصف به نفسه، قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فنتعبد الله بصفاته، غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف
__________
1 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/419 ,2/487 ,2/504) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1479) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4848) .(3/169)
به نفسه; قال: فهو سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه وله، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا تبلغه صفة الواصفين; نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته، لشناعة شنعت; وما وصف به نفسه، من كلام، ونزول، وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة. والتسليم لله بأمره، بغير صفة ولا حد، إلا ما وصف به نفسه، سميع، بصير، لم يزل متكلما، عليما، غفورا، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب; فهذه صفات، وصف بها نفسه، لا تدفع ولا ترد.
وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطاعة له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] وهو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وهو كما وصف نفسه سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، قال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [سورة مريم آية: 42] فنثبت: أن الله سميع بصير، صفاته منه، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر " يضحك الله "1 ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن، لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة; قلت له: والمشبهة ما يقولون؟
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2826) , ومسلم: الإمارة (1890) , والنسائي: الجهاد (3166) , وابن ماجه: المقدمة (191) , وأحمد (2/318 ,2/463 ,2/511) , ومالك: الجهاد (1000) .(3/170)
قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه.
فقول أحمد: إنه ينظر إليهم كيف شاء، وإذا شاء، وقوله: هو على العرش كيف شاء، وكما شاء، وقوله: هو على العرش بلا حد كما قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] كيف شاء، المشيئة إليه، والاستطاعة له، ليس كمثله شيء، يبين أن نظره، وتكليمه، وعلوه على العرش، واستواءه على العرش، مما يتعلق بمشيئته، واستطاعته; وقوله: بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده حاد، نفى به إحاطة علم الخلق به، وأن يحدوه، أو يصفوه، على ما هو عليه، إلا بما أخبر به عن نفسه، ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه; ولهذا قال أحمد: لا تدركه الأبصار بحد، ولا غاية، فنفى أن يدرك له حد أو غاية، وهذا أصح القولين، في تفسير الإدراك.
وذكر الخلال أيضا: قال المروذي: قال: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء، في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام، وبطون الأودية، وفي كل(3/171)
موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع، وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علما، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر إلا قد عرف ذلك كله، وأحصاه، فلا يعجزه معرفة شيء، عن معرفة غيره؛ فهذا وأمثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، بينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك، وربيعة، وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره، وكيفيته.
وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف، وقد ذكره ابن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكي في كتابه في الأصول; ورواه أبو بكر الأثرم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، أنه قال: أما بعد، فقد فهمت ما سألت عنه، فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها، في صفة الرب العظيم، الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكَلّت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول عن معرفة قدره ... إلى أن قال: فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يُعرَف قدر من لا يموت ولا يبلي، وكيف يكون لصفة(3/172)
شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ !
والدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه ... إلى أن قال: اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لا يصف الرب من نفسه، بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها; إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بشيء من ذلك على شيء من طاعته؟ أو تَنْزجر به عن شيء من معصيته؟ وذكر كلاما طويلا - إلى أن قال: -
فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه، تعمقا وتكلفا قد: {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام آية: 71] ، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا، من أن يكون له كذا; فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، ووصف الرب بما لم يسم، فلم يزل يملي له الشيطان، حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة آية: 22-23] فقال: لا يراه أحد يوم القيامة; فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر آية: 55] قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينظرون; وذكر كلاما طويلا، كتب في غير هذا الموضع.(3/173)
وقال الخلال في السنة: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله، وكذب القرآن، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، يستتاب في هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال: وسمعت أبا عبد الله قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [سورة النساء آية: 164] ، فأثبت الكلام لموسى، كرامة منه لموسى ثم قال تعالى بعد كلامه: تكليما. قلت لأبي عبد الله: الله عز وجل يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم; فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل، يكلم عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء، وإذا شاء. قال الخلال: أخبرنا محمد بن علي بن بحر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل: عمن زعم أن الله لم يتكلم. قال: بلى، تكلم بصوت; وهذه الأحاديث كما جاءت، نرويها، لكل حديث وجه; يريدون أن يموهوا على الناس; من زعم أن الله لم يكلم موسى، فهو كافر; حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا، وكذا".(3/174)
قال الخلال: وحدثنا أبو بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت، فهو جهمي، عدو لله، وعدو للإسلام; فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن ما قال! عافاه الله.
وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي، عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت; فقال أبي: بل تكلم تبارك وتعالى بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت; وحديث ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي، سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان ; قال أبي: الجهمية تنكره; قال أبي: وهؤلاء كفار، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم، فهو كافر; إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت.
قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به، ليس هو الصوت المسموع من العبد; بل ذلك صوته، كما هو معلوم لعامة الناس; وقد نص على ذلك الأئمة، أحمد وغيره; فالكلام المسموع منه هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا رجل يحملني إلى قومه، لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي "1 رواه أبو داود وغيره.
وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال: يذكر عن
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن (2925) , وأبو داود: السنة (4734) , وابن ماجه: المقدمة (201) , وأحمد (3/390) , والدارمي: فضائل القرآن (3354) .(3/175)
النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب "1، وليس هذا لغير الله عز وجل، قال أبو عبد الله البخاري: وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمع من بعد، كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذاً ينادى الملائكة، ثم يصعقون قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 22] فليس لصفة الله ند ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين.
ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس، الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح، تارة يجزم به، وتارة يقول: ويذكر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان; لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة " وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك; فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار; قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "2.
وروى أبو جعفر بن جرير في تفسيره، عن ابن
__________
1 أحمد (3/495) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4741) .(3/176)
عباس، في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سورة سبأ آية: 23] الآية قال:?"لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الرسول من الملائكة، فبعث بالوحي، سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم، سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا، وأنه منجز ما وعد، قال ابن عباس: وصوت الوحي، كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوه خروا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ آية: 23] ".
وقال الحافظ أبو نصر السجزي، في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن: اعلموا، أرشدنا الله وإياكم، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم، من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب، والقلانسي، والأشعري، وأقرانهم، الذين تظاهروا بالرد على المعتزلة، وهم معهم بل أحسن حالا منهم في الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات.
وعبر عن هذا المعنى الأوائل، الذين تكلموا في العقليات، وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات مقطعة; وقالت - يعني علماء العربية-: الكلام، اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى; فالاسم، مثل: زيد وعمرو; والفعل، مثل: جاء، وذهب؛ والحرف: الذي يجيء لمعنى، مثل: هل، وبل، وقد، وما شاكل ذلك; فالإجماع منعقد بين(3/177)
العقلاء، على كون الكلام حرفا وصوتا.
فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يجيزون أصول أهل السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار أحاد، وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام: حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض; وما كان بهذه المثابة، لا يجوز أن يكون من صفات الله تعالى، لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات; قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى، خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما تقول: خلق الله، وعبد الله، وفعل الله.
قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل، فالتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة، المسلم والكافر; وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز، لكونه حكاية وعبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم; فمنهم من اقتصر(3/178)
على هذا القول، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: تنافي السكوت والخرس، والآفات المانعة من الكلام; ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه. وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل:
إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فغيروه وقالوا: إن الكلام من الفؤاد، وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم، في قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [سورة المجادلة آية: 8] ، وفي قول الله عز وجل {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [سورة يوسف آية: 77] ، واحتجوا بقول العرب: أرى في نفسك كلاما، وفي وجهك كلاما; فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت، والنائم; ولهم في حال الخرس، والسكوت، والنوم، كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام; وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها، من غير رد عليه; ومن علم منه خرق إجماع الكافة، ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله، لم يناظر، بل يجاب ويقمع.
وقال أيضا أبو نصر: خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل، فقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه، على الحقيقة بلا(3/179)
ترجمان؟ فقال: نعم، وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لا يخبر مذهبهم، وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري محال، لأن سماع الخلق على ما جبلوا عليه من البينة، وأجروا عليه من العادة، لا يكون البتة، إلا لما هو صوت، أو في معنى الصوت; وإذا لم يكن كذلك، كان الواصل إلى معرفة من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما، كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعا على التجوز، لقربه من معناه; فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت، فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري.
قال: فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه، على أصلكم، محال، وليس هاهنا من تتقيه وتخشى تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه، بلطيفة منه، حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله; والذي أريد: أن ألزمك، وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه، ودع المصانعة; ما تقول في موسى عليه السلام، حيث كلمه الله، أفهم كلام الله مطلقا؟ أم مقيدا؟ فتلكأ قليلا، ثم قال: ما تريد بهذا؟
فقلت: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبى، وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت أريد: أنك إن قلت، إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا، اقتضى أن لا يكون لله كلام، من الأزل إلى(3/180)
الأبد، إلا وقد فهمه موسى; وهذا يؤول إلى الكفر; فإن الله تعالى يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ، ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالما بالغيب، وبما يقول الله تعالى; وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام، أنه يقول: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول: أفهمه الله ما شاء من كلامه، دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله، ومن قبل رسول الله; وأنت أبيت ألا تقبل ذلك، وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقلاء إلى موافقة النص خاسرا، فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام.
وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي، في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، وذكر اثني عشر إماما: الشافعي، ومالكا، والثوري، وأحمد، وابن عيينة، وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه والبخاري، وأبا زرعة، وأبا حاتم، ثم قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي، ومذهب الشافعي، وفقهاء(3/181)
الأمصار: أن القرآن كلام الله، غير مخلوق ومن قال: مخلوق، فهو كافر.
والقرآن حمله جبرائيل مسموعا من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرائيل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين وفي صدورنا، مسموعا، ومكتوبا، ومحفوظا، ومنقوشا، وكل حرف منه، كالألف، والباء، كله كلام الله غير مخلوق؛ ومن قال: مخلوق، فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة، والناس أجمعين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأبو إسحاق الشيرازي، وغير واحد، بينوا مخالفة الشافعي، وغيره من الأئمة، لقول ابن كلاب والأشعري، في مسألة الكلام، التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها اختصاص، بل ما قالاه قاله غيرهما، إما من أهل السنة وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب، في مسألة الكلام، واتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف.
وأصله في ذلك هي: مسألة الصفات الاختيارية، ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته، هل تقوم بذاته؟ أم لا؟ وكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا; والجهمية من المعتزلة وغيرهم(3/182)
تنكر ذلك مطلقا، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به، وما يتعلق بمشيئته وقدرته؛ ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه، كالقلانسي، والأشعري، ونحوهما، بأن في أقوالهم: بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا، أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال.
وقد ذكر الأشعري في رسالته، إلى أهل الثغر، بباب الأبواب: إنه طريق مبتدع في دين الرسول، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري، كالخطابي، وأمثاله، يذكرون ذلك، لكن مع هذا وافق ابن كلاب، لأنه يرى بطلان هذه الطريقة عقلا، وإن لم يقل أن الدين محتاج إليها، فلما رأى من رأى صحتها، لزمه إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه؛ ومنشأ اضطراب الفريقين اشتراكها في أنه: لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته; فلزم هؤلاء إذا جعلوه يتكلم بقدرته واختياره، أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه; ولزم هؤلاء إذا جعلوه غير مخلوق أن لا يكون قادرا على الكلام، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بما يشاء.
والمقصود هنا أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه، لما وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء، في أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة كلام الله من الله، ليس ببائن(3/183)
عنه; وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود; فقالوا: منه بدا، ردا على الجهمية الذين يقولون: بدا من غيره، ومقصودهم أنه هو المتكلم به، كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] ، وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [سورة السجدة آية: 13] ، وأمثال ذلك.
ثم إنهم مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا، اعتقدوا هذا الأصل; وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له، متعلقاً بمشيئته، بناء على هذا الأصل، الذي وافقوا فيه المعتزلة; فاحتاجوا حينئذ إلى أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا; قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحدا، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات ما لا نهاية له; فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم.
وأنكر الناس عليهم أمورا: إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر; وجعل القرآن العزيز ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنَزّل ليس هو كلام الله، وأن التوراة، والإنجيل، والقرآن، إنما تختلف عباراتها; فإذا عبروا عن التوراة بالعربية كان هو القرآن، وأن الله لا يقدر أن يتكلم،(3/184)
ولا يتكلم بمشيئته واختياره; وتكليمه لمن كلم من خلقه، كموسى وآدم، ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم؛ فالتكلم هو خلق الإدراك فقط.
ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن. ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا من غيره إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه. ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ، مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير; وإذا انتفى اللازم، انتفى الملزوم.
وكذلك من قال: لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة، وهو لا يقدر على التكلم بها، ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل، من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام، المنتسبين إلى السنة; فجمهور العقلاء يقولون: إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة; وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفا منظومة، وصوتا مسموعا من المتكلم; وأما من قال: إن الصوت المسموع من القارئ(3/185)
قديم، أو سمع منه صوت قديم، أو محدث، فهذا أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الكلام عليه; وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر، ليس هذا موضع استقصائه.
وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل، فأكثر من أن تحصر; وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه، كما ذكر الخلال في كتاب السنة قال: أخبرنا المروذي قال: هذا ما احتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن، وكتبه بخطه، وكتبته من كتابه، فذكر المروذي آيات كثيرة دون ما ذكر الخضر بن أحمد عن عبد الله بن أحمد، وقال فيه: سمعت أبا عبد الله يقول: في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع، يعني الجهمية.
قال الخلال: وأنبأنا الخضر بن أحمد بن المثنى الكندي، سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي، فيما احتج به على الجهمية، وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور، فذكر آيات كثيرة تدل على هذا الأصل، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة آية: 186] ، وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(3/186)
سورة البقرة آية: 117] ،
وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران آية: 59] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [سورة آل عمران آية: 77] .
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [سورة الأنعام آية: 73] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [سورة الأعراف آية: 143] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 110] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة يونس آية: 19] ، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة هود آية: 119] ، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 3] ، وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [سورة الكهف آية: 109] .
وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 11-14] إلى قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}(3/187)
[سورة طه آية: 46] .
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة طه آية: 39] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [سورة طه آية: 129] ، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [سورة آية: 83-84] .
وقوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [سورة الأنبياء آية: 87-88-89-90] ، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59] ، وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] ، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس آية: 82] .
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 171-173] ، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67] ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي(3/188)
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة غافر آية: 68] ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى آية: 14] ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 51] ، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [سورة الزخرف آية: 55] ، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [سورة المجادلة آية: 1] .
قال شيخ الإسلام: وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 29] ، وقوله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة فصلت آية: 9] ، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت آية: 11] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 158] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [سورة النحل آية: 33] ، وقوله تعالى:(3/189)
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وقوله تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [سورة التوبة آية: 94] ، وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 105] ، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة يونس آية: 14] ، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في غير موضع من القرآن.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل آية: 40] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16] ، وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11] ، وقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [سورة الرحمن آية: 29] ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص آية: 62] ، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الشعراء آية: 10] ، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف آية: 22] ، وقوله تعالى: {كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [سورة الشعراء آية: 15] ، وقوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58] ، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [سورة الزمر آية: 23] ، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [سورة الجاثية آية: 6] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}(3/190)
[سورة النساء آية: 87] .
وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى بل يدخل في ذلك: عامة ما أخبر الله به من أفعاله، لا سيما المرتبة، كقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [سورة الضحى آية: 5] ، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [سورة الليل آية: 7] ، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [سورة الليل آية: 10] ، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [سورة الغاشية آية: 25-26] ، وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة آية: 17] ، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [سورة الانشقاق آية: 8] ، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} [سورة الطلاق آية: 8] ، وقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} [سورة عبس آية: 25-26] ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم آية: 27] ، وقوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [سورة المرسلات آية: 16-17] ، ونحو ذلك؛ لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول، والخلق ليس هو المخلوق، وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم; وقد قرر هذا في غير هذا الموضع.
ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: إن الفعل قديم، لازم للذات، لا يتعلق بمشيئته وقدرته. ومنهم من يقول: يتعلق بمشيئته، وقدرته، وإن قيل إن نوعه متقدم،(3/191)
فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص، وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط، من غير تجدد فعل، كان هذا بمنْزلة من يتأول نصوص الإرادة، والحب، والبغض، والسخط، على أن التجدد ليس أيضا إلا للمخلوقات التي تراد، وتحب، وتسخط; وكذلك نصوص القول، والكلام، والحديث، ونحو ذلك، على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق، والإتيان، والمجيء، وليس إلا مخلوقا من المخلوقات; فهذه التأويلات كلها من نمط واحد، ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث.
ثم ملاحدة الباطنية يقولون: إن الرسل أرادوا إفهام الناس ما يتخيلونه، وإن لم يكن مطابقا للخارج، ويجعلون ذلك بمنْزلة ما يراه النائم، فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها، كرؤيا يوسف، والملك، بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقا لباطنها; وأما المسلمون من أهل الكلام، فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا، فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها، وإما أن يقولوا لا ندري ما أراد; فهم إما في جهل بسيط، أو مركب; ومدار هؤلاء كلهم، على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص; وقد بين أهل الإثبات: أن العقل مطابق موافق لما جاءت به النصوص، لا معارضا له، لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن(3/192)
والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر.
فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك، ومن عرف حقيقة قول النفاة، علم أن القرآن مناقض لذلك، مناقضة لا حيلة لهم فيها، وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات، وغير أفعاله; ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال، لما كان يحتاج أن يقال: الأفعال ليست هي نفس المخلوقات، فإن المعقول عند جميع الناس أن الفعل المتعدي إلى مفعول ليس هو نفس المفعول; لكن النفاة عندهم: إن المخلوقات هي نفس فعل الله، ليس له فعل عندهم إلا نفس المخلوقات; فلهذا احتيج إلى البيان.
ومما يدل على هذا الأصل ما علق بشرط، كقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 2-3] ، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، وقوله: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29] ، وقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1] ، وقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الكهف آية: 23-24] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ(3/193)
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [سورة محمد آية: 28] .
وبالجملة: فهذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر; وكذلك الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" 1، وقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ "2، وقوله في حديث الشفاعة: " إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله "3، وقوله: " إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات كجر السلسلة على الصفا "4، وقوله: " إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة "5.
وقوله في حديث التجلي: " فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون "6، وقوله: " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته "7، وهذا الحديث: مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من غير وجه، من حديث ابن مسعود وأبي هريرة; وقوله: " يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما صاحبه، كلاهما يدخل الجنة "، وفي حديث: آخِر من يدخل الجنة، قال: " فيضحك الله منه "، وقوله: " ما منكم من أحد إلا
__________
1 البخاري: الرقاق (6502) .
2 البخاري: المغازي (4147) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .
4 أبو داود: السنة (4738) .
5 سنن أبي داود: كتاب الصلاة (924) , ومسند أحمد (1/435) .
6 البخاري: الأذان (806) , ومسلم: الإيمان (182) .
7 مسلم: التوبة (2747) .(3/194)
سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان "1.
وفي حديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين،. فإذا قال: العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 3] ، قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، قال: مجدني عبدي "، وقوله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم "ينْزل الله تعالى إلى سماء الدنيا شطر الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فاغفر له؟ "3، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله، فلما أصبح الرجل، وغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لقد ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما "4، وأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر آية: 9] . وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين.
وفي السنن: من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الركوب على الدابة، قال: " فقلت؟ يا رسول الله، من أي شيء تضحك؟ قال: ربك يضحك إلى عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري "، وفي لفظ: " إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا
__________
1 البخاري: التوحيد (7443) , ومسلم: الزكاة (1016) , وأحمد (4/256) .
2 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: التوبة (2675) , والترمذي: الدعوات (3603) , وابن ماجه: الأدب (3822) , وأحمد (2/251 ,2/413) .
3 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) .
4 البخاري: المناقب (3798) , ومسلم: الأشربة (2054) , والترمذي: تفسير القرآن (3304) .(3/195)
يغفر الذنوب غيره"1، وفي حديث أبي رزين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين، أو يضحك الرب؟ قال: نعم. فقال: لن نعدم من رب يضحك، خيرا "2.
وفي الصحيحين وغيرهما في حديث التجلي الطويل المشهور، الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وفي مسلم من حديث جابر، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود، وغيره، قال في حديث أبي هريرة، قال: " أولست قد أعطيت العهود والمواثيق، أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله تبارك وتعالى منه، ثم يأذن له في دخول الجنة ".
وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فيقول الله يا ابن آدم، أترضى إن أعطيتك الدنيا، ومثلها معها؟ فيقول: أي رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟ فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ بك، ولكني على ما أشاء قادر "3 وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يضحك الله إلى
__________
1 الترمذي: الدعوات (3446) , وأبو داود: الجهاد (2602) .
2 ابن ماجه: المقدمة (181) , وأحمد (4/11 ,4/12) .
3 مسلم: الإيمان (187) , وأحمد (1/410) .(3/196)
رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه الله إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ".
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم قال: " عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل "1، وفي حديث معروف: " لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه، ويسبغه، ثم يأتي إلى المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله له، كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته "2، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون "3، وفي لفظ: "مستخلفكم فيها، لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء "4، وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "5.
وفي الصحيحين: عن أبي واقد الليثي، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في أصحابه، إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس; وأما رجل فجلس، يعني خلفهم; وأما رجل فانطلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:. ألا أخبركم عن هؤلاء النفر؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة، فرجل آوى إلى الله، فآواه الله; وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة، فاستحيا، فاستحيا الله منه; وأما الرجل الذي انطلق، فأعرض، فأعرض الله عنه " وعن سلمان الفارسي موقوفا،
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (3010) , وأبو داود: الجهاد (2677) , وأحمد (2/302 ,2/448) .
2 أحمد (2/340) .
3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , والترمذي: الفتن (2191) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22) .
4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) , والترمذي: الفتن (2191) , وابن ماجه: الفتن (4000) , وأحمد (3/19 ,3/22 ,3/61) .
5 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) .(3/197)
ومرفوعا، قال: " إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه إليه، يسأله فيهما خيرا، فيردهما صفرا خائبتين "1.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي; ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه; وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه ". وفي الصحيح عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالت عائشة: إنا نكره الموت، قال: ليس بذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، إن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه، وكره لقاء الله، وكره الله لقاءه "2.
وفي الصحيحين: عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله "3 وفي الصحيحين: عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة; فيقولون: لبيك وسعديك; فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا
__________
1 أحمد (5/438) .
2 البخاري: الرقاق (6507) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2683 ,2684) , والترمذي: الجنائز (1066) والزهد (2309) , والنسائي: الجنائز (1836 ,1837) , وأحمد (5/316 ,5/321) , والدارمي: الرقاق (2756) .
3 البخاري: المناقب (3783) , ومسلم: الإيمان (75) , والترمذي: المناقب (3900) , وابن ماجه: المقدمة (163) , وأحمد (4/283 ,4/292) .(3/198)
نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك; فيقول عز وجل أنا أعطيكم أفضل من ذلك; قالوا: يا ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا "1، وفي الصحيحين عن أنس قال: " نزل علينا، ثم كان من المنسوخ: أبلغوا قومنا، أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا" 2 وفي حديث عمر بن مالك الرواسي، قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن الرب ليرضى فيرضي، فارض عني، فرضي عني ".
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين صبر، ليقتطع بها مال امرء مسلم - وهو فيها فاجر -، لقي الله وهو عليه غضبان "3 وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، وقال: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله "4. وفي صحيح مسلم: عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله ملكا فصورها، وخلق الله سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب، ذكر أو أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك; فيقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك الصحيفة في يده،
__________
1 البخاري: الرقاق (6549) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2829) , والترمذي: صفة الجنة (2555) , وأحمد (3/88) .
2 البخاري: المغازي (4091) , وأحمد (3/210 ,3/288) .
3 البخاري: تفسير القرآن (4550) , ومسلم: الإيمان (138) , وأحمد (1/442) .
4 مسلم: الجهاد والسير (1793) , وأحمد (2/317) .(3/199)
ولا يزيد على ما أمر، ولا ينقص "1.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "2. وفي حديث آخر: " أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه، وعقابه، وشر عباده "3، وفي الصحيحين: عن أنس في حديث الشفاعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول لي: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. وذكر مثل هذه ثلاث مرات "4.
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "5.
وفي الصحيحين أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله ملائكة، فضلا عن كتّاب الناس، سياحين في الأرض، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيخرجون حتى يحفوا بهم إلى السماء الدنيا، قال: فيقول الله عز وجل أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟ قال، فيقولون: تركناهم يحمدونك،
__________
1 مسلم: القدر (2645) .
2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , ومالك: النداء للصلاة (497) .
3 أحمد (4/57) .
4 البخاري: التوحيد (7410) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116) .
5 البخاري: مواقيت الصلاة (555) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632) , والنسائي: الصلاة (485) , وأحمد (2/257 ,2/312 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (413) .(3/200)
ويسبحونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا وأشد ذكرا، قال: فيقول: فأي شيء يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا; قال: فيقول: من أي شيء يتعوذون؟ قال: فيقولون: يتعوذون من النار; قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا; قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا، وأشد منها هربا; قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم; قال: فيقولون: إن فيهم فلانا الخطاء، لم يردهم، إنما جاء لحاجة، قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ".
وفي الصحيحين: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا أحب عبدا نادى جبرائيل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبرائيل. ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض "1 وقال في البغض مثل ذلك; وفي الصحيحين: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن
__________
1 البخاري: بدء الخلق (3209) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2637) , ومالك: الجامع (1778) .(3/201)
اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "1.
وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة، وأبي سعيد، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله، إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده "2.
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلا أصاب ذنبا، فقال: رب إني أصبت ذنبا، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي; ثم مكث ما شاء الله. ثم أذنب ذنبا آخر، فقال: أي رب، إني قد أذنبت ذنبا، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما يشاء "3 وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "4. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أمامه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة، فليفعل، فإن لم يجد، فبكلمة طيبة "5.
وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
__________
1 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) , والترمذي: الدعوات (3603) .
2 أحمد (3/49) .
3 البخاري: التوحيد (7507) , ومسلم: التوبة (2758) , وأحمد (2/405) .
4 البخاري: الرقاق (6519) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه: المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي: الرقاق (2799) .
5 البخاري: التوحيد (7443) , ومسلم: الزكاة (1016) .(3/202)
النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية، قال فيه: " فيلقى العبد فيقول: أي فلان، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس، وتربع؟ فيقول: بلى يا رب; قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني; ثم يلقى الثاني فيقول: أي فلان، فذكر مثل ما قال الأول. وبلغ الثالث، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقول: فهاهنا إذن. قال: ثم يقال: ألا نبعث شاهدا عليك؟ ففكر في نفسه، من الذي يشهد عليه؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه، بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق " فذكر الحديث.
وفي صحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: فكفى بنفسك عليك شهيدا، والكرام الكاتبين عليك شهودا، قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكن، وسحقا، فعنكن كنت أناضل "1، وفي الصحيحين، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
1مسلم: الزهد والرقائق (2969) .(3/203)
" يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول له: قد أردت منك ما هو أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا أن تشرك بي "1.
وفي الصحيحين، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب، فيقرره، ثم يقول: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: ثم يعطى كتاب حسناته، وهو قوله: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وأما الكفار والمنافقون فينادون: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ".
وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ قال: فيقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، فيقول: أي رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه؟ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي، قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول: أما علمت أن
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3334) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2805) , وأحمد (3/129) .(3/204)
عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي "1.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا "2، وهذا فيه ذكر المخاطبة، وذكر الرضوان جميعا; وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار: رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة; فيقول: إن الجنة ملأى; فيقول له ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يعيد: الجنة ملأى; فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات "3.
وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم، فاقتطعه، ورجل حلف على يمين بعد العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب; ورجل منع فضل ماء؛ يقول الله: اليوم أمنعك من فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك "4 وفي صحيح مسلم: عن أبي ذر، عن
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2569) , وأحمد (2/404) .
2 البخاري: الرقاق (6549) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2829) , والترمذي: صفة الجنة (2555) , وأحمد (3/88) .
3 البخاري: التوحيد (7511) .
4 البخاري: المساقاة (2369) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .(3/205)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ث لاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم "1 قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: " المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة "2، وهذان الحديثان: فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس، كما في القرآن مثل ذلك؛ وأما نفي التكليم وحده، ففي غير حديث، وهذا الباب فيه: أحاديث كثيرة جدا يتعذر استقصاؤها، ولكن نبهنا ببعضه على نوعه.
والأحاديث جاءت في هذا الباب، كما جاءت الآيات، مع زيادة تفسير في الحديث، كما أن أحاديث الأحكام، تجيء موافقة لكتاب الله، مع تفسيرها لمجمله، ومع ما فيها من الزيادة التي لا تعارض القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وامتن على المؤمنين بأن {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [سورة آل عمران آية: 164] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه " 3: وفي رواية: "ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر ".
فالحكمة التي أنزل الله عليه مع القرآن، وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن، من أنواع
__________
1 البخاري: الشهادات (2672) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480) .
2 مسلم: الإيمان (106) , والترمذي: البيوع (1211) , والنسائي: الزكاة (2563 ,2564) والبيوع (4458 ,4459) والزينة (5333) , وأبو داود: اللباس (4087) , وابن ماجه: التجارات (2208) , وأحمد (5/148 ,5/158 ,5/162 ,5/168 ,5/177) , والدارمي: البيوع (2605) .
3 أبو داود: السنة (4604) .(3/206)
الخبر والأمر; فخبره موافق لخبر الله، وأمره فكأنه يأمر بما في الكتاب، وبما هو تفسير ما في الكتاب، وبما لم يذكر بعينه في الكتاب; فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب، كخلقه، ورزقه، وعدله، وإحسانه، وإثابته، ومعاقبته، ويذكر فيها أنواع كلامه، وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده، ويذكر فيها ما يذكره من رضاه، وسخطه، وحبه، وبغضه، وفرحه، وضحكه، وغير ذلك من الأمور، التي تدخل في هذا الباب.
وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في كافيته:
وهو المقدم والمؤخر ذانك الـ ... صفتان للأفعال تابعتان
وهما صفات الذات أيضا إذ هما ... بالذات لا بالغير قائمتان
ولذاك قد غلط المقسم حين ظـ ... ـن صفاته نوعين مختلفان
إن لم يرد هذا ولكن قد أرا ... د قيامها بالفعل ذي الإمكان
والفعل والمفعول شيء واحد ... عند المقسم ما هما شيئان
فلذاك وصف الفعل ليس لديه إلا ... نسبة عدمية ببيان
فجميع أسماء الفعال لديه ليـ ... ست قط ثابتة ذوات معان
موجودة لكن أمور كلها ... نسب ترى عدمية الوجدان
هذا هو التعطيل للأفعال كالتـ ... عطيل للأوصاف بالميزان
فالحق أن الوصف ليس بمورد التـ ... قسيم هذا مقتضى البرهان
بل مورد التقسيم ما قد قام بالذا ... ت التي للواحد الرحمن
فهما إذا نوعان أوصاف وأفـ ... عال فهذي قسمة التبيان
فالوصف بالأفعال يستدعي قيا ... م الفعل بالموصوف بالبرهان(3/207)
كالوصف بالمعنى سوى الأفعال ما ... إن بين ذينك قط من فرقان
ومن العجائب أنهم ردوا على ... من أثبت الأسماء دون معان
قامت بمن هي وصفه هذا محا ... ل غير معقول لذي الأذهان
وأتوا إلى الأوصاف باسم الفعل قا ... لوا لم تقم بالواحد الديان
فانظر إليهم بطلوا الأصل الذي ... ردوا به أقوالهم بوزان
إن كان هذا ممكنا فكذاك قو ... ل خصومكم أيضا فذو إمكان
[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن فرق الجهمية والرافضة والمعتزلة]
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن الجهمية، والرافضة، والمعتزلة.
فأجاب: لا ريب أن هذه الفرق الثلاث، هي أصل ضلال من ضل من هذه الأمة، فأصل الرافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فلما اطلع على سوء معتقدهم خد الأخاديد، وجعل فيها الحطب، وأضرمها بالنار، فقذفهم فيها.
وهم الذين أحدثوا الشرك في صدر هذه الأمة، بنوا على القبور، وعمت بهم البلوى، ولهم قواعد سوء يطول ذكرها.
وأما المعتزلة، فأولهم نفاة القدر، جحدوا أصلا من أصول الإيمان، الذي في سؤال جبريل للنبي، قال: "فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، والقدر خيره وشره "1. وأنكر الصحابة رضي الله عنهم: ما أحدثوا من هذه البدعة، ولهم عقائد سوء، يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار; ونفوا
__________
1 مسلم: الإيمان (8) , وأبو داود: السنة (4695) .(3/208)
صفات الرب تعالى، ووافقوا الجهمية.
فخرج أولهم في عصر التابعين; وأولهم الجعد بن درهم، أنكر الصفات، وزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، أمير واسط، يوم الأضحى. وظهر بعده جهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية، وهذا المذهب الخبيث; وانتشرت مقالته في خلافة بني العباس، في خلافة المأمون بن الرشيد، فعطلوا الصفات، ونفوا الحكمة، وقالوا بالجبر.
فهذه الطوائف الثلاث هم أصل الشر في هذه الأمة، وصارت فتنة الجهمية أكثر انتشارا، ودخل فيها من يدعي أنه على السنة وليس كذلك، فخالف الكتاب والسنة، وسلف الأمة وأئمتها؛ وعم ضررهم، فجحدوا الصفات، وتوحيد الإلهية، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
فهم خصوم أهل التوحيد والسنة إلى اليوم، فإياكم أن تغتروا بمن هذه حاله، ولو كان له صورة ودعوى في العلم، ممن امتلأ قلبه من فرث التعطيل، وحال بينه وبين فهم الأدلة الصحيحة الصريحة، شبهات التأويل.
قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس; فصنف المتأخرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنفات، كالأرجوزة التي يسمونها: جوهرة(3/209)
التوحيد; وهي إلحاد وتعطيل، لا يجوز النظر إليها، ولهم مصنفات أخر نفوا فيها علو الرب تعالى؛ وأكثر صفات كماله نفوها، ونفوا حكمة الرب تعالى.
والكتاب والسنة يرد بدعتهم، ويبطل مقالتهم; فإن الله تعالى أثبت استواءه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59] ، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] إلى غير ذلك من أدلة الصفات الصريحة في الكتاب والسنة، ولا تتسع هذه الرسالة لذكرها.
وهذه الطائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماد؛ فلقد أعظموا الفرية على الله، وخالفوا أهل الحق من السلف والأئمة وأتباعهم; وخالفوا من ينتسبون إليه، فإن أبا الحسن الأشعري، صرح في كتابه الإبانة، والمقالات، بإثبات الصفات; فهذه الطائفة المنحرفة عن الحق قد تجردت شياطينهم لصد الناس عن سبيل الله، فجحدوا توحيد الله في الإلهية، وأجازوا الشرك الذي لا يغفره الله، فجوزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتعطيل.(3/210)
فالأئمة من أهل السنة وأتباعهم لهم المصنفات المعروفة في الرد على هذه الطائفة الكافرة المعاندة، كشفوا فيها كل شبهة لهم، وبينوا فيها الحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من كل إمام رواية ودراية.
ومن له نهمة في طلب الأدلة على الحق، ففي كتاب الله وسنة رسوله ما يكفي ويشفي; وهما سلاح كل موحد ومثبت; لكن كتب أهل السنة، تزيد الراغب، وتعينه على الفهم; وعندكم من مصنفات شيخنا رحمه الله، ما يكفي مع التأمل; فيجب عليكم هجر أهل البدع، والإنكار عليهم.
وأما الإفغانية الذين جاؤونا ووصلوا إلى جهتكم، فهم أهل تشديد وغلو، مع جهل كثيف، أشبهوا الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمروقهم، وأمر أصحابه بقتلهم، ولهم عبادة وزهد; لكنهم: أخطؤوا في فهم الكتاب والسنة، واستغنوا بجهلهم عن أن يأخذوا العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان
وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنه أهل النهروان، فرجع بعضهم إلى الحق، واستمر بعضهم على الباطل، حتى قتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان; وفيهم المخدج الذي(3/211)
أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت هذه الطائفة قد خرجت في عهد الخلفاء الراشدين، فلا بد أن يكون لهم أشباه في هذه الأمة، فاحذروهم; وتأمل قوله تعالى في حق سادات الأمة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 7-8] ، فليس العجب ممن هلك، كيف هلك، إنما العجب ممن نجا، كيف نجا، والله أعلم.
[الجواب عن أسئلة من عمان صدرت من جهمي ضال]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
أما بعد: فقد وردت علينا أسئلة من عمان، صدرت من جهمي ضال، يستعجز بها بعض المسلمين، فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم، وما لا فائدة فيه لا يحتاج إلى الاشتغال بالجواب عنه. فمما ينبغي أن نجيب عنه، قوله: إن الاسم مشتق من السمو، أو من السمة، واشتقاق الاسم من هذين، ذكره العلماء رحمهم الله تعالى في كتبهم، لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟ وما معنى الاشتقاق الذي يذكره(3/212)
العلماء؟ فنطلب منه الجواب عن هذين الأمرين؟ وإن كانا مذكورين في كتب النحاة، وغيرهم; وقد ذكرته في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
وأما سؤاله عن الفرق بين القضاء والقدر؟ فالقدر أصل من أصول الإيمان، كما في سؤال جبريل عليه السلام، وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال:
" الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "، وفي الحديث الصحيح: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة"1 أي: جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف يكون {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 3] .
وأما القضاء: فيطلق في القرآن ويراد به إيجاد المقدر، كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [سورة فصلت آية: 12] ، وقوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 14] ؛ ويطلق ويراد به: الإخبار بما سيقع مما قدر، كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [سورة الإسراء آية: 4] أخبرهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين؛ ويطلق ويراد به الأمر والوصية، كما قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/317) .(3/213)
[سورة الإسراء آية: 23] ،
أي: أمر ووصى؛ ويطلق ويراد به: الحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الزمر آية: 69] ؛ ويطلق ويراد به القدر، ونحو ذلك.
وأما ما زعمه من أن الأدلة الدالة على استوائه على عرشه، لا تمنع أن يكون مستويا على غيره.
فالجواب، أن نقول: قد أجمع أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، على أنه لا يجوز أن يوصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو جهمي، ضال مضل، يقول على الله بلا علم; وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه: في سورة "الأعراف"، وفي سورة "يونس"، وفي سورة "الرعد"، وفي سورة "طه"، وفي سورة "الفرقان"، وفي سورة "السجدة"، وفي سورة "الحديد". ولم يذكر تعالى أنه استوى على غير العرش، ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه ليس من صفاته التي يجوز أن يوصف بها; فمن أدخل في صفات الله ما لم يذكر في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فهو جهمي، يقول على الله ما لا يعلم.
وقد قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل(3/214)
آية: 50]
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة آية: 255] ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ آية: 23] علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات; لا يجوز أن يوصف إلا بذلك كله، لكماله تعالى في أوصافه؛ فله الكمال المطلق، في كل صفة وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى:
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [سورة غافر آية: 15] ، فذكر العرش عند هذه الصفة، من أدلة فوقيته تعالى، كما هو صريح فيما تقدم من الآيات; وكقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [سورة الشورى آية: 5] الآية.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [سورة الحديد آية: 3] الآية: " اللهم: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 فقوله: "فليس فوقك شيء" نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات; وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون، والنصوص الدالة على
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) .(3/215)
إثبات الصفات، كثيرة جدا.
وقد صنف أهل السنة من المحدثين والعلماء، مصنفات كبارا، ومن ذلك: كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة; وكتاب "التوحيد" لإمام الأئمة: محمد بن خزيمة; وكتاب "السنة" للأثرم صاحب الإمام أحمد، و "كتاب" عثمان بن سعيد الدارمي، في رده على المريسي; وكتاب "السنة" للخلال، وكتاب "العلو" للذهبي; وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ولله الحمد والمنة.
ونذكر بعض الأحاديث الصريحة في المعنى، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي حاتم، عن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال رعدة شديدة، خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا، وخروا لله سجدا. فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد. ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مر على سماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق، وهو العلي الكبير; فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي، إلى حيث أمره الله عز وجل ".
ففي هذا الحديث التصريح بأن جبرائيل ينْزل(3/216)
بالوحي من فوق السماوات السبع، فيمر بها كلها نازلا إلى حيث أمره الله، وهذا صريح بأن الله تعالى فوق السماوات على عرشه، بائن من خلقه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بم نعرف ربنا؟ قال: "بأنه على عرشه، بائن من خلقه" وهذا قول أئمة الإسلام قاطبة، خلافا للجهمية الحلولية، والفلاسفة، وأهل الوحدة، وغيرهم من أهل البدع، فرحم الله أهل السنة والجماعة، المتمسكين بالوحيين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
" إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش "1، وفي حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات وما بينهما، ثم قال: " وفوق ذلك بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، ما بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش، ما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك "2.
وفي حديث ابن مسعود، الذي رواه عبد الرحمن بن مهدي، شيخ الإمام أحمد، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، قال: " بين السماء
__________
1 البخاري: التوحيد (7554) , ومسلم: التوبة (2751) , وابن ماجه: الزهد (4295) , وأحمد (2/259 ,2/313 ,2/358 ,2/381 ,2/397 ,2/433 ,2/466) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وابن ماجه: المقدمة (193) , وأحمد (1/206) .(3/217)
الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تعالى فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". والجهمية جحدوا هذه النصوص، وعاندوا في التكذيب، فصاروا بذلك كفارا عند أكثر أهل السنة والجماعة.
وهذا القدر الذي ذكرنا كاف في بيان ما عليه أهل السنة والجماعة، من علو الله تعالى على جميع المخلوقات، واستوائه على عرشه؛ وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك; ولو ذهبنا نذكر ما ورد في ذلك، لاحتمل مجلدا، فالحمد لله الذي حفظ على الأمة دينها، في كتابه وسنة رسوله، وبنقل العلماء الذين هم في هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، وهدانا إلى ذلك؛ فأبطل الله بالعلماء كل بدعة وضلالة، حدثت في هذه الأمة، فيا لها من نعمة، ما أجلها في حق من تلقى الحق بالقبول، وعرفه، ورضي به! نسأل الله أن يجعلنا شاكرين لنعمه، مثنين بها عليه، فله الحمد لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه.
فأهل السنة والجماعة عرفوا ربهم بما تعرف به إليهم من صفات كماله اللائقة بجلال الله، فأثبتوا له(3/218)
تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، وعرفوه بأفعاله وعجائب مخلوقاته; وبما أظهره لهم من عظيم قدرته، وبما أسبغه عليهم من عظيم نعمه، فعبدوا ربا أحدا صمدا، إلها واحدا، وهو الله الذي الإلهية وصفه; فالخلق خلقه، والملك ملكه، لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في ملكه، تعالى وتقدس، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ?مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2] ، ونزهوه عما تنَزه عنه، وعن كل ما فيه عيب ونقص، وعن كل ما وصفته الجهمية وأهل البدع، مما لا يليق بجلاله وعظمته.
وأما الجهمية، فعطلوه من صفات الكمال، وصاروا إنما يعبدون عدما، لأنهم وصفوه بما ينافي الكمال، ويوقع في النقص العظيم، فشبهوه بالناقصات تارة، وبالمعدوم تارة، فهم أهل التشبيه، كما عرفت من حالهم وضلالهم ومحالهم.
وأما ما أورده هذا الجهمي الجاهل من آيات العلم، كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فلا منافاة بين استوائه على عرشه وإحاطة علمه بخلقه، والسياق يدل على ذلك: أما الآية الأولى، فهي مسبوقة بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي(3/219)
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سورة الحديد آية: 4] .
ذكر استواءه على عرشه، وذكر إحاطة علمه بما في الأرض والسماوات، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، أي بعلمه المحيط بما كان وما يكون.
وأما الآية الثانية: فهي كذلك مسبوقة بالعلم، وختمها تعالى به، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فعلم أن المراد: علمه بخلقه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، وهذا المعنى الذي ذكرنا، هو الذي عليه المفسرون من الصحابة والتابعين والأئمة، وجميع أهل السنة والجماعة.
وأما الجهمية وأهل البدع، فحرموا معرفة الحق، لانحرافهم عنه، وجهلهم به، وبالقرآن والسنة، كما قال العلامة بن القيم، رحمه الله تعالى:
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الإيمان.
ومن المعلوم أنه لا يقبل الحق إلا من طلبه، وأما أهل(3/220)
البدع، فأشربوا في قلوبهم ما وقعوا فيه من البدع، والضلال، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون.
فإذا عرف ذلك، فيتعين أن نسأل هذا الجهمي وغيره من المبتدعة، عن أمور لا يسع مسلما أن يجهلها، لأن الإسلام يتوقف على معرفتها.
فمن ذلك، ما معنى كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله؟ وما الإلهية المنفية بلا النافية للجنس؟ وما خبرها؟ وما معنى الإلهية التي ثبتت لله وحده، دون ما سواه؟ وما أنواع التوحيد؟ وألقابه؟ وأركانه؟ وما معنى الإخلاص، الذي أمر الله به عباده، وأخبرهم أنه له وحده؟ وما تعريف العبادة التي خلقوا لها؟ وما أقسام العلم النافع، الذي لا يسع أحدا جهله؟ وما معنى اسم الله تعالى، الذي لا يسمى بهذا الاسم غيره؟ وما صفة اشتقاقه من المصدر الذي هو معناه؟
فالجواب عن هذا مطلوب; والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(3/221)
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى راشد بن مطر]
وله أيضا، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، ومن أحبه ووده; من عبد الرحمن بن حسن، إلى أخيه: راشد بن مطر، سلمه الله تعالى، وزاده علما وإيمانا، وتوفيقا، وتحقيقا، وإذعانا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل إلي خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال، من معرفة الإسلام، ومحبته، وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها، ولا أنفع {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، ففضله: الإسلام والإيمان; وقيل: القرآن، وهما متلازمان; ورحمته: أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي رضي الله عنه الآية بهذا.
وما ذكرت من قيام الجهمية، والرافضة، والمعتزلة، عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث، قد ابتلى بهم أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا;(3/222)
وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه، ناله منهم عناء ومشقة؛ فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة يمتحن حزبه بحربه، كما جرى للرسل من أعدائهم في الدين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان آية: 31] ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3] .
وبعد الابتلاء والامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل، وجبت عداوته والبراءة منه، ومفارقته بالقلب والبدن.
وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله تعالى على عرشه فهو قول الجهمية، سواء بسواء; وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] في ستة مواضع، وكقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق; وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}(3/223)
[سورة الملك آية: 16]
الآيتين؛ وكل هذه الآيات نصوص في علو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف.
وقول هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالي، قد وصفوه بما يوصف به المعدوم; وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود، القائم على كل نفس بما كسبت; وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة، كقوله في حديث الرقية: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك "1 الحديث; وجوهرة السنوسي، ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهمية.
ومذهبهم: أن القرآن عبارة عن كلام الله، لا أنه كلامه تكلم به; وخالفوا الكتاب والسنة; قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [سورة الفتح آية: 15] ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 27] ، والأدلة على هذا كثيرة جدا; والأشعري له كتب في إثبات الصفات، وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء، تبرأ منه في كتابه الإبانة، والمقالات، وغيرها.
__________
1 أبو داود: الطب (3892) .(3/224)
وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات، لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم إيمانهم بآيات الصفات; وأما من جحد توحيد الإلهية ودعا غير الله، فلا شك في كفره، وقد كفره القرآن; والسنوسي، وأمثاله من المتأخرين، ليسوا من السلف، ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم.
والخلف فيهم من انحرف عن السنة إلى البدع، وفيهم من تمسك بالسنة، فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة، وأما ابن حجر الهيتمي فهو من متأخري الشافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، ففي كلامه حق وباطل.
وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي، فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام لعدم وروده على هذا الوجه؛ وأما أهل البدع، فيجب هجرهم والإنكار عليهم، إذا ابتليتم بهم; وتأملوا مصنفات الشيخ، وتأملوا كلامه رحمه الله، تجدوا فيه البيان، والفرقان; وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تمسكت بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأما الأفغانية، الذين جاؤونا، فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج، معهم غلو، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو، وأخبر(3/225)
عن الخوارج أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأمر بقتلهم; وسبب غلوهم: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، فأداهم جهلهم، وقصورهم في الفهم، إلى أن كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين.
فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم; والذين هاجروا إلينا وبايعونا، ما ندري عن حقيقة أمرهم; وعلى كل حال، إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال، بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته؛ فإنه رحمه الله بين، وحقق، والسلام.
وأجاب أيضا: وأما قول أهل التأويل للصفات: إن الله تعالى منَزه عن الجهات، فهذه شبهة، أرادوا بها نفي علو الرب على خلقه، واستوائه على عرشه، وقد ذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة آية: 255] في آية الكرسي وغيرها من القرآن; فأثبت لنفسه العلو بأنواعه الثلاثة: علو القهر والقدرة، وعلو الذات; ومن نفى علو الذات، فقد سلب الله تعالى وصفه، وقد قال(3/226)
تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، وحديث المعراج الذي تواترت به السنة يدل على علو الله على خلقه، وأنه على عرشه فوق سماواته، وهذا مذهب سلف الأمة، وأئمتها; ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، تعالى الله عما يقول المحرفون المنحرفون علوا كبيرا.
وقال أيضا على قول الشيخ ابن غنام رحمه الله، في كتابه "العقد الثمين" وقوله: "وكتبه" أي: أنها منَزلة من عنده، وأنها كلامه القديم، قال:
اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتكلم إذا شاء; وقوله: وأنها كلامه القديم، هذا قول الكرامية ; وأهل السنة لا يقولون هذا، بل يقولون: إنها وحيه أوحاه إلى جبريل، وسمع كلام الرب تعالى، وبلغه رسله، وكتب تعالى التوراة بيده، كما صح ذلك على ما يليق بجلاله، وهذا قول السلف؛ وجميع ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، يثبتون ذلك إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، فلا ينفون ما أثبته، ولا يثبتون ما نفاه،1 والله أعلم.
__________
1 وتقدم في صفحة 339 , 340 ج1.(3/227)
[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن قول الخطيب الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره]
بسم الله الرحمن الرحيم
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى عن قول الخطيب: الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمديته، وكنه ذاته؟
فأجاب: هذه الألفاظ، ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم; فإنهم الذين تاهوا، وتحيروا في الإيمان الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلا فطريقة القرآن حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته، وما يعرف به، ويوجب الإيمان به ومعرفته وإثبات ربوبيته وصفات كماله؛ فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد المرسلين، ودعوا به الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الذي هو توحيد الإلهية; فإن الرب الذي أبدع لخلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته وتصرفه في مخلوقاته، هو الرب الذي لا يستحق العبادة غيره.
فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم، والعمل; فقد قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [سورة الأنعام آية: 1] فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته، من عظيم(3/228)
مخلوقاته، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه من إلهيته، فقال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة، بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد.
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [سورة الكهف آية: 1] فحمد نفسه على إنزال الكتاب الذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، وهو يقتضي الإيمان بالكتب والرسل؛ وهو صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء; فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن; يحمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه، ليعرفوه بذلك الذي أبدعه، وأوجده، وأنعم به، كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة فاطر آية: 1] الآية، وأمثال هذا في القرآن.
وبتدبره والعلم به يحصل به كمال الإيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها، وصفاته; فكل ما وصف به نفسه، فلا حيرة فيه عند أهل الإيمان الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم.
وأما أهل الجدل من أهل الكلام، فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله.(3/229)
كتب بعض تلامذة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن له كتابا، وقال في آخره:
إنه على ما يشاء قدير، فقال الشيخ عبد الرحمن: هذه كلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير، إذا سأل الله شيئا قال: وهو القادر على ما يشاء، وهذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرا، وكل ما في القرآن: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة آية: 120] وليس في القرآن والسنة، ما يخالف ذلك أصلا، لأن القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم: صفتان شاملتان، يتعلقان بالموجودات والمعدومات; وإنما قصد أهل البدع بقولهم: وهو القادر على ما يشاء، أي: القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت المشيئة به.
وكتب إليه أيضا يهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر، وتوسل إلى الله في دعائه بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو.
فكتب إليه قال: وذكرت في وسيلة دعوتك، جزاك الله أحسن الجزاء عن تلك الدعوات، قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت; فاعلم: أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة; وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة، على ما يليق بالله، فيقال: استواء لا يشبه استواء المخلوق،(3/230)
ومعناه ثابت لله، كما وصف به نفسه، وأما الكيف، فلا يعلمه إلا الله، فتنبه لمثل هذا، فالإمام مالك تكلم بلسان السلف.
[رسائل الشيخ أبي بطين]
قال الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد جرت مناظرة بيننا وبينكم في كلام الله تعالى، هل هو مخلوق، أم لا؟ فذكرت أن اختياركم الوقف: فلا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق; وزعمت أن الخلاف في ذلك لفظي.
فأما قولكم: إن الخلاف في ذلك لفظي، فليس الأمر كذلك; وإنما يقال: الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة; لأن المعتزلة يقولون: كلام الله مخلوق; والأشاعرة يقولون: ليس بمخلوق; والكلام عندهم: المعنى; ويقولون: الحروف مخلوقة; فقالت المعتزلة: لا خلاف بيننا وبينكم، لأن الكلام هو الحروف، فإذا أقررتم بأن الحروف مخلوقة، ارتفع النّزاع، فيكون الخلاف بين الفريقين(3/231)
لفظيا. وأما مذهب أهل السنة والجماعة، فهو مخالف للمذهبين خلافا معنويا، لأنهم يقولون: كلام الله غير مخلوق; والكلام عندهم: اسم للحروف والمعاني; فتبين بذلك غلط من قال: إن الخلاف في ذلك لفظي.
ومذهب أهل التوحيد والسنة: أن الله يتكلم بحرف وصوت ; وأن القرآن كلام الله: حروفه ومعانيه; وأن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة; والقرآن والسنة يدلان على ذلك دلالة صريحة، ولله الحمد والمنة، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، ففرق بين الإيحاء المشترك، وبين التكليم الخاص.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [سورة الأعراف آية: 143] ، وقال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف آية: 144] ، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [سورة الكهف آية: 109] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 27] ، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [سورة الأنعام آية: 115] ، وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [سورة البقرة آية: 75] ، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ(3/232)
كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] .
والآيات في ذلك كثيرة.
وأما السنة فأكثر من أن تحصى; منها: أمره صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بكلمات الله، في عدة أحاديث، وقوله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان "1. فمن قال: إن الله لا يتكلم، فقد رد على الله ورسوله، وكفره ظاهر; وقد ذكرتم أن العرب يضيفون الفعل إلى غير الفاعل، فهذا لا ينكر، أعني وجود المجاز في لغة العرب.
وأما وقوع المجاز في القرآن، ففيه خلاف بين الفقهاء، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن أكثر الأئمة لم يقولوا: إن في القرآن مجازا؛ ورد القول بوجود ذلك في القرآن، واستدل بأدلة كثيرة؛ وعلى تقدير جواز وجوده في القرآن، فمن المعلوم أنه لا يجوز صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد، ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها، كالأنكحة، والطلاق، والأقارير، وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين.
وأيضا فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد، قصده البيان والهدي والدلالة، والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ،
__________
1 البخاري: التوحيد (7443) , ومسلم: الزكاة (1016) .(3/233)
وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته، لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه.
قال شيح الإسلام ابن تيمية، في أثناء كلام له: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين، إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين، الذي بين للناس ما أنزل إليهم، يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل ... إلى أن قال: وهذا كلام بين لا مخلص لأحد عنه، انتهى.
وأيضا فالأدلة الدالة على أن الله يتكلم حقيقة، أكثر من أن يمكن ذكرها ها هنا؛ فإن الله سبحانه فرق بين الإيحاء المشترك بين الأنبياء، وبين التكليم الخاص لموسى، فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، فلو لم يكن موسى عليه السلام سمع كلام الله منه بلا واسطة، لم يكن له مزية على غيره من(3/234)
الرسل، ولم يكن في تخصيصه بالتكليم فائدة، ولم يسم كليم الله; وقد قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف آية: 144] .
وأيضا، فقد قال الفراء: إن الكلام إذا أكد بالمصدر، ارتفع المجاز، وثبتت الحقيقة، وقد أكد الفعل بالمصدر، في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [سورة الشعراء آية: 10] ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 11-12] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] ، الآية، ففي هذا ونحوه، دلالة صريحة أن الله كلم موسى وناداه بنفسه بلا واسطة، وموسى سمع كلام الله ونداءه، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: {إني أنا الله رب العالمين} .
وقد ذكر الإمام أحمد، رحمه الله، في كتاب: الرد على الجهمية، عن الزهري، قال: لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته، هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى، هو كلامي; وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان; ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك بقدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا: صف لنا كلام ربك; فقال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟!(3/235)
قالوا: فشبهه; قال: هل سمعتم أصوات الصواعق، التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله; وروى عبد الله بن أحمد، في كتاب: السنة قال: حدثني محمد بن بكار قال: أخبرنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: قال بنو إسرائيل لموسى: بم شبهت صوت ربك، حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته، بصوت الرعد حين لا يترجع.
وأيضا في الصحيحين عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة، فليفعل "1، وروى جابر بن عبد الله، قال لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى، قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا، قال يا عبد الله، تمن علي أعطك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 2") رواه ابن ماجه وغيره; ففي هذين الحديثين ما يبطل دعوى مدعي المجاز، ويدحض
__________
1 أحمد (4/377) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3010) , وابن ماجه: المقدمة (190) .(3/236)
حجته، ويرغم أنفه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه "1 يعني: القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت، فلن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قرأ عليه قرآن مسيلمة الكذاب، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إل، يعني: رب; فوضح بما ذكرناه: أن الله يتكلم حقيقة، وأن من ادعى المجاز بعد هذا البيان، فقد شاق الله ورسوله، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
[فصل ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق]
فصل: وقد ذكرتم ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق، وهو قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد آية: 3] ، ولا يشك من له عقل أن من دل الخلق على أن كلام الله مخلوق، بقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد آية: 3] لقد أبعد النجعة; وهو إما ملغز، وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "2، مع أنه ليس في هذه الآية شبهة لمن احتج بها، فلله الحمد والمنة; ولا يشبه بها على رعاع الناس إلا من أزاغ الله قلبه، نسأل الله العافية.
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن (2911) , وأحمد (5/268) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وابن ماجه: المقدمة (47) , وأحمد (6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256) , والدارمي: المقدمة (145) .(3/237)
وقلتم: الحروف يلزمها التعاقب، ويتقدم بعضها بعضا، فيلزم أن تكون مخلوقة، قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج; والله سبحانه وتعالى غير موصوف بذلك.
وأيضا: فواجب على كل مكلف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارض بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ؛ فمن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
[فصل في القول بأن القرآن غير مخلوق لم يقله السلف]
فصل: وقلتم: إن القول بأن القرآن غير مخلوق، لم يقله السلف، وإن عدم القول بذلك هو الصواب، وأنه هو اعتقادكم، فلا تقولون مخلوقا ولا غير مخلوق. فأما قولكم: إن هذا القول لم يقله السلف; فلا ندري، من يعني بالسلف عندكم؟ فإن كان يعني بالسلف عندكم: جعد، وجهم، وابن أبي دؤاد، وأتباعهم، كأبي علي الجبائي، وأبي هاشم، وأتباعهم من الجهمية والمعتزلة، فصدقتم بأن هؤلاء لم يقولوا هذه المقالة، وإنما قالوا: القرآن مخلوق، وبعدا لمن كان هؤلاء سلفه، واستبدل سبيلهم بسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.
وما عوض لنا منهاج جهم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين(3/238)
وإن كان يعني بالسلف عندكم: الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام، الذين لهم لسان صدق في الأمة، الذين رفع الله قدرهم وأعلى منْزلتهم، الذين هم سلف الأمة حقا، فأخطأتم في نسبة عدم القول بذلك إليهم; فإنهم كلهم مجمعون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق; قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن: "ليس بخالق، ولا مخلوق; ولكنه كلام الله، منه بدا وإليه يعود" ذكر هذا الكلام عن علي، الشيخ الحافظ عبد الغني المقدسي، وذكر أيضا عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنهما قالا: القرآن كلام الله، منه بدا وإليه يعود.
فقولهم رضي الله عنهم: منه بدا، أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه; ليس هو كما تقوله الجهمية: أنه خلق في الهواء، أو غيره، أو بدا من غير الله.
وأما إليه يعود، فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف.
وقال سفيان بن عيينة: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا، والناس، منذ سبعين سنة يقولون: "القرآن كلام الله، غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود" رواه محمد بن جرير، وهبة الله بن الحسن، الطبريان في كتاب السنة لهما، وقد أدرك عمرو بن دينار: أبا هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يدل على(3/239)
شهرة القول بذلك في زمن الصحابة رضي الله عنهم، الذين أدركهم عمرو بن دينار، على شهرته عند التابعين، وأنهم كلهم على ذلك.
وقال البخاري: حدثنا سفيان ابن عيينة قال: "أدركت مشيختنا، منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار، يقولون: القرآن كلام الله، غير مخلوق". فعمرو بن دينار حكاه عن مشيخته والناس، وسفيان حكاه أيضا عن مشيخته; فهذا صريح في الدلالة على اشتهار هذا القول في القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلام أئمة الإسلام في ذلك أكثر من أن يمكن ذكره هنا; كأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث، والثوري، والشافعي، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، والبخاري، وغيرهم من أئمة الحديث، وكلهم على ذلك مجمعون، ولكتاب ربهم وسنة نبيهم متبعون، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك.
قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء، في جميع الأمصار، حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، ويمنا، فكان في مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله، غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله، وأن الله تعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ،(3/240)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
وقد ذكرتم: أن بعض السلف قال بخلق القرآن، كابن المديني; فلا شك أن ابن المديني وابن معين، وغيرهما من أئمة الحديث، أجابوا في المحنة كرها، واعتذروا بالإكراه، لما عاب عليهم الأئمة، وهجرهم الإمام أحمد، ولم يعذرهم، واحتج عليه ابن معين بعمار رضي الله عنه حين أكرهه أهل مكة على كلام الكفر; ورد عليه أحمد، بأن قال: إن عمارا ضرب، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم، ومن المعلوم: أنه لم يثبت في المحنة إلا القليل، والأكثرون: أجابوا مكرهين; ومن نسب القول بذلك إلى ابن المديني أو غيره من أهل الحديث، بعد تصريحهم بأنهم إنما أجابوا كرها، فقد قال ما لا يعلم، ونسب إليهم ما هم براء منه.
وذكرتم أن ابن علية قال بذلك، فهذا لا ينكر; وابن علية معروف عند أهل السنة بالبدعة; وكلام الأئمة في ذمه كثير; والبخاري وإن روى عنه، فهو عنده من أهل البدع; وقد روى البخاري عن غيره من أهل البدع، لأن الرجل إذا عرف منه الصدق والإتقان لما روى، جازت الرواية عنه، ولا يخرجه ذلك عن كونه مبتدعا، قال البيهقي في مناقبه: ذكر الشافعي إبراهيم ابن علية، فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول: لا إله إلا الله، لست أقول كما(3/241)
يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله، الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذلك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما، أسمعه موسى من وراء حجاب.
وأما قولكم: إن الصواب في هذه المسألة، الوقف، وإنه هو اعتقادكم، لا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق; فمضمون هذه المقالة: أن الله يحب منا أن نقف موقف الحيارى الشاكين، ونبقى في الجهل البسيط، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وأن الله يحب عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب منا الحيرة والشك.
ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين، والعلم، واليقين; وقد ذم الله الحيرة، بقوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام آية: 71] .
ومن المعلوم أنه لا بد أن يكون كلام الله في نفس الأمر، مخلوقا، أو غير مخلوق، لا غير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتقد أحد الأمربن، لا غير; وإذا كان الأمر كذلك، فلابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد دل أمته على ما يعتقدونه من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "1، وقال فيما صح عنه أيضا: " ما بعث الله من نبي، إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) .(3/242)
لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم "1، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما"2؛ محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين- وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم، في ربهم ومعبودهم، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام؟!.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله "3، فالرب سبحانه وتعالى عالم بما سيقع من التنازع، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ومن المحال أن يأمرهم برد ما تنازعوا فيه إلى ما لا يفصل النّزاع، ويبين الحق من الباطل.
وقد أمرنا الله سبحانه، أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل يصلي: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
__________
1 مسلم: الإمارة (1844) , والنسائي: البيعة (4191) , وابن ماجه: الفتن (3956) , وأحمد (2/191) .
2 أحمد (5/153) .
3 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/17 ,3/26 ,3/59) .(3/243)
يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1، فهو: يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟! وقد قال الله له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [سورة طه آية: 114] .
وأيضا فالشك والحيرة ليست محمودة في نفسها، باتفاق المسلمين، غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات، يسكت; فأما من علم الحق بدليله، الموافق لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم العالم بالمنقول والمعقول، قال الإمام أحمد رحمه الله: من لم يقل القرآن كلام الله، غير مخلوق، فهو يقول مخلوقا.
والأمر كما قال رحمه الله، فإنا نجد بعض من يقول بالوقف، يعيب على من ينفي الخلق عن كلام الله، ويحتج عليه بحجج القائلين بالخلق، كما أوردتم شيئا من ذلك، وعبتم على الإمام أحمد رحمه الله في كلامه في هذه المسألة; قلتم: إن أحمد جعل هذه المسألة عديلة التوحيد; قلتم ذلك اتباعا لمن استوفى نصيبه من الحمق والجهل، صاحب الكتاب، المسمى: بـ "العلم الشامخ" وقد عاب في كتابه ذلك على الإمام أحمد، ونسبه إلى التعصب، وطعن أيضا على غيره من أئمة الحديث وأهل السنة; ولقد أحسن القائل:
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) .(3/244)
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل.
فلو أن هذا المسكين أمسك لسانه عن تنقص أئمة الإسلام، لكان أستر له، وهو لم يضر إلا نفسه، لا يضرهم كلامه كما قيل:
وهل حط قدر البدر عند طلوعه كلاب إذا ما أنكرته فهرت.
وما أن يضر البحر إن قام أحمق على شطه يرمي إليه بصخرة.
والذي ينبغي لهذا وأمثاله، إذا هجمت بهم ذنوبهم عن استبانة الحق، أن يمسكوا ألسنتهم عن عيب أهل السنة، والطعن عليهم، ويلجؤوا إلى الله في سؤال الهداية; نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
[فصل في قول الجهمية إن موسى لم يسمع كلام الله منه]
وقد ذكرتم قول الجهمية إن موسى لم يسمع كلام الله منه، إنما سمعه من غيره، من الشجرة أو غيرها، لأن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين.
فأما قولكم: إن موسى لم يسمع كلام الله منه حقيقة، وإنما سمعه من غيره، فهذا ظاهر البطلان لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] {يَا مُوسَى? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(3/245)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 11-12-13-14] .
فمن زعم ذلك، فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية والإلهية; ولو كان - كما زعم - القائل، المخاطب لموسى غير الله، كان يقول ذلك المخاطب: يا موسى إن الله رب العالمين، يا موسى الله ربك، لا يجوز له أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] ، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 12] ، وهذا مما احتج به الإمام أحمد على الجهمية، فيا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!
وأما قولكم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم، ولسان، وشفتين، فهذا باطل لأن الله تعالى قال للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت آية: 11] أتراها قالت: بفم، ولسان، وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر، قالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة فصلت آية: 21] أتراها نطقت بلسان وأدوات؟ قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة يس آية: 65] أتراها: تكلمت بجوف، وفم، ولسان، وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول بجوف، ولا فم، ولا لسان. ولا شفتين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي "1، وسبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر،
__________
1 مسلم: الفضائل (2277) , والترمذي: المناقب (3624) , وأحمد (5/89 ,5/95 ,5/105) , والدارمي: المقدمة (20) .(3/246)
وعمر، وعثمان. وقال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام، وهو يؤكل; وجاء: إن في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه، ونحو ذلك كثير، ولا خلاف في أن الله قادر على أن ينطق الحجر الأصم، من غير مخارج، فبطل ما ادعوه من أن الحروف لا تكون إلا من مخارج.
ومن الدليل على اتصاف الله بالكلام حقيقة، قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 148] ، نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم، ولا يهدي، لا يصلح أن يكون إلها؛ وكذلك قوله تعالى في الآية الأخرى، عن العجل: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [سورة طه آية: 89] ، فجعل امتناع صفة الكلام والتكلم، وعدم ملك الضر والنفع، دليلا على عدم الإلهية; وهذا دليل عقلي سمعي، على أن الإله لا بد أن يكلم، ويتكلم ويملك لعابده النفع والضر; وإلا لم يكن إلها.
ومما استدل به أحمد وغيره من الأئمة، على أن كلام الله غير مخلوق، قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] قالوا: فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بمخلوق فقال: {وَالْأَمْرُ} وأمره، هو: قوله تبارك وتعالى،(3/247)
فلا يكون خلقا. واستدل الإمام أحمد على الجهمية لما قالوا: إن كلام الله مخلوق، فقال: وكذلك بنو آدم، كلامهم مخلوق; فشبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق; ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم فتكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فجمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة.
ومما يبين أن السلف كانوا يعتقدون أن كلام الله غير مخلوق، أنهم أوجبوا الكفارة على من حلف بالقرآن إذا حنث في يمينه; قال بعض الصحابة: عليه بكل آية كفارة; سمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن، فقال: أتراه مكفرا؟ إن عليه بكل آية كفارة; وقد أجمعوا: على أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا تنعقد به اليمين، فلو كان القرآن مخلوقا عندهم، لم يجز الحلف به، ولم يوجبوا على الحالف به إذا حنث كفارة، لأنه حلف بشيء مخلوق.
وأيضا: من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن اسم الله في القرآن مخلوق، فيلزمه أن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق; قال الإمام أحمد، في كتاب "الرد على الجهمية": وزعمت أن اسم الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم، فقلنا: قبل أن(3/248)
يخلق العلم، أكان جاهلا لا يعلم، حتى خلق لنفسه علما؟ وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورا؟ وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة؟ فعلم الخبيث: أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس، حين زعم أن "الله" سبحانه في القرآن، إنما هو اسم مخلوق.
فقلنا للجهمي: لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذه. وقلنا للجهمي: أليس النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء من بعدهم، والقضاة، والحكام، إنما كانوا يحلفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو؟ وكانوا مخطئين في مذهبكم، إنما كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله لما ادعى على الله الكذب.
وأيضا: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الإستعاذة بكلمات الله، وأرشد الأمة إلى ذلك، فقال فيما ثبت في صحيح مسلم، عن خولة بنت حكيم: "من نزل منْزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك "1 ففي هذا دليل صريح على أن كلام الله غير مخلوق، لأن الإستعاذة بالمخلوق شرك، والنبى صلى الله عليه وسلم أبعد عن الشرك.
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) .(3/249)
[فصل مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت]
فصل: وقد ذكرنا فيما تقدم، أن مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، فيصفون الله تعالى بالصوت، والصوت هو ما يتأتى سماعه؛ والقرآن والسنة: يدلان على أن الله يتكلم بصوت، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] الآية، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [سورة النمل آية: 8] ، إلى قوله: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة النمل آية: 9] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 11-12] ، وقال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [سورة الشعراء آية: 10] ، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، والنداء لا يكون إلا بصوت.
فدل على أنه كلمه بصوت، وموسى لم يسمع إلا الحرف والصوت; هذا مما يعلم بالاضطرار، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص آية: 62] ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [سورة القصص آية: 65] وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف آية: 22] ، الآية والآيات في ذلك كثيرة.
وأما السنة: ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري(3/250)
رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى يوم القيامة، يا آدم: فيقول لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار " الحديث. وروى عبد الله بن أنيس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة- وأشار بيده إلى الشام- عراة، غرلا، بهما. قال: قلت، ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، حتى أقصه منه قالوا: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة غرلا؟ قال: بالحسنات، والسيئات"1 رواه أحمد، وجماعة من الأئمة.
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: "كذبوا، إنما يدورون على التعطيل"، ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا سليمان بن مهران الأعمش، قال: حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجدا. حتى إذا فزع عن قلوبهم- قال سكن عن قلوبهم- نادى أهل السماء أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا، وكذا " ذكره عبد الله في كتاب السنة، بهذا الإسناد;
__________
1 أحمد (3/495) .(3/251)
ورواه أبو بكر الخلال، وروى ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا عثمان ابن أبي شيبة، أخبرنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله ابن الحارث، عن ابن عباس، قال: " إن الله تبارك وتعالى، إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماوات له صوتا كصوت الحديد، إذا وقع على الصفا، فيخرون له سجدا، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ".
وقد قدمنا ما حكاه الإمام أحمد عن الزهري، قال: "لما سمع موسى كلام الله، قال يا رب: هذا الكلام الذي سمعته، هو كلامك؟ قال: يا موسى، هو كلامي- إلى أن قال- فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا: صف لنا كلام ربك; قال: سبحان الله! وهل: أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق، التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله".
وتقدم أيضا ما رواه عبد الله بن أحمد، عن محمد بن كعب، قال: قال بنو إسرائيل لموسى، بم شبهت صوت ربك حين كلمك، من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد، حين لا يترجع. وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله، فلن تجد له وليا مرشدا.
وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الفقيه نجم الدين(3/252)
الحنبلي، قال: كنت يوما عند القاضي، فتناظروا في مسألة القرآن، وعندنا "طرحان" الضرير، فقال لنا: اسمعوا مني حكاية، قلنا: هات; قال: تناظر أشعري وحنبلي، فقال الأشعري للحنبلي: أخبرني إذا أوقفك الله غدا بين يديه، فقال لك: من أين قلت إن كلامي بحرف وصوت؟ فماذا يكون في جوابك؟ فقال الحنبلي: أقول: يا رب هو ذا أنا أسمع كلامك، بحرف وصوت; قال: ثم سكت فلم يرد هذا شيئا، فبهت القاضي، ولم يدر ما يقول، وانقطع الكلام على هذا.
واحتج من ينفي الصوت، بأن قال: الصوت إنما هو أنين جُرمين، والله سبحانه متقدس عن ذلك.
والجواب أن يقال: فهذا قياس منكم على خلقه، وتشبيه له بعباده، والله تعالى لا يقاس على مخلوقاته، ولا يشبه بمصنوعاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] وأيضا فإنه يلزمهم سائر الصفات التي أثبتوها، فإن العلم في حقنا لا يكون إلا من قلب، والنظر لا يكون إلا من حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق; والحياة لا تكون إلا في جسم، والله سبحانه وتعالى يوصف بهذه الصفات من غير أن يوصف بهذه الأدوات، فكذلك الصوت وإلا فما الفرق.
واتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن الذي يقرأه(3/253)
المسلمون كلام الله تعالى، فالصوت المسموع صوت القارئ، والكلام كلام الباري، فهم يميزون ما قام بالعبد، وما قام بالرب تبارك وتعالى، ولم يقل أحد منهم: إن أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديم، مع اتفاقهم أن المثبت بين لوحي المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم "1، فالكلام الذي يقرأه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤون بها أصواتهم، فالكلام شيء والصوت شيء آخر، هذا مما لا يخفى على من لم يرسخ التعطيل في قلبه.
ثم ليعلم أن معتقدنا في إثبات الصفات، على الكتاب والسنة، فمهما جاء فيها، فهو الحق والصدق، لا يجوز التعريج على ما سواه، ولا الالتفات إلى هذيان يخالفه، فإن الله تعالى أمرنا بالأخذ بكتابه والاقتداء برسوله، وأخبر عن رسوله أنه قال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام آية: 50] ، وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر آية: 55] ، وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [سورة الأعراف آية: 157] إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 157] ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] .
وها نحن قد بينا أن قولنا في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، فهاتوا أن في الكتاب، أو السنة، أو قول
__________
1 النسائي: الافتتاح (1015) , وأبو داود: الصلاة (1468) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/283 ,4/285 ,4/296) , والدارمي: فضائل القرآن (3500) .(3/254)
صحابي، أو إمام مرضي، أن الله لم يتكلم، أو أنه يتكلم مجازا، أو أن كلامه مخلوق، أو أنه لا يتكلم بحرف وصوت، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن المعقول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول أهل السنة، وترك دين جهم وشيعته؛ جعلنا الله سبحانه ممن هدى إلى صراطه المستقيم، ووفقنا لاتباع رضى رب العالمين، والاقتداء بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والسلف الصالحين، والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[قول شراح عقيدة الشيباني على قول الناظم وخص موسى ربنا بكلامه]
وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، قدس الله روحه، عن قول بعض شراح عقيدة الشيباني على قول الناظم:
وخصص موسى ربنا بكلامه على الطور ناداه وأسمعه الندا
قال الشارح:
خص الله موسى بتكليمه على الطور، وأسمعه نداءه، إذ لم تكن لموسى جهة يسمع منها الكلام، ولا يرى منها النار، أو سمع في الوادي المقدس كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة، وإنما يعرف ذلك أهله، وأما غير أهله فلا يدري كيف ذلك.
وقال على قول الناظم: ومنه بدا قولا قديما، وإنه ... إلخ. أي: وهو منه، أي: من الرحمن بدا، قولا، أي: قاله في القدم، حيث لا أكوان ولا أزمان، ويعود إليه كما بدأ منه، وهذه الحروف والأصوات التي تعبر عن(3/255)
القرآن، ليس هي القرآن، لأن القرآن صفة الحق، والصفة لا تنفصل عن موصوفها، والحروف والأصوات تتصل وتنفصل، فهي صفات لا صفاته، لأنه بائن، أي: منفرد عن خلقه بذاته وصفاته، وبذلك اغتر من اغتر.
فأجاب:
ما ذكره هذا الشارح بناء على أصلين فاسدين للأشعرية: أحدهما: إنكار علو الرب سبحانه فوق سماواته واستوائه على عرشه; والثاني: إنكارهم تكلم الرب سبحانه وتعالى بالحرف والصوت; والكلام عندهم هو المعنى النفسي القائم بذات الرب سبحانه وتعالى; فلما رأى الشارح كلام المفسرين وقولهم: إن النار التي رأى موسى هي نور الرب تعالى، وأن القرآن يدل على أن ذلك النور في مكان، قالوا: يلزم من كون نور الرب في مكان جواز كون الله سبحانه في مكان، فيلزم إثبات علوه سبحانه فوق السماء، واستوائه على العرش، فقال: لم يكن لموسى جهة يسمع منها ولا يرى منها النار، وسمع كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة. قلت: القرآن صريح في أن موسى عليه السلام رأى نارا في موضع معين، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [سورة النمل آية: 8] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} [سورة طه آية: 11] ، فدل قوله: {أَتَاهَا} و {جَاءَهَا} أنها في موضع مخصوص، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ(3/256)
الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [سورة القصص آية: 30] .
قال شيح الإسلام تقي الدين رحمه الله: وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} هو بدل من قوله: {شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] ، فالشجرة كانت فيه؛ فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور ومن الوادي، فإن شاطيء الوادي: جانبه، فذكر: أن النداء كان من موضع معين، وهو الوادي المقدس طوى، من شاطئه الأيمن، من جانب الطور الأيمن، من الشجرة. انتهى.
فالآيات تدل على أن النور كان في موضع معين، وأن النداء كان من موضع معين.
قال ابن عباس، في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل آية: 8] قال: الله تعالى في النور، ونودي من النور; وروى عطية عن ابن عباس: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل آية: 8] يعني: نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها، وقال عكرمة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "كان الله في نوره"، وقال سعيد بن جبير: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "ناداه وهو في النور"، وقال ابن ضمرة: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "إنها لم تكن نارا، ولكنه كان نور الله، وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله" وقال ابن عباس، في قوله: {ومن حولها} قال: "الملائكة"، وروي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة: مثل ذلك.(3/257)
وقول الشارح: وإنما يعرف ذلك أهله، لما كان قولهم هذا ظاهر البطلان، وأنه ليس لهم حجة شرعية على صحته، أراد التمويه بقوله ذلك، إشارة إلى أن لقولهم هذا وجها صحيحا، ومحملا يخفى على من لم ير رأيهم، وأما قوله: ومنه بدا، قولا قديما، وإنه ... إلخ، فهذا ما عليه الأشاعرة المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة; فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن القرآن كلام الله، حروفه ومعانيه؛ وعند الأشعرية أن الكلام هو: المعنى النفسي، وأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت.
وقد صنف شيخ الإسلام، تقي الدين رحمه الله، مصنفا ذكر فيه تسعين وجها في بيان بطلان هذا القول، منها: أن الله سبحانه قال: كذا; يقول: كذا; ونادى; وينادي; والقول: إنما يكون حروفا، والنداء إنما هو بحرف وصوت، وكذلك الكلام، لا يكون إلا قولا، لا حديث نفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم "1 فجعل الكلام غير حديث النفس؛ وأجمع العلماء على أن المصلي إذا تكلم في صلاته، عالما عامدا، لغير مصلحتها، أن صلاته فاسدة، مع إجماعهم أن حديث النفس لا يبطلها; ففي ذلك وما أشبهه دلالة صريحة على أن المعنى الذي يكون في النفس ليس بكلام.
__________
1 البخاري: الطلاق (5269) , ومسلم: الإيمان (127) .(3/258)
وعند الأشاعرة أن الله لم يكلم موسى، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس، من غير أن يسمع منه كلمة، وما يقرأه القارئون ويتلوه التالون، فهو عبارة عن ذلك المعنى، وأن الحروف مخلوقة.
وفي حديث عبد الله بن أنيس المشهور: " فيناديهم بصوت، يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب، أنا الملك، أنا الديان "1 الحديث; وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي، فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا، إنما يدورون على التعطيل; ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد المحاربي قال: حدثني الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: "إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء".
وعند الأشاعرة أن المعنى النفسي، القائم بذات الرب الذي يسمونه كلاما، شيء واحد لا يتبعض، وأن معنى الأمر والنهي والخبر، واحد; وأن معنى القرآن، والتوراة، والإنجيل، واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة; وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل; فهذا مما يقطع ببطلانه.
وقول الشارح: وبذلك اغتر من اغتر، فقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [سورة فاطر آية: 8] ، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [سورة النمل آية: 24] ، فنسأل الله أن
__________
1 أحمد (3/495) .(3/259)
يهدينا صراطه المستقيم.
[جواب الشيخ أبا بطين عن حديث خلق الله آدم بيده على صورته]
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قوله: خلق الله آدم بيده على صورته، هل الكناية في قوله: على صورته، راجعة إلى آدم ... إلخ؟
فأجاب: هذا الحديث المسؤول عنه، ثابت في صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا "1 وفي بعض ألفاظ الحديث: " إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته "2، قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ومذهب السلف أنه لا يتكلم في معناه; بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا أنه ليس كمثله شيء. انتهى.
قال بعض أهل التأويل: الضمير في قوله: "صورته" راجع إلى آدم، وقال بعضهم: الضمير راجع على صورة الرجل المضروب، ورد هذا التأويل بأنه إذا كان الضمير عائدا على آدم فلا فائدة في ذلك، إذ ليس يشك أحد أن الله خالق كل شيء على صورته; وأنه خلق الأنعام والسباع على صورها; فأي فائدة في الحمل على ذلك؟ ورد تأويله بأن الضمير عائد على ابن آدم المضروب، بأنه لا فائدة فيه، إذ الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده، وأن وجهه كوجوههم، فيرد هذا التأويل كله بالرواية
__________
1 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315) .
2 أحمد (2/244) .(3/260)
المشهورة: " لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ".
وقد نص الإمام أحمد على صحة الحديث، وإبطال هذه التأويلات; فقال في رواية إسحاق بن منصور: " لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته " صحيح، وقال في رواية أبي طالب: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟! وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال رجل لأبي: إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"، فقال: على صورة الرجل; فقال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟
وقال أحمد في رواية أخرى: فأين الذي يروي: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"؟ وقيل لأحمد، عن رجل إنه يقول: على صورة الطين، فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية.
واللفظ الذي فيه على صورة الرحمن، رواه الدارقطني، والطبراني، وغيرهما، بإسناد رجاله ثقات; قاله ابن حجر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجها ابن أبي عاصم، عن أبي هريرة مرفوعا، قال: " من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان، على صورة وجه الرحمن "1 وصحح إسحاق بن راهويه اللفظ فيه: على صورة الرحمن; وأما أحمد، فذكر أن بعض الرواة وقفه على ابن عمر، وكلاهما حجة; وروى ابن مندة، عن ابن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
__________
1 البخاري: العتق (2560) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/244 , 2/327 ,2/347 ,2/449 ,2/519) .(3/261)
قال: " إن آدم خلق على صورة الرحمن " وإنما علينا أن ننطق به.
قال القاضي أبو يعلى، والوجه فيه أنه ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور، كما أطلقنا تسمية: ذات، ونفس، لا كالذوات، والأنفس; وقد نص أحمد في رواية يعقوب بن بختان، قال: " خلق آدم على صورته "1 لا نفسره، كما جاء الحديث. وقال الحميدي لما حدث بحديث: " إن الله خلق آدم على صورته "2 قال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضى بما جاء به القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث.
وقال ابن قتيبة: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذا لأنها لم تأت في القرآن; ونحن نؤمن بالجميع، هذا كلام ابن قتيبة;
وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون "3 وفي لفظ آخر: " صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيعرفونه "4 الحديث; فالذي ينبغي في هذا ونحوه: إمرار الحديث كما جاء، على الرضى
__________
1 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) .
2 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/251 ,2/434 ,2/463 ,2/519) .
3 البخاري: الرقاق (6574) , ومسلم: الإيمان (182) , وأحمد (2/275) .
4 البخاري: التوحيد (7438) , ومسلم: الإيمان (182) , وأحمد (2/275) .(3/262)
والتسليم، مع اعتقاد أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
وأجاب أيضا:
وأما السؤال عن الحديث الصحيح: " إن الله خلق آدم على صورته "1 فقال إسحاق بن منصور: سئل أحمد بن حنبل، عن الحديث: "لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" فقال: صحيح; وقال في رواية يعقوب ابن بختان: " خلق آدم على صورته "2 لا نفسره، كما جاء الحديث، وأنكر الإمام أحمد على من قال: إن "الهاء" في قوله "على صورته" عائدة على آدم; فقال في رواية أبي طالب، من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي; وأي صورة لآدم قبل أن يخلقه؟ وروى ابن مندة، عن عبد الله بن أحمد، قال: قال رجل لأبي، إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق آدم على صورته "3 فقال: على صورة الرجل، قال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟
وقال في رواية أخرى، فأين الذي يروي: " أن الله خلق آدم على صورة الرحمن "؟ وقيل له عن رجل إنه يقول: خلقه على صورة الطين; فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية; واللفظ الذي فيه: "على صورة الرحمن" رواه الدارقطني، والبخاري، وابن بطة، مرفوعا; وبعضهم وقفه
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) , وأحمد (2/251 ,2/434 ,2/463 ,2/519) .
2 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) .
3 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) .(3/263)
على ابن عمر، هذا كلام القاضي أبي يعلى في كتاب إبطال التأويل.
قال: وروى ابن مندة عن إسحاق بن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق آدم على صورة الرحمن" وإنما علينا أن ننطق به، ثم ذكر القاضي أن ابن قتيبة ذكره في مختلف الحديث، فقال: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع; هذا كله كلام ابن قتيبة والقاضي ملخصا; وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي، وذكر الحديث: " أن الله خلق آدم على صورته "، فقال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضا، بما جاء في القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول: كما قال القرآن والحديث.
[جواب أبا بطين عن قول السيوطي على قوله تعالى {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ]
سئل: أيضا الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله، عن قول السيوطي، على قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة آية: 120] في آخر سورة المائدة من الجلالين، قال: وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر.
فأجاب: الظاهر أن مراده أن الرب سبحانه وتعالى، يستحيل عليه ما يجوز على المخلوق، من العدم والعيب، والنقص، وغير ذلك من خصائص المخلوقين; فلكون ذلك(3/264)
يستحيل على ذات الرب سبحانه وتعالى، عبر عنه بأنه لا يدخل تحت القدرة، وأنا ما رأيت هذه الكلمة لغيره، والنفس تنفر منها.
وقد روي عن ابن عباس، حكاية على غير هذا الوجه، وهي أن الشياطين، قالوا لإبليس: يا سيدنا، ما لنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟! والعالم لا نصيب منه، والعابد نصيب منه؟! قال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد، فأتوه في عبادته، فقالوا: إنا نريد أن نسألك، فانصرف، فقال إبليس: هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه؟ فقال: لا أدري; فقال: أترونه لم تنفعه عبادته مع جهله؟! فسألوا عالما عن ذلك؟ فقال: هذه المسألة محال، لأنه لو كان مثله، لم يكن مخلوقا، فكونه مخلوقا وهو مثل نفسه مستحيل، فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله، بل كان عبدا من عبيده; فقال: أترون هذا يهدم في ساعة ما أبنيه في سنين؟! والله أعلم.
وقال أيضا: والذي ذكره السيوطى لفظة لم تأت في الكتاب ولا في السنة، ولا رأينا أحدا من أهل السنة ذكرها في عقائدهم; ولا ريب أن ترك فضول الكلام من حسن الإسلام; وهذه كلمة ما نعلم مراد قائلها; يحتمل أنه أراد بها معنى صحيحا، ويحتمل أن يراد بها باطل; فالواجب: اعتقاد ما نطق به القرآن من أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا(3/265)
أراد شيئا قال له: كن، فيكون كما أراد; وأنه ليس كمثله شيء، ولا يكون شيء مثله، سبحانه وتعالى وتقدس; وجواب العالم الذي قال: لا يكون المخلوق مثل الخالق، جواب صحيح، لأنه الذي غاظ الشيطان، وهو نتيجة العلم; ويدل على أنه لو قال: قادرا، أو غير قادر، لم يكن جوابا صحيحا; وما ذكرنا من جواب هذا العالم، فيه مشابهة لكلام السيوطي، من بعض الوجوه.
واعلم أن طريقة أهل السنة أن كل لفظ لا يوجد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، لا نفيه ولا إثباته، لا يثبت، ولا ينفى، إلا بعد الاستفسار عن معناه; فإن وجد معناه مما أثبته الرب لنفسه، أثبت; وإن وجد مما نفاه الرب عن نفسه، نفى; وإن وجد اللفظ مجملا يراد به حق وباطل، فهذا اللفظ لا يطلق نفيه ولا إثباته; وذلك كلفظ: الجسم، والجوهر، والجهة، ونحوها; وكره السلف والأئمة الكلام المحدث، لاشتماله على كذب وباطل، وقول على الله بلا علم; وما ذكره السيوطي من هذا النوع; وضد القدرة العجز، وهل يسوغ أن يقال: إن الله عاجز عن كذا؟! وإنما يقال: إنه سبحانه يستحيل وصفه بما يتضمن النقص والعيب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا; والله أعلم.(3/266)
[رسالة أبي بطين إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن]
وله أيضا: قدس الله روحه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الأخ الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وفقه الله للعمل الصالح، والقول الحسن، وثبتنا وإياه على خير الهدى، وأعدل السنن; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب الخط إبلاغ الشيخ السلام، والسؤال عن الحال، أصلح الله لنا وله الدين، والدنيا، والآخرة. وغير ذلك، ذكرت لي أن أكتب على كلام الدرويش الذي عندكم، بيان بعض ما فيه من العيب، والذي كتبتم عليه فيه كفاية.
لكن نذكر على بعض ألفاظه، بيان مخالفته للحق، منها: قول الحمد لله المتوحد بجميع الجهات ; فنقول: لا يشك من سمع هذا الكلام في أن المراد بالجهات الجهات الست التي يقول المعطل فيها: إن الرب سبحانه من الجهات الست خالي; والاتحادي، يقول: إنه سبحانه متحد بها; والحلولي يقول: إنه سبحانه حال فيها; تعالى الله عما يقول الجميع علوا كبيرا.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه ; وظاهر قول هذا الرجل: المتوحد بجميع الجهات، يشبه قول الاتحادية; وإن حملت(3/267)
الباء على الظرفية، أشبه قول الحلولية، وربما يظن أنه لعجميته، يعبر عبارات لا يعرف معناها; لكن سمعت أنه قد شرع في وضع حاشية على النونية، ولا يتنزل لذلك إلا من يدعي تمام المعرفة; وحكي عنه، أنه يقول: مرادي بالجهات جهات التوحيد الثلاث; وهي: توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات; وهذا بعيد من كلامه، لأن هذه تسمى أنواعا، لا جهات.
وبكل حال: فظاهر كلامه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة; لكن ينبغي: أولا إحضاره، ويبين له ما في كلامه مما ظاهره خلاف الحق، وتبين له الأدلة الشرعية على خلاف ما توهمه في كلامه; فإن اعترف فهو المطلوب، والحمد لله; وفي كلامه من العيب والركاكة كثير، كقوله: لا شريك له في الذات، ولا في الصفات; فنفى الشركة في الذات، ولم يقل أحد من بني آدم إن لله سبحانه شريكا في ذاته، حتى يحتاج إلى نفي ذلك; وإنما يقول أهل الحق: لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته، ردا لقول المشبهة; فقوله: لا شريك له في ذاته، يدل على قلة معرفته في هذا الباب; وكذلك قوله: لا شريك له في الملك، فضلا عن الملكوت; فأشار بقوله: فضلا عن الملكوت إلى بعد ما بينهما; وقد ذكر العلماء: أن الملكوت هو الملك، وإنما زيدت التاء للمبالغة في التعظيم.
وكذلك قوله في إعراب: لا إله إلا الله، من قبيل(3/268)
استثناء الجزء من الكل، فجَعْل استثناء الاسم الكريم، من نوع استثناء الجزئي، غلط; بل الجزئي مقابل الكلي وقسيمه، لا قسم منه; فالكلي ما اشترك في معناه كثيرون، كالإنسان والحيوان; والجزئي: يراد به أسماء الأعلام، كزيد وعمرو; والاسم الكريم، أعرف المعارف، كما قاله سيبويه وغيره; وكذلك قوله في إعراب: لا إله إلا الله، إنه كقولنا: لا شمس إلا الشمس; لأن قول القائل لا شمس إلا الشمس، لفظ لا فائدة فيه; وأيضا: فاسم الشمس من الألفاظ الكلية، لقولهم في تعريف الكلي: إن ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فهو الكلي، سواء وقعت فيه الشركة كالإنسان، أم لم تقع وأمكنت، كالشمس، أو استحالت كالإله، فإن استحالة ذلك للأدلة القاطعة عليه.
فجعله الاسم الكريم، الذي هو أرفع الأعلام، وأعرف المعارف، مثل الشمس التي هي من الألفاظ الكلية، غلط; بل الموافق لقولنا: لا شمس إلا الشمس، قول القائل: لا إله إلا الإله، وهذا اللفظ مع الإطلاق، لا يستفاد منه توحيد الإلهية لله رب العالمين; هذا وكثير من كلامه، كما يقال: جعجعة بلا طحن! نسأل الله: أن يهدينا وإياكم، وجميع المسلمين، صراطه المستقيم.
[جواب أبا بطين على قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله]
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين عن قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ; وقال: إن(3/269)
المراد بعلم الله معلومه.
فأجاب:
هذا على طريق أهل التأويل في صفات الرب سبحانه، كما يقول: البيضاوي وأمثاله، في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] أي: من معلومه; وأما مفسرو أهل السنة، كابن جرير، والبغوي، وابن كثير، فأقروه على ظاهره، فقالوا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء، إلا بما علمه الله تعالى وأطلعه عليه; وقول الخضر يشهد له قول الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [سورة الإسراء آية: 85] ، وهل يسغ أن يقال: وما أوتيتم من المعلوم إلا قليلا؟! وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] .
قال ابن كثير: أنزله بعلمه، أي فيه علمه، الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات، والهدى، والفرقان، وما يحبه الله، ويكرهه، وما فيه من العلم بالغيوب، وما فيه من ذكر صفاته المقدسة، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال الخضر لموسى: إني على علم من علم الله، لا تعلمه أنت; وأنت على علم من علم الله، علمك إياه، لا أعلمه; فهذا كله يبطل قول من تأول العلم بالمعلوم; وأي محذور في إجرائه على ظاهره؟!.
[جواب أبا بطين على قول الشيخ عثمان إن الصفة تعتبر من حيث هي هي]
وسئل: عن قول الشيخ عثمان، إن الصفة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به تعالى، وتارة من(3/270)
حيث قيامها بغيره; وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] .
فأجاب: قول الشيخ عثمان: إن الصفة تعتبر من حيث هي هي; يعني: لها ثلاث اعتبارات، تارة تعتبر من حيث هي، هي; أي تعتبر: منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو، هو ما تدرك به المبصرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق، فيقال: هو نور في شحمة، تسمى: إنسان العين، تحت سبع طبقات في حدقة، ينطبق عليها جفنان; وأما بالنسبة إلى الرب سبحانه، فنقول: هو سبحانه: سميع، يسمع; بصير، يبصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات.
[جواب أبا بطين على حديث الخوارج هل يوجد في ألفاظه على خير فرقة]
وسئل عن حديث الخوارج الذي أخرجه البخاري، عن أبي سعيد، فيه: " يخرجون على حين فرقة من الناس "1، هل في بعض ألفاظه: " على خير فرقة من الناس "2؟
فأجاب: وأما حديث الخوارج، فلا نعلم فيه لفظة "خير"، والمعروف: "على حين فرقة من الناس " وربما وقع في بعض الألفاظ "خير"، والله أعلم.
وذكر النووي في شرح مسلم أن المشهور بالحاء والنون، وضم الفاء، أي: وقت افتراق; وقيل بالخاء، والراء، وكسر الفاء، وذكر الرواية " يقتلهم أولى الطائفتين بالحق "، والرواية الأخرى " أدنى الطائفتين إلى الحق "3.
__________
1 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/73) .
2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6933) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) , وأحمد (3/56) .
3 مسلم: الزكاة (1065) , وأحمد (3/82 ,3/97) .(3/271)
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن حديث: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "1؟
فأجاب:
حديث: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "2 رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة. وللشيخ تقي الدين رحمه الله على هذا الحديث كلام طويل، قال: فإن كان ثابتا، فقوله: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "3 إنما هو تقدير مفروض، أي: لو وقع الإدلاء، لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله سبحانه وتعالى شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض، وقف في المركز من الجزء ... إلى أن قال: فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلي أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه، يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز؛ فإن قدر أن الرافع أقوى، كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله.
وإنما يسمى هبوطا: باعتبار ما في أذهان المخاطبين، من أن ما يحاذي أرجلهم، يكون هابطا، ويسمى هبوطا، مع
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .
3 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .(3/272)
تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل، والدلو لا إدلاء له، ولكن الجزاء والشرط مقدران، لا محققان; فإنه قال: لو أدلى لهبط; أي: لو فرض أن هناك إدلاء، لفرض أن هناك هبوطا، وهو يكون إدلاء وهبوطا، إذا قدر أن السماوات تحت الأرض، وهذا منتف، ولكن فائدته: بيان الإحاطة، والعلو من كل جانب.
وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن ندلي، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء; لكن الله قادر، على أن يخرق من هناك بحبل، لكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوطا عليه، كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض، فإن الله قادر على ذلك كله ... إلى أن قال: فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانب الآخر، مع خرق المركز; وبتقدير إحاطة قبضته بالسماوات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيئا بالنسبة إليه، لا إدلاء، ولا هبوطا، وأما بالنسبة إلينا: فإنما تحت أرجلنا، تحت لنا; وما فوق رؤوسنا، فوق لنا; وما ندليه من ناحية رؤوسنا، إلى ناحية أرجلنا، نتخيل أنه هابط؛ فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل، كان هابطا على ما هناك، لكن هذا التقدير ممتنع في حقنا; والمقصود به بيان(3/273)
إحاطة الخالق تعالى، كما بين أنه يقبض السماوات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك، مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات.
ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الحديد آية: 3] ، وهذا كله كلام على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسر بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله; ثم قال الشيخ: وتأويله بالعلم، تأويل ظاهر الفساد; قال: وبتقدير ثبوته، يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة، بالكتاب والسنة; فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلمه، وما لا نعلم أمسكنا عنه.
[جواب أبا بطين على حديث إن لله تسعة وتسعين اسما]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الإخوان: محمد آل عمر، وصالح آل عثمان، ومحمد آل إبراهيم، ثبتهم الله على الإسلام، ووفقهم للتمسك بسنة سيد الأنام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب الخط إبلاغ السلام، والوصية بالتمسك بما من الله به عليكم من معرفة التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ فاعرفوا حق هذه النعمة، وتواصوا بالصبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم، ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي(3/274)
صبر، إذا أذنب استغفر.
وما سألتم عنه من معنى، قوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة "1، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله، ما معناه: إن الإحصاء يتناول ثلاثة أمور: الأول: حفظها; الثاني: معرفة معانيها; الثالث: اعتقاد ما دلت عليه، والعمل بمقتضاه.
وأما معنى محاجة آدم موسى عليهما السلام، ولوم موسى لآدم، فذكر شيخ الإسلام وغيره أن لوم موسى لآدم إنما هو على المصيبة التي لحقت الذرية بسبب الذنب; وآدم إنما احتج بالقدر على المصيبة، لا على الذنب.
يوضح ذلك أنه لو جاز الاحتجاج بالقدر على الذنب، وأنه حجة صحيحة، لكان حجة لإبليس وجميع العصاة، وهذا باطل بدلائل الكتاب والسنة، بإجماع أهل الحق من الأمة، والله سبحانه أعلم.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ابن عون جوابا لأوراق وردت من عمان]
قال الشيخ عبد اللطيف، بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهم، أو نافق، أو ارتد، من أهل دهره وعصره; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو،
__________
1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516) .(3/275)
على ما من به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه.
والواجب على المكلفين في كل زمان ومكان، الأخذ بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره، ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه فعليه بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، فإن لم يدر شيئا من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ; فإن كان المكلف أنزل قدرا، وأقل علما، وأنقص فهما، من أن يعرف شيئا من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصا من عرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع; فهؤلاء أحرى الناس وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم; فاعرف هذا، فإنه مهم جدا.
ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين، ليلبس ويشوش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم يعط من معرفة الإيمان والدين؛ وبالوقوف على أوراقهم، يعرف المؤمن حقيقة حالهم، وبعد ضلالهم، وكثافة أفهامهم، وأنهم ملبوس عليهم، لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوروه، فضلا عن أن يدينوا به ويلتزموه; وأسئلتهم وقعت لا لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك والتمويه، والتحلي بالرسم والوهم; ومن السنن(3/276)
المأثورة عن سلف الأمة وأئمتها، وعن إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قدس الله روحه: التشديد في هجرهم، وإهمالهم، وترك جدالهم، واطراح كلامهم، والتباعد عنهم حسب الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم، وذمهم، وعيبهم.
وقد ذكر الأئمة من ذلك جملة في كتب السنة، مثل: كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، و "السنة" للخلال، و "السنة" لأبي بكر الأثرم، و"السنة" لأبي القاسم، اللالكائي، وأمثالهم; فالواجب نهي أهل الإسلام عن سماع كلامهم ومجادلتهم; لا سيما وقد أقفر ربع العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه; قال في الكافية الشافية:
فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذرا عليك مصائد الشيطان
فشباكها والله لم يعلق بها من ذي جناح قاصر الطيران
إلا رأيت الطير في شبك الردى يبكي له نوح على الأغصان
إذا عرف هذا، فإحدى الورقتين المشار إليهما ابتدأها الملحد الجاهل بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته; وهو قوله: الرؤية الثابتة عند أهل السنة والجماعة في الجنة، هل هي بصفات الجلال، أو الجمال، أو الكمال؟! ولم يشعر هذا الجاهل الضال أن الرؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف يليق بعظمته، وإلهيته، وربوبيته، من جلال، وجمال، وكمال;(3/277)
وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك، والمجد، والسلطان، والعزة; والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك، والكمال حاصل بكل صفة من صفاته العلى.
فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد، والعزة التي لا تضاهى ولا تماثل; فهذه أوصاف ذاتية لا تنفك عنه في حال من الأحوال، وإنما يقال: تجلى بالجلال، والمجد، والعزة، والسلطان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات; كما يقال تجلى بالرحمة، والكرم، والعفو، والإحسان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم; ويستحيل أن يرى تعالى، وقد تخلو عنه صفة جلال، أو جمال، أو كمال.
ولو وقف هذا الغبي على ما جاء في الكتاب والسنة، من إثبات الرؤية، وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك إلى تخليط صدر عمن لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه عظمة الرب الكبير الجليل، لكان أقرب إلى إيمانه وإسلامه.
وأما قوله: وما الفرق بين صفات المعاني، والمعنوية؟ فهذه الكلمة، لو فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدل بحال أن من صفات الله ما هو من المعاني وما هو من الصفات المعنوية; وهذا التقسيم: يطالب به الأشعرية والكرامية ونحوهم; فلسنا منهم في شيء; والعلم آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة متبعة; وما ليس هكذا سبيله، فالواجب اطراحه وتركه;(3/278)
والعلم كل العلم في الوقوف مع السنة، وترك ما أحدثه الناس من العبارات المبتدعة.
ومن الأصول المعتبرة والقواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلفون علم ما لم يصف الرب تبارك وتعالى به نفسه، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله أكبر، وأجل، وأعظم، في صدور أوليائه وعباده المؤمنين، من أن يتكلموا في صفاته، بمجرد آرائهم، واصطلاحاتهم، وعبارات متكلميهم.
وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطيه أعجمية، لأنه إن أريد بالإضافة إضافة الدال على المدلول، فكل صفاته تعالى لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفك عن هذا، لو كانوا يعلمون؟ وإن أريد بالإضافة إضافة الصفة للموصوف، أي: المعاني الموصوفة، فالمعاني الموصوفة منها صفات أفعال، وصفات ذات.
وأما قوله: وما الاعتبارات الأربع؟ فهذه كلمة ملحونة أعجمية; والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع; والحكم معروف في باب العدد; وأما معناها، فهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب منه إلى الكشف والإيضاح في(3/279)
السؤال; فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة، من جهة لفظه، وإفراده، وجمعه، وتصحيحه، وكسره، وضربه، وطرحه; وتجري الاعتبارات الأربعة فما فوق في أبواب الفقه من كتب الفروع، من كتاب الطهارة، إلى أبواب العتق، والإقرار، وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها، باختلاف عباراتها.
وكذلك المقدمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنية، والضروريات الحسية، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب، ودرجات، يطلق عليها لفظ الاعتبارات.
وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية، فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان; وقد يراد بها غير ذلك، من مراتب وجود العلم، أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم باعتبار إدخال الإلهام في مسمى الوحي.
وكذلك الجهل، له مراتب أربع: فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكل منهما، إما في السمعيات، أو العقليات; وكذلك الأخبار قطعية وظنية، وبالجملة: فالاعتبارات الأربعة، والوجود، ونحو ذلك، تقع كل ما تناله العبارة، ويصدق عليه اللفظ في أي فن، وأي حكم.
فإن قال: المراد بالاعتبارات والوجود، باعتبار صفاته تعالى.
قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود، يختلف باختلاف(3/280)
المقاصد، والإصلاح; وليس في كلام السلف ما يجيز الخوض في اصطلاحات المتكلمين والأشاعرة.
وأما الفرق بين الدليل والبرهان; فالدليل في اصطلاح الأصوليين والفقهاء: ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته; والبرهان: ذكر الحجة بدليلها; وأما الفرق بين العهد والميثاق، فهو اعتباري، والمفهوم واحد، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة البقرة آية: 83] الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة المائدة آية: 70] ، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [سورة يس آية: 60] ، وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [سورة النحل آية: 91] ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [سورة آل عمران آية: 81] إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [سورة آل عمران آية: 81] ، وطالع عبارات المفسرين.
وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها، إذ لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [سورة النساء آية: 164] ، وكل رسول يؤخذ عليه، وعلى قومه العهد; فكيف يسأل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب; نعم، ما ذكر في القرآن من أخذ العهد على الأنبياء، وعلى الأمم كبني إسرائيل، وعلى بني آدم كافة، كما في آية "يس"، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف(3/281)
محصور.
وأما قوله: وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة أعجمية، جاهلية; فالله عهد إليهم، ولم يعاهدهم هو، بل هم عاهدوه، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 75] ولم يقل عاهدهم الله أبدا، فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم يعاهدهم هو; فاعرف: جهل السائل وعجمته.
وأما قوله: وكم من تعلقات للقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؟ فاللفظ: أعوج ملحون، لا تأتي: "من" بعد "كم" الاستفهامية أبدا; والرجل غلبت عليه: العجمة في الفهم والتعبير; فإن أريد بالتعلق، كون الأشياء، بالقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام; فأي فرد من أفراد الكائنات، يخرج عن هذا؟ ولا يتعلق به؟!
وأما قوله: وما علة نفي الحروف السبعة، من فاتحة الكتاب؟ فهذا: عدم، لا نفي، والعدم لا يعلل; فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء من سورة الإخلاص؟ مثلا، أو من (بسم الله الرحمن الرحيم) ؟ لأن المعنى المراد حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة، والعدم لا يعلل; وإن علل فعلته عدمية؛ والسائل رأى كلمات مسطورة فظنها داخلة في مسمى العلة ومذكورة; وإنما هي: جهالات، وضلالات، وخيالات {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ(3/282)
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1 [النور 39] .
[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى صالح الشثري، وتفسير السبحات]
وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: صالح بن محمد الشثري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه، ونهنيك بما هنيتنا به، جعلنا الله وإياك من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومن علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين، اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات.
وتسأل عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟
فلا يخفاك أن التأويل بالمعنى الأعم، يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمع من أهل الإثبات; وأما التأويل بالمعنى الأخص، عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس هذا منه; لأنهم أولوا "النور" الذي هو اسمه وصفته، بما يرجع إلى فعله وخلقه; وليس هذا منه; وقد فسرت "السبحات" بالعظم، لأن أصل السبحة، من التنْزيه والتقديس; وفسرت: بضوء الوجه المقدس; وفسرت: بمحاسنه، لأن من رأى
__________
1 آخر ما وجد من هذه الرسالة.(3/283)
الشيء الحسن، والوجه الحسن، سبح بارئه وخالقه; وقيل: هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التنْزيه.
وقيل: "سبحات وجهه" في الحديث، جملة معترضة، يريد قائل هذا: إسناد الفعل إلى الوجه المنَزّه، حكاه ابن الأثير; وقال: الأقرب أن المعنى، لو انكشف من أنواره - التي تحجب العباد - شيء، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل لما تجلى سبحانه; وهذا لا يبعد، إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي، والسلام.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف إلى محمد الجبري فيمن آمن بلفظ الاستواء ونازع في المعنى]
وله أيضا: رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: محمد بن راشد الجابري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والسؤالات وصلت.
فأما: السؤال الأول، فيمن آمن بلفظ "الاستواء" الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو: الاستيلاء; فهذا جهمي، معطل، ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة; وهذا القول هو المعروف عند السلف، عن جهم وشيعته الجهمية; فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن، كالاستواء، وغيره، من الصفات; وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد.(3/284)
وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم; وكان الجعد قد سكن حران وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك، حتى إن خالد بن عبد الله القسري، أمير واسط في خلافة بني أمية، قتل الجعد وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا; ثم نزل فذبحه. وشكره على هذا الفعل، وصوبه جميع أهل السنة; وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك من الصفات، لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات.
وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته، ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه؛ ولو عرفوا أنما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات; لو عرفوا هذا، لسلموا من التعطيل; وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا(3/285)
موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال; وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم كما قال بعض العلماء: لا يعبدون واحدا، أحدا، فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما.
وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه: جهم بن صفوان; ولذلك يسمى أهل هذا المذهب، عند السلف وأئمة الأمة: مذهب الجهمية، نسبة إلى جهم. ثم أعلن به وأظهره: بشر المريسي وأصحابه، في أوائل المائة الثالثة، لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب.
وجرى على إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان وأعظم بلية، وضرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل، قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله، حتى أجيبكم إليه، فيأبون ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، والأدلة العقلية الصريحة، وصنف في(3/286)
ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم.
والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضلال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد جمع الإمام اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم وتضليلهم، في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة". ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل، قدم به عبد الله بن معيذر، عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف.
إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل مصر وعصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال، التي جاء بها الكتاب والسنة; يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تشبيه; لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة، فإن الله تعالى: أعظم، وأجل، وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين، من أن يتجاسروا على وصفه ونعته بمجرد عقولهم، وآرائهم، وخيالات أوهامهم; بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.(3/287)
ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ وينكرون تعطيل معنى الاستواء، وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم; وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري; وظنه بعض الناس من مذاهب عقيدة أهل السنة والجماعة ; وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف; قال حذيفة رضي الله عنه: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه ".
فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم، أن يبحث عن مذاهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة; قال الله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 1-2-3] ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155] .
فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد(3/288)
احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة، وإن كان نظر العبد وميله، إلى كلام اليونان وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه; ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته.
وأما من جحد لفظ الاستواء ولم يؤمن به، فهو أيضا كافر; وكفره أغلظ وأفحش من كفر من قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله; ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والجهمي يوافق على كفر هذا، ولا يشكل كفر هذا، على من عرف شيئا من الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [سورة هود آية: 17] ، أي: بالقرآن.
وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش; فقد قدمنا: أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة، وأنهم يقفون وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة، وحيث انتهيا. قال الإمام أحمد، رحمه الله: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله. انتهى; وذلك لعلمهم بالله وعظمته في(3/289)
صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم إجلاله.
ولفظ: "المماسة " لفظ مخترع مبتدع، لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص، من الاستواء، والعلو، والارتفاع، والفوقية، فهو قول باطل، ضال قائله، مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، مكابر للعقول الصحيحة، والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب، من جنس ما قبله; وإن لم يرد هذا المعنى، بل أثبت العلو، والفوقية، والارتفاع، الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما، فهذا اللفظ: لا يجوز نفيه، ولا إثباته، والواجب في هذا الباب: متابعة الكتاب والسنة، والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية، وترك المتشابه.
وأما من قال: إذا قلتم إن الله على العرش استوى، فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان؟ وأين كان؟ وفي أي مكان؟!.
وجوابه: أن يقال: أما كيف كان؟ فقد أجاب عنها: إمام دار الهجرة التي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه.(3/290)
فأخبر رحمه الله: أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات، وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته، وعظيم جلاله؛ وعقول العباد، لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر; وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان; فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير، ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو; وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت، ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى، يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ لأنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه; والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول، ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به ويحتال من عقله، أخفى وأعضل، مما ظهر من سمعه وبصره، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
وقد قال بعضهم، مخاطبا للزمخشري، منكرا عليه نفي الصفات، شعرا:
قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول
أنت لا تفهم إياك ولا ... من أنت ولا كيف الوصول
لا ولا تدري خفايا ركبت ... فيك حارت في خباياها العقول
أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول(3/291)
أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تجول
فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك كذا فيها ضلول
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النّزول
وبالجملة: فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه; وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى؟ وهو يسمع إثبات الاستواء، في سبعة مواضع من القرآن.
وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة: ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها، مرفوعا، من حديث: أبي رزين العقيلي، أنه قال: "يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء"1 انتهى الحديث، فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه; والعماء هو: السحاب الكثيف، قال يزيد بن هارون، إمام أهل اليمن، من أكابر الطبقة الثالثة، من طبقات التابعين ومن ساداتهم، معناه: ليس معه شيء.
وأما قول السائل: وفي زعم هذا القائل، إنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش ; فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب تعالى وتقدس إلى شيء من خلقه; فإنه سبحانه هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها - العرش فما دونه - فقيرة محتاجة إليه تعالى، في إيجادها
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3109) , وابن ماجه: المقدمة (182) , وأحمد (4/11) .(3/292)
وفي قيامها، لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [سورة الروم آية: 25] والسماء: اسم لما علا وارتفع; فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش; وهو الذي: {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [سورة فاطر آية: 41] الآية، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة، إلى بارئهم وفاطرهم.
وقد قرر سبحانه كمال غناه وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته، في الرد على النصارى وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم، والشرك الوخيم، قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة يونس آية: 68] الآية، وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات.
ولا يظن أحد يعرف ربه أو شيئا من عظمته وغناه ومجده، أنه محتاج إلى العرش أو غيره; وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، أو من لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، أو من فسدت فطرته ومسخ عقله، بنظره في كلام الجهمية وأشباههم، حتى اجتالته الشياطين، فلم يبق معه أثارة من علم، ولا نصيب من فهم; بل استواؤه على عرشه صفة كمال، وعز، وسلطان; وهو من معنى اسمه (الظاهر) ، ومعناه: الذي ليس فوقه شيء; والعلو علو(3/293)
الذات، وعلو القدر، وعلو السلطان; كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه.
والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام آية: 68] . وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم، تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم، حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة على ما فهمه سلف الأمة مما ينَزّه الرب، تبارك وتعالى عنه.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف إلى ابن عون، وثناؤه عليه بجهاد أهل البدع]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه، وبالعلم كمله وزانه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وقد بلغني ما من الله به عليك، من جهادك أهل البدع، والإغلاظ في الإنكار على الجهمية المعطلة ومن والاهم; وهذا من أجل النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية.
فإن الجهاد بالعلم والحجة مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعائر السنة وآكدها، وإنما يختص(3/294)
به في كل عصر ومصر أهل السنة، وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان؛ فعليك بالجد والاجتهاد، واعتد به من أفضل الزاد للمعاد، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة غافر آية: 51-52] .
هذا وقد ألقى إلي ورقة جاءت من نحوكم، سودها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ; كما هو رأي جهم وأشياعه; محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم العلم والإيمان، والحقيقة، وأنه أضل ممن: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] ؛ وقد أبداه قائله، ليتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيا بغير زيه، فكشف الله سوأته، وأبدى خزيته، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه.
فأول ما رسم في هذه الورقة المشار إليها قوله: وفقك الله لأقوم طريق، هل لكلمة التوحيد، وهي "لا إله إلا الله" شروط، وأركان، وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟ هذا لفظه. وقد عرفت: أن هذا الرجل ليس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك.
والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية، حقيقته تعطيل(3/295)
الأسماء والصفات، لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف; والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك، فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة، غير موصوفة بصفة ثبوتية; ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام، هذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين، الذين ينكرون العلو والاستواء; ويزعمون أنه بذاته مستو في كل مكان; فما نزهوه عن شيء من الأماكن القذرة، التي ينَزه عنها آحاد خلقه، فما أجرأهم! وما أكفرهم! وما أضلهم عن سواء السبيل! ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه.
وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهو أجنبي عنه لا يدريه، وكيف يدري ذلك من أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة الإخلاص، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية، والكمال المطلق; فما للجهمية وهذا؟! وهم إنما يعبدون عدما; وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعبد إلها واحدا، فردا صمدا.
وشروط كلمة الإخلاص يعرفها بحمد الله صغار الطلبة من المسلمين، أهل الإثبات، ويتبين ذلك بتعريف الشرط، وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته; وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم; والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم; هذه شروط الصحة; وأما شروط القبول:(3/296)
فالالتزام، والإيثار، والرضاء; وإذا اجتمعت هذه الشروط، حصل القول المنجي، والشهادة النافعة; ومصدر هذه الشروط عن علم القلب وعمله; وهناك يصدر التلفظ بها، عن يقين وصدق; والجهمية لم يتصفوا بشرط من هذه الشروط; وقد صرح أهل السنة بذلك، وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات، كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن; قال أبو الطيب:
فقر الجهول بلا عقل إلى أدب فقر الحمار بلا رأس إلى رسن.
ولها أيضا: شروط; منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله ونعوت جلاله، التي علوه، وارتفاعه، واستواؤه على عرشه، من أظهرها، وأوجبها; وكذلك معرفة أمره ونهيه، ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله، وحدوده.
ومنها: كون الطبيعة لينة، منقادة، سلسة، قابلة; وهذه الشروط معدومة في السائل، قد اتصف بضدها; معبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه، ولا يأتمرون بأمره، والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية، يسمونها: قواطع عقلية، ومقدمات يقينية؛ ونصوص الكتاب، والسنة، عندهم: ظواهر لفظيه، وأدلة ظنية.
وأما طبائعهم: فأقسى الخلق، وأعتاهم، وأعظمهم ردا(3/297)
على الرسل، اعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة، وأمثالهم من شيوخ القوم الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا، فضلا عن معرفته وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص؟!.
وأما الأركان فركناها: النفي، والإثبات; نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده، على وجه الكمال; وأما الآداب، فالدين كله يدخل في مدلولها، وآدابها.
وأرفع مراتب الآداب وأعلاها: مرتبة الإحسان، وهي أعلى مقامات الدين; وبسطها يعلم من معرفة شعب الإيمان، وواجباته، ومستحباته; وعندهم: أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان، في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر: هذا رأي الجهمية الجبرية; فالأعمال عندهم ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص ليسا من أركانه; وهذا يعرفه صغار الطلبة، فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه، ولا من علمه; وفي المثل: ليس هذا عشك، فادرجي; والمقصود: إفادة مثلك; وأما السائل: فليس كفوا للرشاد إلى الهدى.
ثم قال الجهمي في ورقته: وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ما معناه: استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره، لأنه تعالى ما نفى استواءه عن غيره;(3/298)
فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى سبحانه بحرف الحصر؟ وحرف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص؟ وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت، مثلا: زيد استوى على الدار، فهل علم منه: أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل: يعلم ذلك بأدنى تأمل.
وجوابه، أن يقال: قد ثبت من غير طريق، عن مالك بن أنس رحمه الله، وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن، بل ويروى عن أم سلمة، أم المؤمنين، أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; وفي بعض طرقه: والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة; وزاد مالك، فقال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج; وعلى هذا درج أهل العلم وأهل السنة، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة الجهمية، وأشياخهم من غلاه الاتحادية، والحلولية.
وأما أهل السنة فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية، والهيبة، والإجلال، والتعظيم، من الخوض، والمراء، والجدال، والكلام الذي لم يؤثر، ولم ينقل; وقد عرفوا المراد من الاستواء، وصرح به أكابر المفسرين، وأهل اللغة; فثبت عنهم تفسيره بالعلو، والارتفاع، وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد; ولكنهم أحجموا عن مجادلة(3/299)
السفهاء الجهمية، تعظيما لله، وتنْزيها لرب البرية; وإذا أخبر - جل ذكره - أنه استوى على العرش، وعلا، وارتفع، وكل المخلوقات، وسائر الكائنات، تحت عرشه، وهو بذاته فوق ذلك; وفي الحديث: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء "1. فإذا عرف هذا، عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة، مختصة بالعرش.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل، الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله، وبالله عليك; قال: " الله أكبر، الله أكبر، إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟! إنه على عرشه - وأشار بيده كالقبة - وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه "2، وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه، من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله وقدسه، من سائر مخلوقاته.
ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنه سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش، وكذلك رسله، وأنبياؤه، وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بني آدم، من التوجه إلى جهة العلو،
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) .
2 أبو داود: السنة (4726) .(3/300)
وطلب معبودهم وإلههم، فوق سائر الكائنات {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة المؤمنون آية: 41] .
وتخصيص العرش بالاستواء نص في أنه لم يستو على غيره، والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام، ودلالته؟ قال الحسن في مثل هؤلاء: دهتهم العجمة; ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص، والإجماع، والفطرة، وكذلك دلالة الأسماء الحسنى، كالعلي، والأعلى، والظاهر، ونحو ذلك، ولفظ: العلو، والارتفاع، والصعود، يشعر بذلك. ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق، والفوقية المطلقة.
وأما قوله: وهل أتى سبحانه بحرف الحصر والاختصاص؟ فدلالة الكلام على الحصر، والاختصاص، تارة تكون بالحروف، وتارة تكون بالتقديم والتأخير، وتارة تكون من السياق، وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم والتأخير، وتارة يستفاد من الحروف، كقوله: " إنما الأعمال بالنيات "1، وقوله تعالى: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الكهف آية: 110] ، وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي،
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) .(3/301)
كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 107] ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ سورة آل عمران آية: 144] ونحو ذلك.
والسائل حصرها، يظنها منحصرة في الحروف، وهذا من جهله، ثم يسأل هنا عن أقسام الحصر، كم هي؟ وما الفرق بين حصر الأفراد، وحصر القلب، والحصر الادعائي، ومقابله؟
ويسأل: هل دلالة الحصر، نصية أو ظاهرية؟ وهل هي: لفظية أو عقلية؟ وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر تعالى: أنه استوى على العرش، فلا يجوز أن يقال: إنه استوى على غيره، لوجوه:
منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه، وزيادة نعت لم يعرف عنه، ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في عظم الذنب والإثم؛ وأكذب الخلق من كذب على الله، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [سورة الأعراف آية: 33] الآية.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى، يستحق من الصفات أعلاها، وأجلها، وأشرفها. والعرش: أعظم المخلوقات، وهو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله تعالى بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة آية: 129] ، وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [سورة البروج آية: 15] ، ووصفه بالسعة، فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ(3/302)
حِفْظُهُمَا} [سورة البقرة آية: 255]
الآية. فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح، وأثنى على نفسه باستوائه عليه، ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته؟
الوجه الثالث: أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها، فهذا جهل عظيم، والكلام يختلف باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من الصفات. وأصل ضلال هذه الطائفة أنهم فهموا من صفات الله الواردة، في الكتاب والسنة، ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد، تشبيه المخلوق بالخالق.
الوجه الرابع: أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل، قد نص القرآن على إبطاله، قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 74] ؛ وأصل الشرك والتعطيل، شبهوا أولا، وعطلوا ثانيا.
فصل: قال الجهمي في ورقته: وإذا أقررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، وقال: إنه قريب، وقال صلى الله عليه وسلم: " حيثما كنتم فإنه معكم " فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع،(3/303)
وتعارض الآيات والأحاديث، أم آيات الأخيرة، فقد قيل في الأولى: لأنها ليست من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفى الاستواء عن غير العرش.
هذا كلامه بحروفه، نقلناه على ما فيه من التحريف، واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت، حال هؤلاء الجهال، الضلال، الحيارى.
فأما قوله: إذا أقررت لله مكانا معينا، فاعلم: أن أهل السنة والجماعة، ورثة الرسل وأعلام الهدى، لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم، تعظيما للموصوف، وخشية، وهيبة، وإجلالا.
وأما أهل البدع، فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتحاشون من الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف؟ وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بالخوض بما لم يأتهم عنه ولا عن رسله، وذكر الله عن أصحاب النار أنهم قالوا، لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 42-43-44-45] ، فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته، بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [سورة المدثر آية: 43] ، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ(3/304)
نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [سورة المدثر آية: 44] ، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه، بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 45] .
وهذا حال أهل البدع والضلالات، الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل؛ إذا عرف ذلك، فلفظ المكان لم يرد، لا نفيا، ولا إثباتا، وقد يراد به معنى صحيحا، كالعلو، والاستواء، والظهور; وقد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة; فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة.
فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات، إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية; ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلقة; وأما قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة، قال ابن عباس: "خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قبل تحويل القبلة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، وصلوا، وتحروا القبلة، فلما ذهب الضباب، استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنَزلت هذه الآية". وقال ابن عمر: "نزلت في المسافر، يصلي التطوع، حيثما توجهت به راحلته".
وقال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة. وقال أبو(3/305)
العالية: عيرت اليهود المؤمنين، لما صرفت القبلة، فنَزلت هذه الآية. وقال مجاهد والحسن: نزلت في الداعي، يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] : أين ندعوه؟ قال الكلبي: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] فثم الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله تعالى: {هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} [سورة القصص آية: 88] أي: إلا هو، وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله، والوجه، والوجهة، والجهة: القبلة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] ختم هذه الآية، بهذين الاسمين الشريفين، يشعر بما قاله الكلبي، من أنه يعلم ويرى، ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله عرف صغر المخلوقات بأجمعها، في جنب ما له تعالى، من الصفات المقدسة، ولم يختلج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته وعظمت أن يحاط بشيء منها.
وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وفي الحديث: " وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1، ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل؛ وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، ومن أسمائه: العلي الأعلى، ومن
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) .(3/306)
أسمائه: القريب المجيب، ومن أسمائه: الظاهر الباطن.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] ، وقد حرف هذا السائل هذه الآية، وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص بداعيه; وفي الحديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "1 لأن حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه، وهذا مما يبين لك بطلان قول الجهمي: إنه بذاته في كل مكان، ولو كان الأمر كما قال الضال، لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب، ولكان المصلي وعابد الصنم سواء في القرب إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: المعية نوعان: عامة، وهي: معية العلم، والإحاطة، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] ، وخاصة، وهي: معية القرب، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة آية: 153] ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . فهذه معية قرب، تتضمن الموالاة، والنصر، والحفظ، وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر
__________
1 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) .(3/307)
وإعانة؛ فـ "مع" في لغة العرب، للصحبة اللائقة، لا تشعر بامتزاج، ولا اختلاط، ولا مجاورة، ولا مجانبة، فمن ظن شيئا من هذا، فمن سوء فهمه أتى.
وأما القرب فلم يقع في القرآن إلا خاصا، وهو: نوعان; قربه من داعيه بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة.
فالأول: كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية".
والثاني: كقوله صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 1 "وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل"، فهذا قربه من أهل طاعته.
وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "2 فهذا قرب خاص بالداعي، دعاء العبادة، والثناء، والحمد; وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستواءه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض، تعالى الله علوا كبيرا، ولكنه نوع آخر، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز، تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده
__________
1 مسلم: الصلاة (482) , والنسائي: التطبيق (1137) , وأبو داود: الصلاة (875) , وأحمد (2/421) .
2 البخاري: القدر (6610) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704) , وأبو داود: الصلاة (1526) , وأحمد (4/402) .(3/308)
أقرب إليه من جليسه، كما قيل:
ألا رب من يدنو ويزعم أنه يحبك والنائي أحب وأقرب
وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه، الذي هو عندهم أولى بهم من أنفسهم وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام، يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، هذا مع عدم تأتي القرب منها; فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه؟ وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك، إلى شبهة مبطل بعيد من الله، خلا من محبته ومعرفته. والقصد: أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا، فالمحبة بين قربين: قرب قبلها، وقرب بعدها، وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها.
[جواب الشيخ عبد اللطيف على من يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، ويسكت ويتستر بالتفويض]
وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله، عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، ويسكت، ومعناه من غير اعتماد حقيقة، ويتستر بالتفويض ... إلخ.
فأجاب:
اعلم أرشدك الله، أنه لا بد من الإيمان، بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، ليس(3/309)
في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما دلت على هذه الكتب السماوية والنصوص النبوية، والقواطع العقلية، وأجمعت عليه الأمم التي تؤمن بوجود الله وبربوبيته العامة؛ ولكن لما خاض بعض الناس في علم الكلام، وعربت كتب اليونان وقدماء الفلاسفة الذين هم من أجهل خلق الله وأضلهم في النظريات والضروريات، فضلا عن السمعيات مما جاءت به النبوات، حدث بسبب ذلك من الخوض والجدال في صفات الله ونعوت جلاله، التي جاءت بها الكتب، وأخبرت بها الرسل، ما أوجب لكثير من الناس تعطيل وجود ذاته وربوبيته، كما جرى للاتحادية والحلولية. فمن باب الكلام والمنطق، دخلوا في هذا الكفر الشنيع، والإفك الفظيع.
ومنهم من عطل صفات كماله ونعوت جلاله التي وصف بها نفسه، ووصفته بها رسله، وتمدح بها، وأثنى عليه بها صفوة خلقه وخلاصة بريته، حتى آل هذا القول والتعطيل بأهله، إلى أن شبهوه بالعدم المحض، فلم يصفوه إلا بصفات سلبية، ولم يثبتوا له من صفات كماله ونعوت جلاله ما هو عين الكمال والتعظيم، والإيمان والإجلال.
واختلف أهل هذا القسم اختلافا كثيرا، في أصول المقالات وفروعها. فمنهم من طرد الباب في جميع الصفات، ومنهم من أثبت بعضها، زعما منه أن العقل لا يثبت سواها، ونفى ما عداها من الصفات، كما هو(3/310)
المعروف عمن ينتسب إلى الأشعري والكرامي; ثم هؤلاء قد يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: تجرى على ظاهرها، يريدون أنها تتلى، ولا يتعرض لإثبات ما دلت عليه من المعنى المراد والحقيقة المقصودة; بل يصرحون برد ذلك ونفيه; ومقصود السلف بقولهم: أمروها كما جاءت، وقول من قال: تجرى على ظاهرها، إثبات ما دلت عليه من الحقيقة، وما يليق بجلال الله وعظمته، وكبريائه، ومجده، وقيوميته وحده، كما ذكر الوليد بن مسلم، عن مالك، والليث، وسفيان الثوري، والأوزاعي، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
فقولهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة الذين لا يرون ما دلت عليه وجاءت به من الحقيقة المقصودة والمعنى المراد، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة الذين يعتقدون أن ظاهرها فيه تمثيل وتكييف، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ ومذهب السلف: إثبات ما دلت عليه الآيات والأحاديث، على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، وكبريائه، ومجده.
ومن قال: تجرى على ظاهرها، وأنكر المعنى المراد، كمن يقول في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] إنه بمعنى: استولى، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] إنه بمعنى: القدرة، ومع ذلك(3/311)
يقول: تجرى على ظاهرها، فهذا جاهل متناقض، لم يفهم ما أريد من قولهم: تجرى على ظاهرها. ولم يفهم أن الظاهر هو ما دلت عليه نصا أو ظاهرا في معناه المراد، ولا يكفي في الإيمان الإتيان بقول ظاهر، يوافق ما كان عليه السلف وأهل العلم، مع اعتقاد نقيضه في الباطن؛ بل هذا عين النفاق، وهو من أفحش الكفر في نصوص الكتاب والسنة.
وأهل السنة وأهل العلم والفتوى لا يكتفون بمجرد الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة في الصفات، من غير اعتقاد لحقيقتها وما دلت عليه من المعنى; بل لا بد من الإيمان بذلك، وكذا الاستواء على العرش، العلو، والارتفاع; وحديث الجارية: نص في أن اعتقاد العلو والفوقية، لا بد منه في الإيمان، وكما دلت عليه النصوص المتظاهرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 18] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [سورة غافر آية: 2] ، وحديث الأوعال، وحديث الرقية، وحديث الاستسقاء، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى.
قال أبو مطيع: قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق(3/312)
السماوات، قلت: فإن قال إنه على العرش استوى، ولكن لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل؛ وهذا يدل على أن من آمن بنفس اللفظ، ونفى ما يدل عليه من العلو، فهو كافر عنده؛ وغيره من الأئمة لا يخالفه. وقال مالك رحمه الله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان.
وقد بسط اللالكائي - رحمه الله - أقوال الأئمة من السلف ومن بعدهم، على تكفير هذا الضرب من الناس. وقد حبس هشام بن عبد الله الرازي، قاضي الري، رجلا في التجهم، فأظهر التوبة، فأحضر عنده، فقال: الحمد لله على التوبة، فقال هشام: أتشهد أن الله على عرشه، بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه، فإنه لم يتب.
وذكر الحاكم بإسناد صحيح، عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، رحمه الله، أنه قال: "من لم يقل إن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي في مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه، أهل القبلة وأهل الذمة".
وبهذا تعلم أن التفويض عند السلف، إنما هو في العلم بالكيفية، لا فيما دلت عليه النصوص من إثبات(3/313)
صفات الكمال، كالعلو، والارتفاع، والفوقية، فإن هذا لا بد من اعتقاده، والإيمان به; وقال ابن أبي زيد، القيرواني، في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: بذاته وقد أنكر عليه من لا علم له، ولا اطلاع على مذهب السلف، والأئمة المقلدين، رضي الله عنهم أجمعين; وخبط في هذا المقام، بما لا طائل تحته، من فضول الكلام، الدال على فساد القصد، وعدم رسوخ الأفهام؟ فنعوذ بالله من معرة الجهل، والأوهام، ونستجير به، من مزلة الأقدام.
[جواب الشيخ عبد اللطيف على تفسير النور في حديث أعوذ بنور وجهك]
وقال أيضا: الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى: وأما السؤال عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك " وقوله في حديث أبي موسى: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه "1، وقول السائل: هل يفسر هذا النور، أو لا؟
فالجواب:
أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله، في نونيته; وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مخرجه من الطائف، من الأول بلا ريب، فهو صفة ذات; وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنفس; وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السبحات المضافة إلى وجه الله تعالى، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف، على ما يأتي تفسيره.
__________
1 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405) .(3/314)
وأما قوله: حجابه النور فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف، تدل على أن الله احتجب بحجب من نور، مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه، لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم، من أوصاف الذات; والأصل في العطف أن يكون للمغايرة; وقال في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه سمى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا; قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة النور آية: 35] الآية، وقد فسر بكونه: منور السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى.
فالنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول، كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [سورة الزمر آية: 69] ، إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم، أن تضلني، لا إله إلا أنت " وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجهه; كما أخبر تعالى: أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي معجم الطبراني، والسنة له، وكتاب عثمان(3/315)
الدارمي، وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه: " ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه "، وهذا الذي قاله ابن مسعود، رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من فسرها: إنه هادي أهل السماوات والأرض; وأما من فسرها بأنه: منور السماوات والأرض، فلا تنافي بينه، وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض، بهذه الاعتبارات كلها.
وفي صحيح مسلم وغيره، من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"1 فذكرها، وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه "2، قال شيخ الإسلام: معناه: كان ثم نور، أو حال دون رؤيته نور، وأنى أراه; قال ويدل عليه: أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نورا" وذكر الكلام في الرؤية، ثم قال: ويدل على صحته، ما قال شيخنا، في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "حجابه النور": فهذا النور - والله أعلم - هو النور المذكور في حديث أبي ذر: " رأيت نورا "3 وأما السبحات، فهي نور الذات المقدسة العلية، وهي: النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم، وكلامه فيه إيماء إلى أنه
__________
1 مسلم: الإيمان (179) , وابن ماجه: المقدمة (195) , وأحمد (4/405) .
2 مسلم: الإيمان (178) , والترمذي: تفسير القرآن (3282) , وأحمد (5/157 ,5/170 ,5/175) .
3 مسلم: الإيمان (178) .(3/316)
تعالى احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية البارئ تعالى وتقدس، وهذا النور، الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر: " رأيت نورا " وقد احتجب سبحانه وتعالى بحجب عن خلقه، من نور ومن غيره، كما ذكر في آثار مروية عن السلف، جمع كثيرا منها السيوطي، في كتاب الهيئة السنية؛ فإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم، جازت الاستعاذة بها، لأنها وصف ذات.
ويؤيد ما إليه أومأ ابن القيم، رحمه الله تعالى، قول ابن الأثير: سبحات الله جل جلاله، عظمته; وهي في الأصل: جمع سبحة، وقيل: ضوء وجهه، وقيل: سبحات وجهه، محاسنه; وقيل معناه: تنْزيهه له; أي: سبحان وجهه; وقيل: إن سبحات الوجه، كلام معترض، بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها، لأحرقت كل شيء أبصرت.
قلت: يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به ولذلك، قال: لو كشفها; قال: وأقرب من هذا، أن المعنى: لو انكشف من أنوار الله تعالى - التي تحجب العباد - شيء، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل دكا، لما تجلى الله سبحانه وتعالى؛ ففي كلام ابن الأثير: ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره، أن جبرائيل، "قال: لله دون العرش سبعون حجابا، لو دنونا من(3/317)
أحدها، لأحرقتنا سبحات وجهه". انتهى.
ومقتضى ما قال القرطبي، في حديث أبي موسى: " حجابه النور، أو النار ": أن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين، فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال، ونعوت الجلال.
[الاشتغال بكتاب الإحياء للغزالي وكلام الأئمة فيه]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين.
وبعد: فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق من ريح عاتية أو صيب; فكتبت إليه نصيحة وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية والسير السلفية،(3/318)
والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له.
فكتبت إليه كتابا، فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة; وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب، المسمى بالإحياء ليكون الطالب على بصيرة من أمره، ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول.
وصورة ما كتبت، أولا:
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين.
وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من(3/319)
دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم، لا قوام للإسلام إلا به. وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام; وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة، في القرى والأمصار.
قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها؛ بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين. وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة، لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل.
قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية، وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد. ورد عليه غيره من علماء الدين، وقال فيه تلميذه بن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج فلم يحسن; وكلام(3/320)
أهل العلم معروف في هذا، لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة.
ومشايخنا - تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقه والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك، وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي.
وأنت قد خالفت سبيلهم، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم، المنتسبين إلى السنة: ما أقبح الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة، قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشأن.
كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك وحركك، فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه.
وينبغي للإمام، أيده الله، أن ينْزع هذا الكتاب من(3/321)
أيديكم; ويلزمكم بكتب السنة، من الأمهات الست وغيرها، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد; فمن ذلك: قول الذهبي - في ترجمته للغزالي -: وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه، في مضائق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه، وساق الكلام - إلى أن قال -: ذكر هذا عبد الغافر - إلى أن قال -: ثم حكى عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف، بحيث شغله عن كل شيء - إلى أن قال - ومما كان يعترض عليه به، وقوع خلل من جهة النحو، في أثناء كلامه، وروجع فيه، فأنصف واعترف بأنه ما مارسه.
ومما نقم عليه، ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور والمسائل، بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة. وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال: ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له. فإن العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك، تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل.(3/322)
قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. انتهى.
ومن معجم أبي علي الصدفي، في تأليف القاضي عياض له، قال الشيخ: أبو حامد، ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريق التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تآليفه المشهورة؛ أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها، فامتثل ذلك. انتهى.
ونقل أبو المظفر يوسف، سبط ابن الجوزي، المتهم بالتشيع، في كتابه: رياض الأفهام قال: ذكر أبو حامد في كتابه: سر العالمين، وكشف ما في الدارين، وقال في حديث: " من كنت مولاه فعلي مولاه " إن عمر قال: بخ، بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة، قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى، حبا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة، ونهيها، فحملهم على الخلاف {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] ، وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية.(3/323)
قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا، الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق. قلت: هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب، قلت: ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض: أن ما ينسب إلى هذا الرجل، لا يغتر به، ويجب هجره واطراحه، لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال.
قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع، ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية، القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مردئ، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء وخيار المخلصين، لتلف.
فالحذر، الحذر، من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه، في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم، يغفر له، وينجو إن شاء الله تعالى.
وقال أبو عمر بن الصلاح: فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد; ففي تواليفه أشياء لم يرتضها(3/324)
أهل مذهبه من الشذوذ. منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا.
فأما كتاب: المضنون به على غير أهله; فمعاذ الله أن يكون له، شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب: مقاصد الفلاسفة، وقد نقضه الرجل بكتاب: التهافت.
وقال أحمد بن صالح الجبلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب: الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله، وأباد الباطل وأزاله ... ثم أورد المازري أشياء مما انتقده على أبي حامد، يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى، فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت، بغير الثابت.
وكذا ما أورد عن السلف، لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن(3/325)
مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله، إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه، - المانعة من جهله.
وكذبه إلى طلب التأويل1 كقوله: " إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن "2 " وإن السماوات على أصبع " وكقوله: " لأحرقت سبحات وجهه "3 وكقوله: " يضحك الله " إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة، ظاهرها مما أحاله العقل4 - إلى أن قال - فإذا كانت العصمة غير مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه، إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله، فيتأول ... إلى أن قال: ألا ترى: لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية، مذهبه في قدم الصوت والحرف، وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ، إذا قرأ كتاب الله، عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا; وقال
__________
1 قوله: إلى طلب التأويل ... إلخ, مردود على قائله, والذي عليه السلف: أن هذه الأحاديث, ونحوها, تجري على ظواهرها, مع اعتقاد ما دلت عليه.
2 الترمذي: القدر (2140) , وابن ماجه: الدعاء (3834) .
3 مسلم: الإيمان (179) , وأحمد (4/400 ,4/405) .
4 لا تحيله العقول السليمة, فإنها حق على حقيقتها.(3/326)
بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث، إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية.
وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: إن بعض من يعظ، ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشريعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد، إمام بدعتهم، فأين هو من تشنيع مناكيره؟ وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم: أن هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها.
قال أبو حامد: وأدنى من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا فأعرض من قوله، على قوله: ولا يشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق، فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما أمركم به، ثم إن القاضي أقذع، وسب، وكفر.
وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرا من إحياء عشرة، لإطلاقه ألفاظا، ونقل عن بعضهم قال: للربوبية(3/327)
سر لو ظهر لبطلت النبوة; وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم; وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام; قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام.
قال ابن أحمد: ثم قال الغزالي، القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق; فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، وقال الغزالي: العارف، يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة، التي لحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت صدّيقا، وإذا رأيته في النهاية قلت زنديقا، ثم فسره الغزالي، فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض، لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية; فيجلس فارغ القلب، مجموع الهم، فيقول: الله، الله، الله، على الدوام; فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث; فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة ببيت مظلم، ويتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [سورة المزمل آية: 1] ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] .
قلت: إنما سمع شيطانا، أو سمع شيئا لا حقيقة له،(3/328)
من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالكتاب، والسنة، والإجماع.
قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفاء، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة; وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. قال ابن عساكر: حج أبو حامد، وأقام بالشام نحوا من عشرين سنة، وصنف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق، في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري، من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين.
وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسته ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية. ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل: عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين، سلطان مراكش، فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف: البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، والمنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء أخرى. انتهى.(3/329)
قال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي، سمعت عبد الله بن تومرت، يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية، سنة خمسمائة، كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابر، ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد.
قال أبو بكر بن العربي، في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما، انتقده عليه العلماء، وقال: وليس في قدرة الله أبدع من هذا العالم، في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع أو أحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال: والجواب: أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق، لا في سواه; وهذا رأي فلسفي، قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا; والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: هذه وهلة لألعابها، ومزلة لا تماسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد عليه إلا بقوله.(3/330)
ومما أخذ عليه، قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه; فأي سر للقدر؟! فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان فهذه دعوى محضة، فلعله عنى بإفشائه: أن تعمق في القدر وبحث فيه.
قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم، أنبأنا أبو الحسن السخاوي، أنبأنا خطاب بن قمرية الصوفي، أنبأنا سعد بن أحمد الإسفرائيني بقراءتي، أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات؛ وترك المناهي هو الأشد، والطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه، كأنه ينظر في كتب الغزالي، فإذا هي كلها تصاوير.
وقال ابن الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم، وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء(3/331)
الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين؛ ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات.
قال الذهبي، بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي، قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم، وزهد من طرائق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا; تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا، وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: " من رغب عن سنتي فليس مني "1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات; فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى.
ولمحمد بن علي المازني الصقيلي، كلام على الإحياء، قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت. وكاتبني
__________
1 البخاري: النكاح (5063) , ومسلم: النكاح (1401) , والنسائي: النكاح (3217) , وأحمد (3/241 ,3/259 ,3/285) .(3/332)
أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب، سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر، مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا: أن هذا الرجل، رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعا من حاله، ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين، والمتصوفة، وأصحاب الإشارات، والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف.
ثم قال: وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين، فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا يزعها شرع; وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة; ألفها من قد خاض في علم الشرع، والنقل، وفي الحكمة; فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تصانيف، أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره.(3/333)
[رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن]
قال الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الكتاب: النصيحة لله، التي هي من ألزم اللوازم، وفي الحديث: "الدين النصيحة ... "1 إلخ.
وبعد حمد الله الذي هو للحمد أهل، فالذي أوصيك به: تقوى الله تعالى، واتباع كتابه الذي جعله للناس نورا وروحا، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة الشورى آية: 52] ، فكما أن الروح حياة البدن، فالقرآن حياة القلوب; فإذا عرف الإنسان، أن القلب يموت بفقد القرآن، كما يموت البدن بفقد الروح، عرف قدر القرآن، وأن طلب الهدى من غيره ضلال وهوان، فالروح للحياة، والنور للهداية.
وأما قوله {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الشورى آية: 52] ففيه خوف
__________
1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) .(3/334)
المؤمن على نفسه أن لا يوفق لذلك; وفيه بيان التوكل على الله في كل الأمور، خصوصا في هداية القلوب وغفران الذنوب، فما قدر الله حق قدره من استعان بغيره في حاجاته; وفيه الفرق بين هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، كما في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة القصص آية: 56] .
إذا تقرر ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله إماما للناس، فكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة للقرآن مبينة له; فما وافق هديه فهو الصراط المستقيم، وما خالفه فهو البدعة والضلال الوخيم، وكل بدعة ضلالة، إذ لا طريق إلى الحق إلا من طريقه، ولا شرب إلا من حوضه ورحيقه، وجميع الطرق مسدودة، وجميع الآراء مردودة، إلا ما وافق الكتاب والسنة. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [سورة النور آية: 63] الآية، فانظر إلى إنكاره على من وافق رأي سفيان، فكيف بمن اتبع رأي فلان وفلتان، وترك النظر في السنة والقرآن؟ !
وقد حضر إلى الواثق في أيام المحنة، رجل من البادية، فقال: هل علم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي الذي دعوتم إليه الناس، ولم يدع الأمة إليه، أو هو لم يعلمه؟ فقال القاضي: بل علمه، فقال: وكيف وسعه أن يترك الناس ولم(3/335)
يدعهم إليه، وأنتم لا يسعكم؟ فترك الواثق المحنة.
والمقصود: أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وطاعة الغير سائغة الاتباع، وقد عكس الناس القضية، بآراء غير مرضية. قال بعض العلماء: مات أبو بكر، وعمر، ولم يعرفا الجوهر والعرض ولا لفظ الجهة، ولا الحيز؛ بل درجا على ما عليه صاحبهما درج، وتركا ما فيه الضيق والحرج.
وقد سد السلف رضوان الله عليهم باب الخوض والكلام فيما لم يكن على عهد السلف الكرام، لأنهم أعرف بالله، وبأسمائه، وصفاته، ولم يتكلموا فيها بما يحيلها عن ظاهرها المراد اللائق بالله لا بالعباد، وهم أزكى الأمة عقولا، وأوفرها علوما، وأرسخها إيمانا، أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم وكانوا أشد الناس في ذلك، وفي سد تلك الطرق والمسالك المفضية إلى المهالك. روى عثمان بن سعيد الدارمي قال: حدثنا الحسن بن الصباح قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك، قيل له: "كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة، بائن من خلقه".
قال الواسطي رحمه الله، واعلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات، وقد صرح ببيان صفات الله، مخبرا بها عن ربه، واصفا له بها؛ وكان(3/336)
يحضر مجلسه الشريف العالم، والجاهل، والذكي، والبليد، والأعرابي الجافي; وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الكتاب، ويعتقدوا موجب ذلك الخطاب، ليزدادوا به معرفة، مع الفطرة السليمة.
فهل يتصور عاقل أن هناك دليلا خفيا لا يستنبطه إلا أفراد الناس؟ ويدع الأمة في حيرة والتباس، ويترك تبليغه الأمة، ويدعهم في جهالة وضلالة وغمة، حتى إذا انقرض عصر الصحابة والتابعين، ظفر ببيانه من أخذ عن اليونان والصابئين، كجهم وبشر وغيرهما من المبتدعين؟! هذا والله نقيض البيان، وضد الهدى والبرهان، كيف يتكلم هو، وهم، بكلام يريدون به خلاف ظاهره المراد، المخالف لما يتوهمه أهل الفساد، ويندرجون على خلاف هذا الاعتقاد، وأن صرفه إلى التأويلات المحدثة هو المراد؟ !.
من لم يكن يكفيه ذان فلا كفاه الله شر حوادث الأزمان
بل السلف رضوان الله عليهم أنصح للأمة، وأبين للسنة، وقد فهموا: أن بعض العلم جهالة، قال صلى الله عليه وسلم: " إن من العلم جهلا "1 وقال في دعائه: " أعوذ بالله من علم لا ينفع "2، وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله"3؟
وقد علم أن ما كان في الكتاب والسنة، لا يخالف ظاهره باطنه، فقد عرفوا دليله، ووضحوا سبيله، إما بأن
__________
1 أبو داود: الأدب (5012) .
2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2722) , والنسائي: الاستعاذة (5458 ,5538) .
3 البخاري: العلم (127) .(3/337)
يكون عقليا ظاهرا، مثل قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل آية: 23] فإن كل أحد يعلم من عقله أن المراد وأوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] فإنه قد علم بالضرورة أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيا ظاهرا، مثل الدلالات في الكتاب والسنة، التي تصرف عن الظاهر، كالمعية الخاصة، والعامة; فإن الإجماع من الصحابة والتابعين انعقد على أن المراد به العلم، لأن الله بدأها بالعلم وختمها به.
وقد أجمع العقلاء أنه لا بد من دليل سمعي أو عقلي، يوجب الصرف عن الحقيقة إلى المجاز، وإن ادعى ظهور الدليل، فلا بد من دليل مرجح لحمله على ذلك. ومن الموانع: الاشتراك في اللفظ، ومن أراد هذا وجده في مظانه؛ ومن جعل السنة معياره أدرك المأمول، وعرف جنايات المجازات والعقول، على صريح المنقول.
ومن تغذى بكلام المتأخرين من غير إشراف على كتب أهل السنة المشتهرين، ككتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب السنة للخلال، وكتاب السنة للالكائي، والدارمي، وغيرهم، بقي في حيرة وضلال؛ وسأذكر لك طرفا من كلام العلماء، في بيان الاستواء.
قال الواسطي: ظن القوم أن إثبات الجهة في حق(3/338)
الباري وجودية، تحيط به وتحوطه، إحاطة الظرف بالمظروف; وهو سبحانه أعظم من ذلك وأكبر {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، لا طريق إلى العلم بذلك، ولا نتجاوز ما علمناه في كتابه وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى؛ وإثبات جهة الفوقية لا محيد عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم آية: 30] ، وهو بحسب الكون وحدوثه، لا بحسب المكون، تعالى وتقدس.
وتكون الإشارة إلى السماء إشارة حقيقية، وهي واقفة على أعلى جزء من الكون، وتقع على عظمة الإله على ما يليق به، وإنكاركم للجهة التي المقصود بها مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه على خلقه، واستواؤه على عرشه، إنكار باطل، وتسميته جهة اصطلاح منكم نفرتم به الجهال، وسوغتم به الضلال، ونفيتم به صفات الكمال.
قال بعض العلماء: وقد توصل الجهمية إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل، فسموا ما فوق العالم جهة وقالوا: منَزّه عن الجهة، وسموا العرش حيزا وقالوا: منَزّه عن التحيز; وسموا الصفات أعراضا وقالوا: منَزّه عن قيام الأعراض؛ وسموا حكمته غرضا وقالوا: منَزّه عن الأغراض؛ وسموا كلامه، ونزوله إلى السماء، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، ومشيئته، وإرادته، وغير ذلك حوادث، وقالوا:(3/339)
منَزّه عن الحوادث; وحقيقة هذا التنْزيه، أنه منَزه عن الوجود، وعن الربوبية، وعن الملك، وعن كونه فعالا لما يريد، إذ لا حرج ولا عار في الإقرار بما في كتابه العزيز وصحيح الأخبار.
فانظر ما تحت تنْزيه المعطلة، وما تحت تشبيه المجسمة، من عزل الكتاب والسنة، وسلب الصفات، أو جعلها كصفات المخلوقات، تجد الحق وسطا بين طرفين، وهدى بين ضلالتين; ومن خبيث صنيعهم أنهم لما علموا أن النصوص قاضية عليهم، قالوا: هي ظنية، والعقول قطعية، وقد علم كل من وفقه الله أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح.
ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا
والحاصل: أنه ما من اسم يسمى الله به، إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد، وأنه سبحانه منَزه عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه، فكما أن علمنا، وقدرتنا، وإرادتنا، وحياتنا، وكلامنا، ونحوها من الصفات أعراض تدل على حدوثنا، امتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فنعوذ بالله من تأويل يفضي إلى تعطيل، ومن تكييف يفضي إلى تمثيل.
وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف كالخطابي، أن الصفات تجرى على ظاهرها، مع نفي(3/340)
الكيفية والتشبيه، وذلك أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، لأنه فرع عنه، يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدا، وسمعا، وبصرا، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم، والسلام.(3/341)
[جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف في إطلاق لفظة تبارك على غير الله]
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل يجوز إطلاق لفظة (تبارك) على غير الله؟ مثل من يقول: تبارك علينا فلان، أو تباركت الدابة، ونحو ذلك؟ وهل هو دعاء، أو إخبار، فلا يمنع منه؟ أو صفة من الصفات، فلا تطلق إلا على الله؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه المسألة قد كفانا جوابها شمس الدين ابن القيم، رحمه الله تعالى، في بدائع الفوائد، بأوضح عبارة وأبينها، لمن أراد الإنصاف، وسلم من التعصب والاعتساف، وصرف المعاني عن حقائقها إلى ما لا تدل عليه، ولا تفهم منه.
قال رحمه الله: فصل: وأما البركة، فهي نوعان:
أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى، والفاعل منه مبارك يتعدى بنفسه تارة، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارة، والمفعول منها مبارك وهو ما جعله كذلك، فكان مباركا يجعله تعالى; والنوع الثاني: بركة تضاف إليه تعالى، إضافة الرحمة، والعزة، والفعل منها (تبارك) ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل؛ فهو سبحانه المتبارك، وعبده، ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً(3/342)
أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] فمن بارك الله فيه، وعليه، فهو: المبارك.
وأما صيغة (تبارك) فمختصة به تعالى، كما أطلقها على نفسه، بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] ، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [سورة الزخرف آية: 85] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [سورة الفرقان آية: 10] ، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الفرقان آية: 61] ، أفلا تراها، كيف اطردت في القرآن، جارية عليه، مختصة به لا تطلق على غيره؛ وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى، وتعاظم، ونحوها; فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته، وعظمها وسعتها، وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك: تعاظم; وقال آخر: إن معناه: مجيء البركات من قِبَله، فالبركة كلها منه; وقال غيره: كثرة خيره وإحسانه إلى خلقه; وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم، وقيل: تزايد على كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، ومن هنا قيل معناه: تعالى، وتعاظم.
وقيل: تبارك: تقدس، والقدس الطهارة، وقيل: تبارك أي: باسمه يبارك في كل شيء، وقيل: تبارك: ارتفع،(3/343)
والمبارك المرتفع، ذكره البغوي، وقيل: تبارك، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره; وقال ابن عباس: حاز كل بركة; وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة الخير ودوامه، ولا أحق بذلك وصفا، وفعلا، منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف، يدور على هذين المعنيين، وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظ، معنى الوصف لا الفعل; فإنه فعل لازم، مثل: تعالى، وتقدس، وتعاظم; ومثل هذه الألفاظ، لا يصح أن يكون معناها، أنه جعل غيره عاليا، ولا قدوسا، ولا عظيما; وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نسبت إليه.
وهو: المتعالي، المتقدس في نفسه، فكذلك: تبارك، لا يصح أن يكون معناها، بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر، لفظا ومعنى، هذا لازم، وهذا متعد، فعلمت: أن من فسر تبارك، بمعنى: ألقى البركة، وبارك في غيره، لم يصب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركا، فتبارك، من باب مجد والمجد: كثرة صفات الجلال، والكمال، والسعة، والفضل، وبارك من باب أعطى وأنعم.
ولما كان المتعدي في ذلك، يستلزم اللازم، من غير عكس، فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي، لينتظم المعنيان، فقال: مجيء البركة كلها من عنده، أو البركة كلها(3/344)
من قِبَله، وهذا فرع على تباركه في نفسه، وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه، عند انصرافه من الصلاة: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" 1 فتأمل هذه الألفاظ الكريمة، كيف جمعت نوعي الثناء، أعني: ثناء التنْزيه والتسبيح، وثناء الحمد، والتمجيد، بأبلغ لفظ وأوجزه، وأتمه معنى; فأخبر أنه السلام، ومنه السلام، فالسلام له وصفا وملكا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأسمائه، كلها سلام؛ وكذلك الحمد، كله له وصفا، وملكا؛ فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا؛ وكذلك العزة، كلها له وصفا، وملكا؛ وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه، ومن عز من عباده، فبإعزازه له; وكذلك الرحمة، كلها له وصفا وملكا؛ وكذلك البركة، فهو المتبارك في ذاته، والذي يبارك فيمن يشاء من خلقه، وعليه، فيصير بذلك مباركا {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزخرف آية: 85] .
وهذا بساط، وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه، وأطرافه; وأما ما وراء ذلك، فكما قال أعلم الخلق، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاها: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "2. وقال في حديث
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (591) , والترمذي: الصلاة (300) , وأبو داود: الصلاة (1512) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (928) , وأحمد (5/279) , والدارمي: الصلاة (1348) .
2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) .(3/345)
الشفاعة الطويل: " فأخر ساجدا لربي، فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن "1، وفي دعاء الهم والغم: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "2، فدل على أن لله سبحانه أسماء وصفات استأثر بها في غيبه دون خلقه، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ وحسبنا الإقرار بالعجز، والوقوف عندما أذن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه.
[رسالة الشيخ حمد بن عتيق في الفرق المبين]
وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:3.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على إعانته وتسديده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة من عادى كل مشرك، ودان بإبطال تنديده; وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، خير خلقه وأفضل عبيده، المبعوث بالدعوة إلى دين ربه وبيان توحيده.
أما بعد: فإنه قد وصل إلينا رسالة من بعض الإخوان من أهل القصيم، ذكر أنه ألقى إليه ما فيها بعض الملحدين، أن الإمام أحمد، ومالكاً، والشافعي، وأبا
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4712) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .
2 أحمد (1/452) .
3 وقد سمى هذه الرسالة "الفرق المبين, بين مذهب السلف, وابن سبعين, وإخوانه الاتحادية الملحدين".(3/346)
حنيفة، والعلماء مثلهم، تكلموا في الصفات، كابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، والتلمساني، كلهم خاضوا في الصفات: فالأئمة الأربعة، قالوا: سميع، بصير، غفور، رحيم، عليم، حليم، وأن كلامهم مشابه لكلام ابن عربي، وإخوانه; لأنهم يقولون ذلك; وكلهم، أطلقوا أن لله صفات مشابهة لصفات العبد; لأن العبد يسمى سميعا، بصيرا، حليما، عليما.
فإذا قلتم: إنهم في القول سواء، فكيف وجه تبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم؟ وقد وصفوا الله بما وصف به نفسه؟ ! فإن ابن عربي، والإمام أحمد، كلهم مسلمون، يقتدى بهؤلاء، مثلما يقتدى بهؤلاء; وما الحكم في هذا القائل؟ والحديث الذي يروى عن أبي هريرة: "أن الله لما خلق الخلق، أخذ الرحم بحقوه، فقال: مه. فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة "1 وهل صح أنه قال: " خلق الله آدم على صورته " 2؟ وهل يفسر العجب بالرضى؟
فنقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] .
مورد هذا السؤال: إما يكون من أبله الناس وأشدهم بلادة، فكأنه لا شعور له بالمحسوسات; فإن الفرق بين ما عليه الصحابة والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة وإخوانهم، وما عليه ابن عربي، وابن الفارض، والتلمساني،
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4832) .
2 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315) .(3/347)
وابن سبعين، وأتباعهم: أمر معلوم عند من قرأ القرآن، ودخل في قلبه الإيمان; فإما أن يكون هذا المورد من جنس الأنعام السارحة، أو يكون من أتباع ابن عربي، وإخوانه، من أهل وحدة الوجود، وأراد التلبيس على خفافيش البصائر، فينبغي بيان ما عليه الطائفتان.
فاعلم أن الذي عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، وجميع أهل السنة والجماعة، في جميع الأعصار، والأقطار، أنهم يعتقدون ما دل عليه الكتاب والسنة من أسماء الرب تعالى وصفاته، وأفعاله، ويثبتونه لله على ما يليق بجلاله، مع اعتقادهم: أنه دال على معان كاملة، ثابتة في نفس الأمر، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يعتقدون أن الله لا يشبهه شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله; فمن شبه الله بخلقه فقد كفر; ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيها; ويعتقدون أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن العرش فوق جميع المخلوقات.
ويؤمنون بعموم مشيئة الرب، وسبق قضائه وقدره، وأن جميع ما في الكون من خير وشر، كله بقضاء الله وقدره، وداخل تحت مشيئته الكونية القدرية، وأنه أمر بالإيمان به(3/348)
وطاعته وطاعة رسوله، ويحب الإيمان والمؤمنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ونحو ذلك، ويبغض الكفر والمعاصي، وينهى عنها; ورتب على ذلك الثواب والعقاب; هذا حاصل معتقد أهل السنة والجماعة; وهم: الفرقة الناجية; وهم: أهل الصراط المستقيم; وأما من خالفهم من أهل البدع والضلالات، فلهم أهواء مختلفة وآراء متشتتة; وهي التي قال الله فيها: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] .
والكلام الآن فيما عليه أهل وحدة الوجود ابن عربي، وابن الفارض، والتلمساني، وإخوانهم، لأنه الذي تضمنه السؤال; فنقول:
مذهب هذه الطائفة الملعونة أن الرب تعالى وتقدس هو عين الوجود، ويصرحون في كتبهم: أن وجود الرب هو عين وجود السماوات، والأرض، والجبال، والبحار، وجميع الموجودات هي عين الرب، عندهم! فليس عندهم رب وعبد! ولا خالق ومخلوق! !
وقد قال العلامة: ابن القيم، رحمه الله تعالى آمين:
فالقوم ما صانوه عن إنس ولا ... جن ولا شجر ولا حيوان
لكنه المطعوم والملبوس والـ ... مشموم والمسموع بالآذان
وكذلك قالوا إنه المنكوح والـ ... مذبوح بل عين الغوي الزاني
والكفر عندهم هدى ولو أنه ... دين المجوس وعابدي الأوثان(3/349)
قالوا وما عبدوا سواه وإنما ... ضلوا بما خصوا من الأعيان
ولو أنهم عَمّوا وقالوا: كلها ... معبودة ما كان من كفران
قالوا: ولم يك كافرا في قوله ... أنا ربكم فرعون ذو الطغيان
بل كان حقا قوله إذ كان عـ ... ين الحق مضطلعا بهذا الشأن
قالوا: ولم يك منكرا موسى لما ... عبدوه من عجل لذي الخوران
إلا على من كان ليس بعابد ... معهم وأصبح ضيق الأعطان
ولقد رأى إبليس عارفهم فأهـ ... وى بالسجود هوي ذي خضعان
قالوا له: ماذا صنعت؟ فقال: ... هل غير الإله وأنتم عميان
ما ثَمّ غيرٌ فاسجدوا إن شئتم ... للشمس والشيطان والأصنام
فالكل عين الله عند محقق ... والكل معبود لذي العرفان
هذا هو المعبود عندهم فقل ... سبحانك اللهم ذا السبحان
وقال أيضا:
واحتج يوما بالقرآن عليهم شخص فقالوا: الشرك في القرآن
فلينظر اللبيب إلى ما قاله هؤلاء من الكفر العظيم، من كونهم يقولون: إن ربهم هو المطعوم، والملبوس، والمشموم، والمنكوح، والمذبوح، ونحو ذلك، تعالى الله وتقدس، وأن الكفر هو الهدى، وأن المجوس إنما عبدوا الله، وإنما ضل من ضل بتخصيصه عبادته ببعض المخلوقات، ولا يكون موحدا عندهم إلا من عبد جميع الموجودات. ومن قولهم: إن فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سورة النازعات آية: 24] وأن موسى إنما أنكر على من ترك عبادة العجل، وأنكر(3/350)
على هارون إنكاره عليهم، وكذلك لما سجد بعض أعيانهم للشيطان، وقال له بعضهم: كيف تسجد له؟ أجابه: بأنه عين الإله، وأن من سجد للشمس، والأوثان، والشيطان، فقد سجد لله! ! ويقولون: إن جميع ما في الوجود من الكلام هو عين كلام الله، فجميع الأغاني، والأشعار، والسباب، كله كلام الله، كما قال بعضهم:
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
ويقولون: إن القرآن كله شرك، لأنه يفرق بين الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وإذا تبين ذلك، فمن لم يعرف الفرق بين هؤلاء وما ذهبوا إليه، وما يقولونه في رب العزة والجلال، وبين ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم، فلا حيلة فيه.
فقول هذا الملبس: ابن عربي وأتباعه مسلمون; والإمام أحمد وأتباعه مسلمون، يقتدى بهؤلاء مثلما يقتدى بهؤلاء، من أعظم الزور وأقبح الفجور، فإن الفرق بين الطائفتين والمقالتين أبعد مما بين المشرق والمغرب.
وقد قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص آية: 28] ، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(3/351)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سورة القلم آية: 35-36] ، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة آية: 18] ، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة غافر آية: 58] ، ونحو ذلك في القرآن كثير.
وأما قول هذا الزايغ: إن الأئمة الأربعة خاضوا في الصفات، فقد كذب في ذلك، وافترى، فإن الله: قد ذم الخوض وأهله، كما قال تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [سورة التوبة آية: 69] ، وقال عن الكفار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 45] ، وقال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [سورة الزخرف آية: 83] ، وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [سورة الأنعام آية: 68] الآية، في مواضع من كتابه.
والأئمة الأربعة إنما تكلموا في صفات الرب، بإثباتها وإمرارها كما جاءت، واعتقاد دلالة النصوص على معاني عظيمة، تليق بجلال الرب وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ فمن سمى هذا خوضا فهو من أعظم الملبسين، ومن أكبر المفترين. وقول هذا المفتري: إن كلام الأئمة يشبه كلام ابن عربي، كذب ظاهر، يعرفه كل مؤمن.
وأما قوله: إنهم أطلقوا أن لله صفات مشابهة لصفات(3/352)
العبد لأن الله سمى نفسه: سميعا، بصيرا، رحيما، عليما، حليما، وسمى بعض خلقه بذلك، فهذا من أعظم التلبيس، لوجهين:
الأول: أنه كذب على السلف والأئمة، فإنهم لم يقولوا: إن أسماء الرب تشبه أسماء الخلق.
والثاني: أنه إذا قيل: إن الله سميع، بصير، عليم، حليم، وقيل في بعض المخلوقين مثل ذلك، لم يلزم أن يكون الرب مشابها لخلقه، ولا أن أسماءه، وصفاته مشابهة لأسماء خلقه وصفاتهم.
فليس الرحيم كالرحيم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، كذلك ليس العلم كالعلم، ولا السمع كالسمع، ولا الحلم كالحلم; ولا البصر كالبصر، فمن قال: إن علم الرب، وحلمه، وسمعه، وبصره، كعلم العبد، وحلمه، وسمعه، وبصره، فهو كافر بالله العظيم، بلا ريب؛ بل علم الرب تعالى، وحلمه، وسمعه، وبصره، وجميع صفاته، كاملة، مبرأة من جميع العيوب والنقائص، منَزهة عن ذلك، ولا يعلم كيف هي إلا هو؛ وعلم الكيفية ممتنع على جميع الخلق، كما قال أعلم خلقه به: " سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "1.
__________
1 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) .(3/353)
وأما المخلوق فهو ناقص، ذاته وصفاته وأفعاله، كلها ناقصة، ويتطرق إليها الخلل، ويجوز عليها العدم، بخلاف صفات الرب سبحانه وبحمده، ولا يلزم من الاتفاق في التسمية الاتفاق في الحقيقة والمسمى؛ وهذا هو الفرقان المبين بين أهل السنة والجماعة، وأهل البدعة والضلالة، فإن أهل البدع لما لم يفهموا من أسماء الرب وصفاته إلا ما يليق بالمخلوق، وظنوا أنهم إذا أثبتوا لله سمعا، وبصرا، وقدرة، وحلما، أن ذلك يلزم منه التشابه بين الخالق والمخلوق - تعالى الله وتقدس -، فعند ذلك ذهبوا إلى تحريف النصوص وتأويلها، ونفي ما دلت عليه مما يليق بالرب تعالى; فأول مذهبهم: تشبيه وتمثيل; وآخره: تحريف وتعطيل.
وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله، مع اعتقادهم أن ما يثبت لله لا يشبه ما يثبت لخلقه، لأنهم عرفوا كيفية المخلوق فعرفوا كيفية صفاته; والرب يتعالى ويتقدس عن أن يعلم أحد كيفية ذاته أو صفاته، ولهذا قال الإمام مالك، وقبله ربيعة، ويروى عن أم سلمة: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وأما قوله: إذا قلتم: إنهم في القول سواء، فما وجه تبديعهم؟ وتكفيرهم؟ وتضليلهم؟(3/354)
فنقول: معاذ الله أن نقول: إنهم سواء، بل بينهم من الفرق، أبعد مما بين السماء والأرض، كما قال ابن القيم رحمه الله:
والله ما استويا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربان
ولا يقول: إن قول أهل السنة والجماعة كقول ابن عربي وأصحابه - أهل وحدة الوجود - إلا من يقول: إن قول موسى عليه السلام وقول فرعون اللعين سواء; وما عليه أبو جهل وإخوانه نظير ما عليه الرسول وأصحابه، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وأما قوله: ما وجه تبديعهم، وتكفيرهم؟
فنقول: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] في موضعين، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [سورة المائدة آية: 73] وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .
فإذا كان الله قد كفّر من قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذ الملائكة والنبيين أربابا; فكيف لا يكفر من جعل جميع الخلق أربابا، وقال: إن كل مخلوق هو الله، حتى يسجد للشمس،(3/355)
ويقول: إن المشركين إنما عبدوا الله، ويقول: إن المخلوقات التي يستحيا من ذكرها هي الله! يا لله العجب!
ولقد أحسن من قال من السلف: إن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى، وقد قال ابن القيم: رحمه الله تعالى:
حاشا النصارى أن يكونوا مثلهم وهم الحمير، أئمة الكفران
هم خصصوه بالمسيح، وأمه وأُلاءِ ما صانوه عن حيوان
وأما الحديث الذي فيه: " أن الله لما خلق الخلق، قامت الرحم "1 إلخ، وقوله: " خلق الله آدم على صورته "2 فهذه الأحاديث ثابتة، ليس فيها - ولله الحمد - إشكال عند أهل السنة والجماعة; وقد قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم "3.
وقد كان السلف يكرهون كثرة البحث عن مثل هذا، ويقولون: آمنا بالله، وما جاء عن الله، على مراد الله; وآمنا برسول الله، وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله; وقال الراسخون في العلم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] .
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4832) والتوحيد (7502) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2554) , وأحمد (2/330) .
2 البخاري: الاستئذان (6227) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315 ,2/323) .
3 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , والترمذي: تفسير القرآن (2994) , وأبو داود: السنة (4598) , وأحمد (6/256) , والدارمي: المقدمة (145) .(3/356)
فالنصوص الصريحة في إثبات صفات الرب، على ما يليق بجلاله وكماله، واستوائه على عرشه، وأنه فوق جميع مخلوقاته.
ونفي النقائص والعيوب عنه وعن صفاته، معلومة مقررة، وما أشكل من بعضها على بعض الناس يكفيه الإيمان به، مع القطع بأنه لا يخالف ما ظهر له، ولا يناقضه؛ وليحذر طالب الحق من كتب أهل البدع، كالأشاعرة، والمعتزلة، ونحوهم، فإن فيها من التشكيك، والإيهام، ومخالفة نصوص الكتاب والسنة ما أخرج كثيرا من الناس عن الصراط المستقيم، نعوذ بالله من الخذلان.
وأما هذا الذي ألقى هذه الشبهة إليكم، فيجب تعريفه، وإقامة الحجة عليه، بكلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام أئمة الدين; فإن اعترف بالحق وببطلان ما عليه أهل البدع من الاتحادية وغيرهم، فهو المطلوب، والحمد لله؛ وإن لم يفعل، وجب هجره ومفارقته، إن لم يتيسر قتله وإلقاؤه على مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الإسلام.
وأما قوله: هل يفسر العجب بالرضى؟
جوابه: أن يقال: ما جاء إطلاقه على الرب سبحانه، من العجب، والرضى، والغضب، والسخط، ونحو ذلك، فما يتعلق بمشيئته وإرادته يجب إثباته على ما يليق بالله(3/357)
تعالى، مع نفي التشبيه والتمثيل; وإبطال التحريف والتعطيل؛ وأهل البدع: قابلوا ذلك، بالتأويل، كما فعلوا بالأسماء والصفات؛ والباب باب واحد عند أهل السنة والجماعة، لا يحرفون ولا يشبهون، ولا يعطلون ولا يكيفون؛ فعليك بطريقهم، فإنها الصراط المستقيم الذي من سلكه فاز بالنعيم المقيم، ومن أعرض عنه فهو من أصحاب الجحيم.
فهذا بعض ما حضرني في هذه المسألة، مع قلة العلم وعدم المساعد، وكثرة الاشتغال، والمحل يقتضي مجلدا أو أكثر، لشدة الحاجة، وظهور الجهل، وغربة السنة ومن يعرفها، والله المستعان.
وليعلم الناظر إليه أن فيه مواضع قد يقال: إن فيها نوع تكرير، والحامل عليه: خفاء الحق، وقلة الاهتداء إلى الصواب، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
[جواب الشيخ سعد بن حمد على قول السفاريني وليس ربنا بجوهر]
سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، عن قول السفاريني:
وليس ربنا بجوهر ولا جسم ولاعرض تعالى ذو العلا
فأجاب: إطلاق لفظ الجوهر والعرض والجسم على الرب سبحانه وتعالى إثباتا أو نفيا ليس(3/358)
من عبارات السلف الصالح المقتدى بهم، في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته، ومثل ذلك لفظ: الجهة والحيز، وغير ذلك من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا، لا يوجد شيء من ذلك في كلام السلف الصالح؛ ومن نسب ذلك وما شابهه إلى السلف، فهو مخطئ في ذلك، لأن الطريقة المعلومة من السلف الصالح، والجادة المسلوكة المعتبرة عندهم في باب أسماء الرب تعالى وصفاته، أنهم لا يتكلمون في ذلك إلا بما تكلم الله به، أو تكلم به رسوله، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث.
ولفظ: الجوهر، والعرض، والجسم، فيما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى، وأسمائه، وصفاته، إثباتا أو نفيا، سجية مذمومة، وقد نص جماعة من أهل السنة على أن إطلاق مثل هذه الألفاظ في هذا الباب أمر مبتدع، وكلام مخترع، لا يجوز للمنتسب إلى السنة إطلاقه على الرب سبحانه وتعالى، إثباتا أو نفيا; ولا يجوز نسبته إلى السلف الصالح.
ونحن نقتصر على ما وجدنا من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ونذكره مختصرا، مقتصرين على المقصود منه، قال رحمه الله: وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله، إثباته ونفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والجهة،(3/359)
وغير ذلك، لا يثبتونه ولا ينفونه، فمن نفاه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا معنى كلام الإمام أحمد ... إلى أن قال: وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة.
قال الشيخ تقي الدين، بعد كلام له في الرد على من قال: إنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، قال رحمه الله: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر، والجسم، والحيز، ونحو ذلك من الألفاظ ... إلى أن قال - شيخ الإسلام: والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره، ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، ولم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
وهذا آخر ما نقلنا من رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن كلام أبي الوفا ابن عقيل، قال: وأنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض. انتهى. وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته، والله أعلم.(3/360)
[رسالة الشيخ سليمان بن سحمان لعلي بن عيسى]
قال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم.
من سليمان بن سحمان، إلى الشيخ: علي بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وقفت على الورقة التي كتبتها في الاعتراض على ما نظمته في الرد على دحلان، إمام الكفر والطغيان، وسنح لي أولا: أن اعتراضك على النظم، من جهة أنه لا يجوز التعبير عن كلام الله عز وجل بأنه صفة قول; فسألتك عن وجه الاعتراض، ما هو؟ مع أنه ورد ذلك في نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، وأئمتها، فأجبتني بهذا الجواب، فعلمت أنك لم تتصور كلامي على ما هو عليه، وما أردته به، وما قصدته بالرد على أعداء الله ورسوله، فبادرت بالاعتراض قبل أن تسأل عن المراد، وقبل تأمل موضوع الكلام، وما هكذا يا سعد تورد الإبل.
بل الواجب أولا: تأمل ما يراد من الكلام وموضوعه; وثانيا: سؤال أخيك عن وجه ما أشكل عليك من كلامه، وما أراد به، فإن كان حقا صوابا أثنيت به عليه، وإن كان خطأ أرشدته إلى الحق ودللته عليه، فإن الحق ضالة(3/361)
المؤمن، أينما وجده أخذه، وليس في الرجوع إلى الحق غضاضة على مريد الحق والإنصاف; وهذا نص كلامي، لتعلم أنك ما فهمت مرامي، فقلت على ما أورده من جواز التوسل بحق الأنبياء والأولياء والسؤال بهم، لما استدل على جواز ذلك، بحديث أبي سعيد، بقوله: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 الحديث.
فمعناه إن صح الحديث فإنه ... على غير ما قد لاح في وهم ذي اللد
فحق العباد السائلين إذا دعوا ... بغير اعتداء باذلي الجد والجهد
إجابتهم منّا وفضلا ورحمة ... وجودا وإحسانا من المنعم المسدي
وحق المشاة الطائفين لربهم ... إثابتهم والله ذو الفضل والمد
إذا صح هذا فالتوسل لم يكن ... بغير صفات الله يا فاقد الرشد
هما صفتا قول وفعل لربنا ... فسبحانه من ماجد واحد فرد
ولم يك من باب التوسل بالورى ... كما قلته يا فاسد الرأي والقصد
وطاعته سبحانه وسؤاله ... هما سببا تحصيل ذلك للعبد
إجابته للسائلين وكونه ... يثيب المشاة الطائعين ذوي الرشد
فلم يبق في نص الحديث دلالة ... تدل على ما قال من رأيه المردي
ومرادي بهذا الكلام: إبطال ما استدل به، على جواز التوسل بحق الأنبياء والأولياء، والسؤال بهم، وذلك أن موضوع الكلام فيه، وفي جوازه، وليس الكلام معه في تقرير إثبات الصفات، أو تقسيمها إلى قولية وفعلية، وذكر ما يقابل الفعلية، من الصفات الذاتية اللازمة، كالحياة، والعلم، والسمع، والبصر، ونحو ذلك; ولا بيان صفات الأفعال
__________
1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) .(3/362)
الاختيارية المتعلقة بالمشيئة والقدرة، فإن ذلك كله ليس من موضوع الكلام، ولا له ذكر في كلام الملحد، حتى أذكر ذلك، أو ما يرد علي مما يلزمني به الخصم، وليس فيه ذكر أقوال أهل البدع والأهواء، المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، كالاتحادية، والكلابية، والأشعرية، والكرامية، وغيرهم، فإن في ذكر ذلك إذ كان، لم يكن من مقصودنا خروجا عن المقصود، ينافي مطابقة الكلام الواقع لمقتضى الحال.
وأما ما سنح لك من الاعتراض، مما هو خارج عن موضوع الكلام، من أني جعلت صفات الباري - جل ثناؤه - قسمين: فعلية، وقولية; وأنه يلزمني على ذلك أن تكون الصفة القولية مغايرة للصفات الفعلية، قسيمة لها، مباينة لها، فهذا لم يخطر مني على بال، ولا قصدت ذلك، ولا أردته بكلامي، كما تقدم بيان ذلك، وإنما نظمت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على حديث أبي سعيد، وقد ذكرته لك، فأعرضت عنه، وعن مقتضى كلامه.
وهذا نص كلامه، ليتبين لك أني لم أقل من عندي شيئا، يناقض كلام شيخ الإسلام، أو يخالفه، قال رحمه الله: وأما قوله في حديث أبي سعيد " أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فحق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم; وحق المطيعين له أن
__________
1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) .(3/363)
يثيبهم، فالسؤال له والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته، من أفعاله وأقواله، فصار هذا: كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "1 إلخ كلامه رحمه الله.
فتأمل رحمك الله قولي: وهما صفتا فعل وقول لربنا; هل بينه، وبين قول شيخ الإسلام - ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته، وإثابته، من أقواله، وأفعاله - فرق؟ وأن هاتين الصفتين: ليستا من أقواله وأفعاله، بل يقال: إنها صفة واحدة، فبينه لي، فإن كان الواو من قولي: هما صفتا قول وفعل، يقتضي المغايرة، وأنها بذلك تكون قسيمة لها مباينة، فما وجه كلام شيخ الإسلام؟ ! وقد قال ذلك، كما هو في كلام غيره من أئمة الإسلام.
فتبين أني لم أقل من عند نفسي شيئا اخترعته، أو قولا افترعته، حتى يعترض علي، بأني جعلتها قسيمة لها؛ وإذا تبين هذا وعرف، فليس هذا المبحث من موضوع كلامي، وإنما موضوعه في إبطال دعوى من ادعى أنه يجوز التوسل بحق الأنبياء والأولياء، والسؤال بهم; فإن شيخ الإسلام ذكر أنه لا يعرف قائلا بذلك، ولا يجوز القسم
__________
1 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) .(3/364)
بنبينا صلى الله عليه وسلم إلا ما يذكر عن العز بن عبد السلام، على تقدير صحة الحديث وثبوته، ولا يصح، فأما ما كان قسما بما هو من صفاته، فلا محذور فيه، ولا مانع من ذلك; فأين هذا من هذا، لو كان هناك تصور لما يراد من الكلام؟ !
وأما ما ذكرته من كلام ابن القيم رحمه الله، وأن الإمام أحمد جعل كلام الله صفات فعل، قائم بالذات، فهو الحق الذي لا مرية فيه، لكن لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بهاتين الصفتين معا، كما ذكر ذلك ابن القيم بعد هذا، بنحو من ثمانية وعشرين سطرا، حيث قال:
والله عاب المشركين بأنهم ... عبدوا الحجارة في رضى الشيطان
ونعى عليهم كونها ليست بخا ... لقة وليست ذات نطق بيان
فأبان أن الفعل والتكليم من ... أوثانهم لا شك مفقودان
وإذا هما فقدا فما مسلوبها ... بإله حق وهو ذو بطلان
والله فهو إله حق دائما ... أفعنه ذا الوصفان مسلوبان
إلى أن قال:
وكذاك أيضا لم يزل متكلما ... بل فاعلا ما شاء ذو الإحسان
فذكر رحمه الله أن الفعل والتكليم من أوثانهم مفقودان، وأنهما وصفان للإله الحق، غير مسلوبان عنه، فتأمله.(3/365)
[رسالة سليمان بن سمحان إلى عبد العزيز العلجي]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن سحمان، إلى عبد العزيز العلجي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد بلغني أنك استدركت علي فيما تزعم، كلمات في أبيات، وذلك في قولي:
على السيد المعصوم والآل كلهم وأصحابه مع تابعي نهجهم بعد
فزعمت أنا ننكر ونشدد على من قال: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مذهبنا، أهل نجد، وهذا كذب وافتراء علينا، ما أنكر ذلك منا أحد، ولا كان ذلك مذهبنا، بل إنما ينقل ذلك عن إمام مذهبك: مالك رحمه الله، فإن كان ذلك خطأ وعيبا، فعلى إمامك، وعلى نفسها تجني براقش.
وأما نحن: فلا ننكر ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر "1، وقوله: " إن ابني هذا سيد "2، وقوله للأنصار: " قوموا إلى سيدكم " 3، وقوله: "من سيدكم يا بني سلمة فقالوا له: الجد بن قيس، على أنا نبخله فينا، ثم قال صلى الله عليه وسلم بل سيدكم عمرو بن الجموح"؛ إذا فهمت هذا، فمن أين لك أنا ننكر ذلك ونشدد فيه؟ ومن حدثك بهذا؟ أو نقل عنا؟ وفي أي كتاب وجدت ذلك؟ وقد كان لي عدة رسائل ومناظيم، وكل ذلك قد ذكرته فيها، فإذا تحققت هذا، وعلمت أن هذا
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3148) , وابن ماجه: الزهد (4308) .
2 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37 ,5/44 ,5/51) .
3 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) .(3/366)
من سوء فهمك، واختلاج وهمك، وقصور باعك، وعدم اطلاعك، فاعلم: أن العلماء قد اختلفوا في ذلك.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا، قال: " السيد الله تبارك وتعالى "1، وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " قوموا إلى سيدكم "2، وهذا أصح من الحديث الأول; قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه; فلا يقال للتميمي: سيد كنده، ولا يقال للملك: سيد البشر; قال: وعلى هذا، فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد، إذا أطلق عليه تعالى، فهو في منْزلة المالك، والمولى، والرب; لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى.
وفي هذه المسألة بحث، ليس هذا موضع ذكره، إذ الغرض من ذكر هذا، نفي ما نسبه إلينا من لا معرفة له بحقيقة ما لدينا، وليس عندهم إلا الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [سورة النجم آية: 28] بل الذي ينبغي أن ينكر، وأن ينشر: خزي قائله في الخافقين، ويذكر قول القائل منكم:
ومذهبنا: تفويض آي صفاته وتحريمنا ما ثم أن نتكلما
وغير ذلك من الأوهام، مما قد نبهنا عليه في الجواب، ومذهب أهل التفويض، من أشر المذاهب، وأخبثها، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، لأن مذهب
__________
1 أبو داود: الأدب (4806) .
2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) .(3/367)
هؤلاء يتضمن تجهيل الرسول، وأنه لا يعلم معاني ما أنزل الله عليه، من ذكر أسمائه، وصفاته، ونعوت جلاله؛ وحقيقة ما يقوله هؤلاء: يا معشر العباد، لا تطلبوا معرفة الله، ولا ما يستحقه من الصفات، نفيا وإثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فيما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة، أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به.
ثم هم هنا فريقان: أكثرهم يقول: ما لم تثبته عقولكم فانفوه; ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم، الذي أنتم فيه مختلفون، ومضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض، فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، ويثبت ما لم تدركه عقولكم، على طريقة أكثرهم، فاعلموا أنما امتحنتم بتنْزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن اجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه.
هذا حقيقة الأمر على رأي المتكلمين الذين كثر في باب معرفة الله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وإلا فقد كان من المعلوم أنه لم ينقل عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه(3/368)
أدخل أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ولا نفى أحد منهم أن يعلم أحد معناه، ولا جعل أسماء الله وصفاته بمنْزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينْزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها، التي مضمونها: تعطيل النصوص عما دلت عليه.
ونصوص أحمد والأئمة قبله، بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد، والوعيد، والفضائل، وغير ذلك; وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت في أحاديث الوعيد، مثل قوله: " من غشنا فليس منا "1، وأحاديث الفضائل، ومقصودهم في ذلك: أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه، كما يفعله من يحرفه، ويسمي تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر.
وعلى هذا فما بقي للتفويض معنى يصار إليه، على قول الناظم إلا تعطيل النصوص عما دلت عليه من المعاني اللائقة بجلال الله وعظمته، لأن ذلك عنده من المتشابه، أو
__________
1 ابن ماجه: التجارات (2225) .(3/369)
مما استأثر الله بعلم تأويله، فهذا الذي ينبغي أن يعترض على صاحبه ويزجر، وينشر خطؤه في العالمين ويذكر; والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد.
جواب أبيات، أرسل بها التلمساني
وله أيضا: جواب أبيات أرسل بها التلمساني، وقد أجاب عنها شيخ الإسلام بنثر، ولكن أراد المشاركة مع علماء أهل السنة، فقال:
يا طالبا مني جوابا ... يشفي عليلا قد دهاه الفاتن
إن الجواب عن السؤال محرر ... ومقرر وهو الجواب الضامن
وهو الصواب فرد معينا صافيا ... ما ماؤه نزر ولا هو آسن
قد قاله حبر إمام عالم ... بحر خضم زاخر لا آجن
أعني تقي الدين من يكنى أبا الـ ... عباس من في الدين ليس يداهن
فخذ الجواب مفصلا عن قوله ... وجوابه والحق منه بائن
لكنما قول النفاة مخالف ... للحق حقا فهو قول واهن
والحق حتما أنه سبحانه ... عن كل مخلوق تعالى بائن
من فوق عرش فوق سبع قد علا ... هذا هو الحق الصواب الكائن
هو أول هو آخر سبحانه ... هو ظاهر سبحانه هو باطن
ما فوق عرش فوق سبع خالق ... غير الإله الحق يا ذا الفاتن
إن الجهات جميعها عدمية ... في حقه والله عنها بائن1
__________
1 مراده -رحمه الله- الجهات الوجودية.(3/370)
ما ثم غير الله موجود ولا ... رب سواه معاون أو كائن
لكن نفاة صفاته وعلوه ... في كل أمر باطل قد شاحنوا
ويقدرون لوازما هي كلها ... ما قالها في الله إلا مائن
كالجسم والأحياز والجهة التي ... ينفونها ذاك الفريق الفاتن
ألفاظها بدعية يعنى بها ... معنى صحيح وهو فيها كامن
إذ أوهمونا أنما مقصودهم ... بالنفي عنها أنه لا ساكن
أو تحصر الخلاق مخلوقاته ... بل لا تحيط به وفيها قاطن
كلا ولا تحويه فيما أظهروا ... للناس تنْزيها وهذا البائن
لكنهم قد أبطنوا معنى سوى ... ما أظهروا والقصد منهم واهن
أن ليس فوق العرش رب قد علا ... بالذات فوق الخلق عنهم بائن
بل ليس تعرج نحوه أملاكه ... والروح لم يعرج ولا ذا كائن
والمصطفى المعصوم لم يعرج به ... نحو السماء كما يقول المائن
كلا ولا كلم إليه صاعد ... حقا وما منهم بهذا دائن
والرب لم ينْزل وما هو نازل ... فيما لديهم وهو أمر واهن
فالقول بالتجسيم أمر محدث ... كالقول في جهة وفيها ساكن
وكذا التحيز والحدود فإنها ... ليست لها في الشرع أصل كائن
كالقول بالأعراض والأغراض ... والأبعاض في ذا كله قد باينوا
أهل الهدى والدين في أديانهم ... في الله مما قد نماه الآفن
لسنا نقول بنفيها حتما ولا ... إثباتها فالشر فيها كامن
والحق قد يعنى بها أيضا فما ... ندري بما يعني المهين الفاتن(3/371)
لكننا إن قال هذا قائل ... واضطرنا عنه الجواب الصائن
للحق عما قيل باستفسارهم ... عن قصدهم حتى يبين الباطن
إن فسروا معنى صحيحا واضحا ... قلنا لهم هذاك حق كائن
واللفظ والإطلاق بدعي ولا ... نرضى بما قال الجهول الماجن
أو فسروا معنى خبيثا واهيا ... في ضمنه التعطيل حقا كامن
قلنا لهم هذاك أمر سيئ ... إنكاره الحق المبين البائن
والكفر لا ندعوا به من قالها ... بدءا وجهلا حين يدهى المائن
إلا إذا قامت عليه حجة ... فالكفر والتعطيل منه كائن
هذا الذي أدى إليه علمنا ... وبه لذي العرش المهيمن دائن
والقول بالتفصيل فيما قاله ... شيخ الهدى والحق منه بائن
فانظر إلى تبيينه ما موهوا ... من قيلهم والكل منهم آفن
حتى اغتدى نهج الهدى كالشمس لا ... يخفيه قول من مريب شائن
فاشكر له في رده أقوالهم ... لما نفاها وارتضاها الماجن
بالعلم والتحقيق لا ما قاله ... أضداده والكل منهم مائن
هم في طريق بالدعاوى والهوى ... والحق والتحقيق عنهم ظاعن
والقوم بالتضليل دأبا دائما ... ذا شأنهم والكل منهم طاعن
والحمد لله الذي ما زاغنا ... عن منهح فيه المجاري آمن(3/372)
[رسالة الشيخ سليمان بن سحمان للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري]
وكتب الشيخ: سليمان بن سحمان، للشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم: أنه جرى بيننا البحث فيما ذكره ابن القيم في سفر الهجرتين على قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 قال: فقوله صلى الله عليه وسلم الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم، وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [سورة الإسراء آية: 60] ، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [سورة البروج آية: 20] ، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين، الدالين على هذين المعنيين، اسم العلو الدال على أنه الظاهر، وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة آية: 23] ، وقال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] .
وهو تبارك وتعالى، كما أنه العالي على خلقه بذاته
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/536) .(3/373)
فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة العامة. انتهى.
وقد ذكرت لي أني إذا ظفرت بشيء يبين حقيقة ما ذكره الشيخ، ويوضحه، أني أذكر لك ذلك، فاعلم: أني تأملت كلامه، ووضح لي مقصوده ومرامه، ورأيت ما يوضح ذلك في كتابه الصواعق المرسلة في بحث الإحاطة، وأحببت أن أكتب إليك بذلك.
قوله: " الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء " يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، فإذا كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وضرورة العقل أنه الأول بذاته قبل كل شيء، وأنه الآخر بذاته بعد كل شيء، والظاهر بذاته فوق كل شيء، فكذلك هو الباطن بذاته دون كل شيء، ولا نفرق بين أسمائه بآرائنا القاصرة وأفهامنا الباردة، لأنه لم يقل في الحديث: والباطن الذي هو تحت كل شيء، لأن ذلك ينافي قوله: "والظاهر الذي ليس فوقه شيء "1، بل قال: " والباطن الذي ليس دونه شيء "2 لأنه لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا
__________
1 صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1476) وكتاب أحاديث الأنبياء (3364) وكتاب الذبائح والصيد (5478 ,5488 ,5496) وكتاب الأدب (6099) وكتاب التمني (7228) , وصحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) وكتاب الفضائل (2354) وكتاب التوبة (2762) , وسنن الترمذي: كتاب الزكاة (669) وكتاب الحج (858) وكتاب فضائل الجهاد (1669) وكتاب البر والصلة (1988) وكتاب الأدب (2840) وكتاب فضائل القرآن (2913) وكتاب تفسير القرآن (3364) وكتاب الدعوات (3370 ,3455) , وسنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4266) وكتاب الاستعاذة (5491) , وسنن أبي داود: كتاب الصيد (2849 ,2855) وكتاب الأشربة (3730) , وسنن ابن ماجه: كتاب الصيد (3207) وكتاب الدعاء (3829) وكتاب الزهد (4266) , ومسند أحمد (1/160 ,1/217 ,1/223 ,1/225 ,1/332 ,2/260 ,2/362 ,2/457 ,3/6 ,3/310 ,3/470 ,4/80 ,4/84 ,4/193 ,4/195 ,5/367 ,6/351 ,6/448) , وموطأ مالك: كتاب الجامع (1775) , وسنن الدارمي: كتاب الزكاة (1615) وكتاب الرقاق (2775) وكتاب فضائل القرآن (3306 ,3307) .
2 صحيح البخاري: كتاب الأذان (806) وكتاب الزكاة (1476) وكتاب أحاديث الأنبياء (3364) وكتاب الذبائح والصيد (5478 ,5488 ,5496) وكتاب الأدب (6099) وكتاب الرقاق (6574) وكتاب التمني (7228) , وصحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) وكتاب الفضائل (2354) وكتاب التوبة (2762) , وسنن الترمذي: كتاب الزكاة (669) وكتاب الحج (858) وكتاب فضائل الجهاد (1669) وكتاب البر والصلة (1988) وكتاب الأدب (2840) وكتاب فضائل القرآن (2913) وكتاب تفسير القرآن (3364) وكتاب الدعوات (3370 ,3455) , وسنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4266) وكتاب الاستعاذة (5491) , وسنن أبي داود: كتاب الصيد (2849 ,2855) وكتاب الأشربة (3730) , وسنن ابن ماجه: كتاب الصيد (3207) وكتاب الدعاء (3829) وكتاب الزهد (4266) , ومسند أحمد (1/160 ,1/217 ,1/223 ,1/225 ,1/332 ,2/260 ,2/275 ,2/333 ,2/362 ,2/457 ,2/533 ,3/6 ,3/16 ,3/310 ,3/470 ,4/80 ,4/84 ,4/193 ,4/195 ,5/367 ,6/351 ,6/448) , وموطأ مالك: كتاب الجامع (1775) , وسنن الدارمي: كتاب الزكاة (1615) وكتاب الرقاق (2775 ,2801) وكتاب فضائل القرآن (3306 ,3307) .(3/374)
يحجب عنه ظاهر باطنا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
وقد بين رحمه الله معنى البطون بقوله: وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه; فهذا قرب الإحاطة العامة; فبين رحمه الله معنى قوله: " وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 بقوله: وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به، حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه، يوضح ذلك، قوله: وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده، كخردلة في يد العبد، فكانت جميع العوالم والسماوات والأرض في قبضته كخردلة في يد العبد.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله:
قال شيخ الإسلام في المنهاج في رده على الرازي، وكذلك إذا تكلم في المطر - يعني: الرازي - يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد، والمنعقد في الجو; وقول من يقول: إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب، ويذكر قول من يقول: إنه نزل من الأفلاك، وقد يرجح هذا القول في تفسيره، ويجزم بفساده في موضع آخر، وهذا القول، لم يقله أحد من الصحابة ولا
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي: الدعوات (3400 ,3481) , وأبو داود: الأدب (5051) , وابن ماجه: الدعاء (3831) , وأحمد (2/381 ,2/404 ,2/536) .(3/375)
التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون: إن المطر نزل من السماء.
ولفظ السماء في اللغة والقرآن، اسم: لكل ما علا، فهو: اسم جنس للعالي، لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك، وقد قال: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [سورة الحج آية: 15] ، وقال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [سورة الرعد آية: 17] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] والمراد بالجميع: العلو، ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه، وهناك: بالسحاب; وهناك: بما فوق العالم كله، فقوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [سورة الرعد آية: 17] أي: من العلو، مع قطع النظر عن جسم معين، لكن قد صرح في مواضع أخر، بنُزوله من السحاب، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [سورة الواقعة آية: 68-69] ، والمزن: السحاب، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [سورة النور آية: 43] الآية، والودق: المطر، وقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [سورة الروم آية: 48] إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [سورة آية: 43] .
فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء، وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك، فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك، بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو، وقد يكون الرجل في موضع عال، إما على جبل، أو(3/376)
على غيره; والسحاب يبسط أسفل منه، وينْزل منه المطر، والشمس فوقه ... إلى أن قال: وكذلك المطر، معروف عند السلف والخلف، أن الله تبارك وتعالى يخلقه من الهواء، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا، كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، فهذا معرفته بالمادة التي خلق منها.
ونفس المادة لا توجب ما خلق منها، باتفاق العقلاء; بل لا بد من ما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه; وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم ... إلى أن قال: على قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [سورة السجدة آية: 27] فهذه الآية يستدل بها على علم الخالق، وقدرته، ومشيئته، وحكمته، وإثبات المادة التي خلق منها المطر، والشجر، والإنسان، والحيوان، مما يدل على حكمته، ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق، إلا من مادة. انتهى كلامه.
قال في الصواعق: الوجه الثامن: أن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات: إنزال مطلق، كقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} فأطلق الإنزال، ولم يذكر مبدأه، وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [سورة الزمر آية: 6] الثانية: الإنزال من السماء، كقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان آية: 48] الثالثة: إنزال منه سبحانه، كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] .(3/377)
وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [سورة النحل آية: 102] الآية، وقال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 114] .
فأخبر: أن القرآن منزل منه، والمطر نزل من السماء، والحديد والأنعام، منزلان نزولا مطلقا، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، حيث قالوا: إن كون القرآن منزلا، لا يمنع أن يكون مخلوقا، كالماء، والحديد، والأنعام، حتى غلا بعضهم، فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا، وقال: الإنزال بمعنى الخلق، وجوابه: أن الله سبحانه فرق بين النّزول منه، والنّزول من السماء، فجعل القرآن منزلا منه، والمطر منزلا من السماء، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف.
والمضاف إليه سبحانه نوعان: أحدهما: أعيان قائمة بأنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف، الثاني: إضافة صفة إلى موصوفها، كسمعه، وبصره، وحياته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، ووجهه، ويده ... إلخ. وإنما أطلنا النقل، لأنك قد تفهم منه شيئا لم يظهر لنا.
وراجعنا حاشية على المصابيح قوله: "حديث عهد بربه" أي: قريب العهد من عند ربه، لم يخالطه ما يغسل به الأيدي الظالمة، والأكف العادية.(3/378)
وقال في الهدى، بعد قوله: " هذا حديث عهد بربه "1 قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل، قال: " اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا، فنتطهر منه، ونحمد الله عليه " وأخبرنا من لا أتهم، عن إسحاق بن عبد الله: "أن عمر كان إذا سال السيل، ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلا تمسحنا به". انتهى من هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء.
والذي نفهم: أن الإنزال، والخلق، من صفات الأفعال من غير إشكال، فإن كان مقصود النووي: تأويل صفات الأفعال، فلا شك في بطلانه، وإن كان مقصوده: بيان أن المطر جديد الخلق، مع قطع النظر عن التعرض لصفات الرب، فلم يظهر لنا في ذلك منع; والذي فهمنا من كلامكم: أن النووي متعرض لتأويل صفات الأفعال، وهذا لا شك في بطلانه; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع: كتاب العبادات
__________
1 مسلم: صلاة الاستسقاء (898) , وأبو داود: الأدب (5100) , وأحمد (3/133 ,3/267) .(3/379)
المجلد الرابع: (القسم الأول من كتاب العبادات)
*
فصل: في أصول مأخذهم
...
فصل في أصول مأخذهم أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها
قال شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
هذه أربع قواعد، من قواعد الدين، التي تدور الأحكام عليها، وهي: من أعظم ما أنعم الله به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، حيث جعل دينهم ديناً كاملاً وافياً، أكمل وأكثر علماً من جميع الأديان؛ ومع ذلك، جمعه لهم في لفظ قليل، وهذا مما ينبغي التفطن له، قبل معرفة القواعد الأربع، وهو أن تعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما خصه الله به على الرسل، يريد منا أن نعرف منة الله علينا، ونشكرها. قال لما ذكر الخصائص: " وأُعطيت جوامع الكلم " 1، قال إمام الحجاز، محمد بن شهاب الزهري: معناه: أن يجمع الله له المسائل الكثيرة، في الألفاظ القليلة.
القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2977) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (523) , والنسائي: الجهاد (3087, 3089) , وأحمد (2/264, 2/268, 2/314) .(4/5)
القاعدة الثانية: أن كل شيء سكت عنه الشارع، فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه، أو يوجبه، أو يستحبه، أو يكرهه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [سورة المائدة آية: 101] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ".
القاعدة الثالثة: أن ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 7] . والواجب على المسلم: اتباع المحكم؛ فإن عرف معنى المتشابه، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] .
القاعدة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات " 1؛ فمن لم يفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل، فقد ضل وأضل.
فهذه أربع قواعد، ثلاث ذكرها الله في كتابه، والرابعة ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم رحمك الله، أن أربع هذه الكلمات، مع اختصارها، يدور عليها الدين، سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير، أو في علم الأصول، أو في علم أعمال
__________
1 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجة: الفتن (3984) , وأحمد (4/269, 4/270) , والدارمي: البيوع (2531) .(4/6)
القلوب الذي يسمى: علم السلوك، أو في علم الحديث، أو في علم الحلال والحرام والأحكام، الذي يسمى: علم الفقه، أو في علم الوعد والوعيد، أو في غير ذلك من أنواع علوم الدين. أنا أمثل لك مثلاً، تعرف به صحة ما قلته، وتحتذى عليه إن فهمته، وأمثله لك في فن من فنون الدين، وهو علم الفقه، وأجعله كله في باب واحد منه، وهو الباب الأول. قلت: يأتي في باب 1 الطهارة إن شاء الله تعالى.
وقال أيضاً: ومن أعظم ما منّ الله به عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته: إعطاء جوامع الكلم: فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة، تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر؛ وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خصه الله بالحكمة الجامعة؛ ومن فهم هذه المسألة فهماً جيداً فهم قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . وهذه الكلمة أيضاً من جوامع الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة، فعُلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما أوصانا به في قوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " 2.
__________
1 أي: في باب المياه, من كتاب الطهارة صفحة: 135.
2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) .(4/7)
وتفهم أيضاً: معنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . فإذا كان الله سبحانه قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي: إلى كتاب الله، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي: إلى سنته، علمنا قطعا: أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه، وجد فيهما ما يفصل النّزاع.
وقال أيضاً: إذا اختلف كلام أحمد، وكلام الأصحاب، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله وإلى رسوله، لا إلى كلام أحمد، ولا إلى كلام الأصحاب، ولا إلى الراجح من ذلك؛ بل قد يكون الراجح والمرجح من الروايتين والقولين خطأ قطعاً، وقد يكون صواباً؛ وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل، فالأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل الصواب يصدق بعضه بعضاً، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: إما يستدل بحديث لم يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهوماً مخطئاً؛ وبالجملة: فمتى رأيت الاختلاف، فرده إلى الله والرسول؛ فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين لك، واحتجت إلى العمل، فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه.
وأما قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة؛ فإن أراد القائل مسائل الخلاف، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة؛ فما زال الصحابة(4/8)
ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائناً من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم. وإذا كان الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه، وينكر عليه.
وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس؛ فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم; وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] . وأما قول من قال: اتفاق العلماء حجة، فليس المراد الأئمة الأربعة، بل إجماع الأمة كلهم، وهم علماء الأمة.
وأما قولهم: اختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، كما قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 118-119] . ولما سمع عمرُ ابنَ مسعود، وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر، وقال: "اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "; لكن قد روي عن بعض التابعين، أنه قال: ما أحسب اختلاف(4/9)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، ومراده شيء آخر غير ما نحن فيه؛ ومع هذا، فهو قول مستدرك، لأن الصحابة ذكروا اختلافهم عقوبة وفتنة.
وقال أيضاً: قد تبين لكم في غير موضع، أن دين الإسلام حق بين باطلين، وهدى بين ضلالتين؛ وهذه المسائل 1 وأشباهها مما يقع الخلاف فيه بين السلف والخلف من غير نكير من بعضهم على بعض؛ فإذا رأيتم من يعمل ببعض هذه الأقوال المذكورة بالمنع، مع كونه قد اتقى الله ما استطاع، لم يحل لأحد الإنكار عليه، اللهم إلا أن يتبين الحق، فلا يحل لأحد أن يتركه لقول أحد من الناس.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض المسائل من غير نكير، ما لم يتبين النص؛ فينبغي للمؤمن أن يجعل همه وقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم، ويوقرهم ولو أخطؤوا، لكن لا يتخذهم أرباباً من دون الله؛ هذا طريق المنعم عليهم، وأما إطراح كلامهم، وعدم توقيرهم، فهو طريق المغضوب عليهم. واتخاذهم أرباباً من دون الله، وإذا قيل:
__________
1 أي: إخراج العروض زكاة, والمضاربة بها. وكذا المغشوش, وتأتي إن شاء الله تعالى.(4/10)
قال الله، قال رسول الله، قال: هم أعلم منا، فهذا هو طريق الضالين. ومِن أهم ما على العبد وأنفع ما يكون له: معرفة قواعد الدين على التفصيل؛ فإن أكثر الناس يفهم القواعد ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل.
وقال أيضاً: اختلفوا في الكتاب، وهل يجب تعلمه واتباعه على المتأخرين لإمكانه؟ أم لا يجوز للمتأخرين، لعدم إمكانه؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} الآية [سورة طه آية: 99-100] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] ، وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] .
وسئل: عن قول الشيخ تقي الدين: ولتكن همته فهم مقاصد الرسول، في أمره ونهيه، ما صورته؟
فأجاب: مراده ما شاع وذاع: أن الفقه عندهم هو: الاشتغال بكتاب فلان وفلان; فمراده التحذير من ذلك. وقال أيضاً: كذلك غيركم، إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا الأئمة؛ فهؤلاء الحنابلة، من أقل الناس بدعة، وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعرف ذلك من عرفه.
وقال أيضاً: ذكر الشيخ تقي الدين، رحمه الله، قواعد:(4/11)
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن أمرين، وأراد أحد يأخذ بأحدهما ويترك الآخر، أنه لا ينكر عليه، كالقراءات الثابتة، ومثل الذين اختلفوا في آية، فقال أحدهما: ألم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال: " كل منكما محسن "؛ فأنكر الاختلاف، وصوب الجميع في الآية.
الثانية: إذا أم رجل قوماً، وهم يرون القنوت، أو يرون الجهر بالبسملة، وهو يرى غير ذلك، والأفضل ما رأى؛ فموافقتهم أحسن، ويصير المفضول، هو الفاضل.
وقال ابنا الشيخ: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، رحمهم الله: عقيدة الشيخ، رحمه الله، التي يدين الله بها هي عقيدتنا، وديننا الذي ندين الله به، وهي عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو: اتباع ما دل عليه الدليل، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرض أقوال العلماء على ذلك؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وأفتينا به، وما خالف ذلك، رددناه على قائله.
وهذا هو الأصل الذي أوصانا به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59] ، أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وأن(4/12)
الرد إلى الرسول هو: الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة؛ وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه، فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا مستحباً، بل واجباً عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون بذلك مخالفاً لإمامه الذي اتبعه؛ فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ: إذا صح الحديث عندكم فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان؛ والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جداً، ومبسوط في غير هذا الموضع.
وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو(4/13)
أنه يجوز له العمل به، لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم؛ ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله، حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة; وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً؛ والذي ننكره هو التعصب للمذاهب، وترك اتباع الدليل.
وقالا أيضاً: اعلم أن مسائل الخلاف بين الأئمة، لا إنكار فيها، إذا لم يتبين الدليل القاطع; والصحابة، رضي الله عنهم، قد اختلفوا في أشياء من مسائل الفروع، ولم ينكر بعضهم على بعض؛ وكذلك العلماء بعدهم، وأن كلاً منهم قد قال بما عنده من العلم.
وقالا أيضاً، لما سئلا عن العمل بصريح الحديث: الذي ينبغي لطالب العلم: أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، وهل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ؟ أم قد عارضه ما هو أقوى منه؟ فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة، وتبين له أن الحديث محكم صحيح، وجب عليه العمل به؛ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بالحديث، وكلام العلماء، وكان قد سبقه إليه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينتسب إليه؛ وإذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم،(4/14)
قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] .
وقال أيضاً الشيخ: عبد الله ابن الشيخ: ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم؛ بل لا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد منا يدعيها، إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة، غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به، وتركنا المذهب.
وعندنا: أن الإمام ابن القيم، وشيخه: إماما حق، من أهل السنة، وكتبهم من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم.(4/15)
[الرد إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف]
وقال أيضاً الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار.
إلى: عبد الله بن عبد الله الصنعاني، سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار على من أشرك وابتدع؛ والصلاة والسلام على محمد، الذي قامت به على الخلق الحجة، وبين وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.
أما بعد: فقد وصل جوابكم، وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم على ما نحن عليه من الدين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول الأمجد، سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة، ثم التابعين لهم(4/16)
بإحسان، فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا؛ لكن كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته: العمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 2] .
وكل يدّعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنحن: أقمنا الفرائض، والشرائع، والحدود، والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علَم الجهاد على أهل الشرك والعناد، فلله الحمد والمنة.
وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريد أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه، فنعم ما قلتم، وإن تريدوا بقولكم ذلك التقليد له فيما رآه وقال، من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة، كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة، من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين، واطرحوا الاحتجاج من الكتاب والسنة، وسدوا بابهما، إلى آخره. انتهى ملخص كلامكم.
فالجواب عليه من وجوه، وبالله التوفيق:
الوجه الأول: إن في رسالتنا التي عندكم ما رد هذا التوهم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي(4/17)
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، رواه البخاري ومسلم؛ فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قُبل، وما خالف رُد على قائله وفاعله كائناً من كان ... إلخ. فتضمن هذا الكلام: أنه لا يقدم رأي أحد على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعجب: كيف نبا فهمكم عنها؟!
الوجه الثاني: قد صرح العلماء، أن النصوص الصحيحة الصريحة، التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع، لا مذاهب فيها؛ وإنما المذاهب فيما فهمه العلماء من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد، ونحو ذلك.
الوجه الثالث: قد ذكر العلماء، أن لفظة: "المذهب" لها معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح: فالمذهب في اللغة: مفعل، ويصح للمصدر، والمكان، والزمان، بمعنى الذهاب، وهو المرور، أو محله أو زمانه. واصطلاحاً: ما ترجح عند المجتهد في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقداً، أو مذهباً. وعند بعضهم: ما قاله مجتهد بدليل، ومات قائلاً به. وعند بعضهم: أنه المشهور في مذهبه، كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومس الذكر ونحوه عند أحمد؛ ولا يكاد يطلق إلا على ما فيه خلاف. وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء:
__________
1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/240, 6/270) .(4/18)
ما ذهب إليه إمام من الأئمة المجتهدين. ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، وهو ما قوي دليله; وقيل: ما كثر قائله. فقد تلخص من كلامهم: أن المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليل، أو قول جمهور، أو ما ترجح عنده، ونحو ذلك، وأن المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف، التي ليس فيها نص صريح، ولا إجماع؛ فأين هذا من توهمكم أن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى وقال، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع؛ فنعوذ بالله من ذلك، والله المستعان.
الوجه الرابع: قال ابن القيم في: إعلام الموقعين - لما ذكر المفتين بمدينة السلام - وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق، أحمد بن حنبل، الذي ملأ الأرض علماً وحديثاً وسنة - إلى أن قال - وكانت فتواه مبنية على خمسة أصول، أحدها: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه، كائناً من كان.
ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد، ولم يلتفت إلى ما خالفها - إلى أن قال - الأصل الثاني من فتوى الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعْدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع؛ بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئاً(4/19)
يدفعه، ونحو هذا - إلى أن قال - الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم.
فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال، حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول - إلى أن قال - الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل، والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في رواته متهم، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس؛ وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة.
فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نص، ولا قول الصحابة، ولا أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس، وهو: القياس، فاستعمله للضرورة; وقال الشافعي: إنما يعار إليه عند الضرورة. وقال الإمام أحمد - في رواية أبي الحارث -: ما تصنع بالرأي والقياس، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟!
وقد يتوقف في الفتوى، لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها; وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم، فيقول: لا أدري.(4/20)
انتهى كلام ابن القيم ملخصاً؛ فهذا ما أشرنا إليه من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.
وأما ما ذكرتم: من ذم من قلد الإمام أحمد وغيره، وأطلقتم الذم، فليس الأمر على إطلاقكم؛ فإن تريدوا بذم التقليد تقليد من أعرض عما أنزل الله، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن قلد بعد ظهور الحجة له، ومن قلد من ليس بأهل أن يؤخذ بقوله، ومن قلد واحداً من الناس فيما قال دون غيره، فنعم المسلك سلكتم.
وإن تريدوا بذلك الإطلاق: منع الناس، لا ينقل بعضهم عن بعض، ولا يفتي أحد لأحد إلا مجتهد، فقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، قال علي بن عقيل، صاحب الفنون، ورؤوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه الآية; وأمر الله بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي العلم، وهم العلماء، أو العلماء والأمراء; وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1.
وأيضاً، فأين تدرك هذه في هذه الأزمنة التي قل العلم في أهلها، وقل فيه المجتهدون؛ وقد صرح العلماء أن تقليد الإنسان لنفسه جائز وربما كان واجباً، وكذا المفتي للضرورة، وعدم المجتهد يجوز أن يفتي بالتقليد.
__________
1 أبو داود: الطهارة (336) .(4/21)
قال ابن القيم، في أول الجزء الثاني من إعلام الموقعين: ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب; فأما الأول فهو ثلاثة أنواع: الأول: الإعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء; الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله; الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، على خلاف قول المقلد.
وقد ذم الله هذه الأنواع الثلاثة من التقليد، في غير موضع من كتابه، ثم ذكر آيات في ذم التقليد - إلى أن قال - وهذا القدر من التقليد، هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه، وتحريمه; وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله، وخفي عليه بعضه، وقلد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ، إن شاء الله تعالى.
وقال أيضاً في الجزء الأول من إعلام الموقعين: قلت: وهذه المسألة، فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد: أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم؛ والفتوى بغير علم حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء، إذا(4/22)
كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره؛ فهذا قول ابن بطة، وغيره من أصحابنا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة، وعدم المجتهد؛ وهو أصح الأقوال، وعليه العمل.
قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه، قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد، يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار، يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل، استند إلى بعض سواري المسجد أن يفتي الناس بها. انتهى كلام ابن القيم ملخصاً.
وقال في الإقناع وشرحه، في شروط القاضي: وأن يكون مجتهداً إجماعاً، ذكره ابن حزم; وأنهم أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت، تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، لأنه فاقد الاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه، إذا لم يوجد غيره للضرورة، كما قال في الإفصاح: إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، فإن الحق لا يخرج عنهم، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز إلا تولية مجتهد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه، قبل استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب.
وقال الإمام موفق الدين، أبو محمد، عبد الله بن أحمد المقدسي، في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في(4/23)
الفروع، كالأئمة الأربعة، ليست بمذمومة؛ فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة.
واختار في الإفصاح والرعاية: أو مقلداً; قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا انقطعت أحكام الناس، وكذا المفتي; قال ابن بشار: ما أعيب على من يحفظ لأحمد خمس مسائل يفتي بها، ونقل عبد الله: يفتي غير مجتهد؛ ذكره القاضي، وحمله أبو العباس ابن تيمية: على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع، وشرحه.
وقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية، في شروط القاضي: ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى للعدم أعدل المقلدين، وأعرفهما للتقليد؛ قال في الفروع: وهو كما قال. انتهى كلام الإنصاف، ملخصاً.
وأما ما ذكرتم عن الأئمة، وقول أبي حنيفة: إذا قلت قولاً، وفي كتاب الله، وسنة رسول الله، ما يخالف قولي، فاعملوا به، واتركوا قولي; وقول الشافعي: إذا صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، واعملوا بالحديث; وكذا ما ذكرتم عن الأئمة الأربعة: أنهم صرحوا بعرض أقوالهم، على الكتاب والسنة، فما خالف منها رد؛ وقد تقدم في أصول أحمد أنه إذا صح الحديث لم يقدم عليه قول أحد؛ فهذا قد تقرر عندنا ولله الحمد والمنة.(4/24)
وأما قولكم: إن مرادنا بقولنا: لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة ولو أشركوا وابتدعوا، فنعوذ بالله من ذلك؛ بل نترك الباطل، ونقبل الحق ممن جاء به، فإن كل أحد يُؤخذ من قوله ويترك، إلا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
وأما قولكم: والمختار: أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم، فينظر في صحة الحديث أولاً، فإذا صح، نظرنا في معناه ثانياً، فإذا تبين، فهو الحجة. انتهى كلامكم.
فهل أنتم مجتهدون؟ أم تأخذون عن أقوال المفسرين، وشراح الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة؟ فإن كان الثاني: فأخبرونا عن أكثر من تأخذون عنه، وترضون قوله من علماء أهل السنة؟ وفقنا الله وإياكم من العمل ما يرضيه، وجنبنا وإياكم العمل بمناهيه، وسامحنا وإياكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا مقبولة لديه، والله أعلم.
وقال أيضاً الشيخ: عبيد الله بن الشيخ، رحمهما الله تعالى:
وأما قولكم: إن أهل هذا الدين، بلغنا أنهم يعتمدون على مذاهب الأئمة الأربعة، وأنكروا علم أهل البيت، وأقوالهم ومذاهبهم؛ فالذي نحن عليه: اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على تفسير الأئمة لكتاب الله وسنة(4/25)
رسوله، لأنهم أعلم بكتاب الله منا. فإذا اختلفوا في مسائل الفروع، عرضنا أقوالهم، ورددناها إلى كتاب الله وسنة رسوله: فما كان أقرب إلى ذلك اتبعناه، كما أمرنا الله بذلك في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ؛ والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فالرد إليه في حياته، وبعد موته إلى ما صح من سنته، كما فسره بذلك المفسرون من السلف والخلف.
وقال أيضاً: هو، والشيخ إبراهيم، وحسين، وعلي، وحمد بن ناصر:
وأما قولكم: هل يجب على المكلف التقليد، في المسائل المختلف فيها، فهذا يحتاج إلى تفصيل وبسط، ليس هذا موضعه، لكن الواجب على المكلف: أن يتقي الله ما استطاع، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 233] ؛ فإن كان المكلف فيه أهلية لمعرفة دلائل المسائل، من الكتاب والسنة، وجب عليه ذلك، باتفاق العلماء، وإن لم يكن فيه أهلية، كحال العوام الذين لا معرفة لهم بأدلة الكتاب والسنة، فهؤلاء يجب عليهم التقليد، وسؤال أهل العلم فقط، كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ(4/26)
إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ؛ وهذا في غير أصول الدين.
وأما الأصول، فلا يجوز التقليد فيها بالإجماع، بل يجب على كل مكلف معرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعث به من التوحيد، وما أخبر به عن الله من البعث بعد الموت، والجنة والنار، ومثل وجوب الفرائض، من الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، ونحو هذا؛ فلا يجوز التقليد في هذا، والمقلد فيه ممن يعذب في البرزخ، كما ثبت ذلك في الأحاديث منها قوله: " وأما المنافق والمرتاب، فيقول: هاه، هاه، لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته " 1.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: ما قولكم، نور الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات، هل يلزم المبتدئين المتعلمين، الترقي إلى معرفة الدليل الناص على كل مسألة؟ ومعرفة طرقه، وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث، إنه صحيح أو حسن؟ أو يكفيهم العلم بالفقهيات المجردة عن الدليل ويغنيهم؟ هذا فيمن طلب العلم، وتأهل له، فما الحال في العوام، هل يجزئهم مجرد التقليد؟
وأيضاً: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؛
__________
1 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , ومالك: النداء للصلاة (447) .(4/27)
فأفيدونا واحتسبوا فإن الحاجة ماسة إلى هذه المباحث. فإن تفضلتم بطول الجواب، وذكر الدليل، ومن قال به، فهو المطلوب.
فأجاب: لا ريب أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه، في كل ما يأمر به، وينهى عنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتفق العلماء، على أنه: ليس أحد معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون: فقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه. وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب؛ فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة، فاتركوه.
وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط; وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني، ولا تقلدوا(4/28)
مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا؛ وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال. وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
وقال ابن عبد البر: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله؛ ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، فلا يصح أن يتولاه المقلد؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء؛ قال في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك.
وقال الموفق في المغنى: يشترط في القاضي ثلاثة شروط: أحدها: الكمال; وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة; والثاني: العدالة؛ والثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد؛ وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً، فيحكم بالتقليد، لأن الغرض فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين.
ولنا: قوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49] ، ولم يقل بالتقليد، وقال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء آية: 105] ، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وروى بريدة(4/29)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار " 1، رواه ابن ماجة. والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى. انتهى.
وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب المشهور، وعليه معظم الأصحاب; قال ابن حزم: يشترط كونه مجتهداً إجماعاً، وقال: أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت، تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، وقال في الإفصاح: الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم; واختار في الترغيب: ومجتهداً في مذهب إمامه للضرورة، واختار في الإفصاح والرعاية: ومقلداً.
قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطلت أحكام الناس؛ وقيل في المقلد: يفتي ضرورة. وذكر القاضي: أن ابن شاقلا اعترض عليه بقول الإمام أحمد: لا يكون فقيهاً حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث، فقال إن كنت لا أحفظه فإني أفتي بقول من يحفظ أكثر منه; قال القاضي: لا يقتضي هذا إن كان يقلد أحمد، لمنعه الفتيا بلا علم; قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده، إلا أن يحمل على أخذ طرق
__________
1 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجة: الأحكام (2315) .(4/30)
العلم عنه; وقال ابن بشار - من الأصحاب -: لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها، قال القاضي: هذا منه مبالغة في فضله، وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة. انتهى ملخصاً.
وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام؛ ولا خلاف بين الناس: أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية.
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء، إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره؛ وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا.
الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد؛ وهذا أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله.
فتبين بما ذكرناه: أن المقلد ليس بعالم، وأن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة للضرورة؛ ولكن قد دعت الحاجة(4/31)
والضرورة إليه من زمان طويل، لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع:
أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، فهذا لا يجوز؛ وقد اتفق السلف والأئمة على ذمه وتحريمه. قال الشافعي، رحمه الله: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، فهذا مذموم أيضاً لأنه عمل على جهل، وإفتاء بغير علم، مع قدرته وتمكنه من معرفة الدليل المرشد، والله تعالى قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم " 1. فالواجب على كل عبد: أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله؛ ولم يكلف الله عباده ما لا يطيقونه، بل الواجب على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق، فإذا بذل جهده في معرفة الحق، فهو معذور فيما خفي عليه.
النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو: تقليد أهل العلم
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/258 ,2/428) .(4/32)
عند العجز عن معرفة الدليل; وأهل هذا النوع، نوعان أيضاً: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء: لهم التقليد بغير خلاف; بل حكى غير واحد: إجماع العلماء على ذلك.
النوع الثاني: من كان محصلاً لبعض العلوم، وقد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتب متأخري الأصحاب كالإقناع والمنتهى، في مذهب الحنابلة، أو المنهاج ونحوه في مذهب الشافعية أو مختصر خليل ونحوه في مذهب المالكية أو الكنْز ونحوه في مذهب الحنفية، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضاً، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] .
ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1؛ ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء، ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء يبادرون إلى إجابة سؤالهم، من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن
__________
1 أبو داود: الطهارة (336) .(4/33)
ذلك من غير نكير، فكان إجماعاً على جواز اتباع العامي العلماء المجتهدين.
ويلزم هذا العامي: أن يقلد الأعلم عنده، كما يلزمه في مسألة القبلة; فإذا اجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة، فاختلفا في الجهة، اتبع المقلد أوثقهما عنده; ولا يجوز له أن يتبع الرخص، بل يحرم ذلك عليه، ويفسق به; قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، ولا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه، قال الشيخ تقي الدين: في الأخذ برخص المذهب وعزائمه، طاعة لغير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع؛ وتوقف أيضاً في جوازه.
وبالجملة: فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب، فَرْضُه التقليد؛ فإذا وقعت له حادثة، استفتى من عرفه عالماً عدلاً، أو رآه منتصباً للإفتاء والتدريس; واعتبر الشيخ تقي الدين، وابن الصلاح الاستفاضة بأنه أهل للفتيا، ورجحه النووي في الروضة، ونقله عن أصحابه.
وقال الشيخ تقي الدين: لا يجوز أن يستفتي إلا من يفتي بعلم وعدل; فعلى هذا لا يكتفى بمجرد انتسابه إلى العلم، ولو بمنصب تدريس أو غيره، لا سيما في هذا الزمان، الذي غلب فيه الجهل، وقل فيه طلب العلم،(4/34)
وتصدى فيه جهلة الطلبة للقضاء والفتيا; فتجد بعضهم يقضي ويفتي، وهو لا يحسن عبارة الكتاب، ولا يعلم صورة المسألة; بل لو طولب بإحضار تلك المسألة، وهي في الكتاب، لم يهتد إلى موضعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
شعرا:
لقد هزلتْ حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلسِ
قال في شرح مختصر التحرير: ويلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بعلم، أو جهل حاله، من الفتيا; قال ربيعة: بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق; ولا تصح الفتيا من مستور الحال; وما يجيب به المقلد من حكم، فإخبار عن مذهب إمامه، لا فتيا، قاله أبو الخطاب، وابن عقيل، والموفق، ويعمل بخبره إن كان عدلاً، لأنه ناقل كالراوي.
ولعامي تقليد مفضول من المجتهدين، عند الأكثر من أصحابنا، منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة; وقاله الحنفية، والمالكية، وأكثر الشافعية، وقيل: يصح إن اعتقده فاضلاً، أو مساوياً، لا إن اعتقده مفضولاً، لأنه ليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل، وابن سريج، والقفال، والسمعاني: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح، ومعناه: قول الخرقي، والموفق في المقنع; ولأحمد: روايتان.
ويلزمه إن بان له الأرجح تقليده في الأصح، زاد بعض(4/35)
أصحابنا وبعض الشافعية: في الأظهر، ويقدم الأعلم على الأورع، ويخير في تقليد أحد مستورين عند أكثر أصحابنا; قال في الرعاية: ولا يكفيه من تسكن نفسه إليه، بل لا بد من سكون النفس والطمأنينة به، ويحرم عليه تتبع الرخص، ويفسق به.
وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم، والآخر بخلافه، يخير في الأخذ بأيهما شاء، على الصحيح؛ اختاره القاضي، والمجد، وأبو الخطاب; وذكر أنه ظاهر كلام أحمد; وقيل: يأخذ بقول الأفضل منهما علماً وديناً، وهذا اختيار الموفق في الروضة.
ويحرم تساهل مفت، وتقليد معروف به، لأن الفتيا أمر خطر، فينبغي أن يتبع السلف الصالح في ذلك، فقد كانوا يهابون الفتيا كثيراً؛ وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إذا هاب الرجل شيئاً لا ينبغي أن يحمل على أن يقول به.
قال بعض الشافعية: من اكتفى في فتياه بقول أو وجه في المسألة، من غير نظر في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع; وذكر عن أبي الوليد الباجي أنه ذكر عن بعض أصحابهم، أنه كان يقول: الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التي توافقه، قال أبو الوليد: وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع. انتهى كلامه في شرح المختصر ملخصاً.(4/36)
وهذا الذي ذكره أبو الوليد: ذكر مثله الشيخ تقي الدين، وصاحب الإنصاف، وغيرهما; قال في الاختيارات: وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، أو بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً; وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان.
ويجب تولية الأمثل فالأمثل; وعلى هذا يدل كلام أحمد، وغيره، فيولى مع عدم العدل أنفع الفاسقين، وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد. فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه، ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. انتهى.
وقول السائل، وفقه الله: هل يلزم المبتدئين المتعلمين، الترقي إلى معرفة الدليل، الناص على كل مسألة؟
جوابه: يعلم مما تقدم، وهو أن عليه أن يتقي الله بحسب استطاعته، فيلزمه من ذلك ما يمكنه، ويسقط عنه ما يعجز عنه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ؛ فلا يهجم على التقليد، ويخلد إلى أرضه، مع قدرته على معرفة الدليل، لا سيما إذا كان قاضياً أو مفتياً، وله ملكة قوية يقوى بها على الاستدلال ومعرفة الراجح.
فإن الرجل النبيه، الذي له فهم، وفيه ذكاء، إذا سمع(4/37)
اختلاف العلماء، وأدلتهم في الكتب التي يذكر فيها أقوال العلماء وأدلتهم، كالمغنى، والشرح، والتمهيد لابن عبد البر، ونحو هذه الكتب، يحصل عنده في الغالب ما يعرف به رجحان أحد القولين؛ فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب ولم يعلم له ناسخاً، ولا معارضاً، فخالف مذهبه واتبع الإمام الذي قد أخذ بالدليل، كان مصيباً في ذلك; بل هذا الواجب عليه، ولم يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.
قال في الاختيارات: من كان متبعاً لإمام، فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن; وقال أبو العباس في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع.
وقال أيضاً: أكثر من يميز في العلم من المتوسطين، إذا نطر، وتأمل أدلة الفريقين، بقصد حسن، ونظر تام، ترجح عنده أحدهما؛ لكن قد لا يثق بنظره، بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه; والواجب على مثل هذا: موافقته للقول الذي ترجح عنده، بلا دعوى منه للاجتهاد، كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة، إذا ترجح عنده أحدهما قلده؛ والدليل(4/38)
الخاص الذي يرجح به قول على قول، أولى بالاتباع من دليل عام، على أن أحدهما أعلم أو أدين، لأن الحق واحد ولا بد، ويجب أن ينصب على الحكم دليلاً. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته: قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " 1، ولازم ذلك: أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضاً; والفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية; فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً; لكن من الناس من قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، ويلزمه ما يقدر عليه.
وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال; والاجتهاد: ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزؤ والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة، دون فن وباب ومسألة.
وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه; فمن نظر في مسألة تنازع فيها العلماء، ورأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً، بعد نظر مثله، فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل
__________
1 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الزكاة (1037) , وابن ماجة: المقدمة (221) , وأحمد (4/93, 4/95, 4/98) , ومالك: الجامع (1667) , والدارمي: المقدمة (224, 226) .(4/39)
على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره باشتغاله على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فيكون موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل؛ فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنَزّلنا هذا التنزل، لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تاماً في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه.
أما إذا قدر على الاجتهاد التام، الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص; وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله، بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، وأنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1؛ والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحا، ً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده؛ وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/258, 2/428) .(4/40)
من الحق، هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي ترجحت حجته.
وأما الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة، واتباع هوى، فهذا مذموم. وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه، لا سيما إن كان قد رواه أيضاً، فمثل هذا لا يكون عذراً في ترك النص، فقد بينا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحو عشرين عذراً للأئمة، في ترك العمل ببعض الحديث، وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار.
وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول؛ فمن ترك الحديث، لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل بعض أهل الأمصار، وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً في حقه.
فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه، لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة المنورة النبوية، الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو له معارض راجح، وقد بلغ مَن بَعدَه أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل عمل به طائفة منهم،(4/41)
أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض.
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم، أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد عارضه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة؛ فكما أن الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النّزاع، إذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، فكذلك موارد النّزاع بين الأئمة.
وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود، في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول مَن هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره، لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية، لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذه وهذه سواء " 1.
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في التمتع، فقال له: "إن أبا بكر وعمر يقولان، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! "; وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها، فعارضوه بقول عمر، فبين أن عمر يرد ما يقولونه، فألحوا عليه، فقال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع، أم أمر عمر؟ " مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر، وابن عباس.
__________
1 البخاري: الديات (6896) , والترمذي: الديات (1392) , والنسائي: القسامة (4847) , وأبو داود: الديات (4558) , وابن ماجة: الديات (2652) , وأحمد (1/227, 1/339, 1/345) .(4/42)
ولو فتح هذا الباب، لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] . انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى.
وأما سؤال السائل: عن الترقي إلى معرفة طرق الحديث وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث، في أنه صحيح أو حسن، يكفيهم؟
فجوابه: أن ذلك يكفيهم، قال في شرح مختصر التحرير: ويشترط في المجتهد: أن يكون عالماً بصحة الحديث، وضعفه، سنداً ومتناً، ولو كان علمه بذلك تقليداً، كنقله من كتاب صحيح من كتب الحديث المنسوبة إلى الأئمة، كمالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، ونحوهم، لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم، كما يؤخذ بقول المقومين في القيم. انتهى.
وقال في مسودة ابن تيمية: العامي الذي ليس معه آلة الاجتهاد في الفروع يجوز له التقليد فيها، عند الشافعية والجمهور؛ وقال أبو الخطاب: يجوز له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر، وكون سنده صحيحاً أو فاسداً، ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع. انتهى.(4/43)
وقال عبد الرحيم ابن الحسين العراقي في ألفيته:
وأخذ متن من كتاب لعملْ ... أو احتجاج حيث ساغ قد جعلْ
عرضاً له على أصول يشترطْ ... وقال يحيى النووي أصل فقطْ
ثم قال المؤلف في شرحه: أي وأخذ الحديث من كتاب، من الكتب المعتمدة لعمل به، أو احتجاج به، إن كان ممن يسوغ له العمل بالحديث والاحتجاج به، جعل ابن الصلاح شرطه: أن يكون ذلك الكتاب، مقابلاً بمقابلة ثقة، على أصول صحيحة متعددة، مروية روايات متنوعة; قال النووي: فإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه.
وقال ابن الصلاح في قسيم الحسن، حين ذكر أن نسخ الترمذي تختلف في قوله: حسن، أو حسن صحيح، ونحو ذلك: فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه; فقوله: ينبغي، قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك، وإنما هو مستحب؛ وهو كذلك. انتهى كلام العراقي.
وقال أبو الحسن البكري الشافعي، في كتابه: "كنْز المحتاج على المنهاج" لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً إلا إذا فوضت إليه واقعة خاصة: فيكفي الاجتهاد في تلك الواقعة، بناء على تجزؤ الاجتهاد، وهو الأصح - إلى أن قال:(4/44)
وقد يحصل الاجتهاد في باب دون باب آخر؛ ولا حاجة لتتبع الأحاديث، بل يكفي أصل مصحح، اعتني فيه بجميع أحاديث الأحكام، كسنن أبي داود، ولا أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه عند الحاجة، ولا إلى البحث عن رواة حديث أجمع السلف على قبوله، أو تواترت عدالة رواته ويقظتهم; وما عداه يكتفى في رواته بتعديل إمام مشهور، عرفت صحة مذهبه جرحاً وتعديلاً، ولا إلى ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف; بل يكفي معرفته بعدم مخالفة قوله الإجماع، لموافقته بتقدم عليه، أو غلبة ظن بتولدها في عصره، وكذا في معرفة الناسخ والمنسوخ. انتهى.
وقال في شرح الروض، للقاضي زكريا، لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، قال: والمجتهد: من علم ما يتعلق بالأحكام، من الكتاب والسنة، وعرف منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وعدالة الرواة وجرحهم، وأقاويل الصحابة فمن بعدهم - إلى أن قال:
ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وأن يكون له في كتب الحديث أصل صحيح، يجمع أحاديث الأحكام، أي غالبها، كسنن أبي داود، فيعرف كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل به، ويكتفى في البحث(4/45)
عن الأحاديث بما قبله منها السلف، وتواترت أهلية رواته، من العدل والضبط، وما عداه يكتفى في أهلية رواته بتأهل إمام مشهور، عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل. ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق، الذي يفتي في جميع أبواب الشرع. ويجوز أن يتبعض الاجتهاد، بأن يكون العالم مجتهداً في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه. انتهى كلام القاضي.
فتبين بما ذكرناه من المنقول: جواز الاعتماد على نقل الأحاديث من الكتب الصحيحة، وكذا التقليد لأهل الجرح والتعديل، في تصحيح الحديث أو تضعيفه; والله سبحانه أعلم.
وأما قول السائل - وفقه الله لفهم المسائل -: حكى بعض المتأخرين: الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رحمهم الله.
فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر، يحيى بن هبيرة، صاحب "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ فإنه ذكر نحواً من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز; فإن كلامه يأبى ذلك.(4/46)
وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً، وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه، كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين; وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فتجوز تولية المقلد لأهلها، وينفذ قضاؤه.
وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة، بحيث أن يلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلده، كما قد يتوهم; بل كلامه يخالف ذلك، ولا يوافقه.
وعبارته في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال يجوز ذلك؛ قال الوزير: والصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به، لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالقاضي الآن، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا يسعى في طلب الأحاديث، وابتغاء طرقها، ولا عرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، فإن ذلك مما قد فرغ منه،(4/47)
ودأب له فيه سواه، وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين، إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق، فإذا عمل القاضي في أقضيته بما يأخذ عنهم، أو عن الواحد منهم، فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قاله.
وعلى ذلك، فإنه إذا خرج من خلافهم، متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه، كان آخذاً بالحزم، وعاملاً بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف، وتوخى ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، مع جواز علمه أن يعمل بقول الواحد.
إلا أنني أكره له أن يكون ذلك، من حيث إنه قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء، فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب، حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم، نحو التوكيل بغير رضى الخصم، وكان الحاكم "حنفياً"، وقد علم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، وأن أبا حنيفه يمنعه، فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة، إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة، بمجرد أنه قاله فقيه، هو في الجملة من فقهاء الأتباع له، ومن غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله، ولا أداه اجتهاده(4/48)
إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه، فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه، وأنه ليس من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] .
وكذلك إن كان القاضي "مالكياً" فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته، فعدل إلى مذهبه؛ وكذلك إن كان القاضي "شافعياً" فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً، فقال أحدهما: هذا منعني بيع شاة مذكاة، فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة، فقضى عليه بمذهبه، وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه.
وكذلك: إن كان القاضي "حنبليا" فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال، فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته، فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه; فإن هذا وأمثاله، مما توخي اتباع الأكثرين فيه، أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل؛ وبمقتضى هذا، فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة، وأنهم قد سدوا ثغراً من ثغور الإسلام، سده فرض كفاية.
ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي يمشي عليها الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتاب إن(4/49)
صنفه، أو كلام إن قاله، أنه لا يصح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء، ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة، والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية.
وهذا غير صحيح; بل الصحيح في المسألة: أن ولايات الحكام جائزة وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعاً. انتهى كلام ابن هبيرة، رحمه الله تعالى. فقد تضمن هذا الكلام: أن تولية المقلد جائزة، إذا تعذرت تولية المجتهد، لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام، وأن هذا كالإحالة، وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، فينفذ قضاء المقلد للحاجة، لئلا تتعطل الأحكام؛ وهكذا قال غير واحد من المتأخرين، الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، يذكر هذا، ثم يذكر القول الثاني: أنه يجوز تولية المقلد للضرورة، كما ذكره متأخرو الحنابلة، والمالكية، والشافعية.
وتضمن أيضاً كلام ابن هبيرة، أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم؛ فلا يخرج(4/50)
القاضي عما أجمعوا عليه; فإن اختلفوا، فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر; وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثلاثة، لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعاً لهواه.
وتضمن كلامه أيضاً: أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة، لأن مذاهبهم مدونة، قد حررت، ونقحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة؛ فلأجل هذا جاز تقليدهم. فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم، لا على وجوبه؛ بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم، لا يفتي إلا به.
بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق إن وجده، وإلا توخى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفاً الأكثر.
فقضية كلامه: أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل، فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] ، وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم، من أن المقلد إذا كان نبيهاً، وله ملكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم، تبين له(4/51)
الراجح من المرجوح، وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد.
فإذا كان الرجل شافعياً أو حنبلياً، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلاً صحيحاً قد استدل به مالك، فعمل بالدليل، كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويسلم له الدليل بلا معارض؛ وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيد؛ فهو يتبع الدليل، ويقلد الإمام الذي قد أخذ به.
وأما الأخذ بالدليل، من غير نظر إلى كلام العلماء، فهو وظيفة المجتهد المطلق؛ وأما المقلد الذي لم تجتمع فيه الشروط، ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم؛ قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، أفيجوز أن يعمل بما شاء؟ ويتخير ما أحب منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا; لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى كلامه.
وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين ولم يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث، فعمل به، كان قد عمل بالحديث وقلد هذا الإمام المجتهد في(4/52)
تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون متبعاً للدليل، غير خارج عن التقليد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح، مثل كتاب "التعليق" للقاضي أبي يعلى، و"الانتصار" لأبي الخطاب، و "عمد الأدلة" لابن عقيل، و"تعليق القاضي" يعقوب البرزبيني، وأبي الحسن الزاغوني; ومما يعرف منه ذلك: كتاب "المغني" للشيخ أبي محمد، وكتاب "شرح الهداية" لجدنا أبي البركات.
ومن كان خبيراً بأصول أحمد ونصوصه، عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، ومن كان له بصر بالأدلة الشرعية، عرف الراجح في الشرع؛ وأحمد، رحمه الله، أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، رحمهم الله، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصاً كما يوجد لغيره; ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي، وأكثر مفاريده التي لا يختلف فيها مذهبه، يكون قوله فيها راجحاً. انتهى كلامه، رحمه الله.
وهو موافق لما ذكره صاحب الإفصاح من أن القاضي عليه أن يتوخى إصابة الحق، فيتوخى مواطن الاتفاق، فيعمل(4/53)
بما اتفقوا عليه، فإن لم يكن الحكم متفقاً عليه، نظر فيما عليه الجمهور، إذا لم يكن مع مخالفهم دليل; فليس الناظر في كتب الخلاف، ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد; وليس في كلام صاحب الإفصاح ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه؛ بل كلامه صريح في ضد ذلك.
وهذه الشبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم، وصال بها أكثرهم، فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل، فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق.
واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير، حتى آل الأمر بهم إلى أن {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام، فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص كتاب أو سنة؛ فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته.
فلو رأى واحداً من المقلدين قد خالف مذهبه، وقلد إماماً آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به، قالوا: هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزل نفسه منْزلة الأئمة(4/54)
المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلد إماماً دون إمام آخر، لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] .
فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلاً ردوه إلى نص إمامهم، فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه، وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام، واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها.
فإذا قيل لهم: هذا حديث رسول الله، قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟! أمثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دل على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح.
وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها; فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله، أو هو أعلم منه، كمالك والإمام أحمد، رحمهما الله، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي ونقول: إمام بإمام، وتسلم لنا الأحاديث، ونرد الأمر إلى الله والرسول عند(4/55)
تنازع هؤلاء الأئمة، ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، فنمتثل ما أمر الله به؛ وهذا هو الواجب علينا.
ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام، إلى تقليد إمام آخر، لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ؛ فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر، لأمر ديني، بأن تبين له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل، مثاب على فعله، بل واجب على كل أحد، إذا تبين له حكم الله ورسوله، في أمر، أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحداً في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال، كما تقدم ذكره.
وقد ذكرنا أن الشافعي، رحمه الله، قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس؛ وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب، لمجرد الهوى، أو لغرض دنيوي، فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون متبعاً لهواه.
وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله، على أنه: ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً، أو محرماً، ثم يعتقده غير واجب أو محرم، بمجرد هواه، وذلك مثل: أن يكون طالباً للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في(4/56)
هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور، ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار، اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح.
ومثل من يعتقد: إذا كان أخاً مع جد، أن الإخوة تقاسم الجد، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، فإذا كان جد، مع أخ، اعتقد أن الجد يسقط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيقة؛ فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الرخص؛ فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبع هواه.
والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر، فالآخر; وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه; فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدمين هجراً ورغبة عنه، حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم، فهي مهجورة.
فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع، والمنتهى، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين، فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، رحمه الله، مع أن كثيراً من(4/57)
المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه، وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم؛ بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين.
ف "المغني" و "الشرح" و "الإنصاف" و "الفروع" ونحو هذه الكتب، التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة، أو خلاف الأصحاب، لا ينظرون فيها؛ فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد.
وكذلك متأخرو الشافعية، هم في الحقيقة أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة" وأضرابه من شراح المنهاج؛ فما خالف ذلك من نصوص الشافعي، لا يعبؤون به شيئاً.
وكذلك متأخرو المالكية، هم في الحقيقة: أتباع خليل، فلا يعبؤون بما خالف مختصر خليل شيئاً، ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين، لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ؛ وكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها.
وأما كتب الحديث، كالأمهات الست، وغيرها من كتب(4/58)
الحديث، وشروحها، وكتب الفقه الكبار، التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين، فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل.
ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها، فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبق إلا التقليد، والمقلد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليله وتعليله.
ولم يميزوا بين المجتهد المطلق، الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد، وبين المجتهد في مذهب إمامه أو في مذاهب الأئمة الأربعة، من غير خروج عنها؛ فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويمعن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه، قلد الإمام الذي قد أخذ بالدليل؛ فهو اجتهاد مشوب بالتقليد.
فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة؛ فإن وجد مع أحدهم دليلاً أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة دليلاً من الجانبين، أخذ بما عليه الجمهور،(4/59)
فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين، التزم قول إمامه، إذا لم يترجح عنده خلافه.
فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره، وجعلوهما نوعاً واحداً; وهذا غلط واضح; فإن من كان قاصراً في العلم، لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم، كما نص عليه الإمام أحمد، رحمه الله، في رواية ابنه عبد الله؛ وقد ذكرناه فيما تقدم.
وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة، وتوخي الحق بما دل عليه الدليل، وبما عليه الجمهور، فهذا هو الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو الذي ذكره صاحب الإفصاح. وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه بحيث لا يخرج عنه، وإن خالف نص الكتاب أو السنة، فهذا مذموم غير ممدوح؛ وقد ذمه صاحب الإفصاح كما تقدم ذكره، بل قد ذمه الأئمة، رضي الله عنهم.
قال الشافعي، قدس الله روحه: طالب العلم بلا حجة، كحاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه؛ وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه(4/60)
يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!
قال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً، يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم; قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون.
وقال أبو عمر بن عبد البر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا. فإن قال: قلدت، لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها; والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني.
قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من الكتاب، أو حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء، فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم، دون بعض؛ فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض، وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.(4/61)
فإن قال: قلدته لأني أعلمه على صواب، قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل؛ وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة، رضي الله عنهم؛ فكفى بقول مثل هذا قبحاً; فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة، قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.
وقد ذكر ابن معين عن عيسى بن دينار عن القاسم عن مالك، قال: ليس كلما قال الرجل قولاً - وإن كان له فضل - يتبع عليه، لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] . فإن قال: قصري وقلة علمي تحملني على التقليد، قيل له: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام الشريعة عالماً يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به، فمعذور، لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله، لإجماع(4/62)
المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة، لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.
ولكن من كانت هذه حاله، هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؛ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلاً ورداً للقرآن، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] ، وقال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 28] .
وقد أجمع العلماء: على أن ما لم يتبين ولم يستيقن، فليس بعلم; وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً؛ ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه: "من أفتى بفتيا، وهو يعمى عنها، كان إثمها عليه "، موقوفاً ومرفوعاً، قال: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث " 1، قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. انتهى كلام أبي عمر، رحمه الله تعالى.
فتأمل ما في هذا الكلام من الرد على من يقول
__________
1 البخاري: النكاح (5144) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2563) , والترمذي: البر والصلة (1988) , وأحمد (2/287, 2/312, 2/342, 2/517) , ومالك: الجامع (1684) .(4/63)
بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد دليلاً يخالفه، لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذراً له في رد الحديث، أو ترك العمل به إذا خالف المذهب.
وتأمل قوله: لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد؛ ومراده إذا كان المقلد قادراً على الاستدلال، وأما العاجز عنه، فهو كالأعمى يقلد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزا.
وقد حكى الإمام أبو محمد ابن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه، لا يخرج عنه، فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. انتهى. فحكاية الإجماع من هذين الإمامين، أعني أبا عمر بن عبد البر، وأبا محمد ابن حزم كاف في إبطال قول المتعصبين للمذهب؛ والله سبحانه وتعالى أعلم، ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فيمن ترك العمل بالحديث الصحيح، إذا خالف المذهب: هذا من محدثات الأمور، التي ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا(4/64)
تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] .
وهذا أصل عظيم من أصول الدين; قال العلماء، رحمهم الله: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول الذي يقوله هؤلاء، يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل النصوص; والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة، فيه شبه بمن قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] .
وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم؛ فالأئمة، رحمهم الله، اجتهدوا، ونصحوا; قال الشافعي، رحمه الله: إذا صح الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط؛ فهو مذهبي.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، فيمن اعتمد على كتب المتأخرين، من غير التفات إلى ما خالفها، من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف، والعلماء المتقدمين؟ ورأى أن(4/65)
ما حوته هو الذي شرعه الله لرسوله، وأوجب أن يعبد به؟ وإن قيل له في ذلك، قال: قد اختار هذه الكتب من هو أعلم منا، وأبصر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وما يقال في مثل هذا؟ وما يخاف عليه منه؟
فأجاب: لا ريب، أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال آية: 20] ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، ولم يوجب الله سبحانه على الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله; وقال الشافعي، رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. انتهى. وقال ابن هبيرة في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضا من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يجوز ذلك.
وقال الشيخ أبو محمد في المغني: يشترط في(4/66)
القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد; وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية; وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً فيحكم بالتقليد، لأن الغرض منه فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد، جاز، كما يحكم بقول المقومين.
ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49لا] ، ولم يقل بالتقليد; وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار " 1، رواه ابن ماجة. قال: والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى.
وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب - إلى أن قال - واختار في الترغيب: ومجتهد في مذهب إمامه للضرورة; واختار في الإفصاح والرعاية: ومقلداً. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس. انتهى.
وذكر ابن القيم - في مسألة التقليد في الفتيا - ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز الفتوى في التقليد، لأنه ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم؛ وهذا قول أكثر
__________
1 أبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجة: الأحكام (2315) .(4/67)
الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية.
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء، إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره; وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا.
والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة والضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت.
وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، فهذا لا يجوز، كما قال الشافعي، رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، بأن يكون متأهلاً لذلك، فهذا مذموم أيضاً، لقدرته وتمكنه من معرفة الدليل.
النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو نوعان: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالحديث والفقه، وليس لهم نظر في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف؛ فإذا وقعت له حادثة استفتى من علمه عالماً عدلاً، ورآه منتصباً للإفتاء والتدريس؛ واشترط الشيخ تقي الدين مع ذلك الاستفاضة بأنه أهل للفتيا. النوع الثاني: من كان متأهلًا لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من(4/68)
المذاهب، وتبصر في بعض كتب متأخري الأصحاب، كالإقناع، والمنتهى عند الحنابلة، لكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضاً؛ إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] .
ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة، وذلك لقول الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1؛ ولكن هذا لا ينبغي له التسرع إلى إفتاء غيره، فإن دعت الحاجة إلى فتواه، فهو إخبار عن مذهب إمامه الذي ينتسب إليه، لا فتيا؛ قاله جماعة من الأصحاب; وعليه أن يتقي الله ما استطاع، فإن كان له فهم قوي وإدراك، بحيث إذا نظر المسائل الخلافية، ورأى أدلة كل من المختلفين، وكان فيه ذكاء وفطنة، يدرك بها الراجح من المرجوح فيما يراه، عمل بما ترجح عنده؛ فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يعلم له معارضاً، فخالف مذهبه وتبع ذلك الإمام الذي أخذ بالدليل، كان مصيباً؛ بل هذا هو الواجب عليه، ولا يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.
__________
1 أبو داود: الطهارة (336) .(4/69)
قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: من كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن; وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص على ذلك. انتهى.
وعلى كل حال، فلا ينبغي التسرع والجسرة بقول: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب؛ قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] ؛ فمن عرف أحوال السلف، وهيبتهم الإفتاء، مع علمهم وفضلهم، أفاده ذلك اتهام فهمه، وعدم التسرع إلى الفتوى، لأنه يخبر عن الله تعالى، والمقلد: إنما يحكي عن غيره، فالأولى إذا دعت الضرورة إلى فتواه، أن يقول: ذكر أصحاب المذهب الفلاني، أو ذكر في الكتاب الفلاني: كذا، وكذا.
وأما قول القائل: قد اختار هذه الكتب وما حوته، من هو أعلم منا، فيقال: حق، هم أعلم منا، لكن لا يلزم من ذلك تقليدهم في كل ما وضعوه; فإذا قال كل أهل مذهب هذه المقالة، في كتب من تقدمهم، فالمصيب عند الله واحد، فمن هو الذي يجب اتباعه؟! فإذا اختلفت المذاهب في حكم مسألة، فالمصيب منهم واحد، والمجتهد المخطئ إذا كان أهلاً مأجور على اجتهاده، ولا يجوز له تقليده إذا بان له خطؤه، مع كونه أعلم ممن بعده، والله(4/70)
سبحانه إنما أمر بالرد عند التنازع، إلى كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن قال: إن ما أودع في بعض الكتب المصنفة، هو الذي يجب اتباعه، فهو مخطئ يخاف عليه العقوبة في قلبه; ولازم هذه المقالة: أنه إذا وجد عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ما يخالف بعض ما فيها، أن الذي في هذه الكتب هو الواجب الاتباع، دون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل كثير منهم يصرحون بذلك ويلتزمونه، مع أنه مخالف للكتاب، والسنة; فهو مخالف لقول الأئمة الأربعة الذين صنفت هذه الكتب على مذاهبهم، لأنهم نهوا عن تقليدهم.
قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه; وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب; وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط; وقال الإمام أحمد: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا، وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا.
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد(4/71)
بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ويقال أيضاً لمن قال: وضع هذه الكتب من هو أعلم منا، إذا كان ممن ينتسب إلى الحنابلة، فوضع كتب الشافعية، والمالكيه، والحنفية من هو أعلم منك، فما الذي أوجب اتباع بعضها دون بعض؟! فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قصور أفهامنا وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه؛ فلو تبين لي في بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة، اتبعت السنة; وهذا هو الواجب علي، لكني قليل التمييز، لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده.
وقائل ذلك يرجى له السلامة; وهذا كله في غير أصول الدين، فأما أصول الدين، من التوحيد، ومعرفة الرسالة، وسائر الأصول، فلا يجوز فيها التقليد عند جميع العلماء; فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.(4/72)
[رد الشيخ عبد اللطيف قول ابن منصور اختلاف الأمة رحمة]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور مدحه الاختلاف، وزعمه أنه رحمة، وإيجابه صوم يوم الشك:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له; وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فقد وقفت على كلام، كتبه بعض من يدعي العلم، في مسألة اختلاف الأمة، يزعم أنه رحمة، ويشنع على من ذمه; وقال: الرحمة في الجماعة والاتفاق؛ فرأيت له من الكلام في هذه المباحث، ما يوجب للمؤمن المعافى مما ابتلي به هذا، أن يكثر من حمد الله وشكره، ومن سؤال العافية; وأي بلية أعظم من القول على الله بلا علم؟!
وخلوّ الذهن من العلم، وعدم الشعور بشيء منه أخف ضرراً، وأقل خطراً مما ابتلي به هذا الرجل، من تحريف الكلم، والخروج عما عليه أهل العلم، وما يعرفه أهل هذه الصناعة من العدل والإنصاف، ومصاحبة التقوى، فيما يعانونه من الأحكام والفتوى; ومن نظر في كلام هذا من(4/73)
أهل العلم والبصيرة، وتأمل أبحاثه واستدلاله في الإفتاء وتسطيره، عرف أنه أجنبي من هذه الصناعة، معدم من تلك التجارة والبضاعة.
وقد يتزيا بالهدى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمهْ
لكنه، عافاه الله، يخرج عما عليه أهل التحقيق والعلم، ويظن أنه من ذوي الإصابة والفهم، ويتجاسر على تجهيل مشائخ الإسلام، ويعرض عند ذكرهم بقبيح المنطق والكلام؛ وهذا أعدل شاهد ودليل على أنه لم يتأهل للتوقيع عن الله ورسوله، والتسجيل; وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً. انتهى.
وإنما يلجأ إلى مثل هذا ناقص العلم والدين، إذا أفلس من الأدلة والبراهين، وقد نبهنا هنا على بعض ما في رسالته، مما يتعلق بالعلم وأبحاثه، وأعرضنا عما فيه من الغيبة والبهت، وفضول الكلام، الذي لا يصدر عن العقلاء من العوام.(4/74)
فصل
فأما مدحه الاختلاف وزعمه أنه رحمة، فالعبارة فيها عموم لا يخفى، وهي متناولة مدح جميع أهل الشقاق والأهواء، الذين تواترت النصوص النبوية بذمهم وعيبهم، ودلت عليه الآيات القرآنية، كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4] ، وقوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، والزبر: الكتب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية [سورة الأنعام آية: 159] ، وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} الآية [سورة هود آية: 118-119] .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105] ، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية [سورة البقرة آية: 213] ، ونحو هذه الآيات التي فيها إطلاق ذم الاختلاف، وعيب أهله، وخروجهم عما جاءت به الرسل.(4/75)
وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة " 1، وحديث العرباض بن سارية قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فأقبل علينا، ووعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً مجدعاً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال: " إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب " 2، أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى كأنما في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب، فقال: أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم ".
وقال ابن سيرين: كانوا يقولون: "ما دام على الأثر، فهو
__________
1 ابن ماجة: الفتن (3992) .
2 صحيح البخاري: كتاب الإيمان (22) وكتاب الوكالة (2316) وكتاب الخصومات (2410) وكتاب الجزية (3158) وكتاب أحاديث الأنبياء (3473, 3476) وكتاب المغازي (4015) وكتاب تفسير القرآن (4498) وكتاب فضائل القرآن (5062) وكتاب الدعوات (6329) وكتاب الرقاق (6425 ,6560) وكتاب الفرائض (6787) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288, 7320) وكتاب التوحيد (7509, 7510) , وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب (2578) , وسنن الترمذي: كتاب البر والصلة (1998، 1999) وكتاب القدر (2133) وكتاب الفتن (2180) وكتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2491) وكتاب صفة جهنم (2598) وكتاب العلم (2679) , وسنن النسائي: كتاب مناسك الحج (3057) , وسنن أبي داود: كتاب الزكاة (1698) وكتاب اللباس (4091) وكتاب الأدب (4893) , وسنن ابن ماجة: كتاب المناسك (3029) , ومسند أحمد (1/178, 1/419, 1/421, 1/452, 2/159, 2/191, 2/195, 3/323) , وموطأ مالك: كتاب الجامع (1656) , وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (479) .(4/76)
على الطريق "، وعن جابر بن عبد الله: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من خطبته قال: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها " 1، وزاد في طريق آخر: " وكل بدعة ضلالة " 2، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم؛ وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "، وعنه: "إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحْدِثون ويحدث لكم؛ فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدى الأول ".
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال علي لعبيدة السلماني: "اقضوا ما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف". جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد، وألزمهم القراءة به، عن رأي واتفاق من الصحابة، خشية الاختلاف في القرآن.
فهذه الآيات الكريمات، وهذه الأحاديث النبويات دلت على ذم الاختلاف، وعيبه، وتحريمه، والتشديد فيه، والوعيد عليه بالنار، وبلغت من الشهرة، والتواتر، وقبول أهل العلم لها، واحتجاجهم بها، ما يورث العلم الضروري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها وصدرت عنه؛ وإن زعم هذا المفتي أنه
__________
1 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وأحمد (3/310, 3/319, 3/371) , والدارمي: المقدمة (206) .
2 مسلم: الجمعة (867) , والنسائي: صلاة العيدين (1578) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي: المقدمة (206) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84, 3/89, 3/94) .(4/77)
أراد خصوص أهل السنة والفتوى، فهو لا يعرف لما خرج من بين شفتيه حقيقة، ولا معنى; فإن عبارته صريحة في العموم، والحكم به في مقام البحث والإفتاء مسطور معلوم.
وأهل العلم يبحثون مع المتكلم، ويحكمون بما دل عليه كلامه، من النص والعموم الظاهر، ولا بحث فيما انطوت عليه الضمائر، وأخفته السرائر؛ بل ذلك أمره إلى الله، كما يعرفه ذوو العلم والبصائر; وفي الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " 1؛ وهذا الوجه كاف في إبطال عبارته وردها، لأنه أطلق مدح ما أطلق الله ورسوله ذمه وعيبه، وفي هذا من الخروج عما دلت عليه النصوص، ما لا يخفى على أهل العلم والفتوى.
ويقال أيضاً: لو سلمنا أنه أراد خلاف أهل العلم والفتوى، لا أهل البدع والأهواء، فهو ضال مخطئ في فتواه، لأن ما تقدم من النصوص عام لكل اختلاف وقع في الأصول والفروع؛ والفقيه يعرف بفقهه وفطنته، ما قرره أهل العلم الأصوليون وغيرهم، من اعتبار العمومات القرآنية، والألفاظ النبوية؛ وبعضهم جزم أن العموم نص في الحكم، لكنهم يتكلمون ويبحثون في المخصصات.
وقد أجمعوا على أن لا تخصيص لكتاب الله وسنة رسوله بقول أحد، كائناً من كان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعندهم من الأحكام الثابتة في الأصول والفروع بعمومات النصوص، ما
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/300, 3/332, 3/394) .(4/78)
لا يمكن حصره؛ والفقيه يعرف ذلك في كتب أصول الدين، وكتب فروعه، من كتاب الطهارة إلى آخر العتق والإقرار.
وقد أجمعوا على أنه لا تخصيص بالحديث الضعيف، وأنه لا يصلح أن يكون مخصصاً، ولا ينهض لذلك، لأنه نوع نسخ، والناسخ يشترط فيه المساواة في الحجة والقوة والدلالة؛ بل قال بعض العلماء لا يثبت به حكم شرعي، والقياس أولى منه، لكن أحمد يقول: الحديث الضعيف خير من القياس؛ والضعيف عندهم ما قصرت رتبته عن الصحيح والحسن.
وأما ما احتج به هذا من أن النووي ذكر عن الخطابي قوله: جاء الحديث، أو روى "أن اختلاف أمتي رحمة "، فهذا ليس بحجة بالإجماع؛ فإن على من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أن يصحح ما نسب وما ادعى، ويثبته بطريق تثبت به الأحكام، وإلا فمجرد الدعوى لا يفيد ولا يجدي; ولو فتح هذا الباب وأعطي الناس بدعواهم، لذهبت أحكام هذه الشريعة، وادعى كل مخالف ما ينصر دعواه، وفي الحديث: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " 1.
والخطابي قال: قد روي، ولم يتعرض لتصحيح ولا تضعيف، والنووي عزاه إلى الخطابي وخرج من عهدته؛ فأخذه وتلقيه بالقبول، ومصادمة النصوص له والحالة هذه، طريقة أحمق متهوك، لا يعقل شيئاً في هذا الباب، والأولى به أن يساس بسياسة الدواب.
__________
1 البخاري: العلم (110) , ومسلم: مقدمة (3) , وأحمد (2/410, 2/469) .(4/79)
وقد تكلم الديبع والسيوطي، على هذا الحديث بما يكفي ويشفي، وكشفوا عن وجه الصواب، وكذا السخاوي في المقاصد الحسنة والديبع في تمييز الطيب من الخبيث فيما يجري على ألسنة العوام من الحديث; بل صرح جمع من صيارفة الفن، بأنه لا أصل له؛ وأبو سليمان الخطابي لم يدع الصحة، لكنه جرى على ألسنة قوم عزب عنهم ضبط الحقائق، بل أورد الديبع في مختصر المقاصد، ما حاصله: خرج عبد الله بن أحمد، من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، بإسناد لا بأس به: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب " 1، أورده مستشهداً به على رد الأول؛ فاعرف هذا، ولا تلتفت إلى من لا عناية له ولا دراية بهذه الصنعة.
وقال شيخنا، رحمه الله، - في أثناء كلام له -: وأما قولهم: واختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 118-119] . لما سمع عمر أن ابن مسعود وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر وقال: "اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفا، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "؛ لكن قد روي عن بعض التابعين أنه قال: "ما أحسب اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "،ومراده غير ما نحن فيه، ومع هذا فهو قول مستدرك، لأن الصحابة بأنفسهم ذكروا أن اختلافهم عقوبة وفتنة.
__________
1 أحمد (4/278) .(4/80)
وأما قوله في حديث: " أصحابي كالنجوم ": وروى البيهقي من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، فقد أسقط منه السند؛ وانظر ما النكتة في ذلك، هل هو الجهل أو التدليس؟ ثم قد عارض البيهقي من هو أجل منه باتفاق الأمة، ونص على أنه موضوع كما سيأتي، فأي مزية رجحت حكاية البيهقي وروايته، على غيره ممن هو أجل منه من أئمة النقد والتصحيح. ثم البيهقي بتنبيهه على ضعفه خرج من عهدته وأدى ما عليه، وهو يعلم أن الحديث الضعيف لا تقوم به حجة، ولا تثبت به أحكام شرعية عند المحققين.
وأما أنت فتعرضت لهدم الأصول به، ومخالفة أهل العلم; فإن من أكبر أصولهم وقواعدهم: رد مسائل النّزل إلى الكتاب والسنة، وأن لا يحكم بأنها أهدى إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] ، والشرط يفيد انتفاء العمل إذا انتفى الجواب، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] .
ونص أهل الأصول، وأهل الحديث، على أن قول الصحابي ليس بحجة إذا خالفه من هو مثله؛ والبيهقي وغيره إذا ذكروا الحديث وسكتوا عنه، لا يحكم عليه بالصحة عندهم، ولا بأنه حجة، إلا إذا بينوا ذلك وصححوه، فكيف إذا جزموا بضعفه؛ وهذا الحديث، قد نص الحافظ أبو بكر(4/81)
البزار، ويوسف بن عبد الله النمري، وابن قيم الجوزية، وأبو محمد ابن حزم، وغيرهم، على أنه موضوع، وسيأتيك كلامهم.
قال ابن القيم، رحمه الله: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، جوابه من وجوه: أحدها: أن الحديث هذا قد روي من طريق الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها؛ قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد، أن أبا عبد الله بن مفرح حدثهم: حدثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزار: وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يوجب تقليد من ورث الجد مع الأخوة ومن أسقط الأخوة به معاً، وتقليد من قال: الحرام يمين ومن قال: هو طلاق، وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه، وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه، وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين ومن قال بوضع الحمل، وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه، وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه، وتقليد من أوجب الغسل من(4/82)
الإكسال وتقليد من أسقطه، وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم، وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره، وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة ومن لم يره ثلاثاً، وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه، وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منه، وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره، وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره، وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه; وأضعاف أضعاف ذلك، مما اختلف فيه الصحابة.
فإن سوغت هذا، فلا تحتج بقول على قول، ومذهب على مذهب، بل اجعل الرجل مخيراً في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم، واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوغوه، فأنتم أول مبطل لهذا الدليل، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه؛ وهذا مما لا انفكاك لكم عنه; الرابع: أن الاقتداء بهم اتباع القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما، فالاقتداء بهم يحرم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل، كما كان عليه القوم، رضي الله عنهم. انتهى.(4/83)
وقال: أبو محمد ابن حزم في أثناء كلام له: وحدثت طائفة يكثرون الاعتراض بما روي مسنداً: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وهذا خبر لو صح لكان مبطلاً لكل ما ينصره الحنفيون، والمالكيون، والشافعيون، لأنهم في كل مسألة من مسائل اختلافهم ينصرون قوله، ويبطلون خلافه من أقوال الصحابة، رضي الله عنهم؛ فعلى هذا يبطلون الهدى، وإبطال الهدى ضلال.
ولكن إن حدث من يقول بهذا الخبر ويطرده، ويصوب كل قول روي عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، وإن ضاده غيره عن آخر منهم، فليعلم أولاً أنه خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصح قط؛ وساق بالسند المتقدم إلى البزار، سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة، يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما مثل أصحابي كمثل النجوم، بأيها اقتدوا اهتدوا "، وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه.
قلت: قف على قول البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه، تعرف موافقته لما قررناه قبل.(4/84)
ثم قال ابن حزم: قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث، ليس بشيء، وقال البخاري هو متروك؛ ورواه أيضاً: حمزة الجزري، وحمزة هذا ساقط هالك متروك؛ قال أبو محمد: بل هو مما يقطع على أنه كذب موضوع، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، اختلفوا، فحرم واحد منهم، وحلل آخر منهم ذلك الشيء الذي حرمه صاحبه، وأوجب بعضهم، وأبطل غيره منهم ما أوجب صاحبه.
فلو كان هذا الخبر صحيحاً، لكانت أحكام الله تعالى متضادة في الدين، مختلفة، حراماً وحلالاً، معاذ الله تعالى، فقد كذب بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] ، فصح أن الاختلاف ليس إلا من عند غير الله.
وأيضاً، فإنه لا يقدر أحد على اعتقاد تصحيح المتضادات معاً، ولا على القول والعمل بالمختلفات معاً; ونوه بعض فساقهم هاهنا فقال: وجدنا المرأة حلالاً لبعلها حراماً على غيره، وحراماً على بعلها حلالاً لغيره، فما ينكر؛ مثل هذا فتيا فقيه لعمرو، وفتيا فقيه آخر لزيد بمثلها، فقلنا: ينكر ذلك في حكم الله الذي: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] ، وإنما أنكر أشد النكير من حكم من دونه برأيه بغير نص.(4/85)
ثم قال أبو محمد: وأيضاً، فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم فتاوى قوم من الصحابة، كأبي السنابل بن بعكك في المتوفى عنها زوجها، وقد قال بعد ذلك بقول أبي السنابل ابن عباس وغيره، وأبطل قول من قال: حبط عمل عامر بن الأكوع; وقد أجمعت الأمة على أنه قد كان من بعض الصحابة، رضي الله عنهم، أشياء مغفورة لهم: فقد رجم ماعز والغامدية، وهما والله من أهل الجنة. وقال مسطح ما قال، وهو بدري مقطوع له بالجنة، ولو أن امرأ يقول بذلك اليوم لكان كافراً؛ وقد جلد قدامة بن مظعون في الخمر، وهو بدري من أهل الجنة، أفيحل الأخذ بقول من اقتدى بشيء من هذه الأمور بهؤلاء المتقدمين فهو مهتد؟ حاشا لله، بل يكون من قال ذلك في بعضه كافراً، وفي بعضه فاسقاً، بخلاف الفضلاء المغفور لهم بعض ذلك، أو كله، الذين فازوا، ولو تصدق من بعدهم بمثل جبل أحد من ذهب، لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أحدهم.
وفي صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة، أو خمس، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، وقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون؟ ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته، ثم أحل كما أحلوا " 1، قال أبو
__________
1 مسلم: الحج (1211) .(4/86)
محمد، رحمه الله: فنعوذ بالله من شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان من أولئك ففاضل مغفور له؛ ومن كان يتهم ويخطئ فلا يجوز أن يؤخذ من قوله وعمله، إلا من شهد له بالصحة، من لا يتهم في الشريعة، ولا يخطئ ولا يجوز فيها، وهو القرآن والسنة.
وأيضاً، فإن من حرم من الصحابة شيئاً فقد خطأ من حلله، ومن حلله فقد خطأ من حرمه، ومن أوجب منهم شيئاً فقد خطأ من لم يوجبه، ومن لم يوجبه فقد خطأ من أوجبه؛ هذا موجود نصاً حتى إن ابن عباس، رضي الله عنهما دعا إلى المباهلة باللعنة عند الحجر الأسود لمن خالفه. فلو كان ما قالوه في الفتيا، أو فيما يتعلق بها صواباً، وقد خطأ بعضهم بعضاً، لكان كلهم مخطئاً، لأن المخطئ لصاحبه منهم مصيب عند هذا؛ وأطال الكلام، رحمه الله، وفيما ذكرناه عنه كفاية.
وأما دعوى هذا المفتي: أن عثمان بن سعيد الدارمي ذكره في كتاب الرد على الجهمية، فأول الحديث وما فيه من الرد على الجهمية شاهد له، وقصده منه وجوب متابعة الإجما؛، ومثل هذا يذكر في المتابعات والشواهد، ويتسامحون فيه لأن الاعتماد على غيره، وأما قول: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فالجملة ليست من مراد الدارمي، ولا فيها ما يقصده من الرد، فإن الحجة في قول(4/87)
الصحابي إذا لم يخالفه غيره؛ وينبغي النظر في كلام الدارمي وسياقه حتى يظهر مراده; ثم الاحتجاج بالحديث نوع، والحكم عليه بالصحة نوع آخر، يعرف من فن المصطلح، ولا ينبغي أن يتكلم في هذا من لا يدري اصطلاحهم.
وأما قوله: إن عمر بن عبد العزيز، قال: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "، فالاحتجاج بهذا على مدح الخلاف، وتصويب المختلفين، من أعجب الأشياء عند من استصحب أصول الكتاب والسنة، وعرف ما في الاختلاف والافتراق من المفاسد؛ وأهل العلم لهم من الأعذار إذا اجتهدوا، ما لا يخفى على طالب العلم، وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه رفع الملام ما فيه كفاية لمن وفقه الله.
وإنما الشأن فيمن مدح الاختلاف، وجعله من الدين الذي أمر الله به ورسوله، وقول عمر يريد به، رحمه الله: أن اختلافهم من أدلة الرخصة في الاجتهاد، وطلب الحق من مظانه ومعدنه؛ فمن أتى بعدهم ورزق فهماً في كتاب الله وسنة رسوله، فلا عليه أن يأخذ بذلك، ويدع التقليد، لأن الصحابة مضوا على ذلك وسنوه لمن بعدهم، ويشهد له قول علي رضي الله عنه لمن سأله، هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: "لا، والذي برأ النسمة، وفلق الحبة؛ ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهماً يؤتيه الله(4/88)
من يشاء "، وكان في الصحيفة: العقل، وفك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
والمقصود: أن الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أجلّ النعم وأشرفها، وهو مراد عمر؛ ويشهد لهذا قول عمر نفسه: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وإنما يعرف هذه النعمة ويشكرها، أهل العلم بالله ودينه وشرعه، الذين يستنبطون الأحكام، ويستخرجونها من نصوص الكتاب والسنة. وفي المثل السائر: كم ترك الأول للآخر، ومائدة الله مبسوطة لعباده المؤمنين، ليست ممنوعة ولا محظورة، ولا يزال يهب من العلوم والفهوم، ما لم يخطر على بال كثير من أهل الدعاوي والرسوم، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 83] ، فهو سبحانه يرفع درجة عبده بالفهم والعلم، ومصدر ذلك عن حكمته وعلمه.
اللهم إنا نتوسل إليك بما توسل به عبادك الصالحون، وأولياؤك المقربون، أن تجعل لنا من الفهم عنك، وعن رسولك ما نبلغ به منازل الصديقين، ونحشر به في زمرة العلماء العاملين، ونكتب به في ديوان السلف الصالحين. وما أحسن ما قيل:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغُ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي في الجنان بلاغُ(4/89)
وبنحوه ما قلناه في كلام عمر، يقال في قول القاسم بن محمد، إن صح عنه؛ وأما قول الليث بن سعد: أهل العلم أهل توسعة، فليس معناه أنهم يأخذون بكل قول، من غير نظر للتحقيق والتأصيل، بل المراد: أنهم يراعون قاعدة اليسر، ورفع الحرج، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ، فيسقط الوجوب للعجز؛ وقد يسقط بالجهل والنسيان، بل وبالمشقة في بعض الصور، ويباح المحظور لمقتضٍ راجح. وليس المقصود أنهم يأخذون بالرخص، ويتبعون مسائل الخلاف؛ قال بعضهم: من تتبع الرخص تزندق. وقد أنكر الليث، رحمه الله، على الإمام مالك مسائل معروفة، ورسالته إليه حكاها العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين.
ثم المقرر في كتب الأصول والفقه: أن لا حجة في مسائل النّزاع، إلا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس قد قيل فيه ما قيل; هذا هو المقرر عند أهل العلم سلفاً وخلفاً، ثم جاء في هذه الأوقات من يحتج بكل قول رآه، ويمكن كل أحد أن يورد مثل هذه الأقوال، فإن كانت حجة في محل النزاع، تعذر إقامة الدليل والبرهان على كل مخالف ومنازع.
وأما قوله: قال: شرف الدين البوصيري، فذكر هذا اللقب هنا ظاهر في مراغمة عباد الله الموحدين المؤمنين، الذين أنكروا قوله في منظومته المشهورة:(4/90)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك.................
الأبيات
وقد عرف وعهد هذا وأمثاله عن الرجل، ونقل عنه ما هو أبلغ وأشد من هذا، وإلى الله تصير الأمور، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر،: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . ونسأل الله أن يمن علينا وعلى هذا الرجل بتوبة نصوح، تمحو ما كان قبل ذلك.
وقد رأيت لهذا فيما كتبه على كتاب التوحيد، نقلاً عن تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] : وأن العبادة هي: موافقة القدر والقضاء وجريانهما على العبد، وأن ابن عباس قال: كفر الكافر تسبيح؛ فنعوذ بالله من الخذلان. ثم أي حجة في قول البوصيري، لو كان هذا يعقل، وقد مضت القرون المفضلة والتي بعدها إلى القرن السادس، ولم يعرف هذا عندهم، بل يختارون للقضاء غالباً، من له معرفة بالكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، ومعرفة لغة العرب وعلوم الآلة.
وأما جعل أربعة قضاة من أتباع الأئمة الأربعة، فهذا محدث؛ ونص أحمد على أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، عارفاً بالكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ فما مدحه البوصيري من نصب المقلدين خلاف ما عليه أهل العلم، من اشتراط الاجتهاد في القاضي. وسيأتيك عن هذا ما نقل عن الإمام أحمد وغيره، أنه لا يفتي إلا العالم بأقوال العلماء؛ وهذا مدح المقلدين، وجعل مدح البوصيري(4/91)
حجة على ذلك، وزعم أنهم هم أركان الشريعة وطبائعها، فناقض أول الورقة آخرها، شعراً:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسورُ
وأما احتجاجه بقول النووي: العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب؛ قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه.
فيقال في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي، بل تصرفت فيها، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة، لأنه عليك، مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض؛ قال النووي - بعد ما تقدم -: لكن إن أريد به على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق؛ فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة، أو وقوع في خلاف آخر، ثم ذكر كلام الماوردي فيمن تولى الحسبة، وذكر الخلاف في حمله الناس على مذهب غيره، ثم قال: ولذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي، أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصاً، أو إجماعاً أو قياساً جلياً، والله أعلم؛ هذا كلام النووي.
فقد استبان لك أن مراده: إذا لم يظهر دليل، ولم(4/92)
يترجح جانب الإنكار، بكتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس جلي؛ والأمانة في نقل العلم مشترطة، والخيانة فيه أعظم من الخيانة في المال ونحوه، ثم هو احتجاج بما لا يجدي، ولا يثبت به حكم شرعي، فإن الأحكام تؤخذ عن الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
وأما أقوال الآحاد من العلماء، فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي، وما زال أهل العلم يردون على من هو أجل منه؛ قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: "أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء، ". وقال عمر رضي الله عنه: "أيها الناس، ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وثقلت عليهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيراً "؛ وهذا ظاهر.
وإن كان قوله هو أو مثله حجة عند هذا المفتي، عارضناه بمن هو أجل منه، وأعلم بشهادة أهل العلم، فإن أقوال أهل العلم تذكر وتورد في المعارضات والالتباس، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله؛ وقد ثبت عن الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، من الإنكار في مسائل الخلاف والتعزير على ذلك ما يعز حصره، فإن القوم قصدوا(4/93)
تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف مع سنته، ولم يلتفتوا إلى خلاف أحد؛ بل أنكروا على من خالف السنة، كائناً من كان، كما أنكروا على من منع التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر، وعلى من أباح وطء المرتدة بملك اليمين، وعلى من حرق الغالية، مع أن القائلين بهذه الأقوال هم أفضل الأمة وخيرها، ولا يدانيهم من بعدهم في علم ولا غيره.
وهذه العبارة فاسدة من جهة قوله: كل مجتهد مصيب؛ وقد رد هذا غير واحد من المحققين، وفي كتب الأصول من بيان فساده ما لا يخفى على طالب العلم؛ وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في بعض كتبه، فإن أراد قائل هذا، رفع الإثم والحرج عمن اجتهد، وأن هذا معنى الإصابة، فهذا له وجه، لكن ليس الكلام في كون المجتهد مصيباً للحكم الشرعي، أو مخطئاً له، فقول النووي: هذا هو المختار عند المحققين أو أكثرهم، خلاف التحقيق؛ بل المحققون على خلاف ما قال.
ومن هذا الباب، نقل هذا المفتي عن صاحب كتاب الحجة على تارك المحجة، ونقله عن البيهقي، والحسن الحلبي، والقاضي حسين، وإمام الحرمين، فهؤلاء ليسوا بحجة، وليسوا من أصحاب الوجوه في مذاهبهم؛ فسرد هذا العدد لا يجدي شيئاً، وكون هؤلاء ذكروا أن اختلاف الأمة رحمة، لا يفيد صحته، وقد تقدم ذكر الحديث، ومجرد روايته ليس بحجة، والحجة في تصحيحه، وهؤلاء ليسوا من(4/94)
أئمة النقد والتصحيح، كالبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمسانيد الثمانية، وكيحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأمثالهم.
وقد انتقد على الجويني في مسائل الصفات وغيرها من أصول الدين، ما يعرفه أهل العلم بأقوال الناس ومذاهبهم، فإن كان قوله هو وأمثاله حجة، لزم ترك ما عليه الإمام أحمد، وما عليه السلف والأئمة، في كثير من مسائل توحيد الصفات؛ بل قد انتقدوا على البيهقي ما يعرفه أهل المعرفة بهذا الشأن. وبالجملة، كل ما ذكر هذا من أدلته، لا يفيده شيئاً عند النقد، وإنما هو مجرد بهرج وحكاية; وأما قوله في حديث: "أصحابي كالنجوم ... إلخ ": إن البيهقي قد أسنده في المدخل، فهذا تكرير منه، وإلا فهو بعينه ما تقدم.
وأما قوله: قد صنف أحد أعيان الشافعية كتابا سماه: "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، فالاستدلال بهذا عجيب جداً، وصاحب هذا الكتاب رجل من أهل حلب متأخر، ليس من أعيان الشافعية، واسمه: محمد بن عبد الرحمن بن الحسين، قاضي صفد، وإنما قصد المفتي البهرجة والترويج، في نسبة هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن المصنف قصد بهذه التسمية نفس الاطلاع على الاختلاف، والفرق بينهما ظاهر.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ(4/95)
مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ، أن العلماء يذكرون الخلاف، فهو يشير بهذا إلى أن الآية تدل على جواز الأخذ بكل قول من أقوال العلماء، وأن هذا هو رفع الحرج، ومن نسب هذا إلى كتاب الله، وجعله دالاً عليه، فقد قال على الله ما لا يعلمه، وخالف ما أجمع عليه المفسرون وأهل العلم في هذه الآية; وحكاية هذا عنه تكفي في رده، وأنه ممن يقول على الله وكتابه ورسوله بغير علم ولا برهان. وأما تشنيعه بعد ذلك على خصمه، ونسبته إلى الجهل، فهذا عليه لا له؛ وباب الدعوى واسع، أوسع من المشرق إلى المغرب، يسلكه كل أحد، عاقلاً أو سفيهاً، محقاً أو مبطلاً، عالماً أو جاهلاً.
وأما قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} الآية [سورة الأنبياء آية: 78] ، فهذه الآية حجة عليه؛ فإن الله خص سليمان بالإفهام، فبطل قوله: كل مجتهد مصيب، لأن هذه من حجج أهل العلم على أن المصيب واحد، وهي أيضاً حجة في ترك التقليد، وحجة في نقض حكم الحاكم إذا لم يوافق، وهذا أبلغ من مجرد الإنكار؛ وقد ترجم النسائي بهذا، فقال: باب نقض حكم الحاكم إذا لم يطابق; وهذا هو معنى قول الحسن: لولا هذه الآية ما اجترأ أحد منا على الفتيا؛ وقد استدل هذا بقول الحسن على أن الاختلاف رحمة، وهو يدل على خلافه.(4/96)
وأما قول الإمام أحمد: الذي يفتي الناس يتقلد أمراً عظيماً ... إلخ، فهذا المفتي ينقل من أقوال العلماء ما هو عليه لا له، وما يهدم أصله ويرد قوله، وهو لا يشعر؛ وهذا من نصر الله للحق، وإظهاره على لسان من يجادل فيه ويماحل. فقول الإمام أحمد يرد على من قال: الاختلاف رحمة، لا يتجه إلا على القول بأن الاختلاف نقمة لا رحمة، فحينئذ يخاف على المفتي، ويتقلد أمراً عظيماً؛ هذا وجه التعظيم والتحذير في كلام أحمد، ويشهد له قوله: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدمه، وإلا فلا يفتي; يريد أن العلم بأقوال العلماء سبب للإصابة، ومعرفة الحق في نفس الأمر، وليس المقصود أنه يأخذ بكل قول ويفتي به، فيكون اختلافهم رحمة كما زعمه هذا. وكذلك فيه رد لقول من قال: كل مجتهد مصيب، لأنه إذا اجتهد فلا محذور عليه، فلا يتجه قوله: يتقلد أمراً عظيماً، يدل عليه قوله بعده: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ; وكلام الإمام من جنس واحد في ذم الخطإ والاختلاف، ولو كان الاختلاف ممدوحاً ورحمة لم يكن لهذا الخوف معنى.
وهذا المفتي دائماً يضع كلام أهل العلم في غير موضعه، ويزيل بهجته وطلاوته; وأعجب من هذا: أنه حكى عبارة الفروع، وهي قوله: وليس لحاكم أو غيره أن يبتدي الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ، وإلزامهم برأيه اتفاقاً، فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف؛(4/97)
فقف على هذا وانظر هذه العبارة، وطابق بينها وبين ما يدعيه هذا من مدح الاختلاف وأنه رحمة، وانظر ما بينهما من التباين والتخالف؛ من ذلك أنه منع الحكام كالمفاتي ونحوهم من إلزام بمذاهبهم السائغة، وفي هذا أن قوله الذي منع من الإلزام به ليس برحمة، بل ولا يحكم عليه بأنه صواب، وإلا فما المانع من إلزام الناس بالرحمة والصواب؟ وفيه أن المنهي عنه الإلزام بترك ما يسوغ، ومن خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً، فقوله غير سائغ، فيلزم بترك ما لا يسوغ ويتعين عليه ذلك، وعند هذا المفتي: أن كل الاختلاف رحمة فلا إنكار فيه.
وقوله: فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف، يقال للمفتي أنقذه الله من أوحاله: متى كان التفرق والاختلاف عندك مذموماً، حتى تورد هذه العبارة؟! فإن مذهبك إلى أن التفرق والاختلاف رحمة، وهذا نص في ذمه وأنه ليس برحمة، ولذلك نهى عنه؛ فينبغي للرجل إن فاته العلم أن يتعقل ما يقول، أو يدع الناس من شره.
وكذلك ما نقله أبو الحارث عن الإمام أحمد من أنه لا يجوز الاختيار، إلا لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، يقال في جوابه: فأين اختلاف العلماء الذي هو رحمة؟ أما أفادت الرحمة جواز الاختيار؟ هذا أقل أحوال الرحمة، فكيف حصر الإمام أحمد الجواز لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، والاختلاف الذي هو رحمة قد شاع وذاع، وملأ البقاع؟! قد(4/98)
ضيق الإمام أحمد على زعمك واسعاً يا أخا العرب; ويعجبني قول ربيعة بن عبد الرحمن: إن بعض من يفتي ببلدنا أحق بالحبس من اللصوص، وإذا فشا الجهل وعهد لم تنكره قلوب الأكثرين؛ فسبحان من منع وحجب من شاء من عباده أن يصيب الحق أو يعرفه، في كل قولة أوردها، أو نكتة بحثها.
وأما قوله: وما ذكرناه هو الذي أوجب قول العلماء، لا إنكار في مسائل الاختلاف، فبهذا صح أن اختلاف الصحابة رحمة، وكذلك الأئمة، لأن اختلافهم تابع لاختلاف الصحابة. انتهى. فهذا الكلام كلام واه ساقط، هجنته تكفي عن جوابه، ولا يقوله من شم رائحة العلم وعرف شيئاً مما هنالك. فأما زعمه أن العلماء قالوا: لا إنكار في مسائل الاختلاف، فالحكاية غير صحيحة، والمعنى فاسد: أما عدم الصحة، فالمعروف عن بعضهم قوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولم يقل مسائل الاختلاف؛ فالنقل غير صحيح، وفي عبارته أنه أضاف القول بذلك إلى العلماء، وهذا مفرد مضاف، فيعم جميع العلماء، والجمهور على إنكار هذا، فكيف ينسب إليهم؟ سبحان الله ما أحسن الحياء!
ثم اعلم: أن المحققين منعوا من قول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأوردوا عن الصحابة فمن بعدهم من الأئمة وعلماء الأمة من الإنكار ما لم يمكن حصره؛ قال شيخ الإسلام أبو العباس، رحمه الله: قولهم: مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى(4/99)
القول بالحكم، أو العمل. أما الأول، فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعاً قديماً، وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه منكر بمعنى ضعفه، عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء; وأما العمل، إذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضاً، بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً، أو مقلداً. انتهى.
وقال في الفروع: وفي كلام الإمام أحمد وبعض الأصحاب، ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها، وإلا فلا; وللشافعية أيضاً خلاف، ولهم وجهان في الإنكار على من كشف عن فخذيه؛ قال ابن هبيرة في قول حذيفة، وقد رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده: "ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم "، فيه: أن إنكار المنكر في مثل هذا يغلظ له لفظ الإنكار؛ قال في حاشية الإقناع:، قال الشيخ في قولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي: المسائل التي ليس فيها دليل بحسب العمل به، وجوباً ظاهراً، مثل حديث لا معارض له من جنسه ... إلى آخر عبارته.
وقول هذا المفتي: فبهذا صح أن اختلاف الصحابة،(4/100)
رضي الله عنهم، رحمة، وكذا الأمة ... إلخ، فالمقدمة باطلة، والتأصيل فاسد، والتفريع عليه أبطل وأفسد، وجميع ما تقدم لا يدل على هذه الدعوى; وقولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لم يعرف هذا غوره ومغزاه، وأن المراد منه: أن لا يقال على الله وعلى رسوله وعلى كتابه إلا الحق، قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [سورة الأعراف آية: 169] ؛ وإذا لم يكن للمنكر مستند سوى رأيه واجتهاده، فلا يسوغ له الإنكار، لأنه لا يجب على غيره المصير إليه والأخذ به، بخلاف الكتاب والسنة والإجماع؛ هذا مرادهم، وهذا لا ينتج ولا يصحح أن اختلاف الصحابة والأمة رحمة.
وقوله: وكذا الأمة، يدخل فيه كل خلاف في الأصول والفروع، حتى من أفتى بجهل، وقال على الله ما لا يعلم؛ كل هذا رحمة على رأي هذا المفتي، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] ، فجعل القول عليه تعالى بغير علم في الدرجة العليا، فإن في الآية الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فهو أكبر من الشرك؛ وهذا يقول: وكذا اختلاف الأمة.
وأيضاً، فهذه العبارة تأتي على جميع ما نقل عن الإمام(4/101)
أحمد، وعن النووي وغيره، بالهدم والإبطال، كما تقدمت الإشارة إليه؛ فكيف ينقل عن أحمد أنه لا يفتي إلا العالم، وقد صوب كل مفت، وجعل خلافه رحمة؟
وأما قوله: فبهذا يتضح خطأ هذا المتكلم الجاهل ... إلى آخر العبارة، بما فيها من التعريف بمن نقل خصمه كلامهم، فهذا الرجل مولع بمسبة أهل العلم، وعيبهم وتجهيلهم؛ ومن عادة أهل البدع إذا أفلسوا من الحجة، وضاقت عليهم السبل، تروحوا إلى عيب أهل السنة وذمهم، ومدح أنفسهم؛ والواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الآية [سورة المائدة آية: 8] . وهذا الرجل يحمل خشبته منذ سنين، ولا يجد من يصلبه، وأهل السنة والحديث في كل مكان وزمان، هم محنة أهل الأرض، يمتاز أهل السنة والجماعة بمحبتهم، والثناء عليهم، ويعرف أهل البدع والاختلاف، بعيبهم وشنايتهم، وما أحسن ما قيل في إمام السنة، شعراً:
أضحى ابن حنبل محنة مأمومة ... وبحب أحمد يعرف المتنسكُ
وإذا رأيت لأحمد متنقّصاً ... فاعلم بأن ستوره ستهتّكُ
وما ذكره عن المناوي: أن شرط الإنكار أن يكون مجمعاً عليه، فمنقوض بما صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/102)
والتابعين وتابعيهم، في كل مصر وعصر، وما تقدم عن النووي وغيره، يرد هذا ويبطله، وأدلة إبطاله أكثر من أن تحصر. ونحيل طالب العلم، شريف النفس والهمة، على ما نجده من كلام أهل العلم والدين، وهو قريب المأخذ، سهل التناول؛ وفي النفس من هذا شيء، فإن صح، فالجواب ما تقدم من كلام النووي وغيره، من أن المخالف للكتاب والسنة ينكر عليه، وهل كلام النووي على هذا يتعين إحساناً للظن به؟
ثم إطلاق هذا، وأخذه على عمومه، فيه من تعطيل ما أمر الله به ورسوله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يخفى؛ بل هو سد لهذا الباب، وهدم لهذا الأصل، بل إطلاق هذا فيه تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم، وفيه تخطئة الإمام، لأنه أنكر كثيراً من مسائل الخلاف التي لم يجمع عليها، بل أنكر بعض الأقوال التي قال بها من قال من الصحابة؛ ومن لم يعرف معنى الكلام، وما يترتب عليه من الأحكام، فالسكوت حسبه. ثم ذكر عن ابن حجر، وابن فرج الأندلسي، من هذا النوع ما لا يفيد شيئاً، ثم زعم أن أصحاب الإمام أحمد نصوا على أنه لا إنكار في مسائل الاختلاف، وتقدم ما فيه، وأن بعضهم قال: مسائل الاجتهاد، لا مسائل الخلاف، وفرق بين العبارتين، وما أحسن ما قيل شعراً:
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظرِ(4/103)
ثم استدل بقول صاحب الفروع: وتصح الصلاة خلف من خالف في فروع، ولا أدري ما وجه الاستدلال إن كان يظن أن الصلاة خلف المخالف تقتضي مدح الخلاف، وتصويب من ذهب إليه، فهذا الظن لا يصدر من سليم العقل، فضلاً عن طالب العلم. وما ذكره عن حمزة الجزري، تقدم ما فيه، مع أن المراد إذا لم يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، وهذا مراد من أطلق؛ وعبارة هذا الرجل ودعواه، أعم من هذا، فالدليل أخص من المدعى، ولا ينهض للاستدلال إلا عكس هذا، بأن يكون الدليل أعم من المدعى.
وقول عمر بن عبد العزيز تقدم جوابه، لكن هذا المفتي زاد هنا بقوله: ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحدهم أخذ بالسنة، فإن هذا من لبس هذا الرجل لا من كلام عمر، فإنه أجل من أن يقول هذا، ولم ينقله أحد فيما علمنا، والمحفوظ عنه قوله: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا؛ والمفتي عافاه الله وجد كتباً، وهجم على ما فيها من غير نظر وأهلية للتحقيق والتأصيل، ولهذا ينقل أقوالاً متضادة يرد بعضها بعضاً؛ وقد رغب عمر عن كثير من الأقوال أن يأخذ بها، لرجحان الدليل، كما يعرفه من عرف شيئا من سيرته وعلمه. 1
__________
1 انتهى ما يناسب هذا الرد في هذا المقام، ويأتي باقيه إن شاء الله تعالى في الجزء الخامس من كتاب الصيام صفحة 287.(4/104)
وقال أيضاً الشيخ: عبد اللطيف، في جواب له: والواجب على المكلفين في كل زمان ومكان: الأخذ بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره؛ ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح، والصدر الأول، فإن لم يدر شيئاً من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ؛ فإن كان المكلف أنزل قدراً، وأقل علماً، وأنقص فهماً من أن يعرف شيئاً من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصاً من عُرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع، فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جداً.
وقال الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، بعد كلام له: ولو كان هنا عناية بما استقر عليه الحال، في زمن الدعوة الإسلامية، وعلمائنا ومشايخنا، رحمهم الله، لكان بهم قدوة ولنا فيهم أسوة، خصوصاً بعدما فهموا من تقريرات شيخهم محمد، رحمه الله، وقوله في رسائله أكثر ما في الإقناع والمنتهى، مخالف لنص أحمد، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعرف ذلك من عرفه.
وقال الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما(4/105)
الله: واختيار بعض المتأخرين لا يقضي بأولويته، ولا رجحانه؛ ولو ذهب المخالف إلى الأخذ بكل ما صححوه، وإلزام الناس بجميع ما رجحوه لأوقعهم في شباك، وأفضى بهم إلى مفاوز الهلاك؛ وهذا على سبيل التنبيه، والإشارة تكفي اللبيب.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: ونعتقد أن الله أكمل لنا الدين، وأتم نعمته على العالمين، ببعثة محمد الرسول الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلاة الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]- إلى أن قال- وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائناً من كان؛ بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد؛ فهذا الذي نعتقده وندين الله به.
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى:
نور الشريعة يهدي قلب ملتمسٍ ... للحق من ساطع للأنوار مقتبسِ
والجهل والصدف عن نهج الهدى كفلا ... لا شك للشخص بالخذلان والفلسِ
وبالشقا والردى والبعد عن سبل ... تفضي إلى جنة المأوى بملتمسِ
فخذ بنص من التنزيل أو سنن ...
جاءت عن المصطفى الهادي بلا لبسِ(4/106)
وسنة الخلفاء الراشدين فهم ... أكرِمْ بم لمريد الحق من قبسِ
فإن خير الأمور السالفات على ... نهج الهدى والهدى يبدو لمقتبِسِ
والشر في بدع في الدين منكرة ... تحلو لدى كل أعمى القلب منتكسِ
فاصغ للحق واردد ما سواه على ... أربابه من أخي نطق وذي خرسِ
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: فالواجب على من نصح نفسه، وأراد نجاتها، وكان من أهل العلم: أن ينظر القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة من الأقوال المتنازع فيها، اتباعاً لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد في كل حال; وأقوال أهل الإجماع، والمفتين، والحكام وغيرهم، إنما اتبعت لكونها تدل على طاعة الله ورسوله، وإلا فلا تجب طاعة مخلوق لم يأمر الله بطاعته؛ وطاعة الرسول طاعة لله. وهذا حقيقة التوحيد الذي يكون كله لله؛ وإذا عرف أن القول قد قاله بعض أهل العلم، ومعه دلالة الكتاب والسنة، كان هو الراجح؛ وإن كان قد قال غيره ممن هو أكبر من قائل ذلك القول، فإن ذلك القول هو الذي ظهر أن فيه طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
سئل بعضهم: هل إجماع الصحابة حجة، أم لا؟
فأجاب: إجماعهم حجة قاطعة، يجب الأخذ بها بإجماع أهل العلم؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ(4/107)
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] ، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [سورة التوبة آية: 100] ، وقوله في أعظم سورة في القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضى الله عنهم.
وقول الواحد منهم، فهو حجة عند العلماء، يأخذ به الإمام أحمد وغيره، إذا لم يخالفه مثله؛ وأما إذا خالفه غيره من الصحابة، فليس قول أحدهما على الآخر حجة.(4/108)
فصل: في أصول الفقه
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: عن صفة الواجب وحدّه، والمسنون وحَدِّه، والمكروه وحدّه، والحرام وحدّه؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، الواجب في الشرع: ما ذم تاركه إذا تركه قصداً، وأثيب فاعله. وهو يرادف الفرض عند الحنابلة، والشافعية، وأكثر الفقهاء؛ وعن أحمد رواية: أن الفرض آكد من الواجب، وهو قول أبي حنيفة. وأما المسنون فهو: ما أثيب فاعله، ولم يذم تاركه؛ والسنة في اللغة: الطريقة والسيرة، وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد(4/108)
بها: ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وندب إليه قولاً وفعلاً، ما لم ينطق به الكتاب العزيز.
وأما المكروه فهو: ضد المندوب، وهو لغة: ضد المحبوب، وشرعا: ما مدح تاركه ولم يعاقب فاعله؛ ومنه ما نهى عنه الشارع لرجحان تركه على فعله، كالصوم في السفر إذا وجدت المشقة في الصوم، ونحو ذلك. وأما المكروه، فهو في عرف المتأخرين: ما نهي عنه نهي تنْزيه، ويطلق على الحرام أيضاً، وهو كثير في كلام المتقدمين، كالإمام أحمد وغيره، كقول الإمام أحمد: أكره المتعة، والصلاة في المقابر، وهما محرمان؛ وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 38] .
والحرام فهو: ضد الحلال، وهو: ما حرمه الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وأصل التحريم في اللغة: المنع، ومنه قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [سورة القصص آية: 12] ، وَحَدُّه شرعاً: ما ذم فاعله، ولو قولاً، كالغيبة والنميمة ونحوهما مما يحرم التلفظ به، أو عمل القلب، كالنفاق والحقد ونحوهما.
[الفرق بين المندوب والمستحب والباطل والفاسد]
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن(4/109)
الفرق بين المندوب، والمستحب، والمباح، والجائز، والباطل، والفاسد، والصحيح، والمكروه؟
فأجاب: اعلم أن جميع الأحكام الشرعية لا تخلو، إما أن تكون واجبة، أو مستحبة، أو مباحة، أو مكروهة، أو محرمة؛ يعني: منها ما هو كذا، ومنها ما هو كذا ... إلخ. وهذه هي الأحكام الخمسة المشهورة عند أهل العلم. فالواجب: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه؛ وضده الحرام، وهو: ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله. والمستحب يرادف المندوب، والمسنون عند الأصوليين والفقهاء، ويقابل المكروه؛ فالمستحب وما يرادفه، هو: ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه، والمكروه: ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله. والخامس: المباح، وهو: ما لا يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه في الجملة؛ وقد يثاب على فعله مع النية الصالحة، إذا أراد به الاستعانة على الطاعة.
وأما الفرق بين الباطل والفاسد، فإن الذي عليه الأصوليون: أنهما مترادفان; وقال أبو حنيفة: الباطل ما نهي عنه لذاته، كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد ما نهي عنه لوصف فيه، ولولا ذلك الوصف لصح، كالربا، إنما حرم الفضل فيه، وهو الفضل فيما يحرم فيه الفضل، والنساء فيما يحرم بيع بعضه ببعض نسيئة مثلاً، والله أعلم.(4/110)
وإن كانت فاسدة، كالنكاح بغير ولي، ونحو ذلك، فالغالب أن الفقهاء يعبرون عن مثل هذا بالفاسد، لكون التعبير جارياً على القوانين، والذي يعبر منهم بالفاسد يقال باطل؛ فتدبر، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: ما الفرق بين الباطل والفاسد عند الأصوليين ... إلخ؟
فأجاب: هما مترادفان عند الأصوليين، والفقهاء من الحنابلة والشافعية. وقال أبو حنيفة: إنهما متباينان؛ فالباطل عنده: ما لم يشرع بالكلية، كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد: ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا. وعند الجمهور: كل ما كان منهياً عنه، إما لعينه أو وصفه، ففاسد وباطل؛ لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التفرقة بين ما أجمع على بطلانه، وما لم يجمع عليه، فعبروا عن الأول بالباطل، وعن الثاني بالفاسد، ليتميز هذا من هذا، لكون الثاني تترتب عليه أحكام الصحيح غالباً، أو أنهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التعبير، لأن من عادة الفقهاء من أهل المذاهب مراعاة الخروج من الخلاف؛ وبعضهم يعبر بالباطل عن المختلف فيه، مراعياً للأصل، ولعل من فرق بينهما في التعبير، لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلاً، فلا اختلاف، ومثل ذلك: خلافهم في الفرض والواجب.(4/111)
قال في القواعد الأصولية: إنهما مترادفان شرعاً في أصح الروايتين عن أحمد؛ اختارها جماعة منهم ابن عقيل، وقاله الشافعية. وعن أحمد: الفرض آكد؛ اختارها جماعة، وقاله الحنفية. فعلى هذه الرواية، الفرض: ما ثبت بدليل مقطوع به، وذكره ابن عقيل عن أحمد، وقيل: ما لا يسقط في عمد ولا سهو. وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية: أن الفرض ما لزم بالقرآن، والواجب ما كان بالسنة؛ وفائدة الخلاف: أنه يثاب على أحدهما أكثر، وأن طريق أحدهما مقطوع به والآخر مظنون؛ ذكره القاضي وذكرهما ابن عقيل على الأول، وقال غير واحد: والنّزاع لفظي. وعلى هذا الخلاف: ذكر الأصحاب مسائل فرقوا فيها بين الفرض والواجب.
تعارض الأصل والظاهر
مسألة: في تعارض الأصل والظاهر.
قال ابن رجب، رحمه الله، في قواعده: إذا تعارض معنا أصلان، عملنا بالأرجح منهما لاعتضاده بما يرجحه؛ فإن استويا خرج في المسألة وجهان غالباً. وإذا تعارض الأصل والظاهر، فإن كان الظاهر حجة يجب قبولها شرعاً، كالشهادة والرواية أو الأخبار، فهو مقدم على الأصل بغير خلاف، وإن لم يكن كذلك، بل كان مستنده العرف والعادة الغالبة والقرائن، أو غلبة الظن ونحو ذلك، فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت إلى هذا الظاهر، وتارة يعمل بالظاهر ولا يلتفت إلى الأصل، وتارة يخرج في المسألة(4/112)
خلاف؛ فهذه أربعة أقسام.
ومن صور الأول: إخبار الثقة العدل بالكلب ولغ في هذا الإناء. ومن صور الثاني: إذا تيقن الطهارة أو النجاسة في ماء، أو ثوب، أو أرض، أو بدن، وشك في زوالها، وكذلك في النكاح والطلاق، فإنه يبنى على الأصل، إلا أن يتبين زواله. ومن صور الثالث: النوم المستثقل ينقض الوضوء، لأنه مظنة خروج الحدث، وإن كان الأصل عدم الخروج وبقاء الطهارة. والرابع يكون غالباً عند تقاوم الظاهر والأصل وتساويهما؛ فمن صوره: لو أدخل الكلب رأسه في إناء فيه ماء، وشك هل ولغ فيه أو لا، وكان فمه رطباً، فهل يحكم بنجاسة الماء لأن الظاهر ولوغه؟ أم بطهارته لأنها الأصل؟ على وجهين. انتهى ملخصاً، وفيه نوع تصرف من خط الشيخ عبد الرحمن بن حسن، نقله عنه الشيخ حمد بن عتيق.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: وأما القياس إذا صح، فهو أحد أدلة الأصول الخمسة، التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب؛ فكل واحد من هذه الخمسة دليل مستقل بنفسه، إلا أنه وقع من بعض الأصوليين خلاف في الاستصحاب. وقال ابن عبد الهادي: ذكره المحققون إجماعاً، فالتحق بالأصول(4/113)
الأربعة. وقد عرف القياس اصطلاحاً بأنه: حمل فرع على أصل في حكم، بجامع بينهما؛ قال ابن عبد الهادي: وأركانه أربعة: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع. انتهى. قال أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: لا تناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة. انتهى.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: القواعد جمع قاعدة، وهي: حكم كلي ينطبق على جزئيات لتعرف أحكامها 1. الواجب: ما يستحق الثواب بفعله، والعقاب بتركه. والحرام بالعكس، أي: ما يستحق العقاب بفعله، والثواب بتركه. والمندوب: ما يستحق الثواب بفعله، ولا عقاب بتركه. والمكروه بالعكس، أي: ما يستحق الثواب بتركه، ولا عقاب في فعله. والمباح: ما لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه. والفرض، والواجب: مترادفان، خلافاً للحنفية.
وينقسم الواجب إلى: فرض عين، وفرض كفاية، وإلى معين ومخير، وإلى مطلق وموقت، والموقت إلى مضيق
__________
1 كذا بالأصل, ولعله سقط منه الفاء في قوله الواجب, وفي المصباح: القاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط, وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته.(4/114)
وموسع. والمندوب والمستحب مترادفان. والمسنون أخص منهما. والجائز يطلق على: المباح وعلى الممكن، وعلى ما يستوي فعله وتركه عقلًا، وعلى المشكوك فيه. والرخصة: ما شرع لعذر مع بقاء مقتضى التحريم; والعزيمة بخلافها. والاعتقاد: هو الجزم بالشيء من دون سكون النفس؛ فإن طابق فصحيح كاعتقاد أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، والفاسد عكسه، لأنه اعتقاد الشيء على غير ما هو عليه. وقد يطلق الجهل على عدم العلم. والدليل: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير، وهو المدلول؛ وأما ما يحصل عنده الظن فهو ما قد يسمى دليلاً توسعاً.
والأصل: ما يبنى عليه غيره، والفرع عكسه. والفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد. والمسنون: ما لازمه النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر به، مع بيان كونه غير واجب؛ وقد تطلق السنة على الواجب، نحو: عشر من السنة. والمجاز: هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب لعلاقة مع قرينة، وهو نوعان: مرسل، كاليد للنعمة، والعين للرؤية، واستعارة كالأسد للرجل الشجاع؛ وقد يكون مركباً، كما يقال للمتردد في أمر: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ وقد يقع في الإسناد، مثل جد جده، ولاستيفاء الكلام في إبدالك من آخر.(4/115)
والحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب. والتأويل: صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو قصره على بعض مدلولاته لقرينة اقتضتها؛ وقد يكون قريباً، فيكفي فيه أدنى مرجح، وبعيداً فيحتاج إلى الأقوى، ومتعسفاً فلا يقبل. والاجتهاد: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي. والفقيه: من يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها، وأماراتها التفصيلية؛ وإنما يتمكن من ذلك من حصل ما يحتاج إليه فنه من علوم الغريب، والأصول، والكتاب والسنة، ومسائل الإجماع. والتقليد: هو اتباع قول الغير من دون حجة ولا شبهة؛ ولا يجوز التقليد في الأصول ولا في العلميات، ويجب في العملية المحضة الظنية، والقطعية على غير المجتهد، ولا يجوز له تقليد غيره مع تمكنه من الاجتهاد، ولو أعلم منه ولو صحابياً، ولا فيما يخصه، ويحرم بعد أن اجتهد اتفاقاً.
[الرخصة والعزيمة]
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: عن قول الفقهاء في الرخصة: إنها ما ثبت على خلاف دليل شرعي، لمعارض راجح، وضدها العزيمة؟
فأجاب: اعلم أن العزيمة شرعاً: حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح؛ فقوله بدليل شرعي: احتراز عما ثبت بدليل عقلي، وقوله: خال عن معارض، احتراز عما ثبت بدليل شرعي، لكن لذلك الدليل معارض مساو، أو(4/116)
راجح، لأنه إن كان المعارض مساوياً لزم الوقوف، وانتفت العزيمة، ووجب طلب المرجح الخارجي، وإن كان راجحاً لزم العمل بمقتضاه وانتفت العزيمة، وثبتت الرخصة، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة؛ فالتحريم فيها عزيمة، لأنه حكم ثبت بدليل شرعي خال عن معارض; فإذا وجدت المخمصة حصل المعارض لدليل التحريم، وهو راجح عليه حفظاً للنفس؛ فجاز الأكل وحصلت الرخصة.
وأما الرخصة: فهي ما ثبت على خلاف دليل شرعي، لمعارض راجح، فقوله: ما ثبت على خلاف دليل شرعي احتراز عما ثبت على وفق الدليل، فإنه لا يكون رخصة بل عزيمة، كالصوم في الحضر، وقوله: لمعارض راجح، احتراز عما كان لمعارض غير راجح، بل إما مساوياً فيلزم الوقوف على حصول المرجح، أو قاصراً عن مساواة الدليل الشرعي، فلا يؤثر وتبقى العزيمة بحالها. وعلى التعريف المذكور، يدخل في العزيمة الأحكام الخمسة الثابتة بالأدلة الشرعية، ويدخل في الرخصة ما عارض تلك الأحكام وخالفها لمعارض راجح عليها، كأكل الميتة عند المخمصة.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وأما الحديث إذا ذكره بعض المقبولين، ونسبه إلى الصحاح أو المسانيد، فقد ذكر أنه يجوز العمل به، ولو لم يوقف على الأصل، وأظن بعضهم حكى الإجماع على جواز العمل به.(4/117)
المسند، والمرسل، أيهما أقوى؟
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن المسند والمرسل، أيهما أقوى؟
فأجاب: المسند أقوى من المرسل، وذلك أن المسند: ما اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان السند كلهم ثقات، وليس فيهم شذوذ، فأجمع العلماء على الاحتجاج به إذا لم يعارضه مثله، أو أقوى منه. وأما المرسل: فهو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقول محمد بن شهاب الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عطاء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسقط رجل بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثير من أهل العلم لا يحتج بالمرسل إلا إذا اتصل وأسند من وجه صحيح. فإذا كان كذلك، تبين لك: أن المسند أقوى وأصح من المرسل بكثير. وقولك: ما معناهما؟ فيتبين لك ذلك من جواب المسألة قبلها. ومن أصح المراسيل عندهم، مراسيل سعيد بن المسيب القرشي المدني عالم المدينة؛ وقيل: إنه أعلم التابعين وأفضلهم.
إذا جاء خبران عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما يدل على الأمر،
والآخر يدل على النهي، أيهما أرجح؟
وسئل: إذا جاء خبران عن النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما يدل على الأمر، والآخر يدل على النهي، أيهما أرجح؟
فأجاب: الراجح ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدول الثقات الضابطين؛ فإن قدر اتحادهما في الصحة، فإن أمكن معرفة الآخر منهما أخذ بالآخر لأنه هو الناسخ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله؛ فإن لم(4/118)
يمكن معرفة ذلك، وأمكن الجمع بينهما فذاك؛ فإن لم يكن ذلك أخذ بالأحوط، والذي عليه الأكثرون من العلماء والفقهاء.
الغريب والمتصل
وسئل الشيخ أحمد بن ناصر: عن الغريب والمتصل؟
فأجاب: الغريب: الذي ليس له إلا سند واحد، كما يقول الترمذي في بعض الأحاديث: هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ وقد يكون صحيحاً إذا كان رواته موثقين، وقد يكون ضعيفاً؛ فعلى كل تقدير هو ضعف في الحديث. والمتصل: هو ما اتصل سنده إلى منتهاه، سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً؛ فيخرج المرسل، والمنقطع، والمعضل.
الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الفرق بين المرفوع والمسند والمتصل؟
فأجاب: اعلم أن المرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو حكماً؛ واشترط الخطيب البغدادي: كون المضيف صحابياً، والجمهور على خلافه. والمسند: هو المرفوع، فهو مرادف له؛ وقد يكون متصلاً، كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منقطعاً، كمالك عن الزهري، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الزهري لم يسمع من ابن عباس، فهو مسند منقطع؛ وقد صرح ابن عبد البر بترادفهما؛ والانقطاع يدخل عليهما جميعاً.(4/119)
وقيل: إن المسند: ما وصل إسناده إلى الصحابي ولو موقوفاً عليه؛ فالمسند والمتصل سواء، إذ هذا بعينه هو تعريف المتصل، فعلى هذا يفارق المرفوع بقولنا: ولو موقوفاً، فبينه وبين المرفوع على هذا القول عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيما اتصل سنده ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينفرد المرفوع في المنقطع المرفوع، وينفرد المسند في الموقوف؛ والأكثر على التعريف الأول؛ والعموم والخصوص الوجهي كذلك يجري أيضاً بين المتصل والمرفوع، كما يعرف مما تقدم. وأما قولك: أيهما أصح؟ فاعلم: أن الصحة غير راجعة لهذه الأوصاف باعتبار حقيقتها؛ وإنما الصحة والحسن والضعف أوصاف تدخل على كل من المرفوع والمسند والمتصل، فمتى وجدت، حكم بمقتضاها لموصوفها، لكن المرفوع أولى من المتصل إذا لم يرفع، ومن المسند على القول الثاني إذا لم يرفع أيضاً، لا من حيث الصحة، بل من حيث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما الصحة فقد ينفرد بها بعض هذه الأقسام لا من حيث ذاته، والمرفوع إذا لم يبلغ درجة الصحة احتج به في الشواهد والمتابعات كما عليه جمع، والله أعلم وصلى الله على محمد.
أصح الأسانيد
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: اختلف العلماء في أصح الأسانيد: فقال الإمام(4/120)
محمد بن إسماعيل البخاري أصح الأسانيد: مالك عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهم. القول الثاني: قول الإمام أحمد، رحمه الله: أصحها: الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، رضي الله عنهما. الثالث: قول عبد الرزاق بن همام اليماني: أصحها: ما رواه زين العابدين علي بن الحسين عن أبيه حسين عن علي، رضي الله عنهم. الرابع: قول عمرو بن علي الفلاس: أصحها: ما رواه محمد بن سيرين البصري عن عبيدة السلماني الكوفي عن علي رضي الله عنه. الخامس: قول يحيى بن معين: أصحها: ما رواه سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن وقاص عن ابن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين. قال زكريا الأنصاري في شرح ألفية العراقي: والصواب: عدم التعميم مطلقاً، بل يقال: أصح أسانيد ابن عمر: الزهري عن سالم عن أبيه، وأصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر، رضي الله عنهم أجمعين، وأصح أسانيد المدنيين: مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح أسانيد المصريين: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر، رضي الله عنهم، وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، رضي الله عنهم. قال: وأوهى أسانيد أبي هريرة: السري بن إسماعيل(4/121)
عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبي هريرة، وأوهى أسانيد ابن مسعود: شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأوهى أسانيد أنس: داود بن المحبر عن أبيه عن أبان بن عياش عن أنس رضي الله عنه.
الفرق بين: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن الفرق بين حَدَّثَنا وأخبرنا وأنبأنا؟
فأجاب: بينهما فرق اصطلاحي عند المحدثين: فإذا قال المحدث: حدثنا، حمل على السماع من الشيخ، وإذا قال أخبرنا حمل على سماع الشيخ؛ فلفظ الإخبار أعم من التحديث، فكل تحديث إخبار ولا ينعكس، قاله ابن دقيق العيد. وأنبأنا من حيث اللغة واصطلاح المتقدمين بمعنى: أخبرنا، إلا في عرف المتأخرين، فهو للإجازة كعنه، فلما كثر واشتهر استغنى المتأخرون عن ذكره؛ قاله خاتمة المحدثين ابن حجر العسقلاني، والله أعلم.
قول من يقول من المصنفين: رواه الجماعة أو الخمسة ... إلخ
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول مَن يقول من المصنِّفين: رواه الجماعة أو الخمسة ... إلخ؟
فأجاب: المراد بالخمسة: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. والجماعة: هؤلاء الخمسة المذكورون مع البخاري ومسلم؛ هذا اصطلاح صاحب المنتقى. وإذا قالوا في الحديث مرفوعا،: فالمراد: أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، وضده الموقوف: وهو قول الصحابي(4/122)
نفسه. والحديث الغريب: الذي ما يروى إلا من طريق واحد. وإذا قالوا فيه: ليِّن، فهو ضد القوي. وإذا قالوا: على شرط الشيخين، فالمراد بالشيخين البخاري ومسلم، وشرطهما معروف. وإذا قالوا: على شرطهما، أو شرط البخاري، أو مسلم، فالمراد: أن رجال هذا السند يروي لهم البخاري، أو مسلم. وأما أصحاب الرأي، فهم عند المتقدمين: فقهاء الكوفة، كأبي حنيفة وأصحابه، سموا أصحاب الرأي لأنهم توسعوا في القياس، والسلف يسمون القياس رأياً؛ وجميع الأئمة يعتمدون القياس، لكن أهل الكوفة توسعوا فيه، فخصوا بهذا الاسم.
ومن جواب الشيخ سليمان بن علي بن مشرف، قال: وأما أصحاب الرأي فهم خمسة: أبو حنيفة، وزفر، ومحمد بن الحسن، وعثمان البتي، وربيعة؛ وسبب تسميتهم بذلك لأنهم إذا لم يجدوا في المسألة نصاً قاسوها، فإذا أجمعوا عليها بما يرون أثبتوها. انتهى.
هل ينسخ القرآن بعضه بعضاً
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: هل ينسخ القرآن بعضه بعضاً؟ وهل ينسخ السنة، والسنة تنسخه؟
فأجاب: الذي عليه أئمة أهل العلم أن القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وفيه آيات معروفة منسوخة، والآية التي نسختها معروفة؛ يعرف ذلك من طلبه من مظانه. وكذلك القرآن ينسخ(4/123)
السنة. وأما نسخ القرآن بالسنة، فالذي عليه المحققون من العلماء، أن السنة لا تنسخ القرآن، لكن السنة تفسر القرآن، وتبينه، وتفصل مجمله، لأن الله امتن على أزواج نبيه بالكتاب والحكمة، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [سورة الأحزاب آية: 34] ؛ قال كثير من العلماء: كان جبرائيل ينْزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينْزل عليه بالقرآن، ولا يسمون ذلك نسخاً، بل تفسيراً له وتوضيحاً وتشريعاً للأمة، لأن الله ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم جمع القرآن في صدره وبيان معناه، كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة آية: 17-19] .
الرواية بالمعنى للكتاب والسنة
وسئل: هل تجوز الرواية بالمعنى للكتاب والسنة؟
فأجاب: أما قراءة القرآن بالمعنى، فما علمت أحداً يجوز ذلك، وكيف يجوز تغيير كلام الله، وتغيير نظمه الذي أعجز الله به جميع الخلق، وجعله آية ودلالة باهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ هذا لا يقوله أحد. وأما رواية الحديث بالمعنى، فهذا مما اختلف فيه العلماء؛ فأجازه طائفة، ومنعه كثيرون من أهل الحديث، والفقهاء وغيرهم.
[معنى الاشتقاق وما يراد به عند المحققين]
قال الشيخ: عبد اللطيف، رحمه الله تعالى، في أثناء جواب له: فأما مسألة الاشتقاق فينبغي أولاً أن يسأل هذا: ما معنى(4/124)
الاشتقاق؟ وما يراد به عند المحققين؟ وإن زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا لا يرتضى عند المحققين من أئمة الهدى. فإن عرف ذلك، وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه، فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو، هل هو مشتق من السمو، أو من السمة؟ ذهب البصريون إلى الأول، والكوفيون إلى الثاني. وأصله عند البصريين: سمو على وزن فعل، فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفاً، ثم أتي بهمزة الوصل توصلاً بالنطق بالساكن، فصار اسماً. وعليه، فوزنه افع، ففيه إعلالات ثلاثة وهي: الحذف، ثم الإسكان، ثم الإتيان بهمزة الوصل. وأما على مذهب الكوفيين، فأصله: وسم على وزن فعل، حذفت فاء الكلمة وهي الواو اعتباطاً، ثم عوض عنها همزة الوصل. وعلى هذا، فوزنه اعل. ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير، وعن معنى الاشتقاق الأكبر، مع المباينة في أكثر الحروف ما معناه؟ فإذا أجابك عن هذا، فأجبه عن سؤاله، وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل.(4/125)
ثم قال، رحمه الله: وأما ما فيه من جهة اللسان العربي، فإن "هل" لا تقابل بـ"أم" لأن ما يقابل بـ"أم" همزة الاستفهام، كما يعلم من محله. وأما قوله: لا تثبت من الرسول، فإن الإثبات يتعدى بـ"عن" لا بـ"من". وكذلك قوله: ولا ممن يعتبر بهم، فإن الاعتبار نوع، والاعتداد نوع آخر، فيعتد بالصالحين وأهل العلم، والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر فعل بني النضير بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] .
[الترشيح والإطلاق والتجريد، ما يراد به عند أهل الفن]
وأما قول السائل: سؤال عن الترشيح والإطلاق أيهما أبلغ؟ وكذلك الإطلاق والتجريد، فينبغي ان يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد، ما يراد به عند أهل الفن؟ فإن عبارته تفيد عدم معرفته، إذ لا مقابلة بين الترشيح، والإطلاق، والتجريد، في الأبلغية؛ فسؤاله نص ظاهر في جهله. فإن الترشيح يراد به: تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به، بأن يذكر ما هو من خواص المشبه به، كقوله: انشبت المنية أظفارها؛ فإن هذا فيه ذكر التقوية بما هو من خواص المشبه به، وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد. وأما الإطلاق في الاستعارة، فيقابله التقييد. والتجريد معناه: أن يتجرد المتكلم من نفسه مخاطباً، كقول الشاعر:(4/126)
يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان بادِ
والبلاغة تختلف باختلاف الأحوال، فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم؛ وحقيقتها: مطابقة الكلام مقتضى الحال، فإن كان الحال يقتضي الترشيح فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال. وأما الإخبار عن الاسم بـ"الذي"، فهو كثير في القرآن وغيره، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فأخبر بـ"الذي" عن اسمه الشريف الذي هو أعرف المعارف، و"الذي" اسم أيضاً، بخلاف ما يفيده السؤال. وأما الإخبار عن الاسم بـ"أل" فكقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الّترضى حكومته ... ....................................
وكذا كل فعل مضارع دخلت عليه "أل". وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بـ"الذين"، فكقوله تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 172] . وأما الإخبار بـ"الذين"، فكقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} [سورة فصلت آية: 29] ، وقال: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [سورة النساء آية: 16] . وأما الكل، والكلي، فالكل يراد به الجميع، كقوله: "كل المؤمنين يدخلون الجنة"، والكلي ما يقع على الأكثر والغالب، كقولك: "كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة".(4/127)
[أما بالتخفيف تأتي على وجهين]
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، عن "أما" بالتخفيف؟ فأجاب: "أما" بالتخفيف تأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف تنبيه، كما في قوله: "أما إني لم أكن في صلاة". ويكثر ذلك قبل القسم كما في قوله:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمرُ
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعرُ
وقال الآخر:
أما والذي حجت له العيس وارتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها
لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي ... على أم عمرو دولة لا أقيلها
وقال الآخر:
أما يستفيق القلب أن ما بدا له ... توهم صيف من سعاد ومربع
أخادع عن إطلالها العين أنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع
عهدت بها وحشاً عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع
وهذا إذا قصد به تنبيه المخاطب لما بعدها، والإشارة إلى أن ما بعدها مما يهتم به ويلتفت إليه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لعنة الله على اليهود والنصارى " 1، " ألا هل بلغت؟ " 2، " ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب " 3، وكقول الشاعر:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ... ....................................
__________
1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (6/80, 6/146, 6/252, 6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .
2 البخاري: العلم (105) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وأحمد (5/37, 5/39, 5/49) .
3 البخاري: العلم (105) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) , وابن ماجة: المقدمة (233) , وأحمد (5/37, 5/39, 5/49) , والدارمي: المناسك (1916) .(4/128)
وكما في قوله:
ألا ليت حظي من عطاياك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانعُ
والثاني بمعنى: "حقاً" أو "أحق"، وزعم بعض الناس أنها تكون حرف عرض بمعنى "لولا"، فيختص بالفعل كما في قولك: أما يقوم، أما يقعد، ونحوه. و"أما" نحو: أما كان فيهم من يفهم؟ فالهمزة للاستفهام، وما: حرف نفي؛ وليست مما نحن فيه، فتنبه! وأما قولك: ما وجه نصب "عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته"؟ فاعلم: أن نصب هذه المصادر على أنها نعت لـ"سبحان"، لأنه اسم محذوف العامل وجوباً، لكونه بدلاً من اللفظ بفعل مهمل، كقول الشاعر:
ثم قالوا تحبها قلت بهراً ... عدد الرمل والحصى والترابِ
فبهرا هنا: اسم منصوب على المفعولية المطلقة، لكونه هنا بمعنى "عجباً" لكن فعله مهمل غير مستعمل، فلذلك حذف وجوباً. وعدد الرمل في البيت: نعت له، ويحتمل أن عدداً وما عطف عليه نصب على المفعولية المطلقة. والعامل يقدر "سبحته" أو "نزهته"، فهو كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [سورة النور آية: 4] ، لأن "سبحان": علم على معنى التنْزية والبراءة، أو على لفظه فلا يعمل في المفعول؛ ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى هذا التقدير، لأن الاسم قد يعمل لما فيه من رائحة الفعل، ويكون النصب لسبحان، ويقويه قول ابن مالك:(4/129)
بمثله أو فعل أو وصف نصبْ ... وكونه أصلاً لهذين انتخبْ
وأما "زنة" فمعناها الموازنة والثقل، بخلاف "ما" إذا كان من بعده الفعل مستعملاً، كقوله:
أذلاّ إذا شب العدى نار حربهم ... وزهواً إذا ما يجنحون إلى السلمِ
وقول الآخر:
خمولاً وإهمالاً وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجدِ
استعمال الماضي موضع المضارع
وسئل أيضاً: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن استعمال الماضي موضع المضارع؟
فأجاب: مسألة استعمال الماضي موضع المضارع لهم فيها وجهان: أحدهما: أن في استعمال الصيغة الماضية بدل المضارعية تنبيهاً وإشارة إلى تحقيق النفي في الحال والاستقبال، كتحقيق مضي الماضي من الأفعال والأحوال، وذلك باستعارة ما وضع للماضي لما قصد به الحال والاستقبال، تقوية وتأكيداً لمضمون الجملة المنفية؛ وذلك شائع في لسانهم، وفي التنْزيل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [سورة النحل آية: 1] ، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} ، والمعنى: يأتي، ويقول. ومنه استعمال المضارع بدل الماضي، إشارة إلى التجدد والاستمرار شيئاً فشيئاً، فقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] ، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [سورة الحجر آية: 97] ، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ(4/130)
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 18] ، والمعنى: قد علمنا، ومنه قول الأعشى:
وأرى من عصاك أصبح محرو ... باً وكعب الذي يطيعك عالِ
ولقد أسبي الفتاة فتعصي ... وكل واش يريد جزم حبالِ
يريد: رأيت وسبيت. والوجه الثاني: أن الكلمة إن دلت على معنى في نفسها، واقترنت بزمان ففعل، فإن كان الزمان الذي دلت عليه ماضياً فالفعل ماض، وإن كان للحال والاستقبال فالفعل مضارع، وإن كان مستقبلاً فقط فالفعل أمر، كما هو مقرر في موضعه؛ فلو عبر بالمضارع وقال: لا ألبس، مثلاً، لاحتمل أنه قصد النفي في الحال فقط، أو فيما يستقبل فقط، لأن ذلك جرى في لسانهم، ومنه {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [سورة التوبة آية: 92] ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [سورة الأنبياء آية: 47] ، واحتمل وقوع استثناء يعقبه، فلما عبر بالماضي زال الاحتمال، وانقطع التوقع، وقصد المعنى الأصلي، وهو النفي في الماضي، لئلا يتوهم النفي في الحال والاستقبال؛ تقول: لا لبست، لا ضربت، لا ظلمت، قاصداً الحال والاستقبال، بخلاف: ما ضربت، ما لبست، فإنها للنفي في الماضي. وقولك: ما معنى النفي في قولهم: لا قتلت الميت؟ فالذي في الحلف بالطلاق وتعلقه بالمستحيل: "لأقتلن" بلام التوكيد الموطئة للقسم، والفعل بعدها مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، ولا نفي فيها؛ فتنبه!(4/131)
باب الطهارة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطهارة أحكام المياه
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، بعد ذكره القواعد التي تدور الأحكام عليها مثلاً يحتذى عليه - وقد تقدمت - 1: باب المياه. فنقول: قال بعض أهل العلم: الماء كله طهور إلا ما تغير بنجاسة أو خرج عنه اسم الماء، كماء ورد أو باقلا ونحوه. وقال آخرون: الماء ثلاثة أنواع: طهور، وطاهر، ونجس؛ والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم " 2؛ فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه. ودليله من النظر: أنه لو وكله في شراء ماء، فاشترى ماء مستعملاً، أو متغيراً بطاهر، لم يلزمه قبوله؛ فدل على أنه لا يدخل في الماء المطلق.
قال الأولون: النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يغتسل الرجل في الماء الدائم " 3، وإن عصى وفعل فالقول في نجاسة الماء لا تعرض لها في الحديث بنفي ولا إثبات، وعدم قبول الموكل لا يدل؛ فلو اشترى له ماء من ماء البحر لم يلزمه قبوله، ولو اشترى له ماء متقذراً طهوراً لم يلزمه قبوله؛ فانتقض ما قلتموه. فإن
__________
1 أي: هذه القواعد, في صفحة: 5, 6, 7 مع الإشارة إلى التمثيل بهذا الباب.
2 مسلم: الطهارة (283) , والنسائي: الطهارة (220) والغسل والتيمم (396) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) .
3 مسلم: الطهارة (283) , والنسائي: الطهارة (220) والغسل والتيمم (396) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) .(4/135)
كنتم معترفين أن هذه الأدلة لا تفيدكم إلا الظن، وقد ثبت أن"الظن أكذب الحديث "، فقد وقعتم في المحرم يقيناً أصبتم أم أخطأتم، لأنكم أتيتم بظن مجرد، فإن قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] كلام عام من جوامع الكلم، فإن دخل فيه هذا خالفتم النص، وإن لم يدخل فيه وسكت عنه الشارع لم يحل الكلام فيه، وعصيتم قوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 101] ؛ وكذلك إذا حرفتم هذا اللفظ العام الجامع، مع قوله صلى الله عليه وسلم: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، وتركتم هذه الألفاظ الواضحة العامة، وزعمتم أن الماء ثلاثة أنواع بالأدلة التي ذكرتموها، وقعتم في طريق أهل الزيغ، في ترك المحكم واتباع المتشابه. فإن قلتم: لم يتبين لنا أنه طهور، وخفنا أن النهي يؤثر فيه، قلنا: قد جعل الله لنا منه مندوحة، وهو الوقف، وقول: لا ندري، وألحق بمسألة المتشابهات؛ وأما الجزم بأن الشرع جعل هذا طاهراً غير مطهر، فقد وقعتم في القول بلا علم، والبحث عن المسكوت عنه، واتباع المتشابه، وتركتم قوله: "وبينهما مشتبهات ".
المسألة الثانية: قولهم: إن الماء الكثير ينجسه البول والعذرة لنهيه عليه السلام عن البول فيه، فيقال لهم: الذي ذكر النهي عن البول إذا كان راكداً، وأما نجاسة الماء وطهارته فلم يتعرض لها، وتلك مسألة أخرى يستدل عليها بدليل آخر،
__________
1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .(4/136)
وهو قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] ، وهذا ماء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بئر بضاعة، وهي يلقى فيها الحيض وعذرة الناس: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1؛ فمن ترك هذا المحكم، وقع في القول بلا علم واتبع المتشابه، لأنه لا يجزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد نجاسة الماء لما نهى عن البول فيه، وإنما غاية ما عنده الظن؛ فإن قدرنا أن هذا لا يدخل في العموم الذي ذكرنا، وتكلم فيه بالقياس، فقد خالف قوله: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} [سورة المائدة آية: 101] ؛ وإن تعلل بقوله: لم يبن لي دخوله في العموم، وأخاف لأجل النهي عن نجاسته، قيل لك مندوحة عن القول بلا علم، وهو إلحاقه بالمتشابهات، ولا تزعم أن الله شرع نجاسته وحرم شربه.
ومن ذلك: فضلة المرأة، زعم بعضهم أنه لا يرفع الحدث، وولدوا عليه من المسائل ما يشغل الإنسان، ويعذب الحيوان. وقال كثير من أهل العلم، أو أكثرهم: إنه مطهر رافع للحدث. فإن لم يصح الحديث فلا كلام، كما يقوله البخاري وغيره؛ وإن قلنا بصحة الحديث، فنقول: في صحيح مسلم حديث أصح منه أن النبي صلى الله عليه وسلم " توضأ واغتسل بفضل ميمونة " 2؛ وهذا داخل في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] قطعاً، وداخل في قوله: " طهور لا ينجسه شيء " 3، وإنما نهي الرجل عن استعمال الماء نهي تنْزيه وتأديب إذا قدر على غيره، للأدلة القاطعة التي ذكرنا. فإذا قال من منع من استعماله: أخاف أن النهي إذا سلمتم صحته يفسد الوضوء، قلنا: إذا خفت
__________
1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .
2 مسلم: الحيض (323) , وأحمد (1/366) .
3 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .(4/137)
ذلك فألحقه بالمتشابهات، ولا تقل على الله بلا علم، ولا تولد مسائل كثيرة سكت الشارع عنها في صفة الخلوة وغيرها.
ومن ذلك: الماء الذي دون القلتين، إذا وقعت فيه نجاسة، فكثير من أهل العلم أو أكثرهم على أنه طهور، داخل في تلك القاعدة الجامعة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [سورة النساء آية: 43] ؛ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء إذا وقعت فيه نجاسة؟ فقال: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، لكن حمله الآخرون على الكثير، لقوله: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " 2؛ قال الأولون: إن سلكنا في الحديث مسلك من قدح فيه من أهل الحديث فلا كلام، ولكن نتكلم فيه على تقدير ثبوته، ونحن نقول بثبوته، لكن لا يدل على ما قلتموه، ومن زعم أن القليل ينجس فقد قال ما لا يعلم قطعاً، لأن اللفظ صرح أنه إن كثر لا يحمل الخبث، ولم يتكلم فيما دون، فيحتمل أنه ينجس على ما ذكرتم، ويحتمل أنه أراد إن كان دونهما فقد يحمل وقد لا يحمل؛ فإذا لم تقطع على مراده بالتحديد، فقد حرم الله القول عليه بلا علم، وإن زعمتم أن أدلتنا لا تشمل هذا فهو باطل، فإنها عامة، وعلى تقدير ذلك يكون من المسكوت عنه، الذي نهينا عن البحث عنه.
فلو أنكم قلتم كمن قال من كرهه من العلماء: أكرهه ولا أستحبه مع وجود غيره، ونحو هذه العبارة التي يقولها من شك في نجاسته، ولم يجزم بأن حكم الشرع نجاسة هذا
__________
1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .
2 الترمذي: الطهارة (67) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (517) , والدارمي: الطهارة (731) .(4/138)
الماء، كنتم قد أصبتم وعملتم بقول نبيكم صلى الله عليه وسلم، سواء كان في نفس الأمر طاهراً أم لا؛ فإن من شك في شيء وتورع عنه، فقد أصاب، ولو تبين بعد ذلك أنه حلال.
وعلى كل حال: فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله ليبين للناس ما نزل إليهم، أراد أن يشرع لأمته أن كل ماء دون القلتين بقلال هجر، إذا لاقى شيئاً نجساً أنه يتنجس، ويصير شربه حراماً، ولا يقبل صلاة من توضأ به، ولا من باشره شيء منه، حتى يغسله، ولم يبين ذلك لهم حتى أتاه أعرابي يسأل عن الماء بالفلاة ترده السباع التي تأكل الميتات، ويسيل فيه من ريقها ولعابها، فأجابه بقوله: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " 1، أراد بهذا اللفط أن يبين لأمته، أنه إذا بلغ خمسمائة رطل بالعراقي لا ينجس إلا بالتغير، وما نقص نجس بالملاقاة، وصار كما وصفنا، فمن زعم ذلك فقد أبعد النجعة، وقال ما لا يعلم، وتكلم فيما سكت عنه، واتبع المتشابه، وجعل المتشابه من الحرام البين.
ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحب ويرضى، ويعلمنا الكتاب والحكمة، ويرينا الحق حقاً ويوفقنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويوفقنا لاجتنابه، ولا يجعله علينا ملتبساً فنضل؛ وهذه القواعد في جميع أنواع العلوم الدينية عامة، وفي علم الفقه من كتاب الطهارة إلى باب الإقرار خاصة.
__________
1 الترمذي: الطهارة (67) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (517) , والدارمي: الطهارة (731) .(4/139)
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: عما إذا كان الماء دون القلتين، ووقعت فيه نجاسة، هل ينجس بمجرد وقوع النجاسة؟ أو بالتغير؟
فأجاب: إذا لم يتغير الماء بالنجاسة لم ينجس، سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ وهو قول مالك وأهل المدينة، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه. وفي المسألة نحو خمسة أقوال، وهذا هو الذي نختار؛ والدليل عليه: ما رواه الترمذي وغيره عن أبي سعيد، فقال: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل: له أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، صححه الإمام أحمد، رحمه الله تعالى. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 2، وعن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه ولونه وطعمه " 3، رواه ابن ماجة، وضعفه أبو حاتم؛ وللبيهقي: "الماء طهور، إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه ".
وسئل: عن الماء الذي يجوز الطهارة به ويرفع الحدث؟
فأجاب: هو كل ماء طاهر باق على ما خلقه الله عليه ولم يتغير، فإن تغير بالنجاسة طعمه أو لونه أو ريحه لم تجز الطهارة به.
__________
1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .
2 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .
3 ابن ماجة: الطهارة وسننها (521) .(4/140)
وسئل أيضاً: عن ماء راكد فوق القلتين، بال فيه إنسان وحان وقت الصلاة واضطر إليه، هل يتوضأ منه؟
فأجاب: إذا بال الإنسان في ماء راكد، وحان وقت الصلاة، إذا اضطر إليه ولم يجد غيره وهو فوق القلتين ولم تغيره رائحة النجاسة، فالظاهر أنه يتوضأ منه ويرتفع به حدثه.
وسئل: إذا تردت بهيمة في بئر، وتغيرت رائحة الماء، هل يجوز استعماله؟
فأجاب: متى علم بتغير رائحة الماء، لم يجز له استعماله ولا تباح به الصلاة.
وسئل: عمن حضرته الصلاة، ولم يجد إلا ماء زمزم، فهل يجوز له استعماله ... إلخ؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف، والظاهر أنه يجوز له استعماله من غير كراهة؛ وأما إذا وجد غيره، ففيه ثلاث روايات: الأولى: لا يكره، والثانية: يكره، والثالثة: يكره الغسل دون الوضوء، اختارها الشيخ.
وسئل بعضهم: عن الماء المتنجس بالتغير وهو كثير، إذا حوض وترك حتى صفا، هل يطهر؟
فأجاب: الذي ذكر الفقهاء أن الماء المتنجس بالنجاسة، إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فإنه لا يطهر حتى يزول التغير بنَزحه، أو بمكاثرته بالماء، أو بزوال تغيره بنفسه(4/141)
إذا كان كثيراً؛ والكثير عند الحنابلة وغيرهم: ما كان قلتين فأكثر، وأما التراب: فالمشهور عندهم أنه لا يطهره، لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى؛ قال في الفروع: وقيل بلى، وأطلق في الإيضاح روايتين، وللشافعي قولان؛ فعلى هذا، إذا زال عنه أثر النجاسة بالكلية، ولم يبق فيه لون، ولا طعم، ولا ريح، فإنه يطهر لزوال النجاسة منه، كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلاً، وكذلك النجاسة إذا استحالت.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا بلغ الماء قلتين، ووقع فيه بول آدمي، أو عذرته؟
فأجاب: وأما ما بلغ قلتين فأكثر، إذا وقع فيه بول آدمي أو عذرته، فعند أكثر العلماء أنه لا فرق بين بول الآدمي وعذرته، وبين سائر النجاسات؛ وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وعن أحمد رواية أخرى: أن الماء ينجس ببول الآدمي وعذرته، إلا أن يكون مثل المصانع التي بطريق مكة ونحوها، لحديث أبي هريرة " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " 1. والجمهور يخصون هذا الحديث بحديث القلتين، ويقوي ذلك: أن بول الآدمي لا يزيد على بول الكلب، وهو لا ينجس القلتين؛ فيجمع بين الحديثين: بأن يحمل حديث أبي هريرة على ما دون القلتين، مع أن الحديث ليس فيه صراحة بأنه ينجس بالبول فيه؛ والقول بأن حكم بول الآدمي كغيره هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
__________
1 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282) , والنسائي: الطهارة (58) والغسل والتيمم (397) , وأبو داود: الطهارة (70) , وأحمد (2/316, 2/346, 2/362, 2/433) , والدارمي: الطهارة (730) .(4/142)
وأما الفرق بين الجاري وغيره، ففيه خلاف؛ والمشهور في المذهب أنه لا فرق بين الجاري وغيره، فينجس القليل إذا لاقته النجاسة وإن كان جارياً؛ وعن أحمد رواية أخرى: أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير، اختارها جماعة من الأصحاب، وهو مذهب أبي حنيفة. كما أن في أصل المسألة رواية مشهورة اختارها ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهما: أن الماء مطلقاً لا ينجس إلا بالتغير وفاقاً لمالك، وعلى القول بأنه لا فرق بين الجاري وغيره، إذا كان مجموع الجاري يبلغ قلتين لم ينجس إلا بالتغير على المذهب؛ وهذا أيضاً لو خالطه مستعمل كثير لم يؤثر، وإن كان مجموع الجاري لا يبلغ قلتين وخالطه مستعمل، لو قدرنا أن هذا المستعمل المخالط أحمر أو أصفر مثلاً، ولم يغير الطهور تغيراً كثيراً، لم يضره؛ وقد نص أحمد فيمن انتضح من وضوئه في إنائه لا بأس.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الماء إذا كان قدره أربعين صاعاً أو أكثر، ووجد فيه أثر كلب، هل يجوز الوضوء منه؟
فأجاب: يجوز الوضوء منه، لأن الصحيح من أقوال العلماء أن الماء لا ينجس إلا أن يتغير بالنجاسة؛ قال في الشرح: الرواية الثانية: لا ينجس الماء إلا بالتغير؛ روي عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس، ومالك وابن المنذر، وهو قول(4/143)
الشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بئر بضاعة: " الماء طهور لا ينجسه شيء " 1، رواه أبو داود والنسائي، والترمذي وحسنه، وصححه أحمد، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى.
وسئل: عن الماء القليل إذا خالطته نجاسة ولم تغيره؟
فأجاب: الذي يترجح عندنا طهارته، وأنه لا ينجس إلا بالتغير؛ لكن الاحتياط حسن، نفعله خروجاً من الخلاف.
وسئل: عن تغير الماء بزبل ما يؤكل لحمه؟
فأجاب: هو طاهر عند جمهور العلماء، كمالك وأحمد بن حنبل؛ وقد دل على ذلك الأدلة الشرعية الكثيرة، كما قد بسط القول في ذلك، وذكر فيه بضعة عشر حجة؛ وإن تيقن أن تغيره بنجاسة فإنه ينجس، وإن شك هل الروث روث ما يؤكل لحمه، أو ما لا يؤكل لحمه، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره.
وسئل أيضاً: عن ماء وردت عليه إبل وغنم وهو كثير، وتغير بأبوالها، هل يسلب ذلك طهوريته؟
فأجاب: الماء إذا خالطه بول أو روث طاهر فلا يضره، إذا كان باقياً على إطلاقه، وما تلقيه الريح والسيول يعفى عنه.
__________
1 الترمذي: الطهارة (66) , وأبو داود: الطهارة (66) .(4/144)
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الجثجاث أو غيره إذا وضع في اللزاء 1 أو غيره؟
فأجاب: لا بأس بالماء الذي يجعل فيه جثجاث، والذي يتغير، مثل ماء الألزية، من الظل الذي يجعل عليه إذا أصابه المطر.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله، عن البرك، هل يغتسل فيها ... إلخ؟
فأجاب: والبرك الذي فيها ماء ساكن، لا يغتسل فيها من الجنابة؛ والأحسن أن يأخذ الماء ويغتسل به خارجاً، أو يستنجي به؛ وأما غسل الأعضاء فلا بأس به.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: ينبغي التنبيه على أمر مهم عمت به البلوى ويتعين إنكاره، وهو الاستنجاء في البرك ونحوها، وفيه خطر عظيم لا سيما على الرواية المشهورة في مذهب أحمد، اختارها أكثر المتقدمين والمتوسطين، وهي: أن الماء ينحس بملاقاة بول الآدمي، وعذرته المائعة أو الجامدة إذا ذابت فيه، واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة " 2؛ والنهي يقتضي الفساد. وعلى كلا الروايتين هو كالبول، لأنه في معنى البول؛ وقد نص العلماء أنه مثل البول، كالحافظ العراقي في التقريب وغيره، فيتعين لذلك أن تعلنوا بالنهي على رؤوس الأشهاد في مجامع الناس،
__________
1 وهو: مصب ماء السواني.
2 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282) , والنسائي: الطهارة (220, 221) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) , وأحمد (2/433) , والدارمي: الطهارة (730) .(4/145)
لما فيه من خطر التنجيس، والوقوع في المنهي عنه من تقذير الماء.
وسئل: عن غمس يد القائم من نوم الليل، هل يسلب الماء الطهورية؟
فأجاب: اعلم أن أحمد نص في رواية أخرى على أن غمسهما في الماء القليل لا يسلبه الطهورية، واختاره من أصحابه الخرقي، والموفق، وأبو البركات ابن تيمية، وابن أبي عمر في شرح المقنع، وجزم به في الوجيز وفاقاً لأكثر الفقهاء، وقال في شرح مسلم: الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنْزيه، لا نهي تحريم؛ فلو خالف وغمس لم يفسد الماء، ولم يأثم الغامس؛ وأما الحديث فمحمول على التنْزيه.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى، عن قول شارح الزاد: غير تراب ونحوه، ما نحوه؟
فأجاب: اعلم أن نحو التراب هنا، ما كان من الأجزاء الأرضية، كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كل ما لا يدفع النجاسة عن نفسه، فإنه لو أضيف أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه، لكون المضاف لا يدفع عن نفسه، فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين.(4/146)
باب الاستنجاء
وسئل الشيخ عبد اللطيف عن قول شارح الزاد، نقلاً عن صاحب النظم: وتحرم القراءة في الحش وسطحه، وهو متوجه على حاجته؟
فأجاب: اعلم أن قوله: متوجه، من كلام صاحب الفروع، ومعناه: أن التحريم يتوجه إذا كان المتخلي جالساً على حاجته بهذا القيد؛ فافهم ذلك وتفطن؛ والكلام في التحريم والكراهة، وبيان المختار، يستدعي بسطاً طويلاً.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن السلام على المتخلي؟
فأجاب: أما السلام على الذي فى الخلاء فمكروه، ولا يرد على المسلِّم.
وسئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن السلام على المستجمر ورده؟
فأجاب: الظاهر عدم كراهية ذلك، وإنما يكره ذلك في حق المتخلي. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: وأنا أضرب(4/147)
لك مثلاً بمسألة واحدة، وهي مسألة الاستجمار ثلاثاً فصاعدا من غير عظم ولا روث؛ وهو كاف مع وجود الماء، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة لا خلاف في ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد لصار هذا عند الناس أمراً عظيماً، ولنهوا عن الصلاة خلفه وبدعوه، مع إقرارهم بذلك لأجل العادة.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: الاستجمار بثلاثة أحجار أو أكثر، إذا أزال الإنسان بذلك النجاسة وبلتها يكفي عن الاستنجاء باتفاق العلماء، لكن الاستنجاء بالماء مع الاستجمار أفضل وأكمل؛ والاستجمار لا يحتاج إلى نية للصلاة، لأنه من التروك، والتروك لا تحتاج إلى نية.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن كراهية بعض الناس الاستجمار في الأرض لأنه خلق منها؟ فأجاب: هذا وسواس شيطاني ما يلتفت إليه.(4/148)
باب السواك وسنن الفطرة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الختان؟
فأجاب: أما الختان فهو أخذ القلفة، ومن زاد على ذلك فقد خالف المشروع، فيؤدب ويضرب. وأجاب أيضاً: وأما مسألة بعض الناس، الذين ختانهم بالسلخ، فهذا لا يجوز في دين الإسلام؛ فأنتم انهوا الناس عن فعل هذا، وأغلظوا عليهم الكلام، وأخبروهم أن من فعل هذا يؤدب أدباً بليغاً. وأجاب أيضاً: وكذلك من اختتن غير ختان السنة، فإن كان فعله وهو جاهل فلا أدب عليه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قص الشارب وحفه؟
فأجاب: قص الشارب وحفه سنة مؤكدة، ويكره تركه؛ وصرح بعضهم بوجوب القص، فيكون عدم القص محرماً، لحديث: " من لم يأخذ شاربه فليس منا " 1.
وأجاب أيضاً: وأما قصه على اختلاف بينهم في الأول، ى سوى ابن حزم، فإنه حكى الإجماع على أن قص الشارب
__________
1 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) .(4/149)
وإعفاء اللحية فرض، واستدل عليه بحديث زيد بن أرقم المرفوع: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " 1؛ قال في الفروع: وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم، قال: وعبر أصحابنا وغيرهم بالاستحباب؛ وأما أمره صلى الله عليه وسلم بذلك مخالفة للمجوس والمشركين، فلا يلزم منه الوجوب، لأن مخالفتهم قد تكون واجبة، وقد تكون غير واجبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " إن اليهود لا يصبغون فخالفوهم " 2، وكأمره بالصلاة في النعال والخفاف مخالفة لليهود.
وسئل: عن أخذ الرجل من طول لحيته إذا كانت دون القبضة؟
فأجاب: الظاهر الكراهة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعفوا اللحى " 3، وفي حديث آخر: " أرخوا اللحى "؛ والسنة عدم الأخذ من طولها مطلقاً، وإنما رخص بعض العلماء في أخذ ما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر رضي الله عنه، وبعض العلماء يكره ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعفوا اللحى ". وأما حلق ما على الخدين من الشعر فلا شك في كراهته، لمخالفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعفوا اللحى "؛ واللحية في اللغة: اسم للشعر النابت على الخدين والذقن؛ ومعنى قوله: " أعفوا اللحى " أي: وفروها واتركوها على حالها، مع أنه ورد حديث في النهي عن ذلك، فروى الطبراني عن ابن
__________
1 الترمذي: الأدب (2761) , والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) .
2 البخاري: اللباس (5899) , ومسلم: اللباس والزينة (2103) , والنسائي: الزينة (5069, 5071, 5072) , وأبو داود: الترجل (4203) , وابن ماجة: اللباس (3621) , وأحمد (2/240, 2/309, 2/401) .
3 البخاري: اللباس (5888, 5893) , ومسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763, 2764) , والنسائي: الزينة (5046) , وأبو داود: الترجل (4199) , وأحمد (2/16, 2/52, 2/156) , ومالك: الجامع (1764) .(4/150)
عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق " 1؛ قال الزمخشري، معناه: صيره مثلة بأن نتفه، أو حلقه من الخدود، أو غيره بسواد، وقال في النهاية، مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل نتفه أو تغييره بسواد؛ فهذا الحديث ظاهر في تحريم هذا الفعل، والله أعلم.
وقال أصحابنا: يباح للمرأة حلق وجهها وحفه، ونص أحمد على كراهة حف الرجل شعر وجهه، والحف أخذه بالمقراض، والحلق بالموسى؛ فإذا كره الحف فالحلق أولى بالكراهة، ويكفي في ذلك أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أعفوا اللحى "، وفي الحديث: " وفروا اللحى، خالفوا المشركين " 2.
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: عن معنى عقد اللحية في حديث: " إن من عقد لحيته ... " 3 ... إلخ؟
فأجاب: عقد اللحية لا أعلمه، لكن ذكر في الآداب كلاماً يقتضي أنه شيء يفعله بعض الناس في الحرب على وجه التكبر.
__________
1 صحيح البخاري: كتاب الشهادات (2685) وكتاب الجهاد والسير (2795) وكتاب المناقب (3895) وكتاب المغازي (4418) وكتاب النكاح (5078, 5125) وكتاب الأيمان والنذور (6625) وكتاب التعبير (7011 ,7012) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7363) وكتاب التوحيد (7523) , وصحيح مسلم: كتاب الأيمان (1655) وكتاب اللباس والزينة (2069) وكتاب فضائل الصحابة (2438) وكتاب التوبة (2769) , وسنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد (1643) وكتاب تفسير القرآن (3102) , وسنن النسائي: كتاب الصلاة (461) وكتاب الزينة (5312) , وسنن أبي داود: كتاب الصلاة (1420) وكتاب السنة (4643) , وسنن ابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) وكتاب الكفارات (2114) وكتاب الزهد (4268) , ومسند أحمد (1/36, 2/278, 2/317, 3/456, 4/267, 4/268, 4/271, 4/380, 5/315, 5/317, 5/414, 6/25, 6/41, 6/128, 6/139, 6/161, 6/387) , وموطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (270) , وسنن الدارمي: كتاب الصلاة (1577) .
2 البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) .
3 النسائي: الزينة (5067) , وأبو داود: الطهارة (36) , وأحمد (4/109) .(4/151)
سئل أبناء الشيخ محمد، وحمد بن ناصر: عن حلق بعض شعر الرأس، وترك بعضه؟
فأجابوا: الذي تدل عليه الأحاديث: النهي عن حلق بعضه وترك بعضه؛ فأما تركه كله فلا بأس إذا أكرمه الإنسان، كما دلت عليه السنة الصحيحة. وأما حديث كليب فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام، إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار الحلق سنة. وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز، وينهى فاعله عن ذلك، لأن ترك الحلق ليس منهياً عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر، لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه عندنا إلا السفهاء، فنهي عن ذلك نهي تنْزيه، لا نهي تحريم، سداً للذريعة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الحناء إذا اختضب به الرجل؟
فأجاب: الحناء لا بأس به إذا اختضب به الرجل في يديه، ورجليه، غير قاصد للتشبه بالنساء، ولا يريد به الزينة.
وسئل: عن الوشم؟
فأجاب: أما الوشم فهو حرام فعله، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الواشمة والمستوشمة " 1؛ فالمرأة التي تفعل الوشم تؤدب وتضرب إلى أن تنتهي.
__________
1 البخاري: الطلاق (5347) , وأحمد (4/308) .(4/152)
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد: عن قولهم: إذا استعمل الماء ولم يدخل يده في الإناء لم يصح وضوؤه، وفسد الماء ... إلخ؟
فأجاب: فساد الماء هنا سلب طهوريته، فما حصل في يده قبل غسلها ثلاثاً بنية من نوم ليل فسد وإن لم يدخلها الإناء، هذا معنى ما جزم به في الإقناع والمنتهى وشرح الزاد. وقال الشيخ عثمان في حاشية المنتهى: ومعنى قوله: وفسد الماء، أي: الذي حصل في يده، وهو مبني فيما يظهر على القول بأن حصوله في بعضها كحصوله في كلها، كما اختاره جمع؛ أما على الصحيح فينبغي صحة الوضوء ونحوه، حيث لم يحصل في جميع اليد. انتهى؛ وهو مفرع على ما هو الصحيح من المذهب أن غسلهما لمعنى فيهما. وقال في الشرح: وذكر أبو الحسن رواية أنه لأجل إدخالها الإناء، فيصح وضوؤه، ولم يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال.
وسئل: هل يكفي غسل إحدى اليدين؟
فأجاب: الذي مشى عليه العلماء، رحمهم الله، أن هذا الحكم يتعلق باليدين معاً، فلا تختص به اليمنى دون الشمال، مع أن الوارد في الحديث الإفراد؛ فلنذكر الحديث ببعض ألفاظه، منسوباً إلى مخرجيه إن شاء الله تعالى،(4/153)
فأقول: أخرجه الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأهل السنن وغيرهم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " 1، هذا لفظ مالك، والبخاري، وللشافعي نحوه؛ وللنسائي: " فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً " 2، وله والدارقطني: " فإنه لا يدري أين باتت يده منه " 3. وللدارمي في الوضوء، ولأبي داود: " إذا استيقظ أحدكم من الليل " 4، وكذا للترمذي، وفي الباب عن جابر وابن عمر، رضي الله عنهم. ووجه تعميم اليدين بهذا الحكم - والله أعلم - لكونه مفرداً مضافاً، وهو يعم، وهو ظاهر على ما ذهب إليه الإمام أحمد تبعاً لعلي وابن عباس، والمحكي عن الشافعية والحنفية خلافه، ذكره في القواعد الأصولية؛ فعلى قولهم، لا يظهر لي وجهه، والله أعلم.
__________
1 البخاري: الوضوء (162) .
2 مسلم: الطهارة (278) , والنسائي: الطهارة (1) , وأبو داود: الطهارة (103, 105) , وأحمد (2/241, 2/253, 2/259) , والدارمي: الطهارة (766) .
3 البخاري: الوضوء (162) .
4 البخاري: الوضوء (162) , ومسلم: الطهارة (278) , والترمذي: الطهارة (24) , والنسائي: الطهارة (1) والغسل والتيمم (441) , وأبو داود: الطهارة (105) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (393) , وأحمد (2/253, 2/348, 2/382) , ومالك: الطهارة (40) , والدارمي: الطهارة (766) .(4/154)
باب الوضوء
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط الرابع - يعني من شروط الصلاة -: رفع الحدث، وهو الوضوء المعروف؛ وموجبه الحدث؛ وشروطه عشرة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، واستصحاب حكمها، بأن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، وانقطاع موجب، واستنجاء أو استجمار قبله، وطهورية الماء وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه.
وأما فروضه فستة: غسل الوجه، ومنه المضمضة والاستنشاق، وحدّه طولاً من منابت شعر الرأس إلى الذقن، وعرضاً إلى فروع الأذنين، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح جميع الرأس ومنه الأذنان، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب، والموالاة؛ والدليل: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية [سورة المائدة آية: 6] . ودليل الترتيب: الحديث: "ابدؤوا بما بدأ الله به ". ودليل الموالاة: حديث صاحب اللمعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء،(4/155)
فأمره بالإعادة. وواجبه التسمية مع الذكر.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الحناء في مواضع الوضوء؟
فأجاب: وأما الحناء، فيغسل إذا دخل وقت الصلاة.
سئل الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمهم الله: إذا غسل يديه ثم استنجى، ثم أراد أن يتوضأ، فهل يغسل يديه بعد الاستنجاء وقبل الوضوء؟
فأجاب: هذه المسألة لم أرها في كلام أحد من الأصحاب، وإنما ذكروا استحباب غسلهما عند الوضوء، وإن تيقن طهارتهما، لعموم الأدلة؛ قاله في الإنصاف، وقيل: لا يغسلهما إذا تيقن طهارتهما، بل يكره، ذكره في الرعاية. وقال القاضي: إن شك فيهما غسلهما، وإن تحقق طهارتهما خُيِّر. انتهى. والأول هو قول أكثر أهل العلم، لأن عثمان وعلياً وعبد الله بن زيد، وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أنه غسل كفيه ثلاثاً؛ لكن يقال: إذا غسل الإنسان كفيه عند الاستنجاء، ثم استنجى وتوضأ في الحين من غير فصل، وهو الصورة المسؤول عنها، فقد حصل المقصود من غسلهما قبل الوضوء؛ والفقهاء عللوا الأمر بغسلهما بإرادة نقل الماء إلى الأعضاء، ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، وهذا حاصل بغسلهما قبل الاستنجاء.(4/156)
ويدل على هذا: أن عائشة وميمونة، رضي الله عنهما، وصفتا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرتا أنه يغسل يديه قبل أن يستنجي، ولم يذكرا ذلك عند إرادته الوضوء، وفي لفظ حديث عائشة، رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يده، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوء الصلاة " 1، وحديث ميمونة: " أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة، فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوء الصلاة، ثم أفرغ على رأسه " 2، وذكر تمام غسله في كلا الحديثين، ولم يذكر أنه غسل كفيه بعد الغسل الأول؛ وهو دليل على ما ذكرنا.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول الشيخ، رحمه الله: فإن الله أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو.
فأجاب: مراده أن الأمر بالمسح بالعضو، أبلغ من مسح العضو، وأن الباء تقتضي أن يكون هناك شيء يمسح به العضو، بخلاف إذا لم تذكر الباء، وهذه الباء تسمى: باء الإلصاق، أي: إلصاق الفعل بالمفعول، إذ المسح إلصاق ماسح بممسوح، فكأنه قيل: ألصقوا المسح برؤوسكم، أي: المسح بالماء في الوضوء، وبالصعيد في التيمم، وهذا
__________
1 مسلم: الحيض (316) .
2 البخاري: الغسل (265) , ومسلم: الحيض (317) , والترمذي: الطهارة (103) , والنسائي: الغسل والتيمم (419) , وأبو داود: الطهارة (245) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (573) , وأحمد (6/329) .(4/157)
بخلاف ما لو قيل: امسحوا رؤوسكم، فإنه لا يدل على أن ثم شيئاً ملصقاً كما يقال: مسحت رأس اليتيم.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن توضأ لنافلة، هل يصلى به الفرض؟ فأجاب: يصلي به ما شاء، فرضاً أو نفلاً؛ قال في الشرح الكبير: ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد، لا نعلم فيه خلافاً.
وسئل: عن الأذكار التي تقولها العامة عند الوضوء على كل عضو؟
فأجاب: لا يجوز، لأنه بدعة؛ قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: الأذكار التي تقولها العامة عند غسل كل عضو، لا أصل لها.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن يقرأ سورة القدر بعد الوضوء؟
فأجاب: أما قراءة سورة القدر بعد الوضوء، فلا أصل له.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: عن السلام على الذي يتوضأ، أو يستنجي؟
فأجاب: أما السلام على الذي يتوضأ، فلا أعلم فيه كراهة، فإذا سلم عليه، رد عليه السلام؛ وأما السلام على الذي يستنجي بالماء في المطهرة، فلا أعلم.(4/158)
باب المسح على الخفين
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؟
فأجاب: المسألة فيها خلاف، والأظهر: أنه لا يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؛ والمسح يكفي عن التيمم، والجمع بينهما أحسن، خروجا من الخلاف.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: دليلهم في اشتراط ذلك: القياس على الخف والعمامة، بجامع الحائل؛ فننظر: هل هذا القياس صحيح باجتماع أركان القياس الصحيح فيه، أو لا؟ وإنما يتضح ذلك بنقل عبارة أهل الأصول المحررة، وتمهيد قواعدهم المقررة؛ ولو ذهبنا لنقلها في هذا الموضع، لأدى بنا ذلك إلى التزام ما لا يلزم. إذا علمت ذلك، فما اعتمده متأخرو الأصحاب من هذا الاشتراط، هو إحدى الروايتين عن أحمد؛ والثانية: لا يشترط لمسح الجبيرة تقدم الطهارة، اختارها الخلال، وابن عقيل، وأبو عبد الله ابن تيمية في التلخيص، والموفق، وجزم به في الوجيز، للأخبار، والمشقة، لكون الجرح قد يقع في(4/159)
حال يتضرر منها; ففي اشتراط تقدم الطهارة لها، إفضاء إلى الحرج الموضوع.
وسئل: إذا سقطت الجبيرة بنفسها من غير برء، هل تنتقض الطهارة بذلك؟
فأجاب: قال في الفروع: إذا زالت الجبيرة فكالخف؛ وقيل: طهارته باقية قبل البرء، واختاره شيخنا مطلقاً، كإزالة شعر. انتهى. وعني بشيخه: أبا العباس ابن تيمية. قال العسكري: فلو خلع الجبيرة على طهارة، لم ينتقض وضوؤه بمجرد خلعها، وقال في الإقناع، والمنتهى، وشرح المفردات: وزوال جبيرة كخف. انتهى. وكذا عبر غيرهم بلفظ: زلت، وزوال، وكلا اللفظين أعم من أن يكون بفعل؛ فعلى هذا، إن كان سقوطها على طهارة، لم تنتقض الطهارة به، وإن كان بعد حدث، انتقضت؛ وعلى الثانية، هي باقية مطلقاً، ما لم يبرأ.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا شك هل مسح قبل الظهر، أو بعده، وقلنا ابتداء المدة من المسح؟
فأجاب: إذا شك هل مسح قبل الظهر أو بعده، لم تلزمه الإعادة، لأن الأصل المسح. وقيل: يلزمه إعادة الظهر، ويخلع من الغد قبل الظهر، فيرد كل شيء إلى أصله.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن نسي المسح على خفيه؟
فأجاب: إذا نسي المسح على خفيه، فعليه الإعادة، لأنه ترك عضوين.(4/160)
باب نواقض الوضوء
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: ونواقضه ثمانية: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من الجسد، وزوال العقل، ومس المرأة بشهوة، ومس الفرج باليد، قُبلاً كان أو دبراً، وأكل لحم الجزور، وتغسيل الميت، والردة عن الإسلام، أعاذنا الله من ذلك.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن نقض الوضوء بالقيء؟
فأجاب: وأما نقض الوضوء بالقيء، ففيه خلاف؛ والمشهور عن أحمد: أنه ينقض إذا كان كثيراً، ولا ينقض اليسير منه; وذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، إلى أنه لا ينقض الوضوء، ولو كثر، لكن يستحب الوضوء منه، وهذا اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية، رحمه الله. وأما الخروج من الصلاة لأجل الخارج اليسير من القيء أو الدم، فإن كان يسيراً صلى ولم يقطع الصلاة، ولا إعادة عليه، لأنه روي عن الصحابة نحو ذلك؛ "فابن أبي أوفى بزق دماً، ثم قام فصلى "، "وابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ "، وأبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه.
وأجاب الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله: القيء(4/161)
والرعاف لا ينقض إذا كان خفيفاً، ولا ينفتل من صلاته إذا كان يسيراً.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل ينقض النظر، أو مس المرأة بشهوة؟
فأجاب: النظر ليس بناقض، وأما المس فينقض الوضوء؛ وفرقوا، هل ينقض الماس والممسوس؟ أم الماس فقط؟ على روايتين؛ والأظهر من ذلك أنه ينقض الكل.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل ينقض مس فرج الحيوان؟
فأجاب: لمس فرج الحيوان غير الآدمي لا ينقض الوضوء، حياً ولا ميتاً، باتفاق الأئمة، وذكر بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي فيه وجهين؛ وإنما تنازعوا في مس فرج الإنسان خاصة، بظهر الكف وباطنه كله، الأصابع والراحة ; ومنهم من يقول: لا ينقض، كأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا تيقن الطهارة، وشك في الحدث ... إلخ.
فأجاب: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، بنى على ما تيقنه.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل يمكن الصبي من اللوح ... إلخ؟
فأجاب: أما مس الصبي المكتوب من القرآن في اللوح فالمشهور في المذهب: أنه لا يجوز، لكن لا يمكن التحرز من ذلك؟ وفيه رواية عن أحمد بالجواز.(4/162)
باب الغسل
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: هل يكفي غسل اليد بنية القيام من نوم الليل، أو من الجنابة أو الأعلى يرتفع به الأدنى ... إلخ؟
فأجاب: النية هنا ليست مرادة للقيام، وإنما تراد لأجل النوم، فافهم. ولا يكفي نية غسلها من نوم الليل عن الجنابة كالعكس، على الأصح فيه، لأنهما أمران مختلفان، فيعتبر لكل منهما نية؛ أما على الوجه الثاني، وهو: أن غسلهما من النوم لا يفتقر إلى نية، فيجزي عنه نية الحدث الأكبر، وكذا على قول الجمهور، أنه لا يجب غسلهما من نوم الليل بل يستحب.
وقوله: أو الأعلى يرتفع به الأدنى، جوابه يظهر مما قبله. وقوله: وما الأعلى منهما؟ أقول: اتفقوا على أن ما يوجب الوضوء وحده يسمى أصغر، وما يوجب الغسل يسمى أكبر، ونصوا على أن الحدث الأصغر يقوم بالبدن كله، ويرتفع بغسل الأعضاء الأربعة بشرطه، فكيف يقال: إن غسل اليدين من نوم الليل أكبر، مع كونه خاصاً بالكفين، على أنه(4/163)
مختلف في وجوبه، والقائلون بالوجوب لم يسموه حدثاً، فافهم.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: إذا قلنا بما اعتمده المتأخرون من الروايات في هذه المسألة، واشترطنا النية لغسلهما، كما هو مقطوع به عندهم، فإن غسلهما بنية القيام من نوم الليل لا يرفع الحدث عنهما، لأنهم صرحوا بأن غسلهما من نوم الليل طهارة مفردة، يجوز تقديمها على الوضوء والغسل بالزمن الطويل، لكن وجوب غسلهما منه تعبدي غير معقول لنا، لاحتمال ورود النجاسة عليهما، وغسلهما لمعنى فيهما، لا كما يقوله بعضهم؛ وحكاه أبو الحسين ابن القاضي رواية عن أحمد، من أن غسلهما لإدخالهما في الإناء، فقد عرفت أنه لا بد لرفع الحدث عنهما من نية وفعل، على المذهب خاصة.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الوضوء للجنابة قبل الغسل، هل يجب؟
فأجاب: لا يجب، بل هو سنة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: هل يجوز غسل شعر رأس الرجل والمرأة مضفوراً لم ينقضاه؟
فأجاب: وأما غسل الجنابة فيجوز للرجل والمرأة أن يغسلا رؤوسهما من الجنابة وهو معقود، إذا وصل الماء إلى(4/164)
أصول الشعر، ويحثوا على رؤوسهما ثلاث حثيات من الماء، ويجوز لهما أن يغتسلا من إناء واحد.
وسئل: عن المرأة المجدورة، إذا عجزت عن الغسل ... إلخ؟
فأجاب: المرأة إذا حاضت وهي مجدورة، فإذا انقطع عنها الدم اغتسلت، فإن عجزت عن ذلك، أو خافت الضرر، تيممت ثم صلت وصامت؛ ولا يلزمها إعادة إذا برأت من مرضها، بل عليها أن تغتسل متى قدرت على الغسل بلا ضرر يلحقها.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: إذا نوى الغسل هل يرتفع ما دونه ... إلخ؟
فأجاب: نية الغسل لا يرتفع بها الحدث، لأنها ليست من الصور المعتبرة في الطهارة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. وقول السائل: أم لا بد من التخصيص بالفعل، أو بالنية، أو بهما؟ أقول: لا معنى للتخصيص بالفعل هنا دون نية أصلاً؛ والصور المعتبرة في الغسل ست: نية رفع الحدث الأكبر، نية رفع الحدثين، نية فعل الحدث ويطلق، نية استباحة أمر يتوقف على الوضوء والغسل معاً، نية أمر يتوقف على الغسل وحده، نية ما يسن له الغسل ناسياً للواجب؛ ففي هذه كلها يرتفع الأكبر، ويرتفع الأصغر أيضاً فيما عدا الأولى والأخيرتين، أفاده الشيخ عثمان.(4/165)
قلت: واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أنه يرتفع الأصغر في الأولى أيضاً. وهذه الست يتأتى نظيرها في الأصغر، ويزيد بأنه يرتفع إذا قصد بطهارته ما تسن له الطهارة ذاكراً الحدث، فافهم الفرق بين البابين، فإنه مهم جداً، قاله الشيخ عثمان. انتهى ملخصاً.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله: إذا نوى من عليه موجب أكبر رفعه بغسله، فإنه يرتفع المنوي وما كان من جنسه، ووصفه، كما إذا نوت من عليها غسل حيض وجنابة رفع الحدثين، فيرتفعان معاً بنية رفع أحدهما بالغسل، لتداخلهما وتساويهما موجباً وحكماً، وكما إذا نوى رفع الحدث وأطلق، ونوى الصلاة ونحوها، مما يحتاج لوضوء وغسل، ويسقط الترتيب والموالاة، لكون البدن فيه بمنْزلة العضو الواحد. وأما الحدث الأصغر، فلا يرتفع بنية الأكبر فقط، لما بينهما من تباين الأوصاف، واختلاف الأصناف التي لا يجامعها تداخل؛ هذا منصوص أحمد، والمعتمد عند أكثر أصحابه، وهو من مفردات مذهبه. قال ناظمها:
والغسل للكبرى فقط لا يرفع ... صغرى وإن نوى ففيه ينفع
قال في شرحه: وإن نوى بالغسل الطهارة الكبرى، أي: رفع الحدث الأكبر، لم يرتفع حدثه الأصغر، لقول(4/166)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإنما لكل امرئ ما نوى " 1، وهذا لم ينو الوضوء؛ هذا الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم. انتهى. وحكى في الفروع والمبدع والإنصاف، عن الأزجي وأبي العباس ابن تيمية: الأصغر يرتفع بنية الأكبر، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، لأنه أدرج الأصغر في الأكبر، فيدخل فيه ويضمحل معه، ومبنى الطهارة على التداخل، فماهية الأصغر انعدمت بانعدام أجزائها، وسواء تقدم الأصغر الأكبر أو تأخر عنه. وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول: "وأي وضوء أتم من الغسل إذا أجنب الفرج، وعن يحيى بن سعيد قال: "سئل سعيد بن المسيب: عن الرجل يغتسل من الجنابة، يكفيه ذلك من الوضوء؟ قال: نعم "، واستأنسوا - أعني القائلين بدخوله في الأكبر - بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: " أن أهل الطائف قالوا: يا رسول الله، إن أرضنا باردة، فما يجزينا من غسل الجنابة؟ فقال: أما أنا، فأفرغ على رأسي ثلاثاً "، وبقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة، رضي الله عنها: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " 2، أو قال: "فإذا أنت قد طهرت " 3، رواهما مسلم؛ لكن الدلالة من هذين الحديثين ليست بصريحة.
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/43) .
2 مسلم: الحيض (330) , والترمذي: الطهارة (105) , والنسائي: الطهارة (241) , وأبو داود: الطهارة (251) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (603) .
3 الترمذي: الطهارة (105) , وأبو داود: الطهارة (251) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (603) .(4/167)
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن الجنب إذا أصابه المطر حتى غسل بدنه وأنقاه، هل يرتفع حدثه؟
فأجاب: نعم يرتفع إذا نوى رفع الحدث عند إصابة المطر، لحديث: "إنما الأعمال بالنيات " 1.
سئل الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: عن الجنب الذي يأتي الخبرا الكبيرة من الماء، والثغب، ويجلس على جاله، ثم يغرف على جسده، وينفصل ماؤه في الثغب الذي هو يغتسل فيه، هل ذلك جائز، أم لا؟
فأجاب: الجنب الذي يتناول الماء من الثغب إن كان يقدر على الاغتسال، من غير رجوع المنفصل إلى الثغب، بأن يحفر له حفيرة، أو يجعل بينه وبين الماء حداداً، فيفعل ذلك؛ فإن لم يقدر، فلا عليه إلا ما يقدر عليه، و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ، و {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] ؛ هذا إذا كان الماء كثيراً، وأما إذا كان دون القلتين، فلا.
وسئل: ما صفة غسل الجنب في البير، والثغب؟ هل له أن يغمس جميع بدنه في وسطه، ويغتسل فيه؟ أم يكون خارج الماء؟ أم غير ذلك؟ وهل إذا فعل ذلك إنسان أجزأه؟
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) .(4/168)
وهل ينهى عن ذلك من فعله؟ أو مما يؤمر به؟ أم هذا جائز؟
فأجاب: الجنب إذا انغمس في ماء دائم: ثغب، أو ركية، أو غيرهما، مذهب الحنابلة: أن الماء يكون مستعملاً، ولا يرتفع الحدث؛ هذا إذا كان دون القلتين. ومذهب الشافعي: أنه يرتفع حدثه، ويكون الماء مستعملاً. ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: ارتفاع حدثه، أما إذا كان الماء كثيراً، فهو كما ذكرنا لك في المسألة قبلها.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: إذا احتلم الرجل في المنام، ووجب عليه الغسل، وأراد أن يجامع قبل الاغتسال لأجل أنه يريد أن يغتسل، هل يجامع على هذه الحال قبل الاغتسال؟
فأجاب: الرجل إذا أراد معاودة الجماع قبل الاغتسال، فله المعاودة قبل الاغتسال، قل أو كثر، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بغسل واحد.
وسئل: إذا وطئ الرجل امرأته، ووجب عليه الغسل، أو احتلم، هل له أن يجامع مرتين، أو أكثر قبل الاغتسال، ويجعل ذلك بغسل واحد؟ وكذلك إذا جامع في البيت، ثم خرج، ثم رجع وأراد المعاودة قبل الاغتسال، هل له ذلك، أم لا؟ وهل يفرق بين الخارج، وعدمه؟(4/169)
فأجاب: أما الجماع بعد الاحتلام وقبل الغسل، فحكمه عند أهل العلم حكم الوطء، وأما من جهة الطب فأنا قد سمعت أن الأطباء يكرهونه، ويذكرون فيه بعض الضرر; وأما الذي يجامع ثم يخرج من البيت، ثم يعود فيجامع، فهذا أمر جائز، وسواء فيه من خرج ومن لم يخرج.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن يمنعه الحياء من الغسل ... إلخ؟
فأجاب: وأما الجنب الذي عنده ماء، ويمنعه الحياء من الغسل، فإنه يستر عورته ويغتسل، وحياؤه مذموم في الشرع في مثل هذا، ويحرم عليه تأخير الغسل إذا خاف خروج الوقت; ولو كان عزباً ويخاف من ظنهم، فإنه يحصل له أجر من جهتين، من فعل المأمور به، ومن غيبتهم له.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن اغتسل عرياناً بين الناس؟
فأجاب: ومن اغتسل عرياناً بين الناس لم يجز، وإن كان وحده جاز; وقال أحمد: لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستتراً، لأن للماء سكاناً.(4/170)
باب التيمم
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يجوز التيمم مع وجود الماء؟
فأجاب: التيمم لا يجوز إلا عند عدم الماء، قال الله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} الآية [سورة النساء آية: 43] .
وسئل: هل التراب بدل لكل ما يفعل بالماء؟
فأجاب: أما التراب فهو بدل لكل ما يفعل بالماء؛ فمن عجز عن استعمال الماء، أو عدم الماء، فالصعيد الطيب له طهور.
وسئل: هل التيمم عند عدم الماء مبيح أو رافع؟
فأجاب: الذي عليه الأكثر أنه مبيح.
سئل بعضهم: إذا خاف برد الماء، هل يتيمم ... إلخ؟
فأجاب: نعم، يتيمم، لحديث عمرو بن العاص، لما بعث في غزوة ذات السلاسل، وصلى بأصحابه وهو جنب بسبب البرد، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم؛ قال في الشرح الكبير: وإن خاف البرد، ولم يمكنه استعمال الماء على وجه يأمن الضرر،(4/171)
تيمم في قول أكثر العلماء. انتهى. ومما يستدل به لذلك: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [سورة النساء آية: 29] ، وحديث عمرو بن العاص.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما الرجل إذا احتلم أو جامع وخشي برد الماء، فإن أمكنه تسخينه والاغتسال به لزمه ذلك؛ فإن خاف الضرر باستعماله غسل ما لا يتضرر به، وتيمم للباقي وصلى، ويكون قد فعل ما أمر به من غير تفريط منه ولا عدوان.
سئل الشيخ سعيد بن حجي، رحمه الله: عمن أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة، وعدم الماء، هل يتيمم؟
فأجاب: قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: أما التيمم للنجاسة على الثوب، فلا نعلم به قائلاً من العلماء؛ وإن كانت النجاسة في البدن، فهل يتيمم لها؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا يتيمم لها، وهذا قول جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة والشافعي - إلى أن قال - لما كان عاجزاً عن إزالة النجاسة سقط وجوب إزالتها، وجازت الصلاة معها بدون تيمم. انتهى ملخصاً. وقال في الكافي: في وجوب الإعادة روايتان: إحداهما: لا تجب، لقوله: "التراب كافيك ما لم تجد الماء " 1، قياساً على التيمم، والأخرى: تجب الإعادة.
__________
1 أحمد (5/146) .(4/172)
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يكون معه ماء قليل، وفي بدنه أو ثوبه نجاسة، والماء لا يكفي لغسل الجميع؟
فأجاب: يغسل به النجاسة، ويتيمم للباقي.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: هل يشترط الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم؟
فأجاب: قال في المبدع: وإن كان حدث الجريح أصغر، راعى الترتيب والموالاة، ويعيد غسل الصحيح عند كل تيمم في وجه، وفي الآخر: لا ترتيب ولا موالاة؛ فعلى هذا، لا يعيد الغسل إلا إذا أحدث. انتهى. والأول هو الذي اعتمده المتأخرون، فأوجبوا الترتيب والموالاة بين الوضوء والتيمم، لاشتراط الترتيب في الوضوء، فلا ينقله عن عضو حتى يكمله غسلاً وتيمماً، عملاً بقضية الترتيب؛ فعلى هذا: لا يضر نداوة التراب في يديه، كما هو ظاهر كلامهم، وصرح به الشافعية. وحكى في الفروع عن المجد: أن قياس المذهب أن الترتيب سنة، وحكى في الإنصاف وغيره عن أبي العباس: ينبغي أن لا يرتب.
وقال غيره: لا تلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، قال: والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة، وجزم به ابن اللحام في الاختيارات، والنفس تميل إلى ما قال، لا سيما وقد حكى هو وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما(4/173)
شرعه الله، اللهم إلا أن يكون بين إيجاب الترتيب والموالاة من الأدلة الشرعية رابط خفى علينا، ففوق كل ذي علم عليم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وأما اشتراط الترتيب بين الوضوء والتيمم، إذا كان في بعض أعضاء الوضوء جرح مما يتيمم له، فالذي يظهر لي عدم وجوب الموالاة، فيعيد التيمم إذا خرج الوقت الذي تيمم فيه لبعض أعضاء الوضوء فقط، والله أعلم.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن التيمم بالرمل؟
فأجاب: أما التيمم بالرمل وتراب المسجد، فلا بأس به. وأجاب الشيخ حمد بن عتيق: التيمم بالرمل لا بأس به، للحديث: " أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " 1.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قول شارح الزاد: أو عدل شعير، 2 ونحوه.
فأجاب: هو ما كان له غبار يعلق باليد.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله: هل يتيمم لكل صلاة؟
فأجاب: وأما التيمم، فيصلي به ما لم يحدث كما يصلي بالماء؛ والاحتياط أن يتيمم لكل صلاة.
وسئل: إذا مر إنسان بالماء في الوقت، فلم يستعمله وصلى بالتيمم، هل يعيد؟
فأجاب: إذا مر المسافر بالماء في الوقت، فلم يستعمله
__________
1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) .
2 العدل هنا: وعاء له عرى يعلق على الدابة.(4/174)
وصلى بالتيمم، فالمسألة فيها خلاف بين الفقهاء، وفيها وجهان للأصحاب؛ والمذهب: أنه لا إعادة عليه، لأنه في تلك الحالة عادم للماء.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهما الله: إذا وجد الجنب الماء في غير وقت الصلاة وقد نسي حدثه، ثم جاوز الماء، فلما دخل وقت الصلاة إذا هو عادم للماء، هل تصح صلاته بالتيمم؟
فأجاب: نعم، تصح صلاته بالتيمم.
وسئل بعضهم: عن رجل في سفر، ودخل وقت الظهر وهو عادم الماء، فأخر الظهر ناوياً التأخير إلى العصر، فوجد الماء في وقت الظهر ولم يستعمله، وعدم الماء وقت العصر، هل يعيد؟
فأجاب: المشهور عند الحنابلة أن مثل هذا لا إعادة عليه، لأنه يجوز له تأخير صلاة الظهر إلى وقت العصر إذا كان ناوياً الجمع؛ قال في الشرح الكبير: وإذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه وعدم الماء في الوقت، صلى بالتيمم من غير إعادة، وهو قول الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت كقولنا، وإلا صلى بالتيمم وعليه الإعادة، لأنه مفرط؛ ولنا أنه لم يجب عليه استعماله، أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت.
وفي شرح منصور على المنتهى: ومن في الوقت أراقه،(4/175)
أي: الماء، أو مر به وأمكنه الوضوء منه ولم يفعل، وهو يعلم أنه لا يجد غيره، أو باعه، أو وهبه في الوقت لغير من يلزمه بذله له، حرم عليه ذلك، ولم يصح العقد من بيع أو هبة لتعلق حق الله تعالى بالمعقود عليه، فلم يصح نقل الملك فيه كأضحية معينة؛ ثم إن تيمم لعدم غيره، ولم يقدر على رد المبيع والموهوب، وصلى، لم يعد، لأنه عادم للماء حال التيمم، أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت. انتهى. فإذا كان لا يعيد إذا مر به في الوقت ولم ينو الجمع، فكيف إذا كان ناوياً للجمع؟ والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرجل الذي صلى بالتيمم ولم يعد لما وصل إلى الماء: " أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك " 1، وقال للذي أعاد: " لك الأجر مرتين " 2 ... إلخ؟
فأجاب: لا شك أن الذي لم يعد قد أصاب الحكم الشرعي، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك " 3؛ وأما الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل، يثاب على الصلاة الأولى والثانية، وهي كونه صلى الثانية مجتهداً، فأثيب على اجتهاده للصلاة الثانية كما أثيب الأول؛ ومن المعلوم أن الفريضة أفضل من التطوع من جنسه وغير جنسه، إلا في أربعة أشياء ليس هذا محل ذكرها 4.
__________
1 النسائي: الغسل والتيمم (433) , وأبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) .
2 أبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) .
3 النسائي: الغسل والتيمم (433) , وأبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) .
4 أي: الطهر قبل الوقت, والابتداء بالسلام, وإبراء المعسر, والختان قبل البلوغ.(4/176)
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن عدم الماء والتراب ... إلخ؟
فأجاب: إذا عدم الجميع، فإنه يصلي على حسب حاله.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا دخل الوقت على عادم الماء، فهل الأفضل التأخير؟
فأجاب: إذا دخل الوقت على عادم الماء، فمال في الشرح: يستحب تأخير التيمم لآخر الوقت لمن يرجو وجود الماء؛ روي ذلك عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي. وقال الشافعي - في أحد قوليه -: التقديم أفضل.
وأجاب الشيخ حمد بن عتيق: يستحب تأخير التيمم آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء؛ وروي عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي، وقال الشافعي - في أحد قوليه -: التقديم أفضل.
وسئل أيضاً: الرجل يتيمم وهو يدرك الماء في آخر الوقت؟
فأجاب: هو مخير.
وسئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا تحقق وجود الماء آخر الوقت، هل يتيمم أول الوقت ويصلي أو لا؟
فأجاب: يتيمم ويصلي أول الوقت.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: الحاقن أيما أفضل: يصلي بوضوء، أو يحدث ثم يتيمم؟(4/177)
فأجاب: صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان؛ فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة منهي عنها، وأما صلاة المتيمم فصحيحة بلا كراهة بالاتفاق.
وسئل أيضاً: عن صفة تيمم مقطوع اليد؟
فأجاب: مقطوع اليد يمكنه أن يضرب بيده على التراب، ثم يضعها على ثوبه أو بعض بدنه، ويقلبها على ظاهرها وباطنها ماسحاً لها، ويقلب أصابعه.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن صفة تيمم من في إحدى يديه علة؟ فأجاب: يتيمم ولو بواحدة - يعني السالمة - ويمسحها بأطراف أصابع المعتلة، أو بأسفل كفها، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16] .(4/178)
باب إزالة النجاسة
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجزئ إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات؟
فأجاب: في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز للحاجة كما هو قول ثالث لمالك وأحمد؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله: " اغسليه بالماء " 1، وقوله في آنية المجوس: " ثم اغسلوها بالماء "، وقوله فى حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: " صبوا على بوله ذنوباً من ماء " 2، فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمراً عاماً بأن تزال النجاسة بالماء؛ وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع، منها الاستجمار بالأحجار، ومنها قوله في النعلين: "ثم ليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور "، ومنها قوله في الذيل: "يطهره ما بعده " 3، وذكر لها نظائر؛ قلت: وهذا القول هو الصواب إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن حكم نجاسة الكلب، والخنْزير ... إلخ؟
فأجاب: أما نجاسة الكلب والخنْزير وما تولد منهما، إذا أصابت غير الأرض، فيجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب،
__________
1 ابن ماجة: الطهارة وسننها (628) , وأحمد (6/355) .
2 البخاري: الأدب (6128) , والترمذي: الطهارة (147) , والنسائي: الطهارة (56) والمياه (330) , وأبو داود: الطهارة (380) , وأحمد (2/239) .
3 الترمذي: الطهارة (143) , وأبو داود: الطهارة (383) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (531) , وأحمد (6/290) , ومالك: الطهارة (47) , والدارمي: الطهارة (742) .(4/179)
سواء من ولوغه أو غيره، لأنهما نجسان وما تولد منهما، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً " 1، متفق عليه، ولمسلم: " أولاهن بالتراب " 2. وأما النجاسات على الأرض، فيطهرها أن يغمرها بالماء فيذهب عينها ولونها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء " 3، متفق عليه. وأما باقي النجاسات، ففيه عن أحمد ثلاث روايات: الأولى: تغسل سبعاً، والثانية: ثلاثاً، والثالثة: تكاثر بالماء حتى تذهب عينها ولونها من غير عدد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اغسليه بالماء " 4، ولم يذكر عدداً؛ وهذا مذهب الشافعي، واختاره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، وهو المفتى به عندنا.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: عن قوله: نحو تراب؟
فأجاب: نحو التراب هو كل جامد منق، كالأشنان والصابون والسدر.
وسئل: هل تفتقر إزالة النجاسة إلى نية؟
فأجاب: لا تقتقر إلى نية، بل متى زالت النجاسة بالماء طهر المحل لأنها من التروك، بخلاف الأوامر فإنها تفتقر إلى نية، لقوله عليه السلام: " إنّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " 5 الحديث، لكن عليه أن يزيل النجاسة عن أعضائه، وعن بدنه قبل الغسل.
__________
1 البخاري: الوضوء (172) , ومسلم: الطهارة (279) , والنسائي: المياه (338, 339) , وأبو داود: الطهارة (73) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (363, 364) , وأحمد (2/245, 2/253, 2/265, 2/271) , ومالك: الطهارة (67) .
2 مسلم: الطهارة (279) , والنسائي: المياه (338, 339) , وأبو داود: الطهارة (71) , وأحمد (2/427, 2/489) .
3 البخاري: الأدب (6128) , والترمذي: الطهارة (147) , والنسائي: الطهارة (56) والمياه (330) , وأحمد (2/239, 2/282) .
4 ابن ماجة: الطهارة وسننها (628) , وأحمد (6/355) .
5 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) .(4/180)
سئل بعضهم: إذا وقعت فأرة في دهن وألقيت منه ... إلخ؟
فأجاب: إذا وقعت فأرة في دهن أو غيره، وألقيت قبل أن تتغير أحد أوصافه الثلاثة، فهو طاهر.
سئل الشيخ حمد بن ناصر: عن صفة الخل؟
فأجاب: صفة الخل يذكر أهل العلم أنه يعمل من التمر، أو العنب، أو غيرهما، ويطرح فيه ملح أو شيء حامض حتى لا يتخمر، ويذكرون أن هذا صفة الخل المباح؛ وعندنا ناس يعملونه على ما ذكرنا لك.
وسئل: عن القيء؟
فأجاب: أما القيء فالمشهور أنه نجس.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن حكم قيء الغلام؟
فأجاب: حكم قيئه حكم بوله إلا أنه أخف منه، صرح به في الإقناع وغيره، وهو ظاهر الروض وغيره.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن حكم الدم المحتقن في جوف الذبيحة؟
فأجاب: أما الدم المحتقن في جوف الذبيحة، فقال في الإنصاف وغيره - نقلاً عن القاضي-: إن الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وفي العروق مباح؛ قال الشيخ تقي الدين: لا أعلم خلافاً في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرقة،(4/181)
بل يؤكل معها، والله أعلم. قالوا: فظاهر كلام القاضي في الخلاف، وابن الجوزي، أن المحرم هو الدم المسفوح، كما دلت عليه الآية الكريمة، قال أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [سورة الأنعام آية: 145] ، أي: مهراقاً سائلاً؛ قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "يريد ما يخرج من الحيوانات وهي حية، وما يخرج من الأوداج عند الذبح ". وممن قال بطهارة بقية الدم، وإن ظهرت حمرته: المجد في شرحه، والناظم، وصاحب الفائق، وغيرهم، والله أعلم.
وأجاب الشيخ، عبد الله أبا بطين: وأما دم الذبيحة الذي يبقى في مذبحها ولحمها بعد الذبح، فإنه طاهر، لأن الله إنما حرم الدم المسفوح، والمسفوح هو الذي يسيل؛ فالذي ليس بمسفوح ليس بحرام، وحله يدل على طهارته.
سئل الشيخ محمد بن محمود: إذا خرج اللبن متغيراً بدم، هل هو نجس؟
فأجاب: الدم نجس، فإذا ظهر أثره في اللبن نجس به، وإن كان الأثر يسيراً، لأن المائعات ما يعفى فيها عن يسير النجاسة.
وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد، رحمه الله: عن اللبن إذا كان فيه خطوط دم، هل يحرم؟
فأجاب: خطوط الدم تذهب بالتركيد، فيجوز زل الحليب والدم يهراق.(4/182)
وأجاب الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي، رحمه الله: وأما الحليب المتغير بالدم، فالظاهر أنه إذا خلا من حمرة الدم ولو بالتركيد، فلا بأس إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن حكم موضع النجاسة إذا خفي في الثوب؟
فأجاب: وأما الثوب إذا خفي موضع النجاسة فيه، وجب غسل ما يتيقن به زوالها إن أمكن إذا أراد الصلاة.
وسئل: عن المذي؟
فأجاب: وأما المذي فنجس يجب عليه غسله عند الجمهور، لحديث علي قال فيه: " يغسل ذكره ثم يتوضأ " 1، وعن أحمد رواية: يجزئ نضحه، لحديث سهل، اختاره الشيخ تقي الدين.
وسئل عن اشتراط بعضهم: أن طهارة المني لا تكون إلا بعد استنجاء، أو استجمار، وكذا رطوبة فرج المرأة ... إلخ؟
فأجاب: أما القول بطهارة المني فهو مذهب أحمد والشافعي، لكن الشافعية يشترطون: كون خروجه بعد الاستنجاء بالماء؛ والحنابلة يقولون بطهارته ولو كان خروجه بعد استجمار بالحجر ونحوه، فإن لم يتقدمه استجمار شرعي،
__________
1 مسلم: الحيض (303) , والنسائي: الغسل والتيمم (439) , وأبو داود: الطهارة (206) , وأحمد (1/80) .(4/183)
ففي النفس منه شيء، ولم أر من صرح بحكمه والحالة هذه. واستدلوا على طهارة رطوبة فرج المرأة، بدلالة السنة على طهارة المني ولو كان من جماع، لحديث عائشة، رضي الله عنها: أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله إذا كان يابساً، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحتلم، والحديث مطلق، ومني الرجل في الجماع يباشر رطوبة فرج المرأة، فدل على طهارتها؛ لكن صرح الشافعي: بأن رطوبة فرج المرأة إذا انفصلت عن محلها تنجس ما أصابته، ولم أر لأصحابنا تصريحاً بذلك، والله أعلم.
وأجاب بعضهم: وأما المني ففيه اختلاف، والأحسن فيه العمل بالحديث، وهو إن كان رطباً غسل، وإن كان يابساً فرك، ولا يتبين لي فيه نجاسة، وهو مذهب الشافعي.
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن الترعة 1؟
فأجاب: الترعة يغسل الذي أصاب سلبه منها.
سئل الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر، رحمهما الله: عن المنفصل عن محل الاستنجاء وما في معناه؟
فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة بني حكمها على
__________
1 هي: القلس.(4/184)
القول في محل النجاسات المعفو عنها، كمحل الاستجمار بعد الإنقاء، وأسفل الخف والحذاء إذا أصابته نجاسة ودلك حتى أنقى؛ فإن قيل: إنه طاهر، فما انفصل عنه طاهر، وإن قيل: نجس فنجس إذا كان المنفصل قليلاً. وقلنا: ينجس بالملاقاة وإن لم يتغير بالنجاسة؛ والمذهب المشهور عند الأصحاب: أن محل الاستجمار نجس، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. فلو قعد المستجمر في ماء قليل نجسه، ولو عرق كان عرقه نجساً. وعن أحمد رواية أخرى: أنه طاهر، وذكره في الإنصاف قول جماعة من الأصحاب منهم ابن حامد؛ قال في المغني: ظاهر كلام أحمد أن محل الاستجمار بعد الإنقاء طاهر، فإن أحمد بن الحسن قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يبول ويستجمر ويستبرئ، يعرق في سراويله؟ قال: إذا استجمر ثلاثاً فلا بأس. وسأله رجل: إذا استنجيت من الغائط يصيب ذلك الماء مني موضعاً آخر، فقال أحمد: قد جاء في الاستنجاء بثلاثة أحجار، فاستنج أنت بثلاثة أحجار، ثم لا تبال ما أصابك من ذلك الماء.
واحتج أبو محمد لهذا القول، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تستنجوا بعظم ولا بروث، فإنهما لا يطهران " 1، قال: فمفهومه أن غيرهما يطهر، قال: ولأن الصحابة كان الغالب عليهم الاستجمار، حتى إن جماعة منهم أنكروا الاستنجاء بالماء، وسماه بعضهم بدعة، وبلادهم حارة؛ والظاهر أنهم لا
__________
1 أحمد (3/487) .(4/185)
يسلمون من العرق، فلم ينقل عنهم توقي ذلك، ولا الاحتراز منه، ولا ذكر لذلك أصل; وقد نقل عن ابن عمر أنه بالمزدلفة فأدخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه، وعن إبراهيم النخعي نحو ذلك، ولولا أنهما اعتقدا طهارته ما فعلا ذلك. انتهى.
وفي الاقناع: أن مني الآدمي طاهر، ولو خرج بعد الاستجمار، قال في شرحه: لعموم ما سبق، قال في الإنصاف: سواء كان من احتلام أو جماع، من رجل أو امرأة، لا يجب فيه فرك ولا غسل - ثم قال - وقيل: مني المستجمر نجس دون غيره، فعبارة الإقناع صريحة في طهارته بعد أثر الاستجمار، ولكن كلام صاحب الإنصاف ظاهر فيه؛ هذا مع أنهم صرحوا: أن محل الاستجمار نجس يعفى عنه في محله دون غيره، واستثنوا هذه الصورة لما ذكرنا من حجة القول الثاني، وهو لازم لهم في بقية صور المسألة لاتحاد العلة.
وأما أسفل الخف والنعل إذا أصابته نجاسة، فالمذهب عند المتأخرين أنه لا يكفي فيه إلا الغسل بالماء؛ وهو رواية عن الإمام أحمد، وعنه: يجزي دلكه بالأرض، اختاره الموفق، والمجد، والشيخ تقي الدين، لما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا وطأ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب " 1، وفي أحاديث أخر. وعن أحمد رواية ثالثة: يجب غسله من البول والعذرة دون غيرهما، والأول أولى
__________
1 أبو داود: الطهارة (385) .(4/186)
لعموم الأدلة عليه؛ فهل يطهر بالدلك أو يصير معفواً عنه في محله دون غيره، الذي عليه أكثر أهل العلم: أنه لا يطهر بل يصير معفواً عنه في محله فقط، فلو لاقى غيره من المائعات، فله حكم غيره من المتنجسات. وعن أحمد: أنه يطهر بذلك، اختاره ابن حامد في جماعة من الأصحاب، ومال إليه في المغني، قال في الإنصاف: وهو من مفردات المذهب، ووجهه ما قدمناه من الدليل، فقوله: طهورهما التراب ظاهر في ذلك.
سئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ: هل عظم الآدمي طاهر؟
فأجاب: الصحيح أنه طاهر إذ لا موجب لتنجيسه، وكذلك عظم الميتة، لأن المقتضي للتنجيس الدم في العظام؛ وأظن هذا اختيار الشيخ تقي الدين وابن القيم وغيرهما، ويحكى عن أبي حنيفة، رحمهم الله، والله أعلم.
سئل الشيخ سعيد بن حجي، رحمه الله تعالى: عن عَرَق الحمار والبغل والتدخن بالروث.
فأجاب: اعلم أن في طهارة البغل والحمار في مذهب الحنفية والحنابلة خلافاً يطول ذكره، والحاصل: أن فيهما عن أحمد روايتين: إحداهما: أنهما نجسان، فعليها يعفى عن ريقهما وعرقهما وما تولد منهما، غير الخارج من سبيلهما فهو نجس. والثانية: أنهما طاهران، اختاره الموفق، لأنه صلى الله عليه وسلم كان(4/187)
يركبهما ويركبان في زمانه، ولأنه لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فكانا طاهرين كالسنور. انتهى من المبدع. وقال في المغني: الصحيح عندي طهارة البغل والحمار، لأنه عليه السلام كان يركبهما، ويركبان في عصر الصحابة، ولو كانا نجسين لبينه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال في الإنصاف: ومال الشيخ تقي الدين إلى طهارة البغل والحمار. انتهى. وروى الدارقطني: " أنتوضأ مما أفضلت الحمر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم " 1. اهـ. وروى ابن ماجة من حديث أبي سعيد معناه، وفيه قال: " لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غبر طهور " 2، وقول عمر: "يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد عليها وترد علينا "، رواه مالك. انتهى من المبدع. وقد اختار طهارة البغل والحمار المالكية والشافعية.
وقال في العناية شرح الهداية للحنفية - لما ذكر الخلاف في سؤر البغل والحمار-: وسؤر البغل والحمار مشكوك فيه، وأبو طاهر أنكر أن يكون شيء من أحكام الله مشكوكاً فيه، وقال: سؤر الحمار طاهر؛ والشافعي يجعله طاهراً وطهوراً، لأن كل حيوان ينتفع بجلده فسؤره طهور عنده. قال القدوري: عرق الحمار طاهر في الرواية المشهورة، وكذا سؤره، وروى عن ابن عباس أنه قال "لا بأس بالتوضي بسؤر البغل والحمار ". انتهى كلام صاحب العناية ملخصاً.
__________
1 صحيح مسلم: كتاب الحج (1221) , وسنن النسائي: كتاب الإمامة (778) , وسنن أبي داود: كتاب البيوع (3394) , ومسند أحمد (4/348) .
2 ابن ماجة: الطهارة وسننها (519) .(4/188)
إذا ثبت هذا، فما خرج منهما من الفضولات، كالعرق والريق والدمع والمخاط، فهو طاهر. والقول الآخر: معفو عنه. فقد علمت أن الذي عليه الأكثرون من العلماء طهارة البغل والحمار وفضولاتهما. وأما فرخ بيضة المأكول: إن كان حياً فهو طاهر، وإن كان ميتاً أو دماً فهو نجس. ويجوز التدخن بروث الفرس، لأنه طاهر، بخلاف الحمار فإنه نجس، ودخان النجاسة نجس؛ وفيه تفصيل: قال في الكافي: دخان النجاسة نجس، فإن اجتمع منها شيء، أو لاقاها جسم صقيل فصار ماء فهو نجس، وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة وغبارها فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهر له صفة، فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن سؤر الحمار؟
فأجاب: عند المتقدمين من أهل العلم أنه طاهر لا ينجس، وعند المتأخرين أنه نجس.
وسئل: عن زرق الصقر؟
فأجاب: وأما زرق الصقر فإنه نجس، لكن يعفى عن يسيره لمشقة التحرز منه؛ فإن مقتنى هذا الحيوان وأمثاله لا يكاد يسلم منه فعفي عن يسيره كالدم.(4/189)
باب الحيض
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أقل الطهر، وأكثره؟
فأجاب: الجمهور على أن أقل الطهر بين الحيضتين: ثلاثة عشر يوماً، واختار شيخ الإسلام: أنه قد يكون أقل إذا كان عادة. وأكثر الحيض: خمسة عشر يوماً، وأقله: يوم وليلة؛ وأبو حنيفة يقول: أقله: ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره: عشرة أيام. ومذهب مالك والشافعي في أكثر الحيض كمذهب أحمد، والشافعي كذلك في أقله، وأما مالك فيقول: لا حد لأقله.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: هل يجوز للحائض الجلوس في المسجد مع أمن التلويث؟ فأجاب: الحائض لا يحل لها الجلوس في المسجد ولو أمنت التلويث، بل تمنع من الجلوس فيه بالكلية؛ وقد نص الفقهاء على أن الحائض لا تجلس في المسجد، ولو بعد انقطاع الدم حتى تغتسل؛ وأما النفساء فحكمها حكم الحائض، والله أعلم.
وسئل: هل يجوز وطء الحائض إذا طهرت قبل أن تغتسل؟(4/190)
فأجاب: لا يجوز ذلك حتى تغتسل أو تتيمم إن عدمت الماء، كما هو قول مالك والشافعي وأحمد؛ وهو معنى ما يروى عن الصحابة حيث قالوا في المعتدة: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. وقال أبو حنيفة: إذا انقطع الدم لأكثر الحيض عنده، وهو عشرة أيام، جاز وطؤها؛ والقول الأول هو الصواب، لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [سورة البقرة آية: 222] ، قال مجاهد يعني: ينقطع الدم؛ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [سورة البقرة آية: 222] اغتسلن بالماء.
وسئل: عن المجدورة إذا حاضت وانقطع الدم ولم تغتسل، هل تصلي وتصوم ولا يلزمها إعادة؟ وكذلك هل يجب عليها الغسل من الجنابة والحيض إذا أصابها؟
فأجاب: المرأة إذا حاضت وهي مجدورة فإذا انقطع عنها الدم اغتسلت، فإن عجزت عن ذلك أو خافت الضرر تيممت ثم صلت وصامت، ولا يلزمها إعادة إذا برأت من مرضها؛ بل عليها أن تغتسل متى قدرت على الغسل بلا ضرر يلحقها.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عمن اغتسلت من الحيض فوطئها زوجها ثم رأى على ذكره أثر الدم؟
فأجاب: إذا اغتسلت من الحيض فوطئها، ثم رأى على ذكره أثر الدم، فالخطب في ذلك يسير إن شاء الله تعالى، لأن قصاراه أن الدم عاودها بعد الطهر، وذلك حيض عند(4/191)
الجمهور إذا لم تبلغ خمسة عشر يوماً، وقد وطئها في حال جريان الدم جاهلاً، فيكون معذوراً ولا إثم عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي الخطأ والنسيان ". وأما الكفارة: ففيها خلاف هل تجب على العامد دون المخطئ والناسي، أم تجب على الجميع؟ والذي عليه الجمهور: أنه لا كفارة على الجميع، بل من تعمد ذلك أثم وليس عليه إلا التوبة.
وعن أحمد في ذلك روايتان: إحداهما: كقول الجمهور، والثانية: عليه الكفارة إذا تعمد، لحديث ابن عباس المرفوع أنه " يتصدق بدينار، أو نصف دينار " 1، والحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي، لكن مداره على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وقد قيل لأحمد: في نفسك منه شيء؟ قال: نعم، لأنه من حديث فلان، أظنه قال: عبد الحميد، وقال لو صح ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كنا نرى عليه الكفارة، وقال في موضع: ليس به بأس قد روى الناس عنه؛ فاختلاف الرواية في الكفارة مبني على اختلاف قول أحمد في الحديث، وهذه الروايتان عن أحمد في العامد، وأما الجاهل والناسي، فعلى وجهين للأصحاب: أحدهما: تجب، وهي المذهب لعموم الخبر. والثاني: لا تجب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " عفي لأمتي الخطأ والنسيان "؛ فعلى هذا، لو وطئ طاهراً فحاضت في أثناء وطئه فلا كفارة عليه، وعلى الأول عليه الكفارة.
__________
1 النسائي: الطهارة (289) والحيض والاستحاضة (370) , وأبو داود: الطهارة (264) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (640) , وأحمد (1/229, 1/237, 1/286) , والدارمي: الطهارة (1106, 1107) .(4/192)
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الوطء بعد الحيض قبل الغسل؟
فأجاب: الوطء بعد الحيض قبل الغسل، الظاهر أنه لا كفارة فيه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الحامل إذا رأت الدم؟
فأجاب: إذا رأت الحامل الدم، فهذا ينظر في حال المرأة، فإذا كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت، فهذا لا تلتفت إليه، بل تصلي فيه وتصوم، وتكون حكمها حكم المستحاضة؛ وليس في هذا اختلاف. وإنما الاختلاف فيما إذا كان عادة المرأة أنها تحيض وهي حامل ويتكرر، ويأتيها في عادة الحيض، وتطهر في عادة الطهر؛ فهذا الذي اختلف فيه العلماء، والراجح في الدليل أنه حيض إذا كان على ما وصفنا، ولكنه قليل الوقوع، وكثير الوقوع على الصفة الأولى. فأنت، افهم الفرق بين من هو لها عادة متكررة، وبين من ليس لها عادة ويضطرب عليها الدم، فإنها تشتبه على كثير من الطلبة.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عن المرأة إذا بلغت سن الإياس؟ وما قدر سن الإياس والدم يأتيها على عادتها، هل تصوم وتصلي وتقضي الصوم؟ أو لا بد من انقطاع الدم عنها؟
فأجاب: الإياس لا يقدر بشيء إلا إذا تغير الدم، أو انقطع، صامت ولا تقض.(4/193)
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: والإياس له حد، بل متى انقطع الحيض لأجل الكبر وأيست من عوده، فهي الآيسة.
وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا بلغت فوق خمسين سنة وأتاها الدم، ففيها ثلاثة أقوال: الجمهور يقولون: متى بلغت خمسين فلا تجلس، بل تصوم وتصلي. والقول الآخر: إذا بلغت خمسين فلا تنظر إليه. وأما شيخ الإسلام وأبو حنيفة فيقولان: تجلس على عادة جلوسها في عادة حيضها، ولا تصوم حتى ينقطع عنها الدم، ولا تسمى آيسة حتى ينقطع عنها الدم، لقول الله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [سورة الطلاق آية: 4] ؛ وقول شيخ الإسلام وأبي حنيفة هو الراجح، والعمل عليه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عمن رأت الطهر ساعة ثم عاودها الدم؟
فأجاب: إذا رأت المرأة الطهر ساعة ثم عاودها الدم، فإن كان ذلك في العادة جلست عن الصلاة، سواء كان دماً أو صفرة أو كدرة، وإن كان بعد انقضاء العادة، فإن كان صفرة أو كدرة لم تلتفت إليه، وإن كان دماً أسود ففيه اختلاف بين العلماء: فبعضهم يقول: لا تلتفت إليه حتى يتكرر ثلاثاً، وبعضهم يقول: تجلس عن الصلاة حتى يبلغ خمسة عشر يوماً من أول الحيض؛ هذا هو الذي عليه الجمهور.(4/194)
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن رأت النقاء في أيام الحيض؟
فأجاب: إذا رأت النقاء في أيام الحيض، فالمذهب أن النقاء طهر وإن لم تر معه بياضاً، فعليها أن تغتسل وتصلي؛ وفيه قول: أن البياض الذي يأتي المرأة عقب انقطاع الحيض هو الطهر، وهو الصحيح، وإليه يميل شيخنا، رحمه الله، فيما نرى، والله أعلم.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن محمد، رحمهم الله تعالى: عن دليل اشتراطهم دخول الوقت لمن حدثه دائم؟
فأجاب: دليل ما ذكروه من اشتراط دخول الوقت لمن حدثه دائم، كسلس البول، ودائم الريح، والجروح التي لا يرقى دمها، والقروح السيالة، هو: القياس على المستحاضة، بجامع العذر؛ وقد أسلفنا لك: أن القياس إذا صح، دليل مستقل بنفسه، ونحن نذكر حكم المسألة من كلامهم: قال في شرح المفردات، عند قول الناظم:
وبدخول وقت طهر يبطلُ ... من بها استحاضة قد نقلوا
لا بالخروج منه لو تطهرتْ ... للفجر لم يبطل بشمس طلعتْ
يعني: أن المستحاضة ومن به سلس البول ونحوه، يتوضأ لوقت كل صلاة، إلا أن لا يخرج منه شيء؛ وهو قول أصحاب الرأي، لحديث عدي ابن ثابت عن أبيه عن جده في(4/195)
المستحاضة: "ت دع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتصوم وتصلي، وتتوضأ عند كل صلاة " 1، وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت خبرها، ثم قال: " توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " 2، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح. فإذا توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت، ثم دخل الوقت بطلت طهارته، لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه؛ والحدث مبطل للطهارة، وإنما عفي عنه مع الحاجة إلى الطهارة، ولا حاجة قبل الوقت. وإن توضأ بعد الوقت صح وضوؤه، ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه.
ولا تبطل الطهارة بخروج الوقت، إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى؛ فمتى تطهرت لصلاة الصبح لم يبطل وضوؤها بطلوع الشمس، لأنه لم يدخل وقت صلاة أخرى؛ قال المجد في شرح الهداية: ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت دون خروجه، قال أبو يعلى: تبطل بكل واحد منهما - ثم قال - والأول أولى. انتهى. ومشى على الثاني في الإقناع. والمشهور عند الحنفية: أنه يبطل بخروج الوقت لا بدخوله، فلو توضأت بعد طلوع الشمس لم يبطل حتى يخرج وقت الظهر. انتهى كلامه. وقال أبو العباس: أظهر قولي العلماء أن مثل هؤلاء يتوضؤون لوقت كل صلاة، ولكل صلاة.
__________
1 النسائي: الطهارة (210) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (626) , والدارمي: الطهارة (768) .
2 البخاري: الوضوء (228) .(4/196)
كتاب الصلاة: حكم ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: متى يؤمر المميز بالصلاة ... إلخ؟
فأجاب: العبادات كلها لا تجب إلا بعد البلوغ؛ وأما ولي الصغير فيجب عليه أمره، وتدريبه على العبادات إذا ميز وعقلها، ليعتادها ويألف الخير.
وسئل: عمن جن وترك الصلاة ستة عشر يوماً؟
فأجاب: الذي جن وترك الصلاة ستة عشر يوماً، ثم بعد ذلك صحا، فإنه لا يقضي ما فاته على الصحيح.
سئل الشيخ محمد بن عمر بن سليم: عمن أخر صلاة الفجر إلى وقت الظهر؟
فأجاب: الذي أخر صلاة الفجر إلى وقت الطهر آثم، لأن تأخير الصلاة عن وقتها حرام باتفاق العلماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: اتفق المسلمون كلهم على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي(4/197)
الفجر قبل طلوع الشمس، لا يترك ذلك لصناعة، ولا لصيد ولا لهو، ولا لزراعة، ولا لجنابة ولا نجاسة، ولا غير ذلك؛ والنبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العصر يوم الخندق، لاشتغاله بجهاد الكفار، ثم صلاها بعد المغرب، فأنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] ، أي: صلاة العصر؛ ولهذا قال جمهور العلماء: إن ذلك التأخير منسوخ لهذه الآية، فلم يجز تأخير الصلاة حال القتال، بل أوجب عليه الصلاة في الوقت حال القتال؛ هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه. وعن أحمد رواية أخرى: يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير، ومذهب أبي حنيفة: يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت.
وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد، لصناعة أو زراعة أو عمل أو صيد، فلا يجوز ذلك عند أحد من العلماء، بل قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] ، قال طائفة من السلف: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، وقال بعضهم: هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به، وإن صلوها في الوقت. فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء، والعلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار، وصلاة النهار إلى الليل، بمنْزلة تأخير شهر رمضان إلى شوال؛ وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك " 1.
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (597) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (684) , والترمذي: الصلاة (178) , والنسائي: المواقيت (613, 614) , وأبو داود: الصلاة (442) , وابن ماجة: الصلاة (695, 696) , وأحمد (3/100, 3/269, 3/282) .(4/198)
وأما الجنب، والمحدث، ومن عليه نجاسة، إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، لمرض أو برد، فإنه يتيمم ويصلي في الوقت وجوباً، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي في غير الوقت باغتسال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين؛ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإنه خير لك " 1. فكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم عند عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله؛ فإذا تيمم للصلاة يقرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها، وإن كان جنباً.
وقال شيخ الإسلام أيضاً: ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى؛ فإن التيمم إنما أبيح لهذه الأمة خاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي " 2. قال: ومما يزيد ما تقدم وضوحاً، قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين: " صل قائماً، فإن لم تسطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " 3.
فتبين بهذا: أن المريض يصلي في الوقت على حسب حاله، قاعداً أو على جنب، إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائماً؛ هذا مما اتفق عليه العلماء، وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان أوجب في
__________
1 الترمذي: الطهارة (124) , وأبو داود: الطهارة (333) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (522) , وأحمد (5/383) .
3 البخاري: الجمعة (1117) .(4/199)
وقته ليس لأحد أن يؤخره عن وقته؛ لكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر عند كثير من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار.
وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، والفجر بعد طلوع الشمس، فلا يجوز ذلك لمرض ولا لسفر، ولا لشغل ولا لصناعة باتفاق العلماء، قال عمر رضي الله عنه: "الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر "، وفي وصية أبي بكر لعمر، رضي الله عنهما: "إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وحقاً بالليل لا يقبله بالنهار "؛ ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء، خير من الصلاة في الوقت بالتيمم، فهو جاهل ضال.
سئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر: عمن ترك الصلاة كسلاً من غير جحود لها؟
فأجابوا: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، كما روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " 1، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليس بين العبد وبين الشرك والكفر إلا ترك الصلاة " 2، وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال ترْكه كفر إلا الصلاة، رواه الترمذي؛ فدلت
__________
1 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346, 5/355) .
2 مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2618, 2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370, 3/389) , والدارمي: الصلاة (1233) .(4/200)
هذه الأحاديث: على أن ترك الصلاة كفر مستقل، من غير اقترانه بجحد الوجوب؛ وذلك لأن جحد الوجوب لا يختص بالصلاة وحدها، فإن من جحد شيئاً من فرائض الإسلام فهو كافر بالإجماع.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: اختلف العلماء، رحمهم الله، في تارك الصلاة كسلاً من غير جحود: فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ومالك، إلى أنه لا يحكم بكفره; واحتجوا بما رواه عبادة. وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي، والحكم وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي، وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين، إلى أنه كافر، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً، وذكره في كتاب الزواجر عن جمهور الصحابة والتابعين. وقال الإمام محمد بن حزم: سائر الصحابة والتابعين ومن بعدهم يكفِّرون تارك الصلاة مطلقاً، ويحكمون عليه بالارتداد، وذكر الأحاديث - ثم قال - وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال ترْكه كفر غير الصلاة.
فهذه الأحاديث كما ترى صحيحة في كفر تارك الصلاة، مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب الجمهور من التابعين ومن بعدهم؛ ثم إن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة(4/201)
كسلاً، إلا أبا حنيفة والزهري وداود، فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة حتى يموت أو يتوب. واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة، وذكر الأدلة - ثم قال - وأما كلام الفقهاء: فقال الشيخ علي الأجهوري في شرح المختصر: من ترك فرضاً أخره لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، قتل بالسيف حداً على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب كافراً، واختاره ابن عبد السلام.
فانظر تصريحهم: أن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك، وإنما اختلفوا في كفره، وأن ابن حبيب وابن عبد السلام اختارا أنه يقتل كافراً. وقال الأذرعي في كتاب قوت المحتاج في شرح المنهاج: من ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر إجماعاً، وإن تركها كسلاً قتل حداً على الصحيح. والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة؛ فانظر كلامه في قتل من ترك الصلاة كسلاً، وأن الربيع روى عن الشافعي أن ماله يكون فيئاً، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وقال الشيخ أحمد بن الهيتمي: إن ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلاً مع اعتقاد وجوبها قتل، لآية: {فَإِنْ تَابُوا} [سورة التّوبة آية: 5 و11] ، وخبر "أمرت "؛ فانظر كلامه في قتل تارك الصلاة كسلاً، وأن الآية والحديث شرطان في الكف عن القتل. وقال في الإقناع وشرحه: من جحد وجوبها كفر؛ فإن تركها تهاوناً وتكاسلاً لا جحوداً يهدده، فإن(4/202)
أبى أن يصليها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله. فتأمل كلامه في ترك الصلاة من غير جحود أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً. انتهى كلامه ملخصاً.
وأجاب أيضاً: وأما تارك الصلاة مع إقراره بوجوبها، فاختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: يقتل حداً بعد ما يستتاب، وبعضهم يقول: يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً؛ وهذا هو الصواب الذي تدل عليه السنة، وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، بل قد نقل إسحاق بن راهويه الإجماع على أنه كافر. والدليل على كفره ما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " 1، وفي صحيح مسلم أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " 2.
وفي المسند أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة فقال: " من أتى بها كانت له نوراً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يأت بها لم تكن له نوراً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " 3، وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم " 4. وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [سورة مريم آية: 59] ، قال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفاراً.
__________
1 مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370, 3/389) , والدارمي: الصلاة (1233) .
2 الترمذي: الإيمان (2621) , والنسائي: الصلاة (463) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346, 5/355) .
3 أحمد (2/169) , والدارمي: الرقاق (2721) .
4 أحمد (6/421) .(4/203)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: المشهور في مذهب الإمام أحمد، أن من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً يكفر، ويقتل كفراً إذا دعي إليها فأصر؛ ومنها صلاة الجمعة، نصوا على أن من تركها تهاوناً وكسلاً ولو مرة واحدة أنه يكفر؛ ويوجد أناس في أطراف البلدان يتركونها مراراً، وهذا أمر عظيم وخطره كبير، وقد يكون الإنسان كافراً مرتداً بترك فريضة وهو لا يشعر.
فاحذروا، رحمكم الله، التهاون بمثل هذه الأمور الخطيرة، التي إذا وقعت من سفيه ضرت العامة إذا تركوه عليها. وأعظم الناس خطراً في مثل هذه الأمور: الأمراء والنواب، إذا تركوا القيام بما أوجب الله عليهم من القيام بأمر الله على الداني والقاصي، والقريب والبعيد، والعدو والصديق كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [سورة النساء آية: 135] ؛ وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق.(4/204)
باب الأذان
قال الشيخ حمد بن معمر، رحمه الله: قد صرح العلماء، رحمهم الله، أن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة يقاتَلون؛ قال الأجهوري في شرح المختصر في فضل الأذان: قال المازري: في الأذان معنيان: أحدهما: إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام؛ وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه إن عجزوا عن قهرهم على إقامته إلا بالقتال. والثاني: الدعاء للصلاة والإعلام بوقتها؛ وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع الأذان أغار، وإلا أمسك.
وقال ابن حجر الهيتمي في باب الأذان والإقامة: سنة، وقيل فرض كفاية، فيقاتل أهل بلد تركوهما، بحيث لم يظهر الشعار. وقال في الإقناع وشرحه: وإن تركوهما، أي: الأذان والإقامة، أهل بلد، قوتلوا، أي: قاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوهما، لأنهما من أعلام الدين الظاهرة، فيقاتَلون على تركهما كسلاً.
فتأمل كلامهم في أهل البلدان إذا تركوا الأذان والإقامة، أنهم يقاتَلون بمجرد ترك ذلك؛ فهذا كلام(4/205)
المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن أخذ الأجرة على الأذان؟
فأجاب: وأما أخذ الأجرة على الأذان، فقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه اتخذ مؤذناً، لا يأخذ على أذانه أجراً. انتهى.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: ذكر أن التكبير مناسب في الأذان، لأنه مشروع على الأمكنة العالية، كقوله: إذا هبطنا سبحنا، وإذا علونا كبرنا.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله بن محمد، رحمهما الله، عن عدد كلمات الأذان؟
فأجاب: الثابت أن الأذان خمس عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ فهذا هو الثابت أن رسول الله أمر بلالاً أن يؤذن به، كما ذكر ذلك أهل السنن والمسانيد. وأما "حي على خير العمل"، فليس بثابت، ولا عمل عليه عند أهل السنة.
وأجاب أيضاً: الذي يقول في الأذان: حي على خير(4/206)
العمل، ينكر عليه، ويعلم أن هذا من مبتدعات الرافضة، التي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيء، ولا عن أهل بيته، ولا عن أصحابه، رضي الله عنهم أجمعين. والذي يفعله عقب ما يعلم، يؤدب الأدب الذي يزجره وأمثاله.
سئل الشيخ علي بن الشيخ محمد: عن قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، وما الدليل على ذلك؟
فأجاب: دليله ما روى أهل السنن: قال: كان بلال إذا أذن أيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، ورفع بها صوته، قال ابن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في أذان الفجر؛ واتفق الأئمة الأربعة على استحباب ذلك.
وأجاب أيضاً: وما ذكرت من جهة مسألة التثويب في أذان الفجر، هل هو في الأول، أو في الثاني؟ وما الموجب لكونه عندنا في الثاني؟ على أن في سنن أبي داود ما يدل على كونه فى الأول، فإن الأمر عندنا في ذلك على السعة؛ فإذا جعله في الأول أو في الثاني، فالكل - إن شاء الله - حسن، ولكن الأحسن لمن أراد الاقتصار في التثويب على أحد الأذانين أن يكون في الأول، لما ذكرت من الحديث. وأحسن منهما التّثويب(4/207)
في الأذانين، جمعاً بين الأحاديث، وعملاً بظاهر إطلاقات الفقهاء. فأما ما يدل على أن التثويب في الأول: فالحديث الذي ذكرت في سنن أبي داود، دليل على ذلك، وفي رواية للنسائي: " الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، في أذان الأول من الصبح " 1.
قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: وهاتان الروايتان صريحتان في أن التثويب بالصلاة خير من النوم، مخصوص بالأذان الأول، دون الثاني، لأن الأذان الأول إنما شرع لإيقاظ النائم، كما في الحديث: "ليوقظ نائمكم " 2، وأما الثاني: فإنما هو للإعلام بدخول الوقت لمن أراد أن يصلي في أول الوقت، ولكون المصلين فيه غالباً قد استيقظوا بالأذان الأول، واستعدوا للصلاة بالوضوء وغيره. انتهى. ولكن قوله: إن الروايتين صريحتان في التخصيص بالأول، ليس كذلك، بل ظاهرتان.
وأما ما يدل على أنه في الثاني، فقال ابن ماجة في سننه: حدثنا عمر بن رافع، حدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن بلال: " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر، فقيل هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، فأقرت في تأذين الفجر، فثبت الأمر على ذلك " 3، صحيح الإسناد، وفيه انقطاع؛ ووجه الاستدلال به على أنه في الثاني: أن بلالاً إنما كان يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة بعد طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر جاءه بلال فآذنه بالصلاة، لا يقال إن هذه في أذان بلال، وبلال إنما كان يؤذن قبل الفجر،
__________
1 أبو داود: الصلاة (500) , وأحمد (3/408) .
2 مسلم: الصيام (1093) , والنسائي: الأذان (641) .
3 ابن ماجة: الأذان والسنة فيه (716) .(4/208)
كما في الصحيح: " إن بلالاً يؤذن بليل " 1، لأن ذلك في بعض الأوقات لا في كل السنة؛ يدل على ذلك ما روى سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا أبو عوانة عن عمران بن مسلم قال: "قال سويد بن غفلة: اذهب إلى مؤذننا رباح، فمره أن لا يثوب إلا في صلاة الفجر بعد الفجر، إذا فرغ من أذان الفجر فليقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، وليقل في آخر أذانه وإقامته: لا إله إلا الله والله أكبر، هذا أذان بلال "، فهذا مرسل يدل على أن بلالاً يؤذن بعد الفجر، وأنه يثوب في أذانه. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤذن حتى يرى الفجر هكذا، ومد يديه " 2، حدثنا أبو خالد عن حجاج عن طلحة عن سويد عن بلال قال: "كان لا يؤذن حتى ينشق الفجر "؛ فهذا يدل على أن بلالاً يؤذن بعض الأوقات بعد طلوع الفجر بلا ريب، وأيضاً: فإنه كان يسافر ويغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لا يوجد ابن أم مكتوم، وكان هو المؤذن، فلا بد من أذانه بعد طلوع الفجر.
وقد ثبت أنه كان يقولها في أذانه، فتعين عدم الإنكار على من جعلها في الأول، أو الثاني؛ أما الأول: فلأن ظاهر حديث أبي محذورة يدل
__________
1 البخاري: الأذان (617) , ومسلم: الصيام (1092) , والترمذي: الصلاة (203) , والنسائي: الأذان (637, 638) , وأحمد (2/9, 2/57) , ومالك: النداء للصلاة (163) , والدارمي: الصلاة (1190) .
2 أبو داود: الصلاة (534) .(4/209)
عليه، وأما الثاني: فلما ذكرنا من الآثار وغيرها أيضاً؛ فلا يجوز الإنكار لأنها مسألة اجتهاد، وأما كون جعلها في الأول أحسن لمن أراد الاقتصار، فلأن الحديث فيه دلالة أظهر من كونها في الثاني، وأما كون الجمع بينهما أحسن فلأن فيه جمعاً بين هذه الآثار، وعملاً بإطلاقات الفقهاء؛ فإن الفقهاء من الحنابلة قالوا: ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم، فظاهره أنه يقوله في الأذانين، لأن كليهما أذان الصبح. وقال النواوي من الشافعية في شرح المهذب: ظاهر إطلاق الأصحاب أنه لا فرق بين الأول والثاني، وصرح بتصحيحه في التحقيق. وقال الأسنوي مثله أيضاً؛ ففي هذا العمل بالأحاديث جميعاً، والله أعلم.
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: عن ألفاظ الأذان، هل ورد من طريق مقبول: حي على خير العمل؟
فأجاب: لم نقف على شيء من ذلك، بل الذي ثبت في الصحاح والمساند والسنن: أذان بلال، المشهور عند الناس اليوم، وأذان أبي محذورة، وفيه زيادة على أذان بلال، وليس في لفظ الأذانين شيء من ذلك فيما وقفنا عليه. ولو فرض أنه ورد في حديث ضعيف، لم يجز أن يترك الحديث المشهور، أو يزاد فيه شيء لم يصح عند أهل الحديث ونقاده، كالبخاري، ومسلم، وأهل السنن، والله أعلم.(4/210)
قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: فمن البدع المذمومة التي ننهى عنها: رفع الصوت في مواضع الأذان بغير الأذان، سواء كان آيات أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكرا أو غير ذلك بعد أذان، أو في ليلة جمعة، أو رمضان أو العيدين؛ فكل ذلك بدعة مذمومة. وقد أبطلنا ما كان مألوفا بمكة من التذكير والترحيم ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري عن النداء بـ"جاءت الراجفة"؟
فأجاب: يكتفى بالأذان، لأن النداء بقول: "جاءت الراجفة" ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم أحداً فعله، لا من الصحابة ولا من غيرهم؛ فالله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شق صلى الله عليه وسلم الجريدة بين قبرين، فلما لم يفعله أحد من الصحابة حملناه على الخصوصية، ومسألة النداء بـ"جاءت الراجفة" تشبه ذلك، فإن نقل عن أحد من الصحابة فهي سنة بلا شك، وإلا فالأولى ترك ذلك. وأما انتياب المكان المرتفع للنداء بها، فلم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، لأنه ليس يؤذن للصلاة بنفسه، بل كان مؤذنه بلالاً، وابن أم مكتوم.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن الأذان إلى غير القبلة؟
فأجاب: قال في الشرح: قال ابن المنذر: أجمع أهل(4/211)
العلم على أن من السنة أن يستقبل القبلة في الأذان. وكره طائفة من أهل العلم الكلام في الأذان، وقال الأوزاعي: لا نعلم أحداً يقتدى به فعله، ورخص فيه سليمان بن صرد، وغيره. قيل لأحمد: الرجل يتكلم في أذانه؟ قال: نعم، قال: في الإقامة؟ قال: لا. وعن الأوزاعي: إذا تكلم في الإقامة أعادها؛ وأكثر أهل العلم أنها تجزئ، قياساً على الأذان. انتهى. فظهر: أن استقبال القبلة في الأذان سنة، وأن تركه لا يبطله، وأن الكلام في الأذان والإقامة مكروه، وأن فعل المكروه لا يبطلها.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الأذان قبل الوقت في غير الفجر؟
فأجاب: أما الأذان قبل الوقت فلا يجزئ، بل يعاد في الوقت.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الإمام إذا لم يسمع الإقامة، هل تجزئ؟
فأجاب: إن كان أمر المقيم ولا سمعها فقد أجزأت، وإن كان بغير أمره ولا سمعها فتعاد.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عمن إذا سمع النداء قام ... إلخ؟
فأجاب: قال في الإقناع: يستحب أن لا يقوم إذا أخذ المؤذن في الأذان، بل يصبر قليلاً لأن في التحرك عند النداء(4/212)
تشبهاً بالشيطان، فلعل مراده قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا نودي بالصلاة، أدبر وله ضراط حتى لا يسمع التأذين " 1، رواه البخاري ومسلم.
وسئل: إذا سمع النداء وهو يقرأ القرآن، أو يسبح، هل يقطع ويجيب أم لا؟
فأجاب: قال في الأذكار إذا كان يقرأ القرآن، أو يسبح أو يقرأ حديثاً، أو علماً آخر، أو غيره، فإنه يقطع جميع هذه ويجيب المؤذن، ثم يعود إلى ما كان فيه، وحيث لم يتابعه حتى فرغ المؤذن، يستحب أن يتدارك المتابعة ما لم يطل الفصل. وقال في الإقناع: فيقطع التلاوة ويجيب لأنه يفوت والقراءة لا تفوت. انتهى. فظهر أن المختار قطع القراءة، ومتابعة المؤذن، وأنه إذا لم يتابعه يتدارك بالقضاء إن لم يطل الفصل.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن مجيب المؤذن هل يجوز له الكلام بين كلمات الإجابة أو يكره؟
فأجاب: لم أر في ذلك كلاماً لأحد، والظاهر عدم الكراهة، مع أن الأولى عندي أن لا يشوبه بغيره من الكلام، بخلاف تالي القرآن، فالذي أرى كراهة الإجابة بين الكلمات أو الآيات، فلا يدخل بين أبعاضه ذكراً غير متعلق بالقراءة، كسؤال عند آية رحمة واستعاذة عند آية عذاب، يدل لذلك
__________
1 البخاري: الأذان (608) والجمعة (1222 ,1231) وبدء الخلق (3285) , ومسلم: الصلاة (389) , والنسائي: الأذان (670) والسهو (1253) , وأبو داود: الصلاة (516) , وأحمد (2/313, 2/460, 2/531) , ومالك: النداء للصلاة (154) , والدارمي: الصلاة (1204, 1494) .(4/213)
قول من قال من العلماء: إن القارئ إذا سمع الأذان يقدم إجابة المؤذن على القراءة، لأن ذلك يفوت، والقراءة لا تفوت، ولم يقولوا يجمع بينهما.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: ما يقول إذا سمع المؤذن؟
فأجاب: قال في الشرح: يستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول، إلا في الحيعلة فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ وهذا مستحب لا نعلم فيه خلافاً، ثم يقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته " 1، رواه البخاري. انتهى.
وقال بعض العلماء: كذلك عند الإقامة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عمن يمر بالمسجد بعد الأذان ... إلخ؟
فأجاب: الذي يمر بالمسجد بعد الأذان فلا يتعداه حتى يصلي، إلا أن يكون في طريقه مسجد آخر يصلي فيه فهذا لا بأس به، إلا أن يكون قد دخل المسجد بعد الأذان، فلا يخرج منه حتى يصلي فيه.
__________
1 البخاري: الأذان (614) , والترمذي: الصلاة (211) , والنسائي: الأذان (680) , وأبو داود: الصلاة (529) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (722) , وأحمد (3/354) .(4/214)
باب شروط الصلاة
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
شروط الصلاة تسعة: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية.
الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر؛ والكافر عمله مردود ولو عمل أي عمل، والدليل: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] ، وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] .
الثاني: العقل، وضده الجنون؛ والمجنون مرفوع عنه القلم حتى يفيق، والدليل: الحديث: " رُفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ ".
الثالث: التمييز، وضده الصغر، وحدّه سبع سنين؛ ثم يؤمر بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع " 1.
__________
1 أبو داود: الصلاة (495) , وأحمد (2/180, 2/187) .(4/215)
وقال: الشرط السابع: دخول الوقت، والدليل من السنة: حديث جبريل عليه السلام، أنه أم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت، وفي آخره، ثم قال: يا محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين، والدليل: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103] ، أي: مفروضاً في الأوقات. ودليل الأوقات: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء آية: 78] .
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن أوقات الصلوات الخمس؟
فأجاب: وقت صلاة الصبح: إذا طلع الفجر المعترض الأبيض، وآخره: عند طلوع الشمس. والظهر: إذا زالت الشمس، وآخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثله من غير ظل الزوال. ووقت صلاة العصر: من خروج وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله مرتين. والمغرب: إذا غربت الشمس. والعشاء: إذا غاب الشفق، وآخره: ثلث الليل.
وأجاب أيضاً: وأما الصلاة فوقت النهار لا أعرف ضبطه بالأقدام، لأن الأقدام تختلف اختلافاً كثيراً مع تغير الفصول. والموجود في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أن وقت الظهر: إذا زالت الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. ووقت العصر: بعد ذلك إلى(4/216)
أن يصير ظل كل شيء مثليه؛ ويعرف ذلك في جميع الأيام بأن ينصب عوداً في مكان مستو، فما دام ظل العود ينقص فالشمس لم تزل حتى يزيد، فإذا زاد فقد زال الظل.
سئل بعضهم: عن المواقيت، وحديث جبريل، وكلام أهل العلم فيهما، فإن الحاجة داعية إلى ذلك؟
فأجاب: الأصل في المواقيت، الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: قال الله سبحانه وتعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [سورة الروم آية: 17-18] ، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: أراد بـ: {حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء، و {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الصبح، {وَعَشِيّاً} صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر.
وأما السنة: عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " جاءه جبريل، فقال له: قم فصلّه، فصلى الظهر حين زالت الشمس. ثم جاءه العصر فقال: قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله. ثم جاءه المغرب فقال: قم فصلّه، فصلى المغرب حين وجبت الشمس. ثم جاءه العشاء فقال: قم فصلّه، فصلى العشاء حين غاب الشفق. ثم جاءه الفجر فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر حين برق الفجر، أو قال سطع الفجر.(4/217)
ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم فصلّه، فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله. ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه. ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يزل عنه. ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال ثلث الليل فصلى العشاء. ثم جاءه: حين أسفر جداً، فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر. ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت " 1، رواه أحمد والنسائي، والترمذي بنحوه، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت.
فتأمل أيها المسترشد: ما في هذا الحديث من البيان لمواقيت الصلاة، فإنه صرح لكل صلاة ثلاثة أحوال: أول، وأوسط، وآخر. فالأول للفضيلة، والأوسط هو المختار، والآخر للجواز، إلا المغرب فإن وقته واحد. فأما أول وقت الظهر: فإنه في أول زوال الشمس إلى جهة المغرب، ويمتد وقتها إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. فإذا زال الظل عن ذلك ولو قدر عرض إصبع، دخل وقت العصر، وامتد إلى غروب الشمس. وهكذا سائر الأوقات بين الوقتين حاجز، إلا الفجر والظهر؛ لكن مما ينبغي معرفة الظل، الذي به دخول الوقت، أنه ظل الزوال الزائد على الظل الذي قبله، فإن الله سبحانه وتعالى جعل في السماء بروجاً، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [سورة البروج آية: 1] ، وقد ذكرها أهل التفسير أنها اثنا عشر
__________
1 أحمد (3/330) .(4/218)
برجاً، والشمس تنْزل في كل برج أياماً معلومة عند أهل المعرفة.
الحمل تنزله 31 يوماً، والثور تنْزله 31 يوماً، والجوزاء 31 يوماً، والسرطان 31 يوماً، والأسد 31 يوماً، والسنبلة 31 يوماً، والميزان 31 يوماً، والعقرب 31 يوماً، والقوس 29 يوماً، والجدي 29 يوماً، والدلو 30 يوماً، والحوت 30 يوماً، وفي كل برج للظل حكم غير حكم الأول.
فالظل الذي قبل الزوال يزيد وينقص بحسب منْزلة الشمس في هذه البروج؛ فإذا كانت الشمس في برج السرطان - وهو أول بروج فصل الصيف - فينتهي علوها الشاخص لا ظل له، ولو يزيد ظله عرض إصبع دخل وقت الظهر.
وإذا كانت الشمس في برج الجدي - وهو أول بروج فصل الشتاء - فالظل حينئذ ثمانية أقدام، وإذا زاد ولو شيئاً يسيراً دخل وقت الظهر، والشمس في منتهى الانحطاط.
والحاصل: أن أول وقت الظهر: زوال الشمس، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثله، غير الظل الذي قبل الزوال. وأول وقت العصر: إذا زاد الظل عن مثله ولو شيئاً يسيراً غير الظل الذي قبل الزوال؛ وإنما يعرف هذا من له اعتناء بأقوال العلماء المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه.(4/219)
قال صاحب تحفة الحبيب: إذا أردت معرفة الزوال، فاعتبرها بقامتك، أو شاخص تقيمه في أرض مستوية، وعلم على رأس الظل، فما زال الظل ينقص من الخط، فهو قبل الزوال، وإن أخذ الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت. قال العلماء: وقامة كل إنسان ستة أقدام ونصف، والله أعلم.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: تجب معرفة أوقات الصلاة، لأنها من شروطها؛ قال في الإفصاح: اختلفوا في وقت وجوب الصلاة: فقال مالك، والشافعي، وأحمد: تجب بأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وأنه لا يجوز أن يصلي قبل الزوال. انتهى. وقال الموفق في الكافي: الأولى: الظهر، لما روى أبو برزة قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، يعني تزول " 1، متفق عليه. وأول وقتها: إذا زالت الشمس، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثله، بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمني جبرئيل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين " 2، رواه أبو داود والترمذي وحسنه؛ ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد تناهي قصره.
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (547) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (647) , والنسائي: المواقيت (530) , وابن ماجة: الصلاة (674) , والدارمي: الصلاة (1300) .
2 الترمذي: الصلاة (149) , وأبو داود: الصلاة (393) , وأحمد (1/333) .(4/220)
وقال الشارح - يعني صاحب الشرح الكبير على المقنع -: والظهر هي الأولى، ووقتها: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، بعد الذي زالت عليه الشمس؛ ومعنى زوال الشمس: ميلها عن وسط السماء، وإنما يعرف ذلك بطول الظل بعد تناهي قصره، لأن الشمس حين تطلع يكون الظل طويلاً، وكلما ارتفعت الشمس قصر الظل، فإذا مالت عن كبد السماء شرع في الطول، فذلك علامة زوال الشمس؛ فمن أراد معرفة ذلك فليقدر ظل شيء، ثم ليصبر قليلاً ثم يقدر ثانيا، فإن نقص لم يتحقق، وإن زاد فقد زالت الشمس، وكذلك إن لم ينقص، لأن الظل لا يقف فيكون قد نقص. وتعجيلها في غير شدة الحر والغيم أفضل، بغير خلاف علمناه؛ ويستحب تأخيرها في شدة الحر، قال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر، وأن يكون في البلاد الحارة، ومساجد الجماعات. فأما صلاة الجمعة فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخرها، بل كان يعجلها. ثم العصر وهي الوسطى، وأول وقتها: من خروج وقت الظهر، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى ظل الزوال. انتهى. وهو قول مالك، والشافعي; وعنه: ما لم تصفر الشمس.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها لوقتها، وتعجيلها أفضل بكل حال. انتهى. وقال في الكافي: تعجيلها أفضل بكل حال، لقول(4/221)
أبي برزة في حديثه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية "، متفق عليه 1.
وقد نظم بعض العلماء معرفة وقت الظهر والعصر، فقال:
أيا سائلي عن زائد الظل والقصر ... وظل زوال هاك وصفاً على العصرِ
فخذ أنت عوداً ذا اعتدال وطوله ... كشبر وإن زاد القياس على الشبرِ
ومن بعد فانصبه بأرض سوية ... لتعلم كون الظل في دائم الدهرِ
فما زال في نقص فزده بنقصه ... إلى أن تراه واقفاً زائد القدر
فأول وقت للزوال زيادة ... وحين زوال الشمس من أول الظهر
وكن عارفاً للظل كم قد مضى له ... لتعلم تحقيق الصواب من القدر
وصف سبعة الأقدام فوق الذي مضى ... فذلك حقاً أول الوقت للعصر
وقال في الإقناع: طول ظل كل إنسان سبعة أقدام بقدم نفسه تقريباً، إلا ثلث قدم. انتهى. فقد عرفت، رحمك الله، مما مر أن أول وقت الظهر: الزوال بالإجماع، وأن الزوال يعرف بطول الظل بعد تناهي قصره، وأن آخره: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وأن تعجيلها أفضل بكل حال إلا ما استثني، وأن أول وقت العصر: من حين خروج وقت الظهر، وأن تعجيلها أفضل بكل حال.
__________
1 البخاري: مواقيت الصلاة (547, 599) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (647) , والنسائي: المواقيت (530) , وأحمد (4/420, 4/425) , والدارمي: الصلاة (1300) .(4/222)
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الشفق هل هو الحمرة الساطعة؟
فأجاب: وما ذكرت من حال غلط بعض الناس في معرفة الشفق، فعلى ما ذكرت، يسمعون أن الشفق الحمرة، ويظنونه حمرة ساطعة؛ وإنما هو بياض تخالطه حمرة، ثم تذهب ويبقى بياض خالص، والذي بينهما زمن قليل؛ ولهذا قال في المغني: يستدل بغيبة البياض على مغيب الحمرة، فيعتبر غيبة البياض، لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن صلاة النساء بعد الزوال قبل الأذان؟
فأجاب: وأما صلاة النساء بعد الزوال قبل الأذان، فدخول الوقت شرط في صحة الصلاة، فإذا حصل شرطها صحت لا سيما في حق النساء، لأنهن لا تجب عليهن الجماعة. وأما قولك عن بعض العامة: ما لهن صلاة إلا بعد فراغ الرجال من صلاتهم، فلا أصل لذلك.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم في آخر الوقت؟
فأجاب: تجب عليها الصلاة إذا طهرت، وإذا رأت الطهر قبل غروب الشمس فعليها أن تغتسل وتصلي إذا أمكنها(4/223)
قبل الغروب، وتصلي الظهر والعصر. وكذلك إذا رأت الطهر قبل طلوع الفجر فتغتسل وتصلي المغرب والعشاء، وإذا رأت الطهر قبل طلوع الشمس فتغتسل وتصلي الفجر.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قضاء الفوائت بالتيمم ... إلخ؟
فأجاب: أما المجدور الذي عليه صلوات فائتة، هل يقضيها إذا قدر بالتيمم؟ فالأمر كذلك يلزمه القضاء بالتيمم، والقضاء واجب على الفور، ويتيمم، ويقضي الفوائت ولا يؤخرها حتى يقدر على الماء، لأن الواجب لا يؤخر عن وقته. وأما قولك: هل يصلي كل وقت مع وقته؟ فليس الأمر كذلك، بل ذكروا أنه يجب عليه القضاء متتابعاً إلا أن يضر به ذلك بحيث لا يقدر، فيقضيها بحسب الاستطاعة، في وقتين، أو ثلاثة، أو يومين، أو ثلاثة؛ وعبارتهم: ومن فاتته صلوات لزمه قضاؤها على الفور مرتباً، ما لم يتضرر بذلك في بدنه، أو يشتغل به عن معيشة هو محتاج إليها.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما قضاء الفوائت، فالمشهور وجوب القضاء على الفور مرتباً، قَلَّتِ الفوائت أو كثرت. وإذا صلى الحاضرة قبل الفائتة، فإن كان ناسياً للفائتة سقط الترتيب، ويصلي الفائتة ولا يقضي الحاضرة، لأن الترتيب يسقط بالنسيان. انتهى.(4/224)
وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن صلى محدثاً، أو صلى صلاة فاسدة ثم صلى بعدها صلوات صحيحة قبل أن يقضي تلك الصلاة الفاسدة، ما حكم الترتيب؟
فأجاب: هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان لم يذكر الصلاة الفاسدة إلا بعد فراغه من الصلاة فليس عليه ترتيب، لأن الترتيب يسقط بالنسيان، قَلَّتِ الصلوات أو كثرت، لقوله عليه السلام: " عفي لأمتي الخطأ والنسيان " 1. وإن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، كما لو ذكر أن عليه صلاة الظهر وقد شرع في صلاة العصر، فإنه يتم العصر؛ ثم هل يجب عليه إعادة العصر، فيه قولان للعلماء، والأحوط: الإعادة كما هو المشهور عن أحمد، لأنه عليه السلام عام الأحزاب " صلى المغرب، فلما فرغ قال: هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ قالوا: يا رسول الله ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب " 2، رواه أحمد.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن صلى ناسياً حدثه ... إلخ؟
فأجاب: من صلى صلاة ناسياً حدثه بالصلوات الخمس، ولم يذكر إلا بعد ما صلى الظهر، فإنه يعيد الفجر فقط؛ قال في الفروع لما ذكر أن الترتيب يسقط بالنسيان على
__________
1 ابن ماجة: الطلاق (2045) .
2 أحمد (4/106) .(4/225)
الأصح، قال: وقال أبو المعالي وغيره: تبين بطلان الصلاة الماضية كالنسيان، ولما ذكر أيضاً أن المذهب عدم سقوط الترتيب بالجهل بالوجوب، قال: فلو صلى الظهر، ثم الفجر جاهلاً، ثم العصر في وقتها، صحت عصره لاعتقاده ألا صلاة عليه، كمن صلاها ثم تبين له أنه صلى الظهر بلا وضوء أعاد الظهر، والله أعلم.
وجدت بخط الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله، وعليه ختمه ما نصه: ذكر ابن عقيل فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين: إحداهما: يسقط الترتيب، لأنه اجتمع واجبان لا بد من تفويت أحدهما، فكان مخيراً فيهما. والثانية: لا يسقط؛ قال شيخنا: وهذه الرواية أحسن وأصح، إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن القضاء وقت النهي؟
فأجاب: من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، ولو في وقت النهي، للحديث.(4/226)
فصل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط السادس: ستر العورة، أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو يقدر؛ وَحَدُّ عورة الرجل: من السرة إلى الركبة، والأَمَة كذلك، والحرة كلها عورة إلا وجهها، والدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 31] ، أي: عند كل صلاة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يصلي مكشوف الرأس ... إلخ؟
فأجاب: الذي يصلي وهو مكشوف الرأس، فلا أرى عليه بأساً؛ وستر الرأس في الصلاة ليس بواجب، لأن الرأس ليس بعورة في حق الرجل، وإنما هو عورة في حق المرأة. فإذا عرفت أن الذي يصلي ورأسه مكشوف أن صلاته جائزة، فالذي يصلي وعلى رأسه قلنسوة أولى وأحرى.
وسئل: عن المجدور هل يصلي في سلبه؟
فأجاب: المجدور إذا كان في أسلابه نجاسة لزمه أن يصلي في غيرها، فإن عجز عن غيرها بحيث أنه لم يكن له(4/227)
إلا سلب واحد، ولا يقدر على غيره والذي عليه لا يقدر على أن يحفظه عن النجاسة، فإنه يصلي فيه ولا يصلي عرياناً. ولكن كثيرا من الناس يتساهل في هذا: فتجد من يقدر أن ينْزع سلبه ويصلي في غيره لا يفعل ذلك، وهذا أمر كبير؛ بل تجد من الناس من يقدر على الوضوء والغسل من الجنابة، ولا يغتسل ولا يتوضأ، ويعدل إلى التيمم بلا مشقة. ومنهم من يصلي قاعداً مع قدرته على القيام. وكل هذه أمور خطرة على العوام؛ فينبغي لطالب العلم أن يفطنهم لما يجب عليهم من هذا، ويبين لهم حالة العذر التي تباح فيها الرخصة.
وأجاب أيضاً: إن كانت النجاسة في ثيابه، وقدر على خلعها ويلبس ثياباً طاهرة، وجب عليه ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1، فإن لم يقدر على خلعها صلى فيها، ولا إعادة عليه في أصح القولين.
وأجاب بعضهم: وأما مسألة من حضرته الصلاة وليس عنده إلا ثوب نجس أو ثوب حرير، فقال في الشرح: ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة. قال الشافعي: يصلي عرياناً؛ والمفتى به الأول.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما إذا صلى إنسان في ثوب نجس، لكونه لا يجد غيره، أو على بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها، فهذا يصلي على حسب حاله؛ وهل يجب عليه
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/258, 2/428) .(4/228)
إعادة أم لا؟ فقد حكوا فيمن لم يجد إلا ثوباً نجساً، وصلى فيه، هل عليه إعادة؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنه يعيد.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا بلغت هل تصلي بغير خمار؟
فأجاب: من بلغت - يعني حاضت - فلا تجزيها الصلاة إلا بخمار.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن صلى وعلى رأسه عمامة حرير؟
فأجاب: المشهور في مذهب الحنابلة صحة الصلاة - بخلاف ما إذا ستر عورته بحرير فإنها لا تصح -، وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل تصح الصلاة في النعل؟
فأجاب: وأما الصلاة في النعل فجائزة إذا لم يكن فيها نجاسة.(4/229)
فصل
قال الشيخ حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر، رحمهم الله: علامة القزية مغفول عنها مدة طويلة، وسبب الغفلة عدم استحضارنا أنها حرير، وأنها مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تبين لنا أنها حرير، ونبيكم صلى الله عليه وسلم أخبر أن لبس الحرير حرام على الرجال، وأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ولم يرخص إلا في موضع أصبعين أو ثلاث، أو أربع؛ هذا ثابت في أحاديث صحيحة ليس لها معارض.
ففي الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة " 1، رواه البخاري ومسلم. وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها " 2، قال الترمذي: حديث صحيح، وفي البخاري عن حذيفة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه " 3، وفي الصحيحين أيضاً عن عمر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
__________
1 البخاري: اللباس (5832) , ومسلم: اللباس والزينة (2073) , وابن ماجة: اللباس (3588) , وأحمد (3/101, 3/281) .
2 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) , وأحمد (4/392) .
3 البخاري: اللباس (5837) , وأحمد (5/398, 5/400, 5/408) , والدارمي: الأشربة (2130) .(4/230)
لبس الحرير إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما " 1، وفي صحيح مسلم عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين" أو ثلاث أو أربع 2.
فهذه أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن لبس الحرير، إلا في هذا القدر اليسير، وهو موضع إصبعين، وفي الحديث الذي عند مسلم: " أو ثلاث أو أربع "، وما زاد على ذلك فلا يباح 3. ويكون عندكم معلوماً: أنا طالعنا كتب الحديث وشروحها، وكلام السلف والأئمة، فوجدنا كلامهم على ما ذكرنا.
ونص الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، على أن علم الحرير لا تجوز الزيادة فيه على أربع أصابع مضمومة، وأما: ما زاد على أربع الأصابع فلا يباح؛ وكذلك سناجيف الجوخة، وسناجيف القباء وأمثاله، والكلاه والطربوش، كل هذا حكمه حكم العلم، لا تجوز الزيادة فيه على أربع أصابع، فمن زاد على هذا القدر الذي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أساء وتعدى وظلم.
ويكون عندكم معلوما أيضاً: أن علامة القطنية مثل القزية ما يزاد فيها على قدر أربع أصابع، لأن الحكم عند أكثر أهل العلم على ما ظهر من الحرير؛ فإن كان الظاهر الحرير والسدى قطن، فهو عندهم مثل الحرير الخالص، لأنهم يعتبرون الظهور ولا يعتبرون الوزن، ومن اعتبر الوزن فقد خالف ظواهر الأدلة. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى
__________
1 البخاري: اللباس (5829) , ومسلم: اللباس والزينة (2069) , وأبو داود: اللباس (4042) , وأحمد (1/15, 1/43, 1/50, 1/51) .
2 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5313) , وأحمد (1/51) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5313) , وأحمد (1/51) .(4/231)
عن حلة السيراء، ونهى عن القسي " 1 وهو ثياب مضلعة بالحرير فنهى عنها، ولم يعتبر الوزن بل جعل الحكم للظهور. فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، وطاعة رسوله فيما أمر به، وفيما نهى عنه؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7] ، ولا يعارض بقول أحد من الناس أو فعله. ومن أشد ما يكون خطراً على الإنسان مثل أن يقول: علامة القطنية متقدم حدوثها ولبسها فلان ولبسها فلان؛ وهذا أمر عظيم وخطره خطر كبير، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 15] .
والواجب على من سمع حكم الرسول صلى الله عليه وسلم: المبادرة إلى طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر؛ فلا يحل أن يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام أحد ولا فعله، وكل أحد ولو كان من أعلم الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس، رضي الله عنهما، للذي عارض الحديث بقول أبي بكر وعمر: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، أتدري ما
__________
1 مسلم: اللباس والزينة (2078) , والترمذي: الصلاة (264) واللباس (1725, 1737, 1786) , والنسائي: التطبيق (1040, 1042) والزينة (5169, 5170, 5172, 5173 5183, 5270, 5271) , وأبو داود: اللباس (4044) , وأحمد (1/119) , ومالك: النداء للصلاة (177) .(4/232)
الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فالواجب على الإنسان: حفظ لسانه عما يهلكه وهو لا يدري، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوى بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " 1. وأما من كان عنده علم عن الله، أو عن رسوله في هذه المسألة، أو في غيرها، فيعرضه علينا ونقبله، ونرجع إلى الحق؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ونسأل الله العظيم: أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم.
ثم كتب الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى الإخوان: هذا كتاب آل الشيخ، تشرفون على ما فيه من الأدلة التي لا تنكر في مسألة العلامة التي تجعل في العبي وغيرها من الحرير، فيكون عندكم معلوماً أن إخوانكم من أهل الدرعية، عملوا على ما في الورقة، فأنتم اعملوا على مثل ما عملوا؛ ومن وجد دليلاً يخالف ما فيها، فالحق مقبول متبوع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وأجاب أيضاً: الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: أما لبس الحرير فذكر العلماء: أنه يباح لبسه وقت الملاقاة للعدو، كما يباح للتبختر في المشي عند ملاقاة العدو، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يتبختر بين
__________
1 سنن ابن ماجة: كتاب الفتن (3970) .(4/233)
الصفين، فقال: "إن هذه المشية يبغضها الله، إلا في هذا الموضع " 1.
وسئل: عن علامة القطنية؟
فأجاب: وما سألت عنه من علامة القطنية، فإذا غطيت بخرقة أو صوف وخيطت عليها من داخل العباءة ومن ظاهرها، فلا بأس، لأنها تصير حشواً.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: الأحاديث النبوية والآثار السلفية قد تواترت بتحريم الحرير على ذكور الأمة، فمنها ما أخرجه: الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي? وحرم على ذكورها " 2. ولأبي داود والنسائي وابن ماجة، عن علي رضي الله عنه قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي " 3، زاد ابن ماجة: "حل لإناثهم ". وللبخاري ومسلم والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " 4. ولأحمد والنسائي، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله " 5. وللبخاري ومسلم وأهل السنن، عن عمر بن الخطاب
__________
1 صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3463) وكتاب المغازي (4418) وكتاب تفسير القرآن (4644, 4661) , وصحيح مسلم: كتاب التوبة (2769) , وسنن الترمذي: كتاب الجنائز (966, 1018) وكتاب صفة جهنم (2583) وكتاب الأدب (2787, 2791) وكتاب تفسير القرآن (3256) وكتاب الدعوات (3507, 3574) وكتاب المناقب (3803) , وسنن النسائي: كتاب الطلاق (3475) وكتاب البيوع (4587) , وسنن أبي داود: كتاب الملاحم (4325) , ومسند أحمد (3/292, 3/456, 4/280) .
2 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) .
3 النسائي: الزينة (5144) , وأبو داود: اللباس (4057) , وابن ماجة: اللباس (3595) .
4 البخاري: الأطعمة (5426) , ومسلم: اللباس والزينة (2067) , والترمذي: الأشربة (1878) , والنسائي: الزينة (5301) , وأبو داود: الأشربة (3723) , وأحمد (5/385, 5/390) , والدارمي: الأشربة (2130) .
5 أحمد (5/267) .(4/234)
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له " 1، زاد البخاري وابن ماجة والنسائي في رواية: " في الآخرة "، والخلاق: النصيب، وقيل: الحظ، أي: لا نصيب له ولا حظ له في الآخرة. وللإمام أحمد والنسائي، عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب وسائر النمور " 2. وللدارمي والطيالسي عن أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بدأ هذا الأمر بنبوة ورحمة، وكائن خلافة ورحمة، وكائن ملكاً عضوضاً، وكائن عتواً وجبرية وفساداً في الأمة، يستحلون الفروج والخمور والحرير، ويرزقون مع ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل "، قال الحافظ السخاوي، رحمه الله: حديث حسن. فهذه الأحاديث، منها ما هو صريح في التحريم، ومنها ما هو ظاهر فيه؛ وما لم أذكره من الأحاديث أضعاف ما ذكرت.
وقد أجمع العلماء، رحمهم الله: على تحريم الحرير على الرجال سلفاً وخلفاً، وذكر عن ابن الزبير رضي الله عنه تحريمه على الرجال والنساء، وحكى غير واحد من العلماء بعد ابن الزبير رضي الله عنه الإجماع على تحريمه على الرجال دون النساء. قال أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على تحريم الحرير، يعني على الرجال. وسيأتي في حديث عمر، ما يبين تحريمه إلا ما استثني؛ وأَحْسَنَ من
__________
1 البخاري: الأدب (6081) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/20) , ومالك: الجامع (1705) .
2 النسائي: الفرع والعتيرة (4254) .(4/235)
قال من العلماء، رحمهم الله: إذا لم تفد هذه الأحاديث التحريم، فما في الدنيا محرم.
وخرج الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه " أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس أو ديباج - قبل أن ينهى عن الحرير - فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها " 1، وهذا الحديث صريح بأن الحرير قد أبيح أولاً ثم نهي عنه. وأخرج الإمام أحمد من حديث مبارك بن فضالة بن عبيد، عن الحسن البصري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة " 2؛ قال الحسن، رحمه الله: "فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم، فيجعلون الحرير في ثيابهم وبيوتهم ". والأحاديث الواردة في تحريم الحرير والوعيد فيه أكثر من أن يتسع لها هذا المختصر، وكفى بهذه الأحاديث زاجراً لمن نهى النفس عن الهوى.
قال في شرح المنتقى: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، بالظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها؛ ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، وسواء وجد ذلك القدر مجتمعاً
__________
1 أحمد (3/234) .
2 أحمد (2/329) .(4/236)
كما في القطعة الخالصة، أو مفرقاً كما في الثوب المشوب. انتهى. وهذا الذي ذكره هو التحقيق، وعليه تجتمع الأحاديث الصحيحة الصريحة؛ فيجب الانقياد لها والتسليم، وتقديمها على كل رأي، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] . وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] .
وهذا السراج المنير الذي بعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لما شرع لأمته اجتناب الحرير وحرمه على ذكورها، بين لنا مقدار ما يحل منه فيما صح عنه؛ فروى البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة، قال: سمعت أبا عثمان النهدي يقول: أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام " 1، قال: فيما علمنا، إنه يعني الأعلام، ورواه من طريق الزهري عن عاصم.
قال الحافظ، رحمه الله: ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيح، إلا ذكر الأصبعين، لكن وقع عند أبي داود في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن الحرير، إلا هكذا
__________
1 البخاري: اللباس (5828) , ومسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5312) , وأبو داود: اللباس (4042) , وأحمد (1/15, 1/43) .(4/237)
وهكذا: أصبعين أو ثلاثاً أو أربعاً " 1. ولمسلم من طريق سويد بن غفلة - بضم المعجمة والفاء - أن عمر رضي الله عنه خطب فقال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع " 2. وهذا الذي دلت عليه الأحاديث هو المقرر في كتب الأحكام لأئمة الإسلام، ولم يوجد عنهم ما يخالفه; ومن ظن أن في كتبهم ما يناقض ذلك، فقد ظن بهم سوءاً، ونسبهم إلى الجهل، وإنما أُتِيَ من قِبل سوء فهمه وقلة علمه، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [سورة الأنعام آية: 119-120] .
وأنا أذكر طرفاً من كلام الفقهاء في مذهب الإمام أحمد: قال في الإنصاف: ويباح علَم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دونها، يعني مضمومة؛ هذا المذهب ونص عليه، وجزم به في المغني والشرح.
وقال في المبدع: ويباح علَم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دونها، وفي شرح العمدة: وتعتبر الأصابع عرضاً لا طولاً؛ قلت: القياس بالطول يدخل في المباح ما ليس منه، فلهذا نصوا على أن القياس بعرض الأصابع لا بطولها. وفي جمع الجوامع: ولبنة الجيب، وسجف الفراء، كالعلَم في الإباحة والقدر، وفي حاشية المنتهى على قول المتن: "لا فوق أربع أصابع، يعني: أن ما
__________
1 أبو داود: اللباس (4042) , وأحمد (1/50, 1/51) .
2 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والترمذي: اللباس (1721) .(4/238)
ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب، إنما يباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إذا كانت أكثر. قلت: ومثل هذا في الفروع، والكافي وغيرهما من كتب الأصحاب، لا اختلاف بينهم في ذلك.
واعلم: أن موضع الأربع الأصابع، هو ما يتسع لوضعها فيه بغير زيادة ولا نقصان طولاً وعرضاً، فلو زاد الحرير عما توضع عليه الأصابع الأربع، يصلح أن يكون موضعاً لغيرها من الأصابع، فيقال: موضع خمس، أو ست مثلاً، وهكذا كل ما زاد؛ وتخصيص بعض من لا علم عنده، العرض بالحكم، دون الطول، تحكم بلا دليل ولا مستند أصلاً، فلو طولب بالدليل فليس إلى وجوده من سبيل، على أن هذه المحارم التي كثر فيها الحرير، الزيادة فيها على المباح متحققة طولا ًوعرضاً.
فصل
ويزيد هذا بياناً، ما خرجه البخاري وأبو داود والنسائي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه رأى حلة سيراء تباع فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذا من لا خلاق له " 1. ولمسلم عن علي رضي الله عنه قال: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إلي فلبستها، فعرفت
__________
1 البخاري: الجمعة (886) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , والنسائي: الزينة (5295) , وأبو داود: الصلاة (1076) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/103) , ومالك: الجامع (1705) .(4/239)
الغضب في وجهه، وقال: إني لم أعطكها لتلبسها " 1، فأمرني فأطرتها بين نسائي؛ قال أبو داود: السيراء: المضلع بالقز، وقال في النهاية: السيراء بكسر السين، وفتح الياء، ومد: نوع من البرود يخالطه حرير، كالسيور. وفي شرح البخاري للعيني، عن الأصمعي والخليل وآخرين: أنها ثياب فيها خطوط من حرير أو قز. انتهى.
قلت: وأنت ترى هذه المحارم مضلعة بالحرير الخالص، لأن السدى كله حرير، واللحمة مضلعة بحرير، فهي أشد من السيراء؛ فإن ضلوع الحرير في السيراء إنما هو في اللحمة الظاهرة فقط، وهذا ظاهر من تفسير العلماء للسيراء، وفيها أمر زائد على ما في السيراء أيضاً، وهو ما يترك من السدى للأهداب، فإنه ذراع في ذراعين من كلا جانبيها من الحرير الخالص.
وقد عرفت من الأحاديث الصحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبح من الحرير إلا موضع أربع أصابع فما دون، قال الحافظ في شرح البخاري: وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فالزائد عليه حرام عند أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، لقوة الدليل قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] .
__________
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2614) والنفقات (5366) واللباس (5840) , ومسلم: اللباس والزينة (2071) , والنسائي: الزينة (5298) , وأبو داود: اللباس (4043) , وأحمد (1/90, 1/92, 1/118, 1/153) .(4/240)
فصل
وقد تقدم أن الحكم يتناول الخالص، والمشوب المنسوج بغيره، على الصحيح من أقوال العلماء، رحمهم الله، وعند بعضهم: أن المشوب المختلط بغير المنسوج، يعتبر بالقلة والكثرة، كما هو مذكور في كتب الفقه في مذهب أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي، ولهم طريقان: أحدهما: أن الاعتبار بالوزن، وهذا هو المشهور عند الشافعية، والأول ذكره صاحب التحفة عن القفال وجمع من متقدميهم، وذكره الزيلعي في شرح الكنْز عن بعض الحنفية، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة.
فإن استوى فوجهان، اختلف الترجيح عند بعضهم، قال ابن عقيل: الأشبه أن يحرم لعموم الخبر، قال: وهو الأشبه بكلام أحمد، رحمه الله، ولأن النصف كثير، وليس تغليب التحليل بأولى من التحريم. قلت: وهذان الطريقان ضعيفان عند المحققين، كما تقدم بيانه عن شارح المنتقى، من أنه لا يباح من الحرير إلا مقدار أربع أصابع، سواء وجد ذلك مجتمعاً أو مفرقاً، ونسب هذا القول إلى شيخ الإسلام ابن دقيق العيد.
قلت: ومثله للشيخ أحمد بن تيمية، رحمه الله، فإنه قال: وحديث القسي والسيراء، يستدل به على تحريم ما(4/241)
ظهر فيه الحرير، لأن فيه خطوط حرير، وسيور الأبدان تنسج مع غيرها من الكتان والقطن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن العادة أنه أقل. انتهى.
وقال الحافظ في الفتح: واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه: ما خالط غير الحرير فيه الحرير؛ ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد، وأبي داود والنسائي، بسند صحيح على شرط الشيخين، من طريق عبيدة عن ابن عمرة وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1؛ فعلى هذا، يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير. انتهى. وحديث النهي عن القسي، أخرجه مسلم أيضاً عن علي رضي الله عنه.
قال الخطابي، رحمه الله، القسي: ثياب يؤتى بها من مصر، فيها حرير، وإنما حرمت هذه على الرجال دون النساء. انتهى. فانظر كيف جزم هؤلاء الأئمة بتحريم ما خالطه الحرير على الرجال، من غير اعتبار كثرة ولا قلة تمسكاً بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناهيك بهؤلاء علماً وتحقيقاً؛ فلا تعدل عن سبيلهم.
__________
1 النسائي: التطبيق (1040) .(4/242)
وقد ذكر ابن حزم وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال:" اجتنبوا من الثياب ما خالطه الحرير "، وممن قال به من التابعين: الحسن رضي الله عنه وابن سيرين، رحمه الله.
وقد يورد بعض أهل الوقت: أنه كان عند بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة بحرير، وذكرت أنه كان يلبسها.
فأقول: قد أجاب الحافظ ابن حبان، رحمه الله، عن مثل ذلك، بأنه لو جمع ما في القباء الذي لبسه النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز أربع أصابع، هذا معنى كلامه، وهو مشهور عنه؛ والظاهر: أن المكفوف بالحرير، الخيوط التي يخاط بها حاشية الجبة ونحوها، وهذا هو المعروف في عرف الخياطين، وغيرهم.
فلا تمسك له بهذا الحديث لما قد عرفت، على أنه معارض بما أخرج البزار والطبراني، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: " رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة " 1، قال الحافظ المنذري: رواته كلهم ثقات. وأخرج أبو داود بسند صحيح، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا أركب الأرجواني، ولا ألبس المعصفر، ولا القميص المكفوف بالحرير " 2، قال- يعني قتادة -: فأومأ الحسن إلى جيب قميصه. انتهى.
__________
1 سنن أبي داود: كتاب العلم (3658) , ومسند أحمد (2/263, 2/305, 2/344) .
2 أبو داود: اللباس (4048) , وأحمد (4/442) .(4/243)
فأخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا يلبس المكفوف بالحرير، فيجب تصديقه فيما أخبر به عن ربه، وعن نفسه، لا يمتري في شيء من أخباره مؤمن قط، فما تركه ونهى عنه، يجب تركه طاعة لله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] .
فصل
وأما الخز، فذهب الإمام أحمد وأكثر الفقهاء، إلى إباحة لبسه، وذكر في الشرح: أنه قول ابن عمر، وأنس، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة. قال المجد في شرحه: الخز: ما سدي بالإبريسم، وألحم بوبر، أو صوف ونحوه، لغلبة اللحمة على الحرير. انتهى.
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز لبس الخز، قال: ولا يصح في ثوب سداه حرير خبر أصلاً، لأن الرواية فيه عن ابن عباس انفرد به حصين، وهو ضعيف. انتهى.
ومن الدليل لذلك، ما خرجه الإمام أحمد عن علي بن زيد، قال: قدمت المدينة فدخلت على سالم بن عبد الله وعلي جبة خز، فقال لي سالم: ما تصنع بهذه الثياب؟ سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن(4/244)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له " 1.
قال في شرح المنتقى: ولا متمسك للقائلين بحل المشوب إذا كان الحرير مغلوباً، إلا قول ابن عباس فيما أعلم; فانظر أيها المنصف، هل يصلح كونه جسراً تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده؟ وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم، مع أن في إسناده ما يوجب سقوط الاستدلال به، على فرض تجرده عن المعارضات. انتهى.
قلت: والمعارضات لحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، هذا كثيرة، صحيحة من رواية الأكابر من الصحابة، رضي الله عنهم، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين شاهدوا أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا معه المشاهد كلها. ومن المعلوم: أن ابن عباس، رضي الله عنهما، من صغار الصحابة، وقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع مع ضعفه أهله لصغر سنه، وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلة، وأكثر رواياته الأحاديث عن الصحابة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وكان رضي الله عنه إذا اختلف هو وغيره في مسألة سألوا عنها أكابر الصحابة، وكان هو وغيره يحيلون المستفتي على عائشة وغيرها، مع ما أعطاه الله من الفهم العظيم وحفظ ما رواه. وسيأتي بقية الجواب عن حديثه هذا، الذي تقدمت الإشارة إليه في كلام شارح المنتقى، بعون الله تعالى.
__________
1 البخاري: الأدب (6081) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/20) , ومالك: الجامع (1705) .(4/245)
وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وهو ضعيف، أن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير " 1.
فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب فلا بأس بهما، وأجيب عن هذا الحديث: بأنه معارض بما هو صحيح ثابت، وهذا ضعيف كما عرفت؛ والذي تقرر عند العلماء من أهل الحديث والفقهاء: أن الصحيح يقضي على الضعيف، ولا يعارض به أصلاً.
الوجه الثاني: أن المعارض له من الأحاديث الصحيحة بلغت حد التواتر كثرة، فلا يعارض ما صح وتواتر من الكثير عن الصحابة، بحديث واحد ضعيف.
الوجه الثالث: أن لفظة "إنما" لا تفيد الحصر الحقيقي عند أكثر النحاة.
الوجه الرابع: أنه لا قائل بمفهومه، فإن الثوب من الحرير إذا كان فيه قليل من غيره، لا يكون مصمتاً، فإذا لم يكن مصمتاً أبيح، ولو كان الغالب حريراً؛ وهذا لا قائل به، وقد انعقد الإجماع على خلافه، فلا يكون حجة لمن اعتبر في حل الثوب المشوب بالحرير، كونه مغلوباً بغيره بالطهور، أو بالوزن؛ فتدبره، فإن الدليل أعم من المدعى.
الوجه الخامس: قوله فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به، فمفهوم هذه الجملة: أن ما عدا المذكور فيه بأس، فعارض مفهوم آخر الحديث مفهوم أوله.
__________
1 أبو داود: اللباس (4055) , وأحمد (1/313) .(4/246)
وقد عرفت أن العلم المباح أربع أصابع فما دون، فيحمل المطلق على المقيد، وأما السدى، فتقدم الخلاف فيه، ودليل المنع فيه؛ وقد ذهب إلى المنع جمع، منهم ابن حزم الظاهري من الفقهاء، ومن الصحابة ابن عمر رضي الله عنهما، ومن التابعين سالم بن عبد الله.
وأنت ترى هذه المحارم سداها كله حرير، وفي اللحمة من الحرير نحو الربع حرير خالص، كالسيور وأعظم، مع ما يظهر من السدى للأهداب من الجانبين نحو النصف، فإن قدرته بالأجزاء صار الحرير تسعة أجزاء، والقطن ثلاثة، ومن المعلوم أن التسعة أكثر من الثلاثة وزناً، وأما من جهة الظهور فيظهر فيها خمسة أجزاء كلها حرير خالص، والخمسة أكثر من الثلاثة ظهوراً.
وقد اعتبرت ما في تلك المحارم الحادثة، التي عمت بها البلوى في هذه الأزمان، فوجدت الأهداب من الجانبين، وهي من خالص الحرير، ذراعين عرضاً وذراعاً طولاً من كل جانب، فبسطت أربع أصابع عليها، فبلغت مائتين وثمانين أصبعاً. ثم اعتبرت خطوط الحرير الأصفر الذي في اللحمة وما تحته، فصارت بذلك حريراً خالصاً في جانبيها، وهو قريب من ثلث اللحمة، يبلغ ستة وتسعين أصبعاً. فجميع ما فيها من الحرير الخالص، ثلاثمائة وستة وسبعون أصبعاً؛ وهذا حرام باتفاق المذاهب الأربعة وغيرها.(4/247)
فانتبه لنفسك، واتبع نبيك المعصوم، الذي أرسله الله: {مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 45-46] ، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] . وقد عرفت حكمه صلى الله عليه وسلم في ماهية الحرير، وأنه نهى عنه إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، وكن من عبادة الأهواء على حذر، ومن أنذر فقد أعذر، ولقد أحسن من قال:
وعبادة الأهواء في تطويحها ... بالدين مثل عبادة الأوثانِ
والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأجاب أيضاً: اعلم أن الأحاديث قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الحرير وتحريمه، على ذكور هذه الأمة؛ فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " 1. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " 2. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة، عن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ
__________
1 البخاري: الأطعمة (5426) , ومسلم: اللباس والزينة (2067) , والترمذي: الأشربة (1878) , والنسائي: الزينة (5301) , وأبو داود: الأشربة (3723) , وأحمد (5/385, 5/390) , والدارمي: الأشربة (2130) .
2 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) .(4/248)
حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي " 1.
وأحاديث هذا الباب يتعذر استقصاؤها، فنبهت ببعضها على نوعها. وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الذكور، غير واحد من الأئمة، إلا ما استثناه الشارع، كما في حديث عمر، وهو عند البخاري ومسلم وأهل السنن، عن أبي عثمان النهدي، أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير، إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام " 2، قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام. ولأبي داود في الحديث: " نهى عن الحرير، إلا هكذا وهكذا: أصبعين أو ثلاث أو أربع " 3.
وبهذا الحديث: احتج أهل العلم على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع؛ قال في الفروع: ويباح منه العلَم إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، نص عليه، وجزم به في المغنى والشرح. وقال في الإنصاف: ويباح علَم الحرير في الثوب إذا كان أربع
__________
1 النسائي: الزينة (5144) , وأبو داود: اللباس (4057) , وابن ماجة: اللباس (3595) .
2 البخاري: اللباس (5828) , ومسلم: اللباس والزينة (2069) , والنسائي: الزينة (5312) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2069) , والترمذي: اللباس (1721) .(4/249)
أصابع فما دون. وقال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب وسجف الفراء، كالعلَم في الإباحة والقدر. وفي حاشية المنتهى على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع، يعني: أن ما ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب، أنها تباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها. انتهى.
وهذا الذي ذكره هؤلاء كغيرهم من الفقهاء، إنما هو فيما إذا كان الحرير منفرداً متميزاً، سواء كان منسوجاً في الثوب كالعلم، أو مجعولاً فيه بعد النسج، كلبنة الثوب، والسجف، وسواء كان مفرقاً، أو مجموعاً، وكذا إذا كان مشوباً بغيره، على الصحيح المعتمد عند جمع من أكابر الأئمة المحققين، كما صرح به شارح المنتقى، ونقله عن تقي الدين بن دقيق العيد. قال الشارح: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، والظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة، أو مختلطة بغيرها، ولا يخرج من التحريم إلا ما استثناه الشارع، من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، سواء وجد ذلك القدر مجتمعاً، كما في القطعة الخالصة، أو متفرقاً كما في الثوب المشوب. وقد نقل الحافظ في الفتح، عن العلامة ابن دقيق العيد: إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع، لو كانت منفردة، بالنسبة إلى جميع الثوب. انتهى.
قلت: وقد قرر هذا الحافظ في فتح الباري بأدلته، فقال: واستدل بالنهي عن لبس القسي، على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب، لتفسير القسي بأنه ما خالط غير(4/250)
الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد، وأبي داود والنسائي، بسند صحيح على شرط الشيخين، من حديث عبيدة عن ابن عمر، وعن علي رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1؛ فعلى هذا يحرم الذي يخالطه الحرير. انتهى. فهذا حافظ الدنيا في عصره: صرح بتحريم لبس ما خالطه الحرير، وهذا مقتضى الدليل.
وقال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة: "قلنا لعلي: ما القسية؟ قال ثياب أتتنا من الشام أو مصر، مضلعة، فيها حرير، وفيها أمثال الأترج". وقال جرير عن يزيد: ثياب مضلعة، يجاء بها من مصر، فيها الحرير، ثم ساق بسنده حديث البراء بن عازب، قال: " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي " 2، وفي رواية له: " ونهانا عن لبس الحرير، والديباج، والقسي والاستبرق، ومياثر الحمر " 3. انتهى.
وقال النسائي: القسى ثياب من كتان، مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر- قريب من تنيس- يقال لها "القس" بفتح القاف انتهى، وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، قال في جمع الجوامع، قال: شيخ الإسلام: وقد
__________
1 النسائي: التطبيق (1040) .
2 البخاري: اللباس (5838) , ومسلم: اللباس والزينة (2066) , والنسائي: الجنائز (1939) والزينة (5309) , وأحمد (4/299) .
3 البخاري: اللباس (5849) , والنسائي: الجنائز (1939) والزينة (5309) , وأحمد (4/287, 4/299) .(4/251)
اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير، وليست بحرير مصمت انتهى. وأخرج البخاري، وأبو داود، والنسائي عن عمر رضي الله عنه " أنه رأى حلة سيراء تباع فقال يا رسول الله: لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة؟ فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة " 1، قال: أبو داود والنسائي، السيراء: المضلع بالقز. وقال في النهاية: السيراء: بكسر السين وفتح الياء والمد: نوع من البرود، يخالطه حرير، كالسيور، وأخرجه الأئمة من حديث علي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: حديث السيراء، والقسي، يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط أو سيور، لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن عادته أنه أقل. انتهى. وقال: والمنصوص عن أحمد، وقدماء الأصحاب، إباحة الخز، دون الملحم وغيره. انتهى من جمع الجوامع.
ومما يدل لما قرره هؤلاء الأئمة الحفاظ، ما أخرجه البزار والطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة، بضم الميم وفتح الجيم، بعدها ياء
__________
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2619) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , والنسائي: الجمعة (1382) وصلاة العيدين (1560) والزينة (5295) , وأبو داود: اللباس (4040) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/20, 2/103) , ومالك: الجامع (1705) .(4/252)
مثناة تحت مفتوحة، ثم باء موحدة، أي: لها جيب من حرير، وهو الطوق. انتهى. وبهذا تبين لك أن هذه المحارم المسماة بـ"أخضر قز" ونحوها، لا يجوز استعمالها للذكور مطلقاً، لما فيها من الحرير الخالص، الزائد على أربع أصابع بأضعاف كثيرة؛ وتسميتها بهذا الاسم، من باب الإضافة البيانية، وتعريفها بأخضر قز، من الإضافة البيانية، والقز من الحرير، فلا يجوز استعمال ما ظهر فيه الحرير، إذا زاد على القدر المستثنى في حديث عمر، وتقدم تقريره. اللهم اجعلنا ممن يقبل هداك، ويتبع رضاك.
ولقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، حيث يقول: "لا عذر لأحد بعد السنة، في ضلالة ركبها، يحسب أنه على هدى ".
وقال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون: من أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح؛ فهذا أشق ما تحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة. وهو إحياء السنن، وإماتة البدع - إلى أن قال - لو سكت المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء على ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا؛ فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس، فظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك.(4/253)
وفي جمع الجوامع: وكل ما حرم من الثياب وغيرها، حرم بيعه وخياطته وأجرته، نص عليه، كبيع عصير لمن يتخذه خمراً. قال: ويحرم بيع الحرير، والمنسوج بالذهب والفضة للرجل؛ قطع به جماعة من أصحابنا، والمراد به إذا كان يلبسه، وكذا خياطته، وأخذ أجرتها. وذكر ابن أبي المجد: ما حرم استعماله من حرير ومصور وغيرهما، حرم بيعه وشراؤه وعمله، وأخذ أجرته، لإعانته على الإثم. انتهى. وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعرفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعاً من إبلاغ الرسالة، وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وقول كثير من أهل العلم. انتهى.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: نظرت في هذه الرسالة، لوحيد دهره، وفريد عصره، شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فرأيت صحة ما ضمنها من تحريم "المحرمة" المسماة "بأخضر قز"، وفقنا الله وإياه للصواب. انتهى.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما "المحرمة" التي أخضرها حرير، فلا شك في أنها حرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير، فقال: "إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة " 1.
وقال: " من لبسه في الدنيا
__________
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2619) , ومسلم: اللباس والزينة (2068) , والنسائي: الجمعة (1382) , وأبو داود: الصلاة (1076) , وابن ماجة: اللباس (3591) , وأحمد (2/103) , ومالك: الجامع (1705) .(4/254)
لم يلبسه في الآخرة " 1. وفي الصحيح أنه أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في يساره، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي " 2. وفي حديث عمر: " نهى عن الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة " 3، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فما زاد على الأربع الأصابع حرام، سواء كان مفرقاً أو مجتمعاً، كما عليه جماهير العلماء؛ وهو ظاهر الأحاديث، وفيها ما يدل على المنع منه، وإن لم يكن مجموعاً. فاجتنب هذه "المحرمة" فإنها محرمة، فإن كان عندك منها شيء، فلا تبعها على مسلم، بعها في غير بلاد المسلمين.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن المركب من حرير وغيره؟
فأجاب: وأما قول الأصحاب فيما لا يجوز لبسه من الحرير المركب من حرير وغيره: إن الممنوع منه ما كان الحرير أكثر ظهوراً، يتناول ما سدي بغير الحرير وألحم بحرير وغيره; وظاهر كلامهم: تناوله لغير تلك الصورة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن لبس السواد للرجال؟ فأجاب: أما لبس السواد إذا كان من عادة أهل البلاد، فلا بأس به، إلا أن يكون حريراً فلا يجوز.
__________
1 البخاري: اللباس (5834) .
2 النسائي: الزينة (5144) , وأبو داود: اللباس (4057) , وابن ماجة: اللباس (3595) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2069) , وأحمد (1/51) .(4/255)
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن العمامة، هل هي سنة؟ وما الفرق بينها وبين العقال؟
فأجاب: العمامة المسؤول عنها من المباحات، التي أباحها الله ورسوله، وإنما يستحب منها: ما قصد به موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة لبسه، كلبسها مع ارخاء الذؤابة، دون لبسها على هيئة العصابة، فإنها حينئذ: لا فرق بينها وبين العقال المعروف؛ ولهذا نص العلماء، رحمهم الله، من أصحابنا وغيرهم، على أنه يشترط لجواز المسح عليها، أن تكون محنكة، أو ذات ذؤابة، وأما العصابة فلا يجوز المسح عليها عندهم.
وقصد موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله، من لبس، وأكل، وشرب وغير ذلك: سنة، ولكن لا يقصر على العمامة فقط، وهذا كقول العلماء: سنة الأكل كذا، سنة الشرب كذا، سنة اللبس كذا، ثم يذكرون ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار الصحيحة.
وأما جعل هذه العصائب التي تشبه العقال سنة، فلا يظهر لي، بل هو مباح، من جملة اللباس المباح، ومن قال: إنها مسنونة، فقد أخطأ، وأفتى بجهل; فلا ينبغي الأخذ عنه، وتلقي ما يمليه من جهالاته وترهاته؟ كذلك جعل لبسها مطلقاً، على أي وجه كان، دليلاً وعلامة على الدخول في(4/256)
الإسلام، ويوالي على ذلك، ويعادي عليه، أو يجعل ضابطاً، يحب على فعله، ويبغض على تركه، فهذا أمر لا يجوز اعتقاده، ولا نسبته إلى الشريعة المطهرة؛ هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
وكتب تحته الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم، رحمه الله، ما نصه: ما أجاب به الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، هو الحق والصواب، الذي ندين الله به ونعتقده، وهو: أن العمامة لا تكون عمامة، ويطلق عليها هذا الاسم، إلا إذا كانت ذات ذؤابة، أو محنكة، وأن تكون على قلنسوة ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنها في الأصل لباس معتاد، مما اعتاده العرب، كالإزار، والسراويل، والأردية، ليست من العبادات المشروعة؛ ومن نسب هذه العصائب الخالية مما ذكرنا، إلى السنة المطهرة، فقد أخطأ.
وكتب أيضاً: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ما نصه: ليعلم الواقف على هذا: أن ما كتبه صاحبنا، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، في شأن العمامة، أنه هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا التباس، لأن العمائم من قسيم(4/257)
العادات المباحة، التي كانت العرب تلبسها، وليست من السنن المشروعة التي شرعت في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها هو وأصحابه، كما كان العرب يلبسونها؛ فمن لبسها على قلنسوة، وجعلها محنكة، أو جعل لها ذؤابة وأرخاها، فقد أصاب السنة، ومن لبسها على هذه الكيفية، فلا ينكر عليه، ومن تركها فلا ينكر عليه.
وأما جعل هذه العصائب من السنن المشروعة، فهو خطأ وابتداع شرع لم يشرعه الله ولا رسوله، واعتقاد أن لبس هذه العصائب، سيما، وشعاراً للمتدينين، خطأ أيضاً; فالواجب على من أراد طلب الحق، واتباع الهدى، أن يتحرى العدل في أقواله، وأفعاله، وأعماله، ويحذر من التعصب للهوى، بغير حجة ولا برهان.
وكتب أيضا: ً الشيخ سليمان بن سحمان: قد تأملت ما كتبه المشائخ - وفقهم الله - في شأن هذه العصائب، التي أحدثها من أحدثها، فإذا هو الحق والصواب، الذي لا شك فيه ولا ارتياب، لأن هذه العصائب التي زعم من أحدثها أنها سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وشرعها، لم تكن هي العمائم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر العرب يلبسونها في الجاهلية والإسلام، لأن تلك كانت ساترة لجميع الرأس، وكانت(4/258)
محنكة، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إرخاء الذؤابة بين الكتفين.
إذا فهمت هذا، فاعلم: أنه ليس المقصود بلبس هذه العصائب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ولو كان المقصود الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لجعلوها ساترة لجميع الرأس، على قلنسوة، وجعلوها محنكة، أو ذات ذؤابة، ولبسوا الرداء والإزار، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه، وأصحابه، ولكن المقصود الأعظم عند من أحدثها: إحداث شعار في الإسلام، وزي يتميز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه، على زعمهم؛ وإذا كان العلماء، قد تكلموا في كراهية هذه العمائم، التي هي ساترة لجميع الرأس، لأنها غير محنكة، فكيف بهذه العصائب التي لا مشابهة بينها وبين العمائم إلا بالاسم.
قال: شيخ الإسلام، في اقتضاء الصراط المستقيم: قال الميموني: رأيت أبا عبد الله، عمامته، تحت ذقنه، ويكره غير ذلك، وقال: العرب أعمتها تحت أذقانها; وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد: يكره ألا تكون العمامة تحت الحنك كراهية شديدة، وقال: إنما يتعمم بمثل ذلك: اليهود، والنصارى، والمجوس.
وأما كونها زياً وشعاراً، فقال شيخ الإسلام، في كتاب الفرقان: وليس لأولياء الله المتقين، شيء يتميزون به في(4/259)
الظاهر، من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحاً، ولا يحلق شعراً، أو يقصره، أو يضفره، إذا كان كلاهما مباحاً، كما قيل: كم صديق في قباء، وكم زنديق في عباء ... إلى آخر كلامه، رحمه الله.
والمقصود: أن هذه العصائب، بل العمائم المعروفة المعهودة، من الأمور المباحات، والعادات الطبيعية، لا من العبادات الدينية الشرعية.
وقد كتبت في شأن هذه العصائب، ما هو معلوم مشهور، كما هو مذكور في: إرشاد الطالب إلى أهم المطالب، وفي رسالة مفردة أيضاً؛ فمن أراد الوقوف عليها، فليراجعها هناك.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن التزعفر للرجال؟
فأجاب: وأما التزعفر، فقد ورد ما يدل على جوازه، فلا ينكر والحالة هذه.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن لبس الخناجر المحلاة بالذهب، هل هو مباح أو محرم؟
فأجاب: الحمد لله، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي الرجال عن لبس الذهب في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " 1، رواه الإمام أحمد، رحمه الله، والترمذي،
__________
1 الترمذي: اللباس (1720) , والنسائي: الزينة (5148) .(4/260)
والنسائي، وصححه بعض أئمة الحديث؛ وبه استدل العلماء على تحريم الذهب على الرجال، ولم يرخص إلا في اليسير منه، كقبيعة السيف، وهي التي في طرف القبضة، ونحو المسمار في السيف، على حسب ما ورد من الرخصة في ذلك، فقد روي " أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من ذهب، وورد أنها كانت من فضة " 1.
قال في الإقناع وشرحه: ويباح له - أي الذكر - من الذهب قبيعة السيف، "لأن عمر رضي الله عنه كان له سيف فيه سبائك من ذهب"وعثمان ابن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب "، ذكرهما أحمد.
وذكر ابن عقيل: " أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية مثاقيل " 2، وخطأه في المبدع عن الإمام، قال: فيحتمل أنها كانت ذهباً وفضة، فقد رواه الترمذي كذلك. انتهى كلام صاحب الإقناع.
وقال أبو محمد في المغني: فقد روي عن أحمد في الرخصة في السيف، قال الأثرم: قال أحمد: روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب، ثم ذكر ما روي عن عمر، وذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال - وروي عن أحمد رواية أخرى تدل على تحريم ذلك.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يخاف عليه أن يسقط،
__________
1 الترمذي: الجهاد (1691) , وأبو داود: الجهاد (2583) , والدارمي: السير (2457) .
2 النسائي: الزينة (5375) , وأبو داود: الجهاد (2584) .(4/261)
فيجعل فيه مسمار من ذهب، قال: إنما رخص في الأسنان، وذلك إنما هو للضرورة. انتهى.
وحاصل ما ذكر عن الإمام أحمد، رحمه الله: أن في إباحة الذهب للرجل روايتين:
إحداهما: إباحة اليسير منه.
الثانية: المنع مطلقاً. وقد عرف مما ذكرنا من الدليل ومن كلام العلماء، رحمهم الله: أن لبس الخناجر المحلاة بالذهب الكثير، وتحلية السيف بذلك واستعمالها ممنوع، لا يليق بالمتشرع، الطالب للحق المتبع للسنة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
الشرط الخامس: إزالة النجاسة من ثلاث: من البدن، والثوب، والبقعة؛ والدليل: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر آية: 4] .
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عمن صلى وفي ثوبه نجاسة نسيها، هل يعيد؟
فأجاب: إذا صلى الرجل، وفي سلبه نجاسة نسيها، ولا علم إلا بعد فراغه من الصلاة، فليس عليه إعادة.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عما إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة فلم يجد الماء؟(4/262)
فأجاب: يصلي فيه، وإن وجد الماء غسله، ويزيلها بما استطاع، فإن كان عليه ثوب آخر، صلى في الطاهر وترك النجس. وأجاب أيضاً: المريض الذي في بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها، يصلي على حسب استطاعته، ولا يعيد.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا صلى من في بدنه أو ثوبه نجاسة، نسيها أو جهلها، ولم يعلم بها إلا بعد انقضاء صلاته، فهذه المسألة فيها عن أحمد روايتان: إحداهما: لا تفسد صلاته، وهو قول ابن عمر وعطاء، لحديث النعلين، وفيه: يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه - إلى أن قال - " إن جبرئيل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً " 1، رواه أبو داود، ولو بطلت لاستأنفها. والثانية: يعيد، وهو مذهب الشافعي، فإن علم بها في أثناء الصلاة، وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير، كخلع النعال، والعمامة، ونحوهما، أزالهما، وبنى على ما مضى من صلاته، وإلا بطلت.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عدم صحة صلاته، هي الصحيح من المذهب، لأن اجتناب النجاسات شرط للصلاة، فلم تسقط بالنسيان ولا بالجهل، كطهارة الحدث. وعن الإمام أحمد: أنها تصح إذا نسي أو جهل؛ قال في الإنصاف: وهي الصحيحة عند أكثر
__________
1 أبو داود: الصلاة (650) , وأحمد (3/20) , والدارمي: الصلاة (1378) .(4/263)
المتأخرين، اختارها المصنف، والمجد، والشيخ تقي الدين، لكن قال الشيخ: الروايتان في الجاهل، أما الناسي فليس عن الإمام نص فيه. قال في الإنصاف: والصحيح: أن الخلاف جار في الجاهل والناسي، قاله المجد، وحكى الخلاف فيها أكثر المتأخرين؛ وأما المأموم فصلاته صحيحة.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: أما الذي صلى بنجاسة، ناسياً أو جاهلاً بها، ولم يعلم إلا بعد سلامه، فالقول بصحة صلاته قوي، والإعادة أحوط.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يحتلم، ثم يغتسل ويصلي ويجد بللاً من ذكره؟
فأجاب: إن وجد البلل في الصلاة، فيتوضأ ويصلي، وليس عليه غسل، وإن وجده بعد فراغه من الصلاة، فلا إعادة عليه.
وسئل: عن رشاش البول، يذكره الرجل بعد الصلاة؟
فأجاب: لا إعاة عليه.(4/264)
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الصلاة في مسجد فيه قبر؟
فأجاب: إن كان مبنياً قبل أن يجعل فيه قبر، فينبش القبر، ويبعد عن المسجد; فإن كان المسجد لم يبن إلا لأجل القبر، فالمسجد يهدم، ولا يصلى فيه، لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور؛ ولا تصح الصلاة فيه، ولا تجوز الصلاة عند القبور، ولا عليها، لأنه عليه السلام نهى عن الصلاة في المقبرة. وأجاب أيضاً: المسجد الذي بني على القبور، يجب هدمه، ولا تجوز الصلاة فيه.
وأما القبر الذي وضع في المسجد بعد بنائه، فينقل من المسجد.
وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: مسجد الطائف، الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس، رضي الله عنهما، الصلاة في المسجد، إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع، يخرج القبر عن مسمى المسجد، فلا تكره الصلاة فيه; وأما القبر، إذا هدمت القبة التي عليه، فيترك على حاله، ولا ينبش، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين.(4/265)
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا احتيح إلى أرض مسجداً ... إلخ؟
فأجاب: إذا احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجداً، فطلبوا من صاحب المال أن يبيعها، أو يوقفها، فأبى، فالظاهر: أنه لا يجبر.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عن ضابط معاطن الإبل؟
فأجاب: ضابط معاطن الإبل هي التي تقيم فيها، وتأوي إليها، قاله أحمد، وقيل: مكان اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، زاد بعضهم: وما تقف فيه لميراد الماء; قال في المغني والشرح: والأول أجود، لأنه جعله في مقابلة مراح الغنم، لا نزولها في سيرها، قاله في المبدع.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن الصلاة في المنْزل الذي توقد فيه النار للطبخ، أو للقهوة، أو أسطحتهما؟
فأجاب: أما الصلاة في ذلك، فلا علمت فيه بأساً، لكن لا يستقبل النار، وكذلك في سطحهما، لا بأس بذلك.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز زخرفة المساجد بالنقوش، والجص، وفرش الحصر بها، وتخليقها بالطيب، أم لا؟(4/266)
فأجاب: أصل بناء المساجد، بناؤه صلى الله عليه وسلم ثم بناء عمر، ثم بناء عثمان، رضي الله عنهم؛ قال في الهدى، لما ذكر اتخاذ المسجد: ثم بنوه باللبن، وجعل صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وجعل له ثلاثة أبواب، وعمده الجذوع، وسقفه بالجريد، وقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: لا; عريش كعريش موسى. انتهى.
وقال في المنتقى: باب الاقتصاد في بناء المساجد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أمرت بتشييد المساجد " 1، قال ابن عباس:"لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى "، رواه أبو داود. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " 2، رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال البخاري: قال أبو سعيد: "كان سقف المسجد من جريد النخل، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أَكِنَّ الناس عن المطر، وإياك أن تُحَمِّر أو تُصَفِّر فتفتن الناس ". انتهى. الزخرفة: التزيين، والضمير في: "لتزخرفنها" للمساجد. وعن ابن عمر قال: "كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه بالجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه على عهده صلى الله عليه وسلم ثم غيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبني جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسققه ساجاً "، أخرجه البخاري وأبو داود، والقصة: الجص بلغة أهل الحجاز. انتهى من تيسير الأصول.
__________
1 أبو داود: الصلاة (448) .
2 أبو داود: الصلاة (449) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (739) , وأحمد (3/134, 3/145, 3/152, 3/230, 3/283) , والدارمي: الصلاة (1408) .(4/267)
وقال في الإقناع: وتحرم زخرفته بذهب أو فضة، وتجب إزالته، ويكره بنقش وصبغ وكتابة، وغير ذلك مما يلهي المصلي. وفي الغنية: لا بأس بتجصيصه. انتهى. أي: يباح تجصيص حيطانه، وهو تبييضها به، وصححه الحارثي، ولم يره أحمد بن حنبل، وقال: هو زينة الدنيا. انتهى.
إذا تقرر هذا، فليعلم السائل: أن من أراد بناء مسجد، فليبنه على الاقتصاد، وأن الزخرفة مكروهة، وأن من بنى بها لا ينكر عليه لقصة عثمان.
وأما فرش الحصر فيها، فقال في المنتقى: باب الصلاة على الفرش والبسط وغيرهما من الفرش، عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بساط " 1، رواه أحمد وابن ماجة. وعن المغيرة بن شعبة قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير، والفروة المدبوغة " 2، رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد أنه " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه " 3، رواه مسلم. وعن ميمونة، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة " 4، رواه الجماعة. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين: وأما الصلاة على السجادة، واتخاذ السجادة ديناً وطريقة، بحيث لا يصلي إلا عليها في المساجد وغيرها، فبدعة مكروهة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة، لم يكونوا يتخذون هذه السجادة، بل يصلون حيث تناهت الصلاة؛ وتقييد الصلاة بها، تعبد أهل الكتاب في الكنائس، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجداً
__________
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1030) , وأحمد (1/232) .
2 أبو داود: الصلاة (659) , وأحمد (4/254) .
3 مسلم: الصلاة (519) , والترمذي: الصلاة (332) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1029) , وأحمد (3/52) .
4 البخاري: الصلاة (381) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (513) , والنسائي: المساجد (738) , وأبو داود: الصلاة (656) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1028) , وأحمد (6/330, 6/335) , والدارمي: الصلاة (1373) .(4/268)
وطهوراً؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " 1- إلى أن قال- وقد " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة " 2، وهي شيء ينسج من الخوص، فيسجد عليه يتقي به حر الأرض وأذاها؛ فإنه لم يكن مسجده مفروشاً، إنما كانوا يصلون على التراب والرمل والحصى، فهذا من جنس الأرض، لأن الصلاة على الحصر ونحوها لدفع الأذى، والله سبحانه جعله لدفع الأذى، فهذا حسن، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا بأس بالصلاة على ما كان من جنس الأرض كالحصير ونحوه.
وأما الصلاة على المتخذ من الصوف والشعر ونحو ذلك، كالبسط والطنافس، وعلى الحشايا المبطنة، فرخص فيه أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وروى ذلك عن جماعة من الصحابة، وفيه أحاديث مرفوعة، وكرهه مالك. انتهى. فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على هذه الأشياء المذكورة، وأن أكثر العلماء رخص فيها، فمن أنكر فرش المساجد بذلك كلف الدليل، والله أعلم.
وأما تخليقها بالطيب، فقالت عائشة: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب " 3، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجة.
وقال في الإقناع: ويسن كنسه يوم الخميس، وإخراج كناسته، وتنظيفه، وتطييبه فيه، وتجميره في الجمع، ويستحب شعل القناديل فيه كل ليلة.
__________
1 الترمذي: السير (1553) , وأحمد (5/248) .
2 البخاري: الصلاة (381) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (513) , والنسائي: المساجد (738) , وأبو داود: الصلاة (656) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1028) , وأحمد (6/330, 6/331, 6/335, 6/336) , والدارمي: الصلاة (1373) .
3 الترمذي: الجمعة (594) , وأبو داود: الصلاة (455) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (759) .(4/269)
انتهى. قوله: في الدور جمع دار، والمراد هنا: المحلات، أي أمر أن يبنى في كل محلة مسجد، وهو محمول على اتخاذ بيت للصلاة، كالمسجد يصلي فيه أهل البيت. انتهى. فدل هذا على استحباب تطييبها، وتنظيفها، والله أعلم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: وأما ما زخرف به المسجد، من التحمير والتصفير، فيطمس بالآجر الأبيض، وكذلك الصور والكتابة التي في الحيطان.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن أنكر دخول المسجد بالنعال؟
فأجاب: إنكار دخول المسجد بالنعال، إنما نشأ عن الجهل بالسنة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في نعليه، وكذلك الصحابة، رضي الله عنهم. ثم إنه صلى الله عليه وسلم في بعض الصلوات خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم سألهم عن ذلك، فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبرائيل، فأخبرني أن فيهما أذى " 1، فدل الحديث على جواز دخول المسجد بالنعال والصلاة فيها، ما لم يعلم أنها نجسة، فإذا لم يعلم أنه وطأ بها نجاسة، فالأصل الطهارة، وهذا بحمد الله ظاهر.
وسئل الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله
__________
1 أبو داود: الصلاة (650) , وأحمد (3/20) , والدارمي: الصلاة (1378) .(4/270)
تعالى: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " خالفوا اليهود، صلوا في نعالكم " 1، ما الحكمة في ذلك؟
فأجاب: الحكمة: مخالفة اليهود في الأعمال الظاهرة، لأن موافقتهم في الأعمال الظاهرة، تفضي إلى موالاتهم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن فرش المساجد من صوف وغيره؟
فأجاب: أما فرش المساجد فيجوز أن يتخذ فيها فرش من جميع الفرش الطاهرة، من الصوف وغيره.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن التقدم للمسجد، والقيلولة فيه ... إلخ؟
فأجاب: أما مسألة التقدم للمسجد في مثل الظهر، والقيلولة فيه، فإن كان الإنسان قصد المسجد لانتظار الصلاة المفروضة، فصلى ما تيسر من النوافل، ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن، أو يذكر الله، وهذا قصده، ولكن في نيته إن حدث عليه نعاس نام في المسجد، لم يقصد القيلولة فيه عادة، فهذا حسن إن شاء الله تعالى.
وأما إن كان نيته أنه قصد المسجد ليضع عصاه في الصف، ويصلي ما تيسر، ثم ينام، أعني أنه قصد النوم فيه، وعزم عليه، فهذا مكروه، أعني: اتخاذ المسجد مقيلاً؛ فالأفضل في حق هذا أن يقيل في بيته، فإذا قضى حاجته من
__________
1 أبو داود: الصلاة (652) .(4/271)
النوم، تطهر وقصد المسجد. وأما جلوسه في سطح المسجد، بين العشائين لأجل البراد ونحوه، فلا بأس بذلك.
سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن الجمع بين حديث النهي عن الاستلقاء في المسجد، وحديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد ... إلخ؟
فأجاب: حديث النهي محمول على حالة لا يأمن معها انكشاف العورة، وأما إذا أمن انكشافها فلا بأس؛ وعليه يحمل حديث عبد الله بن زيد، قال: في الإقناع: ولا بأس بالاستلقاء لمن له سراويل، وكذا لو احتبى بحيث يأمن كشف عورته. انتهى.
وقال الحافظ في الفتح، بعد أن ذكر قول من ادعى نسخ النهي ورده، وبعد أن ذكر أن الجمع بين الحديثين بمثل ما تقدم أولى من ادعاء النسخ: والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس. انتهى.
فتبين أن للجمع بينهما طريقين:
أحدهما: أن فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، وأن النهي للتنْزيه، كما ذكر الحافظ.
والثاني: حمل النهي على حالة لا تؤمن معها انكشاف العورة، والله أعلم.(4/272)
فصل
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط الثامن: استقبال القبلة، والدليل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [سورة البقرة آية: 144] .
وسئل بعضهم: عما ذكر في الهدى، لما ذكر نسخ القبلة، قال ابن سعد: أنبأنا هاشم بن القاسم، أنبانا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: "ما خالف نبي قط في قبلة قط، ولا إسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة "، مع قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [سورة البقرة آية: 148] .
فأجاب: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لم يختلفوا في الدين، بل دينهم واحد كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعلات " 1، فأما القبلة فلم يكن يخالف بعضهم بعضاً فيها، بل كلهم يميلون إلى قبلة إبراهيم عليه السلام. فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمر حين قدم المدينة أن يصلي قبل صخرة بيت المقدس، تألفاً لقلوب اليهود، ليكون أقرب إلى تصديقهم إياه، فصلى ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، والكعبة على حالها بالنسبة إلى أنها قبلة
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3442) , ومسلم: الفضائل (2365) , وأبو داود: السنة (4675) , وأحمد (2/406) .(4/273)
أبيه من قبله، واستقباله بيت المقدس للحاجة العارضة لا ينافيها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فإنها قبلته وقبلة أبيه إبراهيم.
وأما من خالف من الأنبياء، فحصلت موافقته بالميل إلى قبلة إبراهيم وتفضيلها، فإنها الأصل في الاستقبال للأفضلية؛ فموافقته في القلب حاصلة على كل حال، وفي الجهة في بعض الأحيان، ففي الميل والأفضلية حصل عدم الاختلاف، كما لم يختلفوا في أصل الدين قط، وهذا - والله أعلم - مراد محمد بن كعب القرظي؛ فمن ذلك يعلم معنى قوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي: لكل أهل ملة من الملل قبلة، والوجهة اسم للمتوجه إليه، {هُوَ مُوَلِّيهَا} ، ووليت عنه إذا أدبرت عنه، والمعنى: لكل ملة من الملل جهة يستقبلونها بأمر الله.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن حكم الصلاة في الطيارة، من جهة استقبال القبلة؟
فأجاب: راكب الطيارة لا يخلو، من أن يكون قادراً على شروط الصلاة وأركانها وواجباتها، أو لا؛ فإن كان قادراً على ذلك، صحت صلاته، إذا أتى بها كذلك مطلقاً؛ وإن لم يقدر على الإتيان بها على هذا الوجه، فلا يخلو من أن يمكن النُزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر، أو لا؛ فإن أمكنه النُزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر، لزمته الصلاة في الأرض، ولم تصح صلاته في الطيارة؛(4/274)
فإن لم يمكنه ذلك، أو كان في ذلك ضرر، أو وجد شيء من الأعذار التي تصح معها الصلاة على الراحلة، فإنه يصلي حينئذ في الطيارة على حسب حاله، ويفعل ما يقدر عليه، ويسقط عنه ما لا يقدر عليه؛ فإن أمكنه استقبال القبلة لزمه ذلك، ويستدير إلى القبلة إذا استدارت. وهذا التفصيل في صلاة المكتوبة، وأما النافلة فحكمها معلوم، والتفصيل فيها غير هذا التفصيل، والله أعلم.
فصل
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط التاسع: النية، ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة؛ والدليل: الحديث: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " 1.
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عمن قال: إن التلفظ بالنية سنة؟
فأجاب: قول من قال: إن التلفظ بالنية سنة عند الصلاة، خطأ وجهالة، والقائل ذلك مخطئ؛ فإن السنة هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن القيم: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه تلفظ بالنية، ولا استحبها أحد من
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) .(4/275)
الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. انتهى. وإنما استحبها بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وغيره، فرد عليهم المحققون من أهل مذهبه وغيرهم؛ وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للمسلم أن يتبع غلطات العلماء، بل يعرض أقوالهم على الهدى النبوي، فما وافق ذلك قبله، وما خالفه رده على قائله، كائناً من كان.
وسئل: عن تعيين الإمام ... إلخ؟
فأجاب: أما تعيين الإمام، فإذا عين إماماً وقصده أنه لا يصلي خلف غيره، فهذا إذا بان أنه غيره لم تصح صلاته، لأنه نوى أن لا يصلي خلفه.
وأما إذا عين إماماً، ونيته أن يصلي خلف من يصلي بالجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام، كما هو الواقع في المساجد التي أئمتها راتبون، فهذا إذا بان له أنه غير الإمام الراتب، صحت صلاته، لأن قصده الصلاة مع الجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام.
وسئل: إذا نوى كل منهما أنه إمام صاحبه؟
فأجاب: إذا نوى كل منهما أنه إمام صاحبه، فهذه على روايتين:
الأولى: عدم الصحة.
والثانية: أنها صحيحة، ويصليان فرادى.
وسئل: عما إذا نوى كل منهما أنه مأموم؟
فأجاب: إذا نوى كل منهما أنه مأموم، فهي كالتي قبلها على روايتين.(4/276)
وسئل بعضهم: عن مسبوق ائتم بمثله، هل ينويان حالة دخولهما مع الإمام أنه يأتم أحدهما لصاحبه بعد المفارقة؟ أو تكفي بعد السلام، لأنه وقت ائتمامه به؟
فأجاب: هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد، وبعضهم حكى فيها روايتين؛ قال في الإنصاف: وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فأتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين. وحكى بعضهم الخلاف روايتين، منهم ابن تميم:
إحداهما: يجوز ذلك، وهو المذهب؛ قال المصنف، والشارح، وصاحب الفروع، وغيرهم - لما حكوا الخلاف -: هذا بناء على الاستخلاف، وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب، وجزم بالجواز هنا في الوجيز، والإفادات، والمنور، وغيرهم، وصححه في التصحيح والنظم.
والوجه الثاني: لا يجوز، قال المجد في شرحه هذا منصوص أحمد، في رواية صالح. وعنه: لا يجوز هنا، وإن جوزنا الاستخلاف، اختاره المجد في شرحه، فرق بينها وبين مسألة الاستخلاف. والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول، سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام، أو لا، والله أعلم.(4/277)
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أحرم منفرداً وحضر جماعة ... إلخ؟
فأجاب: إذا أحرم منفرداً، وحضر جماعة فدخل معهم، فالظاهر عدم الصحة في أصح الروايتين.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن رجل ينوي صلاة فرض وحده، فكبر وجاء آخر فدخل معه ... إلخ؟
فأجاب: هذا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وإن صلى شيئاً من صلاته؟ فقال: وإن صلى شيئاً من صلاته.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا انفرد مأموم لعذر؟
فأجاب: إذا انفرد مأموم لعذر، فالظاهر الصحة، لحديث معاذ.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يصلي الفريضة، ثم يصلي بقوم هي لهم فريضة، وله نافلة؟
فأجاب: لا بأس به، وفيه حديث معاذ، فقال له السائل: إن كان إماماً في صلاته الأولى؟ فقال: إن كان إماماً في الأولى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن صحة ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها؟ والمتنفل بالمفترض؟ ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر؟(4/278)
فأجاب: الراجح عندنا صحة إئتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، وكذلك الراجح: صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، وعكسه، وكذلك من يصلي الظهر بمن يصلي العصر.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن ذكر حدثه في الصلاة، هل يستخلف؟
فأجاب: إذا ذكر حدثه في الصلاة، فلا يستخلف.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: إذا سبق الإمام الحدث واستخلف، هل تصح؟
فأجاب: إذا سبق الإمام الحدث ثم استخلف، فالظاهر أنها صحيحة.
وأجاب بعضهم: وأما إذا دخل الإمام في الصلاة طاهراً فأحدث في نفس الصلاة، يعني غلبه الحدث، فإنه يستخلف من يتم بهم صلاتهم قبل أن يغلبه أو يسبقه الحدث، ويبتدئ الخليفة من موقف الإمام في القراءة وفي أفعال الصلاة؛ فإن لم يكن وراءه من يصلح للإمامة، وقال: أتموا صلاتكم، فأتم كل واحد صلاته وحده، جاز.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول من قال من الفقهاء: إن صلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة إمامه، فمرادهم كما لو أحدث في صلاته فبطلت، فتبطل صلاة المأموم إذا(4/279)
علم حدث إمامه، مع أن كثيراً من العلماء لا يرون بطلان صلاة المأموم إذا بطلت صلاة إمامه؛ وهو رواية عن أحمد، وفاقاً لمالك والشافعي.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: الاستخلاف قبل حدث الإمام، وأما إذا سبق الحدث، سواء كان في الصلاة أو حدثه قبل الدخول فيها، فلا يصح استخلافه، وصلاة المأمومين في هذه الصورة فاسدة، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: أما الإمام إذا سبقه الحدث وهو في الصلاة، فقد اختلف العلماء فيها: فمنهم من رأى جواز الاستخلاف والبناء على صلاة الإمام مطلقاً. ومنهم من فرق بين الخارج من السبيلين وغيرهما، وحمل أثر عمر على ذلك. ومنهم من فرق بين ما إذا خرج الحدث، وبين ما إذا لم يخرج، ولم يفرق بين الخارج من السبيلين وغيرهما. والذي أرى: أنه إن كان الخارج من السبيلين فلا استخلاف، وإن كان الخارج من غيرهما، جاز له الاستخلاف، لقصة عمر رضي الله عنه.(4/280)
باب صفة الصلاة
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن الدعاء قبل الإقامة، وبعدها؟
فأجاب: أما الدعاء قبل الإقامة ففعله بعض من يقتدى به، وأما الدعاء بعد الإقامة فلم يرد فيه شيء، والأولى عدم فعله.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عما إذا صف بعض المأمومين في الثاني ولم يتم الأول، هل تصح صلاتهم، أم تلزمهم الإعادة؟
فأجاب: بل تصح صلاتهم ولا إعادة عليهم، لكن يؤمرون بإتمام الصف الأول، فالأول، للأحاديث الواردة في ذلك.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين، رحمه الله تعالى: مسألة أظنها من كلام الشيخ تقي الدين، وهي وقوف المأموم بحيث يسمع قراءة الإمام، وإن كان في الصف الثاني أو الثالث، أفضل من الوقوف في طرف الصف الأول، مع البعد عن(4/281)
سماع قراءة الإمام، لأن الأول صفة في نفس العبادة، فهي أفضل من مكانها، كما رجحنا الرمل مع البعد في الطواف على الدنو مع ترك الرمل. انتهى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الأمير إذا كان له مكان خلف الإمام، وهو يتقدم لذلك أكثر الأحيان، وأحياناً يتأخر، إما لشغل، أو نوم، أو نحو ذلك، إذا أخر الإمام لأجله شق على الجماعة، وإن صلى غضب الأمير؟
فأجاب: أما إذا تأخر الأمير عن الصلاة، إلى حد تضيق به صدور الجماعة، فإمام المسجد يصلي ويتركه، ولا يرفع به رأساً، ولو غضب؛ هذا إذا حضر أكثر الجماعة في المسجد. وأمر العبادات إلى الشارع صلى الله عليه وسلم لا تُطَيَّب بها نفس أحد، لا أمير ولا غيره، ويسار فيها على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجعل العادات إلا تبعاً للشرع؛ فالشرع متبوع لا تابع. والذي لا يرضى بهذا، فعساه لا يرضى. فإذا كان إمام المسجد بنفسه إذا غاب صلى الجماعة، كما كان العمل عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بالأمير؟ ويبين للأمير ويفطن أن هذا أمر لا يجوز له.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: اعلم، أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة، وروحها ولبها، هو: إقبال(4/282)
القلب على الله تعالى فيها؛ فإذا صليت بلا قلب، فهي كالجسد الذي لا روح فيه. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] ، ففسر السهو بالسهو عن وقتها أي: إضاعته، والسهو عما يجب فيها، والسهو عن حضور القلب؛ ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً " 1، فوصفه بإضاعة الوقت بقوله: "يرقب الشمس "، وبإضاعة الأركان بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله:" لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ".
سئل الشيخ عبد الله بن محمد: عن رفع اليدين؟
فأجاب: أما رفع اليدين في الصلاة عند التكبير، فثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في ثلاثة مواضع في الصلاة: عند تكبيرة الإحرام يرفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع رفعهما كذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، فإذا فرغ من رفع اليدين وضع يمينه على شماله، على مفصل الكف، تحت السرة، كما في سنن أبي داود عن علي قال: "من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة، تحت السرة ".
وأجاب بعضهم، رحمه الله: رفع اليدين في الصلاة،
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622) , والترمذي: الصلاة (160) , والنسائي: المواقيت (511) , وأبو داود: الصلاة (413) , وأحمد (3/185) , ومالك: النداء للصلاة (512) .(4/283)
وجعل اليمين على الشمال، سنة مؤكدة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد؛ ومن أشهر ذلك حديث عبد الله بن عمر المتفق على صحته، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع " 1. وأما وضع اليمين على الشمال، ففي حديث سهل بن سعد، في صحيح البخاري، قال: " كان الناس يؤمرون: أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " 2 الحديث.
وسئل: عن الاستفتاح في الصلاة بما الناس عليه، وما الدليل على ذلك؟
فأجاب: قد ثبت في السنن الأربعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستفتح الصلاة بـ" سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك "، وصح في صحيح مسلم: أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يعلمهن الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار؛ فلأجل ذلك أخذ به الإمام أحمد، وجماعة من أهل الحديث. قال أحمد: أنا أختاره، وإن استفتح أحد بغيره مما صح عنه صلى الله عليه وسلم فحسن.
وأجاب عبد الله بن الشيخ، رحمه الله: قوله: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " 3 إلى قوله " وأنا من المسلمين " 4 هو في صحيح مسلم وغيره من كتب الحديث،
__________
1 البخاري: الأذان (735) , ومسلم: الصلاة (390) , والترمذي: الصلاة (255) , والنسائي: الافتتاح (878) , وأبو داود: الصلاة (721) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (858) , وأحمد (2/8) , والدارمي: الصلاة (1308) .
2 البخاري: الأذان (740) , وأحمد (5/336) , ومالك: النداء للصلاة (378) .
3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والترمذي: الدعوات (3421, 3422, 3423) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأبو داود: الصلاة (760) , وأحمد (1/102) , والدارمي: الصلاة (1238) .
4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والترمذي: الدعوات (3421, 3422) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأبو داود: الصلاة (760) .(4/284)
ولا يقال إلا بعد تكبيرة الإحرام، يستفتح به قبل الشروع في قراءة الفاتحة.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما الاستفتاح في الصلاة، فلا يشرع إلا في الركعة الأولى، فرضاً كانت أو نفلاً، وكذلك التعوذ في المشهور؛ والشافعي يرى التعوذ في كل ركعة فرضاً أو نفلاً.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: قوله في الاستفتاح: "ولا إله غيرك " أي: لا يستحق أن يعبد غيرك، وهو يؤيد ما قد قلته، من أن المقدر في كلمة الإخلاص، إذا قال الموحد: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله، والعامل في هذا المقدر "لا" على أنه خبرها في قول الأخفش. وعلى قول سيبويه لم تعمل فيه "لا" وإنما عمل فيه المبتدأ، وهو "لا" مع اسمها؛ فإن "لا" مع اسمها في محل رفع على الابتداء. والمقصود: أن المقدر "حق" ليطابق ما في الآيتين في سورة الحج ولقمان.
سئل الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عن الجهر بالبسملة؟
فأجاب: الصواب عندنا ترك الجهر بالبسملة، وهذا هو الثابت عندنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين،(4/285)
كما هو مذكور في الكتب الصحيحة، كالصحيحين وغيرهما، والله أعلم.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الله بن محمد: أكثر الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخفيها ولا يجهر بها، وإن جهر أحد لم ينكر عليه، لأن في بعض الأحاديث أنه جهر بها.
وأجاب بعضهم، رحمهم الله: اختلف الفقهاء: هل البسملة آية من الفاتحة وغيرها من السور؟ أو هي آية من الفاتحة دون غيرها من السور؟ أو ليست من الفاتحة ولا غيرها من السور، بل هي آية من القرآن، تكتب في أول كل سورة، سوى براءة؟ هذه أقوال ثلاثة، ذهب إلى كل قول طائفة من العلماء؛ والذي يترجح عندنا القول الأخير، وبه قال أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث.
وأما الجهر بها في الصلاة، فالأحاديث الصحيحة، تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بها، لا هو ولا خلفاؤه؛ فإنه قد روي في بعض الأحاديث، كما قد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين في الحضر والسفر، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، يستفتحون القراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، لا يذكرون: {ِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول قراءة ولا في(4/286)
آخرها " 1.
يعنى: أن أول ما يجهرون به في الصلاة من القراءة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وبذلك أخذ الإمام أحمد وجماعة من فقهاء الحديث، واستحبوا ترك الجهر بها من غير إنكار على من جهر بها. وأما القراءة في الصلاة، فالواجب من ذلك قراءة الفاتحة لا غير، لمن قدر على تعلمها، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 2، أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه دلالة واضحة.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، بعد ذكره مقصود الصلاة ولبها وتقدم قريباً: إذا فهمت ذلك، فافهم نوعاً واحداً من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المكفرة للذنوب. ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل " 3.
__________
1 البخاري: الأذان (743) , ومسلم: الصلاة (399) , والترمذي: الصلاة (246) , والنسائي: الافتتاح (902) , وأبو داود: الصلاة (782) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (813) , وأحمد (3/101, 3/114, 3/168, 3/223) , والدارمي: الصلاة (1240) .
2 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) .
3 مسلم: الصلاة (395) , والترمذي: تفسير القرآن (2953) , وأحمد (2/241, 2/285, 2/460) , ومالك: النداء للصلاة (189) .(4/287)
فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله، وهو أولها إلى قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ونصف للعبد، دعاء يدعو به لنفسه. وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه: ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبين له ما أضاع أكثر الناس.
قد هيئوك لأمر لو فطنتَ له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلك تصلي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك، لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] . وأبدأ بمعنى الاستعاذة، ثم البسملة، على طريق الاختصار والإيجاز.
فمعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألوذ واعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شر هذا العدو، أن يضرني في ديني، أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، أو يحثني على ما نُهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد إذا أراد عمل الخير، من صلاة، أو قراءة، أو غير ذلك؛ وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [سورة الأعراف آية: 27] ، فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا(4/288)
سبباً في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة، فمعناها: أَدْخُلُ في هذا الأمر من قراءة، أو دعاء، أو غير ذلك {ِبسْمِ اللَّهِ} ، لا بحولي ولا بقوتي؛ بل أفعل هذا الأمر مستعيناً بالله، متبركاً باسمه تبارك وتعالى. هذا في كل أمر تسمي في أوله، من أمر الدين وأمر الدنيا؛ فإذا أحضرت في نفسك: أن دخولك في القراءة، مستعيناً به، متبرئاً من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل العلام والعليم؛ قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة ".
وأما الفاتحة فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد. فأولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فاعلم أن الحمد هو: الثناء باللسان على الجميل الاختياري، فأخرج بقوله الثناء باللسان، الثناء بالفعل، الذي يسمى لسان الحال؛ فذلك من نوع الشكر. وقوله: على الجميل الاختياري: الذي يفعله الإنسان بإرادته، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه، مثل الجمال، ونحوه، فالثناء به يسمى: مدحاً لا حمداً.
والفرق بين الحمد والشكر، أن الحمد يتضمن(4/289)
المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان إحساناً إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور؛ فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر، لأنه يكون على المحاسن، والإحسان؛ فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، وما خلقه في الآخرة والأولى، ولهذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية [سورة الإسراء آية: 111] ، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة الأنعام آية: 1] إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشكر، فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان؛ فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه.
والألف واللام في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره؛ فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك، فواضح، وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى على الصالحين، والأنبياء، والمرسلين، وعلى من فعل معروفاً، خصوصاً إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضاً، بمعنى: أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به، وحببه إليه، وقواه عليه، فصار الحمد كله لله بهذا الاعتبار.(4/290)
وأما قوله: {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] ، فالله: علَمٌ على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ، أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] الآيتين. وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف. وأما العالمين، فهو: اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى، فكل ما سواه من ملك، ونبي، وإنسي، وجني، وغير ذلك، مربوب مقهور، يتصرف فيه، فقير محتاج؛ كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد. وذكر بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي قراءة أخرى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
فذكر في أول هذه السورة التي هي أول المصحف، الألوهية والربوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-3] . فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن.
فينبغي لمن نصح نفسه: أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينها في أول القرآن، ثم في آخره، إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه(4/291)
الصفات؛ فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى، كما يقال محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم، فكل وصف له معنى، غير معنى الوصف الآخر.
إذا عرفت أن معنى الله هو: الإله، وعرفت أن الإله هو: المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد عرفت أنه الله، فإن دعوت مخلوقاً طيباً أو خبيثاً، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد زعمت أنه الله; فمن عرف أنه قد جعل "شمسان" أو "تاجاً" برهة من عمره هو الله، عرف ما عرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 149] .
وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف، فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرف فيه؛ وهذا حق، ولكن أقرّ به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
فمن دعا الله في تفريج كربته، وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقاً في ذلك، خصوصاً إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته، مثل قوله في دعائه: فلان عبدك، أو قول: عبد علي، أو عبد النبي، أو عبد الزبير، فقد أقر له(4/292)
بالربوبية، وفي دعائه علياً، أو الزبير، وإقراره له بالعبودية ليأتي له بخير، أو ليصرف عنه شراً، مع تسمية نفسه عبداً له، قد أقَرّ له بالربوبية، ولم يقر لله بأنه رب العالمين كلهم، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبداً نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات، وسأل عن كلام أهل العلم، وهم أهل الصراط المستقيم، هل فسروا السورة بهذا، أم لا.
وأما الملك فيأتي الكلام عليه، وذلك أن قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي القراءة الأخرى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فمعناه عند جميع المفسرين كلهم، ما فسره الله به في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 17-19] . فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء، ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة، التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها.
فيا لها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها! فأين هذا المعنى والإيمان به، والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً " 1، من قول صاحب البردة؟
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقمِ
__________
1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646, 3647) , وأحمد (2/398, 2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) .(4/293)
فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمداً وهو أوفى الخلق بالذممِ
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدمِ
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعي أنه من العلماء، واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن، هل يجتمع في قلب عبد: التصديق بهذه الأبيات، والتصديق بقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، وقوله: "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً " 1؟ لا والله! لا والله! لا والله! إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق.
فلا والله ما استويا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربانِ
فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة ومن فتن بها، عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة، واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عند التكفير والقتال؛ بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وعند قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
__________
1 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646, 3647) , وأحمد (2/398, 2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) .(4/294)
فهذا بعض المعاني في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] بإجماع المفسرين كلهم؛ وقد فسرها الله سبحانه في سورة: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [سورة الانفطار آية: 1] كما قدمت لك. واعلم، أرشدك الله، أن الحق لا يتبين إلا بالباطل، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فتأمل ما ذكرت لك، ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف ملة أبيك إبراهيم، ودين نبيك، فتحشر معهما، ولا تصد عن الحوض يوم الدين، كما يصد عنه من صد عن طريقهما؛ ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة، ولا تزل عنه، كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل. فعليك بإدامة دعاء الفاتحة، مع حضور قلب وخوف وتضرع.
وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، فالعبادة: كمال المحبة وكمال الخضوع والخوف والذل. وقدم المفعول، وهو: إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك؛ وهذا هو كمال الطاعة. والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة. فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: إياك نوحد، ومعناه: أنك تعاهد ربك أن لا تشرك في عبادته أحداً، لا ملكاً ولا نبياً ولا غيرهما، كما قال للصحابة: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .(4/295)
فتأمل هذه الآية، واعرف ما ذكرت لك في الربوبية، أنها التي نسبت إلى تاج، ومحمد بن شمسان؛ فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم، فكيف بمن فعلها في تاج، وأمثاله؟ وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، هذا فيه أمران: أحدهما: سؤال الإعانة من الله، كما مر أنها من نصف العبد.
وأما قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] ، فهذا هو الدعاء الصريح، الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه، والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة الفتح آية: 2] . والهداية ها هنا: التوفيق والإرشاد.
وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع، والعمل الصالح، على وجه الاستقامة والكمال، والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله.
والصراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه؛ والمراد بذلك: الدين الذي أنزله الله على رسول صلى الله عليه وسلم، وهو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأنت في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم، وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس(4/296)
بمستقيم؛ وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب. وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو: اعتقاد ذلك مجملاً، وتركه مفصلاً، فإن أكفر الناس من المرتدين، يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [سورة المائدة آية: 70] .
وأما قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بغير علم؛ فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى. وكثير من الناس إذا رأى في التفسير: أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائماً، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله؛ هذا من ظن السوء بالله، والله أعلم.
هذا آخر الفاتحة، وأما "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها: اللهم استجب. فالواجب تعليم الجاهل، لئلا يظن أنها من كلام الله.(4/297)
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: وأما التأمين بعد الفاتحة، فثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، فقولوا: آمين؛ فإن الملائكة في السماء تقول: آمين. فمن وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه " 1. ويسن للإمام والمأمومين أن يقولوها جهراً.
وأجاب بعضهم: التأمين سنة مؤكدة، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين، يجهر بها " 2. وصح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه " 3. وأجمع العلماء، رحمهم الله، على استحباب ذلك.
سئل بعضهم: كم الواجب من القراءة في الصلاة؟ وما الدليل على ذلك؟
فأجاب: الواجب من ذلك قراءة الفاتحة لا غير، لمن قدر على تعلمها، واستدلوا على ذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 4، أخرجه مسلم في صحيحه؛ وفيه دلالة واضحة.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عمن قرأ سورة مرتين في ركعة من الفرض؟ فأجاب: لا بأس به.
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4475) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (927, 928, 929, 930) , وأبو داود: الصلاة (935, 936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851) , وأحمد (2/233, 2/238, 2/270, 2/312, 2/449, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195, 196, 197) , والدارمي: الصلاة (1246) .
2 الترمذي: الصلاة (248) , وأبو داود: الصلاة (932) , والدارمي: الصلاة (1247) .
3 البخاري: الأذان (782) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (927, 928, 929, 930) , وأبو داود: الصلاة (935, 936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851, 853) , وأحمد (2/233, 2/270, 2/312, 2/449, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195, 196, 197) , والدارمي: الصلاة (1246) .
4 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247, والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) .(4/298)
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهم الله: ما يقول بين السجدتين؟
فأجاب: إذا جلس بين السجدتين، قال: رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني، واعف عني.
وسئل: عن التحيات؟
فأجاب: وأما صفة التحيات، فالذي نختاره: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كان يعلم أصحابه التشهد في الصلاة، كما يعلمهم السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، ويدعو بما تيسر، ثم يسلم " 1.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "التحيات لله "، ومن التحيات الخضوع، والركوع، والكتوف 2، والخشوع، والدوام، والبقاء، وأمثال ذلك، "والصلوات " هي: الدعوات؛ فأولها: الشهادتان، ومنها الخوف والرجاء، والتوكل، والإنابة، والخشية، والرغبة، والرهبة، والذبح، والنذر ونحو ذلك، "والطيبات " وأولها: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن
__________
1 البخاري: التوحيد (7381) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164, 1166, 1167, 1170, 1171) والسهو (1298) , وأحمد (1/376, 1/450, 1/459, 1/464) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) .
2 وضع إحدى يديه على الأخرى, ذلاً بين يدي الله.(4/299)
المنكر، وكل عمل، كالجهاد، والنفقة، والكلام، وكل عمل تعمله لله؛ فهذا كله لا حق فيه لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهم.
"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " ومعناها: تدعو بالسلامة والرحمة والبركة، ثم تدعو لنفسك وكل عبد صالح في السماوات والأرض، من الأحياء والأموات، ثم تختمها بالشهادتين.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، عن رفع اليدين إذا قام بعد التشهد الأول؟
فأجاب: هو في هذا الموضع ثابت في الصحيح، من حديث عبد الله بن عمر، وثابت أيضاً من حديث علي عند الإمام أحمد، خرجه في المسند، وكذلك هو في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجة، وهو أصح الروايتين عند أصحاب الإمام أحمد.(4/300)
فصل
قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن في أثناء جواب له: قال ابن القيم، رحمه الله: فصل فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة، وجلوسه بعدها، وسرعة انفتاله منها، وما شرعه لأمته من الأذكار، والقراءة بعدها: كان إذا سلم استغفر ثلاثاً، وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " 1، ولم يمكث مستقبل القبلة إلا مقدار ما يقول ذلك، بل يسرع الانفتال إلى المأمومين. وكان ينفتل عن يمينه، وعن يساره؛ قال ابن مسعود: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما ينصرف عن يساره " 2. وقال أنس: " أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه " 3، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم.
وقال عبد الله بن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه، وعن يساره في الصلاة. ثم كان يقبل على المأمومين بوجهه، ولا يخص ناحية منهم دون ناحية " 4. " وكان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس " 5. " وكان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " 6. وكان يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (591) , والترمذي: الصلاة (300) , وأبو داود: الصلاة (1512) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (928) , وأحمد (5/279) , والدارمي: الصلاة (1348) .
2 البخاري: الأذان (852) , والنسائي: السهو (1360) , وأبو داود: الصلاة (1042) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (930) , وأحمد (1/383, 1/408, 1/429, 1/459, 1/464) , والدارمي: الصلاة (1350) .
3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (708) , والنسائي: السهو (1359) , وأحمد (3/179, 3/217) , والدارمي: الصلاة (1351, 1352) .
4 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (931) , وأحمد (2/190, 2/215) .
5 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (670) , والترمذي: الجمعة (585) , والنسائي: السهو (1357, 1358) , وأحمد (5/100) .
6 البخاري: الأذان (844) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593) , والنسائي: السهو (1341) , وأبو داود: الصلاة (1505) , وأحمد (4/250) .(4/301)
الملك وله الحمد، وهو كل على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " 1. وذكر أبو داود عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت " 2.
وذكر الإمام أحمد عن زيد بن أرقم: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك. اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة. اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة. يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب. الله أكبر. الله أكبر. الله نور السماوات والأرض. الله أكبر. الله أكبر. حسبي الله ونعم الوكيل. الله أكبر الأكبر " 3، رواه أبو داود. وندب أمته إلى أن يقولوا في دبر كل صلاة: "سبحان الله" ثلاثاً وثلاثين، و"الحمد لله" ثلاثاً وثلاثين، و"الله أكبر" كذلك، وتمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (594) , والنسائي: السهو (1339) , وأحمد (4/4) .
2 الترمذي: الدعوات (3421) , وأبو داود: الصلاة (1509) , وأحمد (1/94, 1/102) .
3 أبو داود: الصلاة (1508) , وأحمد (4/369) .(4/302)
له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". وفي صفة أخرى: " التكبير" أربعاً وثلاثين، فتتم المائة. وفي صفة أخرى: خمساً وعشرين تسبحية، ومثلها تحميداً، ومثلها تكبيراً، ومثلها "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ". وفي صفة أخرى: عشر تسبيحات، وعشر تحميدات، وعشر تكبيرات.
وفي السنن من حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في دبر صلاة الفجر، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من الشيطان، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه ذلك اليوم إلا الشرك بالله " 1، قال الترمذي: حديث صحيح. وذكر أبو حاتم في صحيحه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند انصرافه من صلاته: اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي. اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك. لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " 2.
وذكر الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب، قال: "ما صليت وراء نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا سمعته حين ينصرف من صلاته
__________
1 الترمذي: الدعوات (3474) .
2 النسائي: السهو (1346) .(4/303)
يقول: اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها. اللهم أنعشني وأحيني وارزقني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت، ولا يصرف سيئها إلا أنت ". وذكر ابن حبان في صحيحه عن الحارث بن مسلم التميمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار، سبع مرات؛ فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جواراً من النار. وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار، سبع مرات؛ فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جواراً من النار " 1.
وقد ذكر النسائي في السنن الكبير، من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت "، تفرد به محمد بن حمير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة; ورواه النسائي عن الحسين بن بشر، عن محمد بن حمير، وهذا الحديث من الناس من صححه، ومنهم من يقول: هو موضوع، وأدخله ابن الجوزي في كتابه في الموضوعات، وتعلق على محمد بن حمير، وأن أبا حاتم الرازي قال: لا يحتج به، وقال يعقوب بن سفيان: ليس بقوى; وأنكر ذلك بعض الحفاظ، ووثقوا محمداً، وقد احتج به البخاري، ووثقه يحيى بن معين; وقد رواه الطبراني في معجمه أيضاً، من حديث عبد الله بن حسن، عن أبيه عن جده، قال: قال
__________
1 أحمد (4/234) .(4/304)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى ". وقد روي هذا الحديث من حديث عبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم؛ وفي كلها ضعف، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين طرقها واختلاف مخارجها، دل على أن الحديث له أصل، وليس بموضوع.
وفي المسند والسنن عن عقبة بن عامر، قال: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة " 1، ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط مسلم; ولفظ الترمذي "بالمعوذتين". وفي معجم الطبراني، ومسند أبي يعلى، من حديث عمر بن نبهان - وقد تكلم فيه - عن جابر يرفعه: " ثلاث من جاء بهن مع الإيمان، دخل من أي أبواب الجنة شاء، وزوج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، وأدى ديناً خفياً، وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات: قل هو الله أحد ". وقال أبو بكر: وإحداهن يا رسول الله؟ قال: "وإحداهن ". وأوصى معاذاً أن يقول في دبر كل صلاة: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " 2.
وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: قد رأيت ورقة لا أعرف من قالها، ولكن لما كان في نقله ما يشعر برد
__________
1 الترمذي: فضائل القرآن (2903) , والنسائي: السهو (1336) , وأبو داود: الصلاة (1523) .
2 النسائي: السهو (1303) , وأبو داود: الصلاة (1522) .(4/305)
النصوص الواردة في الجهر بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، وسمى هذه المتروكة تشويشاً على الناس، وجعلها من البدع والمحدثات، فيقال لهذا الجاهل: ليس ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهر بالذكر بعد المكتوبة تشويشاً على الناس؛ بل هذا القول هو التشويش على الناس والتلبيس عليهم، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المنكرات، لأن ذلك دفع في نحر النصوص، ورد لها بالتمويه والسفسطة، والقول بلا علم، وقلب للحقائق؛ فإن هذا القول لا يقوله من في قلبه تعظيم للنصوص وتوقير لها.
وهذه السنة الواردة في الجهر بالذكر عقب الفرائض، قد انقسم الناس فيها في هذه الأزمان على ثلاثة أصناف: طرفان، ووسط:
الأول: يلزمون الناس بها، ويغلظون في ذلك، ويعادون ويوالون على ذلك؛ ومن تركها فليس عندهم من أهل السنة.
والثاني: من لا يرى سنيتها، وبعضهم يقول: إنها من البدع، ويرون أن الفاعل لها مشوش على الناس، وبعضهم يدخل هذا الجهر في مسمى الرياء.
والثالث: - وهم الوسط -، فهم يقولون: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وتقريره؛ فكان الصحابة يفعلون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تعليمهم إياه، ويقرهم على ذلك، فعلموه بتعليم الرسول إياهم، وعملوا به، وأقرهم على ذلك العمل بعد العلم به، ولم ينكره عليهم. ثم ترك العمل به كما ترك(4/306)
العمل بكثير من سنن الأقوال والأفعال. وهذا الصنف من الناس يقولون: من فعله فقد أحسن، وفعل سنة يثاب عليها، ومن لا فلا حرج عليه ولا إثم، ولا عقاب على من ترك ذلك، لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، وينكرون على من أنكره، يخبرون بأنه سنة.
إذا عرفت هذا، فما نقله عن ابن كثير أنه قد استحبه طائفة، كابن حزم وغيره فهو كذلك؛ وقد نقل صاحب الإقناع استحبابه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن طائفة من أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، كما ذكر ذلك في المغني والشرح الكبير وغيرهما، وهو الحق والصواب، وعليه تدل السنة، وعمل الصحابة، رضي الله عنهم. وهذا الرجل وأحزابه لا يعرفون إلا ما ألفوه من العادات، فينكرون ما ثبت النص به في الجهر بالذكر عقب الصلاة، لأنهم ما ألفوا ذلك ولا اعتادوه، ويجهرون بالتهليلات العشر بعد صلاة المغرب والفجر؛ ولم يرد في تخصيصها بالجهر بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصاً.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر، رحمه الله: فأما السؤال عن التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، إذا كان قد ثبت في الأحاديث من قال: قبل أن ينصرف، وفي لفظ دبر المغرب والصبح " لا إله إلا الله وحده لا شريك له " إلخ، وهو الذي يفعله الناس اليوم من الجهر، هل كان من هديه صلى الله عليه وسلم(4/307)
وفعله أصحابه والتابعون؟ وما أصل هذه التهليلات العشر؟ فهذا ما أشار إليه السائل من الأحاديث الواردة فيه، فروى الترمذي في سننه حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال دبر صلاة الصبح، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات " 1 الحديث. وروى الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، من حديث عمارة بن شبيب مرفوعاً: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، على أثر المغرب، بعث الله له مسلحة يحفظونه حتى يصبح " 2 الحديث، قال الترمذي: غريب.
فهذان الحديثان هما أصل التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب، وهما حجة على استحباب هذه التهليلات؛ ولهذا استحبها العلماء، وذكروها في الأذكار المستحبة دبر الصلاة، وأن المصلي يهلل بهن دبر صلاة الفجر، وصلاة المغرب.
وأما قول السائل: هل هذا من هديه صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه؟ فهذا لم يبلغنا من فعله صلى الله عليه وسلم، والذي ثبت عنه الترغيب في ذلك وترتيب الأجر العظيم على فعله، وذلك كاف
__________
1 الترمذي: الدعوات (3474) .
2 أحمد (5/420) .(4/308)
في استحبابه؛ وهذا له نظائر في السنة، فإذا وردت الأحاديث بالحث على شيء من العبادات، ورغب فيه الشارع، ثبت أنها مستحبة وإن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلهما؛ ومن تأمل الأحاديث عرف ذلك، وليس في هذا اختلاف بين العلماء، وإنما الخلاف بينهم في استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة، لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك - يعني بالجهر -؛ ولهذا اختلف العلماء: هل الأفضل الإسرار، كما هو المشهور عند أتباع الأئمة؟ أم الجهر أفضل، لهذا الحديث الصحيح؟
قال في الفروع: وهل يستحب الجهر لذلك؟ كقول بعض السلف والخلف، قاله شيخنا، أم لا؟ كما ذكره أبو الحسن ابن بطال وجماعة، أنه قول أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم؛ وظاهر كلام أصحابنا مختلف، ويتوجه تخريج واحتمال: يجهر لقصد التعليم فقط، ثم يتركه وفاقا للشافعي، وحمل الشافعي خبر ابن عباس، رضي الله عنهما، على هذا. انتهى كلامه.
فهذا الاختلاف في استحباب الجهر بعد الصلوات بالأذكار الواردة من حيث الجملة; وحديث ابن عباس دليل على الاستحباب. وأما تخصيص هذه التهليلات بالجهر دون(4/309)
غيرها من الأذكار، فلم نعلم له أصلاً، ولكن لما أثبت ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صح الاستدلال به على رفع الصوت بالتهليلات، إذ هو من جملة الأذكار الواردة؛ فمن رفع صوته بذلك لم ينكر عليه، بل يقال رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة مستحب، ومن أسر لم ينكر عليه، لأن ذلك من مسائل الاختلاف بين العلماء، وكل منهم قد قال باجتهاده، رضي الله عنهم أجمعين.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: الأصل فيها أحاديث كثيرة، منها قوله في الحصن: ودبر المغرب والصبح جميعاً: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 1، رواه في معجم الطبراني الصغير، وفي عمل اليوم والليلة لابن السني. وفي مشكاة المصابيح عن عبد الله بن غنم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً، إلا رجل يفضله بقول أفضل مما قال " 2، رواه أحمد، ورواه الترمذي بنحوه عن أبي ذر، إلى قوله: "إلا
__________
1 البخاري: الأذان (844) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593) , والنسائي: السهو (1341) , وأبو داود: الصلاة (1505) , وأحمد (4/250, 4/251) , والدارمي: الصلاة (1349) .
2 أحمد (4/226) .(4/310)
الشرك "، ولم يذكر صلاة المغرب، ولا "بيده الخير "، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال في الإقناع: ويستحب بعد كل من الصبح والمغرب، قبل أن يتكلم: عشر مرات " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير ". وقال النووي في الأذكار: عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال في دبر صلاة الصبح وهو ثان رجليه، قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه، وحرز من الشيطان، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله " 1، قال الترمذي: هذا حديث حسن; وذكر في الأذكار بعد المغرب قريباً من ذلك. انتهى.
وأما اجتماع الإمام والمأموم على التهليلات العشر والجهر بهن، فلم نقف على كلام أحد من العلماء أن السلف فعلوه، لكن الناس تلقوه بالقبول وعملوا به؛ وفوق كل ذي علم عليم، والله أعلم. وأما الجهر بالذكر بعد الصلوات، فعن ابن عباس: "كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير ". وعن عبد الله بن الزبير قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده لا
__________
1 الترمذي: الدعوات (3474) .(4/311)
شريك له، له الملك وله الحمد " 1 إلى قوله: " مخلصين له الدين ولو كره الكافرون "، رواه مسلم.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية: يستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة. انتهى. وقال في المبدع - لما ذكر استحباب الذكر عقب الصلاة -: ويستحب الجهر بذلك; وحكى ابن بطال عن أهل المذاهب المتبوعة خلافه، وكلام أصحابنا مختلف، قاله في الفروع، قال: ويتوجه لقصد التعليم فقط، ثم يتركه. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما الجهر بالتهليل بعد الصبح والمغرب فلا علمت أنه ورد شيء يخصه، وإنما اختلف العلماء في الجهر بالذكر المشروع بعد الصلوات، ولم يخصوا ذكراً دون ذكر.
وسئل بعضهم عن قول عائشة، رضي الله عنها، في قوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء آية: 110] ، نزلت في الدعاء، ما معنى: تنْزيل لفظ الآية على دعاء الله؟ مع أن إخفاء الدعاء أفضل، والذي نفهم في معنى الآية كلام ابن عباس: أنها نزلت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بأصحابه، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ... الحديث؟
فأجاب: كلام ابن عباس، رضي الله عنهما، هو الذي عليه
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (594) , والنسائي: السهو (1339, 1340) , وأبو داود: الصلاة (1506) , وأحمد (4/4, 4/5) .(4/312)
جمهور العلماء، أن النزول كان بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته في صلاته، فنهاه الله بهذه الآية عن الجهر بالقراءة في صلاته، لئلا يسمعه كفار قريش فيسبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، ولا يخافت به مخافتة لا يسمع بها نفسه، بل يكون بين ذلك بحيث يسمع نفسه؛ هكذا قال ابن عباس وموافقوه من العلماء.
وقالت عائشة، رضي الله عنها: إنها نزلت في الدعاء الذي هو الصلاة اللغوية لا الشرعية، وهذا الدعاء داخل في الشرعية، ولكن لم تنْزل هذه الآية إلا بسبب الدعاء، فلا يجهر به جهراً مسمعاً خارجاً عن العادة، ولا يخافت به مخافتة لا يسمعه، بل يكون بين ذلك؛ وكلا المعنيين حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع بالقراءة حتى نهاه الله عن السماع الجهري، وكذلك دعاء الله سبحانه وتعالى لا يجهر به جهرا مسمعاً، بل يخفيه إخفاء بحيث يسمع نفسه، كبقية الذكر الذي في الصلاة وغيرها. وليس المقصود من أفضلية إخفاء الدعاء أنه لا يسمع نفسه، هذا المعنى لم يعنه أحد، وقد قال تعالى في الذكر الذي هو أعم من القرآن والدعاء وغيرهما: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [سورة الأعراف آية: 205] ، قال العلماء: معناه: سراً، بحيث تسمع نفسك، {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة الأعراف آية: 205] ، فدلنا ذلك على أن الأمر في الدعاء الوسط، وهو بقدر ما يسمع الداعي نفسه، ما لم يكن الداعي(4/313)
إماماً قانتاً، والمأمومون يؤمنون خلفه، فإنه يجهر بحيث يسمع من خلفه كما جاء فيه الأثر.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: هل الذكر بالقلب أفضل أم باللسان؟
فأجاب: وأما الذكر فهو بالقلب واللسان أفضل، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل، لأنه أبعد عن الرياء، ولأنه يحدث منه من المعرفة والمحبة والرجاء والخوف والمراقبة والتعظيم وغير ذلك ما لا يحدث من اللسان وحده؛ فنتيجة الذكر بالقلب أعظم من نتيجتها باللسان، ويكتب له أجر ذلك بلا خلاف. وأما هذا الأثر عن عائشة، رضي الله عنها، فلم أجده كما ذكر السائل، وإنما الحديث عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يفضل الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذي تسمعه بسبعين ضعفاً "، رواه ابن أبي الدنيا. وروى أيضاً بإسناده قال: "قال الحجاج بن دينار: سألت أبا معشر عن الرجل يذكر ربه في نفسه، كيف تكتبه الملائكة؟ قال يجدون الريح ". وروى أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي " 1.
وأما قول السائل: أيما أفضل: الصلاة أو قراءة القرآن؟ فهذا الفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات: فجنس
__________
1 أحمد (1/172) .(4/314)
الصلاة أفضل من جنس القراءة، لأن الصلاة مشتملة عليه، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. وتارة يختلف باختلاف الأوقات: كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر، مشروع دون الصلاة، فهو أفضل، وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر: فالذكر والدعاء في الركوع والسجود، هو المشروع دون القراءة.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: عن الدعاء بعد المكتوبة، ورفع الأيدي؟
فأجاب: وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي، فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام بن تيمية، رحمه الله، لعدم وروده على هذا الوجه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: الدعاء بعد الفرائض إن فعله إنسان بينه وبين الله فحسن، وأما رفع الأيدي في هذه الحال فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا ما أرى الإنكار على فاعله، ولو رفع يديه.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: رفع اليدين عند الدعاء، فيه أحاديث كثيرة، ولا ينكره إلا جاهل، وذكر جمع السيوطي، ثم قال: وذكر ابن حجر أن رفع اليدين في الدعاء سنة في غير الصلاة، وفيها في القنوت; وقد ذكر ابن رجب(4/315)
في شرح الأربعين، في صفة رفع اليدين أنواعاً متعددة. انتهى. ثم قال: فأما دعاء الإمام والمأمومين، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به؛ قال الشيخ تقي الدين: ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام، بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث. انتهى ملخصاً.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن: وأما رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، فالذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا اجتهد في الدعاء، وليس ذلك من الأفعال المتعلقة بالصلاة، كما يظنه بعض من لم يعرف السنة، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة.
وأجاب الشيخ صالح بن محمد الشثري: اعلم أن هذه الصفة لم يفعلها صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه، ولا التابعون بعدهم، ولم تنقل عمن يوثق به من الفقهاء؛ وقد أكمل الله الدين على لسان سيد المرسلين قولاً منه وفعلاً؛ وقد ذكر شيخ الإسلام أنها بدعة، وبذلك أفتى مشائخنا النجديون، منهم الشيخ عبد الله أبا بطين وغيره، ولا يخفى أنهم يحرصون على التماس السنة وسلوكها، ولا يتنطعون كما يفعله الجاهلون من تضييع السنة المأثورة، وارتكاب البدع المحظورة. والعبادة مبناها على الأمر، فلا تصح عبادة إلا بأمره صلى الله عليه وسلم أو فعله أو(4/316)
تقريره، وكل هذه مفقودة في المسألة المسؤول عنها.
وأما رفع اليدين في الجملة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، ذكر منها السيوطي نيفاً وأربعين موضعاً من قوله وفعله، وذكر ابن رجب جملة، وذكر اختلافهم في صفة الرفع؛ فينبغي للمسلم أن يقتدي بالسلف الصالح وإن خالفه الأكثرون.
وأجاب الشيخ سليمان بن سحمان: وأما الدعاء بعد المكتوبة، فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من الأذكار، من غير رفع اليدين، كما ورد في الصحيحين وغيرهما من الكتب، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يمنعه، ولا أحد من أتباعه، ولا أحد من أهل الحديث، وإن كان الدعاء بغير الألفاظ المأثورة كما يفعله بعض الناس اليوم، فقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، لما سئل عن ذلك: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو ولا المأمومون عقب الصلوات الخمس، كما يفعله الناس عقب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عما روي: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وما روي عن علي مرفوعاً: من قرأ آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ... إلخ.(4/317)
فأجاب: وأما الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي، فمنها ما هو صحيح ثابت، ومنها ما ليس بصحيح، والظاهر أن الحديث الذي فيه: أن الله يتولى قبض روح من قرأها دبر كل صلاة، لا يصح، وكذلك الحديث المروي عن علي رضي الله عنه: من قرأ آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ... إلخ، الظاهر عدم صحته. وروى النسائي وابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت "، قال ابن القيم: بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال: ما تركتها بعد كل صلاة إلا نسياناً، ونحوه. وقال شيخنا - أبو الحجاج المزي -: إسناده على شرط البخاري. قال ابن كثير: وروى ابن مردويه من حديث علي وجابر والمغيرة نحو ذلك، وفي أسانيدها ضعف.
وسئل الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم، ابنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: عن المداومة على قراءة آية الكرسي؟
فأجابوا: أما مداومة قراءة آية الكرسي للإمام والمأموم خفية، فقد أجاب على هذه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فقال: قد روي في قراءة آية الكرسي عقب الصلاة حديث، لكنه ضعيف، ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي، وأما إذا(4/318)
قرأها الإمام في نفسه، أو أحد المأمومين، فهذا لا بأس به. انتهى.
فصل
قال الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى: وأما أحزاب العلماء المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها؛ فإن الأذكار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، مطلوب شرعاً; والمعتني به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثواباً، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع ولا تغيير ولا تحريف؛ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . ولله در النووي في جمعه كتاب الأذكار، فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق.
وسئل: هل تجزئ قراءة الورد بعد الصبح قبل الصلاة؟ وأيما قراءة القرآن أو الورد تلك الساعة أحسن؟ وقول: لا تكفيه قراءة الورد قبل الصلاة، هل له أصل؟
فأجاب: قراءة الورد بعد الصبح وقبل الصلاة إذا تأخر الإمام، حسن إن شاء الله تعالى، وكاف؛ فإن قرأ القرآن في تلك الساعة، وقرأ ورده بعد الصلاة فهو حسن أيضاً. والقول بأن قراءة الورد قبل صلاة الفجر لا تكفي، لا أعلم له أصلاً.(4/319)
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن استدبار القبلة وقت الدرس؟ وهل يفرق بين الإمام والمأموم؟ وهل يجب التحلق له؟
فأجاب: أما الجلوس مستدبر القبلة وقت الدرس، فلا علمت فيه بأساً، وسواء في ذلك الذي يذكر الناس أو غيره، واستدل العلماء على ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى به، وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور; ولكن الأفضل: جلوس الإنسان مستقبل القبلة، إذا كان في عمل صالح، ومن استدبرها لم ينكر عليه.
وأما التحلق للدرس فهو أفضل، اقتداء بالسلف الصالح، وأما إذا وقعت المذاكرة في رمضان وقت قيام الليل، وجلسوا في الصف على هيئتهم إذا جلسوا للصلاة، وهم يسمعون القارئ، والمذكر، فهذا أحسن وإن لم يتحلقوا.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن حديث: " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه " 1، هل إذا تحول من مجلسه إلى موضع آخر في المسجد يحصل له ذلك؟
فأجاب: الذي يظهر أن حكم المسجد الذي صلى فيه، حكم موضع صلاته.
__________
1 البخاري: الصلاة (445) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (649) , والنسائي: المساجد (733) , وأبو داود: الصلاة (469) , وأحمد (2/252, 2/312, 2/502) , ومالك: النداء للصلاة (382) .(4/320)
فصل
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عمن رأى قدامه فرجة ... إلخ؟
فأجاب: إذا رأى المصلي بين يديه فرجة في الصلاة، فأرى أنه لا بأس بسدها; وأما إذا كان من صف إلى صف، ثم إلى آخر، كما يفعل بعض الناس، فأخاف أنه يبطل الصلاة إذا كثر وكان متوالياً; وإن كان من صف إلى صف، ولو لم يسدها غيره، فلزوم مكانه أحب إلي.
سئل الشيخ عبد الله العنقري: إذا سها الإمام ثم نبه، ولم يدر ما حالته، هل للمأموم أن يفتح عليه بآية من القرآن؟
فأجاب: أما الفتح على الإمام في حال سهوه بشيء من القرآن، إذا لم يمكنه تفهيمه إلا بذلك، فالظاهر أنه لا بأس به.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن السترة للمأموم في الصلاة؟
فأجاب: ذكر العلماء أن المأموم لا يستحب له اتخاذ السترة، وإنما اتخاذها مسنون للإمام والمنفرد؛ وكذلك يسن القرب منها بقدر ثلاثة أذرع من قدميه إليها.
واتخاذ السترة سنة لا واجب، فإن مر بين يدي الإمام ما يبطل مروره الصلاة، كالكلب والحمار، بطلت صلاته، وصلاة المأمومين، وإن(4/321)
مر بين يديه ما لا يبطلها، كمرور الرجل لزمه دفعه، فإن لم يفعل فالإثم عليه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل الحكم مقيد بالأَسْوَد؟
فأجاب: المسألة فيها روايتان، والأظهر منهما الاقتصار على ما نص عليه الشارع صلى الله عليه وسلم.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: عن السؤال عند آية الرحمة في الفريضة، وكذلك الاستعاذة عند آية الوعيد؟
فأجاب: هذا جائز في النافلة باتفاق العلماء، وأما في الفريضة فكثير من علماء الحنابلة منعه، وقال: إنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله؛ فيقصر الحكم على ما تناوله النص.
وقال الموفق، رحمه الله: يجوز ذلك في الفريضة، لأن الأصل المساواة، ما لم يقم دليل الخصوصية وهو قوي، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير: " وليتخير من الدعاء ما شاء " 1، وهذا عام في الفريضة والنافلة، وعدم فعله في الفريضة خروج من خلاف العلماء، ومن فعل فقد استند إلى دليل.
__________
1 أحمد (1/382) .(4/322)
فصل أركان الصلاة
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: وأركان الصلاة أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في جميع الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليمتان. وله أيضاً نحوه، إلا أنه قال: والتسليمة الأولى.
الركن الأول: القيام مع القدرة، والدليل: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] . الثاني: تكبيرة الإحرام، والدليل: الحديث: " تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " 1، وبعدها الاستفتاح، وهو سنة، قول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " 2. ومعنى "سبحانك اللهم " أي: أنزهك التنزيه اللائق بجلالك، "وبحمدك " أي: ثناء عليك، "وتبارك اسمك " أي: البركة لا تنال إلا بذكرك، "وتعالى جدك " أي: جلت عظمتك، "ولا إله غيرك " أي: لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا الله. "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " معنى أعوذ: ألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا الله، "من الشيطان الرجيم ": المطرود المبعد عن رحمة الله، لا يضرني في ديني ولا في دنياي.
وقراءة الفاتحة ركن في كل ركعة، كما في الحديث: " لا
__________
1 الترمذي: الطهارة (3) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (275) , وأحمد (1/123, 1/129) , والدارمي: الطهارة (687) .
2 الترمذي: الصلاة (242) , والنسائي: الافتتاح (899, 900) , وأبو داود: الصلاة (775) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (804) , وأحمد (3/50) , والدارمي: الصلاة (1239) .(4/323)
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 1، وهي أم القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 1] : بركة واستعانة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : الحمد ثناء، والألف واللام لاستغراق جميع المحامد؛ وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه فالثناء به يسمى مدحاً لا حمداً. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} : الرب هو المعبود الخالق الرازق المالك المتصرف، مربي جميع الخلق بالنعم. {الْعَالَمِينَ} : كل ما سوى الله عالم، وهو رب الجميع. {الرَّحْمَنِ} : رحمة عامة لجميع المخلوقات. {الرَّحِيمِ} : رحمة خاصة بالمؤمنين، والدليل: قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 43] . {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] : يوم الجزاء والحساب، يوم كل يجازى بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والدليل: قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 17-19] ، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " 2.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أي: لا نعبد غيرك، عهد بين العبد وربه أن لا يعبد إلا إياه. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : عهد بين العبد وبين ربه أن لا يستعين بأحد سواه.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] : معنى اهدنا: دلنا وأرشدنا وثبتنا، والصراط: الإسلام، وقيل: الرسول، وقيل: القرآن؛ والكل حق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] : طريق المنعم عليهم، والدليل:
__________
1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) .
2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2459) , وابن ماجة: الزهد (4260) .(4/324)
قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] . {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] : وهم اليهود معهم علم ولا عملوا به؛ تسأل الله أن يجنبك طريقهم. {وَلا الضَّالِّينَ} : وهم النصارى يعبدون الله على جهل وضلال؛ تسأل الله أن يجنبك طريقهم.
ودليل الضالين: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] ، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1، أخرجاه. الحديث الثاني: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة. قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
والركوع والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والدليل: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الحج آية: 77] ، والحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم " 2، والطمأنينة في
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والنسائي: التطبيق (1097) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) .(4/325)
جميع الأفعال، والترتيب بين الأركان، والدليل: حديث المسيء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِّ، فإنك لم تصل. فعلها ثلاثاً. ثم قال: والذي بعثك بالحق نبياً، لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " 1.
والتشهد الأخير ركن مفروض، كما في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبرائيل وميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله من عباده، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " 2.
ومعنى "التحيات ": جميع التعظيمات لله ملكاً واستحقاقاً، مثل الانحناء والركوع والسجود، والبقاء والدوام، وجميع ما يعظم به رب العالمين فهو لله؛ فمن صرف منه شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر. "والصلوات " معناها: جميع الدعوات;
__________
1 البخاري: الأذان (793) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) .
2 البخاري: الاستئذان (6230) , والنسائي: التطبيق (1169) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382, 1/423, 1/427) .(4/326)
وقيل: الصلوات الخمس، "والطيبات ": الله طيب ولا يقبل من الأعمال إلا طيبها. " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " 1: تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة والرحمة والبركة ورفع الدرجة؛ فالذي يدعى له لا يدعى مع الله. "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " 2: تسلم على نفسك، وعلى كل عبد صالح من أهل السماء والأرض، والسلام دعاء، والصالحون يدعى لهم ولا يُدعون مع الله.
" أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " 3: تشهد شهادة اليقين ألا يعبد في الأرض ولا في السماء بحق إلا الله; وشهادة أن محمداً رسول الله: بأنه عبد لا يعبد، ورسول لا يُكَذَّب، بل يطاع ويُتَّبَع، شرفه الله بالعبودية والرسالة؛ والدليل: قوله تعالى: {َبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] . "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " 4: الصلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى، كما حكى البخاري في صحيحه عن أبي العالية، قال: صلاة الله ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى; وقيل: الرحمة; والصواب الأول; ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء، وبارِك وما بعدها: سنن أقوال وأفعال.
__________
1 البخاري: الأذان (831) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382, 1/408, 1/413, 1/427) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) .
2 البخاري: الأذان (831) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164, 1166) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/376, 1/382, 1/408) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) .
3 البخاري: الأذان (831) , ومسلم: الصلاة (402) , والترمذي: الصلاة (289) والنكاح (1105) , والنسائي: التطبيق (1162, 1163, 1164) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/376, 1/382) , والدارمي: الصلاة (1340, 1341) .
4 البخاري: تفسير القرآن (4797) , ومسلم: الصلاة (406) , والترمذي: الصلاة (483) , والنسائي: السهو (1287, 1288, 1289) , وأبو داود: الصلاة (976) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (904) , وأحمد (4/241, 4/243) , والدارمي: الصلاة (1342) .(4/327)
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: اعلم أن أركان الصلاة المعمول بها عندنا ثلاثة عشر:
الأول: القيام مع القدرة، بإجماع أهل العلم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة آية: 238] .
الثاني: تكبيرة الإحرام، واستدلوا عليه بقوله عليه السلام: " تحريمها التكبير "، وبقوله في حديث المسيء في صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر " 1.
الثالث: قراءة الفاتحة لمن يقدر على تعلمها، لقوله عليه السلام: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 2، وأما العاجز عن تعلمها فيقرأ ما تيسر معه من القرآن، أو يذكر بالتهليل والتكبير والتحميد.
الرابع: الركوع حتى يطمئن راكعاً، لحديث المسيء في صلاته، وفيه: " ثم اركع حتى تطمئن راكعا " 3.
الخامس: الاعتدال من الركوع حتى يطمئن قائماً، ويقيم صلبه، لقوله عليه السلام في حديث المسيء في صلاته: " ثم ارفع حتى تعتدل قائماً " 4.
السادس: السجود حتى يطمئن ساجداً، لقوله في حديث المسيء في صلاته: " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا " 5.
السابع: الاعتدال من السجود حتى يطمئن جالساً.
الثامن: السجدة حتى يطمئن ساجداً.
التاسع: قراءة التشهد الأخير إلى قوله: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "، لما جاء في حديث ابن مسعود: " كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ... ".
__________
1 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) .
2 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) .
3 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437) .
4 البخاري: الأذان (793) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) .
5 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437) .(4/328)
العاشر: الجلوس حتى يفرغ.
الحادي عشر: الترتيب على ما ذكر الله ورسوله.
الثاني عشر: الطمأنينة في جميع أحوال الصلاة.
الثالث عشر: التسليم، لقوله عليه السلام: " وتحليلها التسليم " 1.
واعلم: أن أكثر هذه الأركان قد تضمنها حديث المسيء في صلاته، وهو ما ثبت في الصحيحين والسنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد ثم صلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " ارجع فصل فإنك لم تصل " 2. فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " 3، فعل ذلك ثلاثاً. ثم قال في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ًثم اجلس حتى تطمئن جالساً. ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " 4.
قال العلماء: فدل على أن الطمأنينة في هذا الحديث لا تسقط بحال، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي الجاهل.
__________
1 الترمذي: الطهارة (3) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (275) , وأحمد (1/123, 1/129) , والدارمي: الطهارة (687) .
2 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303, والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) .
3 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) .
4 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (2/437) .(4/329)
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: والواجبات ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول: " سبحان ربي العظيم " في الركوع، وقول: " سمع الله لمن حمده " للإمام والمنفرد، وقول: " ربنا ولك الحمد " للكل، وقول: " سبحان ربي الأعلى " في السجود، وقول: " رب اغفر لي " بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له.
وله أيضاً نحوه، إلا أنه قال: السادس: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين. السابع: التشهد الأول، لأنه عليه السلام فعله وداوم على فعله وأمر به، وسجد للسهو حين نسيه. الثامن: الجلوس.
فالأركان ما سقط منها سهواً أو عمداً بطلت الصلاة بتركه، والواجبات ما سقط منها عمداً بطلت الصلاة بتركه، وسهواً جبره بسجود السهو، والله أعلم.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن قول صاحب التنقيح في واجبات الصلاة: وركوع مأموم أدرك إمامه راكعاً فركن وسنة؟
فأجاب: المأموم إذا لم يدرك الإمام إلا في ركوعه، فإنه يكبر معه للإحرام، ثم يركع معه، لأن تكبيرة الإحرام ركن مطلقاً، وتكبيرة الركوع في هذا الحال سنة لا واجب، للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام؛ ووجهه: أنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل، فأجزأ الركن عن الواجب، كطواف الزيارة والوداع، وفيما سوى هذه الصورة تكبيرة الإحرام واجبة، وهنا ليس إلا ركن وسنة فقط.(4/330)
باب سجود السهو
وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد: عمن يقرأ في الركعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهياً ... إلخ؟
فأجاب: الذي يقرأ في الركعتين الأخيرتين غير الفاتحة ساهياً فلا سجود عليه.
سئل بعضهم: عن الإمام والمنفرد، إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، يسجد للسهو؟
فأجاب: هذا ذكر مشروع في غير محله، فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يشرع له سجود سهو، والثانية: يشرع للعموم، ومن لم يسجد له فصلاته صحيحة.
وسئل: إذا شرعا في السريات جهرا أو أسرا في محل جهر، هل يتمان على قراءتهما ... إلخ؟
فأجاب: يبتدئ من محل منتهى قراءته، ولا يستأنف القراءة، والمختار أنه ليس عليه سجود سهو، لأن الجهر والإسرار من سنن الصلاة، فإن سجد في هذه والتي قبلها فلا بأس، للعموم.(4/331)
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن سلم من اثنتين من المغرب ... إلخ؟
فأجاب: إذا سلم الإمام من اثنتين من المغرب ثم ذكر، قام إلى الثالثة بتكبيرة الانتقال، وإذا سلم من ثلاث من الرباعية ثم ذكر، فإنه يقوم للرابعة بلا تكبير.
وسئل: عمن سلم عن نقص فتكلم لمصلحتها، هل تبطل أم لا؟
فأجاب: إذا سلم الإمام عن نقص سهواً، ثم تكلم في تلك الحال بكلام لمصلحة الصلاة، فالصحيح أن صلاته لا تبطل في رواية مشهورة عن أحمد، اختارها جماعة من أصحابه وفاقاً للشافعي.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: إذا سلم المأموم قبل إمامه ... إلخ؟
فأجاب: إذا سلم المأموم قبل سلام إمامه لم تبطل، رواية واحدة، قاله في المغني، فإذا ذكر قريباً أتمها وسجد للسهو إن كان إماماً. وإن كان مأموماً، يحمل الإمام سهوه كهذه المسألة، لأن صلاته تمت ولم يبق عليه إلا متابعة إمامه في السلام، فصلاته حينئذ صحيحة.
وسئل: إذا تكلم المصلي في نفس الصلاة، أو تنحنح؟(4/332)
فأجاب: إن تكلم فيها عمداً لغير مصلحتها بطلت بالإجماع، وإن تكلم فيها ناسياً أو جاهلاً بتحريمه، لم تبطل في إحدى الروايتين عن أحمد؛ وهو مذهب الشافعي، لحديث معاوية بن الحكم حين تكلم في صلاته ولم يأمره بالإعادة. وكذلك إن تنحنح لم تبطل، وقيل إن بان حرفان بطلت. انتهى.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: مبطلات الصلاة ثمانية: الكلام العمد، والضحك، والأكل، والشرب، وكشف العورة، والانحراف عن جهة القبلة، والعبث الكثير، وحدوث النجاسة.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا سلم المأموم عن نقص، وقام مسبوق لقضاء ما فاته، ثم نبه الإمام ... إلخ؟
فاجاب: قد ذكر العلماء مسألة تشبه هذه، وهي: ما إذا فارق المأموم الإمام لعذر، أبيح له ذلك، ثم زال عذره بعد مفارقة الإمام، فالمذهب: أنه يخير بين الدخول مع الإمام، وبين إتمام صلاته وحده، إلا صاحب التلخيص، فقال: يلزمه الدخول مع الإمام لزوال عذره.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: إذا ترك الإمام ركناً من أركان الصلاة ولم يعلم به المأموم فأتى به، ثم بعد(4/333)
ذلك علم الإمام أنه ترك ركناً، فلما سلم قام ليأتي بركعة بدل الركعة التي ترك منها ركناً، هل يتابعه المأموم الذي أتى بالركن، أم تكون صلاته تامة؟
فأجاب: يتابع إمامه، ولا يجزئه إتيانه به دون إمامه.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا جاء المأموم والإمام في ركعة زائدة، هل يدخل مع الإمام فيها، ويعتد بها؟
فأجاب: المشهور في مذهب أحمد عدم الإجزاء، ولا يدخل فيها من علم أنها زائدة.
وأجاب الشيخ حمد بن عتيق: الرجل إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام، ثم سها الإمام فجاء بخامسة، فلا يعتد بها.
وسئل: عن الإمام إذا سلم وقام المأموم، وسجد الإمام للسهو بعد قيام المسبوقين؟
فأجاب: إن استتموا قياماً لم يرجعوا، وإن لم يستتموا رجعوا وتابعوه، فيكون حكمه حكم القيام عن التشهد الأول.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن المأموم إذا قام ظاناً عليه ركعة؟
فأجاب: إذا قام المأموم بعد سلام إمامه ظاناً أن عليه(4/334)
ركعة، فالذي يظهر من كلامهم أنه لا سجود عليه، وإنما السجود على المسبوق ببعض الصلاة إذا سها مع الإمام، أو فيما انفرد به بعد سلام الإمام.
سئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهما الله: عن الإمام إذا سلم، وقال بعض الجماعة بقي ركعة، وبعضهم يقول تامة؟
فأجاب: يعمل بقول من يعتد بهم، فإن كان أكثر ظنه إلا أنه يلحقه شك، فهو يعمل بقول الآخرين.
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الإمام إذا سلم قبل أن يسجد للسهو وتابعه بعضهم في السلام دون بعض؟
فأجاب: الذي ينبغي في هذا متابعة الإمام في السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه " 1، وترك المتابعة من الاختلاف عليه، لكن إذا ترك الإنسان المتابعة جهلاً منه، فأرجو أن لا يكون عليه إعادة، لأن الجاهل يغتفر له ما لا يغتفر للعالم المتعمد.
وسئل: عمن عليه سجود سهو، ونسيه حتى شرع في صلاة أخرى؟
فأجاب: عليه أن يسجد إذا سلم من الصلاة التي دخل
__________
1 البخاري: الأذان (722) , ومسلم: الصلاة (414) , والنسائي: الافتتاح (921) , وأبو داود: الصلاة (603) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (846) , وأحمد (2/314) .(4/335)
فيها، وإن سجد فيها قبل أن يسلم بطلت تلك الصلاة.
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا سجد للسهو بعد السلام، هل يتشهد؟
فأجاب: هذه مسألة خلاف بين الفقهاء، والمذهب عند الحنابلة أنه يتشهد، لحديث عمران بن حصين الذي رواه أبو داود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد، ثم تشهد وسلم " 1، قال الترمذي: حديث حسن غريب.
والقول الثاني: يسلم ولا يتشهد، وهو الذي عليه العمل، واختيار الشيخ تقي الدين، رحمه الله، لأن التشهد لم يذكر في الأحاديث الصحيحة؛ بل الأحاديث الصحيحة تدل على أنه لا يتشهد، وحديث عمران فيه ضعف.
__________
1 الترمذي: الصلاة (395) , والنسائي: السهو (1236) , وأبو داود: الصلاة (1039) .(4/336)
باب صلاة التطوع
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله، أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة، وأن أهم ما على العبد معرفة دينه، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، أعاذنا الله منها.
وقال أبناؤه: الشيخ إبراهيم، وعبد الله، وعلي، رحمهم الله: ومنها: الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى إن من الناس من ينشأ وهو لا يعرف دين الإسلام، ومنهم من يدخل فيه وهو يعرفه ولا يتعلمه، ظناً منه أن الإسلام هو العهد؛ ومعرفة الإسلام والعمل به واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد.
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، ينصح أخاً له: ولا أكره لك نفع الناس، وبث العلم الذي تفهم، سواء كان في أصل الدين أو في فروعه. واحرص على تعليم الناس ما أوجب الله عليهم، وكرر القراءة في نسخ الأصول، خصوصاً مختصرات الشيخ محمد، رحمه الله، وكذلك السير. واحرص على تعليم العامة أصل دين الإسلام، ومعرفة أدلته، ولا(4/337)
تكتف بالتعليم، اسألهم واجعل لهم وقتاً تسألهم فيه عن أصل دينهم، ولا تغفل عن استحضار النية فـ" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " 1. والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً؛ فالصواب: ما وافق شرع الرسول صلى الله عليه وسلم، والخالص: ما أريد به وجه الله تعالى، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، بعد ذكره النهي عن الشرك والبراءة منه، ومن المشركين، من الرافضة وغيرهم: ومما أوجب ذكر ذلك، ما بلغنا من الغفلة عن هذا الأصل العظيم، الذي لا نجاة للعبد إلا بمعرفته والعمل به؛ فالعامة ما يبالون بحقوق الإسلام ولو ضيعت، وصار اشتغال أهل العلم بالعلوم التي هي فرع عن هذا الأصل العظيم ولا تنفع بدونه، ولا صلاح للعباد في معاشهم ومعادهم إلا بالعلم بالله، وما يجب له على عباده من دينه الذي رضيه لهم؛ فبالقيام به صلاح الدنيا والآخرة، وفي الغفلة عنه زوال النعم وحلول النقم.
وقد وقع فيكم بسبب الغفلة عن هذا ما قد علمتم، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الأعراف آية: 168] ، فيلزم الأمير أن يأمر على جميع المدرسين، وأئمة المساجد بالحضور عند من يعلمهم دينهم،
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) .(4/338)
ويلزمهم القراءة فيما جمعه شيخنا، رحمه الله، في "كتاب التوحيد" من أدلة الكتاب والسنة، التي فيها الفرقان بين الحق والباطل؛ فقد جمع على اختصاره خيراً كثيراً، وضمنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبين فيه الأدلة في بيان الشرك الذي لا يغفره الله. ويلزمهم سؤال العامة عن أصول الدين الثلاثة بأدلتها، وأربع القواعد؛ فما أعظم نفعها على اختصارها لطالب الهدى!
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: سرنا ما ذكرت من البحث، لأنه أفادنا اعتناءكم واشتغالكم بهذا الأمر، لأنه خير ما أنفقت فيه الأنفاس، وبذلت فيه المهج.
فلا تسأمنّ العلم واسهر لنيله ... بلا ضجر تحمد سرى السير في غدِ
ولا يذهبنّ العمر منك سبهللا ... ولا تغبنن في النعمتين بل اجهدِ
وقال أيضاً: فرض على كل أحد معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل، ولا يجوز التقليد في ذلك؛ لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة، إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنار، ويعتقد أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شك فيه، فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل فإنهم لا يفهمون المعنى غالباً.(4/339)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: قال ابن الجزري، رحمه الله تعالى: من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل، زادت المرتبة في دار الجزاء، انتهب الزمان ولم يضيع لحظة، ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها؛ ومن وفق لهذا، فليبتكر زمانه بالعلم، وليصابر كل محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد، وليكن مخلصاً في طلب العلم، عاملاً به، حافظاً له. فأما أن يفوته الإخلاص، فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وأما أن يفوته العمل به، فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له.
وأما جمعه من غير حفظه، فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر. ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل، فليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن، خصوصاً العوام; وليصن نفسه عن المشي في الأسواق، فربما وقع البصر على فتنة، وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس. ومن علم أنه مار إلى الله عز وجل وإلى العيش معه وعنده، وأن الدنيا أيام سفر، صبر على تفث السفر ونصبه، وإن الراحة لا تنال بالراحة، فمن زرع حصد ومن جد وجد.
خاضوا في أمر الهوى في فنون ... فزادهم في اسم هواهم حرف نون
وكتب رجل لأخيه: يكفيك لطلب العلم سورة العصر،(4/340)
فإنها كما قال الشافعي: لو فكر الناس فيها لكفتهم; فوقع في يد الشيخ عبد اللطيف، فكتب: اعلم أن قول الشافعي، رحمه الله تعالى، فيه دلالة ظاهرة على وجوب طلب العلم مع القدرة في أي مكان، ومن استدل به على ترك الرحلة والاكتفاء بمجرد التفكر في هذه السورة، فهو خلي الذهن من الفهم والعلم والفكرة، إن كان في قلبه أدنى حياة، ونهمة للخير، لأن الله افتتحها بالإقسام بالعصر، الذي هو زمن تحصيل الأرباح للمؤمنين، وزمن الشقاء والخسران للمعرضين الضالين. وطلب العلم ومعرفة ما قصد به العبد من الخطاب الشرعي أفضل الأرباح، وعنوان الفلاح، والإعراض عن ذلك علامة الإفلاس والإبلاس؛ فلا ينبغي للعاقل العارف أن يضيع أوقات عمره وساعات دهره إلا في طلب العلم النافع، والميراث المحمود كما قيل في المعنى شعراً:
أليس من الخسران أن اللياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وفي قوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ} تنبيه على أن الجنس كله كذلك، إلا من استثنى؛ وهذا يوجب الهرب والفرار إلى الله بمعرفته وتوحيده والإنابة إليه، ومتى يحصل هذا للجاهل؟ وفي قوله: {لَفِي خُسْرٍ} تنبيه على عدم اختصاص خسره بنوع دون نوع، بل هو قد توجه إليه الخسران بحذافيره من جميع جهاته إلا من استثنى؛ وهذا لا يدخل في المستثنى من زهد في العلم وآثر وطنه وأهله على الميراث النبوي، وتجرع كأس(4/341)
الجهل طول حياته، حتى آل من أمره أنه يستدل على ترك الطلب بالدليل على وجوب الطلب. وفي قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه، لينجو من الخسار ويلتحق بالأبرار والأخيار.
وقد اختلف الناس في الإيمان ومسماه، ولا سبيل إلى معرفة مراد الله به وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله في ذلك، إلا بطلب العلم ومعرفة ما عليه سلف الأمة وأئمتها. ثم له شعب وحقائق، وأصول وفروع، لا تعرف إلا بطلب العلم وبذل الجهد والتشمير عن ساق الاجتهاد; ومن آثر الوطن والرفاهية فاته كثير من ذلك أو أكثر، بل ربما فاته كله نعوذ بالله؛ ولذلك تجد من يرغب عن طلب العلم، وعمدته في هذه المباحث تقليد المشائخ والآباء، وما كان عليه أهل محلته، وهذا لا يمكن في باب الإيمان ومعرفته. ولو كنت تدري ما قلت لم تبده. وفي قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العصر آية: 3] حث وحض على العلم وطلبه، لأن العامل بغير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل، بل ربما جاءه الهلاك والآفة من جهة عمله، كالحاطب في ظلماء، والسالك في عمياء؛ ولا سبيل إلى العمل إلا بالعلم، ومعرفة صلاح العمل وفساده لا بد منه، ولا يدرك إلا بنور العلم وبصيرته، وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [سورة العصر آية: 3] محتاج مريده وفاعله إلى العلم حاجة وضرورة ظاهرة، لأن الحكم(4/342)
على الشيء بكونه حقاً يتوقف على الدليل والبرهان؛ وإذا كانت "أل" في "الحق" للاستغراق، فالأمر أهم وأجل وأشمل. وأما الصبر فمعرفة حده وتعريفه، ومعرفة حكمه وجوباً واستحباباً، ومعرفة أنواعه وأقسامه ومحله من الإيمان، من أهم ما يجب على العبد ويلزمه، وما أحسن ما قيل:
إن العُلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل
فظهر أن معنى قول الشافعي: "كفتهم"، في طلبه لا في تركه. وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم عدد أنفاسه. وروينا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. ونص على ذلك أبو حنيفة، رحمه الله. ومن فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل دليل لم يصحبه دليل القرآن والسنة فهو من طريق الجحيم والشيطان. فالعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول.
وقال أبو الفضل البامجي من مشائخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما يعملون، ويمنعون الناس عن التعلم والتعليم؛ قال عمر بن عثمان المكي: العلم قائد، والخوف(4/343)
سائق، والنفس حرون بين ذلك جموح، خداعة رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف، يتم لك ما تريد. وقال أبو الوزير، رحمه الله: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئاً عليّ أشدّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت. وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة.
وأجاب أيضاً: أما كيفية طلب العلم، ففي حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه ... " 1 الحديث، فيه بيان الكيفية، والبداءة بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان، وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه. ثم بعد ذلك يتعلم ما يجب من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول؛ وفي كلام شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: من ضيع الأصول حرم الوصول، ومن ترك الدليل ضل السبيل.
وأما السبب في تحصيله، فلا أعلم سبباً أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}
__________
1 البخاري: التوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجة: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) .(4/344)
[سورة النساء آية: 66] .
وفي الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم; قال الشافعي، رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23] ، ومنها إصلاح النية، وإرادة وجه الله والدار الآخرة؛ فإن النية عليها مدار الأعمال، ولا يتم أمر ولا تحصل بركة إلا بصلاح القصد والنية. وهناك أسباب أخر تذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم، ليس هذا محل بسطها.
وقال أيضاً فيما كتبه لبعض إخوانه، يحرضه، فقال: وما تيسر لك من الكتب المفيدة الشرعية، جعلك الله من وعاة العلم، ورواته الفائزين بحسن ثوابه ومرضاته، فإياك إياك البطالة والإهمال، والاشتغال بتحصيل عرض ومال! وقد قيل في مثل: ومن خطب الحسناء لم يغله المهر.
وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى: العلم يحفظ بأمرين: تذاكر وفهم، أحدهما العمل به؛ فمن عمل بما علم حفظ عليه علمه وأثابه علماً آخر ما يعرفه، لأن التعطيل ينسي التحصيل، فإذا عمل الإنسان بعلمه، بأن حافظ على فرائض الله، ولازم السنن الرواتب والوتر وتلاوة القرآن(4/345)
والاستغفار بالأسحار، وأعزر نفسه ساعة يجلسها في المسجد للذكر، وأحسن ما يكون بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فقد تسبب للعمل بعلمه. كذلك يجتنب مجالس اللغو والغفلة، ويعادي مجالس أهل الغيبة وساقط الكلام، ويحفظ لسانه مما لا يعنيه.
ثم أقبل على تذاكر العلم وقيده بالكتابة؛ وحرص على تحصيل الكتب والنسخ أعظم من حرص أهل التمر عليه وقت الجذاذ، وأعظم من حرص أهل العيش على جمعه وقت الحصاد. فهذا يسمى طالب علم، وهو على سبيل نجاة، إذا كان مخلصاً في ذلك لله; وأكثر علامات ذلك أن يكون لصاحبه حال يتميز بها عن الناس، حتى يستشهد حاله وتميزه بانفراده عن الناس، إلا من دخل معه في طريقه. وأما إذا تسمى الإنسان بالقراءة، فإذا تأملت حاله إذا هو مثل أهل بلاده، ولا فيه خاصة عن أهل سوقه، فحاله عند الصلوات الخمس والرواتب مثل حالهم، ولا محافظة على ذلك، فقد نام جميع ليله وجميع نهاره، وصار له مع كل الناس مخالطة، وليس هناك إلا أنه بعض المرات يأخذ الكتاب ويقرأ في المجلس؛ ولو سألته عن بابه الذي قرأه ما عرفه، ولو طلبت منه مسألة مما يقرأ لم يجب عنها، وربع الريال أحب عنده من كتابين، قد خلا منه المسجد وامتلأت منه مجالس الغفلة،(4/346)
وعطل لسانه من الذكر، وسله في الخوض في أحوال الناس، وما يجري بينهم وتعرف دنياهم، فهذا من العلم النافع بعيد، ولا يفيد ولا يستفيد، من حكمة الرب سبحانه أن مثل هذا لا يوفق. وأدلة هذه الأمور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها كثيرة معروفة، ومن تأمل أحوال العالم وجد ما يشهد لذلك؛ فتجد من يشب ويشيب وهو يقرأ ولم يحصل شيئاً، لمانع قام به وحائل من نفسه، لا من ربه، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] ، {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [سورة القمر آية: 5] .
وقال أيضاً: وأوصيك بالحرص على تعلم العلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم اعلم أن ذلك لن ينال إلا على جسر من التعب والمشقة، تحت ظلم الليل، وذلك بشيئين: شيء في أوله، وشيء في آخره. فالذي في أوله: إدامة المطالعة، والحفظ لذلك على المصباح، والذي في آخره: الوقوف في مواقف الابتهال، والانطراح بين يدي ذي العزة والجلال، والتضرع بالأسحار، وتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فهذا عنوان السعادة، وسمة أهل الولاية والزهادة. اللهم ألحقنا بآثار الصالحين.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:
تعلم ففي العلم الشريف فوائد ... يحن لها القلب السليم الموفقُ
فمنهن رضوان الإله وجنة ... وفوز وعز دائم متحققُ(4/347)
وعن زمرة الجهال إن كنت صادقاً ... بعلمك تنجو يا أخي وتسمقُ
فكن طالباً للعلم إن كنت حازماً ... وإياك إن رمت الهدى تتفوقُ
ففي العلم ما تهواه من كل مطلب ... وطالبه بالنور والحق يشرقُ
فإن رمت جاهاً وارتفاعاً ورتبة ... ففي العلم ما تهدى له ويشوّقُ
وإن رمت مالاً كان في العلم كسبه ... ففز بالرضى واختر لما هو أوفقُ
وأحسن في الدارين عقبى ورفعة ... فبادر فإني صادق ومصدّقُ
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... ويوم اللقا نار تلظى وتحرقُ
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن لبعض إخوانه من طلبة العلم: والذي أوصيكم به جميعاً ونفسي: تقوى الله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره، لتفوزوا بالأجر العظيم. وليحذر كل عاقل أن يطلب العلم للمماراة والمباهاة، فإن في ذلك خطراً عظيماً؛ ومثل ذلك طلب العلم لعرض الدنيا والجاه، والترأس بين أهلها وطلب المحمدة، وذلك هو الخسران المبين، ولو لم يكن في الزجر عن ذلك إلا قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15-16] .
وفي حديث أنس مرفوعاً: " من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار " 1. وهذا القدر كاف في النصيحة؛ وفقنا الله وإياكم لحسن القبول. وقد
__________
1 ابن ماجة: المقدمة (253) .(4/348)
بلغني أنكم اختلفتم في مسائل، أدى إلى التنازع والجدال، وليس هذا شأن طلاب الآخرة؛ فاتقوا الله وتأدبوا بآداب العلم، واطلبوا ثواب الله في تعلمه وتعليمه، وأتبعوا العلم بالعمل فإنه ثمرته، والسبب في حصوله كما في الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم; وكونوا متعاونين على البر والتقوى. ومن علامات إخلاص طالب العلم: أن يكون صموتاً عما لا يعنيه، متذللاً لربه، متواضعاً لعبادته، متورعاً متأدباً، لا يبالي ظهر الحق على لسانه أو لسان غيره، لا ينتصر ولا يفخر، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يميل به الهوى ولا يركن إلى زينة الدنيا.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عن رفع اليدين بالدعاء عند فراغ الدرس؟
فأجاب: الحمد لله، أما رفع اليدين بالدعاء عند فراغ الدرس، فلا ريب أنه من محدثات الأمور، وأنه من البدع التي ينهى عنها، ولم يقع لنا عن أحد من أهل العلم سلفاً وخلفاً ممن يقتدى به، يفعل هذا إلى يومنا هذا. فمن أين جاءتهم هذه البدعة؟ فإن قال قائل: كان الحسن البصري يدعو في مجلس الحديث، فالجواب: أنه هو الذي يدعو بنفسه، من غير رفع(4/349)
يدين، ولا كان أحد ممن حضر يدعو أو يرفع يديه، ولو طلب منه الدليل، لم يوجد عنده ما يدل على هذا، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الاجتماع في رمضان لأجل قراءة القرآن مع التدبر؟
فأجاب: لا بأس بذلك، بل ورد الحث عليه فيما رواه مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده " 1.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن القراءة بالألحان ... إلخ؟
فأجاب: كرهها العلماء، وقال أحمد ومالك: هي بدعة; وقال أحمد: يحسن صوته بالقراءة; وقال الشيخ تقي الدين: التلحين الذي يشبه الغناء مكروه، والألحان التي كره العلماء القراءة بها، هي التي تتضمن قصر الحرف الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، ونحو ذلك، يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطربة، ولها عند أهلها أسماء كالبربطي، والرومي، والمكي، والإسكندراني.
وسئل: عن الدعاء قبل الشروع في سورة براءة؟
فأجاب: هذا مبتدع لا أصل له، بل الذي ذكروا: أنه يسكت سكتة بينها وبين سورة الأنفال، بقدر البسملة أو أقل.
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) , والترمذي: القراءات (2945) , وأبو داود: الصلاة (1455) , وابن ماجة: المقدمة (225) , وأحمد (2/252) .(4/350)
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن التكبير عند آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن؟
فأجاب: فيه خلاف، ولم يستحبه الشيخ تقي الدين، إلا لمن يقرأ بقراءة ابن كثير، وأما من قرأ بقراءة عاصم التي هي أغلب قراءة الناس اليوم فلا.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الدعاء عند الختم؟
فأجاب: الدعاء عند الختم مستحب، فعله بعض الصحابة؛ وأما رفع اليدين فلا بأس به، يستحبه كثير من العلماء، وورد الحديث في الجملة، لا في هذا خاصة.
وسئل: عن جعل أوراق المصحف في قطائع 1؟
فأجاب: لا ينبغي ذلك: لأن في ذلك ابتذالاً له ينافي تعظيمه، فيتعين تغيير ذلك إما بالدفن؛ ولا بأس بدفنه في صحراء أو بمسجد، وإن حرق فلا بأس، لما في البخاري: أن الصحابة حرقته - بالحاء المهملة - لما جمعوه، قال ابن الجوزي: ذلك لتعظيمه وصيانته. وروي أن عثمان دفن
__________
1 فقد كان بعض من يحبك الكتب ويجلدها يستعمل أوراق الكتب التالفة داخل الأغلفة, لتقوية التجليد وتجميله.(4/351)
المصاحف بين القبر والمنبر. ومن مزق من كتب أهل السنة شيئاً، فإن كان الكتاب مشتملاً على آيات أو أحاديث، وفعل ذلك امتهاناً له، فلا يبعد القول بكفره.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: أما قول بعض الناس إذا سئل عن شيء قال: الله ورسوله أعلم، فهذا يجري على ألسنة كثير من الناس من غير اعتقاد شيء، فالواجب تعليم مثل هذا.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الكتابة في المجلس؟
فأجاب: أما الكتابة في المجلس الذي فيه جماعة جالسون، فلا بأس به، خصوصاً إذا كان لا يرفع صوته بالحديث الذي هو يكتب فيه، ولا يشغله الكلام عما هو فيه؛ فأما إن كان يتكلم بالحديث، فلا يناسب أنهم يرفعون أصواتهم فوق صوته، بل المناسب التأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنْزيهه عن اللغط. وأما إذا لم يكن هناك محذور فلا بأس. ومن نهى عن ذلك فلا أعلم له دليلا.(4/352)
فصل
سئل الشيخ سعيد بن حجي: عن وقت الوتر، هل هو متعلق بوقتالعشاء؟ أو بصلاة العشاء؟
فأجاب: اعلم أن وقت الوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر الثاني، فإن أخر الوتر حتى طلع الفجر فات وقته، وصلاه قضاء; وهذا مذهب متأخري الحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أوتروا قبل أن تصبحوا " 1، رواه مسلم. والرواية الثانية عن أحمد أن وقته من صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح " 2، رواه أحمد، فيدخل في كلامه ما لو جمع العشاء مع المغرب تقديماً.
قال في الإقناع: ووقت الوتر بعد صلاة العشاء وسنتها، ولو في جمع تقديم إلى طلوع الفجر الثاني، ولا يصح قبل العشاء.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: عن الأفضل في التهجد: طول القيام، أو الركوع والسجود والجهر؟ وما يقول في الركوع، وبعد الرفع ... إلخ؟
فأجاب: أما التهجد، فالأفضل فيه ما ثبت وصح عن
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (754) , والترمذي: الصلاة (468) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1683) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1189) , وأحمد (3/13, 3/37) .
2 أحمد (6/397) .(4/353)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة تهجده، وأنه كان يطيل الركوع والسجود إذا أطال القيام، فإذا خفف القيام وأوجز القراءة، صنع كذلك في الركوع والسجود.
والقيام فيه القراءة، وهي أفضل الأقوال; والركوع والسجود أفضل الهيئات والأفعال; فينبغي للمتهجد أن يعطي كل ركن حقه، ويراعي المناسبة; وأما الإخفات والجهر، فالجهر يسن للإمام، وحيث لا يتأذى بصوته نائم أو متهجد؛ وإذا كان أنشط، وأدعى للتدبر، فالأولى الجهر.
وأما أفضل ما يقوله في ركوعه وسجوده، فهو ما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من التسبيح: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، وسبحان الملك القدوس في ركوعه، والدعاء بما ورد في محله تحصل به الفضيلة، لأن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الكمال.
وأما ما يقول بعد التسميع، فقد ثبت في الأحاديث ما فيه كفاية، وفي المنتقى وكتب الحديث عندكم ما فيه.
وأما التربع في صلاة القاعد: فصح الحديث: " أن صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم " 1، وما علمت أحداً قال إن المتربع كالقائم.
وعليك بطلب العلم والحرص على ذلك. والمسائل المذكورة، وجوابها فيما عندكم من كتب الحديث مقرر
__________
1 النسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1659) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1229) , وأحمد (2/162, 2/192) , ومالك: النداء للصلاة (310) .(4/354)
مفصل; ثم حضه على القراءة في كتب الحديث، والتفسير، وملازمة فلان. ثم قال: وقد قيل:
دين محمد آثار نعْـ ... ـم المطية للفتى أخبار
وكثير من أهل العلم يشتغل في آخر عمره بالقرآن وتدبره، وقراءة الصحيحين وسماعهما في كل مجلس.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن يقدم ورده بعد العشاء، ويوتر قبل النوم، هل يكتب له قيام الليل، أم لا؟
فأجاب: نعم، يكتب له قيام الليل بصلاة العشاء الآخرة في جماعة، ويبقى ورده زيادة أجر له، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله " 1.
وأما وتره قبل النوم، فقد ثبت فعله عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم، وذلك بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى ذلك، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر " 2، رواه البخاري ومسلم. ولمسلم أيضاً من حديث أبي الدرداء قال: ?" أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث "; فذكر الحديث، وفيه: " وأن لا أنام
__________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (656) , والترمذي: الصلاة (221) , وأبو داود: الصلاة (555) , وأحمد (1/58, 1/68) , ومالك: النداء للصلاة (297) , والدارمي: الصلاة (1224) .
2 البخاري: الجمعة (1178) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (721) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1678) , وأبو داود: الصلاة (1432) , وأحمد (2/265, 2/392, 2/459, 2/526) , والدارمي: الصلاة (1454) والصوم (1745) .(4/355)
حتى أوتر "، ورواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر، قال: ?" أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث "، فذكر منهن الوتر قبل النوم، وإنما أوصاهم بذلك لأنهم لم يكن لهم عادة بقيام الليل، وإلا فمن كانت عادته الاستيقاظ فوتره آخر الليل أفضل.
واعلم: أن وقت الوتر من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وهذا منصوص الإمام أحمد، لما روي من حديث خارجة بن حذافة أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله أمدكم بصلاة خير لكم من حمر النعم، الوتر جعله الله ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر " 1، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وروى أحمد نحوه من حديث أبي نضرة.
وسئل: عن فعل الوتر وهو حاقن ونحوه؟
فأجاب: أما من أراد فعل الوتر وهو حاقن ونحوه، فالذي يظهر لي أنه لا يفعله مع تلك الحال، ولو خرج وقته بخلاف الفريضة، لأن تأخيرها عن وقتها حرام وليس الوتر كذلك؛ ولذا قال في شرح المنتهى في المسألة: ما لم يضق وقت المكتوبة عن جميعها فيه، يعني فلا يفوت وقت المكتوبة، فكان ذكره المكتوبة فيه إشارة إلى أن غيرها ليس كذلك، والله أعلم.
__________
1 الترمذي: الصلاة (452) , وأبو داود: الصلاة (1418) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1168) , والدارمي: الصلاة (1576) .(4/356)
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن وقت القنوت ورفع اليدين فيه والتكبير قبله؟
فأجاب: أما دعاء القنوت فبعد الركوع، ورفع اليدين فيه جائز، والتكبير قبله محدث.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الجهر بدعاء القنوت ... إلخ؟
فأجاب: وأما القنوت فإن كان إماماً جهر به، وأمن المأمومون جهراً.
وسئل: عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قنوت الوتر ... إلخ؟
فأجاب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قنوت الوتر مستحبة، فقيل: وآله؟ فقال: لا بأس به، كما في التشهد.
وسئل: عن قضاء الوتر؟
فأجاب: قضاء الوتر فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يقضي، اختارها الشيخ تقي الدين، رحمه الله. والرواية الثانية: يسن قضاؤه، وهذا هو المذهب، ومذهب مالك والشافعي؛ وعلى هذه الرواية هل يقتصر على ركعة؟ أم يصلي شفعه قبله؟ وهذا هو الصحيح من المذهب.
وسئل: عمن يترك الوتر؟
فأجاب: قال العلماء: الذي يداوم على ترك الوتر يفسق بتركه.(4/357)
سئل الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله: عن القنوت في الفرائض ... إلخ؟
فأجابا: الصواب عندنا ترك القنوت في الفرائض، إلا إذا نزل بالمسلمين نازلة، فإن السنة قد وردت وصحت بالقنوت في الفجر في هذه الحالة. وهذا هو الثابت عندنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه الراشدين، كما هو مذكور في الكتب الصحيحة، كالصحيحين وغيرهما.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، رحمهم الله تعالى: عن القنوت عند حدوث الأمراض؟
فأجاب: الأمراض الحادثة وقع مثلها في وقت الصحابة، رضي الله عنهم، فلم يقنتوا، ولو كان خيراً سبقونا إليه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة " 1 ... إلخ؟
فأجاب: حديث: " بين كل أذانين صلاة " حديث صحيح، كرره صلى الله عليه وسلم، وقال في الثالثة: " لمن شاء "، قال الراوي: كراهية أن يتخذها الناس سنة راتبة، فأما قبل الظهر فإن الراتبة تفعل حينئذ، وكذا الفجر إذا أذن بعد طلوع الفجر لم يفعل إلا السنة الراتبة، وأما سائر الصلوات فحسن إن شاء الله تعالى؛ وأكثر أصحابنا عبروا بإباحة الركعتين قبل المغرب، والشافعية يقولون: سنة مستحبة، والحنابلة أظنهم يحتجون بأنه صلى الله عليه وسلم
__________
1 البخاري: الأذان (624) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (838) , والترمذي: الصلاة (185) , والنسائي: الأذان (681) , وأبو داود: الصلاة (1283) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) , وأحمد (4/86, 5/54, 5/55) , والدارمي: الصلاة (1440) .(4/358)