المجلد الأول: (كتاب العقائد)
مقدمة
...
تقريظات الكتاب
1- تقريظ الشيخ: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده، لإبراز الحق وإبدائه، والكشف عن مكنون عقود اللآلي بعد خفائه، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وأصحابه، السالكين على طريق الحق، المخالفين لأعدائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإني نظرت في هذا المجموع، الفائق، الرائق، الذي جمعه ورتبه الابن: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فرأيته قد جمع علوما مهمة، ومسائل كثيرة جمة، مما أوضحه علماء أهل هذه الدعوة الإسلامية، في مسائلهم، ورسائلهم، الساطعة أنوارها، الواضحة أسرارها، لمن أراد الله هدايته.
فإنهم رحمهم الله، حرروا هذه المسائل والرسائل، تحريرا بالغا، مشتملا على مستنداته، من البرهان والحجة، وعلى طريق الهداية، إلى واضح السبيل والمحجة، لا سيما ما تضمنه من العقائد، والردود، والنصائح، التي لا تظفر(1/5)
بأكثرها في مجموع سواه.
وقد رتبها الترتيب الموافق، وتابع بينها التتابع المطابق، لا سيما المسائل الفقهية، التي رتبها على حسب أبواب الفقه، وفرقها فيها من غير إخلال بشيء من المقصود، فكان هذا المجموع هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة.
فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه على هذا الصنيع، الذي هو للعين قرة، وللمستبصر مسرة، والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه وعظيم سلطانه.
حرره الفقير إلى عفو ربه وإحسانه، محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم –
21 ذي القعدة - سنة 1351هـ.(1/6)
2- تقريظ العلامة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بإحسانه سدد من شاء من عباده، وبامتنانه وفق من أسعفه بإسعاده، وبعنايته أعلى همة من خصه بجعل جمع العلوم الدينية غاية مراده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله في قوله وعمله واعتقاده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده.
وبعد: فقد سمعت هذا المجموع الفائق مرتين، وبعضه أكثر من ذلك، بقراءة جامعه ومرتبه: الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فوجدته وفقه الله تعالى، لم يأل جهدا في جمع رسائل أئمتنا، أئمة هذه الدعوة، وأجوبتهم، وتتبعها من مظانها، ولم يترك - وفقه الله تعالى - شيئا مما ظفر به إلا أشياء غير محررة، أو أشياء غير مقطوع بها عمن نسبت إليه، مع بذله الطاقة في التصحيح، ومقابلة ما ظفر به منها، على ما يمكنه الوقوف عليه من نسخها، مع أنها لم تخل من تغيير.
وقد أجاد ترتيبها بما يسهل على المستفيد طريق ما(1/7)
تمهيد
بقلم جامعه: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خص بالهداية في زمن الفترات، من شاء من عباده، نعمة منه وفضلا، وألهمهم الحكمة مع ما جبلهم عليه من الفطرة، فتفجرت ينابيعها على ألسنتهم، فنطقوا بالصواب عقلا ونقلا. وفتح بصائرهم، وهداهم إلى الصراط المستقيم، علما، وعملا، وهجرة، وجهادا؛ فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول. ويسر لهم من معالم الدين، ومواهب اليقين، ما فضلهم واصطفاهم به على المعاصرين، فحاكوا السلف المفضل، وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق، ما امتازوا به على غيرهم، عند من سبر وتأمل. ساروا على المنهج السوي، وشمروا إلى علم الهدى، حتى لحقوا بالرعيل الأول.
فسبحان من وفق من شاء من الخلائق لتأصيل الأصول، وتحقيق الحقائق، وجمع له مواهب الخيرات الجلائل والدقائق. أحمده سبحانه على ما من به علينا،(1/8)
وهدانا إليه من بين سائر الخلائق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أكمل الله به الدين، وجعل شريعته أكمل الطرائق. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، نجوم الهداية للسابق واللاحق، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله - وله الحمد والمنة - بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأكمل به الدين وأتم به النعمة، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرقت الأرض بنور النبوة، واهتزت طربا وابتهاجا، حتى تركهم صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. ودرج على هذا المنهج القويم خلفاؤه الراشدون، وصحبه المهديون، والأفاضل بعدهم المرضيون.
ثم إنه خلفت بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. ولكن الله سبحانه من فضله ضمن لهذه الأمة بقاء دينها وحفظه عليها، وهذا إنما يحصل بإقامة من يقيمه الله تبارك وتعالى من أفاضل خليقته، وخواص بريته، وهم حملة الشريعة المطهرة، وأنصار الملة المؤيدة، الذابون عن دينه، المصادمون لأهل البدع والأهواء، المجاهدون من رام انحلال عرى كلمة التقوى، الذين هم في الأمة المحمدية كالأنبياء في الأمم(1/9)
الخالية؛ فأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها، وينتهى إلى رأيها، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم; فحفظ الله لهم دينهم حفظا لم يحفظ به دينا سواه.
وذلك أن نبي هذه الأمة، هو خاتم النبيين، لا نبي بعده، يجدد ما دثر من دينها، كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده، فتكفل الله بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتمويه الزائغين، ميزوا ما دخل فيه من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط، وحفظوه أشد الحفظ.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، حتى إنه ليتكلم بالكلمة الجامعة العامة، التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، والنصوص بهذا الوجه محيطة بأحكام أفعال العباد، اقتضت حكمة الله تعالى أن نصب للناس أئمة هدى من أهل الدين والإيمان، والتحقيق والعرفان، يخلفون النبي صلى الله عليه وسلم يبلغون أمته ما قاله، ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم; وأعلمهم وأفضلهم: أشدهم تمسكا بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وأفهمهم لمراده، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم،(1/10)
يقصد من الفائدة ويريد، لا سيما المسائل الفرعية، التي هي من كتاب الطهارة، إلى كتاب الإقرار، حيث رتبها على حسب ترتيب فقهائنا الحنابلة، رحمهم الله تعالى; فإنه جاء في ذلك بالمقصود، فصارت متيسرة التناول، قريبة الوجود، مع عدم الإخلال بشيء من المراد، ولا تقصير فيما ينبغي أن يطلب منه ويراد. فجزاه الله خيرا، ونظمه في سلك الدعاة إلى دينه، الذابين عما بعث به رسوله، وجزى بالخير من سعى في نشره، وتعميم المنفعة به.
أملاه الفقير إلى عفو ربه: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ،
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 20 ذي القعدة سنة 1351هـ.(1/11)
3- تقريظ الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، قاضي المجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي غرس لهذا الدين من كل خلف عدوله، ووفق من شاء لتأصيل قواعده وتحرير أصوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الخلاص من كرب يوم القيامة، وشدائده المهولة; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، الذين شمروا في نصرة دين ربهم واتباع رسوله.
أما بعد: فإني قد أشرفت على ما جمعه الابن الفاضل: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من رسائل وجوابات أئمتنا، أئمة هذه الدعوة الإسلامية، الذين تأخر عصرهم، وتقدم فخرهم، حتى ألحقوا بالسلف الصالح، وامتازوا على غيرهم بإقامة القسطاس الراجح، فإذا هو مشتمل على عقائد سلفية، وردود على أهل مذاهب غوية، وفتاوى مقرونة بأدلتها الشرعية.
وقد أجاد وفقه الله في ترتيبها، وجمع متشتتها وتبويبها، لا سيما المسائل الفقهية، والفتاوى الفروعية; فإنه رتبها على(1/12)
تبويب متأخري الفقهاء من أصحابنا - رحمهم الله - فأبرز مخبآت خرائدها، واقتنص ما تشتت من شواردها، حتى تيسر للطلاب اجتناء دررها، والتلذذ بالنظر إلى محيا غررها.
فإنها كانت قبل متفرقة في رسائل شتى، لا تكاد تحصل القليل منها، فضلا عن الكثير، فجاءت - ولله الحمد - عديمة النظير. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، خاتم المرسلين، وأفضل الأولين والآخرين.
قال ذلك ممليه، الفقير إلى الله عز شأنه: عبد الله بن عبد العزيز العنقري.
وصلى الله على محمد وسلم. 13 ذي الحجة سنة 1351هـ.(1/13)
ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم.
وقد اختص الله منهم نفرا أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم، فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام.
وكان أبو عبد الله: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه أوفاهم فضيلة، وأقربهم إلى الله وسيلة، وأوسعهم معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به، وأتبعهم له، وأكثرهم تتبعا لمذاهب الصحابة والتابعين، وأزهدهم في الدنيا، وأطوعهم لربه، ومذهبه مؤيد بالأدلة.
قال أبو الفرج: نظرنا في أدلة الشرع، وأصول الفقه، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين، فرأينا أحمد - رحمه الله - أوفرهم حظا من تلك العلوم، كان إذا سئل عن مسألة كأن علم الدنيا بين يديه.
وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف. وصدق فإنه رحمه الله كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وعلمه بالسنة اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وهو حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين.
واختص عن أقرانه بسعة الحفظ، وكثرته، حتى قيل(1/14)
إنه يحفظ ثلاثمائة ألف حديث; وبمعرفة صحيحه من سقيمه، وكان إليه المنتهى في علم الجرح والتعديل، وبمعرفة فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه. ورؤي من فهمه ما يقضى منه العجب، بل لم تكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها، كلام إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وكذا كلام عامة فقهاء الأمصار والبلدان.
ومعلوم أن من فهم هذه العلوم وبرع فيها فأسهل شيء عنده معرفة الحوادث، والجواب عنها، على وفق تلك الأصول. ومن نظر بالتتبع والاستقراء، علم أن علم الإمام أحمد، ومن سلك سبيله من الأئمة، أعلى علوم الأمة وأجلها وأعلاها، وإن فيه كفاية لمن هداه الله.
حفه الله بجهابذة فحول، تلقوه عنه بالقبول، حرروه وهذبوه، وبنوا منه الفروع على الأصول، من أولاده ومعاصريه، ينيفون على خمسمائة فقيه، وطبقات بعده أئمة جهابذة، كانوا للسنة الغراء ناصرين، وعن حمى السمحاء محامين، كما كان عليه سائر إخوانهم الموفقين، من أتباع بقية الأربعة المهديين، مع كثرة خصومهم في تلك الأعصار، وتوافر أضدادهم في سائر الأمصار، واعتكار ليل الشرك والفساد، وتلاطم أمواج بحر البدع والعناد.
إلى أن أقام الله تعالى العالم الرباني، مفتي الأمة، بحر العلوم، شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، المجتهد(1/15)
المطلق، المجمع على فضله، وإمامته، الذي جمع الله العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد. جدد الله به الدين بعد دروسه، وأحيا به هدي سيد المرسلين بعد أفول شموسه، وأدحض به جميع بدع المبتدعين، وانبلج الحق واليقين. وقام بعده تلامذته المحققون، وأتباعهم ممن لا يحصون.
وبعدهم انتقضت عرى الإسلام، وعبدت الكواكب والنجوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، واعتمد عليها في المهمات، دون الصمد الواحد، ولكن في الحديث: " إن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمر الدين " 1، ويبين المحجة بواضحات البراهين.
فبعث في القرن الثاني عشر، عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، الآية الباهرة، والحجة الظاهرة، شيخ الإسلام والمسلمين، المعدود من أكابر السلف الماضين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السلفي الأول، وإن تأخر زمنه عند من خبر وتأمل، بحر العلوم، أوحد المجتهدين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب.
فشمر عن ساعد جده واجتهاده; وأعلن بالنصح لله
__________
1 أبو داود: الملاحم (4291) .(1/16)
ولكتابه ورسوله، وسائر عباده، دعا إلى ما دعت إليه الرسل، من توحيد الله وعبادته، ونهاهم عن الشرك، ووسائله وذرائعه; فالحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين.
والحمد لله الذي صدق وعده، وأورثه الرضى وحده، وأنجز وعده، واستجاب دعاءه، فصارت ذريته، وذرياتهم، وتلامذتهم نجوم هداية، وبحور دراية، ثبتوا على سبيل الكتاب والسنة، وناضلوا عنه أشد النضال، ولم يعدوا ما كان عليه الصحابة والسابقون، والأئمة الموثوق بهم، كأبي حنيفة والسفيانينى،; ومالك والشافعي وأحمد وأمثالهم. ولم يثنهم عن عزمهم طلاقة لسان مخادع، ولا سفسطة متأول، ولا بهرجة ملحد، ولا زخرفة متفلسف، وكلما انقضت طبقة منهم، أنشأ الله طبقة بعدها على سبيل من قبلها، فهم الأبدال والأخيار والأنجاب.
وقد أخبر الصادق الأمين: " لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته " 1 وقال: " لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله، لا يضرها من خالفها " 2. وقد أقام الله بهم السنة والفرض; فصاروا حجة على جميع أهل الأرض، وأشرقت بهم نجد على جزيرة العرب، ولله در القائل حيث قال:
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (8) , وأحمد (4/200) .
2 البخاري: المناقب (3641) والتوحيد (7460) , ومسلم: الإمارة (1037) , وأحمد (4/99) .(1/17)
ففيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنة ... مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر
وفيها من الطلاب للعلم عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادر
ولا يعرف شعب دخل في جميع الأطوار، التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى، غربة وجهادا وهجرة وقوة، غير هذا الشعب. فلقد ظهر هذا الشيخ المجدد المجتهد، في وقت كان أهله شرا من حال المشركين، وأهل الكتاب في زمن البعثة، من شرك وخرافات، وبدع وضلالات، وجهالة غالبة؛ فدعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع إلى أصل الإسلام، فأعاد نشأة الإسلام كما كانت. وسارت ذريته وتلامذتهم سير السلف الصالح، وجرى عليهم ما جرى على تلك السادة.
وقد شهد لهم أهل العلم والفضل والتحقيق، من أهل القرى والأمصار، أنهم جددوا التوحيد، ودعوا إليه حتى استنار، حتى شهد لهم أعداؤهم بذلك، كما ستقف عليه:
مناقب شهد العدو بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن سبر حقيقة القوم، وعرف مآخذهم، انقاد لهم، وجعلهم أئمة هداة; ولقد صدق القائل:
أئمة حق والنصوص طريقهم ...
وأحمد خريت الطريق وهاديا(1/18)
على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل ... عليهم من المولى سلام يوافيا
عقائدهم سنية أجمع الملا ... عليها خصوصا تابعا وصحابيا
وأسلمها عقدا وأعلمها هدى ... وأحكمها فاشدد عليها الأياديا
صرائح قرآن نصوص صريحة ... ومن ردها دارت عليه الدواهيا
كانوا على مذهب الحبر الرباني، والصديق الثاني، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، لقوة علمه وفضله، تتبعوا دليله، واقتدوا به من غير تقليد له، يأخذون من الروايتين عنه فأكثر بما كان أقرب إلى الدليل، وربما اختاروا ما ليس منصوصا في المذهب، إذا ظهر وجه صوابه، وكان قد قال به أحد الأئمة المعتبرين. وليس ذلك خروجا عن المذهب، إذ قد تقرر عنه، وعن سائر الأئمة، رحمهم الله أنه إذا خالف قول أحدهم السنة، ترك قوله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة، فمن تأمل حالهم، واستقرأ مقالهم، عرف أنهم على صراط مستقيم، ومنهح واضح قويم; شمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وصرفوا عنايتهم في نصرة هذا الدين، الذي كان الأكثر في غاية من الجهالة بمبانيه العظام، ونهاية من الإعراض عن الاعتناء به والقيام، فشرعوا فيه للناس موارد، بعد أن كان في سالف الزمن طامسا خامدا، وعمروا لهم فيه معاهد، حتى صار طاهرا مستنيرا مشاهدا.
فنشروا شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لجميع الخلائق،(1/19)
وكشفوا قناعها، وحققوا الحقائق، وأنشأوا المدارس وعمروها بالتعليم، وجاهدوا في الله كل طاغ أثيم، وصنفوا الكتب فأجادوا، وكشفوا الشبهات فأبادوا، وأجابوا السائل فأفادوا، فكشفوا عن الدين ما عراه، وأبدوا وأعادوا. فحق لقوم هذا شأنهم، أن يعتنى برسائلهم، وفتاويهم، وردودهم، وتجمع وتدون لكيلا تذهب، وترتب وتعنون لكيلا تصعب.
وقد اجتهد علماؤنا في جمعها، وحفظها; وحرصوا وحضوا على نشرها، وجمع شواردها. وكان أكثر من جمع، ما وجده شيخنا الفاضل: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ: سليمان بن سحمان، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وغيرهم; إلا أنها غير مرتبة، فصار الطالب للمسألة لا يجدها إلا بعد تعب وعناء، ولا خفاء بما في ذلك من المشقة والنصب، وربما لا يجدها.
فأمرني من تجب طاعته علي أن أجمعها، وأرتبها حسب الطاقة، مع أني لست من أهل تلك البضاعة; فتمادت بي الأيام، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لكثرة الأشغال، ومعالجة المعاش والضيعة، وعدم الأهلية، إلى أن قويت العزيمة، وخلصت النية، وظهرت، ويسر الله الأمر وسهله، ووفق إليه، فحينئذ أمعنت النظر، وأنعمت الفكر، وجمعت ما أدركته. وأعانني عليه شيخنا الفاضل، الحبر الثقة، الشيخ: محمد بن الشيخ إبراهيم، وحرره وهذبه، أعدته وأبديته عليه(1/20)
فزها، فظهر آثار القبول عليه وأبهى; كررت الفقه عليه مرارا، والأصول وغيرها إمرارا.
وقرأت أكثره على شيخنا النبيل، الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وعلى الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فجاء - بحمد الله - جامعا جل رسائلهم وفتاويهم، بل كلها إلا قليلا.
وقد صنف العلماء في كل عصر ومصر، في الأصول، والفروع، وغيرها ما لا يحصى، حفظا للدين والشريعة، وأقوال أهل العلم، وليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة، ولولا ذلك، لجرى على ديننا ما جرى على الأديان قبله، فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم.
فوضح هؤلاء الأحبار الطريق إلى الله بالعلم، وأبرزوا مشكلات الحوادث بينابيع الفهم، بما يثلج الصدور، ويطرد الوهم، وصارت فتاويهم وأجوبتهم هي المعتبرة عند القضاة والمفتين، لرجحانها بالدليل، وموافقتها القواعد والتأصيل.
وها هو ذا يفصح عن نفسه، ويدل على عظيم نفعه، جامعا شاملا نافعا، فيه من الفوائد ما هو حقيق أن يعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، ويكب عليه أولو البصائر(1/21)
النوافذ. اشتمل على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تجدها في كثير من الكتب المصنفة، ولا الدواوين المؤلفة.
فإن أردت مقام الدعوة إلى الدين، وتوحيد رب العالمين، وجدته بأحسن أسلوب وأتم تبيين. وإن أردت حل مشكلات الفروع عن يقين، فخذها عليها النور المستبين، أو أردت حكم جهاد المفسدين، ألفيته على وفق سيرة سيد المرسلين، أو أردت حل أوهام الزائغين، وجدتها مجلوة بأوضح البراهين، أو استنباط آيات من كلام رب العالمين، أفادك ما لا يوجد في كلام أكثر المفسرين، أو نصائح شاملة في أمور الدين، لقيتها آية باهرة للمتأملين. ألفها فحول من هداة مهتدين، تهدى إليك ساطعة بالنور المستبين، تشتاق إليها نفوس الموحدين، وتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتنشرح لها صدور الطالبين.(1/22)
وقد وقع هذا المجموع المبارك، في أحد عشر جزءا:
الأول: كتاب العقائد.
والثاني: كتاب التوحيد.
والثالث: كتاب الأسماء والصفات.
والرابع: كتاب العبادات من كتاب الطهارة إلى الأضاحي; وفي أوله فصلان:
الفصل الأول: في أصول مآخذهم.
والفصل الثاني: في أصول الفقه.
والخامس: كتاب المعاملات وما يتبعه إلى العتق.
والسادس: من كتاب النكاح إلى الإقرار.
والسابع: كتاب الجهاد.
والثامن: كتاب حكم المرتد.
والتاسع: مختصرات الردود، على ذوي الشبه، والزيغ، والجحود.
والعاشر: الاستنباط، وتفسير آيات من القرآن.
والحادي عشر: كتاب النصائح; وفي آخره تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة، تطلعك على كبر شأنهم، وعلو مرتبتهم، وعمق مآخذهم، وتشرح صدرك لقبول أجوبتهم.(1/23)
تنبيهات
التنبيه الأول: في كيفية ترتيب كل جزء من أجزاء هذا المجموع; فليعلم أن الجزء الأول، والثاني، والثالث، والثامن، والتاسع، والحادي عشر، قد أبقيت الرسائل والأجوبة فيها على ما هي عليه، ولم ترتب إلا على حسب وفيات مؤلفيها، فيذكر في كل واحد من هذه الأجزاء، أولا: رسائل الشيخ محمد رحمه الله، ثم من بعده، وهكذا، على حسب الوفيات، وقد يقدم الأشهر.
وأما الجزء الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، فهي على حسب ترتيب فقهائنا - رحمهم الله - في التبويب والمسائل، وإذا كان في المسألة جوابان فأكثر، ذكر السؤال أو بعضه أو ملخصه، إن لم يحتج إليه كله; ويبدأ بجواب الأقدم، ثم جواب من يليه من غير إعادة للسؤال، بل يكتفى بقول: وأجاب فلان، وهكذا مرتبا إلى أن تفرغ الأجوبة، التي في تلك المسألة.
وقد ينتقل من مسألة إلى مسألة أخرى من غير ذكر سؤال، فيقال: وأجاب فلان، اكتفاء بما في جواب التي قبلها، لما بينهما من الارتباط.(1/24)
التنبيه الثاني: إن بعض المسائل قد لا نقف لها على سؤال، فنصور لها سؤالا على حسب ما يظهر من الجواب; وهذا إذا لم يكتف بالسؤال السابق.
وأما الجزء العاشر الذي في الاستنباط، فترتيبه على حسب السور.
التنبيه الثالث: لم آل جهدا في مقابلة ما نقلناه على الأصول، وتصحيحه، وفي بعض تلك الأجوبة كلمات يسيرة عامية، فأصلحتها، بإبدالها بكلمات عربية، هي بمعنى تلك الكلمات، وذلك عن إذن بعض من قرأتها عليه، وعرضها عليه، واستجازته إياها; إذ فهم المراد كما ينبغي متوقف على ذلك.
التنبيه الرابع: إني لم أتعرض إلا لفتاوى، ورسائل، وردود أهل هذه الدعوة، ولم أثبت من الردود، في هذا المجموع، إلا ما كان مختصرا، نحو الكراستين فأقل; وأما الردود الكبار: فهي متداولة، مستقلة على حدتها، مستغنية عن إثباتها في هذا المجموع، كما أني لم أثبت ما كان مشهورا متداولا، ككتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات، وفضائل الإسلام، وغيرها مما شهرته كافية.(1/25)
التنبيه الخامس: بعض الفتاوى، لم أقف على اسم صاحبها، لكنه من أهل هذه الدعوة قطعا، فأورده بقولي: سئل بعضهم، ونحوه.
والله أسأل: أن يجعل السعي فيه خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم; فهو العالم بمودعات السرائر، وخفيات الضمائر، وأن يتغمدنا وإياهم بفضله ورحمته، ويتجاوز عنا وعنهم بسعة مغفرته، ويحشرنا في زمرتهم، إنه سميع قريب، عليه نتوكل وإليه ننيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.(1/26)
كتاب العقائد
(جواب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأهل القصيم في بيان عقيدته إجمالا)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام: العالم الرباني، والصديق الثاني، مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، أوحد العلماء، وأورع الزهاد; الشيخ: محمد بن عبد الوهاب; أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، لما سأله أهل القصيم عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم: أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه; لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.(1/29)
فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا، فنَّزه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، [سورة الصّافات الآيتات: 180-181-182] .
والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج.
وأعتقد: أن القرآن كلام الله، منْزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود ; وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأؤمن: بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد(1/30)
الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ، [سورة المؤمنون، الآيتان: 102-103] ،?وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وأومن: بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع، وأول مشفع; ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال; ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ، [سورة الأنبياء آية: 28] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ، [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، [سورة النجم آية: 26] . وهو: لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله; وأما المشركون: فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، [سورة المدثر آية: 48] .(1/31)
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته.
وأومن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته; وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة; ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيْمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، [سورة الحشر آية: 10] . وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء. وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسيء. ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام. وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام: برا كان، أو(1/32)
فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة؛ والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل.
وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله. ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه. وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله. وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.
وأعتقد أن الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية ; وهو بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل.
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي.(1/33)
فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة; وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد; وإني خارج عن التقليد; وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين; وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق; وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض، وابن عربي; وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم; وقبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور; قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، [سورة النحل آية: 105] . بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة، وعيسى، وعزيرا في النار; فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ، [سورة الأنبياء آية: 101] ، وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من(1/34)
يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام; فهذه المسائل حق، وأنا قائل بها; ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى: بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى.
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات آية: 6] .
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف ومعاتبته له)
وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، حفظه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغليظ علي، ولما قيل: إنك كنت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء، لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء.
وأيضا لما أعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن(1/35)
الفهم، واتباع الحق، ولو خالفك فيه كبار أئمتكم، لأني اجتمعت بك من نحو عشرين، وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري، كتبتها، ونقلت على هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان، التي ذكر البخاري في أول الصحيح: هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام، لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين.
وذاكرتني أيضا في بعض المسائل، فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما من الله به عليك، من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة; فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر، لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق إن كان مع خصمهم فواضح; وإن كان معهم: فينبغي للداعي إلى الله، أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه، موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى.
وينبغي للقاضي - أعزه الله بطاعته - لما ابتلاه الله بهذا المنصب أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يوقنون; فمن ذلك: لا يستخفنه الذين لا يوقنون; ويتثبت عند سعايات الفساق والمنافقين، ولا يعجل. وقد وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب، ويجتنب أهلها أيضا; فوصفهم بالفصاحة، والبيان، وحسن اللسان، بل(1/36)
وحسن الصورة في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الآية، [سورة المنافقون آية: 4] . ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين، ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآية، [سورة المائدة آية: 41] . ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضى بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة، وبراءة، وسورة القتال، وغير ذلك، نصيحة لعباده ليتجنبوا الأوصاف ومن تلبس بها.
ونهى الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع، فكيف يجوز من مثلك أن يقبل من مثل هؤلاء؟! وأعظم من ذلك: أن تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم، وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة، وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا، لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره.
وأما ما ذكر لكم عني، فإني لم آته بجهالة، بل أقول - ولله الحمد والمنة وبه القوة -: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، ولست - ولله الحمد - أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا(1/37)
أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه: إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين; ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق.
وصفة الأمر: غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون وأتباعهم، والأئمة كالشافعي، وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم.
وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل؛ وسادتهم وأئمتهم، وأعلمهم وأعبدهم، وأزهدهم، مثل: ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ العماد ابن كثير، والحافظ ابن رجب، قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم، الذين هم خير من ابن حجر، وصاحب الإقناع، بالإجماع. فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم، والإطباق على طريقتهم، قالوا: هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى، حذو القذة بالقذة " حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 1. وقد ذكر الله في كتابه: أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا،
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , وابن ماجه: الفتن (3994) , وأحمد (2/327) .(1/38)
وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله، وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب. وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين، بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، [سورة المؤمنون آية: 53] والزبر: الكتب.
فإذا فهم المؤمن، قول الصادق المصدوق: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1، وجعله قبلة قلبه، تبين له أن هذه الآيات وأشباهها، ليست على ما ظن الجاهلون: أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات: " مضى القوم، وما يعني به غيركم ".
وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، الذين هم غير المغضوب عليهم، ولا الضالين؛ فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء، وحكمة الله فيه.
والحاصل: أن صورة المسألة، هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع التحفة 2 مثلا؟ فأعلم المتأخرين وسادتهم منهم، كابن القيم قد أنكروا هذا غاية
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 يعني التحفة لابن حجر الهيتمي المكي الشافعي.(1/39)
الإنكار; وأنه تغيير لدين الله; واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه، من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين، لمن نور الله قلبه. والذين يجيزون ذلك، أو يوجبونه، يدلون بشبه واهية، لكن أكبر شبههم على الإطلاق: إنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد; وإنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون.
ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلدا، ومن أوضحه قول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، [سورة التوبة آية: 31] . وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بهذا الذي أنتم عليه اليوم، في الأصول، والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يبين مصداق قوله: " حذو القذة بالقذة " 1 إلخ. وكذلك فسرها المفسرون، لا أعلم بينهم اختلافا، ومن أحسنه: ما قاله أبو العالية، أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم، ولكنهم وجدوا كتاب الله، فقالوا: لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا.
وهذه رسالة لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جوابا عما يدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فإن أردتم الرد علي بعلم وعدل، فعندكم كتاب إعلام الموقعين، لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفة 2.
__________
1 أحمد (4/125) .
2 اسم مكان.(1/40)
فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطا كثيرا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدل لها بالدلائل الواضحة القاطعة، منها: أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يسير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريبا كما بدأ.
وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام: من معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) يعني أبا بكر، وبلالا. فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس، وأطباقهم، وأشباه هذه الشبهة، التي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله، وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} ، [سورة المؤمنون آية: 81] . فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وقد ذكر الله في كتابه: أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل، مثل إطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك.
فمن من الله عليه بمعرفة دين الإسلام، الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرف قدر هذه الآيات، والحجج، وحاجة الناس إليها. فإن زعمتم: أن ذكر هؤلاء الأئمة لهذا لمن كان من أهله، فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر، والذكر والأنثى، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال:(1/41)
ذلك صعب، مكيدة من الشيطان، كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم، الحنيفية ملة إبراهيم; وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه. وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله، ودعوة إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إلى الله، وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه، وأنه عندكم من أنكر المنكرات، من أن الذي يعيب هذا عندكم، مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لكن أنت، من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام; فإذا قرأته، فإن أنكره قلبك فلا عجب; فإن العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإن أصغى إليه قلبك بعض الإصغاء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله، والانطراح بين يديه، خصوصا أوقات الإجابة، كآخر الليل، وأدبار الصلاة، وبعد الأذان.
وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصا الذي ورد في الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " 1. فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء، بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل: يا معلم إبراهيم علمني.
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) .(1/42)
وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكر في قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، [سورة الجاثية الآيتان: 18-19] ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، [سورة الأنعام آية: 116] .
وتأمل قوله في الصحيح: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم " 2 إلى آخره، وقوله: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " وقوله: " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 3. والآيات، والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف.
فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل، وتسلك مسلك الأكثر; ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئا أعطاه، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضي الله عنه في أوله، فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا.
وأما هذا الخيال الشيطاني الذي اصطاد به الناس، أن من سلك هذا المسلك، فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الاقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه، كما قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، [سورة الأنعام آية: 112] . فإن الذي
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .
2 البخاري: العلم (100) , ومسلم: العلم (2673) , والترمذي: العلم (2652) , وابن ماجه: المقدمة (52) , وأحمد (2/162 ,2/190) , والدارمي: المقدمة (239) .
3 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) .(1/43)
أنا عليه، وأدعوكم إليه، هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم، فإنهم قد وصوا الناس بذلك. ومن أشهرهم كلاما في ذلك، إمامكم الشافعي، قال: لا بد أن تجدوا عني ما يخالف الحديث، فكل ما خالفه، فأشهدكم أني قد رجعت عنه.
وأيضا: أنا في مخالفتي هذا العالم، لم أخالفه وحدي، فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم، وقلت القول بنجاسته، يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم " 1. فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي؟ قلت: أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه، قد خالفه، واستدل بالأحاديث.
فإذا قال أنت أعلم من الشافعي؟ قلت: أنت أعلم من مالك؟ وأحمد؟ فقد عارضته بمثل ما عارضني به، وسلم الدليل من المعارض، واتبعت قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، [سورة النساء آية: 59] . واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم، لم أستدل بالقرآن، أو الحديث وحدي، حتى يتوجه علي ما قيل، وهذا على التنْزل; وإلا فمعلوم: أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة، ولا تعبؤون بمن خالفه من رسول، أو صاحب، أو تابع، حتى الشافعي نفسه، ولا تعبؤون بكلامه إذا خالف نص
__________
1 البخاري: الوضوء (234) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (524) , والترمذي: الصلاة (350) , وأحمد (3/131 ,3/194) .(1/44)
ابن حجر، وكذلك غيركم إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة.
فهؤلاء الحنابلة من أقل الناس بدعة; وأكثر الإقناع، والمنتهى، مخالف لمذهب أحمد ونصه، يعرف ذلك من عرفه; ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم; وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول، مقتديا بأهل العلم؟ أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله؟ فأنتم على هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله، وسماه شركا، وهو اتخاذ العلماء أربابا؟ وأنا على الأول، أدعو إليه، وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه، وقبلناه منكم.
وإن أردت النظر في إعلام الموقعين، فعليك بالمناظرة في أثنائه، عقدها بين مقلد وصاحب حجة. وإن ألقي في ذهنك: أن ابن القيم مبتدع، وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها، فاضرع إلى الله، وأسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظرا، ومناظرا، واطلب كلام أهل العلم في زمانه، مثل الحافظ الذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم، ومما ينسب للذهبي رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي فقيه(1/45)
فإن لم تتبع لهؤلاء، فانظر كلام الأئمة قبلهم، كالحافظ البيهقي في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر، والخطابي، وأمثالهم، ومن قبلهم، كالشافعي، وابن جرير، وابن قتيبة، وأبي عبيد، فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام السلف. وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه، وشروحهم، فإنها القاطعة عن الله، وعن دينه.
وتأمل: ما في كتاب الاعتصام للبخاري، وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء بما صرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم، وتقولون: ما نقدر عليها، ولا يقدر عليها إلا المجتهد، فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله، وكلام رسوله إلا المجتهد. وتقولون: يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أصحابه؛ فجزمتم وشهدتم: أنكم على غير طريقتهم، معترفين بالعجز عن ذلك.
وإذا كنتم مقرين أن الواجب على الأولين اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، لا يجوز العدول عن ذلك، وأن هذه الكتب، والتي خير منها، لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل، ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد، لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري، متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم؟!(1/46)
ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام أحمد، اشتد إنكاره لذلك; ولما بلغه عن بعض أصحابه أنه يروي عنه مسائل بخراسان، قال: أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه: أنكر عليه، وقال: تكتب رأيا لعلي أرجع عنه غدا، اطلب العلم مثل ما طلبنا.
ولما سئل عن كتاب أبي ثور؟ قال: كل كتاب ابتدع، فهو بدعة. ومعلوم: أن أبا ثور من كبار أهل العلم; وكان أحمد يثني عليه; وكان ينهى الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثني عليهم ويعظمهم.
ولما أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبي حنيفة، هجره أحمد، وكتب إليه: إن تركت كتب أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك. ولما ذكر له بعض أصحابه أن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة، قال: إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها.
وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، [النّور، من الآية: 63] . قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، ومعلوم: أن الثوري عنده غاية، وكان يسميه أمير المؤمنين; فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم؟! وشهد عليهم بذلك،(1/47)
ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف ما دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم: أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله، ورسوله، والسلف الصالح، وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " 1 إلى آخره، فتأمل هذه الشبهة، أعني قولكم: لا نقدر على ذلك; وتأمل ما حكى الله عن اليهود، في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [سورة البقرة آية: 88] ، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} ، [سورة البقرة آية: 99] ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الزخرف آية: 3] ، وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، [سورة القمر آية: 17] .
واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم; واعرف من نزلت فيه; واعرف الأقوال والأفعال، التي كانت سببا لنُزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم: لا نقدر على فهم القرآن والسنة، تجد مصداق قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 2 وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال.
ففيها: أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد، حتى إن آخرهم قال عند موته: لا أعلم على وجه الأرض أحدا على ما نحن عليه، ولكن قد أظل زمان نبي.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .(1/48)
واذكر مع هذا قول الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} ، [سورة هود آية: 116] .
فحقيق لمن نصح نفسه، وخاف عذاب الآخرة: أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه، خصوصا ما وصف به علماءهم، ورهبانهم، من كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله، أي: علماءهم، من الشرك، والإيمان بالجبت والطاغوت، وقولهم للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا; لأنه عرف أن كل ما فعلوا لا بد أن تفعله هذه الأمة، وقد فعلت.
وإن صعب عليك مخالفة الكبر، أو لم يقبل ذهنك هذا الكلام، فأحضر بقلبك: أن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بيانا وشفاء لداء الجهل، وأعظمها فرقا بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده، واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [سورة آية: 64] ، وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها على قلبك، فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال.
فتأمل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، [سورة لقمان آية: 21] ، وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة، وكذلك قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ(1/49)
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، [سورة الأعراف آية: 71] .
فكل حجة تحتجون بها، تجدها مبسوطة في القرآن، وبعضها في مواضع كثيرة.
فأحضر بقلبك: أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل، فارقا بين الحق والباطل، لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج، ويكررها، مع عدم حاجة المسلمين إليها، ويترك الحجج التي يحتاجون إليها، ويعلم أن عباده يفترقون; حاشا أحكم الحاكمين من ذلك.
ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق، وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم، وأعظمهم جاها، ولو اتبعه أكثر الناس: ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين، وصفات الله تعالى، وغالب من يدعي المعرفة، وما عليه المتكلمون، وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوا، وتشبيها، وتجسيما. مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام - مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين - تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه.
وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول(1/50)
البخاري: وهو قول وعمل، ويزيد وينقص; فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي: أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده.
فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول.
والحاصل: أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضا، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى، وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود،(1/51)
يبغضونهم الناس، ويرمونهم بالتجسيم.
هذا، وأهل الكلام وأتباعهم، من أحذق الناس، وأفطنهم، حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم، ما يحير اللبيب، وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف، حتى إن أئمة المتكلمين، لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر والنهي، مثل قولهم: المراد بالصيام كتمان أسرارنا، والمراد بالحج زيارة مشائخنا; والمراد بجبريل: العقل الفعال; وغير ذلك من إفكهم; ردوا عليهم الجواب: بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام; فقال لهم الفلاسفة: أنتم جحدتم علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب، على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم، وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا؟! وتأويلكم صحيحا؟! فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد.
والمراد: أن مذهبهم مع كونه فاسدا في نفسه، مخالفا للعقول، وهو أيضا مخالف لدين الإسلام، والكتاب والرسول، وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف، ثم مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل، حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها.
وأنا أدعوك إلى التفكر في هذه المسألة، وذلك أن السلف قد كثر كلامهم، وتصانيفهم في أصول الدين، وإبطال(1/52)
كلام المتكلمين، وتفكيرهم، وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية: البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، ومن بعدهم، كالحافظ الذهبي; وأما متقدموهم: كابن سريج، والدارقطني، وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر؛ ففتش في كتب هؤلاء، فإن أتيتني بكلمة واحدة أن منهم رجلا واحدا لم ينكر على المتكلمين، ولم يكفرهم، فلا تقبل مني شيئا أبدا; ومع هذا كله، وظهوره غاية الظهور، راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون; والله المستعان.
ومن العجب: أنه يوجد في بلدكم من يفتي الرجل بقول إمام; والثاني بقول آخر، والثالث بخلاف القولين; ويعد فضيلة، وعلما، وذكاء، ويقال: هذا يفتي في مذهبين أو أكثر. ومعلوم عند الناس: أن مراده في هذا، العلو والرياء، وأكل أموال الناس بالباطل; فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه، أو مثله إذا كان معه الدليل، ولم آت بشيء من عند نفسي، تكلمتم بهذا الكلام الشديد، فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم، توجه علي القول.
وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم تزعمون أن هذا إنكار للمنكر، فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلي الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
منها - وهو أعظمها -: عبادة الأصنام عندكم، من بشر،(1/53)
وحجر; هذا يذبح له; وهذا ينذر له; وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات; وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر، وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة، ولو عصى الله!
فإن كنتم تزعمون أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن، فهذا من العجب، فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يختلف في ذلك، اللهم إلا أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود، من إيمانهم بالجبت والطاغوت. وإن ادعيتم: أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل، قدرتم على البعض; كيف وبعد الذين أنكروا على هذا الأمر، وادعوا أنهم من أهل العلم، ملتبسون بالشرك الأكبر، ويدعون إليه، ولو يسمعون إنسانا يجرد التوحيد، لرموه بالكفر والفسوق; ولكن نعوذ بالله من رضى الناس بسخط الله.
ومنها: ما يفعله كثير من أتباع إبليس، وأتباع المنجمين والسحرة والكهان، ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس، ويشبهون بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله؛ حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم: أنه من العلم الموروث عن الأنبياء، من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .(1/54)
ومنها: هذه الحيلة الربوية، التي مثل حيلة أصحاب السبت، أو أشد. وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع: إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما إلى إجماع أهل العلم؛ فإن عاند، دعوته إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان، والأوزاعي، في مسألة رفع اليدين، وغيرهما من أهل العلم; والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز بن سعود إلى الشيخ عبد العزيز الحصين والي مكة)
وفي سنة 1184هـ، أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، إلى والي مكة، الشيخ: عبد العزيز الحصين، وكتبا إلى الوالي المذكور، رسالة، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمة عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد، أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده، سيد الثقلين.
إن الكتاب لما وصل إلى الخادم، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن، رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف، لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية، ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها; وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر، وهو واصل إليكم،(1/55)
ويجلس في مجلس الشريف، أعزه الله، هو وعلماء مكة; فإن اجتمعوا، فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشيخ كتبهم، وكتب الحنابلة.
والواجب على الكل منا، ومنكم: أنه يقصد بعلمه وجه الله، ونصر رسوله كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية، [سورة آل عمران آية: 81] . فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم، على الإيمان به، ونصرته، فكيف بنا يا أمته؟ فلا بد من الإيمان به، ولا بد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك، وأولاهم به أهل البيت، الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم. والسلام.
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى علماء مكة وإجابة الأمير عبد العزيز للشريف غالب)
وفي سنة 1204 هـ، أرسل: غالب إلى الإمام عبد العزيز رحمه الله، يطلب منه أن يرسل إليه رجلا من أهل العلم، يبحث مع علماء مكة المشرفة، فأرسلا إليه، وكتب الشيخ رحمه الله هذه الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام.(1/56)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم، وبلغ غيركم، وسببه: هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله. فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم، لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر.
فأشاعوا عنا: أنا نسب الصالحين، وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها؛ وأنا أخبركم بما نحن عليه، بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب، ليتبين لكم الأمر، وتعلموا الحقيقة.
فنحن - ولله الحمد - متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وتعلمون - أعزكم الله - أن المطاع في كثير من البلدان، لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين، أنها تكبر عند العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون - أعزكم الله - أن في ولاية أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما أحضروا كتب الحنابلة، التي عندنا عمدة، وكالتحفة، والنهاية عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب - أعزه الله ونصره - امتثلنا أمره، وأجبنا طلبه، وهو إرسال رجل من أهل العقل والعلم، ليبحث مع علماء بيت الله الحرام، حتى(1/57)
يتبين له - أعزه الله - ما عندنا، وما نحن عليه.
ثم اعلموا وفقكم الله: إن كانت المسألة إجماعا، فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد، فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد؛ فمن عمل بمذهبه في محل ولايته، لا ينكر عليه. وأنا أشهد الله وملائكته، وأشهدكم أني على دين الله ورسوله، وإني متبع لأهل العلم، غير مخالف لهم; والسلام.
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لأحد علماء المدينة وبيان سبب الخلاف الذي بينه وبين الناس)
وله أيضا - رحمه الله تعالى - مجاوبة لعالم من أهل المدينة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين; إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، ثم ينتهي إلى جناب ... لا زال محروس الجناب بعين الملك الوهاب; وبعد: الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر حيث أخبر بطيبكم؛ فإن سألت عنا فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات.
وإن سألت عن سبب الاختلاف، الذي هو بيننا وبين الناس، فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك، ولا في شيء من المحرمات. الشيء الذي عندنا زين، هو عند الناس زين;(1/58)
والذي عندهم شين هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين، ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين، ونؤدب الناس عليه.
والذي قلب الناس علينا: الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وقلبهم على الرسل من قبله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} ، [سورة المؤمنون آية: 44] ، ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: " والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي " 1. فرأس الأمر عندنا، وأساسه: إخلاص الدين لله، نقول: ما يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح القربان إلا لله، ولا يخاف خوف الله إلا من الله؛ فمن جعل من هذا شيئا لغير الله، فنقول: هذا الشرك بالله، الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، [سورة النساء آية: 48، و116] . والكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} الآية، [سورة يونس آية: 31] . {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة الآيتان: 88-89] . وأخبر الله عن الكفار: أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد، واذكر قوله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، [سورة العنكبوت آية: 65] . والآية الأخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، [سورة لقمان آية: 32] ، وبين الله غاية الكفار،
__________
1 البخاري: بدء الوحي (4) , ومسلم: الإيمان (160) , وأحمد (6/223 ,6/232) .(1/59)
ومطلبهم، أنهم يطلبون الشفع 1. واقرأ أول سورة الزمر، تراه سبحانه بين دين الإسلام، وبين دين الكفار ومطلبهم، الآيات في هذا من القرآن: ما تحصى ولا تعد.
وأما الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فلما قال بعض الصحابة: " ما شاء الله، وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده ". وفي الحديث الثاني، قال بعض الصحابة: " قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. قال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله وحده " 2. وفي الحديث الثالث: " أن أم سلمة رضي الله عنها، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح - أو العبد الصالح - بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " 3.
والحديث الرابع: " لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " 4.
والحديث الخامس: عن معاذ قال: "كنت رديف
__________
1 لعله يريد الشفاعة.
2 أحمد (5/317) .
3 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) .
4 البخاري: الزكاة (1395) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) .(1/60)
النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " 1 الحديث; والأحاديث في هذا ما تحصى.
وأما تنويهه صلى الله عليه وسلم بأن دينه يتغير بعده، فقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ; وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. وفي الحديث قال: " افترقت الأمم قبلكم. افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة. والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة. وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ". 3. وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 4.
ويكون عندك معلوما: أن أساس الأمر، ورأسه، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، [سورة الأنبياء آية: 25] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (5/228 ,5/230 ,5/234 ,5/236) .
2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) .
3 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/120) .
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .(1/61)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ، [سورة النحل آية: 36] .وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} الآيتين [سورة المدثر آية: 1] .
ويكون عندك معلوما: أن لله تعالى أفعالا، وللعبيد أفعالا، فأفعال الله: الخلق والرزق، والنفع، والضر، والتدبير; وهذا أمر ما ينازع فيه، لا كافر، ولا مسلم. وأفعال العبد، العبادة: كونه ما يدعو إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه; فالمسلم: من وحد الله بأفعاله سبحانه وأفعاله بنفسه; والمشرك: الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه، ويشرك بأفعاله بنفسه.
وفي الحديث " لما أنزل الله عليه: {قُمْ فَأَنْذِرْ} ، [المدثر:2] ، صعد الصفا صلى الله عليه وسلم فنادى: "واصباحاه" فلما اجتمع إليه قريش، قال لهم ما قال; فقال عمه: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا. وأنزل الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، [المسد: 1] " وقال صلى الله عليه وسلم: " يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " 1 أين هذا من قول صاحب البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم
__________
1 البخاري: الوصايا (2753) وتفسير القرآن (4771) , ومسلم: الإيمان (206) , والنسائي: الوصايا (3646) , والدارمي: الرقاق (2732) .(1/62)
وذكر صاحب السيرة: أنه صلوات الله وسلامه عليه، قام يقنت على قريش، ويخصص أناسا منهم، في مقتل حمزة وأصحابه، فأنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية، [سورة آل عمران آية: 128] ، ولكن مثل ما قال صلى الله عليه وسلم " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 1.
فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم; فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر، الذي يشهد أن التوحيد دين الله، ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد; ولكن نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية، [سورة آل عمران آية: 31] .
ويكون عندك معلوما: أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه، التي قال الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة فصلت آية: 33] . وفي الحديث: " والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم " 2.
ثم بعد هذا يذكر لنا: أن عدوان الإسلام، الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم; بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود; نسأل
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .
2 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) .(1/63)
الله الكريم رب العرش العظيم: أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه.
هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، من المهاجرين والأنصار، والتابعين، وتابع التابعين، والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين؛ وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة، فإن اجتماعهم حجة; والقائل: إنه يطلب الشفاعة بعد موته; يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة، والحق أحق أن يتبع.
(بيان عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب وما يأمر به)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة؛ لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات، من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهو(1/64)
الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم; وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادة نشؤوا عليها.
وأيضا: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله; ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله.
فنقول: التوحيد نوعان; توحيد الربوبية، وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير، عن الملائكة، والأنبياء، وغيرهم; وهذا حق لا بد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام; بل أكفر الناس مقرون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام، هو: توحيد الإلهية، وهو: ألا يعبد إلا الله، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث، والجاهلية يعبدون أشياء(1/65)
مع الله، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة; فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد، ولا يدعى أحد، لا الملائكة، ولا الأنبياء. فمن تبعه، ووحد الله، فهو الذي يشهد أن لا إله إلا الله; ومن عصاه، ودعا عيسى، والملائكة، واستنصرهم، والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله. وهذه جملة لها بسط طويل; ولكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء.
فلما جرى في هذه الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 1، وكان من قبلهم، كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وصار ناس من الضالين يدعون أناسا من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف; أعني: على الداعي; وأما الصالحون، الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم.
وبين أهل العلم أن هذا هو الشرك الأكبر، عبادة الأصنام؛ فإن الله سبحانه: إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر; والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين،
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .(1/66)
والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء الاستغاثة.
واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة، والأولياء، والصالحين; ويريدون شفاعتهم، والتقرب إليهم; وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونها إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] .
واعلم أن التوحيد هوإفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين؛ أرسله الله إلى أناس يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله تعالى، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.(1/67)
فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما. وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو; ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، [سورة يونس آية: 31] .
وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، [سورة المؤمنون آية: 84-85-86-87-88-89] . وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد، الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه، هو توحيد العبادة،(1/68)
الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد. كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى، ليلا ونهارا، خوفا وطمعا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم، ويدعو رجلا صالحا، مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى.
وعرفت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم، ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله. وعرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم; عرفت حينئذ التوحيد، الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون.
وهذا التوحيد هو: معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم، هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليا، أو شجرة، أو قبرا، أو جنيا; لم يريدوا أن(1/69)
الإله هو: الخالق، الرازق، المدبر; فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك.
وإنما يعنون بالإله: ما يعني المشركون في زماننا، بلفظ: السيد، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي: لا إله إلا الله; والمراد من هذه الكلمة معناها، لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله; قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب.
فإذا عرفت: أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب، بشيء من المعاني; والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت ما قلت لك، معرفة قلب; وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية، [سورة النساء آية: 48، و116] ، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه، من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل(1/70)
الله وبرحمته، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، [سورة يونس آية: 58] . وأفادك أيضا: الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها، وهو يظن أنها تقربه إلى الله، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
واعلم: أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، [سورة الأنعام آية: 112] . وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ، [سورة غافر آية: 83] .
فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [سورة الأعراف آية: 86] .
فالواجب عليك: أن تعلم من دين الله، ما يصير لك(1/71)
سلاحا، تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [سورة الأعراف الآيتان: 16-17] .
ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف، ولا تحزن، إن كيد الشيطان كان ضعيفا; والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، [سورة الصافات آية: 173] . فجند الله: هم الغالبون بالحجة، واللسان; كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان; وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق، وليس معه سلاح.
وقد من الله علينا بكتابه، الذي جعله: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] ؛ فلا يأتي صاحب باطل بحجة، إلا وفي القرآن ما ينقضها، ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] . قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة، يأتي بها أهل الباطل، إلى يوم القيامة.
والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان.
ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين: أني لما(1/72)
بينت لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] . وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، [سورة يونس آية: 18] ، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، [سورة الزمر آية: 3] ، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} ، الآية [سورة يونس آية: 31] . وغير ذلك، قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثالنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون.
قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كل: أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم. فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفورا.
وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر. وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك; وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم، إلا دون النفس والحرمة; وهم الذين أتونا في ديارنا; ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد(1/73)
نقاتل بعضهم، على سبيل المقابلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها; وكذلك من جاهر بسب دين الرسول، بعد ما عرف، فإنا نبين لكم أن هذا هو الحق، الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء، والرجال.
فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه؛ فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له; ونسأل الله أن يهدينا، وإياكم، لما يحبه ويرضاه.
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب لابن صياح، ورد مفتريات عليه)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمدا صلى الله عليه وسلم أن ابن صياح سألني عما ينسب إلي؟ فطلب مني أن أكتب الجواب; فكتبته:
الحمد لله رب العالمين، أما بعد: فما ذكره المشركون على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول: لو أن لي أمرا، هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه علي الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون لهم، وينخونهم، ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله، وهو منهم بريء، كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة.(1/74)
فلما رأوني: آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر; وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين، أو الأنبياء، أو ندبهم، أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان، يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر، بل يقر به، ويعرفه.
وأما الذي ينكره، فهو بين أمرين، إن قال: إن دعوة الصالحين واستغاثتهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيرا لهم، أمر حسن، ولو ذكر الله ورسوله إنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام.
وإنما كلامنا مع رجل، يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل، قد لبست عليه الشياطين دينه; ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق؛ ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار، ما فعله; ونحن: نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم، أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه، والله سبحانه أنزل القرآن، وذكر فيه ما يحبه، ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا، وأكمل; وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه; وهم يحبونه على أنفسهم، وأولادهم،(1/75)
ويعرفون قدره، ويعرفون أيضا: الشرك، والإيمان.
فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه، أو نذر له، أو ندبه، أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله، أو يندبه، أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا أمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري.
وإن كان إذا سألت وجدت أنه: صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء، والصالحين، وقتلهم، وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم، فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق; والواجب على كل مؤمن: اتباعه فيما جاء به.
وبالجملة: فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي، فارم به أو من كتاب لقيته، ليس عليه عمل، فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي، فارم به. وإن كنت قلته، عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه، لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه.
واعلم: أن الأدلة على هذا، من كلام الله، وكلام رسوله، كثيرة، لكن: أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ(1/76)
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56-57] .
ذكر المفسرون في تفسيرها: أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى، عليه السلام، وعزير، فقال تعالى: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي; ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
فيا عباد الله، تفكروا في كلام ربكم تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دينهم الذي كفرهم به، هو الاعتقاد في الصالحين; وإلا فالكفار يخافون الله، ويرجونه، ويحجون، ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين; وهم يقولون: إنما اعتقدنا فيهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
فيا عباد الله إذا كان الله ذكر في كتابه، أن دين الكفار، هو: الاعتقاد في الصالحين، وذكر أنهم اعتقدوا فيهم، ودعوهم، وندبوهم، لأجل أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، هل بعد هذا البيان، بيان؟ فإذا كان من اعتقد في عيسى بن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء، وندبه ونخاه 1 فقد
__________
1 ند به, أي: استغاث به.(1/77)
كفر، فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب: أبي حديدة، وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله؟!
وأنت يا من هداه الله: لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين، بل هؤلاء أعداء الصالحين; وأنت والله الذي تحب الصالحين; لأن من أحب قوما أطاعهم، فمن أحب الصالحين، وأطاعهم، لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم، فهو مثل النصارى الذين يدعون عيسى، ويزعمون محبته، وهو بريء منهم، ومثل الرافضة الذين يدعون علي بن أبي طالب، وهو بريء منهم.
ونختم هذا الكتاب بكلمة واحدة، وهي أن أقول: يا عباد الله، لا تطيعوني، ولا تفكروا; واسألوا أهل العلم من كل مذهب، عما قال الله ورسوله; وأنا أنصحكم: لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين، مثل الزنى، والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، من فعله كفر، وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباد الله تفكروا، وتذكروا، والسلام.(1/78)
(بيان الشيخ ابن عبد الوهاب لعبد الرحمن السويدي وبيان عقيدته، ورد مفترياته)
وله أيضا: رحمه الله تعالى، رسالة أرسلها إلى ابن السويدي، عالم من أهل العراق، سأله عما يقول الناس فيه، فأجابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: عبد الرحمن، بن عبد الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إلي كتابك، وسر الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين; وأخبرك أني - ولله الحمد - متبع، لست بمبتدع; عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، هو: مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، إلى يوم القيامة.
ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء، والأموات، من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم; وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.(1/79)
وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة، هم الرافضة، الذين يدعون عليا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات; وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادات نشؤوا عليها.
وأيضا: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا، وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام; فجعلوا قدحهم وعداوتهم، فيما آمر به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك، ولبسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات؛ فكبرت الفتنة، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله.
فمنها: إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلا عن أن يفتريه.
ومنها: ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة. فيا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! وهل يقول هذا مسلم؟ إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك; فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة.
وكذلك قولهم، إني أقول: لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها.
وأما دلائل الخيرات، وما قيل عني: أني حرقتها، فله(1/80)
سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني: أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ولا يظن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن. وأما إحراقها، والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان، فنسبة هذا إلي من الزور والبهتان.
والحاصل: أن ما ذكر عني من الأسباب، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان; وهذا لو خفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم. ولو أن رجلا من أهل بلدكم، ولو كان أحب الخلق إلى الناس، قام يلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحساد، أشد منه رياسة، وأكثر اتباعا، وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين، وأن دعوتهم من إجلالهم، واحترامهم، لعلمتم كيف يجري عليه.
ومع هذا، وأضعافه، فلا بد من الإيمان بما جاء به الرسول، عليه الصلاة والسلام، ونصرته، كما أخذ الله على الأنبياء قبله، وأممهم، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} ، [سورة آل عمران آية: 81] ، فلما فرض الله الإيمان، لم يجز تركه.
وأنا أرجو أن الله يكرمك بنصر دينه، ونبيه، وذلك(1/81)
على حسب الاستطاعة، ولو بالقلب، والدعاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1. فإن رأيت عرض كلامي هذا على من ظننت أنه يقبله من إخواننا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ومن أعجب ما جرى، من بعض الرؤساء المخالفين، أني لما بينت لهم معنى كلام الله تعالى، وما ذكره أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] . وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وما ذكره الله، من إقرار الكفار في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وغير ذلك، قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثلنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نقبل إلا ما ذكره المتأخرون.
فقلت: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كلا أخاصمه بكتب المتأخرين من علماء مذهبه، الذين يعتمد عليهم; فلما أبوا ذلك، نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرت ما قالوا، بعدما حدثت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، ولم يزدهم إلا نفورا.
وأما التكفير: فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (2) , وأحمد (2/313 ,2/467 ,2/508) .(1/82)
عرف، سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك.
وأما القتال: فلم نقاتل أحدا إلا دون النفس، والحرمة; فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى آية: 40] . وكذلك من جاهر بسب دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام.
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أهل المغرب في بيان التوحيد والشرك)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى أهل المغرب، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له; وأشهد: أن محمدا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله، فقد رشد; ومن يعص الله ورسوله، فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا; وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، [سورة يوسف آية: 108] . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 31] .(1/83)
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع، والتفرق، والاختلاف فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، [سورة الأعراف آية: 3] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] . والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر: بأن " أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع " 1 وثبت في الصحيحين، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2 وأخبر في الحديث الآخر: " أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 3. إذا عرف هذا، فمعلوم ما قد عمت به البلوى، من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى
__________
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) , وابن ماجه: الفتن (3994) , وأحمد (2/325 ,2/336 ,2/367) .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
3 الترمذي: الإيمان (2641) .(1/84)
الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله؛ وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزّمر الآيتان: 2-3] ، فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه; وأخبر: أن المشركين يدعون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده. وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار؛ فكذبهم في هذه الدعوى، وكفرهم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] .
فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك بهم، وذلك أن(1/85)
الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ؛ فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} ، [سورة طه آية: 109] ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّّّّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ الآيتان: 22-23] .
فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل: " يأتي فيخر ساجدا فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة " 1 فكيف بغيره من الأنبياء، والأولياء؟!
وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح، من الصحابة
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4476) , ومسلم: الإيمان (193) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/247) , والدارمي: المقدمة (52) .(1/86)
والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم، ودرج على منهجهم.
وأما ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء، الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم، ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادا، وجعل السدنة، والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور، التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ". وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر،
وثبت فيه أيضا: " أنه بعث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وأمره: أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه " 1، ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا، وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم; وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع السلف
__________
1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) .(1/87)
الصالح، من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد آية: 25] .
وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات، على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] .
فهذا هو الذي نعتقد، وندين الله به، فمن عمل بذلك، فهو أخونا المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا.
ونعتقد أيضا أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته، لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، وصلى الله على محمد.(1/88)
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى رئيس بادية الشام في بيان ما يدعو إليه)
وله أيضا: رحمه الله تعالى، رسالة إلى فاضل، رئيس بادية الشام.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الشيخ: فاضل آل مزيد، زاده الله من الإيمان، وأعاذه من نزغات الشيطان.
أما بعد: فالسبب في المكاتبة: أن راشد بن عربان، ذكر لنا عنك كلاما حسنا، سر الخاطر، وذكر عنك أنك طالب مني المكاتبة، بسبب ما يجيئك من كلام العدوان 1 من الكذب، والبهتان، وهذا، هو: الواجب من مثلك، أنه لا يقبل كلاما إلا إذا تحققه.
وأنا أذكر لك أمرين، قبل أن أذكر لك صفة الدين; الأول: أني أذكر لمن خالفني، أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها، ولا تأخذوا من كلامي شيئا; لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، فاتبعوه، ولو خالفه أكثر الناس.
__________
1 أي: الأعداء.(1/89)
والأمر الثاني: أن هذا الأمر، الذي أنكروا علي، وأبغضوني، وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام، واليمن، أو غيرهم، يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أظهره في مكاني، لأجل أن الدولة ما يرضون; وابن عبد الوهاب أظهره، لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه. هذا كلام العلماء، وأظنه وصلك كلامهم.
فأنت تفكر في الأمر الأول، وهو قولي: لا تطيعوني، ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم، وتفكر في الأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به، لكن ما يقدر يظهره. فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله، واعلم أنه ما ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدنيا زائلة، والجنة والنار، ما ينبغي للعاقل أن ينساهما.
وصورة الأمر الصحيح، أني أقول: ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] . فهذا كلام الله، والذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصانا به، ونهى الناس لا يدعونه. فلما ذكرت لهم: أن هذه المقامات، التي في الشام، والحرمين، وغيرها، أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين، والتعلق عليهم، هو الشرك(1/90)
بالله الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، فلما أظهرت هذا: أنكروه، وكبر عليهم; وقالوا: أجعلتنا مشركين؟ وهذا ليس إشراكا; هذا: كلامهم، وهذا كلامي، أسنده عن الله ورسوله; وهذا هو الذي بيني، وبينكم; فإن ذكر شيء غير هذا، فهو كذب، وبهتان; والذي يصدق كلامي هذا: أن العالم ما يقدر يظهره، حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق، ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة; وأنت - ولله الحمد - ما تخاف إلا الله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله، والله أعلم.(1/91)
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى من تصل من المسلمين ونصيحته لهم أن يتعلموا دين الله)
وله أيضا: قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فاعلموا رحمكم الله، أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيرا ونذيرا; مبشرا لمن اتبعه بالجنة، ومنذرا لمن لا يتبعه عن النار; وقد علمتم: إقرار كل من له معرفة، أن التوحيد الذي بينا للناس، هو الذي أرسل الله به رسله، حتى إن كل مطوع 1 معاند يشهد بذلك، وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم، هو الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون: لو يتركون أهل العارض، التكفير والقتال، كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال، لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم، أنه دين الله ورسوله، أن تعلموه وتعملوا به، إن كنتم من أتباع محمد باطنا وظاهرا.
__________
1 أي: معلم, أو مرشد.(1/92)
وأنا أبين لكم هذا بمسألة القبلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يصلون، والنصارى يصلون; لكن قبلته صلى الله عليه وسلم وأمته: بيت الله; وقبلة النصارى: مطلع الشمس؛ فالكل منا يصلي، ولكن اختلفنا في القبلة؛ فلو أن رجلا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقر بهذا، ولكن يكره من يستقبل القبلة، ويحب من يستقبل مطلع الشمس، أتظنون أن هذا مسلم؟ وهذا ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالتوحيد، وأن لا يدعى مع الله أحد، لا نبي، ولا غيره، والنصارى يدعون عيسى رسول الله وأمه; والمشركون يدعون الصالحين، يقولون: ليشفعوا لنا عند الله.
فإذا كان كل مطوع مقرا بالتوحيد، والشرك; فاجعلوا التوحيد مثل القبلة، واجعلوا الشرك مثل استقبال المشرق; مع أن هذا أعظم من القبلة; وأنا أنصحكم لله، وأنخاكم 1 لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبوا دين النصارى على دين نبيكم، فما ظنكم بمن واجه الله، وهو يعلم من قلبه أنه عرف أن التوحيد دينه، ودين رسوله، وهو يبغضه، ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره هو الشرك، ويحبه، ويحب من اتبعه؟ أتظنون أن الله يغفر لهذا؟! والنصيحة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما القلب الخالي من ذلك، فلا حيلة فيه، والسلام.
__________
1 أي: أذكى فيكم النخوة, والعصبية لدينكم.(1/93)
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى البكبلي صاحب اليمن)
وله رسالة إلى البكبلي 1 صاحب اليمن:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الحق في الكتاب، وجعله تذكرة لأولي الألباب، ووفق مَنْ مَنَّ عليه من عباده للصواب، لعنوان الجواب، وصلى الله وسلم، وبارك على نبيه، ورسوله، وخيرته من خلقه، محمد، وعلى آله، وشيعته، وجميع الأصحاب، ما طلع نجم وغاب، وانهل وابل من سحاب.
من عبد العزيز بن محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب:
إلى الأخ في الله: أحمد بن محمد العديلي البكبلي سلمه الله من جميع الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: لفانا 2 كتابكم، وسر الخاطر بما ذكرتم فيه،
__________
1 لعله البهكلي, المترجم في نيل الأوطار, ص 207/ج/1 المتوفى سنة 1227هـ.
2 أي: وافانا.(1/94)
من سؤالكم، وما بلغنا على البعد، من أخباركم، وسؤالكم عما نحن عليه، وما دعونا الناس إليه، فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل، ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا وبكم، أحسن منهج وسبيل.
أما ما نحن عليه من الدين؟ فعلى دين الإسلام، الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] .
وأما ما دعونا الناس إليه؟ فندعوهم إلى التوحيد، الذي قال الله فيه خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] .
وأما ما نهينا الناس عنه؟ فنهيناهم عن الشرك، الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منَّزه، هو وإخوانه عن الشرك: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، [لزّمر الآيتان: 65-66] ، وغير ذلك من الآيات.
ونقاتلهم عليه، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا(1/95)
تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] ، أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، [سورة الأنفال آية: 39] ، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . وقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل " 1.
وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وسماها سبحانه بالعروة الوثقى، وكلمة التقوى; وسموها الطواغيت: كلمة الفجور، من قال لا إله إلا الله عصم دمه وماله ولو هدم أركان الإسلام الخمسة، وكفر بأصول الإيمان الستة.
وحقيقة اعتقادنا: أنها تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، وإلا فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، مع أنهم يقولون: لا إله إلا الله، بل ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، بل ويصومون، ويحجون، ويجاهدون، وهم مع ذلك تحت آل فرعون، في الدرك الأسفل من النار. وكذلك ما قص الله سبحانه عن بلعام، وضرب له مثلا بالكلب، مع ما معه من العلم، فضلا عن الاسم الأعظم.
__________
1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) .(1/96)
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن
وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد، فنحن مقلدون الكتاب والسنة، وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد، من أقوال الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى.
وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان؟ فهو: التصديق، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بضدها، قال الله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [سورة المدثر آية: 31] . وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، [سورة التوبة آية: 124] . وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ، [سورة الأنفال آية: 2] ، وغير ذلك من الآيات، قال الشيبانِي، رحمه الله:
وإيماننا: قول وفعل ونية ويزداد ... بالتقوى وينقص بالردى
وقوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " 2 وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً
__________
1 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) .
2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3/10 ,3/20) .(1/97)
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، [الحج الآيتان: 25-26] ، فقال الطواغيت الذي قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] . إن فساق مكة حشو الجنة! مع أن السيئات تضاعف فيها، كما تضاعف الحسنات، قانقلبت القضية بالعكس، حتى آل الأمر إلى الهتيميات، المعروفات بالزنى، والمصريات، يأتون وفودا يوم الحج الأكبر، كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهارا، وأن أهل اللواط، وأهل الشرك، والرافضة، وجميع الطوائف، من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها، ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات يجيرون من استجار بهم {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] . {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] .
وما جئنا بشيء يخالف النقل، ولا ينكره العقل; ولكنهم يقولون ما لا يفعلون، ونحن نقول ونفعل: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، [سورة الصف آية: 3] . نقاتل عباد الأوثان، كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم، ونقاتلهم على ترك الصلاة، وعلى منع الزكاة، كما قاتل مانعها، صديق هذه الأمة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولكن ما هو إلا كما قال ورقة بن(1/98)
نوفل: ما أتى أحد بمثل ما أتيت به، إلا عودي وأوذي وأخرج وما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(رسالة إسماعيل الجراعي صاحب اليمن إلى الشيخ ابن عبد الوهاب وجواب الشيخ له)
وأرسل إليه صاحب اليمن:
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسماعيل الجراعي، إلى من وفقه الله: محمد بن عبد الوهاب
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
بلغني على ألسن الناس عنك، ممن أصدق علمه، وما لا أصدق، والناس اقتسموا فيكم، بين قادح، ومادح، فالذي سرني عنك: الإقامة على الشريعة في آخر هذا الزمان، وفي غربة الإسلام، أنك تدعو به، وتقوم أركانه، فوالله الذي لا إله غيره، مع ما نحن فيه عند قومنا، ما نقدر على ما تقدر عليه، من بيان الحق، والإعلان بالدعوة.
وأما قول من لا أصدق: أنك تكفر بالعموم، ولا تبغي الصالحين، ولا تعمل بكتب المتأخرين. فأنت أخبرني، واصدقني بما أنت عليه، وما تدعو الناس إليه، ليستقر عندنا خبرك ومحبتك؟.(1/99)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى: إسماعيل الجراعي سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فما تسأل عنه، فنحمد الله الذي لا إله غيره، ولا رب لنا سواه، فلنا أسوة، وهم: الرسل، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وأما ما جرى لهم مع قومهم، وما جرى لقومهم معهم، فهم قدوة وأسوة لمن اتبعهم.
فما تسأل عنه، من الاستقامة على الإسلام، فالفضل لله; وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1.
وأما القول: أنا نكفر بالعموم، فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] .
وأما الصالحون/ فهم على صلاحهم رضي الله عنهم، ولكن نقول: ليس لهم شيء من الدعوة، قال الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وأما المتأخرون رحمهم الله، فكتبهم عندنا، فنعمل بما وافق النص منها، وما لا يوافق النص، لا نعمل به.
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(1/100)
فاعلم رحمك الله: أن الذي ندين به، وندعو الناس إليه: إفراد الله بالدعوة، وهي دين الرسل، قال الله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} ، [سورة البقرة آية: 83] . فانظر رحمك الله، ما أحدث الناس من عبادة غير الله، فتجده في الكتب، جعلني الله وإياك ممن يدعو إلى الله على بصيرة، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . وصلى الله على محمد.(1/101)
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عما يقاتل عليه وما يكفر به)
وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عما يقاتل عليه؟ وعما يكفر الرجل به؟ فأجاب:
أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها. والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان.
وأيضا: نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع:
النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر، والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله، ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهو كافر، نقاتله بكفره؛ لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.(1/102)
النوع الثاني: من عرف ذلك، ولكنه تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، ومن عبد أبا علي، والخضر، من أهل الكويت، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] ، وهو ممن قال الله فيه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [سورة التوبة آية: 12] .
النوع الثالث: من عرف التوحيد، وأحبه، واتبعه، وعرف الشرك، وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك، فهذا أيضا: كافر، فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] .
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعين في قتالهم، ويتعذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله، ونفسه، فهذا أيضا كافر; فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم، فعل ; ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم، فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم،(1/103)
بنفسه وماله، مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير، كثير; فهذا أيضا: كافر، وهو ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 91] . فهذا الذي نقول.
وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] .
بل نكفر تلك الأنواع الأربعة، لأجل محادتهم لله ورسوله، فرحم الله امرأ نظر نفسه، وعرف أنه ملاق الله، الذي عنده الجنة، والنار; وصلى الله على محمد وآله، وصحبه وسلم.(1/104)
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى محمد بن عباد وبيان غلطه في مسائل)
وله أيضا رحمه الله تعالى، وصب عليه من شآبيب بره، ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ: محمد بن عباد، وفقه الله لما يحبه ويرضاه. سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته، وبعد: وصلنا أوراق في التوحيد، فيها كلام حسن، من أحسن الكلام، وفقك الله للصواب، وتذكر فيه:
أن ودك نبين لك، إن كان فيها شيء غاترك 1. فاعلم أرشدك الله أن فيها مسائل غلط:
الأولى: قولك: أول واجب على كل ذكر وأنثى: النظر في الوجود، ثم معرفة العقيدة، ثم علم التوحيد، وهذا خطأ، وهو من علم الكلام الذي أجمع السلف على ذمه; وإنما الذي أتت به الرسل أول واجب، هو: التوحيد، ليس النظر في الوجود، ولا معرفة العقيدة، كما ذكرته أنت في الأوراق، أن كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] .
والثانية: قولك في الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه،
__________
1 غاترك, معناها: لم يظهر لك وجهه.(1/105)
إلخ، والإيمان هو التصديق الجازم بما أتى به الرسول، فليس كذلك، وأبو طالب عمه جازم بصدقه، والذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم; والذين يقولون: الإيمان هو: التصديق الجازم، هم: الجهمية، وقد اشتد نكير السلف عليهم، في هذه المسألة.
الثالثة: قولك: إذا قيل للعامي ونحوه: ما الدليل على أن الله تبارك وتعالى ربك؟ ثم ذكرت ما الدليل على اختصاص العبادة بالله، وذكرت الدليل على توحيد الألوهية. فاعلم أن الربوبية، والألوهية يجتمعان، ويفترقان، كما في قوله: {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة آية: 1-3] . وكما يقال رب العالمين، وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان، كما في قول القائل: من ربك؟
مثاله: الفقير والمسكين، نوعان في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [سورة التوبة آية: 60] . ونوع واحد في قوله: " افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد إلى فقرائهم " 1. إذا ثبت هذا، فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون، ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [سورة الحج آية: 40] ، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [سورة الأنعام آية: 164] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30 والأحقاف: 13] .
__________
1 البخاري: الزكاة (1395 ,1496) والتوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) .(1/106)
فالربوبية في هذا، هي: الألوهية، ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران ; فينبغي: التفطن لهذه المسألة.
الرابعة: قولك في الدليل على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليله: الكتاب، والسنة، ثم ذكرت الآيات، كلام من لم يفهم المسألة، لأن المنكر للنبوة، أو الشاك فيها، إذا استدللت عليه بالكتاب والسنة، يقول: كيف تستدل بشيء علي ما أتى به إلا هو؟ ! والصواب في المسألة: أن تستدل عليه بالتحدي، بأقصر سورة من القرآن، أو شهادة علماء أهل الكتاب، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الشعراء آية: 197] ، ولكونهم يعرفونه قبل أن يخرج، كما في قوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [سورة البقرة آية: 89] ، إلى غير ذلك من الآيات، التي تفيد الحصر، وتقطع الخصم.
الخامسة: قولك اعلم يا أخي لا علمت مكروها، فاعلم: أن هذه كلمة تضاد التوحيد، وذلك: أن التوحيد، لا يعرفه إلا من عرف الجاهلية، والجاهلية، هي: المكروه، فمن لم يعلم المكروه، لم يعلم الحق، فمعنى هذه الكلمة: اعلم لا علمت خيرا، ومن لم يعلم المكروه ليجتنبه، لم يعلم المحبوب، وبالجملة، فهي: كلمة عامية جاهلية، ولا(1/107)
ينبغي لأهل العلم، أن يقتدوا بالجهال.
السادسة: جزمك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اطلبوا العلم، ولو من الصين" فلا ينبغي أن يجزم الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يعلم صحته، وهو القول بلا علم، فلو أنك قلت، وروى، أو ذكر فلان، أو ذكر في الكتاب الفلاني، لكان هذا مناسبا، وأما الجزم بالأحاديث التي لم تصح فلا يجوز. فتفطن لهذه المسألة، فما أكثر من يقع فيها.
السابعة: قولك في سؤال الملكين، والكعبة قبلتي، وكذا، وكذا، فالذي علمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما يسألان عن ثلاث: عن التوحيد، وعن الدين، وعن محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان في هذا عندك رابعة، فأفيدونا، ولا يجوز الزيادة على ما قال الله ورسوله.
الثامنة: قولك في الإيمان بالقدر: إنه الإيمان بأن لا يكون صغير، ولا كبير، إلا بمشيئة الله وإرادته، وأن يفعل المأمورات، ويترك المنهيات؛ وهذا غلط، لأن الله سبحانه، له الخلق، والأمر، والمشيئة، والإرادة ; وله الشرع، والدين؛ إذا ثبت هذا، ففعل المأمورات، وترك المنهيات، هو: الإيمان بالأمر، وهو الإيمان بالشرع، والدين، ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر.
التاسعة: قولك، الآيات التي في الاحتجاج بالقدر،(1/108)
كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [سورة النحل آية: 35] ، ثم قلت: فإياك والاقتداء بالمشركين، في الاحتجاج على الله، وحسبك من القدر الإيمان به، فالذي ذكرناه، في تفسير هذه الآيات، غير معنى الذي أردت، فراجعه، وتأمله بقلبك، فإن اتضح لك، وإلا فراجعني فيه، لأنه كلام طويل.(1/109)
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن أول ما يجب على الإنسان معرفته)
وسئل أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عن معنى هذه الأبيات:
أول واجب على الإنسان ... معرفة الإله باستيقان
فأجاب: تمام الكلام، على فهم معناه:
أول واجب على الإنسان ... معرفة الإله باستيقان
والنطق بالشهادتين اعتبرا ... لصحة الإيمان ممن قدرا
إن صدق القلب وبالأعمال ... يكون ذا نقص وذا إكمال
فذكر في هذا الكلام: خمس مسائل، من مسائل العقائد، التي يسمونها أصول الدين:
الأولى. اختلف في أول واجب، فقيل: النظر; وقيل: القصد إلى النظر، وقيل: المعرفة.
الثانية: هل يكتفى في مسائل الأصول بالتقليد؟ أو غلبة الظن؟ أو لا بد من اليقين؟ فذكر: أن الواجب في معرفة الله هو: اليقين.
الثالثة: هل يشترط في الواجب، النطق بالشهادتين؟ أو يصير مسلما بالمعرفة؟ فذكر: أنه لا يصير مسلما إلا بالنطق للقادر عليه، والمخالف في ذلك جهم، ومن تبعه; وقد أفتى(1/110)
الإمام أحمد، وغيره من السلف، بكفر من قال: إنه يصير مسلما بالمعرفة، وتفرع على هذه مسائل; منها: من دعي إلى الصلاة فأبى، مع الإقرار بوجوبها، هل يقتل كفرا؟ أو حدا؟ ومن قال: يقتل حدا، من رأى أن هذا أصل المسألة.
الرابعة: أن ابن كَرَّام، وأتباعه، يقولون: إن الإيمان قول باللسان، من غير عقيدة القلب، مع أنهم يوافقون أهل السنة، أنه مخلد في النار، فذكر أنه لا بد مع النطق بتصديق القلب.
الخامسة: المسألة المشهورة: هل الأعمال من الإيمان؟ ويزيد وينقص بها؟ أم ليست من الإيمان؟ والمخالف في ذلك: أبو حنيفة، ومن تبعه، الذين يسمون مرجئة الفقهاء، فرجح الناظم، مذهب السلف: أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
إذا ثبت هذا، فكل هذه المسائل واضحة، إلا المسألة الأولى، المسؤول عنها، وهي: معرفة الإله، ما هي؟ فينبغي التفطن لهذه، فإنها أصل الدين، وهي الفارقة بين المسلم، والكافر. وأصل هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزّخرف آية: 36] ، وذكر الرحمن، هو: القرآن، فلما طلبوا الهداية من غيره، أضلهم الله، وقيض لهم الشيطان، فصدهم عن أصل(1/111)
الأصول، ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون.
وبيان ذلك: أنه ليس المراد معرفة الإله الإجمالية يعني: معرفة الإنسان، أن له خالقا، فإنها ضرورية فطرية، بل معرفة الإله: هل هذا الوصف، مختص بالله؟ لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؟ أم جعل لغيره قسط منه؟! فأما المسلمون، أتباع الأنبياء، فإجماعهم على أنه مختص، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلمون ممن يدعي الإسلام، لكن أضلهم الله عن معرفة الإله، فذكر عن الأشعري، ومن تبعه: أنه القادر، وأن الألوهية هي القدرة، فإذا أقررنا بذلك، فهي معنى قوله: لا إله إلا الله. ثم استحوذ عليهم الشيطان، فظنوا أن التوحيد لا يتأتى إلا بنفي الصفات، فنفوها، وسموا من أثبتها مجسما.
ورد عليهم أهل السنة بأدلة كثيرة، منها: أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات، وأن معنى الإله: هو المعبود. فإذا كان هو سبحانه متفردا به، عن جميع المخلوقات، وكان هذا وصفا صحيحا، لم يكذب الواصف به، فهذا يدل على الصفات، فيدل على العلم العظيم، والقدرة العظيمة; وهاتان الصفتان: أصل جميع الصفات، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي(1/112)
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] .
فإذا كان الله قد أنكر عبادة من لا يملك لعابده نفعا ولا ضرا، فمعلوم أن هذا يستلزم العلم بحاجة العباد، ناطقها، وبهيمها ; وتستلزم القدرة على قضاء حوائجهم، ويستلزم الرحمة الكاملة، واللطف الكامل، وغير ذلك من الصفات ; فمن أنكر الصفات، فهو معطل، والمعطل شر من المشرك؛ ولهذا كان السلف، يسمون التصانيف، في إثبات الصفات: كتب التوحيد، وختم البخاري صحيحه بذلك، قال: كتاب التوحيد ; ثم ذكر الصفات، بابا، بابا.
فنكتة المسألة: أن المتكلمين يقولون: التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات، فقال أهل السنة: لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات، وتوحيدكم، هو التعطيل؛ ولهذا آل هذا القول ببعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى، كما هو مذهب ابن عربي، وابن الفارض، وفئام من الناس، لا يحصيهم إلا الله.
فهذا بيان لقولك: هل مراده الصفات؟ أو الأفعال؟ فبين السلف: أن العبادة إذا كانت كلها لله عن جميع المخلوقات، فلا تكون إلا بإثبات الصفات، والأفعال ; فتبين أن منكر الصفات، منكر لحقيقة الألوهية، لكن لا(1/113)
يدري ; وتبين لك أن من شهد أن لا إله إلا الله، صدقا من قلبه، لا بد أن يثبت الصفات، والأفعال، ولكن العجب العجاب: ظن إمامهم الكبير، أن الألوهية، هي القدرة، وأن معنى قولك: لا إله إلا الله، أي: لا يقدر على الخلق إلا الله!
إذا فهمت هذا تبين لك عظم قدرة الله، على إضلال من شاء، مع الذكاء، والفطنة، كأنهم لم يفهموا قصة إبليس، ولا قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وهلم جرا، كما قال شيخ الإسلام، في آخر الحموية: أوتوا ذكاء، وما أوتوا زكاء، وأوتوا علوما، وما أوتوا فهوما، وأوتوا سمعا، وأبصارا، وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة الأحقاف آية: 26] . والله أعلم.(1/114)
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب في بيان الإسلام ومبانيه)
وله: رحمه الله، ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام، ورحمة الله، وبركاته وبعد: قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه} الآية [سورة آل عمران آية: 85] . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . قيل: إنها آخر آية نزلت. وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، لجبريل عليه السلام، وبناه أيضا على خمسة أركان، وتضمن كل ركن علما، وعملا، فرضا على كل ذكر وأنثى، لقوله: لا ينبغي لأحد يقدم على شيء، حتى يعلم حكم الله فيه. فاعلم أن أهمها، وأولاها: الشهادتان، وما تضمنتا من النفي والإثبات، من حق الله على عبيده، ومن حق الرسالة على الأمة. فإن بان لك شيء من ذلك، ما ارتعت، وعرفت ما الناس فيه من الجهل، والغفلة، والإعراض، عما خلقوا له ; وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية، وما معهم من الدين النبوي، وعرفت أنهم بنوا دينهم، على ألفاظ، وأفعال أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير.(1/115)
ويؤيد ذلك: أن الولد إذا بلغ عشر سنين، غسلوا له أهله 1 وعلموه ألفاظ الصلاة، وحيي على ذلك، ومات عليه، أتظن من كانت هذه حاله، هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة؟ فما ظنك به إذا وضع في قبره؟ ! وأتاه الملكان، وسألاه عما عاش عليه من الدين؟ بما يجيب؟ هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وما ظنك إذا وقف بين يدي الله تعالى، وسأله: ماذا كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم المرسلين؟ بماذا يجيب؟ رزقنا وإياك علما نبويا، وعملا خالصا في الدنيا، ويوم نلقاه آمين.
فانظر يا رجل، حالك، وحال أهل هذا الزمان؛ أخذوا دينهم عن آبائهم، ودانوا بالعرف، والعادة، وما جاز عند أهل الزمان، والمكان، دانوا به، وما لا، فلا. فأنت وذاك، وإن كانت نفسك عليك عزيزة، ولا ترضى لها بالهلاك، فالتفت لما تضمنت أركان الإسلام، من العلم والعمل، خصوصا الشهادتان، من النفي، والإثبات، وذلك ثابت من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
قيل: إن أول آية نزلت، قوله تعالى، بعد {اقْرَأْ} [سورة آية: 1] : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة آية: 1-2] . قف عندها، ثم قف، ثم قف، ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس، من أصل الأصول ; وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} الآية
__________
1 يعني: علمه أهله, الطهارة للصلاة, من استنجاء, ووضوء.(1/116)
[سورة النحل آية: 36] .
وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية [سورة آية: 23] ، وكذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] ، وغير ذلك من النصوص، الدالة على حقيقة التّوحيد الذي هو مضمون ماذكرت في رسالتك أنّ محمد قرر لكم ثلاثة أصول: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام.
ولكن قف عند هذه الألفاظ، واطلب ما تضمنت: من العلم، والعمل، ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل الطاغوت، تجد سليمان، والمويس، وعريعر، وأبا ذراع، والشيطان رئيسهم، كذلك قف عند الأرباب منهم، تجدهم العلماء، والعباد، كائنا من كان، إن أفتوك بمخالفة الدين، ولو جهلا منهم، فأطعتهم.
كذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، يفسرها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 24] . كذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، [الجاثية، من الآية: 23] . وهذه أعم مما قبلها، وأضرها، وأكثرها وقوعا، ولكن أظنك، وكثير من أهل الزمان: ما يعرف من الآلهة المعبودة، إلا هبل، ويغوث، ويعوق، ونسرا، واللات، والعزى، ومناة ; فإن جاد فهمه، عرف أن(1/117)
المقامات المعبودة اليوم، من البشر، والشجر، والحجر، ونحوها، مثل: شمسان، وإدريس، وأبو حديدة، ونحوهم منها.
هذا ما أثمر به الجهل، والغفلة، والإعراض عن تعلم دين الله ورسوله، ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس: إن بنيات حرمه، وعيالهم، يعرفون التوحيد، فضلا عن رجالهم.
وأيضا تعلم معنى لا إله إلا الله بدعة، فإن استغربت ذلك مني، فأحضر عندك جماعة، واسألهم: عما يسألون عنه في القبر، هل تراهم يعبرون عنه لفظا وتعبيرا؟ ! فكيف إذا طولبوا بالعلم والعمل؟ هذا ما أقول لك، فإن بان لك شيء ارتعت روعة صدق، على ما فاتك من العلم والعمل في دين الإسلام، أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك، من تجهيلنا جماعتك ; ولكن هذا حق 1 من أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، فكيف بمن له قريب من أربعين سنة، يسب دين الله ورسوله، ويبغضه، ويصد عنه مهما أمكن؟!
فلما عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له: أجب عن دينك، وجادل دونه، وانقطعت حجته، أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب، هو دين الله ورسوله، قيل له: فالذي
__________
1 قوله: حق, أي: جزاء.(1/118)
عليه أهل حرمة؟ قال: هو دين الله ورسوله، كيف يجتمع هذا، وهذا، في قلب رجل واحد؟! فكيف بجماعات عديدة، بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة، ما هو معروف؟ ! حتى إن كلا منهم: شهر السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكل منهم يدعي صحة دينه، ويطعن في دين الآخر! نعوذ بالله من سوء الفهم، وموت القلوب، أهل دينين مختلفين، وطائفتان يقتتلون، كل منهم على صحة دينه، ومع هذا يتصوران الكل دين صحيح، يدخل من دان به الجنة، سبحانك هذا بهتان عظيم، فكيف والناقد بصير؟ !
فيا رجل ألق سمعك لما فرض الله عليك، خصوصا الشهادتان وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغتر باللفظ والفطرة، وما كان عليه أهل الزمان والمكان، فتهلك. فاعلم: أن أهم ما فرض الله على العباد: معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه، ومدبره، بإرادته. فإذا عرفت هذا، فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية، بالمحبة والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتأله، المتضمن: للذل والخضوع، لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة والزكاة. ولذلك: يعرف عباده، بتقرير ربوبيته، ليرتقوا بها إلى معرفة إلهيته، التي هي مجموع عبادته على مراده، نفيا وإثباتا، علما وعملا، جملة وتفصيلا.(1/119)
(خمس مسائل يجب على المسلم معرفتها)
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: الواجب عليك: أن تعرف خمس مسائل:
الأولى: أن الله لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق: أن أول كلمة أرسله الله بها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، [المدثر الآيات: 1-3] .
ومعنى قوله: {فَأَنْذِرْ} الإنذار عن الشرك بالله، وكانوا يجعلونه دينا، يتقربون به إلى الله تعالى، مع أنهم يفعلون من الظلم، والفواحش، ما لا يحصى، ويعلمون أنه معصية.
فمن فهم فهما جيدا أن الله أمره بالإنذار عن دينهم الذي يتقربون به إلى الله، قبل الإنذار عن الزنى، أو نكاح الأمهات والأخوات، وعرف الشرك الذي يفعلونه، رأى العجب العجاب، خصوصا إن عرف أن شركهم دون شرك كثير من الناس اليوم، لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} ، [الزّمر: 8] .
الثانية: أنه لما أنذرهم عن الشرك، أمرهم بالتوحيد، الذي هو: إخلاص الدين لله، وهو معنى قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] يعني: عظمه بالإخلاص، وليس المراد تكبير الأذان وغيره، فإنه لم يشرع إلا في المدينة، فإذا عرف الإنسان أن ترك الشرك لا ينفع إلا إذا لبس ثوب الإخلاص،(1/120)
وفهم الإخلاص فهما جيدا، وعرف ما عليه كثير من الناس من ظنهم أن الإخلاص وترك دعوة الصالحين نقص لهم، كما قال النصارى: إن محمدا يشتم عيسى، لما ذكر أنه عبد الله ورسوله، ليس يعبد مع الله تعالى.
فمن فهم هذا عرف غربة الإسلام، خصوصا إن أحضر بقلبه، ما فعل الذين يدعون أنهم من العلماء، من معاداة أهل هذه المسألة، وتكفيرهم من دان بها، وجاهدهم، مع عباد قبة أبي طالب، وأمثالها، وقبة الكواز، وأمثالها، وفتواهم لهم بحل دمائنا، وأموالنا، لتركنا ما هم عليه، ويقولون: إنهم ينكرون دينكم. فلا تعرف هذه، والتي قبلها، إلا بإحضارك في ذهنك، ما علمت أنهم فعلوا مع أهل هذه المسألة، وما فعلوا مع المشركين، فحينئذ تعرف أن دين الإسلام، ليس بمجرد المعرفة، فإن إبليس وفرعون، يعرفونه، وكذلك اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ وإنما الإسلام هو: العمل بذلك والحب والبغض، وترك موالاة الآباء والأبناء في هذا.
الثالثة: أن تحضر بقلبك: أن الله سبحانه لم يرسل الرسول، إلا ليصدق ويتبع، ولم يرسله ليكذب ويعصى. فإذا تأملت إقرار من يدعي أنه من العلماء بالتوحيد، وأنه دين الله ورسوله، لكن من دخل فيه فهو من الخوارج الذين تحل دماؤهم، ومن أبغضه وسبه وصد الناس عنه،(1/121)
فهو الذي على الحق، وكذلك إقرارهم بالشرك، وقولهم ليس عندنا قبة نعبدها، بل جهادهم: الجهاد المعروف، مع أهل القباب، وأن من فارقهم، حل ماله ودمه.
فإذا عرف الإنسان هذه المسألة الثالثة كما ينبغي، وعرف أنه اجتمع في قلبه ولو يوما واحدا، أن قلبه قبل كلامهم أن التوحيد دين الله ورسوله، ولكن لا بد من بغضه وعداوته، وأن ما عليه أهل القباب هو الشرك، ولكنهم هم السواد الأعظم، وهم على الحق، ولا يقول: إنهم يفعلون، فاجتماع هذه الأضداد في القلب، مع أنها أبلغ من الجنون، فهي من أعظم قدرة الله تعالى، وهي من أعظم ما يعرفك بالله، وبنفسك، فمن عرف نفسه، وعرف ربه، تم أمره، فكيف إذا علمت أن هذين الضدين اجتمعا في قلب صالح وحيوان وأمثالهما أكثر من عشرين سنة؟.
الرابعة: أنك تعلم أن الله أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [الزمر:65] . مع أنهم راودوه، على قول كلمة، أو فعل مرة واحدة، ووعدوه أن ذلك يقودهم إلى الإسلام، فقد ترى؛ بل إذا عرفت: أن أعظم أهل الإخلاص وأكثرهم حسنات، لو يقول كلمة الشرك، مع كراهيته لها، ليقود غيره بها إلى الإسلام، حبط عمله، وصار من الخاسرين.(1/122)
فكيف بمن أظهر أنه منهم، وتكلم بمائة كلمة، لأجل تجارة، أو لأجل أنه يحج، لما منع الموحدون من الحج، كما منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى فتح الله مكة. فمن فهم هذا فهما جيدا، انفتح له معرفة قدر التوحيد عند الله عز وجل وقدر الشرك. ولكن إن عرفت هذه بعد أربع سنين فنعما لك، أعني المعرفة التامة، كما تعرف أن القطرة من البول تنقض الوضوء الكامل، إذا خرجت، ولو بغير اختياره.
الخامسة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الإيمان بما جاء به كله، لا تفريق فيه؛ فمن آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو كافر حقا، بل لابد من الإيمان بالكتاب كله. فإذا عرفت أن من الناس من يصلي ويصوم، ويترك كثيرا من المحرمات، لكن لا يورثون المرأة، ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه، بل لو يورثها أحد عندهم، ويخلف عادتهم، أنكرت قلوبهم ذلك، أو ينكر عدة المرأة في بيت زوجها، مع علمه بقول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ، [الطلاق، من الآية: 1] ، ويزعم أن تركها في بيت زوجها لا يصلح، وأن إخراجها عنه، هو الذي ينبغي فعله، وأنكر التحية بالسلام، مع معرفة أن الله شرعه، حبا لتحية الجاهلية لما ألفها، فهذا يكفر، لأنه آمن ببعض وكفر ببعض، بخلاف من عمل المعصية، أو ترك الفرض، مثل فعل الزنى، وترك بر الوالدين، مع اعترافه أنه مخطئ، وأن أمر الله هو الصواب.(1/123)
واعلم أني مثلت لك بهذه الثلاث، لتحذو عليها، فإن عند الناس من هذا كثير، يخالف ما حد الله في القرآن، وصار المعروف عندهم ما ألفوه عند أهليهم، ولو يفعل أحد ما ذكر الله، ويترك العادة، لأنكروا عليه، واستسفهوه، بخلاف من يفعل أو يترك، مع اعترافه بالخطأ، وإيمانه بما ذكر الله.
واعلم أن هذه المسألة الخامسة، من أشد ما على الناس خطرا في وقتنا، بسبب غربة الإسلام، والله أعلم.(1/124)
(أربع مسائل يجب على المسلم تعلمها)
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه: ويجب علينا تعلم أربع مسائل:
الأولى: العلم، وهو: معرفة الله ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة: الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، [العصر الآيتات: 1-3] . قال الشافعي، رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. وقال البخاري، رحمه الله تعالى: باب: العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، [محمد، من الآية: 19] ؛ فبدأ بالعلم، قبل القول والعمل.
اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة، تعلم هذه المسائل، والعمل بهن.
الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا(1/125)
وَبِيلاً} [سورة آية: 15-16] .
الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، [الجن: 18] .
الثالثة: أن من أطاع الرسول، ووحد الله، لا تجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، [المجادلة: 22] .
اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين؛ وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] . ومعنى يعبدون: يوحدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه: الشرك، وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، [سورة النساء آية: 36] .(1/126)
فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة، التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه؛ وهو معبودي، ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، [الفاتحة: 2] . وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم.
وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: أعرفه بآياته ومخلوقاته؛ ومن آياته الليل، والنهار، والشمس، والقمر. ومن مخلوقاته: السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضون السبع، ومن فيهن، وما بينهما ; والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، [فصلت: 37] ؟ وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، [الأعراف: 54] .
والرب، هو: المعبود، والدليل قوله تعالى:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، [البقرة: 21] إلى قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، [البقرة، من الآية: 22] . قال ابن كثير رحمه الله(1/127)
تعالى: الخالق لهذه الأشياء، هو المستحق للعبادة.
وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه الدعاء والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، [الجن: 18] . فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله، فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، [المؤمنون: 117] .
وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة " 1، والدليل قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، [غافر: 60] .
ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [آل عمران: 175] . ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد} [سورة الكهف آية: 110] . ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [سورة المائدة آية: 23] . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق آية: 3] .
ودليل الرغبة والرهبة، والخشوع، قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً
__________
1 الترمذي: الدعوات (3371) .(1/128)
وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، [سورة الأنبياء آية: 90] .
ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ، [البقرة، من الآية: 150] . ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، [الزّمر، من الآية: 54] .
ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، [الفاتحة: 5] ، وفي الحديث: " إذا استعنت فاستعن بالله " 1
ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، [الفلق: 1] ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، [الناس: 1] .
ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ، [الأنفال، من الآية: 9] .
ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ} ، [سورة آية: 163-162] . ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله من ذبح لغير الله " 2 ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ، [الإنسان: 7] .
الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام: خمسة، والدليل من السنة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع
__________
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/30) .
2 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) .(1/129)
إليه سبيلا " 1.
والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [آل عمران: 85] .
ودليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران: 18] . ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وحد النفي من الإثبات: لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله، مثبتا العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه.
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، [الزّخرف الآيتان: 26-27] ، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا} الآية [سورة آل عمران آية: 64] .
ودليل شهادة أن محمدا رسول الله، قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، التّوبة: 128] . ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد، قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا
__________
1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) .(1/130)
الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، [البيّنة: 5] .
ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ، [البقرة، من الآية: 183] . ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران، من الآية: 97] .
المرتبة الثانية: الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وأركانه: ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره كله من الله.
والدليل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ، [البقرة، من الآية: 177] . ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، [القمر: 49] .
المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، [النّحل: 128] . وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] .(1/131)
وقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [سورة آية: 219-218] ، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [سورة يونس آية: 61] .
والدليل من السنة: حديث جبريل المشهور عليه السلام، عن عمر رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام، إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت. فعجبنا له: يسأله، ويصدقه. قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: أخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربها، وأن ترى الحفاة، العراة العالة رعاء الشاء،(1/132)
يتطاولون في البنيان فمضى فلبثنا مليا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. يا عمر، أتدرون من السائل؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ".
الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا. نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة.
بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر آية: 1-7] . ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه بالتوحيد {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك عن الشرك. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام، وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها. أخذ على هذا عشر سنين، يدعو إلى التوحيد. وبعد العشر، عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى(1/133)
المدينة؛ والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [سورة النّساء آية: 97-99] . وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، [العنكبوت: 56] . قال البغوي رحمه الله تعالى: سبب نزول هذه الآية في المسلمين، الذين بمكة، لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان. والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " 1.
فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام؛ أخذ على هذا عشر سنين. وتوفي صلى الله عليه وسلم ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. والخير الذي دل عليه: التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه. والشر الذي حذر عنه: الشرك بالله، وجميع ما يكرهه الله ويأباه.
بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع
__________
1 أبو داود: الجهاد (2479) , وأحمد (4/99) , والدارمي: السير (2513) .(1/134)
الثقلين، الجن والإنس، والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ، [سورة الأعراف آية: 158] ، وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، [الزّمر: 30] .
والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى: ? مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ، [طه: 55] . وقوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، [نوح الآيتان: 17-18] ، وبعد البعث محاسبون، وَمَجْزِيُّونَ بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والدليل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ، [سورة النجم آية: 31] . ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، التّغابن: 7] .
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، [سورة النساء آية: 165] . وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. وهو خاتم النبيين، لا نبي بعده، والدليل قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، [الأحزاب، من الآية: 40] .(1/135)
والدليل: على أن أولهم نوح عليه السلام، قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] . وكل أمة بعث الله إليها رسولا، من نوح إلى محمد، يأمرهم بعبادة الله، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، قال ابن القيم: رحمه الله تعالى، معنى الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبد وهو راض، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، وهذا: معنى لا إله إلا الله، وفي الحديث: " رأس الأمر: الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " 1 والله أعلم،
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
1 الترمذي: الإيمان (2616) , وأحمد (5/231 ,5/237) .(1/136)
(الأمر بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله)
وقال أيضا
الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن أول ما أوجب الله تعالى على عبده الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، [البقرة: 256] . والطواغيت كثيرة والمتبين لنا منهم خمسة: أولهم الشيطان، وحاكم الجور، وآكل الرشوة، ومن عُبد فرضي، والعامل بغير علم.
واعلم أن التوحيد في العبادة، هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وأنزل الكتاب لأجله، وأرسل الرسل لأجله. وهو أصل الدين، الذي لا يستقيم لأحد إسلام إلا به، ولا يغفر لمن تركه، وأشرك بالله غيره كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، و116] .
(أنواع التوحيد)
والتوحيد نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية.
أما توحيد الربوبية: فهو الذي أقرت الكفار به، ولم يكونوا به مسلمين؛ وهو الإقرار بأن الله الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، [يونس: 31] .
وأما توحيد الألوهية: فهو إخلاص العبادة كلها بأنواعها(1/137)
لله؛ فلا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، والدليل عليه: الآيات الكريمات، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح ذبح القربات إلا له وحده لا شريك له، والدليل على ذلك: الآيات الكريمات. وهذا: هو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه، والمعبود، فمن جعل الله إلهه وحده، وعبده دون من سواه من المخلوقين، فهو المهتدي.
ومن قاسه بغيره، وعبده، وجعل له شيئا مما تقدم من أنواع العبادة، كالدعاء، والذبح، والنذر، والتوكل، والاستغاثة، والإنابة، فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وأشرك مع الله إلها غيره، فصار من المشركين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، و116] ) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) (المائدة: من الآية72) . وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] .
وإن قيل لك: أي شيء أنت مخلوق له؟ فقل: للعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] ، أي: يوحدون، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [سورة الذاريات آية: 57-58] . وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] .
وإن قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله والدليل قوله(1/138)
تعالى:
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، [مريم: 36] ، ودليل آخر قوله تعالى:) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، [الشّورى: 10] . فإذا قيل لك: بم تعرفه أنه ربك، ومعبودك، من دون من سواه؟ فقل: بمخلوقاته، وآياته، كالسماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، وخلقه لي، وتصويره جسدي، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، [الأعراف:54] .
وإن قيل لك: ما دينك؟ فقل: ديني الإسلام. والإسلام، هو: الاستسلام والانقياد لله وحده، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} ، [سورة آل عمران آية: 19] ، ودليل آخر قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [آل عمران:85] ، ودليل آخر قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] .
وهو مبني على خمسة أركان: أولها شهادة أن لا إله(1/139)
إلا الله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
والدليل: على الشهادة، قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، [آل عمران: 18] ، والدليل: على أن محمدا عبده ورسوله، قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، [الفرقان: 1] ، ودليل آخر قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 1] .
ودليل: الصلاة، والزكاة، قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، [البينة: 5] . وإذا قيل لك: إن الصلاة فرض عين على كل مسلم؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103] . ودليل أن الزكاة فرض عين على من ملك ما تجب فيه، قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، [التّوبة: 103] .
ودليل الصوم، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ،(1/140)
[البقرة: 183] .
والدليل على أن الصوم في شهر رمضان، قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة آية: 185] ، والدليل على أن الصوم في النهار، قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة آية: 187] .
ودليل الحج قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين} [سورة آل عمران آية: 97] . والاستطاعة تحصل، بثلاثة شروط: صحة البدن، وأمن الطريق، ووجود الزاد، والراحلة.
وإذا قيل لك: وما الإيمان؟ فقل: هو أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 285] .
وإذا قيل لك: وما الإحسان؟ فقل: هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، والدليل عليه قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، [النّحل: 128] .
وإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم بن(1/141)
عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من كنانة، وكنانة من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وإسماعيل من نسل إبراهيم، وإبراهيم من ذرية نوح، عليهم الصلاة والسلام.
عمره: ثلاث وستون سنة، بلده: مكة، أقام فيها قبل النبوة أربعين سنة، وبعدها نبئ، وأقام في مكة بعد النبوة، ثلاث عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة، وأقام فيها بعد الهجرة عشر سنين، وبعدها توفي في المدينة، ودفن فيها، صلوات الله وسلامه عليه نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، [المدثر الآيات: 1-3] .
وإذا قيل لك: ما الدليل على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: هذا القرآن، الذي عجزت جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يستطيعوا ذلك، مع فصاحتهم، وشدة حذاقتهم، وعداوتهم له، ولمن اتبعه، والدليل عليه قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، [البقرة: 23] ، وفي الآية الأخرى، قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، [الإسراء: 88] .
والدليل على أنه رسول الله، قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ(1/142)
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ، [آل عمران: 144] .
ودليل آخر، قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [سورة الفتح آية: 29] .
والدليل على النبوة، قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، [الأحزاب، من الآية: 40] . وهذه الآيات: تدل على أنه نبي، وأنه خاتم الأنبياء. والدليل: على أنه من البشر، قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، [الكهف: 110] .
وأول الرسل: نوح، وآخرهم، وأفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم. وما من أمة من الأمم إلا وبعث الله فيها رسولا يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر آية: 24] . وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] ، وأعظم ما أمروا به: توحيد الله بعبادته، وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له. وأعظم ما نهوا عنه: الشرك في العبادة.(1/143)
(الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين، والذي عابه على قومه)
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ما الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين؟ وما الذي عابه على قومه، وبني عمه، وأنكروه؟ وهل ينكرون الله؟ أم يعرفونه؟
فأما الذي أمرهم به، فهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وأن لا يتخذوا مع الله إلها آخر. ونهاهم عن عبادة المخلوقين، من الملائكة، والأنبياء، والصالحين، والحجر، والشجر، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، [الأنبياء: 25] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [سورة النحل آية: 36] ، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، [الزّخرف: 45] ، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّاريات: 56] .
فليعلم بذلك: أن الله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه ويوحدوه، وأرسل الرسل إلى عباده، يأمرونهم بذلك.
وأما الذي أنكرناه عليهم، وكفرناهم به، فإنما هو: الشرك بالله، مثل أن تدعو نبيا من الأنبياء، أو ملكا من الملائكة، أو تنحر له، أو تنذر له، أو تعتكف عند قبره، أو تركع بالخضوع والسجود له، أو تطلب منه قضاء الحاجات، أو تفريج الكربات؛ فهذا شرك قريش، الذي كفرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم عند هذا، وإلا لم يقل أحد من(1/144)
الكفار أن أحدا يخلق، أو يرزق، أو يدبر أمرا؛ بل كلهم يقرون أن الفاعل لذلك هو الله؛ وهم يعرفون الله بذلك، قال الله تعالى حاكيا عنهم: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، [المؤمنون:84] الآيات. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} الآية [سورة العنكبوت آية: 61] .
وهذا الإقرار لم يدخلهم الإسلام، ولا أوجب الكف عن قتالهم وتكفيرهم؛ إنما كفرهم بما اعتقدوا فيما ذكرنا، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والأنبياء، والجن، والكواكب، والتماثيل المصورة على قبورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، [سورة الزمر آية: 3] ، و {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
فبعث الله الرسل تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاًْ} ، [الإسراء: 56] إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء من الآي: 57] . قال طائفة من السلف.: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة، فقال الله لهم: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجونها، ويخافون عذابي كما تخافونه.(1/145)
إذا عرف المؤمن أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم، يعرفون الله، ويخافونه، ويرجونه، وإنما دعوا هؤلاء للقرب والشفاعة، وصار هذا كفرا بالله، مع معرفتهم بما ذكرنا، فيعلم إن كان متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم أن الواجب عليه التبري من هذا، وإخلاص الدين لله، والكفر به وبمن عمله، والإنكار على من فعله، والبغض والعداوة له، ومجاهدته حتى يصير الدين كله لله، كما قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] .
وفي الحديث: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " وفي الحديث: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " 1. ولا تصدق في أحد إلا بما سمعت، أو نقله من لا يكذب، وانصحه إذا بلغك عنه شيء، قبل أن تنكر عليه، خصوصا ممن تعرف منه حبا للدين، موافقا عليه، مجاهدا فيه. والله الهادي، والحمد لله رب العالمين.
(رسالة موجزة في أصول الدين طلبها الأمير عبد العزيز من الشيخ ابن عبد الوهاب ليرسلها إلى النواحي)
وطلب الأمير: عبد العزيز بن محمد بن سعود، من الشيخ رحمه الله، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الدين؛ فكتب هذه، وأرسلها عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها.
__________
1 الترمذي: الزهد (2378) , وأبو داود: الأدب (4833) , وأحمد (2/303 ,2/334) .(1/146)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاعلموا وفقكم الله لمراضيه، وجنبكم طريق معاصيه، أن من الواجب على كل مسلم ومسلمة: معرفة ثلاثة أصول، والعمل بهن.
الأصل الأول: في معرفة العبد ربه، فإذا قيل لك أيها المسلم: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني بنعمته، وخلقني من عدم إلى وجود، والدليل قوله تعالى: روَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [سورة مريم آية: 36] ، وإذا قيل لك: بأي شيء عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، فأما الدليل على آياته فهو قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة فصلت آية: 37] . وأما الدليل على مخلوقاته فهو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الآية [سورة الأعراف آية: 54] .
وإذا قيل لك: لأي شيء خلقك الله؟ فقل: خلقني لعبادته وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه. فدليل العبادة، قوله تعالى: روَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . ودليل الطاعة، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ(1/147)
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] .
يعني: كتاب الله، وسنة نبيه.
وإذا قيل لك: أي شيء أمرك الله به؟ وأي شيء نهاك عنه؟ فقل: أمرني بالتوحيد، ونهاني عن الشرك، ودليل الأمر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} الآية [سورة النحل آية: 90] . ودليل النهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، و116] ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] .
الأصل الثاني: في معرفة دين الإسلام.
فإذا قيل لك: ما دينك؟ فقل: ديني الإسلام، وهو: الاستسلام، والإذعان، والانقياد إلى طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] . وهو مبني على خمسة أركان:
الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
الثاني: إقام الصلاة.
الثالث: إيتاء الزكاة.
الرابع: صوم رمضان.
الخامس: حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، والسبيل: الزاد والراحلة.(1/148)
فدليل الشهادة، قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . ودليل أن محمدا رسول الله، قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [سورة الأحزاب آية: 40] . ودليل الصلاة قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103] . ودليل الزكاة قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة التوبة آية: 103] .
ودليل الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 183] ، وإذا قيل لك: الصيام شهر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ} الآية [سورة البقرة آية: 185] . وإذا قيل لك: الصيام في الليل أو في النهار؟ فقل: في النهار، والدليل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [سورة البقرة آية: 187] .
ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [سورة آل عمران آية: 97] . وإذا قيل لك: ما الإيمان؟ فقل: هو أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره(1/149)
وشره كله من الله، والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [سورة البقرة آية: 285] . ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] .
وإذا قيل لك: ما الإحسان؟ فقل: هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النّحل: 128] . وإذا قيل لك: منكر البعث كافر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التّغابن: 7] .
الأصل الثالث: في معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم؛ وهاشم من قريش؛ وقريش من كنانة؛ وكنانة من العرب؛ والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
وإذا قيل لك: من أول الرسل؟ فقل: أولهم نوح. وآخرهم وأفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء(1/150)
آية: 163] .
وإذا قيل لك: هل بينهم رسل؟ فقل: نعم. والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا} [سورة النحل آية: 36] . وإذا قيل لك: نبينا محمد بشر؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية [سورة الكهف آية: 110] .
وإذا قيل لك: كم عمره؟ فقل: ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا، نُبِّئ باقرأ، وأُرسل بالمدثر، وخرج على الناس فقال: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فكذبوه وآذوه وطردوه وقالوا: ساحر كذاب؟ فأنزل الله عليه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] .
وبلده مكة، وولد فيها، وهاجر إلى المدينة، وبها توفي. ودفن جسمه، وبقي علمه. وهو نبي لا يعبد، ورسول لا يكذب؛ بل يطاع، ويتبع، صلوات الله وسلامه عليه، والحمد لله رب العالمين.
(أصول الدين الثلاثة)
وله أيضا رحمه الله تعالى:
إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله، فإذا قيل لك: إيش معنى الرب؟ فقل: المعبود المالك المتصرف.(1/151)
فإذا قيل لك: إيش أكبر ما ترى من مخلوقاته؟ فقل: السماوات والأرض، فإذا قيل لك: إيش تعرفه به؟ فقل: أعرفه بآياته، ومخلوقاته.
وإذا قيل لك: إيش أعظم ما ترى من آياته؟ فقل: الليل والنهار، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] .
فإذا قيل لك: إيش معنى الله؟ فقل، معناه: ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين. فإذا قيل لك: لأي شيء الله خلقك؟ فقل: لعبادته.
فإذا قيل لك: إيش عبادته؟ فقل: توحيده، وطاعته. فإذا قيل لك: إيش الدليل على ذلك؟ فقل: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56] .
فإذا قيل لك: إيش أول ما فرض الله عليك؟ فقل: كفر بالطاغوت، وإيمان بالله، والدليل على ذلك قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] .
فإذا قيل لك: إيش العروة الوثقى؟
فقل: لا إله إلا(1/152)
الله، ومعنى لا إله: نفي، وإلا الله: إثبات.
فإذا قيل لك: إيش أنت ناف؟ وإيش أنت مثبت؟ فقل: ناف جميع ما يعبد من دون الله، ومثبت العبادة لله وحده لا شريك له. فإذا قيل لك: إيش الدليل على ذلك؟ فقل، قوله تعالى:) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزّخرف: 26] ، هذا دليل النفي، ودليل الإثبات: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزّخرف: 27]
فإذا قيل لك: إيش الفرق: بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب، مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإنزال المطر وإنبات النباتات وتدبير الأمور، وتوحيد الإلهية فعل العبد مثل: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة والنذر والاستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة.
فإذا قيل لك: إيش دينك؟ فقل: ديني الإسلام، وأصله وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. وهو بني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت مع الاستطاعة.
ودليل الشهادة، قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ(1/153)
هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] . ودليل أن محمدا رسول الله، قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ} [سورة الأحزاب آية: 40] .
والدليل على إخلاص العبادة والصلاة والزكاة قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . ودليل الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] .
ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران آية: 97] .
(أصول الإيمان)
وأصول الإيمان ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خير وشره.
والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
فإذا قيل لك: من نبيك؟ فقل: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل،(1/154)
على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. بلده مكة، وهاجر إلى المدينة، وعمره ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا، نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر.
فإذا قيل: هو مات؟ أو ما مات؟ فقل: مات، ودينه لا يموت إلى يوم القيامة، والدليل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزّمر: 30-31] .
فإذا قيل لك: والناس إذا ماتوا يبعثون؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] . والذي ينكر البعث كافر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التّغابن: 7] .
وقال: فإن قيل: فما الجامع لعبادة الله وحده؟ قلت: طاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فإن قيل: فما أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله؟ قلت: من أنواعها، الدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، وذبح القربان، والنذر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والمحبة، والخشية، والرغبة، والرهبة، والتأله، والركوع، والسجود، والخشوع، والتذلل، والتعظيم الذي هو من خصائص الألوهية.
ودليل الدعاء، قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا(1/155)
تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] .
وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] . ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [سورة الأنفال آية: 9] .
ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] . ودليل النذر، قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7] . ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . ودليل الرجاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} [الكهف: 110] . ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة المائدة آية: 23] . ودليل الإنابة، قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [سورة الزمر آية: 54] . ودليل المحبة قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] .
ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ(1/156)
وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] .
ودليل الرغبة والرهبة قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] . ودليل التأله، قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] .
ودليل الركوع والسجود قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحجّ: 77] . ودليل الخشوع قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية [سورة آل عمران آية: 199] ، ونحوها. فمن صرف شيئا من هذه الأنواع لغير الله، فقد أشرك بالله غيره.
فإن قيل: فما أجلّ أمْرٍ أَمَرَ الله به؟ قيل: توحيده بالعبادة، وقد تقدم بيانه، وأعظم نهي نهى الله عنه الشرك به، وهو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة، فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد اتخذه ربا وإلها، وأشرك مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة.
وقد تقدم من الآيات ما يدل على أن هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه وأنكره على المشركين، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ(1/157)
يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النّساء: 48، و116] .
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . وصلى الله على محمد.
قلت: ولاتستطل ما قرره هذا الإمام الجليل، في هذا الأصل الأصيل، الذي بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وجردت السيوف من أجله، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، فلقد أجاد وأفاد، ووضح معتقد السلف الصالح بعد أن باد، وأرخى عنان يراعه، فأبدى وأعاد، حتى قلع الشرك من نجد بعد أن شاد، وأطد الإسلام فاستضاء به الحاضر والباد، وسيمر بك - إن شاء الله - ما يثلج الصدر، من محض الحق، وصريح الدين، الذي لا يمازجه دين الجاهلية.
(العلة من إرسال الله الرسل وإنزال الكتب)
وقال رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وله خلق الجن والإنس، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريات: 56] ، أي: يوحدون، دليله قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا(1/158)
أَعْبُدُ} [الكافرون: 1-3] .
فإذا لم يفعله الإنسان، ويجتنب الشرك، فهو كافر، ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار، قال الله تعالى في الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة، أو كمن يصوم في شدة الحر، وهو يزني في أيام الصوم.
إذا عرفت هذا فأهم ما عليك معرفة التوحيد، قبل معرفة العبادات كلها، حتى الصلاة، ومعرفة الشرك، قبل معرفة الزنى وغيره من المحرمات، إذا علمت أن الله لم يخلقك إلا لذلك؛ ومن الفرائض اللازمة: تعليمك إياه أهل بيتك، ومن تحت يدك، من امرأة، وبنت، وخادم.
فاعلم أرشدك الله أن الشرك هو الذي ملأ الأرض، ويسمونه الناس: الاعتقاد في الصالحين، ويتبين لك هذا بأربع كلمات: الأولى: أنهم يظنون التوحيد، توحيد الله بالنفع، والضر، والخلق، والرزق. فإذا علمت قول الله عز وجل في الكفار: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، تبين لك جهالة أعداء الله بدين المشركين، وجهالتهم بتوحيد رب العالمين.
الثانية: أنهم يقولون: ما ندعوهم إلا لأجل شفاعتهم. فاعلم قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} الآية [سورة يونس آية: 18] . فإذا عرفت هذا تبين لك(1/159)
جهالة أعداء الله.
الثالثة: أنهم يقولون: هذا فيمن يستشفع بالأصنام، ونحن نستشفع بالصالحين! فاعرف قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] ؛ لعلك تفهم جهالة أعداء الله بدين رسول الله.
الرابعة: قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً} [الإسراء: 67] . وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ؛ إذا علمت هذا، وعلمت ما عليه أكثر الناس: علمت أنهم أعظم كفرا وشركا من المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا تدبرت هذا، تبين لك حرصهم على تكذيب هذا الأمر، وسؤالهم من جاء لأهل البلدان البعيدة، مع كثرة السنين، وطول المدة، ثم رجعوا مقرين أن قولنا في التوحيد هو الحق، وقولنا في الشرك هو الباطل.
فإذا أقروا أن التوحيد الذي خرجنا به على الناس هو الذي خرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي نهيناهم عنه هو الشرك الذي حذر عنه، ولم يبق الإنكار إلا أن من أقر بدين الرسول، ثم عاداه، وصد الناس عنه، وعرف دين(1/160)
المشركين، ثم مدحه، ورغب فيه، وأن أهله لا يتيهون، لأنهم السواد الأعظم، فهو واضح لمن لم يعم الله قلبه، والله أعلم.
(أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله)
وقال أيضا: اعلم رحمك الله، أن أول ما فرض الله على ابن آدم: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
فأما صفة الكفر بالطاغوت فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم، وأما معنى الإيمان بالله فأن تعتقد، أن الله هو الإله المعبود وحده، دون من سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم ; وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها، وهذه هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
والطاغوت: عام في كل ما عُبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة، من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت، والطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة(1/161)
الأول: الشيطان، الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يّس: 60] .
الثاني: الحاكم الجائر، المغير لأحكام الله تعالى، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النّساء:60] .
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] .
الرابع: الذي يدعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26-27] . وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .(1/162)
الخامس: الذي يُعبد من دون الله، وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 29] .
واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله، إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256] ، الرشد: دين محمد، والغي: دين أبي جهل، والعروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات. تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له.
(وجوب معرفة إرسال الرسل ومراد الله في ذلك)
وقال رحمه الله تعالى: الواجب عليك أن تعرف إرسال الرسل، ومراد الله في ذلك، وهو مذكور في قوله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] ، إلى قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: - 163 165] ؛ إذا عرفت ذلك، فاعرف: أن حقنا منهم خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك مذكور في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمّل: 15] . فإذا عرفت هذا، فالعلم الذي أرسله الله به(1/163)
إليك، وأهم ذلك وأوجبه: أن تعرف أول ما فرضه الله عليك، وذلك في أول ما أنزل الله على رسوله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثّر: 1-3] . فأول ما فرض الله عليك وأول ما فرض على نبيه أن ينذر عنه: الإشراك بالله.
وأول ما فرض عليك توحيده، فأما الإشراك ففي قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر آية: 5] . وأما التوحيد ففي قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] . إذا عرفت أن هذا رأس أول الفرائض، فاحرص على معرفة التوحيد، لعلك تؤدي أعظم ما فرض الله عليك. واحرص على معرفة الإشراك بالله، لعلك أن تعرف أعظم ما حرم الله عليك، الذي قال الله فيه:) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48، 116] . و {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، فتجتنبه، والله أعلم.(1/164)
(وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما جاء به)
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
المسألة الأولى: أعني هذا الرسول، الذي جعله الله خاتم النبيين، ورحمة للعالمين، هل أمر بإخلاص الدعوة لله، مع جميع العبادات عن أهل الأرض وأهل السماء، وأوصى أمته يدعون الصالحين، وينذرون لهم، ويتعلقون عليهم؟ ! ومعلوم: أنه أمر بإخلاص الدعوة لله، وأمر بتكفير الداعي بغيره، وقتاله، وأدلتها كثيرة، منها: إقرار جميع العلماء، الموافق، والمخالف.
الثانية: إذا صح هذا، وعرف طريق النبي، من طريق المشركين، هل يكفي الإقرار به، ومحبته؟ ! أم لا بد من اتباعه، ولو كره المشركون؛ فإن كان لا بد، فمن الاتباع: أنك لا تواد من حاد الله ورسوله، ولو أقرب قريب.
الثالثة: أن من اتباعه، طاعته في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء آية: 59] .
الرابعة: من اتباعه طاعته في قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ(1/165)
يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور آية: 48-49-50-51] .
والله أعلم.
(خمس مسائل فيما جاء به الرسول)
وله أيضا:
المسألة الأولى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاءنا من عند ربنا بالبينات والهدى، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بشيرا ونذيرا. فأول ما أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 1-2] ؛ أراد الإنذار عن الشرك، قبل الإنذار عن الزنى والسرقة، ونكاح الأمهات. فمن أقر بهذا، وعرف ما عليه أكثر أهل الأرض، من المشرق إلى المغرب، رأى العجب، وفهم المسألة غير فهمه الأول.
المسألة الثانية: أنه لما هدم هذا، وأنذر عنه، أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو التوحيد الذي قال الله فيه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أي: عظمه بالإخلاص، وليس المراد: تكبير الأذان، والصلاة، فإنه لم يشرع عند نزول الآية. فمن عرف أن هذه المسألة أعظم ما أتى بها، وبشر بها، وعرف ما عليه أكثر أهل الأرض، عرف قدر: المسألة الثالثة.
المسألة الثالثة: المعروفة بالضرورة، وهي أن الله بعثه ليصدق، ويتبع، لا يكذب ويُعصَى. فأما من أقر بالمسألتين ثم صرح أن من اتبعه في(1/166)
التوحيد خرج من دينه، وحل دمه وماله، ومن صدقه في إنذاره وأطاعه وانتذر، خرج من دينه، وحل ماله ودمه، فهذا مع كونه أبلغ من الجنون، فهو من أعظم آيات الله، وعجائب قدرته، على تقليبه للقلوب، كيف يجتمع في قلب رجل يشهد أن التوحيد هو دين الله، ويعاديه، ويشهد أن الشرك هو الكفر ويواليه، ويذب عن أهله باللسان، والسنان، والمال. فإن عرف العبد أن هذا اجتمع في قلبه يوما واحدا فكيف عشر سنين؟ ! فهذا: من أعظم ما يعرفه بالله، وبنفسه؛ فإن عرف ربه، وعرف نفسه تم أمره.
المسألة الرابعة: معرفة أن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الله، أن أفضل الخلق من الملائكة والأنبياء، لو يجري منه الشرك من غير اعتقاد، أنه ممن حبط عمله، وحرمت عليه الجنة. فكيف بغير الأنبياء والملائكة؟ ! فهذه المسألة الرابعة، إن عرفتها في أربع سنين فنعما لك، لكن تعرف أن المتوضئ ينتقض وضوؤه بقطرة بول، مثل رأس الذباب من غير قصد، ولكن قل من يعرفها.
المسألة الخامسة: وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر خبرا محققا قطعا، أنه لا بد من الإيمان بالكتاب كله؛ فمن آمن ببعضه، وكفر ببعضه، فهو كافر، والله أعلم.(1/167)
(ثلاث مسائل فيما أرسل الله به الرسل)
وله أيضا:
المسألة الأولى: يعرف الإنسان أن الله لما خلقنا ما تركنا هملا، بل أرسل إلينا الرسل، أولهم نوح، وآخرهم محمد عليهم السلام، وحقنا منهم خاتمهم، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ونحن آخر الأمم، وجاءنا بكتاب من عند الله.
المسألة الثانية: أن الذي في الكتاب يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. وأكبر المعروف، وأوجبه، أول ما فرض الله، وهو: التوحيد. والتوحيد: اسم لفعلك؛ إن كانت أعمالك كلها لله فأنت موحد. فإن كان فيها شرك للمخلوق، فأنت مشرك.
المسألة الثالثة: أنك تعرف أن عقب هذا الموت بعث، وجنة ونار؛ فالذي اتبع ما عليه الرسول في هذا الدين له الجنة، والذي ما أطاعه أو ما رفع رأسا لما جاء به فهو في النار. وهذه المسائل هي التي يسأل عنها الإنسان في قبره، فإن كان ما عرفها ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو يجتمع عليها أهل منى ما أقلوها. فالواجب على الإنسان أن يخاف النار، ويرجو الجنة. والله المستعان.
(معرفة الرسالة التي أرسل الله بها)
وقال رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله أن أهم ما عليك معرفة الرسالة، التي أرسل الله إليك، فإنها أصل العلم وقاعدته، فتأمل قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ(1/168)
يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 38] .
وقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء آية: 163-164-165] .
وأما معرفة حقنا من الرسل، ففي قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [سورة المزمل آية: 15-16] ، فإن فهمت هذا فهما جيدا، هان عليك معرفة دينك؛ ولكن لا يعرفه معرفة جيدة إلا من عرف حال أكثر الناس، أنهم تبع لأهل زمانهم، ولم يسألوا عن هذا الأمر العظيم، الذي قال الله فيه: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [سورة ص آية: 67-68] . وقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [سورة النبأ آية: 1-2-3] .
(فرضية طلب العلم، وكيفية البحث عن الهدى)
وذكر رحمه الله مسائل:
الأولى: أن تعرف أن طلب العلم فريضة، على كل ذكر وأنثى، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} الآيات [سورة البقرة آية: 38] .
الثانية: أنك إذا أردت البحث عن هدى الله الذي جاء من عنده، أنك تبتدي بالأسهل(1/169)
فالأسهل. وأسهل ما يكون، وأهمه: القصص التي قص الله علينا عن الأنبياء وأممهم.
الثالثة: أن أول ما تبتدي به من القصص التي قص الله، قصة أبيك آدم، وإبليس، وما ذكر الله عنهم، وكون آدم لما اعترف بذنبه وتاب، تاب الله عليه. وأكثر الناس يظنون: أن الاعتراف بالذنب مذلة، ويستهزئون بمن أقر بذنبه واعترف وتاب منه، وكون إبليس لعنه الله لما احتج بالقدر، ولم يعترف بذنبه أن الله طرده، وآيسه من رحمته، وكون أكثر الناس يظن أن فعل إبليس هو الذي يرضاه الله، ويزدري على من فعل فعل آدم، نعوذ بالله من سوء الفهم. اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقا، وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلا، وأن ترزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا، فنضل، يا أرحم الراحمين، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، ويا من يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، أن تقبل منا، وأن تهدينا لما تحب وترضى، والله أعلم.
(تعليم الإنسان على قدر فهمه)
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
ينبغي للمعلم: أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، فإن كان ممن يقرأ القرآن، أو عرف أنه ذكي، فيعلم أصل الدين، وأدلته، والشرك وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد(1/170)
أنه يفهم القرآن فهم قلب. وإن كان رجلا متوسطا، ذكر له بعض هذا. وإن كان مثل غالب الناس ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، ويصف له حقوق الخلق، مثل حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله، وأنه خاتم النبيين، وتعلم أنك لو ترفع واحدا من الصحابة في منْزلة النبوة، صرت كافرا، فإذا فهم هذا فقل: حق الله عليك أعظم وأعظم. فإذا سأل عن حق الله فاذكر له أنك تعبده، ولا تصير مثل البدوي. وأيضا تخلص له العبادة، لا تكون مثل من يدعوه، ويدعو غيره، أو يذبح له ولغيره، أو يتوكل عليه وعلى غيره.
وكل العبادات كذلك، وتعرفه أن من أخل بهذا حرمت عليه الجنة، ومأواه النار. ولو قدّرنا أنه ما يشرك، فإذا عرف التوحيد، ولا عمل به، ولا أحب وأبغض فيه، ما دخل الجنة، ولو ما أشرك، لأن فائدة ترك الشرك، تصحيح التوحيد. ومن أعظم ما تنبهه عليه التضرع عند الله، والنصيحة، وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلى، والله أعلم.(1/171)
(أكبر الآيات الدالات على قدرة الله ستة أصول)
وقال أيضا الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: من أعجب العجائب، وأكبر الآيات الدالات على قدرة الملك الغلاب: ستة أصول، بينها الله تعالى بيانا واضحا للعوام، فوق ما يظنه الظانون ; ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم، وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل.
الأصل الأول: إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى، بكلام يفهمه أبلد العامة. ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار، أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم.
الأصل الثاني: أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بيانا شافيا كافيا، تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا قبلنا فهلكوا، وأذكر أنه أمر المرسلين بالاجتماع في الدين، ونهاهم عن التفرق فيه.
ويزيده وضوحا ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه، هو العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون!(1/172)
الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع، السمع والطاعة لمن تأمر علينا، ولو كان عبدا حبشيا. فبين الله هذا بيانا شافيا كافيا، بوجوه من أنواع البيان شرعا وقدرا. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به؟ !
الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [سورة البقرة آية: 40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا} [سورة البقرة آية: 122] كالآية الأولى.
ويزيده وضوحا ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد. ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل! وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه، لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون! وصار من أنكره وعاداه وجد في التحذير عنه، والنهي عنه، هو الفقيه العالم!!
الأصل الخامس: بيان الله سبحانه للأولياء، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعدائه المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية: "آل عمران" وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] ، والآية التي في "المائدة " وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية [سورة المائدة آية: 54] .
وآية في سورة "يونس"(1/173)
وهي قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 62-63] . ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم، وأنه من هداة الخلق، وحفاظ الشرع، إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسول، ومن اتبعه فليس منهم! ولا بد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم! ولا بد من ترك الإيمان والتقوى، فمن تقيد بالإيمان والتقوى، فليس منهم! يا ربنا نسألك العفو والعافية، إنك سميع الدعاء.
الأصل السادس: رد الشبهة التي وضعها الشيطان، في ترك القرآن، والسنة، واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة، وهي: أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق ; والمجتهد هو: الموصوف بكذا وكذا، أوصافا لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر؛ فإن لم يكن الإنسان كذلك، فليعرض عنهما فرضا حتما لا شك ولا إشكال فيه. ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق، وإما مجنون، لأجل صعوبة فهمها! ! فسبحان الله وبحمده، كم بين الله سبحانه شرعا وقدرا، خلقا وأمرا، في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى، بلغت إلى حد الضروريات العامة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 187] ، و {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [سورة يس آية: 7-8] إلى قوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [سورة يس آية: 11] .(1/174)
ومما يشبه هذا: أن الله ذكر أنه أنزل القرآن، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فظن الأكثر ضد ذلك.
الثانية: ذكره أن الإيمان سبب للعلو في الدنيا، فظن الأكثر ضد ذلك.
الثالثة: أن الإيمان به واتباعه سبب للعز، فظن الأكثر ضد ذلك.
الرابعة: إنزاله عربيا بينا لعلهم يفهمونه، فظن الأكثر ضد ذلك، وأقبلوا على تعلم الكتب الأعجمية لظنهم سهولتها، وأنه لا يوصل إليه من صعوبته.
الخامسة: ذكر أنهم لو عملوا به لصلحت الدنيا، فظن الأكثر ضد ذلك، لقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} الآية [سورة الأعراف آية: 96] .
السادسة: أنه أنزله تفصيلا لكل شيء، فاشتهر أنه لا يفي هو، ولا السنة بعشر المعشار.
السابعة: ذكره سبحانه أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، ليدل على نفي الشرك، فاستدلوا به على حسنه.
الثامنة: أمره سبحانه أن يطهره من المشركين فلا يقربونه، فصار الواقع كما ترى.
التاسعة: كونه ذكر أن من يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، فصار ظن الأكثر أن الأمر بخلاف ذلك.
العاشرة: ذكره أن من يتوكل على الله فهو حسبه، فصار ظن الأكثر بخلاف ذلك؛ بل ذكر بعض الأجلاء: أنه لا يجلب خيرا، ولا يدفع شرا.
الحادية عشر: أن تزوج الفقير سبب لغناه، فصار ظن الأكثر بضده.
الثانية عشر: أن صلة الرحم سبب لكثرة المال، فظن الأكثر ضد ذلك، فتركت خوفا(1/175)
من نقصه.
الثالثة عشر: أن الاقتصار على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لكثرة العلم، وطلب العلم من غيره سبب للجهل، فصار الأمر كما جرى.
الرابعة عشر: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأسماء (ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعى عليك) ، فذكر سبب الغناء الذي هو عند الأكثر سبب الفقر، وذكر سبب الفقر الذي هو عند الأكثر سبب الغناء، وكذا قوله: (ما نقص مال صدقة) .
الخامسة عشر: قوله: (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) ، فذكر سبب زيادة العز الذي يظن الأكثر أنه سبب الذل وزوال العز.
السادسة عشر: قوله: (ما فتح أحد على نفسه باب مسألة، إلا فتح الله عليه باب فقر) ، فذكر سبب الفقر الذي هو عند الأكثر سبب لزوال الفقر.
السابعة عشر: قوله: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه) ، فظنوا ضده.
الثامنة عشر: قوله: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) إلى آخره، فظنوا ضده
التاسعة عشر: أن الجهل بكثير هو العلم، والخوض بالعكس.
العشرون: أن الجهاد سبب لبقاء الأنفس والأموال.
الحادية والعشرون: كون تركه سببا لعذاب الأنفس وذهاب الأموال.
الثانية والعشرون: كون الهجرة عن الأهل والمال سببا لحياة الدنيا، والأصل في هذا قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة آية: 195] . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(1/176)
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال آية: 24] .
فسرت الحياة بالقتال، والتهلكة بالمقام عنه في الأهل، وفسرت بجمع المال، وترك النفقة.
الثالثة والعشرون: قوله: (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم) ، فظنوا ضده
الرابعة والعشرون: قوله في ضده: (أخر عقوبته حتى يوافى بذنبه يوم القيامة) .
الخامسة والعشرون: لا إله إلا الله كلمة التقوى، فجعلوها كلمة الفجور.
السادسة والعشرون: خلقهم للعبادة، فجعلوها لغيره.
السابعة والعشرون: إنزاله الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فجعل لغير ذلك.
الثامنة والعشرون: إرسال الرسل، ليعلم أنه الإله الواحد، فجعل لغير ذلك.
التاسعة والعشرون: إنزال الحديد ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، فجعل لضد ذلك.
الثلاثون: شرعت الإمارة لقيام الدين والعدل، وإزالة الباطل، فجعلت لضد ذلك.
الحادية والثلاثون: قوله: " ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا " 1 إلى آخره، ضد ما يخافه ويرجوه الوالد لذريته.
الثانية والثلاثون، قوله: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " 2.
الثالثة والثلاثون: قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} الآية [سورة الإسراء آية: 16] .
الرابعة والثلاثون: قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 141] .
الخامسة والثلاثون: قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي
__________
1 البخاري: الرقاق (6425) , ومسلم: الزهد والرقائق (2961) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2462) , وابن ماجه: الفتن (3997) , وأحمد (4/137) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2896) , والنسائي: الجهاد (3178) , وأحمد (1/173) .(1/177)
شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الآية [سورة البقرة آية: 137] .
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [سورة المائدة آية: 49] .
السادسة والثلاثون: قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص آية: 8] .
السابعة والثلاثون: قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآيتين [سورة الحج آية: 53] .(1/178)
(أربعة عشر مسألة في اتباع الناس أهوائهم وتركهم الكتاب والسنة)
وقال أيضا رحمه الله:
الأولى: يجوزون على الله أن يأمر بكل شيء، ويفعل كل شيء، وينْزهونه عن حقائق أسمائه وصفاته، ولا يتم التوحيد إلا به.
الثانية: وينهون عن تصديق الرسل فيما أخبروا به، ويقلدون طواغيتهم فيما يخالف العقل والنقل، ويقولون: هم أعلم.
الثالثة: يفتون بحمل كلام العامي في العقود على شواذ اللغة، التي لم تخطر بباله، ويحرفون كلام الله المحكم، وكلام رسوله الواضح، على غير مراده
الرابعة: ويحيلون الجواب على من مات أو غاب، وهو أوغل منهم في الارتياب.
الخامسة: ويدعون كمال العلم والإحاطة، ويصرحون أنهم لا يفهمون منه كلمة واحدة.
السادسة: ويجزمون بصحة الإجماع، ويكفرون من خالفه، ويقولون: مذهبنا بخلافه، وهو أحكم.
السابعة: والعلم المفروض عليهم يحرمون طلبه، وعلومهم التي يدأبون فيها، خيرها ما حرم عليهم السؤال عنه.
الثامنة: ويتكلمون بما يقتضي الإحاطة بعلم الله وحكمته في خلقه وأمره، وما ظنوا أنه خلاف الحكمة، قالوا: لا يفعل لحكمة، بل لمشيئة، فإذا رأوا من طواغيتهم خلاف ما أصلوا(1/179)
لهم من القواعد سلموا لهم، وقالوا: هم أعلم.
التاسعة: ثم يتناقضون، فيتكلمون في شرعه بالتعليل الباطل، ويولدون عليه ما شاؤوا.
العاشرة: ويتكلمون في عصمة الأنبياء بما يضحك العاقل، ويوسعون الكلام فيه، ويفردونه بالتصنيف؛ والنوع الذي انعقد الإجماع على العصمة فيه - وهو حظهم ونصيبهم - لا يلتفتون إليه، بل يحرمون الالتفات إليه، ولو صح كلامهم في الأول فلا تعلق له بهم.
الحادية عشر: ويقولون: الأصول التي يكفر مخالفها، هي التي تعلم بالعقل، وما لا فهي الشرعيات، وهذا تناقض؛ فإن الكفر: إنكار السمعيات، ولا يعرف إلا بها. ومن تدبر هذا عرف أنهم شر من الخوارج، الذين علقوا الكفر بمخالفة الكتاب، ولكن غلطوا.
وهؤلاء الذين علقوه بغيره اتفق السلف على أن قولهم شر من قول الخوارج، وارتكبوا معه أربع عظائم:
الأولى: رد نصوص الأنبياء.
الثانية: رد ما وافقها من العقل.
الثالثة: جعل ما خالفها أصولا للدين.
الرابعة: تكفيرهم، أو تفسيقهم، أو تخطئتهم من خالفها واتبع الأنبياء، وقد أمرنا أن نتدبر القرآن، ولا يكون إلا إذا كان بينا.(1/180)
فأما إن احتمل معاني، ولم يبين المراد، لم يمكن أن يتدبر؛ ولهذا تجد من زعمه قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله، بل فيه من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، بل منتهى أمرهم إلى القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات؛ وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية، والقضايا الفقهية.
الثانية عشر: والتوحيد عندهم: إنكار صفات الكمال، ونعوت الجلال، والشرك إثباتها؛ ودينهم اتخاذ أكابرهم أربابا من دون الله.
الثالثة عشر: ويزعمون أنهم ما عظموهم إلا لأجل الله، ثم يستخفون به، ويسبونه مسبة ما سبها إياه أحد من البشر.
الرابعة عشر: ويزعمون أن فعلهم تعظيم وإجلال للأنبياء والصالحين، وهم بذلك يكذبونهم، ويكفرونهم، ويستجهلون من صدقهم وآمن بهم؛ وهذا، والذي قبله: من أعجب العجاب! !
(الإيمان بالأصول الستة)
وقال فى بعض تقاريره: اعلم رحمك الله أن الإيمان الشرعي، هو الإيمان بالأصول الستة. فمن الإيمان بالله الإيمان بالكتب التي أنزل الله، والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله. ومن الإيمان بهم معرفة مراد الله في إرسالهم، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ(1/181)
وَمُنْذِرِينَ} الآية [سورة البقرة آية: 213] .
وأما الحكمة الأخرى، فذكرها أيضا في غير موضع، منها قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] . فقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [سورة البقرة آية: 213] . وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] ، هما حكمة الله في إيجاد الخليقة، وإليهما ترجع كل حقيقة. فالواجب على من نصح نفسه أن يجعل معرفة هذا نصب عينيه.
ومن تفاصيل هذه الجملة: أن الناس اختلفوا في التوحيد، فجاءت الكتب والرسل، ففصلوا الخصومة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . فشملت أصل الأمر، وأصل النهي، الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
الثانية: أن الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، اختلفوا: هل توجب هذه العداوة والمقاطعة؟ أو أنها كالسرقة والزنى؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن وليي الله والمؤمنون " 1.
__________
1 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203) .(1/182)
الثالثة: أن الذين أقروا بأن الشرك أكبر الكبائر، اختلفوا: هل يقاتل من فعله إذا قال لا إله إلا الله؟ فحكم الكتاب بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 5] .
الرابعة: اختلفوا في الجماعة والفرقة، فذهب الصحابة ومن تبعهم إلى وجوب الجماعة وتحريم الفرقة، ما دام التوحيد والإسلام، لأنه لا إسلام إلا بجماعة، وذهب الخوارج، والمعتزلة: إلى الفرقة، وإنكار الجماعة، فحكم الكتاب بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] .
الخامسة: اختلفوا في البدع، هل يستحسن منها ما كان من جنس العبادة؟ أم كل بدعة ضلالة؟ فحكم الكتاب بينهم، بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] ، وقوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "، فذكر صلى الله عليه وسلم أن ما حدث بعده فليس من الدين، وأنه ضلالة.
السادسة: أنهم اختلفوا في الكتاب، هل يجب تعلمه واتباعه على الآخرين لإمكانه، أم لا يجب، ولا يجوز العمل به لهم؟ فحكم الكتاب بينهم بالآيات التي لا تحصى،(1/183)
منها قوله: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} [سورة آية: 99] ، وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية [سورة طه آية: 124] .
السابعة: اختلفوا في العالم رفيع المقام في العلم والعبادة، إذا عمل تابع النص بخلافه، هل يجوز أم لا؟ فقيل: نعم، من قلد عالما لقي الله سالما. فحكم الكتاب بقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] ، وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] . وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89] . وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية [سورة النمل آية: 14] . وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [سورة الأنعام آية: 116] .
فإذا عرفت هذه الآيات المحكمات، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، من أن طاعة الأحبار والرهبان من دون الله عبادة لهم، وعرفت حال كثير من الناس وما يأمرون به، وما يدعون إليه، وتأملت كلام الله، تبين لك الهدى من الضلال.(1/184)
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن أحاديث الوعد والوعيد)
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن أحاديث الوعد والوعيد، وقول وهب بن منبه: " مفتاح الجنة لا إله إلا الله " إلخ، وحديث أنس "من صلى صلاتنا " 1 إلخ،
فأجاب: ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه؛ وفي القرآن آيات في الوعد والوعيد كذلك. وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم، ومن أحسن ما قيل في ذلك: أمروها كما جاءت، معناه: لا تتعرضوا لها بتفسير.
وبعض الناس تكلم فيها ردا لكلام الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، أو يخلدون أصحابها في النار، أنه ينفي الإيمان عن بعض الناس، لكونه لا يتمه، كقوله للأعرابي: " صل فإنك لم تصل " 2. والجواب الأول أصوب، وأهون، وأوسع، وهو الموافق لقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الآية [سورة آل عمران آية: 7] . إذا فهمت ذلك، فالمسألة الأولى واضحة، مراده الرد على من ظن دخول الجنة بالتوحيد وحده، بدون الأعمال، وأما إذا أتى به وبالأعمال، وأتى بسيئات ترجح على حسناته، أو تحبط عمله، فلم يتعرض وهب لذلك بنفي ولا إثبات، لأن السائل لم يرده.
__________
1 البخاري: الصلاة (391) , والنسائي: تحريم الدم (3968) والإيمان وشرائعه (4997) .
2 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437) .(1/185)
وقوله: " من صلى صلاتنا " 1 إلخ فهو على ظاهره، ومعناه: كما لو عرف منه النفاق، فما أظهر يحمي دمه وماله، وإلا فمعلوم أن من صدق مسيلمة، أو أنكر البعث، أو أنكر شيئا من القرآن، وغير ذلك من أنواع الردة، لم يدخل في الحديث.
(معنى حديث معاذ (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)
وسئل عن معنى: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 2 إلى قوله: " أفلا أبشر الناس؟ قال لا تبشرهم فيتكلوا " 3 ومعنى: " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " كيف الصواب؟
فأجاب: أما مسألة معاذ: فالمعنى عند السلف على ظاهره، وهو من الأمور التي يقولون: أمروها كما جاءت، أعني نصوص الوعد والوعيد، لا يتعرضون للمشكل منه.
وأما قوله: " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " فتلك مسألة أخرى على ظاهرها، أن الله لو يستوفي حقه من عبده، لم يدخل أحد الجنة، ولكن كما قال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} الآية [سورة الزمر آية: 35] .
__________
1 البخاري: الصلاة (391) , والنسائي: تحريم الدم (3968) والإيمان وشرائعه (4997) .
2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/236 ,5/238 ,5/242) .
3 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) .(1/186)
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن محل الإيمان، وكونه يزيد وينقص)
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال السائل: تفكرت فى الإيمان وقوته وضعفه، وأن محله القلب، وأن التقوى ثمرته ومركبة عليه، فبقوته تقوى، وبضعفه تضعف.
فأجاب: قولك إن الإيمان محله القلب، فالإيمان بإجماع السلف محله القلب، والجوارح جميعا، كما ذكر الله في سورة الأنفال، وغيرها.
وأما كون الذي في القلب، والذي في الجوارح، يزيد وينقص، فذلك شيء معلوم، والسلف يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان من النفاق، أو سلب الإيمان كله.
(العلاقة بين الإيمان والإسلام)
وسئل أيضا: عن الإيمان، والإسلام، هل هما نوع واحد؟ أو نوعان؟
فأجاب: ذكر العلماء أن الإسلام إذا ذكر وحده، دخل فيه الإيمان، كقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [سورة آل عمران آية: 20] ، وكذلك الإيمان إذا أفرد، كقوله في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد آية: 21] ، فيدخل فيه الإسلام. وإذا ذكرا معا كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة الأحزاب آية: 35] ، فالإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة، كما في الحديث: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب " 1.
__________
1 أحمد (3/134) .(1/187)
وقوله في الحديث: " أخرجوا من النار من في قلبه " 1 إلخ، يوافق ما ذكرناه، فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه، وإن كان ناقصا، كما في آية الحجرات، وفيها: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [سورة الحجرات آية: 14] . وحقيقة الأمر: أن الإيمان يستلزم الإسلام قطعا، وأما الإسلام فقد يستلزمه، وقد لا يستلزمه،
أما قوله: " لا يؤمن أحدكم حتى " 2 إلى آخره، ففسر بأن المراد اعتقاد ذلك بالقلب، والعمل بذلك الاعتقاد، فإذا كان في القلب ضده، وكرهه، وصار الكلام والعمل بمقتضى الأمر الممدوح، فهو ذاك. وذكر أيضا، في الإيمان بالله، والإيمان بالرسل: أن ههنا غاية ووسيلة ; فأما الغاية: فهو الإيمان بالله، وأما الوسيلة فهو الإيمان بالرسل، الإيمان بالله مثل الماء، والإيمان بالرسل: مثل الدلو والرشا.
__________
1 البخاري: الإيمان (22) , ومسلم: الإيمان (183) , وأحمد (3/56 ,3/94) .
2 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه: المقدمة (66) , وأحمد (3/176 ,3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) .(1/188)
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب عن قول القائل كل ذنب عصى الله به شرك)
وسئل رحمه الله: عمن خالف شيئا من واجبات الشريعة، ماذا يقع؟ وما معنى: كل ذنب عصي الله به شرك؟ وهل يقع في جزء من الكفر؟ وما ذلك الكفر؟ أهو كفر بالله؟ أو بآلائه، مع صغره؟ وما معنى قول من قال: كفر دون كفر؟ وقول من قال: كفر نعمة؟ أي نعمة أيضا؟ وماذا ترى في الرؤيا التي ذكرت لك؟
فأجاب: الشرك والكفر نوع، والكبائر نوع آخر، والصغائر نوع آخر. ومن أصرح ما فيه، حديث أبي ذر، فيمن لقي الله بالتوحيد، قوله: " وإن زنى وإن سرق " 1 مع أن الأدلة كثيرة. وإذا قيل: من فعل كذا وكذا، فقد أشرك أو كفر، فهو فوق الكبائر. وما رأيت جاء مخالفا ما ذكرت لك، فهو بمعنى الذي أخفى من دبيب النمل، وقول القائل: كفر نعمة، خطأ، رده الإمام أحمد وغيره. ومعنى كفر دون كفر: أنه ليس يخرج من الملة مع كبره. والرؤيا: أرجو أنها من البشرى المذكورة، لكن الرؤيا تسر المؤمن، ولا تضره.
__________
1 البخاري: الجنائز (1237) , ومسلم: الإيمان (94) , والترمذي: الإيمان (2644) , وأحمد (5/159) .(1/189)
(أقسام الناس بعد الهجرة)
وله أيضا: رحمه الله تعالى: اعلم رحمك الله: أن الله منذ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأعزه بالهجرة والنصر، صار الناس ثلاثة أقسام: قسم: مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم: كفار، وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم: منافقون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا، لا باطنا. ولهذا افتتح الله سورة البقرة، بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين.
وكل واحد من الإيمان، والكفر، والنفاق، له دعائم وشعب، كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسره علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه. فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي، وغيره، مثل أن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك، مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله. وهذا القدر موجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده أكثر منه على عهده، لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها والنفاق موجود، فوجوده فيما(1/190)
دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله.
وأما النفاق الأصغر، فهو: نفاق الأعمال، ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، أو يخون إذا اؤتُمن، للحديث المشهور في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: " آية المنافق: ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم " 1 ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، لقوله صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق " 2 رواه مسلم.
وقد أنزل الله سورة براءة، التي تسمى الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (هي الفاضحة، ما زالت تنْزل، "ومنهم ومنهم"، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها) ، وعن المقداد بن الأسود قال: (هي سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين) ، وقال قتادة: (هي المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين) .
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره، فكشف فيها عن أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن والبخل، فأما الجبن فهو ترك الجهاد، والبخل عن النفقة في سبيل الله، وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} الآية [سورة آل عمران آية
__________
1 البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357 ,2/397 ,2/536) .
2 مسلم: الإمارة (1910) , والنسائي: الجهاد (3097) , وأبو داود: الجهاد (2502) .(1/191)
: 180] .
وقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية [سورة الأنفال آية: 16] .
فأما وصفهم فيها بالجبن والفزع، فقد قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [سورةالتوبه آية: 56] ، يلجؤون إليه، مثل المعاقل والحصون {أَوْ مَغَارَاتٍ} يغورون فيها كما يغور الماء {أَوْ مُدَّخَلاً} هو الذي يتكلف الدخول إليه، ولو بكلفة ومشقة {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} عن الجهاد {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [سورة التوبة آية: 57] ، أي: يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، كالفرس الجموح، الذي إذا حمل لم يرده اللجام.
وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15] ، فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد، وقال تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآيتين [سورة التوبة آية: 44] ، فهذا إخبار من الله أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان؟ ! فقال في وصفهم بالشح: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [سورة التوبة آية: 54] إلى قوله: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [سورة التوبة آية: 54] ، فإذا كان هذا مذمة الله تبارك وتعالى لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟ !(1/192)
وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة، تارة يقولون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم. وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا لما أصابنا هذا، وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم، تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم. وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم، وتهلكوا الناس معكم. وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي. فأخبر الله عنهم بقوله عز وجل: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الأحزاب آية: 20] .
فوصفهم تبارك وتعالى بثلاثة أوصاف:
الأول: أنهم لفزعهم منهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان، الذي في قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاؤوا، تمنوا أن لا يكونوا بينكم، بل في البادية بين الأعراب، {يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [سورة الأحزاب آية: 20] ، أي شيء خبر المدينة؟ وأي شيء خبر الناس؟ الوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا وهذه الأوصاف الثلاثة منطبقة على كثير من الناس.(1/193)
(هل يخلد أحد من أهل التوحيد في النار)
سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر رحمهم الله تعالى: هل عندكم أنه ما يلبث موحد في النار، أم لا؟
فأجابوا: الذي نعتقده دينا، ونرضاه لإخواننا المسلمين، مذهبا، أن الله تبارك وتعالى: لا يخلد أحدا فيها من أهل التوحيد، كما تظاهرت عليه الأدلة، من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه من الإيمان ما يزن شعيرة " 1، وفي لفظ (ذرة) ولكنها جاءت مقيدة بالقيود الثقال، كقوله: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 2، وفي رواية " صادقا من قلبه " 3 انتهى.
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعهم بإحسان من سلف الأمة وأئمتها. ولا يخالف في ذلك إلا الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار.
والجواب عن الآيات التي احتجوا بها تحتاج إلى بسط طويل.
__________
1 - البخاري: الإيمان 44 , ومسلم: الإيمان 193 , والترمذي: صفة جهنم 2593 , وابن ماجه: الزهد 4312 , وأحمد 3/173.
2 - البخاري: العلم 99 , وأحمد 2/373.
3 - البخاري: العلم 128.(1/194)
(أنواع الشرك)
وسئل أيضا أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر رحمهم الله تعالى عن الشرك بالله: ما هو الأكبر الذي ذم فاعله، وماله حلال لأهل الإسلام، ولا يغفر لمن مات عليه؟ وما هو الأصغر؟.
فأجابوا: قد ذكر العلماء رحمهم الله: أن الشرك نوعان: أكبر، وأصغر. فالأكبر: أن يجعل لله ندا من خلقه، يدعوه كما يدعو الله، ويخافه كما يخاف الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في الأمور، كما يتوكل على الله. والحاصل: أن من سوى بين الله وبين خلقه في عبادته، ومعاملته، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، الذي لا يغفره، كما دل على ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] .
وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 98] .
قال بعض المفسرين: والله ما ساووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، ولكن ساووهم في المحبة والإجلال والتعظيم، وقال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] ، أي: يعدلون به في العبادة.(1/195)
ولهذا اتفق العلماء كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، فقد كفر لأن هذا كفر عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] .
ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فهذا حال من اتخذ من دون الله أولياء، يزعم أنهم يقربونه إلى الله، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
وقد أنكره الله في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله، وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه سبحانه يأذن في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوا من دون الله شفيعا، فيكون أسعد الناس بشفاعة الشفعاء صاحب التوحيد، الذي حقق قول لا إله إلا الله.
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي: الشفاعة الصادرة عمن أذن له، لمن وحّده، والشفاعة التي نفاها الله: الشركية التي يظنها المشركون، فيعاملون بنقيض قصدهم، ويفوز بها الموحدون.
فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1، فجعل أعظم الأسباب التي ينال بها الشفاعة تجريد التوحيد، عكس ما اعتقد المشركون، أن الشفاعة تنال
__________
1 - البخاري: العلم 99 , وأحمد 2/373.(1/196)
باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع فيه.
ومن جهل المشرك اعتقاده إن اتخذ من دون الله شفيعا أن يشفع له وينفعه، كما يكون عند خواص الملوك والولاة، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] . وبقي فصل ثالث، وهو: أنه ما يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول، وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية:
(كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟) . فهذه ثلاثة أصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها:
فالأول: أنه لا شفاعة إلا بإذنه.
والثاني: أنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله.
والثالث: أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله.
وقد قطع سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ(1/197)
مِنْ ظَهِير وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ٍ} [سورة سبأ آية: 22] . فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع.
والنفع لا يكون إلا لمن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه ; فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا كان معينا وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده؟ فنفى سبحانه وتعالى المراتب الأربع، نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشرك، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك؛ وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي: الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية برهانا، ونورا، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها.
والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك ". وما عابه القرآن وذمه، ووقع فيه(1/198)
وأقره، ودعا إليه، وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة؛ ويبدع الرجل بتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، ومفارقة أهل الهوى والبدع.
ومن له بصيرة وقلب حي يرى عيانا، والله المستعان. والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى بسط طويل، ليس هذا محله، وإنما نبهناك على ذلك تنبيها، يعرف به كل من نور الله قلبه حقيقة الشرك، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وحرم الجنة على فاعله.
ولكن من أعظم أنواعه، وأكثره وقوعا في هذه الأزمان: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، كما ذكره المفسرون، عند قوله تعالى، حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] .
إن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا، عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، كما ذكر البخاري في صحيحه، في تفسير سورة نوح، وكما ذكر غيره من أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، كما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف بغير الله فقد(1/199)
أشرك " 1.
ومن ذلك قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: " ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده " 2. وهذه اللفظة أخف من غيرها من الألفاظ.
وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده. وهذا الذي ذكرنا متفق عليه بين العلماء - رحمهم الله تعالى - أنه من الشرك الأصغر، كما أن الذي قبله متفق عليه أنه من الشرك الأكبر.
(التوبة من الشرك)
واعلم أن التوبة مقبولة منهما، ومن سائر الذنوب قطعا، إذا صحت التوبة، واستكملت شروطها. لكن ابن عباس رضي الله عنهما، ومن تبعه، قال: " لا تقبل توبة القاتل ". وقد ناظر ابن عباس أصحابه، وخالفه جمهور العلماء في ذلك، وقالوا: التوبة تأتي على كل ذنب، فكل ذنب يمكن التوبة منه، وتقبل،
واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر آية: 53] ، وبقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [سورة طه آية: 82] . فإذا تاب هذا القاتل، وآمن، وعمل صالحا، فإن الله عز وجل غفار له.
__________
1 - الترمذي: النذور والأيمان 1535 , وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 , وأحمد 2/34 ,2/86 ,2/125.
2 - أحمد 1/214.(1/200)
فصل: (ذكر مراتب الدين الثلاث)
وأما قول السائل: هل للتوحيد والإيمان مرتبتان، وحقيقتان، ومجازان، يقابل كل واحد واحدة من مراتب الشرك والكفران، يتعلق بأحدهما دون الآخر النقص والبطلان، ويخرج بفعل بعض قواعد الشرك، أو ترك بعض قواعد التوحيد، عن دائرة الإسلام، لا دائرة الإيمان، أو بالعكس؟
فاعلم رحمك الله أن العلماء ذكروا أن الدين على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها الكافر أول ما يتكلم بالإسلام، ويذعن، وينقاد له.
المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان، وهي أعلى من المرتبة الأولى، لأن الله تعالى نفى عمن ادعى الإيمان أول وهلة، وأثبت لهم الإسلام، فقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15-14] ، فأنكر سبحانه عليهم ادعاءهم الإيمان، وأخبر أنهم لم يبلغوا هذه المرتبة إذ ذاك. وفي الحديث الصحيح، حديث(1/201)
سعد، لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لك عن فلان؟ فوالله لأراه مؤمنا فقال: (أو مسلما) .
المرتبة الثالثة: الإحسان، وهي أعلى المراتب كلها، وقد تضمن حديث جبريل هذه المراتب كلها، لما سأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: " هذا جبريل يعلمكم أمر دينكم " 1. فقد ينفى عن الرجل الإحسان، ويثبت في الإيمان، وينفى عنه الإيمان، ويثبت في الإسلام، كما في قوله عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 2. ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة.
وأما المعاصي والكبائر، كالزنى والسرقة وشرب الخمر وأشباه ذلك، فلا يخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج، والمعتزلة، الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليده في النار.
واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة، من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين. فمن ذلك: ما رواه محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 3. فقال أبو جعفر: هذا الإسلام، ودوّر دائرة واسعة، وهذا
__________
1 - البخاري: الإيمان 50 , ومسلم: الإيمان 9 ,10 , والنسائي: الإيمان وشرائعه 4991 , وابن ماجه: المقدمة 64 , وأحمد 2/426.
2 - البخاري: المظالم والغصب 2475 , ومسلم: الإيمان 57 , والترمذي: الإيمان 2625 , والنسائي: قطع السارق 4870 ,4871 والأشربة 5659 ,5660 , وأبو داود: السنة 4689 , وابن ماجه: الفتن 3936 , وأحمد 2/317 ,2/386 , والدارمي: الأشربة 2106.
3 - البخاري: المظالم والغصب 2475 , ومسلم: الإيمان 57 , والترمذي: الإيمان 2625 , والنسائي: قطع السارق 4870 ,4871 والأشربة 5659 ,5660 , وأبو داود: السنة 4689 , وابن ماجه: الفتن 3936 , وأحمد 2/317 ,2/386 , والدارمي: الأشربة 2106.(1/202)
الإيمان، ودور دائرة صغيرة، في وسط الكبيرة ; فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا الكفر بالله، انتهى.
قال: وإن الله جعل اسم الإيمان اسم ثناء وتزكية ومدحة، وأوجب عليه الجنة، فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [سورة آية: 44] ، وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سورة يونس آية: 2] .
وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [سورة الحديد آية: 12] . وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية [سورة التوبة آية: 72] . قالوا: وقد توعد الله بالنار أهل الكبائر، فدل ذلك على أن اسم الإيمان زال عمن ألم بكبيرة، قالوا: ولم نجده تعالى أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت: أن اسم الإسلام ثابت له على حاله، واسم الإيمان زائل عنه.
فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟ فالجواب: إن الكفر ضد أصل الإيمان، لأن للإيمان أصلا وفروعا، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان، الذي هو ضد الكفر.
فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنه اسم الإيمان، هل بقي معه من الإيمان شيء؟ قيل: نعم. أصله ثابت، ولولا ذلك لكفر.(1/203)
فإن قيل: كيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به الفاسق، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان معه، وهو التصديق بالله ورسوله؟ قلنا: لأن الله ورسوله، وجماهير المسلمين، يسمون الأشياء بما علمت عليها من الأسماء، فيسمون الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء تقيا، ولا ورعا ; وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر، أو يشرك بالله، وكذلك يتقي أن يترك الغسل من الجنابة والصلاة، ويتقي أن يأتي أمه، فهو في جميع ذلك متق.
وقد أجمع المسلمون من الموافقين والمخالفين أنه لا يسمى تقيا ولا ورعا إذا كان يأتي بالفجور، مع أن أصل التقوى والورع باق. انتهى ; يريد باق من ادعائه الأصل، كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه متقيا، ولا ورعا، مع إتيانه بعض الكبائر، بل يسمونه فاسقا، وفاجرا، مع علمهم أنه قد اتقى بعض التقوى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقى اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليه المغفرة والجنة; قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمنا ونسميه فاسقا، وزانيا، وإن كان في قلبه أصل اسم الإيمان، لأن الإيمان أصل أثنى الله به على المؤمنين، وزكاهم به، وأوجب لهم الجنة.(1/204)
ثم قال: مسلم، ولم يقل: مؤمن ; قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان وإسلام، كان أحق الناس به أهل النار، الذين يخرجون منها، لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " 1 فثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان. ولما وجدنا الأمة تحكم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة، ثبت أنهم مسلمون، تجري عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين، إذا كان الإسلام مثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، ويزول عنه اسم الكفر، ويثبت له أحكام المسلمين.
والمقصود معرفة ما قدمناه، من أن للدين ثلاث مراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان. ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي قبلها؛ فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمنا. وهذا التفصيل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء به القرآن، فجعل الأمة على هذه الأوصاف الثلاثة ; فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} الآية [سورة فاطر آية: 32] . فالمسلم الذي لم يقم بواجب
__________
1- البخاري: الإيمان 22 , ومسلم: الإيمان 183 , وأحمد 3/56.(1/205)
الإيمان: هو الظالم لنفسه، والمقتصد: هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب، وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه.
وقد ذكر سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة الأقسام في سورة: (الواقعة) ، (والمطففين) ، (وهل أتى) ، وقال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله -: فأكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الذّاريات آية: 36] . قال: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق ; وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال؛ ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا ; وإذا حملت الأمر على هذا، استقام لك تأويل الآيات، واتحد القول فيها، ولم يختلف شيء منها.
قال الشيخ تقي الدين: والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل، وغيره، وما علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء، وجعل نفس(1/206)
الإسلام نفس الإيمان ; ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي، وكذلك ذكر أبو قاسم التيمي الأصبهاني، وابنه محمد، شارح مسلم، وغيرهما أنه المختار عند أهل السنة، وأنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن، كما دل عليه النص.
فصل: (تفاضل الناس في التوحيد والإيمان)
إذا تمهدت هذه القاعدة، تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد، تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض. فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من يدخل النار، وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان؛ وهم في ذلك متفاوتون، كما في الحديث الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن برة " 1 وفي لفظ: " شعيرة"، وفي لفظ: " ذرة "، وفي لفظ: " حبة خردل من إيمان "2. ومن تأمل النصوص، تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان، تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة، والإخلاص، واليقين، والله أعلم.
__________
1 البخاري: الإيمان (44) , ومسلم: الإيمان (193) , والترمذي: صفة جهنم (2593) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/173 ,3/276) .
2 البخاري: الإيمان (22) , وأحمد (3/56) .(1/207)
فصل: (فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم)
وأما السؤال عما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟
فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة، وأما كثير من الأحاديث التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت، فأكثرها لا يصححه الحفاظ ; وفيما صح في ذلك كفاية.
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] . وقول من قال: إن الإرادة أزلية لا تبدل، وأن " إنما " للحصر، وغير ذلك، فنقول: قد ذكر أهل العلم أن الآية لا تدل على عصمتهم من الذنوب، يدل على ذلك أن أكابر أهل البيت كالحسن، والحسين، وابن عباس لم يدّعوا لأنفسهم العصمة، ولا استدل أحد منهم بهذه الآية على عصمتهم.
وقد ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله على نوعين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية؛ فالإرادة القدرية لا تبدل ولا تغير، والإرادة الشرعية قد تغير وتبدل. فمن الأول قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [سورة الإسراء آية: 16] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} [سورة الرعد آية: 11] ، وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} الآيتين [سورة القصص آية: 56-] .(1/208)
ومن الثاني، قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 26] . فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب آية: 33] ، كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [سورة المائدة آية: 6] ، وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة آية: 185] ، وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 26] . فإن إرادة الله في هذه الآية متضمنة لمحبة الله، فذكر المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك خلف هذا المراد، لا أنه قضاؤه وقدره.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: " اللهم أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا " 1، فطلب من الله إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تقتضي إخبار الله بأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء، وهذا على قول القدرية أظهر ; فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجوب المراد، بل قد يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، فليس في قوله تعالى: {يُرِيدُ} أنه قدر ما يدل على وقوعه.
ومن العجب أن الشيعة يحتجون بهذه الآية، على عصمة أهل البيت، ومذهبهم في القدر من جنس مذهب
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3205) .(1/209)
القدرية، الذين يقولون: إن الله قد أراد إيمان كل من على وجه الأرض فلم يقع مراده. وأما على قول أهل السنة والتحقيق فهو ما تقدم، وهو أن يقال: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية، تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية، تتضمن خلقه وتقديره. فالأولى كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء آية: 26] . والثانية كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية [سورة الأنعام آية: 125] . وقوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [سورة هود آية: 34] . ومثل ذلك كثير في القرآن.
فالله تعالى قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم، وفيه من تاب، وفيه من لم يتب، وفيه من تطهر، وفيه من لم يتطهر، فإذا كانت الآية ليس فيها دلالة على وقوع ما أراده من التطهير، وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه هؤلاء.
ومما يبين أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [سورة الأحزاب آية: 30-31] إلى قوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ(1/210)
لَطِيفاً خَبِيراً} [سورة آية: 33-34] .
فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفيهن الأمر والنهي، والوعد والوعيد، لكن لما كان ما ذكره سبحانه أنه يعمهن، ويعم غيرهن من أهل البيت، جاء لفظ التزكية، فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [سورة الأحزاب آية: 33] . والذي يريد الله من حصول إذهاب الرجس وحصول التطهير، فهذا الخطاب وغيره، ليس مختصا بأزواجه، بل هو يتناول لأهل البيت كلهم، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين أخص من غيرهم بذلك ; وكذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، ولهذا كما أن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [سورة التوبة آية: 108] ، نزل بسبب مسجد قباء، ولكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة.
وفي الصحيح: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: هو مسجدي هذا " 1. وفي الصحيح: " أنه كان يأتي قباء كل سبت، راكبا وماشيا، وكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت " 2 وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، كلهم من أهل البيت، لكن علي وفاطمة، والحسن والحسين، أخص بذلك من أزواجه ; فلهذا خصهم بالدعاء.
__________
1 أحمد (5/116) .
2 البخاري: الجمعة (1193) , ومسلم: الحج (1399) , والنسائي: المساجد (698) , وأبو داود: المناسك (2040) , وأحمد (2/30 ,2/57 ,2/80 ,2/101 ,2/107 ,2/155) , ومالك: النداء للصلاة (402) .(1/211)
فصل: (ذكر ما يطلق عليه اسم الآل)
وأما قولكم: ومن يطلق عليه اسم الآل؟ فنقول: قد تنازع العلماء في آل محمد مَنْ هم؟ فقيل: هم أمته، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك، وأحمد وغيرهم. وقيل: المتقون من أمته ; ورووا حديثا: " آل محمد كل تقي " رواه الخلال، وتمامه في فوائده، وهو حديث لا أصل له. والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد، لكن هل أزواجه من آله؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، والصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه: " اللهم صل على محمد، وأزواجه، وذريته " 1؛ ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته، والآية المذكورة، تدل على أنهن من أهل بيته.
وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليي الله، وصالح المؤمنين " 2. فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين، والإيمان، والتقوى؛ والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان.
وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ ومن كان فاضلا منهم، كعلي وجعفر، والحسن والحسين، وابن عباس، فتفضيلهم لما فيهم من الإيمان والتقوى؛ وهم أولياؤه
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3369) , ومسلم: الصلاة (407) , والنسائي: السهو (1294) , وأبو داود: الصلاة (979) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (905) , وأحمد (5/424) , ومالك: النداء للصلاة (397) .
2 البخاري: الأدب (5990) , ومسلم: الإيمان (215) , وأحمد (4/203) .(1/212)
بهذا الاعتبار لا مجرد النسب ; فأولياؤه قد يكونون أعظم درجة من آله، وأنه إذا صلى على آله تبعا لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه، وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يكون أفضل من الفاضل، وأزواجه ممن يصلى عليهن، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وقد ثبت باتفاق العلماء كلهم أن الأنبياء أفضل منهم، والله أعلم.
فصل: (الكلام عن الحروب التي وقعت بين الصحابة)
وسئلوا عن الحروب التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم؟ فأجابوا:
فصل: وأما الحروب التي وقعت بين الصحابة، فالصواب فيها قول أهل السنة والجماعة، وهو الذي نعتقده دينا ونرضاه مذهبا؛ وهو السكوت عما شجر بينهم، والترضي عنهم، وموالاتهم، ومحبتهم كلهم، رضوان الله عليهم أجمعين. وذلك أن الله تبارك وتعالى، أخبر أنه قد رضي عنهم، ومدحهم في غير آية من القرآن ; وإنما فعلوا ما فعلوه من الحروب والقتال بتأويل، ولهم من الحسنات العظيمة الماحية للذنوب ما ليس لغيرهم.
ونعتقد أن عليا رضي الله عنه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، يقتلهم أقرب(1/213)
الطائفتين إلى الحق " 1. فخرج الخوارج، أهل النهروان، الحرورية، في وقت حرب علي ومعاوية، فقتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأصحابه، بحروراء، قرب الكوفة، بعدما أغاروا على الناس، وسفكوا الدم الحرام، واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم. فأرسل إليهم علي رضي الله عنه ابن عباس، ووعظهم، وذكرهم، وكشف شبهتهم، فرجع كثير منهم، وخرج بقيتهم على علي رضي الله عنه حتى قتلهم عن آخرهم.
وأمر بالمخدج أن يلتمس، فالتمس، فوجدوه على النعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه مثل ثدي المرأة، فسجد علي رضي الله عنه شكرا لله. فبذلك ثبت أن عليا أقرب إلى الحق من معاوية. وما أحسن ما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما سئل عن الحروب التي وقعت بين الصحابة، فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها، أفلا أطهر لساني من الكلام، أو نحو ذلك.
__________
1 مسلم: الزكاة (1065) , وأبو داود: السنة (4667) .(1/214)
(مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه في الصحابة)
وسئل أيضا أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر رحمهم الله عن مذهبهم في الصحابة رضي الله عنهم؟
فأجابوا: مذهبنا في الصحابة هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو أن أفضلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وأفضلهم بعد أبي بكر عمر، وأفضلهم بعد عمر عثمان، وأفضلهم بعد عثمان علي رضي الله عنهم. ومنْزلتهم في الخلافة كمنْزلتهم في الفضل. وقد نازع بعض أهل السنة في أفضلية عثمان على علي، فجزم قوم بتفضيل علي على عثمان، ولكن الذي عليه الأئمة الأربعة وأتباعهم هو الأول.
قال الذهبي رحمه الله: تواتر عن علي رضي الله عنه أنه قال: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرهم بعد أبي بكر عمر " انتهى. ثم بعد هؤلاء الأربعة في الفضيلة، عند أهل السنة: الستة بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم.(1/215)
فصل: (هل سبق كتاب من الله في المعاصي أنها ستقع)
وأما قولكم: هل سبق كتاب من الله في المعاصي أنها ستقع؟
فنقول: قد سبق بذلك الكتاب، وجرى به القلم، وعلم سبحانه ما خلقه عاملوه قبل أن يعملوه، وتواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها ; ودل عليه كتاب الله، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] ، و {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [سورة الفرقان آية: 2] . وهذا يعم الذوات والهيئات والجواهر والأعراض.
وثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، فخلق السماوات والأرض، وأثبت في الذكر كل شيء " 1. وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " جف القلم بما أنت لاق " 2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " 3.
وهذا الأصل هو أحد الأصول الستة التي في حديث جبريل لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره
__________
1 البخاري: التوحيد (7418) , وأحمد (4/431) .
2 البخاري: النكاح (5076) , ومسلم: النكاح (1404) , وأحمد (1/420) .
3 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/169) .(1/216)
وشره " 1.
وهذا أجمع عليه أهل السنة والجماعة. ولم يخالف في ذلك إلا مجوس هذه الأمة القدرية، فأنكروا أن يكون الله قدر أفعال العباد، أو شاء وقوعها منهم، وزعموا أن الأمر أنف، أي مستأنف، وزعموا أن الله لا يقدر يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإنما ذلك إلى العباد. وقد خرجوا في أواخر عهد الصحابة، وتبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب لما خرجوا في زمانه، وأنكر مذهبهم وعقيدتهم، وكذلك غيره من الصحابة، والقصة في ذلك محررة في صحيح مسلم. وأول من قال هذا القول معبد الجهني بالبصرة.
والله سبحانه يخلق ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو الحكم العدل، الذي تنَزه عن الظلم والفحش، كما قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] . وقال:} وماربك بظلام للعبيد { [سورة فصلت آية: 46] . وقال تعالى في أهل النار: {وَمَاظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [سورة الزخرف آية: 76] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْما} [سورة طه آية: 112] ، وفي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الإلهي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يرويه عن ربه قال: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " 2 الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها، فأجاب بما شفى وكفى، فروى مسلم في صحيحه عن عمران بن
__________
1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/28 ,1/51) .
2 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160) .(1/217)
حصين رضي الله عنه: " أن رجلا من جهينة، أو مزينة، قال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه؟ أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ قال: بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم " 1. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ} [سورة الشمس آية: 7-8] . وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، والله أعلم.
فصل: (هل القدر في الخير والشر على العموم جميعا من الله)
وأما قولكم: هل القدر في الخير والشر على العموم جميعا من الله، أم لا؟
فنقول: القدر في الخير والشر على العموم، كما تقدم ذكره عن علي رضي الله عنه قال: " كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، فقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال: فقال رجل، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
__________
1 مسلم: القدر (2650) , وأحمد (4/438) .(1/218)
وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [سورة الليل آية: 5-6-7-8-9-10] ".
وفي الحديث " اعملوا فكل ميسر، أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} 1 الآيتين " والله أعلم.
(عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب في العمل في العبادة)
وسئل أيضا ابنا الشيخ محمد، حسين وعبد الله، عن عقيدة الشيخ في العمل في العبادة.
فأجابا: عقيدة الشيخ - رحمه الله تعالى - التي يدين الله بها، هي عقيدتنا وديننا الذي ندين الله به، وهو عقيدة سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض أقوال العلماء على ذلك، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله.
وهذا هو الأصل الذي أوصانا الله به في كتابه، حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59] . أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة، ليس هذا موضع بسطها.
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4949) , ومسلم: القدر (2647) , والترمذي: تفسير القرآن (3344) .(1/219)
وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثا يخالف مذهبه فاتبع الدليل وترك مذهبه، كان هذا مستحبا، بل واجبا عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون مخالفا لإمامه الذي اتبعه؛ فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام مالك رحمه الله: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي - رحمه الله - لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك ; لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جدا مبسوط في غير هذا الموضع.
وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو أنه يجوز العمل به، لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم ;(1/220)
ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة ; وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها، قديما وحديثا. والذي ننكر هو التعصب للمذهب، وترك اتباع الدليل، إذا تبين هذا، فهذا الذي أنكرناه، وأنكره العلماء في القديم والحديث، والله أعلم.(1/221)
(رسالة الشيخ عبد الله آل الشيخ عندما دخلوا مكة، وبيان ما يطلبون من الناس ويقاتلونهم عليه)
وقال أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فإنا معاشر غزو الموحدين، لما منّ الله علينا - وله الحمد - بدخول مكة المشرفة نصف النهار، يوم السبت، في ثامن شهر محرم الحرام، سنة 1218 هـ، بعد أن طلب أشراف مكة، وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو "سعود" الأمان، وقد كانوا تواطؤوا مع أمراء الحجيج، وأمير مكة على قتاله، أو الإقامة في الحرم، ليصدوه عن البيت. فلما زحفت أجناد الموحدين، ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة. وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين. ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون، متأدبون، لم يعضدوا به شجرا، ولم ينفروا صيدا، ولم يريقوا دما إلا دم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع.(1/222)
ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير - رحمه الله - على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه، وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وحده. وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين: أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه.
فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء؛ ونقرر لهم حال اجتماعهم، وحال انفرادهم لدينا أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق.
وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم، بأنا قابلون ما وضحوا برهانه، من كتاب، أو سنة، أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم، بقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي "، أو عن الأئمة الأربعة المجتهدين، ومن تلقى العلم عنهم، إلى آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين(1/223)
يلونهم " 1. وعرفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح ; ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا. فلم ينقموا علينا أمرا، فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات، إن بقي لديهم شبهة، فذكر بعضهم شبهة، أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة، من الكتاب، والسنة، حتى أذعنوا. ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي، الذي لا غبار عليه.
وحلفوا لنا الأيمان المغلظة، من دون استحلاف لهم، على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم أنه لم يبق لديهم شك، في أن من قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين، طالبا بذلك دفع شر، أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، من شفاء المريض، والنصر على العدو، والحفظ من المكروه، ونحو ذلك، أنه مشرك شركا أكبر، يهدر دمه، ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون، هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، متشفعا بهم، ومتقربا بهم، لتقضى حاجته من الله بسرهم، وشفاعتهم له فيها، أيام البرزخ.
وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين صارت في هذه الأزمان أصناما تقصد لطلب الحاجات، ويتضرع
__________
1 البخاري: الشهادات (2651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأحمد (4/427 ,4/436) .(1/224)
عندها، ويهتف بأهلها في الشدائد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى. وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القلعي، وحسين المغربي مفتي المالكية، وعقيل بن يحيى العلوي ; فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ويرجى النفع والنصر بسببه، من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد. فالحمد لله على ذلك. ثم رفعت المكوس، والرسوم، وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين، والمشهورين بالفجور، ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة، رضوان الله عليهم. واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة، وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين.
ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد المتضمنة للبراهين، وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة، مما يثلج الصدر ; واختصر من ذلك رسالة 1 مختصرة للعوام، تنشر في مجالسهم،
__________
1 وهي قوله: اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم إلى آخرها وتقدمت, انظر ص 126 وص 146.(1/225)
وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها، ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة، فيتضح لهم الشرك، فينفروا عنه، وهم على بصيرة آمنين.
وكان فيمن حضر مع علماء مكة، وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له.
فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين، مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافا لمن قال طريق الخلف أعلم.
وهي أنا نقر آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى ; فإن مالكا - وهو من أجل علماء السلف - لما سئل عن الاستواء، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد، فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلا، والعقاب(1/226)
عدلا، ولا يجب على الله لعبده شيء ; وأنه يراه المؤمنون في الآخرة، بلا كيف ولا إحاطة.
ونحن أيضا في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.
ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا. ولا(1/227)
مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه.
ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم، وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين: كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير.
ونحرص على كتب الحديث، خصوصا: الأمهات الست، وشروحها، ونعتني بسائر الكتب، في سائر الفنون، أصولا، وفروعا، وقواعد، وسيرا، ونحوا، وصرفا، وجميع علوم الأمة. ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلا، إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، كروض الرياحين، أو يحصل بسببه خلل في العقائد، كعلم المنطق، فإنه قد حرمه جمع من العلماء، على أنا لا نفحص عن مثل ذلك، وكالدلائل، إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا، أتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو، في إتلاف بعض كتب أهل الطائف، إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك.(1/228)
ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.
وأما ما يكذب علينا - سترا للحق، وتلبيسا على الخلق - بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى أنزل عليه {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه.
ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركا، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وإنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأن من دان بما نحن عليه، سقطت عنه جميع التبعات، حتى الديون، وأنا لا نرى حقا لأهل البيت - رضوان الله عليهم -، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة، لتنكح شابا، إذا ترافعوا إلينا، فلا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات. وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولا، كان(1/229)
جوابنا في كل مسألة من ذلك: سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئا من ذلك، أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى.
ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعا أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيرا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك، الذي نص الله عليه، بأن الله لا يغفره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . فإنا نعتقد أن من فعل أنواعا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق، والزنى، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك؛ أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدا بجميع أنواع العبادة.
والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره، حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنْزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، إذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه - عليه الصلاة والسلام - الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفي همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه.(1/230)
ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية؛ إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات؛ بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم ; فقد جاء في الحديث: " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه " 1 الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر، وعليا، بسؤال الاستغفار من "أويس"، ففعلا.
ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضا، ونسألها من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين، الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد، بأن يقول أحدنا - متضرعا إلى الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك، مما يطلب من الله، لا منهم؛ فلا يقال: يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو اشفني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ، كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة، ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد الكتاب، والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه
__________
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2733) , وابن ماجه: المناسك (2895) , وأحمد (5/195 ,6/452) .(1/231)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: ما نقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟
قلت: ننظر إلى حال المقسم، إن قصد به التعظيم كتعظيم الله أو أشد، كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا، إذا استحلف بشيخه، أي معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه، لا يرضى أن يحلف إذا كان كاذبا أو شاكا، وإذا استحلف بالله فقط رضي، فهو كافر من أقبح المشركين، وأجهلهم إجماعا. وإن لم يقصد التعظيم، بل سبق لسانه إليه، فهذا ليس بشرك أكبر، فينهى عنه ويزجر، ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن تلك الهفوة.
وأما التوسل، وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة، ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان.
وأما أهل البيت: فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت- رضوان الله عليهم- لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم(1/232)
والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم.
وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه، وصارمه، أو ضاربه، أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص، ولا دل عليه دليل، بل منكر تجب إزالته ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر، أو لمشيخة علم، أو في بعض أوقات، أو لطول غيبة، فلا بأس به، إلا أنه لما ألف في الجاهلية الأخرى أن التقبيل صار علما لمن يعتقد فيه، أو في أسلافه، أو عادة المتكبرين من غيرهم، نهينا عنه مطلقا، لا سيما لمن ذكر، حسما لذرائع الشرك ما أمكن.
وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء، حسما لتلك المادة، وتنفيرا عن الإشراك بالله ما أمكن، لعظم شأنه؛ فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية [سورة الروم آية: 28] . وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي فجائز إجماعا، بل(1/233)
ولا كراهة في ذلك ; وقد زوج علي عمر بن الخطاب، وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي، بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار، إلا أنا لا نجبر أحدا على تزويج موليته، ما لم تطلب هي، وتمتنع من غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض ; فما اعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر، وطلب التعظيم ; وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير، كما ورد؛ بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد - وهو من الموالي - زينب أم المؤمنين، وهي قرشية، والمسألة معروفة عند أهل المذاهب، انتهى.
فإن قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم، في أن من قال: يا رسول الله، أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة، ولا سيما المتأخرين، لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك مندوب، وشنوا الغارة على من خالف في ذلك! قلت: لا يلزم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة، وإن قلنا بجهة العلو، كما ورد الحديث بذلك.
ونحن نقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت، ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا، كغالب من نقاتلهم اليوم، يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل(1/234)
الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات ; وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذكر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله، ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعا، ومن شن الغارة فقط غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه، كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر، وفي غير ذلك، يعرف ذلك في سيرته، بل غلط الصحابة وهم جمع، ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره، فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة؛ بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من(1/235)
شاء الله منهم.
هذا وقد رأى معاوية وأصحابه - رضي الله عنهم - منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتاله، ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعا، بل ولا تفسيقه، بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين، كما أن ذلك مشهور عند أهل السنة.
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتآليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر، وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين.
هذا ما نحن عليه، مخاطبين من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال، وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا، أو غير حق، فقلد من قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}(1/236)
[سورة الزخرف آية: 23] ،
عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف، حتى يستقيم أوده، ويصح معوجه. وجنود التوحيد - بحمد الله - منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] ، و: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة المائدة آية: 56] . وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، و {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] ، و {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] .
هذا ومما نحن عليه أن البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقا، خلافا لمن قال حسنة، وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا إن أمكن الجمع ; بأن يقال: الحسنة ما عليه السلف الصالح شاملة للواجبة، والمندوبة، والمباحة ; ويكون تسميتها بدعة مجازا، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة، والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع.
فمن البدع المذمومة التي ننهى عنها: رفع الصوت في مواضع الأذان بغير الأذان، سواء كان آيات، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكرا غير ذلك بعد أذان، أو في ليلة الجمعة، أو رمضان، أو العيدين، فكل ذلك بدعة مذمومة. وقد أبطلنا ما كان مألوفا بمكة، من التذكير، والترحيم، ونحوه، واعترف علماء المذاهب أنه بدعة ; ومنها: قراءة(1/237)
الحديث عن أبي هريرة بين يدي خطبة الجمعة، فقد صرح شارح الجامع الصغير بأنه بدعة. ومنها: الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف، اعتقادا أنه قربة مخصوصة مطلوبة، دون علم السير، فإن ذلك لم يرد.
ومنها: اتخاذ المسابح، فإنا ننهى عن التظاهر باتخاذها. ومنها: الاجتماع على رواتب المشايخ برفع الصوت، وقراءة الفواتح، والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان، وراتب الحداد، ونحوهما، بل قد يشتمل ما ذكر على شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فإن سلموا من أرشدوا إلى أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة، بل بدعة، فذاك ; فإن أبوا، عزرهم الحاكم بما يراه رادعا. وأما أحزاب العلماء المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها، والمواظبة عليها، فإن الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، مطلوب شرعا؛ والمعتني به مثاب مأجور، فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثوابا، لكن على الوجه المشروع، من دون تنطع، ولا تغيير، ولا تحريف، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . ولله در النووي في جمعه كتاب الأذكار، فعلى الحريص على ذلك به، ففيه الكفاية للموفق. ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد، من قراءة مولد(1/238)
النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد بألحان، وتخلط بالصلاة عليه، وبالأذكار والقراءة، ويكون بعد صلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة أن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك ; وأما صلاة التراويح فسنة، لا بأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها.
ومنها: ما اعتيد في بعض البلاد، من صلاة الخمسة الفروض، بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعا؛ فيزجرون عن ذلك أشد الزجر. ومنها رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت، أو عند رش القبر بالماء، وغير ذلك مما لم يرد عن السلف. وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتابا نفيسا سماه: " الحوادث والبدع "، واختصره أبو شامة المقدسي فعلى المعتني بدينه بتحصيله.
وإنما ننهى عن البدع المتخذة دينا وقربة ; وأما ما لا يتخذ دينا وقربة، كالقهوة، وإنشاء قصائد الغزل، ومدح الملوك، فلا ننهى عنه، ما لم يخلط بغيره إما ذكر أو اعتكاف في مسجد، ويعتقد أنه قربة، لأن حسان رد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر.
ويحل كل لعب مباح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم. ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث(1/239)
الحماسة فيه، كطبل الحرب، دون آلات الملاهي، فإنها محرمة ; والفرق ظاهر ; ولا بأس بدف العرس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالحنيفية السمحة " 1 وقال: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " 2.
هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه إماما حق من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها: طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فإنا نقول به تبعا للأئمة الأربعة، ونرى الوقف صحيحا، والنذر جائزا، ويجب الوفاء به في غير المعصية.
ومن البدع المنهي عنها قراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات الخمس، والإطراء في مدحهم، والتوسل بهم على الوجه المعتاد في كثير من البلاد، وبعد مجامع العبادات، معتقدين أن ذلك من أكمل القرب، وهو ربما جر إلى الشرك من حيث لا يشعر الإنسان، فإن الإنسان يحصل منه الشرك من دون شعور به، لخفائه، ولولا ذلك لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه بقوله: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، إنك أنت علام الغيوب ". وينبغي المحافظة على هذه الكلمات، والتحرز عن الشرك ما أمكن،
فإن عمر بن الخطاب قال: " إنما تنقض عرى
__________
1 أحمد (5/266) .
2 أحمد (6/116) .(1/240)
الإسلام عروة عروة إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية "، أو كما قال ; وذلك لأنه يفعل الشرك ويعتقد أنه قربة، نعوذ بالله من الخذلان، وزوال الإيمان. هذا ما حضرني حال المراجعة مع المذكور، مدة تردده، وهو يطالبني كل حين بنقل ذلك وتحريره، فلما ألح علي نقلت له هذا من دون مراجعة كتاب، وأنا في غاية الاشتغال بما هو أهم من أمر الغزو، فمن أراد تحقيق ما نحن عليه، فليقدم علينا الدرعية، فسيرى ما يسر خاطره، ويقر ناظره، من الدروس في فنون العلم، خصوصا التفسير، والحديث، ويرى ما يبهره بحمد الله وعونه، من إقامة شعائر الدين، والرفق بالضعفاء والوفود والمساكين.
ولا ننكر الطريقة الصوفية، وتنْزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي، والمنهج القويم المرعي، إلا أنا لا نتكلف له تأويلات في كلامه، ولا في أفعاله، ولا نعول، ونستعين، ونستنصر، ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(1/241)
(جواب الشيخ عبد الله آل الشيخ للصنعاني في بيان عقيدتهم)
وسئل أيضا عما يدينون به، ويعتقدونه، فقال رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام التام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني، وفقه الله وهداه، وجنبه الإشراك والبدعة وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فوصل الخط، وتضمن السؤال فيه عما نحن عليه من الدين، فنقول وبالله التوفيق: الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي، حبيب الله، وصفيه من خلقه، محمد صلى الله عليه وسلم. فأما عبادة الله، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
فمن أنواع العبادة الدعاء، وهو الطلب بياء النداء، لأنه ينادي به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة، أو بأحد أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس، فأمر تعالى عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، فقال(1/242)
تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] . وقال في النهي: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وأحدا: كلمة تصدق على كل ما دعي مع الله تعالى. وقد روى الترمذي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " 1، وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ،" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث: " الدعاء مخ العبادة " 2 قال شيخنا: قال في النهاية: مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين:
أحدهما: أنه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، فهو مخ العبادة، وهو خالصها.
الثاني: أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله، قطع أمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده، ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء، وقوله: الدعاء هو العبادة، قال شيخنا: قال الطيبي: أتى بالخبر المعرف باللام، ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء، انتهى كلام العلقمي.
إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات: لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور
__________
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: الدعوات (3371) .(1/243)
كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] ، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} الآيات [سورة يونس آية: 106] .
وهذا من معنى لا إله إلا الله، فإن " لا " هذه النافية للجنس، فنفى جميع الآلهة. "وإلا" حرف استثناء، يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل. و" الإله " اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى؛ وهو الذي يخلق ويرزق، ويدبر الأمور، وهو الذي يستحق الإلهية وحده. والتأله: التعبد، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] ؛ ثم ذكر الدليل، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة البقرة آية: 164] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية [سورة البقرة آية: 165] .
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته: متابعته في الاعتقادات، والأقوال، والأفعال ; قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] .(1/244)
وقال صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1 رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية لمسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائنا من كان؛ فإن شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به، وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به.
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى، قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " 3. فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وما عليه الأئمة المقتدى بهم، من أهل الحديث، والفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، رضي الله عنهم أجمعين، لكي تتبع آثارهم.
وأما مذهبنا: فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة، ولا إجماع الأمة، ولا قول جمهورها. والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين، وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها، بخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول فيها، نخلع جميع البدع، إلا بدعة لها أصل في الشرع، كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة
__________
1 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) .
2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) .
3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) , وأحمد (2/361) .(1/245)
على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس، ونحو ذلك، فهذا حسن والله أعلم.
(هل الرسول أمر معاوية ويزيد أن يحاربا علي بن أبي طالب)
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن محمد، رحمه الله: هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر معاوية، ويزيد، وبني أمية، وبني العباس أن يحاربوا علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين عليهم السلام، ويقتلوهم، ويحبسوهم، ويلوا عليهم الخلافة وينقلوهم؟ ! وهل ذلك منهم طاعة لله ورسوله أو معصية؟! وهل ذلك يرضي الله أم يغضبه، ورسوله قال يوم غدير خم: " اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه " 1 الحديث، وقال: " أنا مدينة العلم، وعلي بابها "2 و " علي مني بمنْزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " 3، وقال: " أهل بيتي كسفينة نوح "؟ ! فأجاب: هذا سؤال متعنت، لا مسترشد، وجوابنا في ذلك أن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة آية: 134] . وفصل القضاء في ذلك إلى الله تبارك وتعالى، ليس إلى أحد من خلقه، ونحن نعتقد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أولى بالخلافة من معاوية، فضلا عن بني أمية، وبني العباس. والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، صح عن جدهما صلوات الله وسلامه عليه: " أنهما سيدا شباب أهل الجنة " 4، وهم أولى من يزيد بالخلافة، وبني أمية، وبني العباس الذين تولوا الخلافة.
__________
1 الترمذي: المناقب (3713) , وأحمد (1/118 ,4/368) .
2 الترمذي: المناقب (3723) .
3 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115) , وأحمد (1/173 ,1/174 ,1/175) .
4 الترمذي: المناقب (3768) .(1/246)
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو إذ ذاك صغير: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " 1، فمدحه على فعله بالإصلاح بين المسلمين، وترك الخلافة لمعاوية. ومن العجب أن الرافضة، والزيدية، يزعمون عصمته من الخطأ والزلل، وهو الذي تركها بنفسه بلا إكراه ومعه وجوه الناس وشجعانهم أكثر من ثلاثين ألفا قد بايعوه على الموت، فترك الخلافة لمعاوية مع ذلك، حقنا لدماء المسلمين، ورغبة فيما أعد الله للمؤمنين، وزهدا في الدنيا الفانية، فأخبرونا: هل هو رضي الله عنه مصيب في ذلك، أم مخطئ؟ فإن قلتم: هو مخطئ، بطل قولكم بالعصمة، واستدلالكم بالآية الشريفة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 2 الآية على العصمة، لأن الحسن من أهل الكساء، بالإجماع.
وإن قلتم: هو مصيب، فقد أصبتم، وكذلك نحن نقول: هو مصيب فيما فعله، وفعله أحب إلى الله ورسوله، من القتال على الملك، كما قال رضي الله عنه لبعض الشيعة، لما قالوا له: السلام عليك يا مذل المؤمنين،
__________
1 البخاري: الصلح (2704) , والترمذي: المناقب (3773) , والنسائي: الجمعة (1410) , وأبو داود: السنة (4662) , وأحمد (5/37 ,5/44 ,5/49) .
2 الآية, سيأتي الكلام عليها في الجزء العاشر, في تفسير آيات من القرآن, إن شاء الله تعالى.(1/247)
"قال: لست بمذل المؤمنين، ولكن كرهت أن أفتنكم على الملك " وفي رواية أنه قال: " اخترت العار على النار " كما ذكر ذلك أهل التواريخ، وهو أيضا مبطل قولكم في كفر معاويه، وسبه، ولعنه، فثبت بما ذكرنا بطلان قول الشيعة، ولله الحمد والمنة.
وأما حديث: "غدير خم" فهو حديث صحيح، وليس فيه تصريح بأن عليا خليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا فهم ذلك علي، ولا أهل بيته من الحديث، لأنه ثبت عنه رضي الله عنه بالأسانيد الصحيحة، عن جماعة من أصحابه وأهل بيته، أنه قال للناس في خلافته، وهو على المنبر: (ألا أخبركم بخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر: عمر) ، وثبت عنه أيضا: " لو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخا بني تيم، وأخا بني عدي ; ولقاتلتهما بسيفين "، أو كما قال رضي الله عنه.
وأما قوله: " أنا مدينة العلم، وعلي بابها " 1 فلا نعرف ذلك في دواوين العلم المعتمدة، بل هو عند أهل العلم بالحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: " علي مني بمنْزلة هارون من موسى " 2 فهو حديث صحيح، أخرجه مسلم وغيره، وليس فيه تصريح بأنه خليفة بعد موته، ولا فهمه أمير المؤمنين من الحديث، كما فهمه جهال الرافضة والزيدية ; وأما قوله: " أهل بيتي مثل سفينة نوح " فهذا أيضا حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له أهل الحديث إسنادا
__________
1 الترمذي: المناقب (3723) .
2 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115) , وأحمد (1/173 ,1/174 ,1/175) .(1/248)
صحيحا فيما بلغنا عنهم، والله أعلم.
(المؤمنون الذين أمر الله باتباع سبيلهم)
وسئل أيضا عن قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة النساء آية: 115] : من هم المؤمنون الذين أمر الله باتباع سبيلهم؟ فإن قلتم: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار سيرتهم، فنسألكم: هل كان علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، والصادق، والباقر، والنفس الزكية، وحسن بن الحسن، وأمثالهم من ذرية علي وفاطمة رضي الله عنهم هم من المؤمنين الذين أنكر الله على من خالف سبيلهم؟ أم لا؟
فأجاب: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، من ساداتهم، وكذلك طلحة، والزبير رضي الله عنهما، ومن معهما من أهل بدر، وكذلك معاوية بن أبي سفيان، ومن معه من أهل الشام، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، فنتولى الجميع، ونكف عما شجر بينهم، وندعو لهم بالمغفرة، كما أمرنا الله بذلك بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} [سورة الحشر آية: 10] ونقول كما قال بعض العلماء:
إن كان نصبا حب صحب محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي
ونقول لمن أمر بمعاداة أهل البيت وبغضهم والتبري منهم، ما قاله بعض العلماء:(1/249)
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وأما قولكم: إنا ننكر علم أهل البيت، وأقوالهم، ومذاهبهم، ومذهب الزيدي، زيد بن علي بن الحسن، بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، على علم جده رضي الله عنه فهذا كذب وبهتان علينا؛ بل زيد بن علي عندنا، من علماء هذه الأمة، فما وافق من أقواله الكتاب والسنة قبلناه، وما خالف ذلك رددناه، كما نفعل ذلك مع أقوال غيره من الأئمة، هذا إذا صح النقل عنه بذلك. وأكثر ما ينسب إليه، ويروى عنه، كذب وباطل عليه، كما يكذب أعداء الله الرافضة على علي رضي الله عنه وأهل بيته، ويروون عنهم أقوالا وأحاديث مخالفة للشريعة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما ثبت عن العلماء من أقوالهم الصحيحة، الثابتة عنهم بنقل الثقات.
(قول الشيخ عبد الله آل الشيخ عن مذهب الزيدي)
وسئل أيضا عن مذهب الزيدي،
فأجاب: مذهب الزيدي الصحيح منه، ما وافق الكتاب والسنة، وما خالفه فهو باطل، لا مذهب الزيدي، ولا غيره من المذاهب.
(معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام يؤتى بالموت على صورة كبش)
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، عن قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يؤتى بالموت على صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة خلود في النعيم بلا انقضاء، ويا أهل النار خلود في الجحيم بلا انتهاء " 1. ومعلوم أن الموت عدم الروح التي بها حركة الجسد، وهذا شيء معنوي، فإن
__________
1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/118) .(1/250)
الذبح لا يحصل إلا في الأعيان الجسمانية ذات الأرواح، فإذا كان يؤتى به على صورة كبش، كما ذكره الشارع، كيف كان صورته من قبل؟ وهل تحدث له روح عند ذلك؟
فأجاب: الذي ينبغي للمؤمن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الأمور الغائبة، وإن لم يعلم كيفية ذلك، كما مدح سبحانه المؤمنين بذلك، بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ َالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 3-5] .
وقد مدح الله سبحانه أهل العلم بأنهم يقولون في المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما علمتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه " 1 إذا علمت ذلك فاعلم أن شراح الحديث ذكروا فيه أقوالا الله أعلم بصحتها; قال في فتح الباري لابن حجر العسقلاني: قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت " 2، وفي رواية: " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح " 3.
وذكر مقاتل، والكلبي في تفسيرهما، في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [سورة الملك آية: 2] . قال: خلق الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا تمر على أحد إلا حيي ;
__________
1 أحمد (2/181) .
2 البخاري: الرقاق (6548) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/118 ,2/120) .
3 البخاري: تفسير القرآن (4730) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2849) , والترمذي: صفة الجنة (2558) , وأحمد (3/9) .(1/251)
قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا، الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء به كما فدي ولد إبراهيم بالكبش وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة، والنار، لأن الأملح ما فيه بياض وسواد.
ثم قال ابن حجر: قال القاضي أبو بكر ابن العربي: استشكل هذا الحديث، فأنكرت صحته طائفة، ودفعته، وتأولته طائفة، فقالوا: هذا تمثيل، ولا ذبح هناك حقيقة، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه، لأنه الذي تولى قبض أرواحهم.
قلت: وارتضى هذا بعض المتأخرين، وحمل قوله: هو الموت الذي وكل بنا، على أن المراد به ملك الموت، لأنه هو الذي وكل بهم في الدنيا، واستشهد له من حيث المعنى: بأن ملك الموت لو استمر حيا لنغص عيش أهل الجنة، وأيده بقوله في حديث الباب: " فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم " 1 انتهى، قلت: ويكفي المؤمن اللبيب الإيمان بالله ورسوله فيما لا يتبين له حقيقة معناه، وظاهر الحديث بين لا إشكال فيه، عند من نور الله قلبه بالإيمان، وشرح صدره بالإسلام.
__________
1 البخاري: الرقاق (6548) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) , وأحمد (2/118 ,2/120) .(1/252)
(معنى حديث: (ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا)
وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن قوله صلى الله عليه وسلم " ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا " 1، والإجماع منعقد على أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر، وإذا قيل إنهم معصومون، فما بال أولاد يعقوب، ومعلوم بالضرورة أنهم أنبياء، وحال آدم حين قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه آية: 121] ، وكذلك داود مع قوله عليه السلام: " كلنا خطاؤون ".
فذكر الجواب من وجوه.
الوجه الأول: أن لفظ الحديث المروي في ذلك: " ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا وقد أذنب إلا يحيى بن زكريا " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً} [سورة مريم آية: 14] ، قال: كان ابن المسيب يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:.. فذكره، وهذا مرسل، لكن أصح المراسيل عند أهل الحديث مرسل سعيد بن المسيب ; لكن أخرج أحمد في مسنده، عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى " 2.
الوجه الثاني: أن الذي عليه المحققون من العلماء، من الحنابلة، والشافعية، والمالكية، والحنفية:
__________
1 أحمد (1/254) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4603) , وأحمد (1/390 ,1/440 ,1/443) .(1/253)
أن الأنبياء معصومون من الكبائر، وأما الصغائر فقد تقع منهم، لكنهم لا يقرون عليها، بل يتوبون منها، ويحصل لهم بالتوبة منها أعظم مما كان قبل ذلك ; وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أنهم معصومون في تبليغ الرسالة، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين.
قال: شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، رحمه الله تعالى، في كتاب منهاج السنة النبوية، في نقض كلام الشيعة والقدرية: واتفق المسلمون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فكل ما يبلغون عن الله من الأمر والنهي، فهم مطاعون فيه باتفاق المسلمين، وما أمروا به ونهوا عنه، فهم مطاعون فيه، عند جميع فرق الأمة إلا عند طائفة من الخوارج: أن النبي معصوم فيما يبلغه عن الله، لا فيما يأمر به وينهى عنه؛ وهؤلاء ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة. وأكثر الناس، أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر ; والجمهور يجوزون الصغائر، يقولون: إنهم لا يقرون عليها، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنْزلة، أعظم مما كان قبل ذلك، انتهى كلامه.
فتبين بما ذكرنا وهم السائل، وخطؤه في نقل الإجماع على أنهم معصومون من الكبائر والصغائر، ولعله قد غره كلام بعض المتأخرين الذين يقولون بذلك، أو يقلدون من يقوله من أئمة الكلام، الذين لا يحققون مذهب(1/254)
أهل السنة والجماعة، ولا يميزون بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، والباطلة، كيف والقرآن محشو من الدلائل، على وقوع الذنوب منهم؟ ! كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سورة طه آية: 121] ، وقوله عن موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [سورة القصص آية: 16] ، وقول يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 87] ، وقول نوح عليه السلام: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة هود آية: 47] ، وقوله عن آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا} الآية [سورة الأعراف آية: 23] ، وقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [سورة الشعراء آية: 82] ، وقوله عن داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} الآية [سورة ص آية: 24] ، وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة الأعراف آية: 151] ، وقوله عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة محمد آية: 19] ، وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية [سورة الفتح آية: 2] .
وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو، يقول: " رب اغفر لي ذنبي كله، دقه، وجله، وأوله، وآخره، وسره، وعلانيته " 1، وقوله: " اللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي ". وأشباه ذلك كثير، والله أعلم.
__________
1 مسلم: الصلاة (483) , وأبو داود: الصلاة (878) .(1/255)
(سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان)
وسئل أيضا عبد الله بن الشيخ محمد عن حديث جبريل وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان.
فأجاب: فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال الظاهرة ; وهي: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي أعمال القلب، فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، خيره وشره، فهذه ستة أصول الإيمان، نسأل الله أن يرزقنا فهمها، والعمل بمقتضاها.
وفسر الإحسان بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " 1 ففسره بأن تعبد الله كأنك تشاهده، فإن لم تكن تشاهده فهو يراك، لا يخفى عليه منك شيء، حتى ما توسوس به نفسك ; والإحسان: أعلى المراتب العالية، وبعده في المرتبة والفضيلة: الإيمان بالله، وبعده في المرتبة والفضيلة: الإسلام، وكل واحد منهما يتضمن الآخر، مع الإطلاق، وإذا قرن بينهما في آية أو حديث، فسره أهل العلم بما ذكرنا.
__________
1 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) .(1/256)
(حكم فعل الفقراء)
سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى عن فعل الفقراء 1؟
فأجاب: هو بدعة، لأنه عمل لم يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله الصحابة، ولا التابعون، بل قد ورد النهي عن ذلك في أحاديث كثيرة ; فمن ذلك: ما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2، وفي لفظ " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 3، وفي حديث العرباض بن سارية أنه صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ". فعمل الفقراء محدث، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه أمره، فهو بدعة ضلالة.
وأيضا، فهو قول أهل العلم، أعني النهي عن جميع المحدثات في الدين.
__________
1 انظر ص 390 - 395 لتعرفهم وشيئا من أفعالهم.
2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) .
3 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) .(1/257)
(رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى بلدان العجم والروم)
وقال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل بلدان العجم والروم، أما بعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، ونسأله أن يصلي ويسلم على حبيبه من خلقه، وخليله من عبيده، وخيرته من بريته، محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التحيات، وعلى إخوانه من المرسلين، وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاما دائمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
ثم نخبركم أن محمدا خلفا النواب، ألفى علينا مع الحاج، وأقام عندنا مدة طويلة، وأشرف على ما نحن عليه من الدين، وما ندعو إليه الناس، وما نقاتلهم عليه، وما نأمرهم به، وما ننهاهم عنه، وحقائق ما عندنا يخبركم به أخونا محمد من الرأس ; ونحن نذكر لكم ذلك، على سبيل الإجمال.
أما الذي نحن عليه، وهو الذي ندعو إليه من خالفنا: أنا نعتقد أن العبادة حق لله على عبيده، وليس لأحد من عبيده(1/258)
في ذلك شيء، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل ; فلا يجوز لأحد: أن يدعو غير الله، لجلب نفع، أو دفع ضر، وإن كان نبيا أو رسولا، أو ملكا، أو وليا، وذلك أن الله تبارك وتعالى، يقول في كتابه العزيز: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21-22] ، وقال عز من قائل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الاحقاف آية: 5-6] ، وقال عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
ولا يجوز لأحد يتوكل على غير الله، ولا يستعيذ بغير الله، ولا ينذر لغير الله، تقربا إليه بذلك، ولا يذبح لغير الله، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] .(1/259)
وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة آية: 162-163] ، وقال عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 122] .
فإن قال قائل: أتوسل بالصالحين، وأدعوهم، أريد شفاعتهم عند الله؛ وقد يحتج على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ؛ قيل له: الوسيلة المأمور بها هي الأعمال الصالحة، وبذلك فسرها جميع المفسرين من الصحابة فمن بعدهم ; أو يتوسل إلى الله بعمله الصالح، كما قال عز وجل إخبارا عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران آية: 16] ، وقال عنهم في آخر السورة: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [سورة آل عمران آية: 193] ، وكما في حديث الثلاثة، الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم.
وأما دعوة غير الله، والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، لكشف الشدائد، أو جلب الفوائد، فهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه، وإن كان الداعي غير الله إنما يريد شفاعتهم عند الله، وذلك لأن الكفار، مشركي العرب،(1/260)
وغيرهم، إنما أرادوا ذلك، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، ولم يقولوا: إنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت؛ وإنما كانوا يعبدون آلهتهم، ويعبدون تماثيلهم، ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده ; فبعث الله رسله، وأنزل كتبه ينهى أن يدعى أحد غيره ولا من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة.
وهذا هو دين جميع الرسل، لم يختلفوا فيه كما اختلفت شرائعهم في غيره، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وهو معنى لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو المعبود بحق أو باطل، فمن عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص الدعوة كلها لله، وأخلص التوكل على الله، وأخلص الذبح لله، وأخلص النذر لله، فقد وحد الله بالعبادة، وجعل الله إلهه دون ما سواه.
ومن أشرك مع الله إلها غيره في الدعوة، أو في(1/261)
الاستغاثة، أو في التوكل، أو في الذبح، أو في النذر، فقد اتخذ مع الله إلها آخر، وعبد معه غيره، وهو أعظم الذنوب إثما عند الله، كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1 الحديث. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وهذا هو سبب عداوة الناس لنا، وبغضهم إيانا، لما أخلصنا العبادة لله وحده، ونهينا عن دعوة غير الله، ولوازمها من البدع المضلة، والمنكرات اللغوية، فلأجل ذلك رمونا بالعظائم، وحاربونا، ونقلونا عند السلاطين والحكام، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وذلك سنة الله وعادته مع المرسلين، وأتباعهم إلى يوم القيامة. قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [سورة غافر آية: 51] ، وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173] ، وقال عن موسى صلاة الله وسلامه عليه أنه قال لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف آية: 128] ، وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 103] ، وقال
__________
1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/434 ,1/464) .(1/262)
تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] .
ونأمر جميع رعايانا: باتباع كتاب الله، وسنة رسوله، وإقام الصلاة في أوقاتها، والمحافظة عليها، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، من استطاع إليه سبيلا، ونأمر بجميع ما أمر الله به ورسوله من العدل، وإنصاف الضعيف من القوي، ووفاء المكاييل والموازين، وإقامة حدود الله على الشريف والوضيع.
وننهى عن جميع ما نهى عنه الله ورسوله، من البدع والمنكرات، مثل الزنى، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وظلم الناس بعضهم بعضا، ونقاتل لقبول فرائض الله التي أجمعت عليها الأمة، فمن فعل ما فرض الله عليه فهو أخونا المسلم، وإن لم يعرفنا ونعرفه.
ونحن نعلم أنه يأتيكم أعداء لنا، يكذبون علينا عندكم، ويرموننا عندكم بالعظائم، حتى يقولوا: إنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، ويكفرون الناس بالعموم، وإنا نقول: إن الناس من نحو ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإنهم كفار، وإن من لم يهاجر إلينا فهو كافر، وأضعاف أضعاف ذلك من الزور، الذي يعلم العاقل أنه من الظلم، والعدوان، والبهتان.
ولكن لنا في رسول الله أسوة، فإن أعداءه قالوا: إنه يشتم عيسى وأمه، وسموه بالصابئي، والساحر، والمجنون.(1/263)
ونحن لا نكفر إلا من عرف التوحيد وسبه، وسماه دين الخوارج، وعرف الشرك وأحبه، وأهله، ودعى إليه، وحض الناس عليه بعدما قامت عليه الحجة، وإن لم يفعل الشرك، أو فعل الشرك، وسماه التوسل بالصالحين، بعدما عرف أن الله حرمه، أو كره بعض ما أنزل الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] ، أو استهزأ بالدين، أو القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65-66] ، قال العلماء في هذه الآية: الاستهزاء بالله كفر مستقل بالإجماع، والاستهزاء بالرسول كفر مستقل بالإجماع.
وهذه الأنواع التي ذكرنا أننا نكفر من فعلها قد أجمع العلماء كلهم من جميع أهل المذاهب على كفر من فعلها، وهذه كتب أهل العلم، من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، موجودة ولله الحمد والمنة، وصلى الله على نبينا محمد، وصحبه وسلم.(1/264)
(رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى أهل المخلاف السليماني يعرفهم بدين الإسلام)
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية.
أما بعد: فالموجب لهذه الرسالة أن الشريف أحمد قدم علينا فرأى ما نحن عليه، وتحقق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك التمس منا أن نكتب ما يزول به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه.
فاعلموا رحمكم الله تعالى: أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك، وأكبره، وزبدته إخلاص العبادة لله لا شريك له، والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله الخلق لأجله، ودل الكتاب على فضله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ(1/265)
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
وإخلاص الدين هو: صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له ; وذلك بأن لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يخشى ولا يرجى سواه، ولا يرهب ولا يرغب إلا فيما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه، وأن كل ما هنالك لله تعالى، لا يصلح منه شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما؛ وهذا هو بعينه توحيد الألوهية الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم عن الكافر ; وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فلما من الله علينا بمعرفة ذلك، وعرفنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس، من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إلى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلوات، وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام. وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب، من كتاب الله المجيد، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ(1/266)
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] .
فبين لنا أن الذي نحن عليه، وهو دين غالب الناس، من الاعتقادات في الصالحين وغيرهم، ودعوتهم، والتقرب بالذبح لهم، والنذر لهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وطلب الحاجات منهم أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية 48] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14] . والآيات في أن دعوة غير الله تعالى الشرك الأكبر كثيرة واضحة شهيرة.
فحين كشف لنا الأمر، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر، بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا، أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر، وأن الله إنما أمرنا أن ندعوه وحده لا شريك له، وذلك كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية:(1/267)
14] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة آية: 5-6] .
إذا عرفتم هذا، فاعلموا رحمكم الله تعالى أن الذي ندين الله به هو إخلاص العبادة لله وحده، ونفي الشرك، وإقام الصلاة في الجماعة، وغير ذلك من أركان الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ولا يخفى على ذوي البصائر والأفهام، والمتدبرين من الأنام أن هذا هو الدين الذي جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم. قال جل جلاله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 85] ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] .
فمن قبل ولزم العمل به، فهو حظه في الدنيا والآخرة، ونعم الحظ دين الإسلام، ومن أبى واستكبر، فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره وسناه، نهيناه عن ذلك، وقاتلناه، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . وقصدنا بإرسال هذه النصيحة إليكم القيام بواجب الدعوة، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] . وصلى الله على محمد.(1/268)
(رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى أحمد القاسمي وبيان مذهب أهل البيت)
وله أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود إلى جناب أحمد بن علي القاسمي، هداه الله، لما يحبه ويرضاه.
أما بعد: فقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما تضمنه من خطابك، وما ذكرت من أنه قد بلغكم أن جماعة من أصحابنا صاروا ينقمون على من هو متمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن مذهبه مذهب أهل البيت الشريف ; فليكن لديك معلوما أن المتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل البيت الشريف فهو لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولكن الشأن في تحقيق الدعوى بالعمل ; وهذه الأمة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 1. وجميع أهل البدع والضلال من هذه الأمة يدعون هذه الدعوى، كل طائفة تزعم أنها هي الناجية.
فالخوارج، والرافضة، الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، وكذلك الجهمية، والقدرية، وأضرابهم، كل فرقة من
__________
1 الترمذي: الإيمان (2641) .(1/269)
هذه الفرق تدعي أنها هي الناجية، وأنهم المتمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فصار في هذا تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم: " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة " 1.
وأما ما ذكرت من أن مذهب أهل البيت أقوى المذاهب، وأولاها بالاتباع، فليس لأهل البيت مذهبإلا اتباع الكتاب والسنة، كما صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له: " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة ... " الحديث ; وهو مخرج في الصحيحين.
وأهل البيت، رضي الله عنهم كذبت عليهم الرافضة، ونسبت إليهم ما لم يقولوه، فصارت الروافض ينتسبون إليهم، وأهل البيت براء منهم، فإياك أن تكون أنت وأصحابك منهم، فإن أصل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم السلام، هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة، لا يدعى إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه، كما دل على ذلك الكتاب العزيز. فقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
__________
1 ابن ماجه: الفتن (3993) .(1/270)
مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . فهذا التوحيد هو أصل دين أهل البيت - عليهم السلام ـ. من لم يأت به، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته براء منه، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [سورة التوبة آية: 3] .
ومن مذهب أهل البيت إقامة الفرائض كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ومن مذهب أهل البيت الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإزالة المحرمات، ومن مذهب أهل البيت محبة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ; وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الراشدون كما ثبت ذلك عن علي من رواية ابنه محمد بن الحنفية وغيره من الصحابة، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر؛ والأدلة الدالة على فضيلة الخلفاء الراشدين أكثر من أن تحصر. فإذا كان مذهب أهل البيت ما أشرنا إليه، وأنتم تدعون أنكم متمسكون بما عليه أهل البيت، مع كونكم على خلاف ما هم عليه، بل أنتم مخالفون لأهل البيت، وأهل(1/271)
البيت براء مما أنتم عليه ; فكيف يدّعي اتّباع أهل البيت من يدعو الموتى؟ ! ويستغيث بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته؟ ! والشرك ظاهر في بلدهم، فيبنون القباب على الأموات، ويدعونهم مع الله، والشرك بالله هو أصل دينهم، مع ما يتبع ذلك من ترك الفرائض، وفعل المحرمات، التي نهى الله عنها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسب أفاضل الصحابة: أبو بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة.
وأما قولك: إن أناسا من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم!
فنقول: بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلو فيه، وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فيما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 1، وفي الحديث الآخر أنه قال، وهو في السياق: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا " 2. وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " 3، " وثبت عن علي بن الحسين: أنه
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/24 ,1/47) .
2 البخاري: اللباس (5816) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121) , والدارمي: الصلاة (1403) .
3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .(1/272)
رأى رجلا يأتي إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو فنهاه عن ذلك، واحتج عليه بالحديث".
وأما قولك: إن المراد بقوله: " لا تتخذوا قبري عيدا " 1 تكرار الزيارة، المرة بعد المرة، والفينة بعد الفينة، وأن الزيارة لا تكون مثل العيد، مرتين فقط، بل تكون متتابعة، ومكررة، فلا يكون الاعتقاد منكم غير هذا.
فهذا دليل على جهلك بمذهب أهل البيت، وبما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن أهل البيت، فسروا الحديث، بأن المراد اعتياد إتيانه، والدعاء عنده، كما تقدم ذلك عن زين العابدين، علي بن الحسين رضي الله عنه، وهذا هو الذي استمر عليه عمل السلف، وأهل البيت، فإنهم كانوا إذا دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه، وعلى صاحبيه، ولم يقفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الدعاء هناك، ولم يتمسحوا به، بل إذا أراد أحدهم الدعاء هناك انصرف عن القبر، واستقبل القبلة، ودعا.
وأما قولك: وأوجب الصلاة عليه، وعلى آله في الصلاة.
فالذي عليه أكثر العلماء: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الصلاة لا تجب، وأوجبها بعض العلماء مستدلا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة الأحزاب آية: 56] ، وليس في الآية دليل على أن الصلاة عليه فرض، لا تصح الصلاة بدونها ; وأما الصلاة على آله فلم
__________
1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .(1/273)
نعلم أحدا من العلماء أوجبها، وقال: إن من ترك الصلاة على الآل لا تصح صلاته، بل هذا خلاف ما عليه أهل العلم، أو أكثرهم.
وأما قولك: ولا يحسن الاعتراض من أحد على أحد في مذهبه، وكل مجتهد مصيب، على الأصح من الأقوال.
فهذا في الفروع، لا في الأصول، فإن الخوارج، والجهمية، والقدرية، وغيرهم من فرق الضلالة يدعون أنهم مصيبون، بل المشركون وغيرهم من اليهود والنصارى، يدعون ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] .
وأما ما ذكرت من كثرة جنودكم وأموالكم، فلسنا نقاتل الناس بكثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين، الذي أكرمنا الله به، ووعد من قام به النصر على من عاداه، فقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة آية: 40-41] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة آية: 171-172-173] . وصلى الله على محمد وآله وصحبه.(1/274)
(جواب الأمير عبد العزيز بن سعود لياقوت الصنعاني وحثه على الهجرة)
وله أيضا عفا عنه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} الآية [سورة آية: 1-2-3] .
من عبد العزيز بن سعود إلى الأخ ياقوت سلمه الله من الآفات، واستعمله بالباقيات الصالحات، وبعد: الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر ما ذكرت من حالك، والله المحمود على ذلك، فأنت اعزم وتوكل على الله، فإن النفوس لها إقبال وإدبار، فأنت خذ بإقبالها واستعن بالله، قال جل جلاله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] .
ويذكر لنا أن أحمد بن الشريف عباس، إمام صنعاء، متوجه لهذا الدين، وعارفه ومحبه، وكذلك يذكر ناس من طلبة العلم، عرفوا التوحيد، وشهدوا به، وأنكروا الشرك بالله، فالمأمول فيك تلطف للناس، وتدعوهم إلى الله، وتذكر قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الآيات [سورة فصلت آية: 33-36] .(1/275)
وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] .
وفي الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين أعطى عليا رضي الله عنه الراية، يوم فتح خيبر، قال: " انفذ على رسلك حتى تنْزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1.
وأساس الإسلام ورأسه توحيد الله بالعبادة، والعبادة فعل العبد، وإلا أفعاله تعالى، كل معترف له بها: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير ; حتى إن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله الدين في حال الشدائد، مثل ما قال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] .
والشرك اليوم تغلب على غالب الناس، وصار الدعوة، والذبح، والنذر لغير الله، وغير ذلك من العبادات، والتوكل، والخوف، والرجاء صرف لغير الله. فلما أنكر عليهم الشيخ- عفا الله عنه- الشرك بدّعوه، وخرّجوه، ورموه بالعظائم، وهو كما قال محمد بن إسماعيل الصنعاني:
وليس له ذنب سوى أنه أتى ... بتحكيم قول الله في الحل والعقد
__________
1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) .(1/276)
وفي البيت الآخر:
وما كل قول بالقبول مقابل ... وما كل قول واجد الطرد والرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل يا ذا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على حسب الأدلة في النقد
فيكون عندكم معلوما أن جميع الفرائض، وجميع المحرمات، ما اختلفنا نحن والناس في شيء من ذلك. الاختلاف وقع بيننا وبين الناس عند حق الله تعالى، كون العبادة له وحده لا شريك له، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم التصديق والطاعة، في جميع ما يأمر به، وجميع ما ينهى عنه.
ويكفيك: ما ذكر الله في آخر سورة الكهف: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
وكذلك الآية التي كتب صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم هرقل حيث قال: " أما بعد: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} 1 إلى قوله: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} " ولكن مثل ما قال الجني 2 فيه صلى الله عليه وسلم:
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2941) , ومسلم: الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262) .
2 هو جني سمع ينشد أبياتا في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم, وقصته مشهورة في: السير.(1/277)
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أوغد
قال صلى الله عليه وسلم:" لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا اليهود والنصارى، يا رسول الله؟ قال: فمن؟ " 1، وفي الحديث الثاني: أخبر صلى الله عليه وسلم:" أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله، من الواحدة؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه الآن وأصحابي " 2 وفي الحديث الآخر، قال صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وحتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ".
والعادة ملاكة، تقلب الشين زينا، ولم تعادى الرسل بشيء قط أعظم من العادة، قال الله تعالى عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] ، والآية الأخرى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وقوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة الصافات آية: 70] . وأنا أعزم عليك، وألزم عليك، أن تتلطف لعلماء أهل صنعاء، وتقرأ عليهم هذا الكتاب.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 ابن ماجه: الفتن (3993) , وأحمد (3/145) .(1/278)
(رسالة الأمير عبد العزيز بن سعود إلى صاحب صنعاء)
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
التحية والإكرام يهدى إلى سيد الأنام محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ثم ينتهي إلى جناب أكرمه الله بما أكرم به عباده الصالحين.
أما بعد: فألفى علينا سعيد بن ثنيان، وحكى لنا عنك من حسن السمت والسيرة ما سر الخاطر، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياك من أئمة المتقين، ويذكر أنك حريص على معرفة حالنا، وما نحن عليه، فنخبرك بصورة الحال أنا والناس فيما مضى، على دين واحد، ندعو الله وندعو غيره، وننذر له وننذر لغيره، ونذبح له ونذبح لغيره، ونتوكل عليه ونتوكل على غيره، ونخاف منه ونخاف غيره، ونقر بالشرائع، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، والذي يعمل بهذا عندنا القليل مع الإقرار، ونقر بالمحرمات، من أنواع الربا، والزنى، وشرب الخمر، وما يشبه هذا من أنواع المحرمات، ولا ينكرها خاص على عام! !.
وبين الله لنا التوحيد في آخر هذا الزمان، على يدي ابن عبد الوهاب، وقمنا معه، وقام علينا الناس بالعدوان(1/279)
والإنكار لما خالف دين الآباء والأجداد، وقال الناس مثل ما قال الذين من قبلهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] ، وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] .
وقام على الناس بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة، الذين قال فيهم صلاة الله وسلامه عليه: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "، وفي الحديث الثاني: قال صلى الله عليه وسلم:" تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك " 1،وفي الحديث الثالث: " كل ما ليس عليه أمرنا فهو رد " 2. والأحاديث في هذا النوع ما يمكن حصرها، ولكن نذكر هذا على سبيل التنبيه.
فنقول: الحلال ما حلل صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرم، وقال الله جل جلاله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومعنى لا إله إلا الله نفي الإلهية عما سوى الحق جل جلاله، وإثباتها له وحده لا شريك له، والإلهية فعل العبد.
وأما أفعاله جل جلاله، فلا وقع فيها نزاع عند الكافر، ولا عند المسلم، قال الله لنبيه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
__________
1 ابن ماجه: المقدمة (44) , وأحمد (4/126) .
2 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256) .(1/280)
وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وبالإجماع أن السؤال للكفار. وفي الآية الأخرى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
ويكفيك أول الزمر - تنْزيل - بين فيها دين الإسلام من دين الكفار في آيتين، قال: بسم الله الرحمن الرحيم {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة آية: 1-2-3] : هذا دين الإسلام الذي دعت إليه الرسل جميعا، من أولهم نوح إلى آخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، فصرحت الآية أن غاية الكفار ومطلبهم القربة، والشفاعة بهذا الدعاء.
فالمأمول فيك: ما تغتر بأكثر الناس، فإن نبيك صلى الله عليه وسلم أخبر في الأحاديث الصحاح أن دينه سيتغير، وتفعل أمته كما فعل بنو إسرائيل، وأنها ستفترق كما افترق من قبلها من الأمم،(1/281)
قال صلاة الله وسلامه عليه: " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع "، " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1. وقال صلى الله عليه وسلم " لتأخذ أمتي بما أخذت الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن منهم من أتى أمه علانية، لكان من أمتي من يأتي أمه علانية " 2، وقال: " افترقت اليهود عن واحدة وسبعين فرقة، والنصارى عن ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي عن ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". والأحاديث في هذا ما تحصى، ولكن الغرض التنبيه.
وأما الآيات، فقال جل جلاله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] ، وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [سورة الأعراف آية: 102] ، وقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [سورة ص آية: 24] ، و: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سورة سبأ آية: 13] . وفي الحديث: أن بعث الجنة من الألف واحد.
فالمأمول فيك: تجمع علماء صنعا، وتؤمنهم، وتعرض عليهم الكتاب، وتسألهم بالذي أنزل الفرقان على محمد، عن جميع ما ذكرنا في الورقة، وأرجو أن الحق بين لك من الباطل. والوجه الثاني: إن جاز عندك توجه إلينا اثنين أو ثلاثة من طلبة العلم، الذين عليهم الاعتماد عندكم، فلا
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) , وأحمد (2/325 ,2/336 ,2/367) .(1/282)
نعافها منك، فلك عندي وقارهم، وإكرامهم، وتوصيلهم إليك إن شاء الله.
ويا علي، يا ولدي، أذكرك الله والذي بعد الموت من الخير والشر، فإن الدنيا زائلة وزائل ما فيها من الخير والشر، والآخرة باقية وباق ما فيها من الخير والشر، ودين جدك - صلاة الله وسلامه عليه - فيه خير الدنيا والآخرة، قال جل جلاله في أهل طاعته: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [سورة آل عمران آية: 148] .
وأنا أصف لك شيئا من الحال، فإن مبتدأ الأمر: رجل حاقدينه الناس، ومعادينه، واليوم دولته ما تقصر عن ألف مبندق 1 وعشرة آلاف فارس، وكل من تبين على هذا الحق بعداوة، كسره الله، وأزال دولته، وأرى فيه العجائب.
ويكون عندك معلوما: أن الشرائع والمحرمات، ما وقع بيننا وبين الناس فيها اختلاف، الذي عندنا زين عندهم زين، والذي عندنا شين عندهم شين، إلا أنا فضلناهم بفعل الزين، وغصب الرعايا عليه، وترك الشين، وتقويم الحدود، والتأديب على من فعله، وغالب عدواننا ما يفعلون الزين الذي ما ينكر، ولا ينكرون الشين الذي ينكر.
فالأصل الذي اختلفنا فيه التوحيد، والشرك، فنقول
__________
1 أي: حامل سلاح.(1/283)
مثل ما قال جل جلاله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [سورة الرعد آية: 14] ، وفي الآية الأخرى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة آية: 22-23] .
فصرحت الآية، مثل ما صرحت آية الكرسي: أن الشفاعة ما تكون إلا من بعد الإذن. وفي الحديث: قيل يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [سورة الحج آية: 73] . فلا تغتر بالناس ; قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 34] : فهذه حال العلماء والعباد، فما ظنك في غيرهم؟
والمأمول فيك الجواب، والله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة آية: 142] ، وصلى الله على محمد آله وصحبه وسلم.
__________
1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) .(1/284)
(رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز إلى أهل نجران في بيان ما هم عليه)
وكتب الإمام سعود بن الإمام عبد العزيز، رحمهما الله تعالى إلى أهل نجران:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سعود إلى جناب الأشراف حسين بن ناصر، وحسن دهشا، وحمزة، ومحمد بن حسن، وحسين أحمد، ومقبل بن محمد، وصالح بن عبد الله، وأحمد معوض، وأحمد علي بن شما، وصالح حسين مسلي، سلمهم الله من الآفات، واستعملهم بالباقيات الصالحات، وبعد: ألفى علينا مقبل بن عبد الله، وأشرف على ما نحن عليه، وما ندعو إليه، وما نأمر به، وما ننهى عنه، ويصف لكم من الرأس أكثر مما في القرطاس، إن شاء الله.
ونخبركم أننا متبعون لا مبتدعون، ونعبد الله وحده لا شريك له، ونتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، وينهى عنه، ونقيم الفرائض، ونجبر من تحت يدنا على العمل بها، وننهى عن الشرك بالله، وننهى عن البدع، والمحرمات، ونقيم الحدود، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونأمر بالعدل، والوفاء بالعهود، والمكاييل، والموازين، وبر الوالدين، وصلة الأرحام هذا صفة ما نحن عليه، وما ندعو الناس إليه، فمن(1/285)
أجاب وعمل بما ذكرناه، فهو أخونا المسلم، حرام المال والدم، ومن أبى قاتلناه، حتى يدين بما ذكرناه.
وأنتم أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والحق عليكم أكبر منه على غيركم، والإسلام هو عزكم وشرفكم، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 10] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [سورة الزخرف آية: 44] .
فالمأمول فيكم القيام، والدعوة إلى الله، لأن الدعوة سبيل من اتبعه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] . ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الداعين إليه، المجاهدين في سبيله، لتكون كلمته العليا، ودينه الظاهر، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/286)
(رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز إلى سليمان باشا)
هذه الرسالة أيضا للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمهم الله تعالى، وهذا نصها: 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من سعود بن عبد العزيز، إلى سليمان باشا ; أما بعد: فقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه من خطابكم، وما ذكرتم من أن كتابنا المرسل إلى يوسف باشا على غير ما أمر الله به ورسوله، من الخطاب للمسلمين، بمخاطبة الكفار والمشركين، وأن هذا حال الضالين، وأسوة الجاهلين، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [سورة آل عمران آية: 7] .
فنقول في الجواب عن ذلك بأننا متبعون ما أمر الله به رسوله، وعباده المؤمنين، بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
__________
1 كانت هذه الرسالة في آخر الجزء الأول بسبب تأخر وجودها حال الطبعة الأولى, فناسب تقديمها إلى مكانها المناسب بعد تيسر الطبع مرة أخرى.(1/287)
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] ، وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، وذلك أن الله أوجب علينا النصح لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن النصح لهم بيان الحق لهم، بتذكير عالمهم، وتعليم جاهلهم، وجهاد مبطلهم، أولا بالحجة والبيان، وثانيا بالسيف والسنان، حتى يلتزموا دين الله القويم، ويسلكوا صراطه المستقيم، ويبعدوا عن مشابهة أصحاب الجحيم، وذلك أن " من تشبه بقوم فهو منهم " 1 كما ورد ذلك عن الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وقد قال تعالى في كتابه المبين: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] ، وقال تعالى لهذه الأمة: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة آية: 31-32] .
ومن تلبيس إبليس، ومكيدته لكل جاهل خسيس أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين، لا يتناول من شابههم من هذه الأمة، ويقول إذا استدل عليه بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية: هذه الآيات نزلت في المشركين، نزلت في اليهود، نزلت في النصارى ; ولسنا منهم. وهذا من أعظم مكائده، وتلبيسه، فإنه فتن بهذه
__________
1 أبو داود: اللباس (4031) .(1/288)
الشبهة كثيرا من الأغبياء والجاهلين، وقد قال بعض السلف - لمن قال له ذلك -: مضى القوم وما يعني به غيركم. وقال بعض العلماء: إن مما يحول بين المرء وفهم القرآن أن يظن أن ما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين، لا يتناول غيرهم، وإنما هو في قوم كانوا فبانوا. وقد قال الإمام الحافظ سفيان بن عيينة - وهو من أتباع التابعين -: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا، ففيه شبه من النصارى. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري، أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ " " 1 وهذا لفظ البخاري. والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة.
وقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ ْ} الآية قال: "ما أشبه الليلة بالبارحة! كالذين من قبلكم هؤلاء بنو إسرائيل، شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده، لتتبعنهم، حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه ". فكيف يظن من له أدنى تمسك بالعلم، بعد هذه الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، أن هذه الأمة لا تشابه اليهود
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .(1/289)
والنصارى، ولا تفعل فعلهم، ولا يتناولهم ما توعد الله به اليهود والنصارى إذا فعلوا مثل فعلهم؟ ومن أنكر وقوع الشرك والكفر في هذه الأمة فقد خرق الإجماع، وسلك طريق الغي والابتداع.
ولسنا بحمد الله نتبع المتشابه من التنْزيل، ولا نخالف ما عليه أئمة السنة من التأويل، فإن الآيات التي استدللنا بها على كفر المشرك وقتاله هي من الآيات المحكمات في بابها، لا من المتشابهات واختلف أئمة المسلمين في تأويلها والحكم بظاهرها وتفسيرها، بل هي من الآيات التي لا يعذر أحد من معرفة معناها، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [سورة التوبة آية: 5] ، وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .
وأما قولكم: فإنا لله الحمد على الفطرة الإسلامية والاعتقادات الصحيحة، ولم نزل بحمده تعالى عليها، عليها نحيا وعليها نموت، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 27] ، فظاهرنا وباطننا بتوحيده تعالى في ذاته وصفاته، كما بين في محكم كتابه، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}(1/290)
[سورة النساء آية: 36] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله "، 1 وقال صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " 2 إلخ ; فنقول:
غاض الوفاء وفاض الجور وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، أنا مسلم، أنا من أهل السنة والجماعة، وهو من أعداء الإسلام وأهله، منابذ لهم بقوله وفعله، لم يصر بذلك مؤمنا، ولا مسلما، ولا من أهل السنة والجماعة، ويكون كفره مثل اليهود، فإنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم.
فإن أصل الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومضمون شهادة ألا إله إلا الله ألا يعبد إلا الله وحده، فلا يدعى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجى إلا هو، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف آية: 110] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سورة التوبة آية: 18] .
__________
1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) .
2 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) .(1/291)
فكل من دعا مخلوقا، أو استغاث به، أو جعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو اقض ديني، أو اشفع لي عند الله، في قضاء حاجتي، أو أنا متوكل على الله وعليك، فهو مشرك في عبادة الله غيره، وإن قال بلسانه: لا إله إلا الله، وأنا مسلم.
وقد كفّر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وقاتلوهم، وغنموا أموالهم، وسبوا نساءهم، مع إقرارهم بسائر شرائع الإسلام، وذلك لأن أركان الإسلام، من حقوق لا إله إلا الله، كما استدل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه على عمر، حين أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، حين قال له: "كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله. فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق " أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام. فكيف بمن كفر بمعنى لا إله إلا الله؟ وصار الشرك وعبادة غير الله هو دينه، وهو المشهور في بلده، ومن أنكر ذلك عليهم كفروه، وبدعوه، وقاتلوه، فكيف يكون من هذا فعله، مسلما من أهل السنة والجماعة، مع منابذته لدين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله،(1/292)
وعبادته وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، إلى غير ذلك من المجاهرة بالكفر، والمعاصي، واستحلال محارم الله ظاهرا؟!
فشعائر الكفر بالله، والشرك به، هي الظاهرة عندكم، مثل بناء القباب على القبور، وإيقاد السرج عليها، وتعليق الستور عليها، وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله، واتخاذها عيدا، وسؤال أصحابها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الله التي أمر الله بإقامتها، من الصلوات الخمس، وغيرها، فمن أراد الصلاة صلى وحده، ومن تركها لم ينكر عليه، وكذلك الزكاة ; وهذا أمر، قد شاع، وذاع، وملأ الأسماع، في كثير من بلاد الشام، والعراق، ومصر، وغير ذلك من البلدان.
وقد حدث ذلك في هذه البلدان، كما ذكر ذلك العلماء في مصنفاتهم، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. فمن ذلك ما ذكره أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ(1/293)
تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق، أو محمد، أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى.
فانظر إلى هذا الإمام، كيف ذكر حدوث الشرك في وقته؟ واشتهاره عند العامة الجهال، وتكفيره لهم بذلك، وهو من أهل القرن الخامس، من تلامذة القاضي أبي يعلى الحنبلي، ونقل كلامه هذا غير واحد من أئمة الحنابلة، كأبي الفرج ابن الجوزي، في كتاب تلبيس إبليس.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي، لما ذكر حديث أبي واقد الليثي، ولفظه: قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل(1/294)
لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ".
قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط، فاقطعوها، انتهى.
فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ آلهة مع الله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما ظنك بالعكوف حول القبر؟ والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده، فأي نسبة بالفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة الشافعي في كتابه الباعث في إنكار البدع والحوادث:
ومن هذا القسم أيضا ما قد عم به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا، ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون(1/295)
الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لها.
وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر. وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسةخارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث. ثم ساق حديث أبي واقد الليثي المتقدم، ثم ذكر أنه بلغه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية، أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال: امضوا بي إلى العافية، فتعرف فيها الفتنة، فخرج في السَّحر، فهدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع بها رأس إلى الآن.
قال: وأدهى من ذلك وأمر إقدامهم على الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، أو من بناء ذي القرنين، أو من بناء غيره، مما يؤذن بالتقدم، على ما نقلناه في كتاب تاريخ دمشق، وهو الباب الشمالي ; ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة، أنه رأى مناما يقتضي أن(1/296)
ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله مسجدا مغصوبا، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج، ضاعف الله نكال من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، انتهى كلامه.
فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة، وما حدث في زمانهم من الشرك، وأنه قد عم الابتلاء به في وقتهم، ومعلوم أنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، وتأمل كلامه في تخصيصه دمشق بما حدث فيها من الشرك والأوثان، وتمنيه إزالة ذلك، وهي بلده، ومستوطنه. وقال ابن القيم رحمه الله، في كتابه إغاثة اللهفان: ومن أعظم مكائده - التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته - ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه، من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله؛ وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح وأطال الكلام في ذلك إلى أن قال: وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين،(1/297)
كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحته الطاحون، الذي عنده مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك، وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له، ويتبركون به. وقطع الله سبحانه المسجد الذي عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون، وكان عمودا طويلا على رأسه حجر كالكرة، وعند مسجد درب الحجر نصب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون، يسر الله كسره.
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر، وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه.
ولهذا أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ مصلى، كما ذكره الأزرقي في كتاب مكة، عن قتادة، في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [سورة البقرة آية: 125] . قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم، ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله، في كتابه المشهور: بزاد(1/298)
المعاد في هدى خير العباد ; لما ذكر غزوة الطائف، وقدوم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سألوه أشياء، وكان فيما سألوه: أن يدع لهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، واعتذروا أن مرادهم بذلك أن لا يروعوا نساءهم وسفهاءهم، فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما برحوا يسألونه سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى.
قال: لما ذكر فوائد القصة، ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة ; وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركا عندها وبها، والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق أو ترزق أو تحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر،(1/299)
وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم. وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام. وقلت العلماء، وغلبت السفهاء. وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين ; فيجوز للإمام، بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة ومصالح المسلمين، كما " أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها، وقضى منها دين عروة والأسود ". وكذا يجب عليه هدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا ; وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها، ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين. وكذا الحكم في أوقافها، فإن وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين; فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر(1/300)
له، ويحج إليه، ويعبد من دون الله، ويتخذ إلها من دونه; وهذا لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم.
وقال الشيخ قاسم، في شرح: درر البحار، وهو من أئمة الحنفية: النذر الذي يقع من أكثر العوام، يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه;
منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها: أن ذلك كفر، إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، لا سيما في مولد أحمد البدوي; انتهى كلامه.
وقال الأذرعي في قوت المحتاج، شرح المنهاج، وهو من أئمة الشافعية: وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ، أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب، أو الواقع من مقصود العامة - تعظيم البقعة، والمشهد، والزاوية، أو تعظيم من دفن بها ممن ذكرنا، أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل، غير منعقد. فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات بأنفسها، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء، ويستجلب به النعماء،(1/301)
ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار، لما قيل: إنه جلس إليها، أو استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج، والشموع، والزيت، ويقولون: القبر الفلاني، والمكان الفلاني، يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل بالنذر له الغرض المأمول، من شفاء مريض، وقدوم غائب، أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة. فهذا النذر، على هذا الوجه، باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت، والشمع، ونحوهما، للقبور، باطل مطلقا.
من ذلك: نذر الشموع الكثيرة العظيمة، لقبر الخليل صلى الله عليه وسلم، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء; فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الإيقاد على القبر، تبركا وتعظيما، ظانا أن ذلك قربة. وأكثر من ينذر ذلك، يصرح بمقصوده، فيقول: لله علي كذا من الشمع مثلا، يوقد عند رأس الخليل، أو على القبر الفلاني، أو قبر الشيخ فلان، فهذا مما لا ريب في بطلانه. والإيقاد المذكور، محرم، سواء انتفع به منتفع هناك، أم لا، لأن الناذر لم يقصد ذلك، ولا مر بباله، بل قصده وغرضه ما أشرنا إليه; فهذا الفعل من البدع الفاحشة، التي عمت بها البلوى، وفيها مضاهاة لليهود والنصارى، الذين لعنوا في الحديث الصحيح، على تعاطيهم ذلك على قبور أنبيائهم عليهم السلام. انتهى.
فانظر إلى تصريح هؤلاء الأئمة، بأن هذه الأعمال(1/302)
الشركية، قد عمت بها البلوى، وشاعت في كثير من بلاد الشام وغيرها، وأن الإسلام قد اشتدت غربته، حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا; وأن هذه المشاهد، والأبنية التي على القبور، قد كثرت، وكثر الشرك عندها وبها، حتى صار كثير منها، بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها، وهذا مما يبطل قولكم: إنكم على الفطرة الإسلامية، والاعتقادات الصحيحة، ويبين أن أكثركم قد فارق ذلك، ونبذه وراء ظهره، وصار دينه الشرك بالله، ودعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتمسك بالبدع المحدثات.
وأما قولكم: فنحن مسلمون حقا، وأجمع على ذلك أئمتنا أئمة المذاهب الأربعة، ومجتهدو الدين والملة المحمدية.
فنقول: قد بينا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أتباع الأئمة الأربعة، ما يدحض حجتكم الواهية، ويبطل دعواكم الباطلة، وليس كل من ادعى دعوى، صدقها بفعله; فما استغنى فقير، بقوله: ألف دينار، وما احترق لسان، بقوله: نار، فإن اليهود أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول الله لما دعاهم إلى الإسلام، قالوا: نحن مسلمون، إلا إن كنت تريد أن نعبدك، كما عبدت النصارى المسيح، وقالت: النصارى مثل ذلك; وكذلك فرعون، قال لقومه:(1/303)
{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية: 29] ، وقد كذب، وافترى في قوله ذلك، وحالكم، وحال أئمتكم، وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك. وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، عام اثنين وعشرين، رسالة لسلطانكم: سليم، أرسلها ابن عمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به، ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء، من النصارى وغيرهم; وفيها من الذل، والخضوع، والعبادة، والخشوع، ما يشهد بكذبكم. وأولها: من عبيدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروهما لا نقدر على دفعه، واستولى عباد الصلبان على عباد الرحمن، نسألك النصر عليهم، والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا، وذكر كلاما كثيرا، هذا معناه وحاصله. فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم، العزى، واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد، أخلصوا لخالق البريات.
فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم، وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم، كتبا كثيرة، في الحجرة، للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، ما لا نقدر على ضبطه، وقد ورد في الحديث الذي(1/304)
رواه أبو داود، وغيره: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " 1.
فأهل السنة والجماعة هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل زمان، ومكان; وهم الفرقة الناجية، كالصحابة، والتابعين، والأئمة، الأربعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة. وقد بعث الله جميع رسله بتوحيده، ورفع مناره، وطمس الشرك، ومحو آثاره.
ومن أعظم الشرك والضلال: ما وقع في هذه الأمة، من البناء على القبور، ومخاطبة أصحابها بقضاء الأمور، وصرف كثير لها من العبادات، والنذور. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم هل تجد في عصره بناء على قبر صالح؟ أو ولي؟ أو شهيد؟ أو نبي؟ بل نهى عن البناء على القبور، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره.
وكذلك أصحابه من بعده، فتحوا الشام، والعراق، وغالب أقطار الأرض، فهل تجدون أحدا منهم بنى على قبر أو دعاه؟ أو استغاث به؟ أو نذر له؟ أو ذبح له؟ أو وقف عليه وقفا؟ أو أسرج عليه؟ بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك، والتغليظ فيه، ولعن من فعله، كما ثبت عنه أنه " بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، ولا قبرا مشرفا إلا سواه " 2 رواه مسلم، وكذلك لم
__________
1 الترمذي: الإيمان (2641) .
2 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) .(1/305)
يكن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يقول - إذا نزلت بهم ترة، أو عرضت له حاجة – لميت: يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين; ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها؛ بل: " لما قحط الناس، في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك، إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فيسقون ". فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا: توسلوا بعد وفاته بدعاء العباس. وهذا كله تحقيق لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، الذي هو حقيقة معنى لا إله إلا الله; فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، وقد قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [سورة النساء آية: 171] ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] . فاتخاذ الأحبار، والرهبان أربابا، هو من فعل اليهود، والنصارى.(1/306)
وقال غير واحد من العلماء: إن من أسباب الكفر، والشرك: الغلو في الصالحين، كعبد القادر وأمثاله، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في الأنبياء، كالمسيح، وغيره; فمن غلا في نبي، أو ولي، أو جعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو انصرني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
قال ابن القيم رحمه الله، في شرح المنازل: ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، إلى أن قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، قال: وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!
وأما قولكم: وأما ما اعترينا، وما ابتلينا به من الذنوب، فليست أول قارورة كسرت في الإسلام، ولا يخرجنا من دائرة الإسلام، كما زعمت الخوارج، من الفرق الضالة، الذين عقيدتهم، على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة.
فنقول: نحن بحمد الله، لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، وإنما نكفر لهم، بما نص الله ورسوله، وأجمع(1/307)
عليه علماء الأمة المحمدية، الذين هم لسان صدق في الأمة، أنه كفر، كالشرك في عبادة الله غيره، من دعاء، ونذر، وذبح، وكبغض الدين وأهله، والاستهزاء به.
وأما الذنوب، كالزنى، والسرقة، وقتل النفس، وشرب الخمر، والظلم، ونحو ذلك، فلا نكفر من فعله إذا كان مؤمنا بالله ورسوله، إلا إن فعله مستحلا له، فما كان من ذلك فيه حد شرعي أقمناه على من فعله، وإلا عزرنا الفاعل بما يردعه، وأمثاله عن ارتكاب المحرمات.
وقد جرت المعاصي، والكبائر، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكفروا بها، وهذا مما رد به أهل السنة والجماعة، على الخوارج، الذين يكفرون بالذنوب، وعلى المعتزلة، الذين يحكمون بتخليده في النار، وإن لم يسموه كافرا، ويقولون: ننَزله منْزلة، بين المنْزلتين، فلا نسميه كافرا، ولا مؤمنا، بل فاسقا، وينكرون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويقولون: لا يخرج من النار أحد دخلها، بشفاعة، ولا غيرها.
ونحن بحمد الله، برآء من هذين المذهبين: مذهب الخوارج، والمعتزلة; ونثبت شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، والصالحين، ولكنها لا تكون إلا لأهل التوحيد خاصة، ولا تكون إلا بإذن الله، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ(1/308)
عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
فذكر في الشفاعة شرطين: أحدهما: أنها لا تكون إلا بعد الإذن من الله للشافع، لا كما يظنه المشركون الذين يسألونها من غير الله في الدنيا. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة آية: 22-23] .
قال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكلام على هذه الآية: وقد قطع الله سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعا، فمثله: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [سورة العنكبوت آية: 41] . فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة، من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا، كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا، كان معينا أو ظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده؛ فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي: الشفاعة بإذنه.(1/309)
فكفى بهذه الآية ورا، وبرهانا، ونجاة، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها; والقرآن مملوء من أمثالها، ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا; وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن; ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، وشر منهم، ودونهم، وتناول القرآن لهم، كتناوله لأولئك؛ ولكن: الأمركما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام، عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " أي: لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه، وصوبه، وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه؛ فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عيانا; وبالله التوفيق، انتهى.
وهذا الذي ذكره غير واحد عن أئمة العلم، من تغير الإسلام، وغربته، قد أخبر به الصادق المصدق، صلوات(1/310)
الله وسلامه عليه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم، أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وفي حديث ثوبان، الذي في صحيح مسلم وغيره: " ولا تقوم الساعة، حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان "، وفي حديث العرباض بن سارية: أنه صلى الله عليه وسلم قال:" إنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعدي. تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة " 2 أخرجه: أبو داود، وغيره. وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:?" لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس، حول ذي الخلصة " 3. وهذا الذي تقدم ذكره، من كلام أهل العلم، من حدوث الشرك وغيره من البدع في هذه الأمة، وكثرته، هو مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وغيرها.
وأما قولكم: فكيف التجري بالغفلة، على إيقاظ الفتنة، بتكفير المسلمين وأهل القبلة، ومقاتلة قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وعقر مواشيهم وحرق أقواتهم، من نواحي الشام ... إلخ؟
فنقول: قد قدمنا أننا لا نكفر بالذنوب، وإنما نقاتل ونكفر من أشرك بالله، وجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله، ويذبح له كما يذبح لله، وينذر له كما ينذر لله ويخافه،
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .
2 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) .
3 البخاري: الفتن (7116) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/27) .(1/311)
كما يخاف الله، ويستغيث به عند الشدائد، وجلب الفوائد، ويقاتل دون الأوثان والقباب المبنية على القبور، التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله; فإن كنتم صادقين في دعواكم أنكم على ملة الإسلام، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فاهدموا تلك الأوثان كلها، وسووها بالأرض، وتوبوا إلى الله، من جميع الشرك والبدع، وحققوا قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن صرف من أنواع العبادة شيئا لغير الله، من الأحياء والأموات، فانهوه عن ذلك، وعرفوه أن هذا مناقض لدين الإسلام، ومشابهة لدين عباد الأصنام؛ فإن لم ينته عن ذلك، إلا بالمقاتلة، وجب قتاله، حتى يجعل الدين كله لله; وقوموا على رعاياكم بالتزام شعائر الإسلام وأركانه، من إقام الصلاة جماعة في المساجد؛ فإن تخلف أحد، فأدبوه، وكذلك: الزكاة التي فرض الله، تؤخذ من الأغنياء، وترد على أهلها الذين أمر الله بصرفها إليهم. فإذا فعلتم ذلك فأنتم إخواننا، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، يحرم علينا دماؤكم وأموالكم. وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك، الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقاتلكم، حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم، كما أمرنا الله بذلك،(1/312)
حيث يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] ، وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] . ونسأل الله العظيم أن يهدينا، وسائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى دينه القويم، ويجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة، سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة.(1/313)
(توقيع الشريف غالب وعلماء الحرمين على الرسالة) .
الحمد لله رب العالمين.
نشهد - ونحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم - أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله، ونفي الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن ما وقع في مكة والمدينة، سابقا، ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه: الكفر، المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار; ومن لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه، فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين، جهاده وقتاله، حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين.
أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى: عبد الملك بن عبد المنعم، القلعي، الحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفى عنه، وغفر له.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله سبحانه: محمد(1/314)
صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، تاب الله عليه.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى: محمد بن محمد عربي، البناني، مفتي المالكية، بمكة المشرفة، عفا الله عنه، وأصلح شأنه.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله: محمد بن أحمد، المالكي، عفا الله عنه.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى: محمد بن يحيى، مفتي الحنابلة، بمكة المكرمة، عفا الله عنه آمين.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إليه تعالى: عبد الحفيظ بن درويش العجيمي، عفا الله عنه.
شهد بذلك: زين العابدين جمل الليل; شهد بذلك: علي بن محمد البيتي.
أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى: عبد الرحمن جمال، عفا الله عنه.
شهد بذلك، الفقير إلى الله تعالى: بشر بن هاشم الشافعي عفا الله عنه.
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل ونفي الشريك له، هو الدين الحق، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم،(1/315)
وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا، والشام، ومصر وغيرها من البلدان، من أنواع الشركالمذكورة في هذا الكتاب، أنه الكفر المبيح للدم، والمال; وكل من لم يدخل في هذا الدين، ويعمل بمقتضاه، كما ذكر في هذا الكتاب، فهو كافر بالله واليوم الآخر; وكتبه: الشريف غالب بن مساعد، غفر الله له آمين، الشريف: غالب.
بسم الله الرحمن الرحيم ما حرر في هذا الجواب، من بديع النطق وفصل الخطاب، وما فيه من الأدلة الصحيحة الصريحة، المستنبطة من الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين، نشهد: بذلك، ونعتقده، ونحن: علماء المدينة المنورة، وندين الله به، ونسأله تعالى الموت عليه.
ونقول: الحمد لله رب العالمين، نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ودعانا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبد العزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشرك، هو الدين الحق، الذي لا شك فيه ولا ريب; وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا، والشام ومصر، وغيرها من البلدان، إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنها: الكفر المبيح للدم والمال. وكل من لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويعتقده، كما ذكر الإمام في هذا الكتاب، فهو(1/316)
كافر بالله واليوم الآخر، والواجب على إمام المسلمين وكافة المسلمين، القيام بفرض الجهاد، وقتال أهل الشرك والعناد. 1 وكل من خالف ما في هذا الكتاب، من أهل مصر، والشام، والعراق، وكل من كان على دينهم الذي هم عليه الآن، فهو كافر مشرك من موقعه، ويمكنه في ذلك، وإزالة ما عليه من الشرك والبدع، وأن ويجعل رايته بالنصر خافقة، إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. أشهد بذلك، وأنا الفقير بن حسين بالروضة الشريفة.
وكتبه الفقير إليه عز شأنه: محمد صالح رضوان، شهد بذلك، وكتبه: محمد بن إسماعيل، كتبه الفقير إلى الله عز شأنه:?حسن وعليه ختمهم.
__________
1 لم تظهر لنا: الكلمات المبيض لها, من الأصل.(1/317)
(تنبيه الشيخ سليمان بن عبد الله على قول ابن غنام)
قال الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله، بن محمد رحمهم الله تعالى، منبها على قول الشيخ: حسين بن غنام، رحمه الله تعالى، على شرح حديث عمر، في قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: (وكتبه) قال الشارح المذكور، أي: أنها منَزلة من عنده، وأنها كلامه القائم بذاته، المنَزه عن الحروف والصوت; قال الشيخ رحمه الله تعالى: قوله: وأنها كلامه القائم بذاته، المنَزه عن الحروف والصوت; هذا الكلام جرى على مذهب الكلابية، ومن تبعهم من الأشعرية أن الكلام هو المعنى القائم بالذات، المنَزه عن الحرف والصوت; فعلى هذا يكون عندهم ليس هو عين كلام الله لأنه حروف وأصوات، وإنما هو عبارة عن كلام الله كما قد صرحوا بذلك في كتبهم.
والحق في ذلك، هو ما دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع: أن الله تعالى لم يزل متكلما كيف شاء، إذا شاء بحرف وصوت، كما دل على ذلك القرآن، والأحاديث. فأما القرآن، فواضح.
وأما الأحاديث، ففي صحيح البخاري وغيره: " أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بصوت "، وهذا نص، وفيه نحو أربعة عشر حديثا.
وأما الإجماع، فيكفي في ذلك أنه لا يعرف عن صحابي، ولا تابعي، حرف واحد يخالف ذلك. وقد أفرد العلماء هذه المسألة بالتصنيف، والله أعلم.(1/318)
(رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الأحسائي لما نصب في المساجد من يتهم بمذهب الأشاعرة)
وكتب الشيخ: عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله تعالى - رسالة أرسلها، لما بلغه أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحساء من يتهم بمذهب الأشاعرة، من غير إذن الإمام، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخوين المكرمين: محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وما ذكرتما عن نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الثلاثة، فالعاد أن مثل هذا يراجع فيه الإمام، لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيما يصلح للإمامة والتدريس، فيرد إلى الإمام، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى، لأن كثيرا من الناس ما يخفانا حالهم، وعقائدهم، ونصب الإمام القضاة بنجد كذلك.
والشيخ أحمد بن مشرف يسامي الأكابر، ومثلهم ما ينسب له، والذي نعلم عنه: صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين، الذي جهله أكثر الطوائف. كذلك: هو رجل سلفي، يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته.
وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم، فهم أشاعرة،(1/319)
والأشاعرة: أخطؤوا في ثلاث من أصول الدين، منها: تأويل الصفات، وهو صرفها عن حقيقتها، التي تليق بالله، وحاصل تأويلهم: سلب صفات الكمال عن ذي الجلال.
أيضا، أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب، في كلام الرب تعالى وتقدس، ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل: الإمام أحمد، والشافعي، وأصحابه، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة: محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبو عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من أتباع السلف، كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري.
وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين، كالشهر ستاني، شيخ أبي المعالي، وكذلك أبو المعالي، والغزالي، وكذلك الأشعري قبلهم في كتاب الإبانة، والمقالات. ومع هذا، وغيره، فبقي هذا في المتأخرين، المقلدين لأناس من المتأخرين، ليس لهم اطلاع على كلام العلماء، وكانوا يعدون من العلماء.
وأخطؤوا أيضا في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير لا إله إلا الله إلا أن معناها القادر على الاختراع، ودلالة لا إله إلا الله على هذا دلالة التزام، لأن هذا من توحيد الربوبية الذي أقر به الأمم، ومشركو العرب، كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] الآيات، وهي(1/320)
كثيرة في القرآن، يحتج تعالى عليهم بذلك على ما أنكروه من توحيد الإلهية، الذي هو معنى لا إله إلا الله، مطابقة، وتضمنا. وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، والنساء، وغيرها; ودعت إليه الرسل: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 2] ، وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ودعا إليه العرب قبلهم، كما قال أبو سفيان لهرقل، لما سأله عما يقول; قال: يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، وكل السور المكية في تقرير معنى لا إله إلا الله، وبيانه.
فإذا كان العلماء في وقتنا هذا، وقبله، في كثير من الأمصار، ما يعرفون من معنى لا إله إلا الله إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن معنى لا إله إلا الله القادر على الاختراع، وبعضهم يقول: معناها: الغني عمن سواه، المفتقر إليه ما عداه، وعلماء الأحساء ما عادوا شيخنا، رحمه الله، في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف، والعيدروس، وأمثالهما، لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص. والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة، في مواضع كثيرة من القرآن، قال تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ(1/321)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] ، فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو: نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده. وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] . فإذا كان هذا التوحيد، الذي هو حق الله على العباد، قد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور؟ خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا، وقولا، وطلبا، ورغبة.
فهذه نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين، وقلة المعرفة، فينبغي أن تشاع وتذاع، في محاضر أهل العلم، يقبلها من وفقه الله للخير، فإنها خير مما كتبتم فيه بأضعاف أضعاف، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(1/322)
(رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى أعيان أهل الأحساء)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان والأعيان، من أهل الأحساء: الشيخ عبد اللطيف بن مبارك، وابنيه، وأولاد عبد الله الوهيبي، وعبد الله بن عبد القادر، وعبد الله بن عمير، وإخوانهم: من أهل المدارس، والمساجد، وفقنا الله وإياهم لتوحيده، وأهّلنا وإياهم لمعرفته، ومحبته، وتأييده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فمن المعلوم لديكم، أن شيخنا شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وعفا عنه، تبين بدعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن لا يصرف من العبادة شيء لأحد سواه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] ، ثم ذكر دين المشركين، وأنكره تعالى، في أول هذه السورة وغيرها، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14-15] . والآيات في إخلاص العبادة، وإفراد الرب تعالى بها في القرآن كثير، تفيد الحصر لمن تدبرها.(1/323)
ولا يخفاكم أن شيخنا رحمه الله، لما تبين بهذه الدعوة الإسلامية، وجد العلماء في الأحساء وغيرها، لا يعرفون التوحيد من الشرك، بل قد اتخذوا الشرك في العبادة دينا; فأنكروا دعوته لجهلهم بالتوحيد، ومعنى لا إله إلا الله، فظنوا أن الإله، هو: القادر على الاختراع; وهذا وغيره من توحيد الربوبية حق، لكنه لا يدخل في الإسلام بدون توحيد الإلهية، وهي العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ َلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-65-66] .
والذي يبين لكم أن العلماء ما عرفوا التوحيد، ولا عرفوا هذا الشرك: كون أرباب القبور من الأموات تعبد، وتصرف الرغبات والرهبات إليها، ولا عالم من علماء الأحساء أنكر هذا، بل قد صار إنكارهم لإخلاص العبادة لله وحده; ومن دعا إلى الإخلاص كفّروه، وبدّعوه. ولا نعلم أحدا من علماء الأحساء صدع بهذا الدين، وعرَفه، وعرّفه، وهو دعوة الرسل، كما قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالدين في هاتين الكلمتين، والقرآن كله يقرر ذلك، يعرفه من تدبره. فلما أنه برق للشيخ حسين بن غنام، رحمه الله هذا الدين، وأنه هو الحق الذي لا ريب فيه، صنف في تقريره(1/324)
المصنفات، وقال في بعض نظمه:
نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها
وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها
فعرف رحمه الله أن فعلهم عند القبور، هو دين لأرباب القبور.
والمقصود: أن الإمام فيصل بن تركي - وفقه الله وهداه وتولاه - ألقى الله في نفسه ما حصل من الفترة منكم وغيركم عن هذا الدين، والرغبة فيه والترغيب; فعزم على تجديد هذه الدعوة مخافة أن تدرس، لأن الله فتح على كثير من الناس الدنيا وكثرتها، والتنافس فيها هلاك، لأن بها تحصل الغفلة عن الدين، والإعراض عن دين المرسلين، وتكون المحبة لها، والبغض عليها; حتى إن بعض الناس، يقرب الرافضي وأمثاله لمصلحة دنياه، ولا يميز بين الخبيث والطيب لما أشرب من هواه الذي طبع على قلبه فأعماه وأصماه. فإن حصل منكم وأمثالكم قيام في هذا الدين، وسؤال العامة عن أصول الدين، وقراءة منكم وتدريس في كتب التوحيد، التي وجودها حجة عليكم، فهذا هو الواجب، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً(1/325)
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] .
والذي هذه حاله، ما يستحق أن يصير في مدرسة ومسجد، يأكل وقفهما، لأنه أوقع نفسه في الوعيد الشديد، وغفل عن أوجب العلوم، وأفرضها.
فاجعلوا لكم قصدا حسنا مع ربكم، ولا تضيعوا دينكم فتبوؤوا بإثم من حولكم من الجهال، إذا تركتم تعلم دينكم، كما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، ففي هذه الآية بيان التوحيد في العبادة، ونفي الشرك فيها، وبيان أن هذا هو الإسلام. وهذا الخط لكم، فيه بشارة ونذارة، والسلام.(1/326)
(رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى ابن مقرن في الحث على النظر في الأهم من أصول الدين)
وله أيضا: رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ الشيخ: محمد بن مقرن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجواب الأشياخ الثلاثة وصل، لكنه لا يطابق السؤال. واعلم: أني لم أرد بذلك السؤال، إلا الإرشاد إلى النظر في الأهم من أصول الدين، لينشروه تقريرا وتحريرا; فأخرجته مخرج السؤال، ليكون أدعى إلى الالتفات إليه، فلم يحصل جواب يطابق السؤال. والسؤال إنما هو عن توحيد الاعتقاد والعمل، الذي اتفقت عليه دعوة المرسلين عليهم السلام، وما دعوا إلى شيء قبله، وهو توحيد المراد، والإرادة.
فالمطلوب: أن يعرفوه بتعريف جامع، ويذكروا دليله، فإنه أبين شيء وأوضحه لمن تدبر الآيات المحكمات، وما قاله السلف الأول، والأئمة وأتباعهم، من أهل السنة، الذين علت هممهم، عن النظر في أوضاع المتكلمين، والمتصوفة، لما فيها من التخليط والاضطراب والخطأ، كما لا يخفى على من اهتدى، وكل أهل مذهب من الأربعة: ففيهم من أتباع السلف، وأهل التحقيق، كثير، وقبلهم أئمة الحديث، فمن علت همته إلى طلب الهدى، وبالسلف وأتباعهم(1/327)
اقتدى، نال المنى، إن شاء الله، وأصاب الهدى.
والأشياخ الثلاثة، كما ذكرت - أيدهم الله بنور البصيرة - معهم من الذكاء والفطنة، ما يجب أن يصرفوه إلى أهم الأمور; فلو صرفوا الهمة إلى ما أشرت إليه، نالوا به خير الدنيا والآخرة، بتوفيق الله تعالى.
وما تركت مكاتبتهم في هذا الشأن، إلا لكون الغرض أعم، فإن عندهم من هو أسن منهم، وقد سمعوا اليسير من شيوخنا; إذا عرفت ما قلته، فإن حصل تعريف جامع لذلك التوحيد، الذي هو ثالث أنواعه، فلا بد من تعريف الإله، المنفي بكلمة الإخلاص، والإلهية المثبتة للمستثنى فيها، وبيان مضمون هذه الكلمة، وما دلت عليه، مطابقة، وتضمنا. ولا بد أيضا: من تعريف العبادة كما عرفها المحققون، ثم تعريف الشرك، المنافي لذلك التوحيد، ويكون التعريف جامعا.
وأما الشرك الخفي، فهو: الشرك الأصغر، كالحلف بغير الله في الجملة، والرياء، وقول: ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك، فإنه أكبر من الكبائر، ولا يخرج من الملة، ونعوذ بالله من قول وعمل، لا يبتغى به وجه الله. ومما يرشد إلى الاهتمام بهذه الأمور: أن من العلماء من غلط في مسمى التوحيد الذي هو أصل الدين، وأساس الملة، كما قال شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية: وقد غلط(1/328)
في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى قلبوا حقيقته، وطائفة ظنت أن التوحيد نفي الصفات، وطائفة ظنت أنه الإقرار بتوحيد الربوبية.
ومنهم من أطال في تقرير هذا، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية: نفي القدرة على الاختراع، ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب مقرّون بذلك. وساق الأدلة، كقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] .
وقال شيخنا، شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغالب: ستة أصول، بينها الله تعالى بيانا واضحا للعوام، فوق ما يظن الظانون، ثم بعد ذلك غلط فيها أذكياء العالم، وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل.
الأصل الأول: إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وبيان ضده، الذي هو: الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى، بكلام يفهمه أبلد العامة. ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار، أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين، واتباعهم. انتهى كلامه رحمه الله 1.
__________
1 وتقدم في ص 172-174 ذكر هذه الأصول الستة.(1/329)
(مقامات الكلام في الإسلام والإيمان)
وقال أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد رحمهم الله: الكلام في الإسلام والإيمان، في مقامات: الأول: فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام، للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله " 1 الحديث. " قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره " 2. فأخبر أن الإسلام، هو الأعمال الظاهرة، والإيمان، يفسر بالأعمال الباطنة، وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران. فإذا أفرد الإيمان، كما في كثير من آيات القرآن، دخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، كما دل على ذلك كثير من الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية [سورة النساء آية: 136] . فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة، لدخولها في مسمى الإيمان.
وأما الأركان الخمسة، فهي جزء مسمى الإيمان، ولا يحصل الإسلام على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان،
__________
1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/51) .
2 البخاري: الإيمان (50) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) .(1/330)
والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث; وأصول الإيمان المذكورة تتضمن: الأعمال الباطنة والظاهرة; فإن الإيمان بالله يقتضي محبته، وخشيته، وتعظيمه، وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه; وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي; فدخل هذا كله في هذه الأصول الستة.
ومما يدل على ذلك، قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [سورة الأنفال آية: 2] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [سورة الأنفال آية: 4] ، فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات آية: 15] . فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل إيمان.
ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان، قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة آية: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة. ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم " 1، ففسر الإيمان
__________
1 البخاري: المغازي (4368) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) والأشربة (5692) , وأبو داود: الأشربة (3692) والسنة (4677) .(1/331)
بالأعمال الظاهرة، لأنها جزء مسماه، كما تقدم. إذا عرفت أن كلا من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعا، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها من الإسلام، فهو نقص في كمال الإيمان الواجب، كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، حين ينتهبها وهو مؤمن " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " 2،ونفى الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه. فالمنفي في هذه الأحاديث: كمال الإيمان الواجب، فلا يطلق الإيمان على مثل أهل هذه الأعمال إلا مقيدا بالمعصية، أو بالفسوق، فيقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيكون معه من الإيمان بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان على سبيل إطلاق أهل الإيمان، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء آية: 92] . وأما المؤمن الإيمان المطلق، الذي لا يتقيد بمعصية ولا بفسوق، ونحو ذلك، فهو: الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات، مع تركه لجميع المحرمات فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد. فهذا: هو الفرق بين مطلق الإيمان، والإيمان المطلق، والثاني هو الذي لا يصر صاحبه
__________
1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) .
2 أحمد (3/135) .(1/332)
على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا، هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، في الفرق بين الإسلام والإيمان؟ وهو الفرق بين مطلق الإيمان، والإيمان المطلق; فمطلق الإيمان هو: وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان، الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به، فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب، أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه. والمرتبة الثانية من مراتب الدين: مرتبة أهل الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم، بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب; فهذه هي المرتبة الثانية التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار، كقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية [سورة الحديد آية: 21] . فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم; وهم السعداء أهل الجنة. والله سبحانه أعلم.(1/333)
(الفرق بين الإيمان والإسلام)
وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن الفرق بين الإسلام والإيمان، فأجاب: قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " 1، وقال: " الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 2، وقال في حديث ابن عمر: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " 3، وفي رواية: " والحج، وصوم رمضان " 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن; وكل مؤمن مسلم; وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا، كما دلت عليه الأحاديث; انتهى كلامه.
فإن قيل: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل بين
__________
1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51 ,1/52) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9 ,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) .
3 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) .
4 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/120 ,2/143) .(1/334)
الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث أن الإيمان قول، وعمل، ونية; وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم؟
فالجواب: أن الأمر كذلك; وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان الكتاب والسنة; أما الكتاب، فكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [سورة الأنفال آية: 2] . وأما الحديث، فكقوله في حديث أبي هريرة، المتفق عليه: " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 1 وغير ذلك. فمن زعم: أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز; فقد خالف الصحابة، والتابعين، والأئمة.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمى الإيمان، شاملا لها; ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمى الإيمان، لكون الإيمان مثالا لها ولغيرها من الأعمال الباطنة والظاهرة. فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث، دخل فيه الإسلام. وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، وفسر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه; وقوته وضعفه، ناشئ عن قوة ما في القلب من هذه الأعمال أو ضعفها.
__________
1 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) .(1/335)
وقد يضعف ما في القلب، من الإيمان بالأصول الستة، حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " 1. فبقدر ما في القلب من الإيمان، تكون الأعمال الظاهرة، التي هي داخلة في مسماه، وتسمى إسلاما، وإيمانا، كما في حديث وفد عبد القيس، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم " 2. فهذه الأعمال داخلة في الإيمان، وهي الإسلام، لأن الإيمان اسم لجميع الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن ترك شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات، نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على الإسلام، والإيمان، والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان; والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام. والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. انتهى، وهذا يبين ما قررنا.
__________
1 البخاري: الإيمان (22) , ومسلم: الإيمان (183) , وأحمد (3/56) .
2 البخاري: الإيمان (53) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) والأشربة (5692) , وأبو داود: الأشربة (3692) والسنة (4677) , وأحمد (1/361) .(1/336)
فحينئذ يتبين الإيمان الكامل، الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة، والنجاة من النار، هو: فعل الواجبات، وترك المحرمات، وهو الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد; وهو الإيمان الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق. وأما من لم يكن كذلك، بل فرط في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد، فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " 1، أي: ليس موصوفا بالإيمان الواجب، الذي يستحق صاحبه الوعد بالجنة، والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة.
وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمى مؤمنا إلا بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان; أي: أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنا وظاهرا. وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان، هو: مذهب الإمام أحمد، وطائفة من السلف والمحققين. وذهب طائفة من أهل السنة أيضا إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وهو الدين، فيسمى إسلاما، وإيمانا؛ فهما اسمان لمسمى واحد; والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه؛ فلا تلتفت إلى ما يخالف هذين
__________
1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) .(1/337)
القولين، والله أعلم.
(رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الله بن محمد وتحريم علم المنطق)
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ القادم من بلاد الأفغان: عبد الله بن محمد، وفقه الله لحقيقة الإسلام، والإيمان، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته.
وبعد: فالذي يجب علينا، محبة الخير لمن أراده وقصده، فلعل الله أن يجعله موثرا للحق على غيره، لكن نبحث مع مثلك في شيئين: الأول: أن علم المنطق قد حرمه كثير من المحققين، وأجازه بعض العلماء، لكن الصواب تحريمه، لأمور، منها:
الأمر الأول: أنه ليس من علوم الشريعة المحمدية، بل هو من علوم اليونان، وأول من أحدثه المأمون بن الرشيد، وأما في خلافة من قبله من أسلافه من بني العباس، وقبلهم خلفاء بني أمية فلا يعرف في عصرهم.
الأمر الثاني: أن أئمة التابعين، من الفقهاء والمفسرين والمحدثين، لا يعرفون هذا العلم، وهم نقلة العلم، والإسلام في وقتهم أظهر، والعلوم النافعة عندهم أكثر، وقد توافرت دواعيهم على نقل العلم، وكذلك من أخذ عنهم من الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المحدثين،(1/338)
ومن الفقهاء والمفسرين، فلا تجد في كتبهم، ولا من أخذ عنهم شيئا من هذا العلم.
الأمر الثالث: أن هذا العلم إنما أحدثه الجهمية، لما ألحدوا في أسماء الله وصفاته، واستمالوا المأمون، على تعريب كتب اليونان، فعظمت فتنة الجهمية، وظهرت بدعتهم من أجل ذلك، فصار ضرره أكثر من نفعه.
وذكر العلماء أن ما فيه من صحيح فهو موجود في كتب أصول الفقه، فيتعين تركه وعدم الالتفات إليه; والمعول إنما هو على الكتاب والسنة وما عليه السلف والأئمة، وهذه كتبهم موجودة بحمد الله ليس فيها من شبهات أهل المنطق شيء أصلا، فهذا الذي ندين الله به.
البحث الثاني: السؤال عن التوحيد وأنواعه؟ وحقيقة كل نوع منه؟ فإن كان عند القادم من ذلك تحقيق، وإلا فيجب إرشاده إلى ذلك وتعليمه، لأن العلم أقسام ثلاثة لا رابع لها; فيجب عليك أيها الرجل القادم أن تسعى لنفسك بمعرفة الحق بدليله، والذي يقبل علمنا هذا، الذي منّ الله به علينا، من تمييز الحق من الباطل، فهو أخونا، والحمد لله على هداية من اهتدى، والذي يرى غير ذلك، فلا نحن بإخوان له; والسلام، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
وقال أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: اعلم: أن مذهب أهل السنة والجماعة، أن الله تبارك(1/339)
وتعالى يتكلم إذا شاء، وقول السائل: وأنها 1 كلامه القديم، هذا قول الكرامية، وأهل السنة لا يقولون هذا، بل يقولون: إنها وحيه، أوحاه إلى جبريل، وسمع كلام الرب تعالى وبلغه رسله، وكتب تعالى التوراة بيده، كما صح ذلك على ما يليق بجلاله، وهذا قول السلف والأئمة; وجميع ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم يثبتون ذلك، إثباتا بلا تأويل، وتنْزيها بلا تعطيل، فلا ينفون ما أثبته، ولا يثبتون ما نفاه.
وسئل عن حديث: " أنا مدينة العلم، وعلي بابها " 2؟
فأجاب: الذي وقفنا عليه، من كلام أهل العلم: ذكر شيخ الإسلام في منهاج السنة، أن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات; وما علمت أن أحدا من العلماء خالف ابن الجوزي في ذلك; إلا أن الحاكم ذكره في المستدرك، وذكره لهذا الحديث مما عيب عليه.
وهذا الحديث يلزم عليه أن تكون السنن التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تصدر منه إلى علي، ومن علي إلى الصحابة; والواقع خلاف ذلك، فقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة علي، فمقل ومستكثر; وليس علي رضي الله عنه من المكثرين عنه، وقد سئل علي رضي الله عنه فقيل له: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، إلا هذه الصحيفة، وفيها العقل; وهذا مما يبين
__________
1 أي الآيات.
2 الترمذي: المناقب (3723) .(1/340)
قوة قول ابن الجوزي، وحكمه على الحديث بالوضع.
وقال في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: حديث: " أنا مدينة العلم " إلى آخره، وقال منكر وأنكره البخاري أيضا، وذكره الحاكم في مستدركه، من حديث ابن عباس، وقال: صحيح، قال الذهبي: بل موضوع، وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا فيه. وقال يحيى بن معين: لا أصل له، وكذا قال أبو حاتم، ويحيى بن سعيد، قال الدارقطني: غير ثابت. وقال ابن دقيق العيد: لم يثبتوه. هذا ما وقفنا عليه من كلام الحفاظ، والله أعلم.(1/341)
(أصول الدين وأركان الإسلام)
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: الله ربي، خالقي، ومالكي، ومعبودي، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فإذا قيل لك: ما الذي خلقك الله لأجله؟
فقل: خلقني لأعبده وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، والعبادة: أن تعمل بطاعة الله تعالى، بما أمرك به، ونهاك عنه، مخلصا له العبادة والعمل.
وإذا قيل لك: ما دينك؟ فقل، ديني الإسلام، وهو الخضوع لله، والذل له بالإخلاص، والانقياد له بالعمل بما شرعه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19] ، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ(1/342)
وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، وهي: لا إله إلا الله; وإسلام الوجه هو: الإخلاص، والإحسان: هو المتابعة.
ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، والدليل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . فقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا} فيه معنى لا إله، وقوله: {إِلاَّ إِيَّاه} فيه معنى إلا الله، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} فيه معنى لا إله، وقوله: {إِلاَّ اللَّهَ} هو المستثنى لفظا ومعنى. والآيات في معنى هذه الكلمة العظيمة كثيرة في القرآن.
وإذا قيل لك: من نبيك؟
فقل: نبيي محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، الخليل عليهما السلام بعثه الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس يدعوهم إلى ما خلقوا له من معنى: لا إله إلا الله، وختم به رسله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل عليه القرآن الذي هو أفضل الكتب المنَزلة على من قبله من المرسلين، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [سورة المائدة آية: 48] ، وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [سورة الأحزاب آية: 40] .(1/343)
وإذا قيل لك: هل يبعث الله الخلق بعد الموت؟ ويحاسبهم على أعمالهم خيرها وشرها؟ ويدخل من أطاعه الجنة؟ ومن كفر به وأشرك به غيره فهو في النار؟
فقل: نعم; والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة التغابن آية: 7] ، وقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [سورة طه آية: 55] . وفي القرآن من الأدلة على هذا ما لا يحصى.
وإذا قيل لك: ما أفضل الأعمال بعد الشهادتين؟
فقل: أفضلها الصلوات الخمس، ولها شروط وأركان وواجبات. فأعظم شروطها: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول الوقت، والنية.
وأركانها أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على سبعة الأعضاء، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم.
وواجباتها ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، سبحان ربي العظيم في الركوع، سمع الله لمن حمده، للإمام(1/344)
والمنفرد، ربنا ولك الحمد للكل، سبحان ربي الأعلى في السجود، رب اغفر لي بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له; وما عدا هذا فسنن أقوال وأفعال، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(ذكر مذهب السلف في العقائد الذي حكاه ابن القيم)
قال الشيخ: حسن بن الشيخ حسين، بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ونحن نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد بلفظه، قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز، والشام، وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن مذهب أهل السنة وسبيل الحق.
قال: وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا عنهم العلم، فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالكتاب والسنة. والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون شكا، إنما هي سنة ماضية عند العلماء، وإذا سئل(1/345)
الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو ويقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم: أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع، فهو مرجئ. ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قال بقول المرجئة. ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ. ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ. ومن زعم أن المعرفة تقع في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجئ.
والقدر: خيره وشره قليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره، من الله عز وجل، قضاء قضاه على عباده، وقدرا قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله، ولا يجاوزه قضاؤه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم؛ وهو عدل منه جل ثناؤه وعز شأنه.
والزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس، وأكل المال الحرام والشرك، والمعاصي: كلها بقضاء الله وقدر من الله من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] . وعلم الله ماض في خلقه بمشيئة منه، قد علم - من(1/346)
إبليس ومن غيره، من لدن عصى الله تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة - المعصية، وخلقهم لها; وعلم الطاعة من أهل الطاعة، وخلقهم لها؛ فكل يعمل لما خلق له، وسائر إلى ما قضى عليه، لا يعدو أحد منهم قدر الله ومشيئته، والله الفعال لما يريد.
ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه وتكبروا الخير والطاعة، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والمعصية فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله تعالى، وأي افتراء على الله أكبر من هذا؟ ومن زعم أن الزنى ليس بقدره، قيل له: أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنا وجاءت بولد، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم: أن مع الله خالقا؛ وهذا الشرك صراحا.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء ولا قدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره؛ وهذا صريح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله؛ وأي كفر أوضح من هذا؟! بل ذلك بقضاء الله عز وجل، وذلك عدل منه في(1/347)
خلقه وتدبيره فيه، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد. ومن أقر بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر والقمأة.
ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار، لذنب عمله، ولا لكبيرة أتاها، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء في حديث، ولا بنص الشهادة. ولا نشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله، ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة.
والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم؛ ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة. والجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا، ولا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. والجمعة والعيدان والحج مع السلاطين وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء. ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم، عدلوا فيها أو جاروا. والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمركم، لا تنْزع يدا من طاعته، ولا تخرج عليه بسيف حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا؛ ولا تخرج على السلطان، وتسمع وتطيع، ولا تنكث بيعته؛ فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة. وإن أمرك السلطان بأمر فيه لله معصية؛ فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه؛ ولا تمنعه حقه. والإمساك في الفتنة سنة ماضية، واجب لزومها. فإن(1/348)
ابتليت، فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك، والله المعين.
والكف عن أهل القبلة، فلا تكفر أحدا منهم، ولا تخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وما روي فنصدقه ونقبله، ونعلم أنه كما روي نحو: كفر من يستحل نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الإسلام، فاتبع ذلك ولا تجاوزه.
والأعور الدجال خارج، لا شك في ذلك ولا ارتياب، وهو أكذب الكاذبين. وعذاب القبر حق، يسأل العبد عن دينه وعن ربه وعن الجنة وعن النار؛ ومنكر ونكير حق وهما فتانا القبر، نسأل الله الثبات.
وحوض محمد صلى الله عليه وسلم حق، حوض ترده أمته، وآنيته عدد نجوم السماء، يشربون بها منه. والصراط حق يوضع على سواء جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك. والميزان حق، توزن به الحسنات والسيئات، كما شاء الله أن توزن.
والصور حق، ينفخ فيه إسرافيل، فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون لرب العالمين، للحساب وفصل القضاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار.
واللوح المحفوظ يستنسخ منه أعمال العباد، كما سبق(1/349)
فيه من المقادير والقضاء. والقلم حق، كتب الله به مقادير كل شيء، وأحصاه في الذكر.
والشفاعة يوم القيامة حق، يشفع قوم في قوم، فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوا ولبثوا فيها ما شاء الله، ثم يخرجهم من النار، وقوم يخلدون فيها أبدا، وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله عز وجل.
ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار، وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله عز وجل، وخلق الخلق لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبدا.
فإن احتج مبتدع، أو زنديق بقول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [سورة القصص آية: 88] ، ونحو هذا من متشابه القرآن؟ قيل له: كل شيء كتب الله عليه الفناء والهلاك، والجنة والنار خلقهما الله للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة، لا من الدنيا. والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة، ولا أبدا، لأن الله خلقهن للبقاء لا للفناء، ولا يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف ذلك، فهو مبتدع ضال عن سواء السبيل.
وخلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض؛ وبين الأرض العليا والسماء الدنيا(1/350)
مسيرة خمسمائة عام‘ وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء السابعة العليا، وعرش الرحمن فوق الماء، والله عز وجل على العرش، والكرسي موضع قدميه. وهو يعلم ما في السماوات وما في الأرضين، وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في مقر البحر ومنبت كل شعرة، وشجرة، وكل زرع، وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الرمل، والحصى والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد، وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم ويعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء من ذلك وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نار، وحجب من نور وظلمة وما هو أعلم به.
فإن احتج مبتدع، أو مخالف بقول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] إلى قوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا} الآية [سورة المجادلة آية: 7] ، ونحو هذا من متشابه القرآن، فقل: إنما يعنى بذلك العلم، لأن الله عز وجل على العرش، فوق السماء السابعة العليا، يعلم ذلك كله، وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عز وجل عرش، وللعرش حملة يحملونه; والله عز وجل مستو على عرشه، وليس له حد.(1/351)
والله عز وجل سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى ولا يسهو، قريب لا يغفل، يتكلم وينظر، ويبسط، ويضحك ويفرح، ويحب ويكره، ويبغض، ويرضى ويغضب، ويسخط ويرحم، ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويوعيها ما أراد؛ وخلق آدم بيده على صورته. والسماوات والأرض يوم القيامة في كفه؛ ويضع قدمه في النار، فتنْزوي ويخرج قوما من النار بيده. وينظر إلى وجهه أهل الجنة، يرونه، فيكرمهم، ويتجلى لهم. وتعرض عليه العباد يوم القيامة، ويتولى حسابهم بنفسه، ولا يلي ذلك غيره، عز وجل.
والقرآن كلام الله الذي تكلم به، ليس بمخلوق؛ فمن زعم أن القرآن مخلوق، فهو جهمي كافر. ومن زعم أن القرآن كلام الله، ووقف، فلم يقل ليس بمخلوق، فهو أخبث من القول الأول. ومن زعم أن ألفاظنا وتلاوتنا مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي.: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، منه إليه،(1/352)
وناوله التوراة من يده إلى يده; ولم يزل الله عز وجل متكلما.
والرؤيا من الله، وهي حق إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس أضغاثا، فقصها على عالم وصدق فيها، فأولها العالم على أصل تأويلها الصحيح، ولم يحرف؛ فالرؤيا تأويلها حينئذ حق. وكانت الرؤيا من الأنبياء وحيا، فأي جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا، ويزعم أنها ليست بشيء؟ وبلغني أن من قال هذا القول، لا يرى الاغتسال من الاحتلام، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده، وقال: " إن الرؤيا من الله " 1.
وذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، والكف عن ذكر مساويهم التي شجرت بينهم؛ فمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم، أو تنقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بغيبتهم، أو عاب أحدا منهم، فهو مبتدع، رافضي، خبيث، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا؛ بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة.
وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان؛ ووقف قوم على عثمان؛ وهم خلفاء راشدون، مهديون.
ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم، ولا يطعن
__________
1 البخاري: التعبير (7005) , ومسلم: الرؤيا (2261) , والترمذي: الرؤيا (2277) , وأبو داود: الأدب (5021) , وابن ماجه: تعبير الرؤيا (3909) , وأحمد (5/296 ,5/304 ,5/305) .(1/353)
على أحد منهم بعيب ولا نقص؛ فمن فعل ذلك، فقد وجب على السلطان تأديبه، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه، ويستتيبه، فإن تاب قبل معه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وخلده في الحبس حتى يتوب أو يرجع.
ونعرف للعرب حقها وسابقتها وفضلها، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حب العرب من الإيمان، وبغضهم نفاق "؛ ولا نقول بقول الشعوبية، وأراذل الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون لهم بفضل، فإن قولهم بدعة. ومن حرم المكاسب، والتجارات وطلب المال من وجهه، فقد جهل وأخطأ؛ بل المكاسب من وجوهها حلال، قد أحلها الله عز وجل ورسوله؛ فالرجل ينبغي له أن يسعى على نفسه وعياله يبتغي من فضل ربه، فإن ترك ذلك على أنه لا يرى ذلك الكسب حلالا، فقد خالف الكتاب والسنة.
والدين إنما هو كتاب الله عز وجل، وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات والأخبار الصحيحة القوية المعروفة، ويصدق بعضها بعضا حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين والتابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة المعروفين، المقتدى بهم، المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار، ولا يعرفون ببدعة، ولا يطعنون بكذب، ولا يرمون بخلاف ... إلى أن قال:
فهذه الأقاويل التي وصفت، مذاهب أهل السنة(1/354)
والجماعة والأثر، وأصحاب الروايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث، وتعلمنا منهم السنن، وكانوا أئمة معروفين ثقات، أهل صدق وأمانة، يقتدى بهم، ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أصحاب بدع، ولا خلاف، ولا تخليط، وهذا قول أئمتهم، وعلمائهم، الذين كانوا قبلهم؛ فتمسكوا بذلك، وتعلموه، وعلموه.
قلت: حرب هذا، هو صاحب الإمام أحمد وإسحاق، وله عنهما مسائل جليلة، وأخذ عن سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وهذه الطبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم، واتفاقهم عليها; ومن تأمل النقول عن هؤلاء، وأضعاف أضعافهم من أئمة السنة والحديث، وجده مطابقا لما نقله حرب، ولو تتبعناه لكان بقدر هذا الكتاب مرارا. وقد جمعنا منه في مسألة علو الرب تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وحدها، سفرا متوسطا; فهذا مذهب المستحقين لهذه البشرى قولا وعملا واعتقادا، وبالله التوفيق. انتهى كلامه من "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، رحمه الله.
قال الشيخ حسن بن حسين: الذي أعتقده، وأدين الله به، وأشهد الله عليه وملائكته، والواقف عليه، هذا، وهو المذهب الصحيح، الذي درج عليه السلف الصالحون، والخلف التابعون. وأبرأ إلى الله مما سواه ولا إله إلا الله عدة للقاه، وصلى الله على سيدنا محمد، وصحبه، ورضي عنهم أجمعين.(1/355)
(جواب الشيخ أبا بطين عن مذهب القدرية والمعتزلة والخوارج)
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى، عن القدرية؟ ومذهبهم؟ والمعتزلة؟ ومذهبهم؟ والخوارج؟ ومذهبهم؟
فأجاب رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم، وبه نستعين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين. فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبرائيل الاعتقاد الباطن، فقال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 1. والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جدا، والقدر الذي يجب الإيمان به، على درجتين:
الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد، من خير وشر وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم، قبل خلقهم وتكوينهم؛ وأنه كتب ذلك عنده، وأحصاه; وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
الدرجة الثانية: الإيمان بأن الله خلق أفعال العباد كلها: من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وشاءها منهم. فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة، وينكرها جميع القدرية; يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا
__________
1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51 ,1/52) .(1/356)
شاءها منهم؛ بل هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم، من خير وشر، وطاعة ومعصية; والدرجة الأولى نفاها غلاة القدرية، كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد; ونص أحمد، والشافعي على كفر هؤلاء.
وأما من قال: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يشأها منهم، مع إقرارهم بالعلم، ففي تكفيرهم نزاع مشهور بين العلماء. فحقيقة القدر، الذي فرض علينا الإيمان به: أن نعتقد أن الله سبحانه عالم ما العباد عاملون، قبل أن يوجدهم، وأنه كتب ذلك عنده، وأن أعمال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله واقعة بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة المدثر آية: 31] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [سورة الأنعام آية: 137] ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [سورة البقرة آية: 253] ،: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [سورة الأنعام آية: 107] ، فهذه الآيات ونحوها صريحة في أن أعمال العباد، خيرها وشرها، وضلالهم واهتداءهم، كل ذلك صادر عن مشيئته.
وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس آية: 7-8] ، وقال تعالى: {إِنَّ الأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [سورة المعارج آية: 19-20-21] ، فدل ذلك على أن الله سبحانه هو الذي جعلها فاجرة، أو تقية، وأنه خلق الإنسان هلوعا، خلقه متصفا بالهلع، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ(1/357)
مُؤْمِنٌ} [سورة التغابن آية: 2] .
ففي هذه الآية: بيان أن الله تعالى خلق المؤمن وإيمانه، والكافر وكفره. وقد صنف البخاري - رحمه الله تعالى - كتاب خلق أفعال العباد، واستدل بهذه الآيات، أو بعضها على ذلك، وفي الحديث: " إن الله خلق كل صانع وصنعته ".
وأما الأدلة على تقدم علم الله سبحانه بجميع الكائنات قبل إيجادها، وكتابة ذلك، ومنها: السعادة، والشقاوة، وبيان أهل الجنة، وأهل النار قبل أن يوجدهم، فكثيرة جدا، كقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة الحديد آية: 22] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " 1، وفي حديث آخر: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " 2. والأحاديث في هذا كثيرة جدا. فهؤلاء الذين وصفنا قولهمبأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاءها منهم هم القدرية، الذين هم مجوس هذه الأمة; وقابلتهم طائفة أخرى، غلوا في إثبات القدر، وهم الذين يسمون الجبرية; فقالوا: إن العبد مجبور مقهور على ما يصدر منه، لا قدرة له فيه ولا اختيار، بل هو كغصن الشجرة الذي تحركه الريح; والذي عليه أهل السنة والجماعة: الإيمان بأن أفعال العباد مخلوقة لله، صادرة عن
__________
1 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/169) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/317) .(1/358)
مشيئته. وهي أفعال لهم، وكسب لهم باختيارهم، فلذا ترتب عليها الثواب، والعقاب.
والسلف يسمون الجبرية قدرية، لخوضهم في القدر، ولهذا ترجم الخلال في كتاب "السنة" فقال: الرد على القدرية وقولهم إن الله جبر العباد على المعاصي. ثم روى عن بقية قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر؟ فقال الزبيدي: " أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل; ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أوجب ". وقال الأوزاعي: " ما أعرف للجبر أصلا من القرآن ولا السنة. فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر، والجبل، والخلق، فهذا يعرف من القرآن، والحديث "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابع التابعين من أحسن الأجوبة. أما الزبيدي، فقال: ما تقدم، وذلك لأن الجبر في اللغة إلزام الإنسان بغير رضاه، كما يقول الفقهاء، هل تجبر المرأة على النكاح أم لا؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فقال: الله أعظم من أن يجبر، أو يعضل، لأن الله قادر على أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله، مبغضا تاركا لما يتركه، فلا جبر على أفعاله الاختيارية، ولا عضل عما يتركه لكراهته، أو عدم إرادته.
وروي عن سفيان الثوري: أنه أنكر "جبر" وقال: "الله سبحانه جبل العباد ". وقال الراوي عنه: وأظنه أراد(1/359)
قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (بل جبلت عليهما) فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين، يحبهما الله، يعني: الحلم، والأناة. وقال المروذي للإمام أحمد إن رجلا يقول: إن الله جبر العباد، فقال: لا نقول هكذا، وأنكر هذا، وقال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة المدثر آية: 31] .
وأما المعتزلة: فهم الذين يقولون بالمنْزلة بين المنْزلتين، يعنون: أن مرتكب الكبيرة يصير في منْزلة بين الكفر والإسلام، فليس هو بمسلم، ولا كافر; ويقولون: إنه يخلد في النار، ومن دخل النار لم يخرج منها بشفاعة، ولا غيرها.
وأول من اشتهر عنه ذلك: عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين الجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة. وهم كانوا بالبصرة بعد موت الحسن البصري. وضم المعتزلة إلى ذلك: التكذيب بالقدر، ثم ضموا إلى ذلك: نفي الصفات، فيثبتون الاسم دون الصفة، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا سائر الصفات. فهم قدرية جهمية، وامتازوابالمنْزلة بين المنْزلتين وخلود عصاة الموحدين في النار.
وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، وقبل ذلك قتلوا عثمان رضي الله عنه، وكفروا عثمان، وعليا، وطلحة، والزبير ومعاوية، وطائفتي علي ومعاوية، واستحلوا دماءهم.(1/360)
وأصل مذهبهم الغلو الذي نهى الله عنه، وحذر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا من ارتكب كبيرة، وبعضهم يكفر بالصغائر، وكفروا عليا وأصحابه بغير ذنب، فكفروهم بتحكيم الحكمين: عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وقالوا: لا حكم إلا لله.
واستدلوا على قولهم بالتكفير بالذنوب، بعمومات أخطؤوا فيها، وذلك كقوله سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [سورة الجن آية: 23] ،: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [سورة النساء آية: 14] ، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية [سورة النساء آية: 93] ، وغير ذلك من الآيات.
وأجمع أهل السنة والجماعة: أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا على التوحيد، وأن من دخل النار منهم بذنبه يخرج منها كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا، فلو كان الزاني وشارب الخمر والقاذف والسارق ونحوهم كفارا مرتدين لكان حكمهم في الدنيا القتل الذي هو حكم الله في المرتدين؛ فلما حكم الله على الزاني البكر الجلد وعلى السارق بالقطع وعلى الشارب والقاذف بالجلد، دلنا حكم الله فيهم بذلك أنهم لم يكفروا بهذه الذنوب كما تزعمه الخوارج.(1/361)
فإذا عرفت مذهبهم أن أصله التكفير بالذنوب، وكفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحلوا قتلهم، متقربين بذلك إلى الله، فإذا تبين لك ذلك، تبين لك ضلال كثير من أهل هذه الأزمنة، في زعمهم: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأتباعه خوارج؛ ومذهبهم مخالف لمذهب الخوارج، لأنهم يوالون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فضلهم على من بعدهم، ويوجبون اتباعهم، ويدعون لهم، ويضللون من قدح فيهم، أو تنقص أحدا منهم، ولا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون أصحابها من الإسلام، وإنما يكفرون من أشرك بالله، أو حسن الشرك؛ والمشرك كافر بالكتاب، والسنة، والإجماع، فكيف: يجعل هؤلاء مثل أولئك؟!.
وإنما يقول ذلك معاند يقصد التنفير للعامة; أو يقول ذلك جاهل بمذهب الخوارج، ويقوله تقليدا; ولو قدرناأن إنسانا يقع منه جراءة، وجسرة على إطلاق الكفر، جهلا منه، فلا يجوز أن ينسب إلى جميع الطائفة، وإنما ينسب إليهم ما يقوله شيخهم، وعلماؤهم بعده؛ وهذا أمر ظاهر للمنصف، وأما المعاند المتعصب، فلا حيلة فيه.
إذا عرفت مذاهب الفرق المسؤول عنها، فاعلم أن أكثر أهل الأمصار اليوم أشعرية، ومذهبهم في صفات الرب سبحانه وتعالى موافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية.(1/362)
فهم يثبتون بعض الصفات دون بعض، فيثبتون الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع، والبصر والكلام، وينفون ما سوى هذه الصفات بالتأويل الباطل.
مع أنهم وإن أثبتوا صفة الكلام موافقة لأهل السنة، فهم في الحقيقة نافون لها، لأن الكلام عندهم هو: المعنى فقط. ويقولون: حروف القرآن مخلوقة، لم يتكلم الله بحرف، ولا صوت; فقالت لهم الجهمية: هذا هو نفس قولنا: إن كلام الله مخلوق، لأن المراد: الحروف، لا المعنى. ومذهب السلف قاطبة أن كلام الله غير مخلوق، وأنه تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه، وأنه سبحانه يتكلم بصوت يسمعه من شاء.
والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواءه على عرشه، ويسمون: من أثبت صفة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم يثبتون صفة العلو والاستواء كما أخبر سبحانه بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تعطيل. وصرح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء. والأشاعرة وافقوا الجهمية في هذه الصفة، لكن الجهمية، يقولون: إنه سبحانه في كل مكان، والحلولية والأشعرية يقولون: كان ولا مكان، فهو على ما كان، قبل أن يخلق المكان.(1/363)
والأشعرية: يوافقون أهل السنة في روية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: معنى الرؤية: إنما هو زيادة علم يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا; فهم بذلك نافون للرؤية، التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومذهب الأشاعرة أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح، قالوا: وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان. فإذا تحققت ما ذكرنا من مذهب الأشاعرة، من نفي صفات الرب سبحانه غير السبع التي ذكرنا، ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرب سبحانه معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل، لكن إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل. ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم. إذا عرفت ذلك، عرفت خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه(1/364)
أدخلهم في أهل السنة مداراة لهم، لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم، مع أنه قد دخل بعض المتأخرين من الحنابلة، في بعض ما هم عليه.
(هل النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وهل يشفع للمشركين)
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين: هل النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره؟
فأجاب: الله سبحانه وتعالى أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء، وأحق بهذا، وأنهم أحياء في قبورهم. ونحن نرى الشهداء رميما، وربما أكلتهم السباع، ومع ذلك هم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [سورة آل عمران آية: 169-170] ، فحياتهم حياة برزخية، الله أعلم بحقيقتها.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة، ومن شك في موته فهو كافر، وكثير من الناس خصوصا في هذه الأزمنة يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ميت.
وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره كما كان قبل موته؟
وقد قام البرهان القاطع: أنه لا يبقى أحد حي، حين يقول الله سبحانه وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [سورة غافر آية: 16] ، فيكون صلى الله عليه وسلم قد مات ثم بعثه في قبره ثم مات، فيكون له ثلاث موتات، ولغيره موتتان. وقد قال أبو بكر(1/365)
رضي الله عنه لما جاءه بعد موته: "أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ولن يجمع الله عليك موتتين"، وقال سبحانه عن أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [سورة الدخان آية: 56] ، يعني: التي كانت في الدنيا. أفيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات موتة ثانية، بعد الموتة الأولى؟
وأيضا: لو كان في قبره حيا، مثل حياته على ظهر الأرض، لسأله أصحابه عما أشكل عليهم، قال عمر رضي الله عنه:" ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، الجد، والكلالة، وأبواب من الربا ".فهلا جاء إلى قبره؟ واستسقى بالعباس ولم يجئ إلى قبره يستسقي به.
ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجئ أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأله عما اختلفوا فيه؟ وفي الحديث المشهور: " ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " 1، فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره، ومعرفة الميت زائره، ليس مختصا به صلى الله عليه وسلم.
والذين يظنون أن حياته في قبره كحياته قبل موته، يقرؤون في كتاب الشفاء وغيره، الحكاية المشهورة عندهم: أن الإمام مالكا قال للمنصور، لما رفع صوته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترفع صوتك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حرمته ميتا، كحرمته حيا. وقد عقد ابن القيم - رحمه الله - في النونية، فصلا على من ادعى هذه الدعوى، وأجاد رحمه الله.
__________
1 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/527) .(1/366)
والحديث الذي: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " 1 ليس له أصل. وأما قوله لعلي رضي الله عنه:" أنت مني بمنْزلة هارون من موسى " 2 فهو: حديث صحيح، وسببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك، لم يأذن لعلي في الغزو، واستخلفه على أهله، فقال علي: يا رسول الله، تخلفني مع النساء، والصبيان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى " 3. قال العلماء: يشير إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [سورة الأعراف آية: 142] ، فالمراد: استخلافه صلى الله عليه وسلم عليا على أهله في سفر غزوه.
وأما من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للمشركين يوم القيامة، فهذا كذب، يرده: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه: من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: " من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 4. فشفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل التوحيد لا للمشركين، وقال صلى الله عليه وسلم: " إني اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا " 5.
(حكم من مات في زمن الفترات ولم تبلغه الدعوة)
وسئل أيضا: رحمه الله تعالى: ما حكم من مات في زمن الفترات، ولم تبلغه الدعوة؟
فأجاب: وأما حكم من مات في زمن الفترات، ولم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه أعلم به. واسم
__________
1 الترمذي: المناقب (3723) .
2 البخاري: المناقب (3706) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (121) , وأحمد (1/170 ,1/174 ,1/179 ,1/184) .
3 البخاري: المناقب (3706) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3724) , وابن ماجه: المقدمة (115) , وأحمد (1/173 ,1/174 ,1/175) .
4 البخاري: الأطعمة (5401) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .
5 البخاري: الدعوات (6304) والتوحيد (7474) , ومسلم: الإيمان (198 ,199) , والترمذي: الدعوات (3602) , وابن ماجه: الزهد (4307) , وأحمد (2/426) , ومالك: النداء للصلاة (492) , والدارمي: الرقاق (2805) .(1/367)
الفترة لا يختص بأمة دون أمة كما قال الإمام أحمد في خطبة: الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم. ويروى هذا اللفظ عن عمر رضي الله عنه. والكلام في حكم أهل الفترة لسنا مكلفين به، والخلاف في المسألة معروف.
ولما تكلم في الفروع على حكم أطفال المشركين، وكذا من بلغ منهم مجنونا، قال: ويتوجه مثلها من لم تبلغه الدعوة، وقاله شيخنا، وفي الفنون عن أصحابنا: لا يعاقب، وذكر عن ابن حامد: يعاقب مطلقا، إلى أن قال: وقال القاضي أبو يعلى، في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] : في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في طبقات المكلفين: الطبقة الرابعة عشر: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، قال: وهؤلاء أصناف، منهم: من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع لها بخبر؛ ومنهم: المجنون الذي لا يعقل شيئا; ومنهم: الأصم الذي لا يسمع شيئا أبدا؛ ومنهم: أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئا. فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافا كثيرا. وذكر(1/368)
الأقوال واختار ما اختاره شيخه أنهم يكلفون يوم القيامة.
واحتج بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع، مرفوعا قال: " أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة. أما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وأنا ما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا: أن ادخلوا النار. فوالذي نفسي بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " ثم رواه من حديث أبي هريرة بمثله، وزاد في آخره: " ومن لم يدخلها رد إليها " انتهى.
وذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] ، قال: وهذه مسألة اختلف الأئمة فيها، وهي مسألة الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، وكذلك المجنون والأصم والخرف والأحمق ومن مات في الفترة. وقد روي في شأنهم أحاديث: أنا أذكرها بعون الله وتوفيقه. ثم ذكر في المسألة عشرة أحاديث، افتتحها بالحديث الذي ذكرناه. ثم أشار إلى الخلاف.(1/369)
ثم قال: ومن العلماء من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه، ومن عصى دخل النار، وانكشف علم الله فيه. وهذا القول: يجمع بين الأدلة; وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة، المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض; وهذا القول: حكاه الأشعري عن أهل السنة، ثم رد قول من عارض ذلك بأن الآخرة ليست بدار تكليف، إلى أن قال: ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده، كره جماعة من العلماء الكلام فيها، روي ذلك عن ابن عباس، وابن الحنفية، والقاسم بن محمد، وغيرهم.
قال: وليعلم: أن الخلاف في الولدان مخصوص بأولاد المشركين، فأما ولدان المسلمين والمؤمنين، فلا خلاف بين العلماء، حكاه القاضي أبو يعلى الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، فأما ما ذكره ابن عبد البر: أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة، وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر، فهذا غريب جدا، وذكر القرطبي في التذكرة نحوه.
وقال أيضا: وأما الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل معصية، كقوله صلى الله عليه وسلم " قتال المؤمن كفر " 1،
__________
1 النسائي: تحريم الدم (4113) .(1/370)
وقوله: " كفر من تبرأ من نسبه "، ونحو ذلك، فهذا محمول عند العلماء على التغليظ، مع إجماع أهل السنة على أن نحو هذه الذنوب، لا تخرج من الإسلام; ويقال: كفر دون كفر; وكذلك لفظ الظلم، والفسق، ظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. والأحاديث التي فيها تحريم الجنة على فاعل بعض الكبائر، فهذا على التشديد والتغليظ، لإجماع أهل السنة والجماعة أنه لا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، كما دلت على ذلك الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(معنى قول مؤلف الحموية: أما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر)
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين: ما معنى قول مؤلف الحموية: أما الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، أو الذين وافقوه بظواهرهم، وعجزوا عن تحقيق البواطن، أو الذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان، فلا بد للمنحرفين عن سنته، أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة، وإن اعتقدوا صدقها، كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر وعمر، فقد أبغض عليا.
فأجاب: لما ذكر قبل ذلك: أن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقادا، واقتصادا، وقولا، وعملا، ثم ذكر التابعين له على بصيرة، الذين هم أولى الناس به، في المحيا والممات، باطنا وظاهرا، ثم ذكر الفريق الذين وافقوه ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، فهم الذين وافقوه اعتقادا، وعجزوا عن إقامة القول، والعمل، كالدعوة(1/371)
إلى الله سبحانه، وطائفة وافقوه في الظواهر، وعجزوا عن تحقيق البواطن، على ما هي عليه، من الفرق بين الحق والباطل بقلوبهم، ففيهم نقص من هذا الوجه; وفريق وافقوه ظاهرا وباطنا، بحسب الإمكان، لكنهم دون الأولين التابعين له على بصيرة، اعتقادا واقتصادا، قولا وعملا، والله أعلم.
(معنى قوله صلى الله عليه وسلم وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي)
وسئل عن معنى، قوله صلى الله عليه وسلم: " وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي " 1؟ وفي لفظ: " على عقبي "؟
فأجاب: قوله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء، وذكر منها الحاشر، الذي يحشر الناس على قدمي، قوله: (قدمي) ، روي: بتخفيف الياء، على الإفراد، وتشديدها على التثنية، وفي رواية: (على عقبي) أي: على أثري وزمان نبوتي، ورسالتي، إذ لا نبي بعده، وقيل معناه: يقدمهم وهم خلفه، أو على أثره في المحشر، لأنه أول من تنشق عنه الأرض و "العاقب" هو: الذي يخلف من كان قبله في الخير، ومنه: عقب الرجل لولده، وقيل معناه: لأنه ليس بعده نبي، لأن العقب هو الآخر، فهو عقب الأنبياء، أي: آخرهم.
(بيان الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن لعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن عقيدة شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وحقيقة ما يدعو إليه؟
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4896) , ومسلم: الفضائل (2354) , والترمذي: الأدب (2840) , وأحمد (4/80 ,4/84) , ومالك: الجامع (1891) , والدارمي: الرقاق (2775) .(1/372)
فأجاب: بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة، بشيرا ونذيرا.
أما بعد: فقد سألت أرشدك الله أن أرسل إليك نبذة مفيدة، كاشفة عن حال الشيخ الإمام، العالم، القدوة، المجدد لما اندرس من دين الإسلام، القائم بنصرة شريعة سيد الأنام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له المآب، وضاعف له الثواب، ويسّر له الحساب.
وذكرت أرشدك الله: أن جهتكم لا يوجد فيها ذلك، وأن عندكم من الطلبة من يتشوق إلى تلك المناهج والمسالك، فكتبت إليك هذه الرسالة، وسودت إليك هذه الكراسة والعجالة ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويستبين للناظر فيها، ما يبهت به الأعداء من(1/373)
الأكاذيب والافتراء، التي يرومون بها تنفير الناس، عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل.
وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت بينهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، فإن استصحب الأصول الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسدا، ولكل حق جاحدا؛ ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام، إلا العدول الثقات، الضابطين من الأنام.
ومن استصحب هذا استراح عن البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يلتفت إلى أكثر ما يختلق ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرع.
فصل: (نشأة الإمام محمد بن عبد الوهاب وحياته)
فأما نسب هذا الشيخ فهو: الإمام العالم القدوة البارع محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد، بن محمد بن بريد بن مشرف. 1.
ولد رحمه الله سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد: العينية من أرض نجد، ونشأ
__________
1 بياض بالأصل, وسيأتي بقية نسبه, في ترجمته إن شاء الله تعالى.(1/374)
بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر. وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته، وذكائه.
وبعد حفظ القرآن اشتغل بالعلم وجد في الطلب وأدرك بعض الإرب قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة، ربما كتب الكراسة في المجلس.
قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه. ووالده هو: مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، آثاره وتصنيفه وفتواه تدل على علمه وفقهه. وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصرا الشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب، اجتمع به بمكة.
وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة، ورآه أهلا للائتمام. ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام، وأداء المناسك على التمام. ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريبا من شهرين. ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه، على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز(1/375)
مرارا، واجتمع بمن فيها من العلماء، والمشايخ الأحبار، وإلى الأحساء، وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء، فسمع وناظر، وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية، بالتوفيق والإمداد.
وروى عن جماعة، منهم: الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المديني وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه: الحديث المسلسل بالأولية في كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " 1 وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله، قالوا كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته " 2 وهذا الحديث: من ثلاثيات أحمد رحمه الله.
وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيرا من الحديث والفقه، والعربية، وكتب من الحديث، والفقه، واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات. وكان يدعو إلى التوحيد، ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه ويظهر ما عنده من العلم وما لديه. كان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارة الطواغيت أو
__________
1 الترمذي: البر والصلة (1924) , وأبو داود: الأدب (4941) .
2 الترمذي: القدر (2142) , وأحمد (3/106 ,3/120) .(1/376)
شيئا من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في المهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة، ويحذر ويخبر: أن محبة الأولياء والصالحين، إنما هي متابعتهم في ما كانوا عليه، من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين; وأما دعوى المحبة والمودة مع المخالفة في السنة والطريقة، فهي دعوى مردودة، غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك رحمه الله.
ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة: حريملا، فاستقر معه فيها، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها، ويناصح من خرج عنها، ويفشيها، حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه، من أهل المعقول والمنقول.
وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقرئ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكرها في الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد. وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه(1/377)
الطريق ويجاهدون كل فاسق وزنديق.
فصل
(مبدأ دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب وحالة البلاد عند ظهوره)
كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان، قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنْزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة، ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة، والتعلق على غير الله، من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين.
وعلماؤهم ورؤساؤهم، على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون، وإليه مدى الزمان داعون، قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رأوه من الآثار الموضوعات، والحكايات(1/378)
المختلقة، والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة الحشر آية: 19] ،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] ،: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .
فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزور.
وكذلك عندهم: نخل - فحال - ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال. والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم ترغب فيها الأزواج، تذهب إليه، فتضمه بيدها، وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطرفية، أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة، ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء.(1/379)
وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل، يزعمون أنها انفلقت من الجبل، لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق لها الغار، ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان.
وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية، يسمى: تاج، يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد - بزعمهم - ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا، وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد.
ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين! فمن ذلك: ما يفعل عند قبر محجوب، وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالشماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم! فلو دخل سارق أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم.(1/380)
ومن ذلك: ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، في سرف، وكذلك عند قبر: خديجة، رضي الله عنها، يفعل عند قبرها، ما لا يسوغ السكوت عليه، من مسلم يرجو الله والدار الآخرة، فضلا عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة، وفيه: من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الإيمان والكمال وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة، في بلد الله الحرام: مكة المشرفة.
وفي الطائف، قبر ابن عباس، رضي الله عنهما، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها: وقوف السائل عند القبر، متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية، والنذر، والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبنية.
وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث، وكشف الضر والبأس. وذكر محمد بن الحسين النعيمي الزبيدي، رحمه الله: أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف، من الشعب الشركية والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له(1/381)
بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله.
فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] ، وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين، ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم.
كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام.
وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه; وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر(1/382)
ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا، ولائذا به، مستغيثا، فتركه أرباب الأموالولم يتجاسر أحد من الرؤساء، والحكام، على هتك ذاك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة، والشياطين.
وأما بلاد مصر وصعيدها، وفيومها وأعماله، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم. وجمهورهم يرى من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة والنماردة.
وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربع، ة وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه. وكثير منهم يرى الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه; فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 5] .
وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات، والفواحش، والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات(1/383)
والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات.
كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء، وبرع، والمخا، وغيرها من تلك البلاد ما يتنَزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم.
وفي حضرموت، والشحر، وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس!
وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن. كذلك رئيسهم، المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته، وتعظيمه، وتقديمه، وتصديره، والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] .
وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من(1/384)
تلك المشاهد والنصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام. وهي تقارب ما ذكرنا، من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأحوال الوثنية الشركية.
وكذلك الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، قد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية.
وكذلك مشهد العباس، ومشهد: علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنيتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد.
وبالجملة: فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق، واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور.
ويزعمون: أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين(1/385)
حجة لله تعالى وتقدس في مجده وجلاله، ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله، وتوقيره وخشيته وخوفه، شيء للإله الحق، والملك العلام.
ولم يبق مما عليه النصارى، سوى دعوى الولد، مع أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الصافات آية: 180] . وكذلك جميع قرى الشط، والمجرة، على غاية من الجهل، وفي القطيف، والبحرين، من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية.
فمن اطلع على هذه الأفاعيل، وهو عارف بالإيمان والإسلام، وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا عن مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان، وأحوال الكهان، وما شابه هذا القبيل، فازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدته إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره، واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. ولقد أحسن العلامة: محمد بن إسماعيل، الأمير، فيما أبداه عن أهل وقته، من التبديل والتغيير.(1/386)
فصل: (إنكار أهل العلم لكل مشاهد البدع والشرك)
وهذه الحوادث المذكورة، والكفريات المشهورة، والبدع المزبورة، قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان. ولكن لما كانت الغلبة للجهال والطغام، انتقضت عرى الدين، وانثلمت أركانه وانطمست منه الأعلام، وساعدهم على ذلك من قل حظه ونصيبه من الرؤساء والحكام، والمنتسبين من الجهال إلى معرفة الحلال والحرام، فاتبعتهم العامة والجمهور من الأنام، ولم يشعروا بما هم عليه من المخالفة والمباينة لدين الله الذي اصطفاه لخاصته وأوليائه وصفوته الكرام.
ومع عدم العلم، والإعراض عن النظر في آيات الله والفهم، لا مندوحة للعامة عن تقليد الرؤساء والسادة، ولا يمكن الانتقال عن المألوف والعادة، ولهذا كرر سبحانه وتعالى التنبيه، على هذه الحجة الداحضة، والعادة المطردة الفاضحة، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة لقمان آية: 21] ، وقوله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} الآية [سورة الزخرف آية: 23] . وقد قرر هذا المعنى في القرآن، لحاجة العباد، وضرورتهم إلى معرفته، والحذر منه، وعدم الاغترار بأهله.
وما أحسن ما قال عبد الله بن المبارك، رحمه الله:(1/387)
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها! إذا عرفت هذا، فليس إنكار هذه الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالتنكير والرد على من ضل وغوى وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى، وسنسرد لك من كلامهم ما تقر به العيون وتثلج به الصدور، ويتلاشى معه ما أحدثه الجهال من البدع والإشراك والزور.
قال: أبو بكر الطرطوشي، في كتابه المشهور، الذي سماه: "الحوادث والبدع":
روى البخاري عن أبي واقد الليثي، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق; فهي: ذات أنواط، فاقطعوها; انتهى كلامه رحمه الله.
__________
1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) .(1/388)
فانظر رحمك الله، إلى تصريح هذا الإمام: بأن كل شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون الشفاء والعافية من قبلها، فهي ذات أنواط، التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة كذات أنواط، فقال: " الله أكبر، هذا كقول بني إسرائيل، اجعل لنا إلها "، 1 مع أنهم لم يطلبوا إلا مجرد مشابهتهم في العكوف عندها، وتعليق الأسلحة للتبرك.
فتبين لك بهذا أن من جعل قبرا أو شجرة، أو شيئا حيا أو ميتا مقصودا له، ودعاه واستغاث به، وتبرك به، وعكف على قبره، فقد اتخذه إلها مع الله.
فإذا كان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أنكر عليهم مجرد طلبهم منه مشابهة المشركين، في العكوف وتعليق الأسلحة للتبرك، فما ظنك بما هو أعظم من ذلك وأطم؟! الشرك الأكبر، الذي حرمه الله، ورسوله، وأخبر أن أصلح الخلق لو يفعله لحبط عمله وصار من الظالمين; فصلوات الله وسلامه عليه، فقد بلغ البلاغ المبين، وعرفنا بالله، وأوضح لنا الصراط المستقيم، فحقيق بمن نصح نفسه، وآمن بالله، واليوم الآخر، أن لا يغتر بما عليه أهل الشرك، من عبادة القبور، من هذه الأمة.
ومن ذلك: ما ذكره الإمام، محدث الشام: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، المعروف بأبي
__________
1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) .(1/389)
شامة، من فقهاء الشافعية وقدمائهم، في كتابه الذي سماه: الباعث على إنكار البدع والحوادث، في فصل: البدع المستقبحة.
قال: البدع المستقبحة تنقسم إلى قسمين: قسم تعرفه العامة والخاصة، أنه بدعة محرمة أو مكروهة، وقسم يظنه معظمهم إلا من عصمه الله، عبادات، وقربات، وطاعات، وسننا. فأما القسم الأول: فلا نطول بذكره، إذ كفينا مؤنة الكلام عنه، لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين، لكن نبين من هذا القسم ما قد وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، التاركين للاقتداء بأئمة الدين من الفقهاء، وهو ما يفعله طوائف من المنتسبين للفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخاة النساء الأجانب، والخلوة بهن، واعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، يأكلون في نهار رمضان من غير عذر، ويتركون الصلاة، ويخامرون النجاسات، غير مكترثين بذلك، فهم داخلون تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] . وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر، من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد،
يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا، ممن شهر بالصلاح،(1/390)
والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله تعالى، وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك. ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، بالنذر لهم، وهي ما بين: عيون وشجر، وحائط وحجر.
وفي مدينة دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى، خارج باب توما، والعمود المخلق داخل الباب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها، ويذبحون لها ".
وفي رواية: " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فتنادينا من جنبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} . لتركبن سنن من كان(1/391)
قبلكم " أخرجه الترمذي بلفظ آخر، والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي، في كتابه المتقدم ذكره 1: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
قلت: ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق، الجبيناني، رحمه الله تعالى، أحد الصالحين ببلاد إفريقية، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب: أنه كان إلى جانبه عين تسمى: عين العافية، كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح أو ولد، قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت، فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن.
قلت: وأدهى من ذلك وأمر، إقدامهم على قطع الطريق السابلة، يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام، أو من بناء ذي القرنين، وقيل فيها غير ذلك،
__________
1 في صفحة: 239 , 388.(1/392)
مما يؤذن بالتقدم، على ما نقلناه في: كتاب تاريخ مدينة دمشق، حرسها الله تعالى، وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في شهور سنة ست وثلاثين وستمائة، أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت.
وقد أخبرني عنه ثقة: أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريقة المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب، وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج. ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه وإزالة اعتدائه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في هدم مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار، فلم ينظر الشارع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به من السوء والردى، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [سورة التوبة آية: 108] . نسأل الله الكريم معافاتنا من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله، فاتخذ إلهه هواه.
وهذا الشيخ أبو شامة، من كبار أئمة الشافعية، في أوائل القرن السابع.
وقال الإمام: أبو الوفاء، ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله -: لما صعبت التكاليف على الجهلة والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.(1/393)
قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، وإلزامها لما نهى عنه الشارع، من إيقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وأخذ بتربتها تبركا بها، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى. والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر، أو محمد وعلي، أولم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر. انتهى.
فتأمل رحمك الله تعالى ما ذكره هذا الإمام، الذي هو أجل أئمة الحنابلة، بل من أجل أئمة الإسلام، وما كشف من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس إذ ذاك لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك يشهدون، وحظهم من النهي مرتبة ثانية، فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموه به المتعصبون والملحدون.
وقال الشيخ تقي الدين: وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، فهو من المحرمات المنكرة،(1/394)
باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، لميت: يا سيدي، يا فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها.
(ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك إذا أجدبنا، فتسقينا، فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا) ،
كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، و (كذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي) ، فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسلا منه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، وبدعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، فقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضل.
وقد كره العلماء كمالك، وغيره، أن يقوم الرجل عند(1/395)
قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. قال أصحاب مالك: إنه إذا دخل المسجد يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره؛
فأما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف. ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإذا كان قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة، أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه، كما لا يصلى إليه، قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. ولهذا - والله أعلم - حرفت الحجرة، وثلثت، لما بنيت; فلم يجعل حائطها الشمالي، على سمت القبلة، ولا جعل مسطحا. وذكر الإمام، وغيره أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره; وذلك بعد تحيته، والصلاة والسلام عليه، ثم يدعو لنفسه. وذكروا أنه إذا حياه، وصلى، يستقبل وجهه - بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم فإذا أراد الدعاء: جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة، ودعا، وهذا مراعاة منهم أن يفعل الداعي أو الزائر ما نهي عنه من تحري الدعاء عند القبر.
وقد: كره مالك - رحمه الله تعالى - وغيره، من أهل المدينة، كلما دخل أحدهم المسجد، أن يجيء فيسلم(1/396)
على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، قال: وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر، أو أراد سفرا، ونحو ذلك. ورخص بعضهم في السلام عليه، إذا دخل للصلاة ونحوها، وأما قصده دائما للصلاة والسلام عليه، فما علمت أحدا رخص في ذلك، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا.
وأيضا، فإن ذلك بدعة، والمهاجرون والأنصار في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لم يكونوا يقصدون قبره كلما دخلوا المسجد للسلام عليه، لعلمهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه، ولا أنهم كانوا يسلمون عليه حين دخول المسجد، والخروج منه، كما كانوا يسلمون عليه في حياته.
والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك، قال أبو سعيد في سننه: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد، حدثني أبي، عن ابن عمر: " أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى، وسلم عليه; وقال: السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه "، وعبد الرحمن بن يزيد، وإن كان يضعف، لكن الحديث الصحيح عن نافع يدل على أن ابن عمر، ما كان يفعل ذلك دائما، ولا غالبا.
وما أحسن ما قال مالك - رحمه الله -:لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك، بما(1/397)
أحدثوه من البدع والشرك وغيره; ولهذا كرهت الأئمة استلام القبر، وتقبيله، وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه.
ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كما قيل: سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم، فيقول: اغفر لي، وارحمني، ونحو ذلك; ويسجد لقبره.
ومنهم: من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدبر الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة: قبلة العامة; وهذا، يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع; ولعله أمثل أتباع شيخه يقوله في شيخه. وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق. والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب، أن يذهب إلى قبر الشيخ، ويعكف عليه، عكوف أهل التماثيل عليها. وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة، والخشوع، والذل، وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [سورة النور آية: 36] ؛ وآخرون يحجون القبور.
وطائفة صنفوا كتبا، وسموها: مناسك حج المشاهد، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد،(1/398)
أحد شيوخ الإمامية، كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت، ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا ذلك نسكاوحجا، فالمعنى واحد. وكثير من هؤلاء معظم قصده من الحج، قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا حج البيت. وبعض الشيوخ، المشهورين بالدين، والزهد والصلاح، صنف كتابا سماه: الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام؛ وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان مستحبا، فينبغي لمن يجب عليه حج البيت، إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة، مع ترك الأفضل; وهذا لا يفعله عاقل.
وبسبب الخروج عن الشريعة، صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس، ممن يقصده الملوك والقضاة، والعلماء، والعامة، على طريقة ابن سبعين، قيل عنه: إنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين في الهند، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق، ودين النصارى حق. وجاءه بعض إخواننا العارفين، قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك على يديك؟ فقال: على دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ فقال له: واليهود، والنصارى، ليسوا كفارا؟!(1/399)
فقال الشيخ: لا تشدد عليهم، لكن الإسلام أفضل.
ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ، بمنْزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها، كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا في المشرق والمغرب. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت، أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة; ويوم القيامة لا أبيع بحجة؛ فأنكر بعض الناس ذلك، فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ، وزجره عن إنكار ذلك.
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إمام الحنفاء، وليسوا من عمار مساجد الله، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18] .
وعمار مشاهد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح إذا رأى أحدهم قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة؛ خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك؟! هذا هلال القبة فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض،
وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج! وهؤلاء إذا نوظروا، خوفوا مناظرهم، كما صنع(1/400)
المشركون مع إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ( [سورة الأنعام آية: 80-81-82] .
وآخرون قد جعلوا الميت بمنْزلة الإله، والشيخ الحي، المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت تطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه. وكأنهم في أنفسهم، قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا.
وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، والتابع لهم المحسن الظن بهم، أو غيره، يطلب من الشيخ الميت، إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان، فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى؟! وفيه من الكذب والجهل، ما لا يستجيزه كل مشرك، أو نصراني، ولا يروج عليه.
ويأكلون من النذور؛ والمنذور: ما يؤتى به إلى(1/401)
قبورهم، ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [سورة التوبة آية: 34] ، يعرضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم،
إذ التابع لهم، يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك، من الدخول في دين الحق، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
والله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة لوجهه، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 29] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة التوبة آية: 18] ، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [سورة النور آية: 36] .
وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [سورة الحج آية: 40] ، ولم يذكر بيوت الشرك، كبيوت النيران والأصنام، والمشاهد، لأن الصوامع، والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك: ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود، والنصارى، والصابئين، الذين كانوا قبل النسخ والتبديل: يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعملون الصالحات.
فبيوت الأوثان، وبيوت النيران، وبيوت الكواكب، وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا(1/402)
في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [سورة الكهف آية: 21] ، فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف كانوا من النصارى، الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1 وفي رواية: وصالحيهم.
ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك، وقد قدم بعض شيوخ المشرق، فتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور "؟ فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث.
وبسبب هذا، وأمثاله، ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة، بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود؟ والنصارى؟ قال: فمن " 2 وهؤلاء الغلاة المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلبه، ولو من كافر، لم يقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث إنها تقضى. فتارة يذهب إلى من يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر، أو منافق، وتارة: يعلم أنه كافر، أو منافق، فيذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة، أو إلى مواضع يقال إنها تقبل النذور، فهذا يقع فيه عامتهم؛ وأما الأول، فيقع فيه خاصتهم.
__________
1 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .(1/403)
والمقصود: أن كثيرا من الناس، يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا، أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته، إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين عنده من جنس من يستغيث به. وكم من مشهد يعظمه الناس، ويظنونه قبر رجل صالح، وهو كذب، بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، الذي يقال: إنه قبر نوح ; فإن أهل المعرفة، كانوا يقولون: إنه قبر بعض العمالقة.
وكذلك مشهد الحسين، الذي بالقاهرة؟ وقبر أبي الذي بدمشق، اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال: هما، قبرا نصرانيين.
وكثير من المشاهد تنازع الناس فيها، وعندها شياطين، تضل بسببها من تضل. ومنهم من يرى في المنام شخصا يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل، التي بالبراري بديار مصر، بإخميم، وغيرها، يرصدون التمثال مدة، لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك، فيضع فيها شمعة، أو غيرها، فيرى(1/404)
شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان، حتى يقضي بعض حوائجه، وقد يمكنه من فعل الفاحشة به، حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار، يسمونه: البوشت، وهو: المخنث، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا إليه من ينكحه، ونصبوا له حركات عالية، في ليلة مظلمة، وقربوا له خبزا، وميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله.
ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، ويضرب من مد يديه إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو، وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني، التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب ذلك الطعام، فيرونه قد نقل إلى بيت البوشت، وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، فيقضي بعض حوائجهم، ومثل هذا كثير جدا للمشركين ; فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام.
وقد ثبت بطرق متعددة أن ما يشرك به من دون الله، من صنم، وقبر، وغير ذلك، يكون عنده شياطين، تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضون بعض أغراضهم، إذا حصل لهم من الشرك والمعاصي، ما يحبه الشيطان.(1/405)
فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان، وقد ينهاه عما أمره به من التوحيد، والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن، ونحو ذلك.
والشياطين تغوي الإنسان، بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق، أو معصية. وإن كان قليل العلم أمرته بما لا يعرفه أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب وافر من الدين والزهد والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة.
وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ، يستغيث بأحدهم، بعض أصحابه، فيرى الشيخ في اليقظة، حتى قضي ذلك المطلوب؛ وإنما هي شياطين تتمثل للمشركين الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل.
وأما أهل العلم والإيمان، فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس، يتبعونهم فيما أمر الله به ورسوله.
وآخر من جنسه، يباشر التدريس، وينتسب إلى الفتيا، كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا(1/406)
السر، انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي. وقالوا: هذا مقام القطب الغوث، الفرد الجامع.
وكان شيخ آخر معظم عند أتباعه، يدعي هذه المنْزلة؟، ويقول: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه يزوج عيسى ابنته، وإن نواصي الملوك بيده، والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وإن الرب يناجيه دائما، وإنه الذي يمد حملة العرش، وحيتان البحر؛ وقد عزرته تعزيرا بليغا، في يوم مشهود، في حضرة من أهل المسجد الجامع، يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة.
ومن هؤلاء من يقول: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [سورة الفتح آية: 8-9] ، إن الرسول، هو الذي يسبح بكرة وأصيلا.
ومنهم من يقول: الرسول يعلم مفاتيح الغيب الخمس، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: " خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} " 1، وقال: إنه علمها بعدما أخبر أنه لا يعلمها إلا الله.
__________
1 البخاري: الإيمان (50) وتفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) .(1/407)
ومنهم من يقول: أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت، ومنهم يقول: نحن نعبد الله ورسوله ومنهم من يأتي إلى قبر الميت، فيقول: اغفر لي، وارحمنى، ولا توقفني على زلة، إلى أمثال هذه الأمور، التي يتخذ فيها المخلوق إلها.
أقول: وهذه سنة مأثورة، وطريقة مسلوكة والله غير مهجورة، وضلالة واضحة مشهورة، وبدعة مشهودة غير منكورة، وأعلامها مرفوعة منشورة، وراياتها منصوبة غير مكسورة، وبراهينها غير محدودة ولا محصورة، ودلائلها في كثير من المصنفات والمناظيم مذكورة ; قال ذلك في البردة، وبين في ذلك قصده:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ولو نطيل بذكر هذه الأخبار، لحررنا منه أسفارا، فلنكف عنان قلم اليراع في هذا الميدان، فالحكم والله لا يخفى على ذي عيان، بل أجلى من ضياء الشمس في البيان. فلما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده: ما ثم إلا الله، لما استقر في نفوسهم: أن يجعلوا مع الله إلها آخر، وهذا كله، وأمثاله، وقع ونحن بمصر.
وهؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء(1/408)
غير الله، من الأموات، فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك، استخفوا بالله، كما أخبر الله تعالى عن المشركين، بقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} الآية [سورة الفرقان آية: 41] ، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك، وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات آية: 36] .
وقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 4] . وما زال المشركون: يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون، والضلال، والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود، عليهما السلام {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه، هو التوحيد.
وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي يبنى للصلوات الخمس معطلا، مخربا، ليس له كسوة إلا من الناس، وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي يبنى على(1/409)
الميت فعليه الستور، وزينة الذهب والفضة والرخام والنذور تغدو إليه وتروح. فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته، ورسوله؟! وتعظيمهم للشرك؟! فإنهم يعتقدون أن دعاءهم للميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بني لله عز وجل! ففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لدعاء الخالق؛ وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية [سورة الأنعام آية: 136] ، كانوا يجعلون له زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم، أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله. وهكذا حال أهل الوقوف، والنذور، التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم مما يبذل عندهم للمساجد، ولعمار المساجد والجهاد في سبيل الله.
وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة، والتواضع، والعبودية، وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس، والجمعة، وقيام الليل، وقراءة القرآن. فهل هذا الأمر إلا حال المشركين المبتدعين؟ لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/410)
ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم الأبيات، يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله، فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين؛ بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوها، وكرهوها، واستهزؤوا بها، فيحصل لهم أعظم نصيب من قوله: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] . إذا سمعوا القرآن: سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية، كأنهم صم عمي، وإذا سمعوا الأبيات، حضرت قلوبهم، وسكتت ألسنتهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشرب العطشان منهم ماء.
ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن، قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب.
وقد سألني بعضهم، عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال؟ فقلت: صدق، كان في حضرة الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلال، فيها من حضور الشيطان، ما قد فصل في غير هذا الموضع.
والذين جعلوا دعاء الموتى، من الأنبياء، والأئمة، والشيوخ، أفضل من دعاء الله، أنواع متعددة منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات، كحكاية:(1/411)
أن رجلا محبوسا في بلاد العدو دعا الله، فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى، فجاءه، فأخرجه إلى بلاد الإسلام ; وحكاية: أن بعض الشيوخ، قال لمريده: إذا كانت لك حاجة، فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل بي، وآخر قال: قبر فلان، هو الترياق المجرب.
فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله، مضاهاة للمشركين. وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه.
ومن هؤلاء من إذا نزل به شدة، لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد يلهج به، كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيتعسر أحدهم، فيقول: يا فلان.
وقد قال الله للموحدين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [سورة البقرة آية: 200] .
ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله. فإذا كان دعاء الموتى، مثل الأنبياء، والصالحين، يتضمن هذا الاستهزاء بالله، وآياته، ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بآيات الله، ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى، والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله، وآياته، ورسوله؟ أو من كان يأمر بدعاء الله(1/412)
وحده، لا شريك له، كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول، ومتابعته، في كل ما جاء به؟ وأيضا فإن هؤلاء الموحدين، من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه، من الصحيح والضعيف، والصدق والكذب، واتباع ذلك، دون ما خالفه، عملا بقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] . وأما هؤلاء: الضلال، أشباه المشركين والنصارى، فعمدتهم: إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقولهم، إما أن تكون كذبا عليه، وإما أن تكون غلطا منه، إذ هي نقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول، حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه، كما فعل النصارى.
وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري ; ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان، كان له كتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام وهؤلاء: لهم صلاح ودين، لكن ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك(1/413)
الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم صلاح وزهد، إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس; ولهذا لما نبه من نبه، من فضلائهم، تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه، ليس من دين الإسلام في شيء، بل هو مشابهة لعباد الأصنام.
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة، في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه.
ولهذا ما بينت المسألة قط لمن يعرف دين الإسلام، إلا تفطن لهذا، وقال: هذا هو أصل دين الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ، العارفين من أصحابنا، يقول: هذا(1/414)
أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، يدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، والدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله، ودعاهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات، على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، قال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكمو من الضرر
فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم: لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضي أن العسكر ينكسر، لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك. ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي، الذي أمر الله به(1/415)
ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل. فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم الله على عدوهم نصرا عزيزا، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة أصلا، لما صح من تحقيق توحيد الله، وطاعة رسوله، ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، كما قال تعالى في يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [سورة الأنفال آية: 9] . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كل يوم: " يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث " 1. وفي لفظ: " أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك " 2.
وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي. ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني، وتب علي، ونحو ذلك. ومن لم يقل هذا من عقلائهم، فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، وجدب الزمان، وغير ذلك، فيشكو إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا.
ومقصوده في الشكوى: أن يشكيه، فيزيل ذلك
__________
1 الترمذي: الدعوات (3524) .
2 أبو داود: الأدب (5090) , وأحمد (5/42) .(1/416)
الضرر، وقد يقول مع ذلك: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت والحي والغائب، عالما بذنوب العباد، ومجرياتهم، التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت. وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا: أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما كان يسأل ويشفع، لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة.
ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره، وطلب الدعاء منه ; وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته، انتهى كلام الشيخ رحمه الله ملخصا.
فانظر رحمك الله إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ رحمه الله على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم، وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق.(1/417)
وهذا مما يبين لك غربة الإسلام في ذلك الوقت عند كثير من الأنام، وأن هذا مصداق ما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 1 الحديث، وقوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 2.
وبهذا ينكشف لك، ويتضح عندك بطلان ما عليه كثير من أهل الزمان، من أنواع الشرك، والبدع، والحدثان ; فلا تغتر بما هم عليه.
وهذه هي البلية العظيمة، والخصلة القبيحة الذميمة، وهي الاغترار بالآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد، وتلك الحجة التي انتحلها أهل الشرك والكفر والعناد،
كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في محكم التنْزيل، من غير شك ولا تأويل، حيث قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين، حكاية عن فرعون اللعين، أنه قال لموسى وأخيه هارون الكريمين: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [سورة طه آية: 51] ، فأجابه عليه السلام بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [سورة طه آية: 52] . فمن امتطى كاهل الصدق والوفاء، وسلم من التعصب والعناد والجفاء، وتوسط في المحجة، وقنع في قبول الحق بالحجة، كان ذلك طريقه ونهجه، وأشرق في صدره مصباح القبول، وأوقد فيه بزيت المعرفة والوصول، وكان من ضوء التوحيد على حصول.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(1/418)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الإغاثة: قال صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا " 1، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. وفي اتخاذها عيدا من المفاسد، ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
منها: الصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم; وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وأنه يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ القبور مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها، واعتياد قصدها، وعبادتها؟
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه، وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر: فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون عليها الوقوف، على إيقاد القناديل عليها.
ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ; ونهى عن تشريفها، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي
__________
1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .
2 مالك: النداء للصلاة (416) .(1/419)
رضي الله عنه، وهؤلاء يرفعونها، ويجعلون عليها القباب ; ونهى عن تجصيص القبر، والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص، والآجر، والأحجار.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعضهم في ذلك كتابا، وسماه: مناسك حج المشاهد، ولا شك أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام.
فانظر إلى التباين العظيم، بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور، لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا، فهذه الزيارة التي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمد عليه أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟
وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك.(1/420)
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء، جعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا، وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وبالجملة: فإن الميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء، ما لم يشرع مثله للحي ; ومقصود الصلاة على الميت: الاستغفار، والدعاء له، وكذلك الزيارة، مقصودها: الدعاء للميت، والإحسان إليه، وتذكير الآخرة، فبدل أهل البدع، والشرك قولا غير الذي قيل لهم. فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت وإلى الزائر، بسؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو محض العبادة، وحضور القلب، عندها، وخشوعه، أعظم منه في المساجد!
ثم ذكر حديث ذات أنواط، ثم قال: فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف لها: اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر؟ ودعائه؟ والدعاء عنده؟ والدعاء به؟ وأي نسبة للفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟(1/421)
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره، علم أن ما بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب ; والأمر والله أعظم مما ذكرنا.
(وعمّى الصحابة قبر دانيال، بأمر عمر رضي الله عنه، ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل إليها، وقطعها) . قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عوف، عن نافع، فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكر الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكمه فيما عداها؟ وأبلغ من ذلك: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار "، ففيه دليل على هدم المساجد التي أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها ; فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره، ويذب عنه.
وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها، على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين؛ وكان العامة يقولون للشيء منها: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة، يتقرب بها الناذر، إلى المنذور له.
ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى، قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة(1/422)
شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه، حتى اخلولق. وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب، فتنة أصحاب القبور، وهي: أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكر الله في سورة نوح، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} الآية [سورة نوح آية: 23] ، ذكر السلف في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع ما دعوا إليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع، واشتغلوا بالبدع.
ومن أصغى إلى كلامه، وتفهمه أغناه عن البدع، والآراء؛ ومن بعد عنه، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته، والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته، والتوكل عليه. فالمعرض عن التوحيد: مشرك، شاء أم أبى؛ والمعرض عن السنة مبتدع، شاء أم أبى؛ والمعرض عن محبة الله، عابد الصور، شاء أم أبى.
وهذه الأمور المبتدعة عند القبور، أنواع:
أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر،(1/423)
وتقبيله، والتمسح به.
النوع الثاني: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو: بدعة إجماعا.
النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك، فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله.
وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منهم، إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض، من قبل نوح، وهياكلها، ووقوفها، وسدنتها، وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، وكفى في معرفة أنهم أكفر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون " 1، وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] . ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها ببذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، انتهى كلام الشيخ، رحمه الله، ملخصا.
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3348) , ومسلم: الإيمان (222) , وأحمد (3/32) .(1/424)
وقال الشيخ تقي الدين في: الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام والسنة، وقد مرق منه، مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171] ; (وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه حرق الغالين من الرافضة، وأمر بأخاديد خدت لهم، عند باب كندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما، مذهبه: أن يقتلوا بالسيف، بلا تحريق) ، وهو قول أكثر العلماء، وقصصهم معروفة عند العلماء، وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان، انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل ; فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إلها آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم(1/425)
يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنَزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56] .
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا ... إلى أن قال: وعبادة الله هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى إنه لما " قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده " 1، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " 2، وقال في مرض موته:
__________
1 أحمد (1/283) .
2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , أحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) .(1/426)
" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا " 1، وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2. ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك؛ لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء: على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن التقبيل والاستلام، إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] . ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام ; وأعظم آية في القرآن: آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة " 3. والإله، هو: الذي تألهه القلوب، عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية، وإجلالا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فتأمل أول كلامه، وآخره؟ وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي أغثني، ونحوه، أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل الشرك، وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من
__________
1 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .
2 مالك: النداء للصلاة (416) .
3 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) .(1/427)
غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو: المألوه، الذي يألهه القلب، أي: يقصده بالعبادة، والدعوة، والخشية، والإجلال، والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة، والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا هو مطلوب المشركين الأولين، فاستدل على ذلك، بالآيات الصريحات، القاطعات ; والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 173] : ظاهره: أن ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به، أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله تعالى، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستغاثة بغير الله، فلو ذبح لغير الله، متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة، وغيرها، من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
فتأمل- رحمك الله- هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله، من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح(1/428)
ذبيحته، لأنه يجتمع فيه مانعان
الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع.
الثاني: أنها مما أهل لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة الأنعام آية: 145] ، وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها، من الذبح للجن، والله أعلم.
فصل: (أنواع الشرك)
وقال ابن القيم- رحمه الله- في: شرح المنازل، في: باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر، وأصغر. فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو: أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويغضبون لها، ولا يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا، نحن وغيرنا منهم جهرة. وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، وإن استوحش؛ وهو: لا يذكر إلا ذاك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده وهكذا كان عباد الأصنام، سواء.
وهذا القدر، هو: الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذها من البشر، قال تعالى حاكيا عن(1/429)
أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [سورة الزمر آية: 3] . فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك.
وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها لله، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22] . والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا، ولم يعقبوا وارثا، وهذا الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية "، وهذا لأن من لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر(1/430)
الرجل بمحض الإيمان، وتجريده التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول، ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة، وقلب حي، يرى ذلك عيانا، والله المستعان.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى: لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك، بسبب يمنع الإذن.
والميت محتاج إلى من يدعو له، كما " أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين: أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، والمغفرة " فعكس هذا المشركون، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى تنقيص الأموات، وهم قد تنقصوا الخالق وأولياءه الموحدين، بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به.
وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم، حيث قال:(1/431)
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36] . وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله تعالى انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من دعا الموتى وتوجه إليهم، واستغاث بهم، ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر، الذي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه، وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
وتأمل قوله أيضا، وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى، ولكن تأمل أرشدك الله، قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين ... إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل هذا الشرك، فإن لم يعادهم، فهو منهم، وإن لم يفعله ; والله أعلم.
وقال رحمه الله، في كتاب: زاد المعاد، في هدى خير العباد، في الكلام على غزوة الطائف، وما فيها من الفقه، قال فيها:
إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد(1/432)
القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها، مع القدرة، البتة، وهكذا حكم المشاهد، التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا، وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، وللتبرك، والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة، الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا عندها، وبها، والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها، وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.(1/433)
(حكم قتال الطائفة الممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة)
وقال الشيخ تقي الدين لما سئل عن قتال التتار، مع تمسكهم بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم، حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، ملتزمين بعض شرائعه، كما " قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم: مانعي الزكاة "، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما.
واتفق الصحابة رضي الله عنهم جميعا، على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه: الحديث عن الخوارج، والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " 1، فعلم: أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب.
فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو
__________
1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/60 ,3/65) .(1/434)
الأموال، أو الخمر، أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، الذي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.
وإنما اختلف الفقهاء: في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، أو الأذان، أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات، والمحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون: فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، أو بمنْزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه؛ ولهذا: افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة، وأهل الشام; وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين، والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع(1/435)
الخوارج، بخلاف ذلك وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فتأمل رحمك الله تصريح هذا الإمام، في هذه الفتوى، بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، أو الزكاة، أو الحج; أو ترك المحرمات، كالزنى، أو تحريم الدماء، أو الأموال، أو شرب الخمر، أو المنكرات، وغير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، ملتزمين بعض شرائع الإسلام؛ وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وإن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، بل خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة. انتهى، والله أعلم.
وقال في: الإقناع من كتب الحنابلة، التي تعتمد(1/436)
عندهم في الفتوى: وأجمعوا: على وجوب قتل المرتد، فمن أشرك بالله تعالى، كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، كفر; لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى ... إلى أن قال: قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو ما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا; لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
فصل: (أنواع الكفر)
وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب تبيين المحارم المذكورة في القرآن، باب: الكفر، وهو: الستر، وجحود الحق، إنكاره، وهو: أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة آية: 6] . وهو أكبر الكبائر، فلا كبيرة فوق الكفر- إلى أن قال-: واعلم أنما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله سبحانه; ونوع يتعلق بالقرآن، وسائر الكتب المنَزَّلة، ونوع يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، والملائكة، والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام.
فأما ما يتعلق به سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول، أو الاتحاد، أو معه قديم غيره، أو(1/437)
معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعده، أو وعيده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله، أو سب الله سبحانه، أو ادعى أن له ولدا، أو صاحبة، أو أنه متولد منه شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعائه الإلهية، والرسالة- إلى أن قال-: وما أشبه ذلك، مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، يكفر 1 بهذه الوجوه كلها، بالإجماع، لأجل سوء فعله عمدا، أو هزلا، ويقتل إن أصر على ذلك، فإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه.
وقال الشيخ قاسم، في شرح الدرر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو من الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه:
منها: أن النذر لمخلوق لا يجوز، ومنها: أن ذلك كفر- إلى أن قال-: وقد ابتلى الناس بذلك، ولا سيما في مولد: أحمد البدوي. انتهى.
فصرح:
__________
1 قوله: يكفر, جواب لقوله المتقدم: إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به ... إلخ.(1/438)
بأن هذا النذر كفر ; يكفر به المسلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
(جواب أسئلة وردت من الساحل الشرقي)
وقال أيضا الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد وصلت إلينا الأسئلة، التي صدرت من جهة الساحل الشرقي، على يد الأخ: سعد البواردي.
السؤال الأول: قول الملحد المجادل في دين الله: إن الأمر الذي جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، مذهب خامس، وغش للأمة، فهل يكون هذا القائل سنيا، أو مبتدعا؟
فالجواب وبالله التوفيق: هذا القائل إنما تدل مقالته هذه، على أنه من أجهل خلق الله في دين الله، وأبعدهم عن الإسلام، وأبينهم ضلالة، فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئا ; وهذا لا يرتاب فيه مسلم، أنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.(1/439)
وقوله: مذهب خامس، يبين جهله، وأنه لا يعرف العلم، ولا العلماء، فإن الذي قام به شيخ الإسلام لا يقال له مذهب، وإنما يقال له دين وملة؛ فإن التوحيد هو دين الله، وملة خليله إبراهيم، ودين جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه علماء الأمة سلفا وخلفا، ولا يخالف في هذا إلا من هو مشرك، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] فسماه الله تعالى في هاتين الآيتين وغيرهما من آي القرآن دينا، ولم يسمه مذهبا.
وأما ما جرى على ألسن العلماء، من قولهم: مذهب فلان، أو ذهب إليه فلان، فإنما يقع في الأحكام، لاختلافهم بحسب بلوغ الأدلة، وفهمها، وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة رحمهم الله، بل مذاهب العلماء قبلهم، وبعدهم في الأحكام كثيرة؛ فقد جرى الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فللصديق رضي الله عنه مذهب انفرد به، ولابن مسعود كذلك، وكذا ابن عباس، وغيرهم من الصحابة، وكذلك الفقهاء السبعة من التابعين، وخالف بعضهم بعضا في مسائل، وغيرهم من التابعين كذلك.
وبعدهم أئمة الأمصار، كالأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وسفيان بن عيينة، والثوري،(1/440)
إماما أهل العراق، فلكل مذهب معروف في الكتب المصنفة في اختلاف العلماء، ومثلهم الأئمة الأربعة. وجاء بعدهم أئمة مجتهدون، وخالفوا الأئمة الأربعة في مسائل معروفة عند العلماء، كأهل الظاهر؛ ولذلك تجد من صنف في مسائل الخلاف، إذا عنى الأئمة الأربعة، قال: اتفقوا، وفي مسائل الإجماع، التي أجمع عليها العلماء سلفا وخلفا، يقول: أجمعوا.
وذكر المذهب لا يختص بأهل السنة من الصحابة فمن بعدهم، فإن بعض أهل البدع صنفوا لهم مذهبا في الأحكام، يذكرونه عن أئمتهم، كالزيدية لهم كتب معروفة يفتي بها بعض أهل اليمن، والإمامية الرافضة لهم مذهب مدون خالفوا في كثير منه أهل السنة والجماعة. والمقصود: أن قول هذا الجاهل: مذهب خامس، قول فاسد، لا معنى له، كحال أمثاله من أهل الجدل والزيغ في زماننا، شعرا:
يقولون أقوالا ولا يعرفونها وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
وأما قوله: وغش الأمة، فهذا الجاهل الضال بنى هذا القيل الكاذب على سوء فهمه، وانصرافه عن دين الإسلام، لأنه عدو لمن قام به، ودعا إليه، وعمل به، ومن المعلوم عند العقلاء وأهل البصائر أن من دعا الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، أنه الناصح لهم حقا. وأما من حسن الشرك والبدع، ودعا إليها، وجادل بالباطل، وألحد في أسماء الله وصفاته، فهو الظالم، الغاش، لعباد الله، لأنه(1/441)
يدعوهم إلى ضلالة، نعوذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
ونذكر ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: فإنه قد نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك، والبدع، ما عم وطم في كثير من البلاد، إلا بقايا متمسكين بالدين، يعلمهم الله تعالى، وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير.
ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام، بتوحيد الله، الذي بعث الله به رسله وأنبياءه، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرمه الله عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم، ما قال المرسلون لأممهم، أن: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] .
فحجب كثيرا منهم عن قبول هذه الدعوة، ما اعتادوه ونشؤوا عليه، من الشرك والبدع، فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته، وهو شيخنا رحمه الله ومن استجاب له وقبل دعوته، وأصغى إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] .(1/442)
وأدلة ما دعا إليه هذا الشيخ رحمه الله من التوحيد، في الكتاب، والسنة أظهر شيء وأبينه.
اقرأ كتاب الله من أوله إلى آخره تجد بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، مقررا في كل سورة، وفي كثير من سور القرآن يقرره في مواضع منها، يعلم ذلك من له بصيرة وتدبر. ففي فاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] نوعا التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وفي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] النوعان، وقصر العبادة، والاستعانة على الله عز وجل أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك.
وأول أمر في القرآن يقرع سمع السامع والمستمع، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] : فأمرهم بتوحيد الإلهية، واستدل عليه بالربوبية، ونهاهم عن الشرك به، وأمرهم بخلع الأنداد، التي يعبدها المشركون من دون الله.
وافتتح سبحانه كثيرا من سور القرآن بهذا التوحيد: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [1سورة آل عمران آية: 1-2] : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] إلى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] أي: المألوه،(1/443)
المعبود في السماوات، والمألوه المعبود في الأرض ; وفي هذه السورة، من أدلة التوحيد، ما لا يحصر، وفيها من بيان الشرك والنهي عنه، كذلك.
وافتتح سورة هود بهذا التوحيد، فقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} فأحكم تعالى آيات القرآن، ثم فصلها، ببيان توحيده، والنهي عن الإشراك به، وفي أول: سورة طه، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة طه آية: 8] وافتتح، سورة الصافات بهذا التوحيد، وأقسم عليه، فقال: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 1-2-3] وافتتح، سورة: الزمر، بقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 1-2-3] وفي هذه السورة من بيان التوحيد والأمر به، وبيان الشرك والنهي عنه، ما يستضيء به قلب المؤمن. وفي السورة بعدها كذلك، وفي سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] نفي الشرك في العبادة، في قوله تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 2] إلى آخرها، وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ وهذا ظاهر لمن نور الله قلبه.(1/444)
وفي خاتمة المصحف {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2-3] بين أن ربهم وخالقهم ورازقهم، هو المتصرف فيهم بمشيئته، وإرادته، وهو ملكهم الذي نواصي الملوك، وجميع الخلق في قبضته: يعز هذا ويذل هذا، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة الرعد آية: 41] وهو: معبودهم، الذي لا يستحق أن يعبد سواه، فهذه إشارة إلى ما في القرآن.
وأما السنة: ففيها من أدلة التوحيد، ما لا يمكن حصره، كقوله في حديث معاذ الذي في الصحيحين: " فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 1 وفي حديث ابن مسعود الصحيح: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 2 والحديث الذي في معجم الطبراني: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " ولما " قال له رجل: ما شاء الله وشئت؟ قال: أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده " 3 وأمثال هذا لا يحصى، كما تقدم ذكره ; وأدلة التوحيد، في الكتاب، والسنة أبين من الشمس في نحر الظهيرة، لكن لمن له فهم ثاقب، وعقل كامل، وبصر ناقد؛ وأما الأعمى فلا يبصر للشمس ضياء، ولا للقمر نورا.
ثم إن شيخنا رحمه الله، كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، حيث ينادى لها، وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/236 ,5/242) .
2 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/374) .
3 أحمد (1/283) . a(1/445)
والسنة، ويأمر بالزكاة، والصيام، والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه.
وقد تتبع العلماء مصنفاته، رحمه الله- من أهل زمانه وغيرهم- فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول مخالف، لما ذهب إليه الأئمة الأربعة; بل ولا خرج عن أقوال أئمة مذهبه، على أن الحق لم يكن محصورا في المذاهب الأربعة، كما تقدم، ولو كان الحق محصورا فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، وأقوال الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، مما خرج عن أقوال الأربعة فائدة.
والحاصل: أن هذا المعترض المجادل، مع جهله، انعكس عليه أمره، فقبل قلبه ما كان منكرا، ورد ما كان معروفا، فأعداء الحق، وأهله، من زمن قوم نوح، إلى أن تقوم الساعة، هذه حالهم، وطريقتهم. فمن حكمة الرب تعالى: أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع:
الصنف الأول: من عرف الحق، فعاداه حسدا(1/446)
وبغيا كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين، كما قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة البقرة آية: 90] وقال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 146] .
الصنف الثاني: الرؤساء، أهل الأموال، الذين فتنتهم دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه.
الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل، وجدوا عليه أسلافهم، يظنون أنهم على حق، وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] .
وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم، هم أعداء الحق، من زمن نوح إلى أن تقوم الساعة، فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم. وأما الصنف الثاني: فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وقال عن الصنف الثالث: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74](1/447)
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة آية: 69-70] . وهؤلاء هم الأكثرون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [سورة الصافات آية: 71] وقال تعالى في سورة الشعراء، عقب كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [سورة الشعراء آية: 8-9] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] .
وقال في قصة نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام آية: 116] .
فيا من نصح نفسه تدبر ما ذكر الله تعالى في كتابه، من ضلال الأكثرين، لئلا تغتر بالكثرة من المنحرفين عن الصراط المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين، وتدبر ما ذكر الله من أحوال أعداء المرسلين، وما فعل الله بهم، قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [سورة غافر آية: 4-5] الآية وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة غافر آية: 83] .(1/448)
والآيات في هذا المعنى تبين أن أهل الحق أتباع الرسل، هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا; وأن أعداء الحق هم الأكثرون في كل مكان وزمان، حكمة بالغة; وفي الأحاديث الصحيحة ما يرشد إلى ذلك، كما في الصحيح: " أن ورقة بن نوفل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا ليتني كنت فيها جذعا، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك، قال: " أومخرجي هم؟ " قال: نعم، لم يأت أحد قط، بمثل ما جئت به، إلا عودي " 1.
فإذا كان هذا حال أكثر الخلق مع المرسلين، مع قوة عقولهم، وفهومهم، وعلومهم، فلا تعجب مما جرى في هذه الأوقات، ممن هو مثلهم، في عداوة الحق، وأهله، والصد عن سبيل الله، مع ما في أهل هذه الأزمان من الرعونات، والجهل، وفرط الغلو في الأموات، كما قال تعالى عن أسلافهم، وأشباههم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-22] .
فاحتج سبحانه وتعالى على بطلان دعوتهم غيره، بأمور:
منها: أنهم {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة النحل آية: 20] ، فالمخلوق لا يصلح أن يقصد بشيء من خصائص الإلهية، لا دعاء، ولا غيره، و " الدعاء مخ العبادة " 2.
الثاني: كون الذين يدعونهم من دون الله {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}
__________
1 البخاري: بدء الوحي (4) , ومسلم: الإيمان (160) , وأحمد (6/223 ,6/232) .
2 الترمذي: الدعوات (3371) .(1/449)
[سورة النحل آية: 21] .
والميت لا يقدر على شيء، فلا يسمع الداعي، ولا يستجيب، ففيها معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة آية: 13-14] وفي هذه الآية أربعة أمور تبطل دعوة غير الله، وتبين ضلال من دعا غير الله، فتدبرها.
والأمر الثالث في هذه الآية: قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة النحل آية: 21] ، ومن لا يدري متى يبعث، لا يصلح أن يدعى من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، ثم بين تعالى ما أوجبه على عباده من إخلاص العبادة له، وأنه هو المألوه المعبود دون كل من سواه، فقال: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة البقرة آية: 163] وهذا هو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
ثم بين تعالى حال أكثر الناس، مع قيام الحجة عليهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك بالله، وبيان ما افترضه عليهم من توحيده، فقال: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 22] فذكر سببين حائلين بينهم وبين قبول الحق الذي دعوا إليه:
فالأول: عدم الإيمان باليوم الآخر.
والثاني: التكبر، وهو حال الأكثرين، كما قد عرف من حال الأمم الذين بعث الله إليهم رسله، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح وغيرهم، وكيف جرى(1/450)
منهم، وما حل بهم، وكحال كفار قريش، والعرب، وغيرهم، مع النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، والتنديد، فقد روى مسلم، وغيره، من حديث عمرو بن عبسة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: " أنا نبي". فقال: "وما نبي؟ قال: أرسلني الله. قال: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيئا. قال: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد. ومعه يومئذ: أبو بكر، وبلال " 1.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذي يصلحون إذا فسد الناس " 2 وفسر الغرباء بأنهم: النّزاع من القبائل، فلا يقبل الحق من القبيلة إلا نزيعة، الواحد والاثنان؛ ولهذا قال بعض السلف: " لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين"! وعن بعضهم أنه قال: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ "
فإذا كان الأمر كذلك، فلا تعجبوا من كثرة المنحرفين، الناكبين عن الحق المبين، المجادلين في أمر الدين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [سورة غافر آية: 35] .
فأعظم منة الله على من رزقه الله معرفة الحق: الاعتصام
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) , وأحمد (4/112) .
2 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(1/451)
بكتابه، والتمسك بتوحيده وشرعه، مع كثرة المخالف، والمجادل بالباطل {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(الامتنان بإرسال الرسل وبمن يجدد أمر هذا الدين ويدعو إلى ما دعا إليه الرسول)
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فموجب هذا والباعث عليه، هو: النصح الذي يجب علينا من حقكم، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات آية: 55] . فاذكروا ما من الله به عليكم، وخصكم به في هذا الزمان، من نعمة الدين، التي هي أشرف النعم وأجلها، وما حصل في ضمنها من المصالح التي لا تعد ولا تحصى.
وقد أخبر الله تعالى عن كليمه موسى عليه السلام أنه ذكر قومه هذه النعمة، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [سورة المائدة آية: 20] الآية، فذكرهم أولا بالنعمة العظمى، وهي أن جعل فيهم أنبياء، يرشدونهم إلى ما فيه صلاحهم، وفلاحهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وقد امتن الله سبحانه على عباده في كتابه بهذه(1/452)
النعمة، وذكرهم بها في مواضع، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران آية: 164] ، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الجمعة آية: 2] . وأخبر عن مراده فيما شرعه، من تحويل القبلة إلى بيته الحرام، وأن ذلك قد قصد به، وأراد إتمام نعمته، وليحصل لهم الاهتداء، وذكرهم عند ذلك هذه النعم، وأنه فعل ذلك، كما من عليهم قبل مبعث الرسول، فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 151] ، فبعث الأنبياء وإرسال الرسل هو الذي حصل به العلم النافع، والعمل الصالح، كمعرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، والاستدلال بآياته ومخلوقاته، والقيام له بما أوجب على خلقه من العبادة والتوحيد، والعمل بما يرضي الرب ويريد، فإن بهذا تحصل زكاة العبد، ونموه، وصلاحه، وفلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة.
وفي ضمن تعليم الكتاب والحكمة، من تفاصيل العلوم والأعمال، والمعارف والأمثال، الدالة على وحدانيته، وقدرته، ورحمته، وعدله، وفضله، وإعادته(1/453)
لخلقه، وبعثه إياهم، ومجازاتهم على أعمالهم، وذكر أيامه في أنبيائه وأوليائه، وما فعل ويفعل بأعدائهم وأعدائه، وإخباره بإلحاق النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، والمثل بالمثل ما يوجب للعبد من العلم بالله، ومعرفة قدرته، وحكمته في أقداره، ومراده من شرعه، وخلقه، وغير ذلك من الأحكام الكلية والجزئية، ما لا يمكن حصره ولا استقصاؤه.
فما أنعم الله على أهل الأرض من نعمة، إلا وهي دون نعمة إرسال الرسل وبعث النبيين، خصوصا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود؛ فإنه قد حصل برسالته، من عموم الرحمة لكافة العالمين، ومن السعادة، والفلاح، والتزكية، والهدى، والرشاد لمن اتبعه، ما لم يحصل مثله، ولا قريب منه، ببعث غيره من الأنبياء. فمن كان له، من قبول ما جاء به، والإيمان به، حظ ونصيب، فعليه من شكر الله على هذه النعمة وطاعته، وإدامة ذكره، والثناء بنعمه، ما ليس على من قل حظه، ونصيبه من ذلك.
وقد من الله عليكم، رحمكم الله، في هذا الزمان، الذي غلبت فيه الجهالات، وفشت بين أهله الضلالات، والتحق بغبر الفترات، من يجدد لكم أمر هذا الدين، ويدعو إلى ما جاء به الرسول الأمين، من الهدى الواضح المستبين،(1/454)
وهو: شيخ الإسلام والمسلمين، ومجدد ما اندرس من معالم الملة والدين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فبصر الله به من العماية، وهدى بما دعا إليه من الضلالة، وأغنى بما فتح عليكم وعليه من العالة، وحصل من العلم، ما يستبعد على أمثالكم في العادة، حتى ظهرت المحجة البيضاء التي كان عليها صدر هذه الأمة وأئمتها في: باب توحيد الله بإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، والإيمان بقدره وحكمه في أفعاله، فإنه قرر ذلك.
وتصدى رحمه الله: للرد على من نكب عن هذا السبيل، واتبع سبيل التحريف والتعطيل، على اختلاف نحلهم وبدعهم، وتشعب مقالتهم وطرقهم، متبعا رحمه الله، ما مضى عليه السلف الصالح، من أهل العلم والإيمان، وما درج عليه القرون المفضلة، بنص الحديث، ولم يلتفت رحمه الله، إلى ما عدا ذلك، من قياس فلسفي، أو تعطيل جهمي، أو إلحاد حلولي أو اتحادي، أو تأويل معتزلي أو أشعري.
فوضح معتقد السلف الصالح، بعدما سفت عليه السوافي، وذرت عليه الذواري، وندر من يعرفه من أهل القرى والبوادي، إلا ما كان مع العامة من أصل الفطرة، فإنه قد يبقى ولو في زمن الغربة والفترة. وتصدى أيضا للدعوة إلى ما يقتضيه هذا التوحيد، ويستلزمه، وهو: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد، والآلهة، والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله.(1/455)
وقد: عمت في زمنه البلوى بعبادة الأولياء والصالحين وغيرهم، وأطبق على ترك الإسلام جمهور أهل البسيطة؛ وفي كل مصر من الأمصار، وبلد من البلدان، وجهة من الجهات، من الآلهة والأنداد لرب العالمين، ما لا يحصيه إلا الله، على اختلاف معبوداتهم، وتباين اعتقاداتهم: فمنهم من يعبد الكواكب، ويخاطبها بالحوائج، ويبخر لها التبخيرات، ويرى أنها تفيض عليه، أو على العالم، وتقضي لهم الحاجات، وتدفع عنهم البليات.
ومنهم من لا يرى ذلك، ويكفر أهله، ويتبرأ منهم، لكنه قد وقع في عبادة الأنبياء، والصالحين؛ فاعتقد أنه يستغاث بهم في الشدائد والملمات، وأنهم هم الواسطة في إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، فتراه يصرف وجهه إليهم، ويسوي بينهم وبين الله في الحب والتعظيم، والتوكل والاعتماد، والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادات. وهذا هو: دين جاهلية العرب الأميين، كما أن الأول هو دين الصابئة الكنعانيين.
وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، وكانت العرب في وقته وزمن مبعثه معترفين لله بتوحيد الربوبية والأفعال، وكانوا على بقية من دين إبراهيم الخليل عليه السلام ; قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ(1/456)
الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] .
والآيات في المعنى كثيرة، ولكنهم أشركوا في توحيد العبادة والإلهية فاتخذوا الشفعاء والوسائط، من الملائكة والصالحين وغيرهم، وجعلوهم أندادا لله رب العالمين، فيما يستحقه عليهم من العبادات والإرادات، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطاعات، لأجل جاههم عند الله، والتماس شفاعتهم، لا اعتقاد التدبير والتأثير، كما ظنه بعض الجاهلين، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] الآية، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر آية: 43] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] الآية.
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا، وكفر أهله، وجهلهم، وسفه أحلامهم، ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبين أن مدلولها، الالتزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دون الله؛ وهذا هو أصل الدين وقاعدته، ولهذا، كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام، ومفتاح دار(1/457)
السلام، والفارقة بين الكافر والمؤمن من الأنام; ولها جردت السيوف وشرع الجهاد، وامتاز الخبيث من طيب العباد، وبها حقنت الدماء وعصمت الأموال.
وقد بلغ الشيطان مراده من أكثر الخلق، وصدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعه الأكثرون، وتركوا ما جاءت به الرسل، من دين الله الذي ارتضاه لنفسه، وتلطف الشيطان في التحيل والمكر والمكيدة حتى أدخل الشرك، وعبادة الصالحين وغيرهم، على كثير ممن ينتسب إلى دين الإسلام في قالب محبة الصالحين والأنبياء، والتشفع بهم، وأن لهم جاها، ومنْزلة ينتفع بها من دعاهم، ولاذ بحماهم؛ وأن من أقر لله وحده بالتدبير، واعتقد له بالتأثير، والخلق، والرزق، فهو المسلم، ولو دعا غير الله، واستعاذ بغيره، ولاذ بحماه؛ وأن مجرد شهادة أن لا إله إلا الله تكفي مثل هذا، وإن لم يقارنها علم ولا عمل ينتفع به، وأن الدعاء والاستغاثة، والاستعانة، والحب، والتعظيم، ونحو ذلك، ليس بعبادة، وإنما العبادة السجود، والركوع، ونحو هذه الزخرفة، والمكيدة; وهذا بعينه هو الذي تقدمت حكايته عن جاهلية العرب.
وذكر المفسرون، وأهل التاريخ من أهل العلم، في سبب حدوث الشرك في قوم نوح، مثل هذه المكيدة، فإن ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، أسماء رجال(1/458)
صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا تماثيلهم، ويصوروا صورهم، ليكون ذلك أشوق إلى العبادة، وأنشط في الطاعة; فلما هلك من فعل هذا، أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن أسلافهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم لذلك.
فأصل الشرك: هو تعظيم الصالحين بما لم يشرع. والغلو في ذلك، فأتاح الله بمنه، في هذه البلاد النجدية والجهات العربية، من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق، وصريح الدين، الذي لا يخالطه، ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم، وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب; واجتمع له من عصابة الإسلام، والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله، حتى أعشى إشراقها وضوءها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل.
وحقق الله وعده لأوليائه وجنده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}(1/459)
[سورة غافر آية: 51] ،
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة النور آية: 55] الآية فزال بحمد الله ما كان بنجد وما يليها، من القباب، والمشاهد، والمزارات، والمغارات ; وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية، من الأوتار، والتعاليق، والشركيات.
وألزم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت، وسائر الواجبات ; وحث من لديه من القضاة والمفتين، على تجريد المتابعة، لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين، والسلف الصالح المهديين، وينهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به.
وأنكر ما كان عليه الناس في تلك البلاد، وغيرها من تعظيم الموالد، والأعياد الجاهلية التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان، لأن ذلك فيه من مشابهة النصارى الضالين، في أعيادهم الزمانية والمكانية، ما هو باطل مردود، في شرع سيد المرسلين.
وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة، وضلال المبتدعة، من التدين، والتعبد، والمكاء، والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان، عن سماع آيات القرآن،(1/460)
وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان، الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [سورة الأنفال آية: 35] . وكل من عرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق، وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق، وكراهة سماع كلام الله ورسوله.
وأنكر رحمه الله، ما أحدثته العوام، والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت الذين يترشحون لتأله العباد بهم، وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح، وأن لهم كرامات ومقامات، ونحو هذا من الجهالات؛ فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة ; وأنكر رحمه الله ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب، وأشباههم الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم، ويلحق بالمجانين.
وأرشد رحمه الله إلى ما دل عليه الكتاب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق، فإن الله جل ذكره وصف الأبرار، ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون، بحيث لا يخفى حالهم، ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم، ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم، وحظ من الإيمان.(1/461)
وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي، وأمراء القرى والنواحي، فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية، من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك ; والتذكير بهذا يدخل فيما امتن الله به على المؤمنين، وذكرهم به من بعث الأنبياء والرسل.
ومدار العبادة والتوحيد على ركنين عظيمين، هما: الحب، والتعظيم؛ وبمشاهدة النعمة يحصل ذلك، ويخبت القلب لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما ازداد العبد علما بذلك، ومعرفة لحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة، ومحبة، وإنابة، وإخباتا، وتوكلا، ولذلك يذكر تعالى عباده بنعمه، الخاصة والعامة، وآلائه الظاهرة والباطنة، ويحث على التفكر في ذلك والتذكر; وأن يعقل العبد عن ربه، فيقوم بشكره، ويؤدي حقه.
ومبنى الشكر على ثلاثة أركان: معرفة النعمة وقدرها، والثناء بها على مسديها، واستعمالها في ما يحب موليها ومعطيها. فمن كملت له هذه الثلاثة، فقد استكمل الشكر، وكلما نقص العبد منها شيئا، فهو نقص في إيمانه وشكره، وقد لا يبقى من الشكر ما يعتد به ويثاب عليه.
والمقصود: أن الذكرى فيها من المصالح الدينية،(1/462)
والشعب الإيمانية، ما هو أصل كل فلاح وخير، وبدأ في هذه الآية بأعظم النعم، وأجلها على الإطلاق، وهو: جعله الأنبياء فيهم، يخبرونهم عن الله، بما يحصل لهم به السعادة الكبرى، والمنة الجليلة العظمى؛ وكل خير حصل في الأرض من ذلك، فأصله مأخوذ عن الرسل والأنبياء، إذ هم الأئمة الدعاة الأمناء، وأهل العلم عليهم البلاغ، ونقل ذلك إلى الأمة، فإنهم واسطة في إبلاغ العلم، ونقله.
وأما قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} [سورة المائدة آية: 20] ، فهذه نعمة جليلة يجب شكرها، وتتعين رعايتها، فإنها من أفضل النعم، وأجلها. والشكر قيد النعمة، إن شكرت قرت; وإن كفرت فرت. ولم تحصل هذه النعمة، إلا باتباع الأنبياء، وطاعة الرسل، فإن بني إسرائيل إنما صاروا ملوك الأرض بعد فرعون وقومه، باتباع موسى، وطاعة الله ورسوله، والصبر على ذلك، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [سورة الأعراف آية: 137] .
وقد حصل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به من العرب، الأميين وغيرهم من أجناس الآدميين، من الملك وميراث الأرض، فوق ما حصل لبني إسرائيل، فإنهم ملكوا الدنيا، من أقصى المغرب، إلى أقصى المشرق ; وحملت إليهم كنوز كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وصارت بلادهم، وبلاد المغرب والمشرق، ولاية(1/463)
لهم، ورعية تنفذ فيها أحكامهم، ويجبى إليهم خراجها.
ومكثوا على ذلك ظاهرين، قاهرين لما سواهم من الأمم، حتى وقع فيهم ما وقع في بني إسرائيل، من الخروج عن اتباع الأنبياء، وترك سياستهم، والانهماك في أهوائهم وشهواتهم، فجاء الخلل، وسلط العدو، وتشتت الناس، وتفرقت الكلمة، وصارت الدولة الإسلامية يسوسها في كثير من البلاد، في أوقات كثير من الملوك: أهل النفاق، والزندقة، والكفر، والإلحاد، والذين لا يبالون بسياسات الأنبياء، وما جاؤوا به من عند الله، وربما قصدوا معاكستهم ; فذهب الملك بذلك، وضاعت الأمانة، وفشا الظلم والخيانة، وصار بأسهم بينهم، وسلط عليهم العدو، وأخذ كثيرا من البلاد، ولم يقنع منهم إبليس عدو الله بهذا، حتى أوقع كثيرا منهم في البدع والشرك، وسعى في محو الإسلام بالكلية.
وكلما بعد عهد الناس بالعلم وآثار الرسالة، ونقص تمسكهم بعهود أنبيائهم، تمكن الشيطان من مراده في أديانهم ونحلهم واعتقاداتهم، ولكن من رحمة الله ومنته أن جعل في هذه الأمة بقية، وطائفة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان، في جهة، أو بلد، حصل من الملك والعز والظهور لهم، بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.(1/464)
ولذلك صار لشيخنا، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ولطائفة من أنصاره، من الملك والظهور، والنصر، بحسب نصيبهم، وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب، من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن، وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا، كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو، وحصل عليهم من المصائب، ما تقتضيه الذنوب والمخالفة، والخروج عن متابعة نبيهم، وما يعفو الله عنه من ذلك، أكثر وأعظم.
والمقصود: أن كل خير، ونصر وعز، وسرور، حصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول; وقد منّ الله عليكم في هذه الأوقات، بما لم يعطه سواكم في غالب البلاد والجهات; من النعم الدينية والدنيوية، والأمن في الأوطان، فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم; و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم آية: 6] بمعرفة الله، ومحبته، وطاعته، وتعظيمه، وتعليم أصول الدين، وتعظيم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي، والتزامه، والمحافظة على توحيد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وترك الفواحش الباطنة والظاهرة، وسد الوسائل التي توقع في المحذور، وتفضي إلى ارتكاب(1/465)
الآثام والشرور.
ويجمع ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 90] والله المسؤول أن يمنّ علينا وعليكم، بسلوك سبيله، وأن يجعلنا ممن عرف الهدى بدليله، وصلى الله على محمد.
(رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد العزيز الخطيب، وإنكاره تكفير المسلمين)
وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى: عبد العزيز الخطيب. السلام على من اتبع الهدى، وعلى عباد الله الصالحين. وبعد: فقرأت رسالتك، وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت في قولك: أن ما أنكره شيخنا الوالد، من تكفيركم أهل الحق، واعتقاد إصابتكم، أنه لم يصدر منكم; وتذكر أن إخوانك من أهل النقيع يجادلونك، وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبا، على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن(1/466)
سبيل الرشد، والعمى.
وقد رأيت سنة أربع وستين، رجلين من أشباهكم، المارقين، بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه، هو وأمثاله، ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده، الذي رد دعوة الشيخ محمد، ولم يقبلها، وعاداها.
قالا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت ; ومن جالسه، فهو مثله ; ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرفع إلي أمرهم، فأحضرتهم، وتهددتهم، وأغلظت لهم القول; فزعموا أولا: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس.
وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له، فيما يستحقه على(1/467)
خلقه، من العبادات، والإلهية، وهذا مجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك ; وقد أفرد ابن حجر هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام.
وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل، وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والحور بعد الكور.
وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.
والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب، وفي(1/468)
غيره، لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم، بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن، قال: ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى:
فعليك بالتفصيل والتبيين فال ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطاال ... أذهان والآراء كل زمان
وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب الحرورية المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه، من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا: حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية، وعمرا، وتوليتهما، وقد قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] وضربت المدة بينك وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة، منذ أنزلت براءة.
وطال بينهما النّزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ(1/469)
شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان، بعد الإعذار والإنذار، والتمس: "المخدج" المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن، فوجده علي، فسر بذلك، وسجد لله شكرا على توفيقه، وقال: " لو يعلم الذي يقاتلونهم، ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل"، هذا: وهم أكثر الناس عبادة، وصلاة، وصوما.
فصل: (بعض الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة مثل الظلم قد يراد بها مسماها المطلق)
ولفظ الظلم والمعصية والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق، وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول: هو الأصل عند الأصوليين، والثاني: لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم آية: 4] الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة آية: 43-44] ، وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقى، يراد بها عند الإطلاق والثناء، غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب،(1/470)
ونحوهم، يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [سورة المائدة آية: 6] الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [سورة الأحزاب آية: 69] الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [سورة المائدة آية: 106] ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [سورة الحجرات آية: 15] ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [سورة الحديد آية: 19] .
وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر، وفي الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر، حين يشربها، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها، وهو مؤمن " 1، وقوله: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " 2 لكن نفي الإيمان هنا، لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله؛ وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد، على الخوارج، والمرجئة، ونحوهم، من أهل الأهواء; فافهم هذا، فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام.
وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع، في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان الحسنات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة، في الدور
__________
1 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) .
2 مسلم: الإيمان (46) , وأحمد (2/372) .(1/471)
الثلاثة، ولذلك، لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد; وكان عبد الله حمار1 يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله " مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه.
وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يدا عندهم، تحمي أهله وماله بمكة، فنَزل الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير في طلب الظعينة، وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ، فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا
__________
1 حمار: لقب له, وهو: صحابي جليل.(1/472)
رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد، أحمى بها أهلي ومالي، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقكم، خلوا سبيله واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؟ " وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] الآيات.
فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: " صدقكم، خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمنا بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب; وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال: " خلوا سبيله".
ولا يقال، قوله صلى الله عليه وسلم: " ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه; فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [سورة المائدة آية: 5] وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية:(1/473)
88] .
والكفر، محبط للحسنات والإيمان، بالإجماع، فلا يظن هذا.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51] ، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] فقد فسرته السنة وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
وأصل الموالاة هو: الحب، والنصرة، والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة; ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم; وهذا عند السلف، الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين، معروف في هذا الباب وفي غيره; وإنما أشكل الأمر وخفيت المعاني، والتبست الأحكام على خلوف من العجم، والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن.
ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: من العجمة أتوا; وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد، لما ناظره في مسألة: خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد: أن هذا وعد والله لا يخلف وعده; يشير إلى ما في القرآن، من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار، والخلود; فقال له ابن(1/474)
العلاء: من العجمة أتيت; هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقال: بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والعربي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة; وإن من شقاوتهما: أن يمتحنا، وييسرا لصاحب هوى وبدعة.
ونضرب لك مثلا، هو: أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي، والآخر مرجئ; قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة آية: 27] دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار، وبطلانها; إذ لا قائل: إنهم من عباد الله المتقين; قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل منه عمله، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام آية: 160] . قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [سورة الجن آية: 23] يرد ما ذهبت إليه.
قال المرجئ: المعصية هنا: الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه، لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} [سورة السجدة آية: 18] دليل(1/475)
على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها. قال له المرجئ: قوله في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [سورة السجدة آية: 20] دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة، مؤمن كامل الإيمان.
ومن وقف على هذه المناظرة، من جهال الطلبة، والأعاجم، ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله، لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم واجب، وأما أهل البدع والأهواء، فيستغنون عنها بآرائهم، وأهوائهم، وأذواقهم.
وقد بلغني: أنكم تأولتم، قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [سورة محمد آية: 26] على بعض ما يجري من أمراء الوقت، من مكاتبة، أو مصالحة، أو هدنة، لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية، وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [سورة محمد آية: 25] ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر المعروف، المذكور في هذه الآية الكريمة، وفي قصة صلح الحديبية، وما طلبه المشركون واشترطوه،(1/476)
وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم.
فصل: (السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية)
وهنا أصول;
أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله، في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن، والكافر، والمشرك، والموحد، والفاجر، والبر، والظالم، والتقي، وما يراد بالموالاة، والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة، على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها; وكذلك الزكاة، فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة، ومعرفة النصاب، والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة وتفسيرها.
وكذلك الصوم والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة; وكذلك أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي; وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى(1/477)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنْزيل، والقرآن.
الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، فمنها: ما يزول الإيمان بزواله إجماعا، كشعبة الشهادتين; ومنها: ما لا يزول بزواله إجماعا، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها: ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها: ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب; والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة، وأئمتها.
وكذلك الكفر أيضا، ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر; والمعاصي كلها من شعب الكفر; كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام; وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني، أو يشرب، أو ينهب، أو صدر منه نوع موالاة، كما جرى لحاطب; فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف(1/478)
الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
الأصل الثالث: أن الإيمان مركب، من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو: اعتقاده; وقول اللسان، وهو: التكلم بكلمة الإسلام; والعمل قسمان: عمل القلب، وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه; وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة; فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية; وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب، وقبوله، فهذا محل خلاف، هل يزول الإيمان بالكلية، إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يزول؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة، وغيرها، أو لا يفرق؟
فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو: محبته، ورضاه، وانقياده; والمرجئة، تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا; والخلاف، في أعمال الجوارح، هل يكفر، أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة; والمعروف عند السلف: تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج; والقول الثاني: أنه لا يكفر إلا من جحدها.(1/479)
والثالث: الفرق بين الصلاة، وغيرها; وهذه الأقوال، معروفة.
وكذلك المعاصي والذنوب، التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها: بين ما يصادم أصل الإسلام، وينافيه، وما دون ذلك; وبين ما سماه الشارع كفرا، وما لم يسمه; هذا ما عليه أهل الأثر، المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.
الأصل الرابع: أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو: أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحودا وعنادا، من: أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، التي أصلها توحيده، وعبادته وحده لا شريك له; وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه; وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد; وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض " 1، وقوله: " من أتى كاهنا، فصدقه، أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " 2 فهذا من الكفر العملي; وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وسبه، وإن كان الكل، يطلق عليه الكفر.
وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه، مؤمنا بما عمل به، وكافرا بما ترك العمل به،
__________
1 البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921) .
2 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) .(1/480)
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [سورة البقرة آية: 84] إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] الآية، فأخبر تعالى: أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به; وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم; ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه.
فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي; والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي; وفي الحديث الصحيح: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، ففرق بين سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفرا; ومعلوم: أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل، قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمهما; فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم; والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين; فريق أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار; وفريق جعلوهم مؤمنين،
__________
1 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/433 ,1/454) .(1/481)
كاملي الإيمان; فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا; وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب، كالإسلام في الملل; فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم; فعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: " ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه " رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق; وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة; " وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق ".
وهذا بين في القرآن، لمن تأمله; فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرا، وليس الكفران على حد سواء؛ وسمى الكافر ظالما، في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] ، وسمى من يتعدى حدوده، في النكاح، والطلاق، والرجعة، والخلع، ظالما، وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق آية: 1] ، وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 87] ، وقال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] وقال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [سورة النمل آية: 44] ، وليس هذا الظلم، مثل ذلك الظلم; وسمى الكافر فاسقا، في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] ، وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ} [سورة البقرة آية: 99] وسمى(1/482)
العاصي فاسقا، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [سورة الحجرات آية: 6] ، وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور آية: 4] ، وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [سورة البقرة آية: 197] ؛ وليس الفسوق، كالفسوق.
وكذلك الشرك، شركان; شرك: ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر; وشرك: لا ينقل عن الملة، وهو الشرك الأصغر، كشرك الرياء; وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [سورة الحج آية: 31] الآية، وقال تعالى، في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف آية: 110] . وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " 1، وفي الحديث: " من حلف بغير الله، فقد أشرك " 2، ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار; ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " 3 فانظر: كيف انقسم الشرك، والكفر، والفسوق، والظلم، إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عن الملة.
وكذلك النفاق، نفاقان; نفاق اعتقادي، ونفاق عملي; والنفاق الاعتقادي مذكور في القرآن، في غير
__________
1 أحمد (5/428) .
2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) .
3 أحمد (4/403) .(1/483)
موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار; والنفاق العملي، جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان " 1، وكقوله صلى الله عليه وسلم " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " 2 قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم; فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا، انتهى.
الأصل الخامس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمنا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافرا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالما، أو طبيبا، أو فقيها; وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في الحديث: " اثنتان في أمتي هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت " 3، وحديث: " من حلف بغير الله فقد كفر " 4، ولكنه لا يستحق اسم الكفر على الإطلاق.
فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق علومهم،
__________
1 البخاري: الإيمان (34) , ومسلم: الإيمان (58) , والترمذي: الإيمان (2632) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5020) , وأبو داود: السنة (4688) , وأحمد (2/189 ,2/198) .
2 البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357) .
3 مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/441 ,2/496) .
4 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأحمد (2/125) .(1/484)
وقلة تكلفهم; قال ابن مسعود: " من كان متأسيا، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. قوم: اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ; وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر; أحدهما: الغلو ومجاوزة الحد والإفراط. والثاني: هو الإعراض، والترك، والتفريط ".
قال ابن القيم: لما ذكر شيئا من مكائد الشيطان، قال بعض السلف: " ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير; وإما إلى مجاوزة وغلو; ولا يبالي بأيها ظفر ". وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل، في هذين الواديين، وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي; والقليل منهم الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; وعد رحمه الله كثيرا من هذا النوع - إلى أن قال -: وقصر بقوم، حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلا عن أبي بكر، وعمر; وتجاوز بآخرين، حتى أخرجوا من الإسلام، بالكبيرة الواحدة.(1/485)
(رسالة كتبها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن على لسان الإمام فيصل إلى أهل البحرين)
وهذه رسالة كتبها: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، على لسان الإمام: فيصل رحمه الله، إلى أهل البحرين، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. من فيصل بن تركي، إلى الأخ الشيخ راشد بن عيسى، سلمه الله وهداه. السلام عليكم ورحمة وبركاته. وبعد: فالموجب لتحريره، ما بلغنا من ظهور: البدع في البحرين; بدعة الرافضة، وبدعة الجهمية، وذلك بسبب تقديم: حسن دعبوش، الرافضي، الجهمي، ونصبه قاضيا في البحرين. ومثلك ما يدخر النصح والتبيين لعيال خليفة، وغيرهم; وتعرف الحديث الصحيح: " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق، ليهريق دمه " 1 رواه ابن عباس.
وقد علمت أن الله أكرم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وخصه بصحبة خير خلقه، وخلاصة بريته; وقد أثنى الله على أصحاب نبيه في كتابه، ومدحهم بما هو حجة ظاهرة، على إبطال مذهب من عابهم، أو نال منهم وسبهم، كما هو مذهب الرافضة، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
__________
1 البخاري: الديات (6882) .(1/486)
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] الآية.
وقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 117] الآية، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [سورة آية: 18] ، وقد كانوا ألفا وأربعمائة، أولهم وأسبقهم إلى هذه البيعة: أبو بكر، وعمر; وعثمان بايع له النبي صلى الله عليه وسلم مع غيبته، وهذا يدل على فضله، وثبات إيمانه ويقينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه ذلك، واستقر عنده، ولذلك بايع له، فضرب بيمينه على شماله، وقال: هذه عن عثمان، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [سورة التوبة آية: 100] : وهذا نص: أن الله رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار; وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وبلال، من أسبق الناس إلى الإيمان بالله ورسوله; وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة آية: 10-11] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [سورة الفتح آية: 29] الآية. وقد استدل بهذه الآية بعض أهل العلم، على كفر من اغتاظ وحنق، على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالرافضة.
وقد نص الله تعالى، على إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} [سورة آل عمران آية: 124] الآية، وقوله تعالى: {لَقَد(1/487)
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سورة آل عمران آية: 164] الآية.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [سورة التوبة آية: 122] ، وإنما عنى به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه مدحهم، وتزكيتهم، وفضلهم، لأن اسم الإيمان، وإطلاقه في كتاب الله تعالى، يدل على ذلك; وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في خطابهم، وذلك في مواضع من كتابه.
والأحاديث الدالة على فضلهم وسابقتهم أكثر من أن تحصر، عموما وخصوصا، كقوله: فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: " هل أنتم تاركو لي أصحابي؟ فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه " 1.
وقوله: " افترقت بنو إسرائيل، على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه، وأصحابي " وقال: " آية الإيمان: حب الأنصار; وآية النفاق: بغض الأنصار " 2، وقوله صلى الله عليه وسلم " خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 3، وقوله صلى الله عليه وسلم " أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم " وقوله: " يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من
__________
1 البخاري: المناقب (3673) , ومسلم: فضائل الصحابة (2541) , والترمذي: المناقب (3861) , وأبو داود: السنة (4658) , وأحمد (3/11 ,3/54 ,3/63) .
2 البخاري: الإيمان (17) , ومسلم: الإيمان (74) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5019) , وأحمد (3/130 ,3/134 ,3/249) .
3 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436) .(1/488)
الناس، فيقال لهم: أفيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم; فيفتح لهم; ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم; فيفتح; زاد بعضهم: حتى يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " 1.
وقال أيضا: وأما أهل البدع، فمنهم: الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين على بن أبي طالب، رضي عنه، وقاتلوه; واستباحوا دماء المسلمين، وأموالهم، متأولين في ذلك; وأشهر أقوالهم: تكفيرهم بما دون الشرك من الذنوب، فهم يكفرون أهل الكبائر والمذنبين من هذه الأمة; وقد قاتلهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصحت فيهم الأحاديث، روى منها مسلم عشرة أحاديث، وفيها الأمر بقتالهم، وأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وخير القتلى من قتلوه، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان; وفي الحديث: " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله " 2.
ومن أهل البدع: الرافضة، الذين يتبرؤون من أبي بكر، وعمر; ويدعون موالاة أهل البيت، وهم أكذب
__________
1 آخر ما وجد.
2 البخاري: الأدب (6163) , ومسلم: الزكاة (1064) .(1/489)
الخلق، وأضلهم، وأبعدهم عن موالاة أهل البيت، وعباد الله الصالحين; وزادوا في رفضهم، حتى سبوا أم المؤمنين، رضي الله عنها وأكرمها; واستباحوا شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا يسيرا، وأضافوا إلى هذا: مذهب الغالية، الذين عبدوا المشائخ والأئمة، وعظموهم بعبادتهم، وصرفوا لهم ما يستحقه سبحانه ويختص به، من التأله، والتعظيم، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات; وغلاتهم يرون أن عليا ينْزل في آخر الزمان; ومنهم من يقول: غلط الأمين، وكانت النبوة لعلي; وهم، جهمية في باب صفات الله; زنادقة، منافقون في باب أمره، وشرعه.
ومن أهل البدع: القدرية، الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في أم الكتاب، وجرى به القلم; ومنهم: القدرية المجبرة، الذين يقولون: إن العبد مجبور، لا فعل له، ولا اختيار.
ومن أهل البدع: المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد لا يتفاضل.
ومن أهل البدع، وأكفرهم: الجهمية، الذين ينكرون صفات الله تعالى، التي جاء بها القرآن والسنة، ويؤولون ذلك، كالاستواء، والكلام، والمجيء، والنّزول، والغضب، والرضى، والحب، والكراهة، وغير ذلك من(1/490)
الصفات، الذاتية، والفعلية.
ومن أهل البدع الضالين: أصحاب الطرائق المحدثة، كالرفاعية، والقادرية، والبومية، وأمثالهم، كالنقشبندية، وكل من أحدث بدعة، لا أصل لها في الكتاب، والسنة.
(رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الشيخ محمد البغدادي في غربة الدين)
وله: أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، الشيخ: محمد بن سليمان، آل عبد الكريم، البغدادي، وفقه الله للإيمان به وتقواه، وأطلع للطالبين بدر توفيقه وهداه; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والكتاب الكريم وصل إلينا، وصلك الله برضاه، ونظمك في سلك خاصته وأوليائه; وقد سرني غاية المسرة، وسرحت نظري في رياضه، المرة بعد المرة، وحمدت الله على ما من به عليك، وأهداه إليك، من المنة العظمى، والموهبة الكبرى، التي هي أسنى المواهب، وأشرف المطالب: معرفة دين الإسلام، والعمل به، والبراءة مما وقع فيه الأكثرون من الشرك الصراح، والكفر البواح، من دعاء الموتى، والغائبين، والاستغاثة بهم في كشف شدائد المكروبين،(1/491)
ونيل مطالب الطالبين، وتحصيل رغبات الراغبين، عدلا منهم بالله رب العالمين، وصرف خالص محبة العبودية، وما يجب من الخضوع لرب البرية، إلى الأنداد والشركاء والوسائل، والشفعاء، بل وسائر العبادات الدينية، صرفت إلى المشاهد الوثنية، والمعابد الشركية، وصرحت بذلك ألسنتهم، وانطوت عليه ضمائرهم، وعملت بمقتضاه جوارحهم; ولم ينج من شرك هذا الشرك، إلا الخواص والأفراد، والغرباء في سائر البلاد; وذلك مصداق ما أخبر به الصادق، بقوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ " 1. قال بعض الأفاضل، من أزمان متطاولة: الإسلام في وقتنا، أشد منه غربة في أول ظهوره.
قلت: وذلك أنه في أول وقت ظهوره يعرفه الكافرون، والمنكرون له، كما قال تعالى، حاكيا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، وأكثر المنتسبين إلى الإسلام، في هذه الأزمان، يعتقدون، أنه هو الاعتقاد في الصالحين، ودعوتهم، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم، بأنواع العبادات، كالذبح، والنذر، والحلف، وغير ذلك من أنواع الطاعات; وذلك لأنه ولد عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، واعتادته طباعهم، فتراهم عند تجريد التوحيد يقولون: هذا مذهب خامس; لأنهم لا يعرفون غير ما نشؤوا عليه واعتادوه، لا
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(1/492)
سيما إذا ساعد العادة الاغترار بمن ينتسب إلى العلم والدين; وهو عند الله، معدود في زمرة الجاهلين والمشركين; فهذا وأمثاله، هم الحجاب الأكبر، بين أكثر العوام، وبين نصوص الكتاب والسنة، وما فيهما من الدين والهدى.
ثم أكثرهم قد تجاوز القنطرة، وغرق في بحار الشرك في الربوبية، مع ما هو فيه من الشرك في الإلهية فادعى أن للأولياء والصالحين شركة في التدبير والتأثير، وشركة في تدبير ما جاءت به المقادير; وأوحى إليهم إبليس اللعين أن هذا من أحسن الاعتقاد في الصالحين، وأن هذا من كرامة أولياء الله المقربين، تعالى الله عما يقول الظالمون، وتقدس عما افتراه أعداؤه المشركون، و: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء آية: 22] .
وحيث من الله عليك، بمعرفة الهدى ودين الحق; وظهر لك ما هم عليه من الشرك المبين، فاعرف هذه النعمة الكبرى، وقم بشكرها; وأكثر من حمد ربك، والثناء عليه; واحرص أن تكون إماما في الدعوة إليه تعالى، وإلى سبيله، ومعرفة الحق بدليله، فإن هذا أرفع منازل أولياء الله وخواصه من خلقه; فاغتنم يا أخي، مدة حياتك، لعلك أن تربح بها السعادة الأبدية، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، في جنات علية.(1/493)
وتأمل ما عند إخوانك من الطلبة في القصيم، من رسائل مشائخ الإسلام الداعين إلى الله على بصيرة، والزم مذاكرة الإخوان، والبحث معهم في هذا الشأن، وفي غيره من العلوم، فإنهم من خواص نوع الإنسان، ومن جواهر الكون في هذا الزمان، وفقهم الله، وكثر في قلوبهم الإيمان.
وما ذكرت من الشوق إلى اللقاء والاجتماع بنا، فنحن إلى إخواننا في الله أشوق وأحرص، فعسى الله أن يمن بالتلاق، ويطوي ما بيننا من البعد والفراق.
(رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى منيف بن نشاط)
وله: أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: منيف بن نشاط، سلمه الله تعالى، وشد حبله بالعروة الوثقى وأناط، ومن عليه بالتزام التوحيد، والفرح به والاغتباط; السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، وأسأله اللطف بي وبكم في تيسير كل عسير، مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير; وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة، وترادف النعم، لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم(1/494)
والتقصير; نشكو إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى، ونعم المولى ونعم النصير.
وكتابك وصل إلينا، مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه، وإعلامه بصحتكم وسلامتكم، وحسن معتقدكم وطويتكم; فالحمد لله على اللطف والتسديد، ومعرفة حقه سبحانه وما يجب له على العبيد.
فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله; فإنك في زمان قبض فيه العلم، وفشا الجهل، وبدل الدين، وغيرت السنن، لا سيما أصول الدين، وعمدة أهل الإسلام واليقين، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله; وقد ألحد في هذا من ألحد، وأعرض عن الحق من أعرض وجحد; حتى عطلوا صفات الله تعالى، التي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه، وتكليمه، ومحبته، وخلته، ورضاه، وغضبه، ومجيئه، ونزوله، فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضوعها، وصرفوها عن دلالتها; وكذلك الحال في باب عبادته، وتوحيده، ومعرفة حقه على عبيده.
فأكثر الناس والمنتسبين إلى الإسلام، ضلوا في هذا(1/495)
الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين، والقبور، والأنصاب، والشياطين، خالص العبادة، ومحض حق رب العالمين كالحب، والدعاء، والاستغاثة، والتوكل، والإجلال، والتعظيم، والذل، والخضوع; بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية، وهذا الأمر لا يتحاشون عنه، بل يصرحون به ويفتخرون، ويدعون أنهم من أهل الإسلام، إلا أنهم هم الكاذبون، وهذا الشرك، لم يصل إليه شرك جاهلية العرب; وقد جرى كما ترى من أناس يقرؤون القرآن، ويدعون أنهم من أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد.
وكذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع، قد ترك، وسد عن أكثر من يدعي العلم والدين، والعمدة والمرجع، إلى أقوال من يعتقدون علمه، من المنتسبين، والمدعين; ولو تكلم أحد بإنكار ذلك، لعد عندهم من البله والمجانين، هذه أحوال جمهور المتشرعين، والمتدينين; فهل ترى فوق هذا غاية، في غربة الحق والدين؟ فعليك بالجد والاجتهاد، في معرفة الإيمان، وقبوله، وإيثاره، والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض، وهلك به أكثر الخلق، جيلا بعد جيل.(1/496)
وأما ما ذكرته، عن الأعراب من الفرق، بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل؟ فهذا هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع، عند أهل العلم، والسلام.
(معنى السمت والهدي والتؤدة)
وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، بن حسن، عن السمت والهدى، والتؤدة ... إلخ.
فأجاب: الأحاديث التي سألت عن معناها، قد تكلم عليها بعض العلماء، بما حاصله: أن السمت، والهدى، في حالة الرجل، في مذهبه، وخلقه; وأصل السمت في اللغة: الطريق المنقاد، ثم نقل لحالة الرجل، وطريقته في المذهب، والخلق، والاقتصاد، سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه; وأما: التؤدة، فهي: التأني، والتمهل، وترك العجلة، وسبق الفكر، والروية، للتلبس في الأمور.
وأما كون هذه الخصال، جزءا من أربعة وعشرين جزءا من النبوة، فقد قيل: إن هذه الخلال من شمائل الأنبياء عليهم السلام، ومن الخصال المعدودة من خصالهم، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها، قالوا: وليس معنى الحديث، أن النبوة: تتجزأ، ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة; فإن النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله تعالى، وخصوصية لمن أراد الله إكرامه من عباده: {اللَّهُ أَعْلَمُ(1/497)
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [سورة الأنعام آية: 124] . وقد انقطعت النبوة، بموت محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيه وجه آخر; وهو أن يكون معنى النبوة هاهنا، ما جاءت به النبوة، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام، يعني: أن هذه الخلال جزء من أربعة وعشرين جزءا، مما جاءت به النبوات، ودعت إليه الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم; وقد أمرنا باتباعهم، في قوله عز وجل {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} قالوا: وقد يحتمل وجها آخر، وهو: أن من اجتمعت له هذه الخصال، لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله لباس التقوى، الذي يلبسه أنبياءه، فكأنها جزء من النبوة; قلت: وما قبل هذا، أليق بمعنى الحديث.
وأما حديث: " الرؤيا حق " فقيل معناه: تحقيق أمر الرؤيا، وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوة، في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم دون غيرهم; لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي، قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [سورة الصافات آية: 102] .
وأما تحديد الأجزاء، بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال بعض أهل العلم: إنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظة، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. وكانت مدة(1/498)
الوحي ثلاثا وعشرين سنة، منها نصف سنة في أول الأمر يوحى إليه في منامه، ونسبة الستة الأشهر لبقية مدة الوحي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة; وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث، قال: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنها جزء من باقي النبوة، وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوة، وعلم النبوة باق، والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات، وهي: الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو ترى له.
وعندي: أن النبوة - التي هي الوحي بشرائع الأنبياء - عبارة عن نبأ، أو شأن عظيم في القوة وإفادة اليقين; والرؤيا الصالحة - التي هي من أقسام الوحي - جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم، من ستة وأربعين جزءا، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء، فلا محذور، ويمكن أن يقال هذا فيما تقدم، من قوله: " الهدى الصالح، والسمت الحسن، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " 1 هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
(الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والمشائين)
وسئل: عن الفرق بين الفلاسفة الإلهيين، والمشائين:
فأجاب: أما الفرق بين الفلاسفة الإلهيين والفلاسفة المشائين، فذكر شارح رسالة ابن زيدون، أن المشائين: أفلاطون، ومن اتبعه; وأنهم أول من قال بالطبائع، وتكلم
__________
1 أبو داود: الأدب (4776) , وأحمد (1/296) .(1/499)
فيها، وأمر بالرياضة، والمشي، لمعاونة قوة الطبيعة، وتحليل ما يضادها من الأخلاط، وأمر بالمشي، والرياضة، عند المذاكرة في مسائل الطبيعة، فسموا مشائين لهذا.
وأما الإلهيون، فهم: قدماؤهم من أهل النظر، والكلام في الأفلاك العلوية، وحركاتها، وما يزعمون، وينتحلونه، من إفاضتها، وتأثيرها; وفي اللغة: إطلاق الإله، على المدبر والمؤثر، كما يطلق على المعبود; وقد عرفت أن جمهورهم وقدماءهم: ليسوا مما جاءت به الرسل في شيء، ومذهبهم أكفر المذاهب، وأبطلها وأضلها عن سواء السبيل.(1/500)
(رسالة أملاها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن على لسان راشد بن عبيد الله الغزي)
وهذه رسالة أملاها الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، على لسان راشد بن عبيد الله الغزي، لما أخبره بالمناظرة التي وقعت بينه وبين إبراهيم خيار؛ قال: لعلها تكون سببا لرجوعه إلى الحق.
بسم الله الرحمن الرحيم
من راشد بن عبيد الله الغزي، إلى الشيخ إبراهيم خيار، وفقنا الله وإياه لاتباع السنة النبوية والأخيار، وبعد إبلاغ السلام عليكم، ورحمة الله وبركاته، نعرفكم أنا وصلنا الرياض بالسلامة، وبحثنا عن نقض كلام داود بن جرجيس، فوجدنا ثلاث نسخ، كل نسخة لواحد من المنتسبين إلى الدين، من أهل تلك البلاد النجدية، وسمعت كثيرا من ردهم ونقضهم، فوجدتهم قد أوردوا من الحجج، والأدلة، والبراهين، ما لا يقاومه أحد، ولا يستطيع ذلك مجادل; فإنهم احتجوا على وجوب إخلاص الدين لله، وإفراده بالعبادة، والدعاء، والاستغاثة، والاستجارة، بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال علماء الأمة، وما درج عليه القرون المفضلة، بنص الحديث.
فقام الدليل، واتضح السبيل، في حكم أبيات البردة، وتشطير داود لها، وهي قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك
- البيت - وقوله:
فإن من جودك الدنيا(1/501)
وضرتها
- البيت - وبينوا ما في هذه الأبيات وتشطيرها من البشاعة، والشناعة، والجهالة، وقرروا أن هذا من الغلو الذي ذمه الله ورسوله; وتكرر النهي عنه، وهو يشبه غلو النصارى، من بعض الوجوه.
فإن الله هو الذي يستحق أن يلاذ ويعاذ، ويستجار به، وهو الذي أوجد الدنيا، والآخرة، وهما من جوده، لا من جود أحد سواه، وهو العالم بجميع الغيب، أحاط علمه بكل شيء، لا يصلح أن يكون المخلوق - وإن علت درجته، كالأنبياء والملائكة - مساويا ومماثلا لله تعالى، في صفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، تعالى الله عن ذلك. وبسط الكلام يطول، وأنا أحب لك الخير، وأن لا تهلك مع من هلك، فلذلك كتبت لك، طمعا في إنصافك، وتأملك.
وبالجملة: فعقيدة القوم: تحكيم الكتاب، والسنة، والأخذ بأقوال سلف الأمة، وأئمتها، كالأئمة الأربعة، وأمثالهم، في باب: وجوب إخلاص العبادة لله ومحبته، والإنابة إليه، وتعظيمه، وطاعته; وفي باب: معرفته بصفات كماله، ونعوت جلاله، فيثبتون له ما أثبته الله تعالى لنفسه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل; فهم على طريقة السلف; وما قاله مالك، رحمه الله، يجري عندهم في الاستواء، وفي غيره.
وكذلك: ينكرون، ويكفرون من قال بأن لأرواح المشائخ تصرفات بعد الممات، وأن ذلك لهم على سبيل(1/502)
الكرامات، فإن هذا من أشنع الأقوال المكفرة، وأضلها، لمصادمة الكتاب المصدق، ولما فيه من الشرك المحقق; وكذلك ينكرون التعبد بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله، من كل فعل، أو قول، تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه أصحابه، مع قيام المقتضي الموجب له، لو كان مشروعا.
ويشددون في النهي عن وسائل الشرك وذرائعه، كبناء المساجد على القبور، والصلاة عندها، وإيقاد السرج عليها، والعكوف لديها، واتخاذ السدنة لها، واتخاذها أعيادا، تزار، وتقصد في يوم معلوم، ووقت مرسوم; فإن هذا فيه من روائح الشرك ووسائله ما لا يخفى.
ومن أصولهم: أنهم يقولون بوجوب رد ما تنازعت فيه الأمة إلى كتاب الله، وسنة رسوله، ولا يقبلون قولا مجردا عن دليل ينصره، وبرهان يعضده، بمجرد نسبته إلى شيخ أو متبوع غير الرسول، لا سيما من خالف هدى القرون المفضلة، وما درج عليه أوائل هذه الأمة، فإنهم يشددون على من خالفهم; وأما أمرهم بأركان الإسلام، والتأديب على تركها، والحث على فعلها، فأمر مشهور، لا ينكره الخصم.
وقد جرى بيني وبينك، في مسألة الاستواء مذاكرة، وقلت لي إن معنى استوى: استولى، وأنشدتنا في ذلك قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... البيت. فأخبرت بكلامك بعض مشائخنا، فعجب منه، وقال: هذا(1/503)
قول باطل مردود بوجوه كثيرة.
منها: أنه لا يقال استوى، بمعنى الاستيلاء، إلا إذا سبق ذلك مغالبة، وخروج عن الاستيلاء، كما في البيت. ومنها: أن هذا البيت مولد، لا يحتج به. ومنها: أن المعروف في اللغة، يبطل هذا، كما قال تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [سورة هود آية: 44] ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] ، ولا يصلح أن يراد بالآيتين الاستيلاء، وقال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [سورة الزخرف آية: 13] ، ولا يصلح أن يكون بمعنى الاستيلاء، وخير ما فسر كتاب الله بما ورد، وبعضه يبين بعضا. والبيت معارض بقول الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد، استولى; لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النضر بن شميل، وكان ثقة مأمونا، جليلا في علم الديانة واللغة، قال حدثني الخليل، وحسبك بالخليل، قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا عليه، فرد السلام، وقال: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جانبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، فقال الخليل: هو(1/504)
من قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [سورة فصلت آية: 11] فصعدنا إليه، ولا يصلح هنا الاستيلاء.
ومن صرف كلام الله عن حقيقته وظاهره، لمجرد كلام بعض المولدين، وترك تفاسير الصحابة وأهل العلم والإيمان، فهو: إما زائغ، وإما جاهل في غاية الجهالة.
ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين للأمة ما يراد من هذه الآيات، وما يعتقدونه في ربهم، فهو من أضل الناس وأجهلهم; بل هذا محال شرعا، وعقلا; كيف يبين كل شيء، حتى الخراءة، ويدع أصل الأصول ملتبسا لا يبينه، ولا يعلمه أمته، حتى يجيء بعض الخلف، ويبينون للأمة العقيدة الصحيحة في ربهم؟! والرسول وأصحابه قد أعرضوا عن ذلك، ولم يبينوه؟! وهذا لازم لقولكم لزوما لا محيد عنه.
ومستحيل أيضا أن يكون الرسول وأصحابه، غير عالمين بالحق في هذا الباب، وأن الخلف أعلم من السابقين الأولين، ومن التابعين، وتابعيهم من أهل القرون المفضلة، كالأئمة الأربعة، ومن ضاهاهم من أئمة الدين، وأعلام الهدى.
قالوا لنا: ومشائخ الأشاعرة، والكرامية، والمعتزلة، يعترفون أن قولهم لم يقله السلف، ولم ينقل عنهم، ولذلك يقول جهالهم: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم(1/505)
وأحكم، لأنهم يظنون أن السلف بمنْزلة الأميين الذين لم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، ولم يعرفوا حقيقة ما يعتقدونه في ربهم ومعبودهم، وأن الخلف حازوا قصب السبق في ذلك!
قالوا لنا: والإشارة بالخلف، في قولهم: الخلف أعلم، إلى طائفة من أهل الكلام، الذين اعترفوا على أنفسهم بالحيرة، وذم ما هم عليه من الخوض في الجواهر والأعراض، قالوا: ومن أشهر مشائخهم: أبو المعالي الجويني; وهو القائل: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، والآن إن لم يتداركني الله برحمته، فالويل لابن الجويني; قال: وها أنا أموت على عقيدة أمي.
قال بعض السلف: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام; وأنت خبير بأن من ترك مذهب السلف، وأخذ بمذهب الخلف، إنما يحمله على ذلك شبه أهل الكلام، وأقيستهم، أو تقليدهم، ولم يترك مذهب السلف لدليل من كتاب، أو سنة.
ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى، إلا على ذلك; وإنما يوجه كلام الله تعالى على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع ذلك ما يجب له التسليم، قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ}(1/506)
[سورة التوبة آية: 2] أي: على الأرض، وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال مالك - رحمه الله - لسائله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة; وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء.
قال أبو عبيدة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: علا، قال، وتقول العرب: استويت فوق الدابة، وفوق البيت; ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب، من معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين; وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وأن استوى بمعنى: استولى، لأن الاستيلاء في اللغة: المغالبة، وهو سبحانه لا يغالبه أحد، والاستواء معلوم في اللغة; وهو: العلو والارتفاع، والتمكن.
قال الإمام محيي السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، الشافعي، صاحب: معالم التنْزيل، عند قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : قال الكلبي، ومقاتل: استقر; وقال أبو عبيدة: صعد، قلت: لا يعجبني قوله: استقر، بل أقول كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; ثم قال البغوي: وأولت المعتزلة الاستواء، بالاستيلاء; وأما أهل السنة، فيقولون: الاستواء على العرش، صفة لله بلا كيف، يجب الإيمان به.
واعلم أن القصد بهذا: مناصحتك، ودعوتك إلى الله،(1/507)
لعل الله أن يمن عليك بالرجوع إليه، ومعرفة الحق، والعمل به; وعليك بالتفكر والتدبر، والدعاء بدعاء الاستفتاح، الذي أخرجه مسلم في صحيحه: " اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل إلى آخره " 1.
وقال أيضا: الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن:
حديث عبادة: 2 حديث عظيم، جليل الشأن، من أجمع الأحاديث لأصول الدين وقواعده; لأن شهادة أن لا إله إلا الله فيها الإلهيات، وهي: الأصول الثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات; وهذه الأصول تدور عليها أديان الرسل، وما أنزل إليهم; وهي الأصول العظام الكبار، التي دلت عليها، وشهدت بها العقول والفطر; وفي شهادة "أن محمدا رسول الله" الإيمان به، وبجميع الرسل، لما بينهما من التلازم، وكذلك الإيمان بالكتب التي جاءت بها الرسل.
وفي شهادة "أن عيسى عبد الله" رد على النصارى، وإبطال مذهبهم، وفي قوله: "ورسوله" رد على اليهود، وتكذيبهم بما نسبوه إلى عيسى وأمه، وأما قوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم" فسماه كلمة، لأنه كان بالكلمة من غير أب،
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود: الصلاة (767) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156) .
2 هو ما رواه الشيخان, عن عبادة بن الصامت مرفوعا: "من شهد أن لا إله إلا الله ... إلخ".(1/508)
هذا دين المرسلين، خلافا للنصارى القائلين: هو نفس الكلمة، وهم من أضل الخلق وأضعفهم عقولا، لأنهم لم يفرقوا بين الخلق والأمر; قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] ففرق تعالى بين خلقه وأمره; ومنه رد السلف، والأئمة على من قال: القرآن مخلوق.
وفي قوله: وروح منه كشف شبهة النصارى القائلين بإلهية عيسى، وأنه من ذات الله، لأن في هذا الحديث أنه روح من جملة الأرواح المخلوقة المحدثة، فهو منه خلقا وإيجادا، وليس من ذاته كما قالت النصارى; ومثله قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة الجاثية آية: 13] فـ "منه" هنا، وفي الحديث، وفي آية النساء، بمعنى واحد، وهو خلقه وإيجاده.
وفي قوله: " وأن الجنة حق، والنار حق " 1 الإيمان بالوعد، الوعيد، والجزاء بعد البعث، وفيه: الإيمان بالساعة; وفيه: الإيمان بالبعث بعد الموت، وأن ذلك لحكمة، وهي: ظهور مقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، من إثابة أوليائه وكرامتهم، وعقاب أعدائه، وإهانتهم، وظهور حمده، واعتراف جميع خلقه له به.
__________
1 مسلم: الجهاد والسير (1807) , والنسائي: البيعة (4159) , وأبو داود: الجهاد (2538 ,2752) , وأحمد (4/48 ,4/52) .(1/509)
(شرح حديث: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة")
وله أيضا: رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ صالح آل عثمان، سلمه الله وحفظه من طائف الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أولاه من الإنعام، جعلنا الله وإياك من أوليائه الذاكرين الشاكرين.
وأما المسألة التي سألت عنها، في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " 1 فمن أحسن ما قيل في معناه، قول العلامة: ابن القيم، رحمه الله تعالى، في باب المعاينة، من شرح المنازل، لما تكلم على ما يزعمه القوم، من إدراك نفس الحقيقة، والأنوار التي يجدونها، وأنها أمثلة وشواهد.
قال: وحقيقتها هي وقوع القوة العاقلة، على المثال العلمي المطابق للخارجي، فيكون إدراكه له، بمنْزلة إدراك العبد للصورة الخارجية; وقد يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن، بحيث يصير الحكم له، ويقوى استحضار القوة العاقلة لمدركها، بحيث يستغرق فيه، ويغلب حكم القلب، على حكم الحس والمشاهدة، ويستولي على السمع والبصر، بحيث يراه، ويسمع خطابه في الخارج، أو في
__________
1 البخاري: الجمعة (1195) , ومسلم: الحج (1390) , والنسائي: المساجد (695) , وأحمد (4/39 ,4/40 ,4/41) , ومالك: النداء للصلاة (463) .(1/510)
النفس والذهن، لكن، لغلبة الشهود، وقوة الاستحضار، وتمكن حكم القلب، واستيلائه على القوى، صار كأنه مرئي بالعين، مسموع بالأذن، بحيث لا يشك المدرك في ذلك، ولا يرتاب البتة، ولا يقبل عذلا.
وحقيقة الأمر: أن ذلك كله شواهد، وأمثلة علمية، تابعة للمعتقد - إلى أن قال -: وليس مع القوم إلا الشواهد، والأمثلة العلمية، والرقائق، التي هي: ثمرة قرب القلب من الرب، وأنسه، واستغراقه في محبته، وذكره، واستيلاء سلطان معرفته عليه; والرب تبارك وتعالى، وراء ذلك كله: منَزه مقدس، عن اطلاع البشر على ذاته، وأنوار ذاته أو صفاته; وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد، كما يقوم بقلبه شاهد الآخرة، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلها. وهذا هو الذي وجده عبد الله بن حرام، يوم أحد، لما قال: " واها لريح الجنة، إني لأجد ريحها دون أحد; " ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذ مررتم برياض الجنة فارتعوا " 1 وقوله: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " 2، فهي: روضة لأهل العلم والإيمان، لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة، حتى كأنها لهم رأي عين; وإذا قعد المنافق هناك، لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة; فالعمل إنما هو على الشواهد، وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله; انتهى ملخصا. وبه: يظهر معنى الحديث، وأن اختصاص هذا
__________
1 الترمذي: الدعوات (3509) .
2 البخاري: الجمعة (1195) , ومسلم: الحج (1390) , والنسائي: المساجد (695) , وأحمد (4/39 ,4/40 ,4/41) , ومالك: النداء للصلاة (463) .(1/511)
المكان بكونه روضة من رياض الجنة، لما يقوم بقلب العبد من المثال والشاهد الذي يقوي سلطانه هناك، وتظهر ثمرته، ويجد المؤمن من لذته، وروحه، حتى كأنه رأي عين; وفي هذا القدر كفاية، والله الموفق; ولا تذخر عمارة مجلسك، بذكر الله، والدعوة إليه، ونشر العلم، الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب، والحكمة، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
(الفرق بين القدر والقضاء)
وسئل رحمه الله عن الفرق، بين القدر، والقضاء؟
فأجاب: القدر في الأصل، مصدر قدر; ثم استعمل في التقدير، الذي هو: التفصيل والتبيين; واستعمل أيضا بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها; وأما القضاء: فقد استعمل في الحكم الكوني بجريان الأقدار، وما كتب في الكتب الأولى; وقد يطلق هذا على القدر الذي هو: التفصيل والتمييز.
ويطلق القدر أيضا على القضاء، الذي هو الحكم الكوني، بوقوع المقدرات; ويطلق القضاء، على الحكم الديني الشرعي; قال الله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [سورة النساء آية: 65] ، ويطلق القضاء على الفراغ، والتمام، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [سورة الجمعة آية: 10] ، ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [سورة طه آية: 72] ، ويطلق على الإعلام، والتقدم بالخبر، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ}(1/512)
[سورة الإسراء آية: 4] .
ويطلق على الموت، ومنه قولهم: قضى فلان، أي: مات، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [سورة الزخرف آية: 77] ، ويطلق على وجود العذاب، قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} ، ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه، كقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [سورة طه آية: 114] ، ويطلق على الفصل والحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الزمر آية: 69] ، ويطلق على الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [سورة فصلت آية: 12] .
ويطلق على الحتم، كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [سورة مريم آية: 21] ، ويطلق على الأمر الديني، كقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، ويطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيت وطري. ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم، ويطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [سورة البقرة آية: 200] . والقضاء في الكل: مصدر; واقتضى الأمر الوجوب: دل عليه، والاقتضاء، هو: العلم بكيفية نظم الصيغة; وقولهم: لا أقضي منه العجب، قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي.
(معنى قول القائل: أسألك بمعقد العز من عرشك)
وسئل أيضا، رحمه الله عن قوله: أسألك بمعقد العز من عرشك، ما معناه؟
فأجاب: لا يخفى أن هذا ليس من الأدعية المشروعة; ولذلك، اختلف الناس فيه، فكره أبو حنيفة المسألة بمعقد العز، وأجازها صاحبه أبو يوسف، لأنه قد يراد بهذه الكلمة(1/513)
المحل، أي محل المعقد وزمانه، كمذهب، يطلق على محل الذهاب وزمانه; وربما أريد بها المفعول، كمركوب، ويكون هنا اسم مصدر، من: عقد يعقد عقدا، والاسم: معقد; ويكون صفة ذات; ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله; وأما أبو حنيفة، فنظر إلى أن اللفظ، محتمل لمعان متعددة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبين المعنى.
(معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ".
وسئل: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ".
فأجاب: اعلم أن التجهم: الغلظة، والعبوس، والاستقبال بالوجه الكريه; قال بعض علماء اللغة: الجهم الغليظ المجتمع، وجهم ككرم، جهامة وجهومة، استقبله بوجه كريه، كتجهمه; والجهمة: آخر الليل، أو بقية سواد من آخره; وأجهم: دخل فيه. انتهى. وبه يظهر أن التجهم يقع على الاستقبال بوجه مظلم عبوس، والله أعلم.
(رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن في بيان عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب وأخباره وأحواله)
وقال الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] ، أحمده سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق(1/514)
المأمون، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون; وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإنه ابتلي بعض من استحوذ عليه الشيطان، بعداوة شيخ الإسلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ومسبته، وتحذير الناس عنه، وعن مصنفاته، لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور، وما نشؤوا عليه من البدع التي امتلأت بها الصدور; فأردت أن أذكر طرفا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه الباطل، ولا يغتر بحائد عن الحق مائل، مستنده ما ينقله أعداؤه، الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته، وبالغوا في مسبته، والتأليب عليه وتهمته، وكثيرا ما يضعون من مقداره، ويغيضون ما رفع الله من مناره، منابذة للحق الأبلج، وزيغا عن سواء المنهج.
والذي يقضي به العجب قلة إنصافهم، وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون زلة من المنتسبين إليه، ولا عثرة إلا نسبوها إليه، وجعلوا عارها راجعا عليه، وهذا من تمام كرامته، وعظم قدره، وإمامته; وقد عرف من جهالهم، واشتهر من أعمالهم أنه ما دعا إلى الله أحد، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، في أي قطر من الأقطار، إلا سموه وهابيا، وكتبوا فيه الرسائل إلى البلدان، بكل قول هائل يحتوي على الزور والبهتان.
ومن أراد الإنصاف، وخشي مولاه وخاف، نظر في(1/515)
مصنفات هذا الشيخ، التي هي الآن موجودة عند أتباعه؛ فإنها أشهر من نار على علم، وأبين من نبراس على ظلم، وسأذكر لك بعض ما وقفت عليه من كلامه، خوفا أن تخوض من مسبته في مهامه، فأقول:
قد عرف واشتهر، واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين، أهل الفقه والفتوى، في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وقد درج على هذا: من بعدهم من التابعين، من أهل العلم والإيمان، من سلف الأمة; كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وكمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأمثالهم كعلي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي حنيفة(1/516)
النعمان بن ثابت، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، ومسلم، ونظرائهم من أهل الفقه والأثر; لم يخالف هذا الشيخ ما قالوه، ولم يخرج عما دعوا إليه واعتقدوه.
وأما توحيد العبادة والإلهية، فقد حققه غاية التحقيق، ووضح فيه المنهج والطريق; وقال: إن حقيقة ما عليه أهل الزمان، وما جعلوه هو غاية الإسلام والإيمان، من طلب الحوائج من الأموات، وسؤالهم في المهمات، وحج قبورهم للعكوف عندها والصلوات، هو بعينه فعل الجاهلية الأولى، من دعاء اللات والعزى ومناة، لأن اللات، كما ورد في الأحاديث: رجل يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره، يرجون شفاعته في مجاوريه، والتقرب به إلى الله في زائريه، لم يقولوا: إنه يدبر الأمر ويرزق، ولا أنه يحيى ويميت ويخلق، كما نطق بذلك الكتاب، فكان مما لا شك فيه ولا ارتياب.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . قال العماد ابن كثير، رحمه الله، أي: أفلا تتقون الشرك في العبادة، لأنهم لا يطلبون إلا الشفاعة والقرب، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ(1/517)
إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
قال الشيخ - رحمه الله -: يوضح ذلك، أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل، لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين; ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائنا من كان; وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم; وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين.
قال رحمه الله: وقد جمع ذلك في سورتي الإخلاص، أي: العلم، والعمل، والإقرار. وقد اكتفى بعض أهل زماننا، بالإقرار وحده، وجعلوه غاية التوحيد، وصرفوا العبادة التي هي مدلول لا إله إلا الله، للمقبورين، وجعلوها من باب التعظيم للأموات، وأن تاركها قد هضمهم حقهم، وأبغضهم وعقهم; ولم يعرفوا أن دين الإسلام هو الاستسلام لله وحده، والخضوع له وحده، وأن لا يعبد بجميع أنواع العبادة سواه.
وقد دل القرآن على أن من استسلم لله ولغيره، كان مشركا; قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [سورة الزمر آية: 54] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ(1/518)
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 27] ، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . وذكر عن رسله نوح، وهود، وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] .
قال رحمه الله: والشرك المراد في هذه الآيات ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن هذا، هو شرك جاهلية العرب، الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله، كما نبه تعالى على ذلك في آيتي يونس والزمر.
قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء، والصالحين شاركوا الله في خلق(1/519)
السماوات والأرض، واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38] . فهم معترفون بهذا، مقرون به، لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر، ولا يمسك الرحمة; ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول، المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة; قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . ذكر فيه السلف كابن عباس، وغيره، أن إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه; وفسر شركهم المذكور، بعبادة غير الله.
قال رحمه الله: فإن قلت: إنهم لم يطلبوا إلا من الأصنام، ونحن ندعو الأنبياء; قلت: قد بين القرآن في غير موضع، أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك بالأصنام، وقد رد الله عليهم جميعهم، وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ(1/520)
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] الآية، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} [سورة النساء آية: 172] الآية، ونحو ذلك في القرآن كثير.
وكما في سورة الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 98] ، وقول ابن الزبعرى: نحن نعبد الملائكة، والأنبياء، وغيرهم، فكلنا في حصب جهنم؟! فرد الله عليهم بالاستثناء في آخرها: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 101] . وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين، كعبادة الكواكب والأصنام، من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله.
قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم، هي أفعال العباد الصادرة منهم: كالحب، والخضوع، والإنابة، والتوكل والدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، والنسك، والتقوى، والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلق القلوب والآمال بفيضه، ومده، وإحسانه، وكرمه، فهذه الأنواع: أشرف أنواع العبادة وأجلها; بل هي: لب سائر الأعمال الإسلامية، وخلاصتها; وكل عمل يخلو منها فهو خداج، مردود على صاحبه.
وإنما أشرك، وكفر من كفر من المشركين، بقصد غير الله بهذا، وتأليهه غير الله بذلك، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ(1/521)
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] ، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [سورة الأنبياء آية: 43] ، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة الفرقان آية: 3] الآية. وحكى عن أهل النار، أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 97-98] ، ومعلوم: أنهم ما ساووهم به، في الخلق، والتدبير، والتأثير، وإنما كانت التسوية، في الحب، والخضوع، والتعظيم، والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء والصالحين، نحكم بأنهم مشركون; ونرى كفرهم، إذا قامت عليهم الحجة الرسالية; وما عدا هذا من الذنوب، التي هي دونه في المرتبة والمفسدة، لا نكفر بها.
ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا لعباد الأوثان والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه; وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، ونحوهم ممن كفرهم السلف، لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى، من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.
قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها: لا يكون به المكلف(1/522)
مسلما; بل هو حجة على ابن آدم، خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية، ومجرد التصديق كالجهمية. وقد أكذب الله المنافقين، فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون آية: 1] ، فأكدوا بلفظ الشهادة، وإن المؤكدة، واللام، وبالجملة الاسمية; فأكذبهم، وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم، سواء بسواء; وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع.
وبهذا تعلم: أن مسمى الإيمان، لا بد فيه من التصديق والعمل; ومن شهد أن لا إله إلا الله، وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى، وزكى، وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام; قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سورة البقرة آية: 85] الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 150] الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
والكفر نوعان: مطلق، ومقيد; فالمطلق هو: الكفر بجميع ما جاء به الرسول والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء(1/523)
به الرسول; حتى إن بعض العلماء كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث الجد، أو الأخت، وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا مذكور في المختصرات، من كتب المذاهب الأربعة; بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام من جرت على لسانه.
قال رحمه الله: والصحابة كفروا من منع الزكاة، وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة، والصوم، والحج قال رحمه الله: وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح، مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ويبنون المساجد، في قاهرة مصر، وغيرها; وذكر أن ابن الجوزي صنف كتابا في وجوب غزوهم وقتالهم، سماه: النصر على مصر; قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين. فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون، ويصومون، ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام وتلبيس، لينفق شركهم، ليقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك، ورسوله والمؤمنون.
وأما مسائل: القدر، والجبر، والإرجاء، والإمامة، والتشيع، ونحو ذلك، من المقالات، والنحل، فهو أيضا فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين; ويبرأ إلى الله مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة. وما قالته المرجئة، والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة(1/524)
والناصبة; ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم; ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم، وسوابقهم، وجهادهم، وما جرى على أيديهم، من فتح القلوب بالعلم النافع، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان، والنيران، والأصنام، والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام.
ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء، لئام; ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن - الذي نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وخاتم النبيين - كلام الله، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف، أهل العلم والإيمان.
ويبرأ من رأي الكلابية، أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، القائلين بأن كلام الله، هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل عليه السلام حكاية، أو عبارة عن المعنى النفسي; ويقول: هذا من قول الجهمية; وأول من قسم هذا التقسيم، هو: ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعري، وغيره، كالقلانسي; ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله. ولا يرى ما ابتدعته الصوفية، من البدع، والطرائق، المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/525)
وسنته، في العبادات، والخلوات، والأذكار المخالفة للشرع.
ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه، ومذهب عالم، خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده، من أن تترك لقول أحد، كائنا من كان; قال عمر بن عبد العزيز: لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نعم عند الضرورة، وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار، وقواعد الاستنباط والاستظهار، يصار إلى التقليد، لا مطلقا، بل فيما يعسر ويخفى. ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد، إلا بدليل تقوم به الحجة، من الكتاب والسنة، خلافا لغلاة المقلدين. ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم في الفضل والفضائل، في غاية رتبة يقصر عنها المتطاول; وميله إلى أقوال الإمام أحمد أكثر.
ويوالي كافة أهل الإسلام، وعلمائهم، من أهل الحديث، والفقه، والتفسير، وأهل الزهد والعبادة; ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين، من السلف الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع; فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر; ويؤمن بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم; ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن نسب إليه خلاف ذلك، فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين.(1/526)
وأبدى رحمه الله، من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة، على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستنير المحقق، من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال، المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا: هو معناها، وضعا ومطابقة، خلافا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع، أو أنه سبحانه غني عما سواه، مفتقر إليه من عداه، فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادرا، غنيا عما سواه; وأما كون هذا، هو المعنى المقصود بالوضع، فليس كذلك.
والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد; وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في أصل الإسلام، إلا إذا أضيف إليه، واقترن به توحيد الإلهية: إفراد الله تعالى بالعبادة، والحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، وطاعة الله، وطاعة رسوله: هذا أصل الإسلام، وقاعدته; والتوحيد الأول، الذي عبروا به عنها، هو: توحيد الربوبية، والقدرة والخلق، والإيجاد، وهو الذي يبنى عليه توحيد العمل، والإرادة، وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم.
وكثيرا ما يحتج به سبحانه، على من صرف العمل(1/527)
لغيره، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] الآيات، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62] إلى آخر الآيات، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] الآية. ومن نظر في تفاسير السلف، علم هذا.
وقد قرر رحمه الله، على شهادة أن محمدا رسول الله - في بيان ما تستلزمه هذه الشهادة، وتستدعيه، وتقتضيه، من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية: من الحب، والتوقير، والنصرة، والمتابعة، والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول, والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين، وفروعه، باطنه، وظاهره، خفيه، وجليه، كليه، وجزئيه - ما ظهر به فضله، وتأكد علمه ونبله، وأن من نقل عنه ضد ذلك من دعاة الضلال، فقد فسد قصده وعقله.
والواقف على مصنفاته وتقريراته، يعرف: أنه سباق غايات، وصاحب آيات; لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه، ومنازعيه وخصومه، في الفضل، وشانئيه، يصدق عليهم المثل السائر، بين أهل المحابر والدفاتر، شعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم(1/528)
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لدميم
وقال رحمه الله، على قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة الشورى آية: 52] : فالرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله إماما للناس، وكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة له، مبينة له، فكل ما وافق ما جاء به، فهو صراط مستقيم، وما خالفه فهو بدعة وضلال وخيم; وقوله: {صِرَاطِ اللَّهِ} أي الدال على الله، وفيه تشريفه، وتشريف شرعه، بإضافته إلى الله، فما أجهل من ابتدع قولا مخالفا لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] .
وله رحمه الله ترجمة في كتاب التوحيد، الذي صنف، بين فيها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: باب من أطاع العلماء والأمراء، في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، واستدل بحديث عدي; وله بحوث في تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، بين بعضها الشيخ حسين بن غنام، في تاريخه.
وله رحمه الله، من المناقب والمآثر، ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر; ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين، على مسبته والتعرض لبهته وغيبته، قال الشافعي رحمه الله: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا(1/529)
ليزيدهم الله بذلك ثوابا، عند انقطاع أعمالهم; وأفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر، وعمر; وقد ابتليا، من طعن أهل الجهالة، وسفهائهم بما لا يخفى.
وما حكينا عن الشيخ، حكاه أهل المقالات، عن أهل السنة والجماعة مجملا ومفصلا; قال أبو الحسن، الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة، الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاؤوا به من عند الله، وما رواه الثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا.
وأن الله تعالى: إله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يتخذ صاحبة، ولا ولدا، وأن محمدا، عبده، ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار، حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجها، جل ذكره، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج.
وأقروا: أن لله علما، كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}(1/530)
[سورة النساء آية: 166] ، وكما قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [سورة فاطر آية: 11] وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة; وأثبتوا لله القوة، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [سورة فصلت آية: 15] ، وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30] ، وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا، قبل أن يفعله الله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله.
وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف بالمؤمنين، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم; ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله تعالى يقدر، أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين، كما علم، وخذلهم، وأضلهم، وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر، بقضاء الله وقدره.
ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا ما(1/531)
شاء الله، كما قال; ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله، في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال. ويقولون: إن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ؛ من قال باللفظ أو بالوقف، فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق; ويقولون: إن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ، وإن موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله تجلى للجيل، فجعله دكا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.
ولم يكفروا أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنى، والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر; والإيمان عندهم، هو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وما أصابهم لم يكن ليخطئهم; والإسلام، هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، على ما جاء به الحديث; والإسلام عندهم، غير الإيمان; ويقرون بأن الله مقلب القلوب.
ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والمحاسبة من الله(1/532)
للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق، ويقرون: بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله تعالى هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله هو نزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. ويؤمنون بأن الله يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينكرون الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدلا عن عدل، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقولون: كيف؟ ولا: لم؟ لأن ذلك، بدعة; ويقولون: إن الله تعالى لم يأمر بالشر بل نهى عنه، وأمر بالخير ولم يرض بالشر، وإن كان مريدا له.
ويعرفون حق السلف، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم، صغيرهم وكبيرهم; ويقدمون: أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليا رضي الله عنهم. ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد نبيهم; ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن(1/533)
الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر ... " 1؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله. ويقرون أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ؛ ويرون، العيد، والجمعة، والجماعة، خلف كل إمام، بر، أو فاجر؛ ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر.
ويثبتون فرض الجهاد للمشركين، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال; وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا يخرج عليهم بالسيف، ولا يقاتلون في الفتنة; ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله; ويؤمنون بمنكر، ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء للموتى من المسلمين، والصدقة عنهم بعد موتهم، تصل إليهم; ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر، كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [سورة البقرة آية: 102] ، وأن السحر كائن موجود في الدنيا.
__________
1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) والتوحيد (7494) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/433) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1479) .(1/534)
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، مؤمنهم، وفاجرهم، ويقرون: أن الجنة والنار، مخلوقتان، وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله، يرزقها عباده، حلالا كانت أو حراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه، ويخطيه، وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ الآيات، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله تعالى عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله.
ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بأمر الله، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله تعالى في العابدين، والنصيحة لأئمة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنى، وقول الزور، والمعصية، والفخر، والكبر، والإزراء على الناس، والعجب؛ ويرون: مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن المأكل والمشرب، وجملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه. وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب. انتهى.
وبعض هذا البحث، ذكره شيخنا عبد اللطيف، في: التأسيس، وأحببت إبرازه من مظانه، لينكشف للناس حقيقة(1/535)
ما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويزول عنهم الوهم والإشكال; وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على أشرف المرسلين محمد، وآله وصحبه أجمعين.
(رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن أحمد يحثه فيها على طاعة الله)
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى المحب المكرم عبد الله بن أحمد; وفقه الله للطريق الأحمد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وغير ذلك.
الموجب لهذه المكاتبة: النصيحة، وحسن الظن بك; وأتيقن أن الحق ضالتك; فالذي أوصيك به: أن تطيع الله ورسوله، وتقدم ذلك فيما أشكل عليك; قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . قال المفسرون: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إلى سنته. وقد نهى الله عن طاعة غيره في قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّض يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام آية: 116] . فإذا كان الله يحذر نبيه من اتباع أكثر الناس، فما الظن بهذا الزمن، وأهله؟ وقد قال الصادق المصدوق: " بدأ الإسلام غريبا،(1/536)
وسيعود غريبا كما بدأ " 1. وأي اغتراب أعظم من هذا الاغتراب؟!
قال صاحب التحفة، رحمه الله: فالمؤمنون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فـ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، ولا جفوا كما جفت اليهود، فكانوا: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 21] ، بل آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [سورة الأعراف آية: 157] ، ولم يتخذوا الأنبياء أربابا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 79-80] ، وقال عيسى عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 117] .
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى إنه قال له رجل: ما شاء الله، وشئت، قال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 2، وقال: " لا تقولوا: ما شاء الله، وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد "
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .
2 أحمد (1/283) .(1/537)
ونهى عن الحلف بغير الله وقال: " من كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليصمت "1، وقال: " من حلف بغير الله، فقد أشرك "2، وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله، ورسوله " 3؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق، كالكعبة، ونحوها.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا; وقال قبل أن يموت بخمس: " إن من كان قبلكم، كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 5 وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 6، وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني " 7؛ ولهذا: اتفق العلماء على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عندها; ويقولون: الصلاة عندها باطلة، انتهى.
فقد علمت كلام الصادق المصدوق، فلا يكون قول الغير في نفسك أعظم من كلام نبيك، فما حجتك يوم القيامة، إذا قال الله: لأي شيء أطريت رسولي، ورفعته فوق ما أنزلته؟ أتقول: سمعت في الأشعار خلاف قوله، فاتبعتها؟ أم تقول: لم يبلغني كلام نبيك؟ أعد للسؤال جوابا، قال عمر رضي الله عنه في بعض خطبه: " لتسألن عن الرسول، ومن
__________
1 البخاري: الشهادات (2679) , ومسلم: الأيمان (1646) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/7 ,2/11) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) .
2 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/24 ,1/47) .
4 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .
5 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .
6 مالك: النداء للصلاة (416) .
7 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .(1/538)
أرسله، وما جاء به، وما قد قال ".
وفي بعض الآثار: " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
ويكفيك الميزان السوي العادل، في كل فعل وقول صدر من الناس، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 1. وهذا الحديث أصل من أصول الدين، فمن تأمل ما في مطاويه، وتفهم أصوله ومبانيه، استوحش من كثير من عبادات لم يشرعها الله ولا رسوله; فإذا كان كل عمل ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه لا يقبله الله، تبين لك أني لم أجازف في إنكار هذه المبتدعات، وقد أخبر أنها تقع، بقوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يفعلون ما لا يؤمرون " 2. أفتظن أنه كان فبان، وسلمت منه هذه الأزمان؟ أم تطن أن كلام الصادق المصدوق لا يوجد مصداقه؟ ولا يسلم من المحدثات إلا من وفق للكتاب والسنة، وجعلهما الميزان، لما حسن عنده وزان.
والعلماء يجري عليهم الخطأ، وليسوا بمعصومين، ومن حسن الظن بهم من دون نظر في الكتاب والسنة، هلك; انظر إلى إيقاد السرج على القبور اليوم، قد عم وطم، وقد صرفت له الأوقاف، واستحسنه بعض العلماء، وكتبوا على أوقافه، وكذلك تجصيص القبور، والرسول صلى الله عليه وسلم قد
__________
1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/146 ,6/180 ,6/256) .
2 البخاري: الأيمان والنذور (6695) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440) .(1/539)
لعن من جصص القبور، ولعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج; هذه السنة تنادي بلعنهم، أتظن هذا الإجماع يعتد به؟ هذا والله كإجماع الناس على عبادة القبور في زمن الفترة.
ويشهد لما قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة " 1، وفي بعض طرقه: " حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية، لكان فيكم من يفعل ذلك " 2، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: " إن من كان قبلكم، كانوا يتخذون القبور مساجد " 3 إيماء إلى هذا المعنى.
وقد أخبر أن علماء بني إسرائيل كتموا العلم، وسيقع كتمان العلم في هذه الأمة، ولو كان مساعدة العلماء في بعض الأمور دليلا، لكان المأمون وأتباعه من علماء وقته، الذين لهم من العلم ما ليس لغيرهم، مصيبين، لأنهم صنفوا فيها المصنفات، ودعوا الناس إليها، ولم يكن على الحق، إلا الإمام أحمد، وقلائل من الناس من أهل السنة، خائفين مستخفين; أتظن أن السواد الأعظم الكثرة في ذلك؟ بل: السواد الأعظم، والله، الإمام أحمد، ومحمد بن نصر الخزاعي، ومن وافقهما.
ولو استدل مستدل، في وقتهم، بعموم ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسواد الأعظم " 4 لهلك; لأن السواد الأعظم: أهل الحق، وإن قلوا. قال صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي على
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 الترمذي: الإيمان (2641) .
3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .
4 ابن ماجه: الفتن (3950) .(1/540)
الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة " 1، قال: الفضيل بن عياض، رحمه الله: لا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين، ولا تستوحش من الحق لقلة السالكين.
إذا تقرر هذا، فقد عرفت - سلمك الله - كلام الناس في مسألة سؤال الله بالمخلوق، والإقسام على الله به، وقد ذاكرتك فيها بأن الذي نعتقده: أنا لا نكفر بها أحدا، بل نقول: هي بدعة شنيعة، نهى عنها السلف، وقد قال مالك رضي الله عنه: " لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " 2. وإن لم يكن هذا من الشرك، فهو وسيلة إليه، لا بد أن يقوم بقلب صاحبه شيء من الاعتماد.
ولكن بقي مسألة، وهي التي لا حجة للمخالف فيها أصلا، وهي إسناد الخطاب إلى غير الله، في شيء من الأمور، بياء النداء، إذا كان يشتمل على رغبة، أو رهبة; فهذا هو الدعاء الذي صرفه لغير الله شرك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة " 3، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] ، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] .
ومن الدليل على أن النداء المتضمن لما ذكرنا، عين
__________
1 البخاري: المناقب (3641) , ومسلم: الإمارة (1037) .
2 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي: الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي: البيوع (2532) .
3 الترمذي: الدعوات (3371) .(1/541)
الدعاء بلا شك، قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [سورة الانبياء آية: 83] وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [سورة آل عمران آية: 38] ، وقال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [سورة آية: 3] إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 4] : فسمى النداء المتقدم في هذه الآيات، دعاء، والدعاء ممنوع لأنه عبادة، وهذا لا محيد عنه، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
وأما النداء المجرد، الخالي من رغبة ورهبة، فليس هو محل النّزاع; وإن كان أهل الشبه يروجون به، ويغالطون به، وما كان نداء زكريا به، مثل نداء الله لموسى، في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] . ومن قال: إن ندائي الرسول صلى الله عليه وسلم وقولي: يا رسول الله، خال، مجرد، حكمه حكم قولي: يا فلان أقبل، أو يا فلان: اخرج، فقد كذب; فإذا لم يكن كذلك، فهو حقيقة الدعاء، لأن دعاء الرهبة والرغبة ممنوع; وبالنهي عنه مقطوع، قال الله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة آية: 59] . وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [سورة النور آية: 52] الآية.
فجعل الطاعة للرسول، دون الخشية والتقوى، وجعل(1/542)
الحسب والرغبة له تعالى دون الرسول، لأنهما من أنواع العبادة، وصرفهما لغيره سبحانه شرك، وجعل الإيتاء إلى الرسول، لأنه يقدر عليه; وقال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] ، وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [سورة يونس آية: 107] .
فنفى كشف الضر عن كل أحد، بلا النافية، وأثبته لنفسه بالاستثناء، وهذا من أعظم النفي، كما في قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة الصافات آية: 35] فإنه نفى بها جميع الآلهة، وأثبت الألوهية له، دون كل من سواه، فأخرجت جميع المخلوقات، فاعرف الفرق بين الندائين، كما عرفت الفرق بين قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله "، وقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] . ومن لا بصيرة لديه يظن أن القرآن يخالف السنة. ومن تأمل تفاسير القرآن التي اتصلت بالسند إلى الصحابة، كتفسير الثعلبي، وتفسير البغوي، وتفسير ابن جرير الطبري، عرف مقاصد القرآن.
ومما يزيد المعنى إيضاحا: ما رواه ابن أبي الدنيا بسنده، أن أبا طلحة، خرج من داره، يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال أتاه، فوجده يخطب، وهو يقول: " ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعف يعفه الله، فقال بأعلى صوته: حتى منك يا رسول الله؟ قال: حتى مني. فرجع ولم يسأله شيئا، قال أبو طلحة: فما لبثت أن كنت، من(1/543)
أكثر أهل المدينة مالا".
هذا في الأمور المقدور للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتشييد قواعد الدين، وسد الذرائع المفضية إلى سؤال المخلوقين ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين.
والله المرجو أن يشرح صدورنا للإسلام، وأن لا يجعلنا ممن أعرض عن ذكر ربه، واتبع هواه، وكان أمره فرطا; فاسأل ربك في أوقات الإجابة أن يريك الحق حقا، ويرزقك اتباعه، ويريك الباطل باطلا، ويرزقك اجتنابه; ولا يجعله ملتبسا عليك، فتضل; والسلام. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، وسلم.
(كيفية حياة الرسول في قبره)
سئل الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، عن كيفية حياة الرسول في قبره؟ وهل هي كحياة الشهداء؟ أم أعلى عند الله؟ فأجاب:
الجواب وبالله التوفيق: قال الحافظ الحجة شمس الدين ابن القيم، رحمه الله تعالى: لم يرد حديث صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، لكن نقطع أن الأنبياء، لا سيما خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مرتبة من الشهداء، وقد قال سبحانه وبحمده عن الشهداء، إنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ، فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ، ومع ذلك، فالشهداء داخلون، في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل(1/544)
عمران آية: 185] ، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] .
أثبت سبحانه للشهداء موتا، بدخولهم في العموم، كالأنبياء، وهو الموت المشاهد، ونفى عنهم موتا؛ فالموت المثبت غير الموت المنفي; فالموت المثبت هو: فراق الروح الجسد، وهو مشاهد محسوس; والمنفي: زوال الحياة بالجملة من الروح والبدن; وقال البيضاوي، على قوله سبحانه: {بَلْ أَحْيَاءٌ} : فيه تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد، ولا بجنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل، بل بالوحي، انتهى.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، رحمه الله، في رده على العراقي: ويدل على بطلان دعوى من ادعى: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته لما كان على وجه الأرض، ما رواه أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام "1، فهذا يدل على أن روحه الشريفة، ليست في بدنه، وإنما هي في أعلى عليين، ولها اتصال بالجسد، والله أعلم بحقيقته، لا يدركه الحس، ولا العقل.
وليس ذلك خاصا به صلى الله عليه وسلم لحديث تقدم عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام ". وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: " إن أرواح الشهداء في حواصل
__________
1 أبو داود: المناسك (2041) , وأحمد (2/527) .(1/545)
طير خضر، تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش " 1 الحديث. وقد أخبر الله سبحانه أنهم في البرزخ {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] . وقال أبو بكر الصديق: " أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متّها، ولن يجمع الله عليك موتتين ". وقد قام الدليل القاطع أنه عند النفخة في الصور، لا يبقى أحد حيا، فلو كان الأمر كما يزعمون، لكان الله قد يجمع عليه موتتين.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: كيف تعرض عليك، وقد أرمت - يعني بليت - قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " 2، ولم يقل لهم: أنا حي في قبري، كحياتي الآن، صلوات الله وسلامه عليه. انتهى كلامه رحمه الله.
وقال أيضا: ومقتضى قول من قال: ليس إلا أن غيبوا عنا، أنه يجوز أن يقال في الملائكة إنهم أموات، لكونهم مغيبين عنا. انتهى.
وقال ابن القيم أيضا: وأما السلام على القبور، وخطابهم، فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة، وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين، مع الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، يسلم عليه عند قبره، ويرد سلام المسلم عليه; وقد وافق ابن عمر رضي الله عنه أن أرواح
__________
1 مسلم: الإمارة (1887) , والترمذي: تفسير القرآن (3011) , وابن ماجه: الجهاد (2801) , والدارمي: الجهاد (2410) .
2 النسائي: الجمعة (1374) , وأبو داود: الصلاة (1047 ,1531) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1636) , وأحمد (4/8) , والدارمي: الصلاة (1572) .(1/546)
الشهداء في الجنة، ويسلم عليهم عند قبورهم، كما يسلم على غيرهم، كما علمنا صلى الله عليه وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة رضي الله عنهم يسلمون على شهداء أحد; وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة، تسرح حيث شاءت، كما تقدم; ولا يضيق عطنك عن كون الأرواح في الملأ الأعلى، تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها; وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر، غير شأن البدن. وهذا " جبريل عليه السلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان، قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب ". وكان من النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضع ركبتيه، ويديه، على فخذيه; وما أظنك يتسع عطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى، فوق السماوات، حيث هو مستقره، وقد دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنو، فإن التصديق بهذا، له قلوب خلقت له، وأهلت لمعرفته، ومن لم يتسع عطنه لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنّزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه; انتهى كلام الشيخ شمس الدين، رحمه الله، وعفا عنه.
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: وأما الكلام على حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاعتقادنا في ذلك اعتقاد سلف الأمة وأئمتها، وهم الأسوة; وهي: أنه صلى الله عليه وسلم قبض ودفن، وزالت عنه الحياة الدنيوية، كما قال أبو بكر رضي الله عنه(1/547)
حين قبله; قال: " طبت حيا، وميتا ... " إلخ، وأما حياة البرزخ فهو حي الحياة البرزخية، وكذلك الشهداء. فلو كان حيا حياة دنيوية، لرفعوا إليه الأمر فيما جرى بينهم، رضوان الله عليهم أجمعين، ولما عدلوا إلى التوسل بدعاء العباس. انتهى; وبه تم الجواب; وصلى الله على محمد.
(الجواب عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره)
وسئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن أيضا - رحمهم الله - عما ورد: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء.
فأجاب: هذه الأحاديث وأشباهها، تمر كما جاءت، ويؤمن بها، إذ لا مجال للعقل في ذلك؛ ومن فتح على نفسه هذا الباب، هلك، في جملة من هلك; وقد غضب مالك بن أنس، لما سأله رجل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، إلى آخر كلامه، ثم قال: وما أراك إلا رجل سوء، فأمر بإخراجه; هذه عادة السلف.
فهذه الأحاديث التي مر البحث فيها: خاض فيها بعض الزنادقة، وصنف مصنفا بناه عليها، وجادل، وما حل في أن من كان حيا هذه الحياة التي أطلقت في القرآن، فينبغي أن ينادى، إذ لا فرق عند هذا الجاهل بين الحياة الحسية والبرزخية، لأنه اشتبه عليه أمر هذه الصلاة، وأمر هذا الرزق، ولم يعلم أنه لا خلاف في أن أهل البرزخ(1/548)
يجري عليهم من نعيم الآخرة، ما يلتذون به مما هو ليس من عمل التكليف.
ومعاذ الله: أن نعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 1 إلخ، والحديث عام، لأن المقصود به: جنس بني آدم، لأن المفرد يعم، كما هو مقرر في محاله; ألم يعلم المسكين أن البرزخ طور ثان، وله حكم ثان؟ إذ لو كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة، أنه يلاقي الأولياء والأفاضل، كما زعم بعض المصنفين، لبطل حكم الاجتهاد بعده، ولم يتراجع الصحابة رضوان الله عليهم بعده مسائل طال فيها نزاعهم إلى زمننا هذا.
إذا تحققت هذه الإشارة، وتأملتها، فلا بد أن أنقل لك كلام ابن تيمية، قدس الله روحه، في أحاديث السؤال.
قال ابن تيمية رحمه الله: أما رؤيا موسى في الطواف، فهذا كان رؤيا منام، لم يكن ليلة المعراج، كذلك جاء مفسرا، كما رأى المسيح أيضا، ورأى الدجال; أما رؤيته، ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى، وعيسى; فهذا رأى أرواحهم مصورة في صورة أبدانهم; وقد قال بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور; وهذا ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده، وكذلك إدريس.
__________
1 مسلم: الوصية (1631) , والترمذي: الأحكام (1376) , والنسائي: الوصايا (3651) , وأبو داود: الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي: المقدمة (559) .(1/549)
وأما كونه رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضا، فهذان لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة: تصعد، وتهبط، كالملك، ليست كالبدن; وقد بسطت الكلام في أمر الأرواح بعد مفارقة الأبدان، وذكرت الأحاديث والآثار في ذلك، بما هذا ملخصه.
وهذه الصلاة مما يتنعم بها الميت، ويستمتع بها، كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح; فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهم الناس النفس في الدنيا، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب به ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به النفس، وتلتذ به. انتهى كلامه.
فعلم من كلامه: أن أرواحهم صورت في صور أبدانهم التي في القبور، فاجتمعت النصوص، وزال الإشكال، والله أعلم.
(حكم من أمر بأن يذر في البحر)
وسئل: رحمه الله عن الذي أمر بأن يذر في البحر ... إلخ.
فأجاب: الذي أمر بأن يذر في البحر خوفا من الله، لم يكن شاكا في القدرة، وإنما ظن أن جمعه بعد ذلك من قبيل المحال، الذي ما من شأن القدرة أن تتعلق به، وهذا باب واسع، والله أعلم.(1/550)
(قول الفقهاء فيمن قال أنا مؤمن إن شاء الله)
سئل الشيخ حمد بن عتيق، عن قول الفقهاء: من قال أنا مؤمن إن شاء الله، إن نوى به في الحال، يكفر، وإن نوى به في المآل، لم يكفر؟ !
فأجاب: هذا سؤال من لا يحسن السؤال، فإن ظاهره: أن جميع الفقهاء يقولون ذلك، ومن له خبرة بأقوال الفقهاء، تحقق أن هذه مجازفة عليهم، وقول بلا علم; فإن كان بعض المتأخرين من بعض أهل المذاهب قال ذلك، فهو: قول محدث من أقوال أهل البدع. وأنا أذكر لك من كلام العلماء، في الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله; ليتضح الخطأ من الصواب، ويعلم من الأولى بالحق في هذا الباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: وأما الاستثناء في الإيمان، بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال; منهم: من يوجبه; ومنهم: من يحرمه; ومنهم: من يجوز الأمرين، باعتبارين; وهذا: أصح الأقوال.
فالذين يحرمونه، هم: المرجئة، والجهمية، ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه; فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة;(1/551)
فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه عندهم.
وأما الذين أوجبوا الاستثناء، فلهم فيه مأخذان; أحدهما: أن الإيمان، هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا، وكافرا، باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وهو مأخذ كثير من المتأخرين، من الكلابية، وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنة والحديث، من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك: أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه; وإنما يشك في المستقبل; وهذا وإن علل به كثير من المتأخرين من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، فما علمت أحدا من السلف علل به الاستثناء.
قلت: فالمرجئة، والجهمية، يحرمون الاستثناء، في الحال، والمآل، وهؤلاء: يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: والمأخذ الثاني في الاستثناء: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه: أنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله; وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة(1/552)
السلف، الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر.
وروى الخلال، عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: لا نجد بدا من الاستثناء، لأنهم إذا قالوا مؤمن، فقد جاؤوا بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل، لا بالقول; وعن إسحاق بن إبراهيم، قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان; لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله; ومثل هذا كثير من كلام أحمد، وأمثاله.
وهذا مطابق لما تقدم، من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات، المستحق للجنة، إذا مات على ذلك; وأن المفرط بترك المأمور، أو فعل المحظور، لا يطلق عليه أنه مؤمن; وأن المؤمن المطلق، هو البر التقي، ولي الله; فإذا قال: أنا مؤمن قطعا، كان كقوله: أنا بر، تقي، ولي لله قطعا.
وقد كان أحمد، وغيره من السلف، مع هذا، يكرهون، سؤال الرجل غيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب; لأن هذا بدعة، أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم; فإن الرجل يعلم من نفسه: أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا لما جاء به الرسول; فيقول: أنا مؤمن; فلما علم(1/553)
السلف مقصودهم، صاروا يكرهون السؤال، ويفصلون الجواب.
وهذا لأن لفظ الإيمان، فيه إطلاق، وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال; ولهذا كان الصحيح: أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء، إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه، بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء.
قلت: فظهر القول الثالث، الذي هو الصحيح، وهو: أنه إذا قال: أنا مؤمن; فإن أراد بذلك الإيمان المقيد، الذي لا يستلزم للكمال، جاز له ترك الاستثناء، وإن أراد المطلق المستلزم للكمال، فعليه أن يستثنى في ذلك; قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل، وأبو داود; قال أبو داود: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: " إذا سئل المؤمن، أمؤمن أنت؟ لم يجبه; ويقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني; وقال: إن شاء الله ليس يكره، ولا يدخل الشك ". وقد أخبرني عن أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا، وأن السائل لا يشك في إيمان المسؤول، وهذا أبلغ; وهو إنما يجزم بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول، لا يجزم بأنه قائم بالواجب.
فعلم: أن أحمد وغيره، من السلف، كانوا يجزمون،(1/554)
ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان، في هذه الحال; ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق، المتضمن فعل المأمور; هذا ملخص كلامه، في: كتاب الإيمان.
وقال في موضع آخر: والناس لهم في الاستثناء ثلاثة أقوال; منهم: من يحرمه، كطائفة من الحنفية، ويقولون: من يستثني فهو شاك; ومنهم: من يوجبه، كطائفة من أهل الحديث; ومنهم: من يجوزه، أو يستحبه; وهذا: أعدل الأقوال; فإن الاستثناء له وجه صحيح، وتركه له وجه صحيح، فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات، ويخاف أن لا يكون أتى بها، فقد أحسن; ومن اعتقد: أن المؤمن المطلق هو الذي يستحق الجنة، فاستثنى، خوف سوء الخاتمة، فقد أصاب; ومن استثنى أيضا خوفا من تزكية نفسه، أو مدحها، أو تعليقا للأمر بمشيئة الله تعالى، فقد أحسن; ومن جزم بما يعلمه، من التصديق في ترك الاستثناء، فهو مصيب.
فتبين بما ذكرناه، من الكلام، الذي قدمناه: أن هذا الإيراد قول غير معروف عند العلماء المقتدى بهم، فضلا عن أن يكون الفقهاء كلهم قد قالوه; وإذا كان الأمر كذلك، وظهر كلام من يعتد به، وما هو الصواب منه، فلا حاجة بنا إلى معرفة الأقوال المبتدعة.(1/555)
(معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال أنا مؤمن فهو كافر)
المسألة الثانية: وهي قول السائل، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من قال: أنا مؤمن، فهو كافر ; ومن قال: أنا في الجنة، فهو في النار؟
فالذي وقفت عليه: أن هذا من كلام عمر، كما رواه الإمام أحمد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " من قال أنا مؤمن، فهو كافر; ومن قال: هو عالم، فهو جاهل; ومن قال: هو في الجنة، فهو في النار، " وأنت لم تذكر له إسنادا، ولا نسبة إلى أصل، وقد علم أنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بمجرد وجود سواد في بياض; وتفصيل ذلك معروف، في كتب أهل العلم، والحديث.
وأما مراد عمر، فقد قال بعض الناس: إن المراد إذا قال: أنا مؤمن، آمنا من مكر الله، وتأليا على الله، وقال بعضهم: أي من قال: أنا مؤمن بالطاغوت، فهو كافر بالله، وكذلك من قال: هو في الجنة قطعا، تكذيبا بحديث: " الأعمال بالخواتيم " 1 وقيل غير ذلك من الأقوال البعيدة، الضعيفة.
وأما أنا فأقول: الله أعلم بمراد الخليفة الراشد، ولا أعلم في ذلك شيئا تطمئن إليه النفوس، ولا يستحي من سئل عما لا يعلم، أن يقول: لا أعلم، فالله أعلم.
__________
1 البخاري: القدر (6607) , وأحمد (5/335) .(1/556)
(الجواب عمن يحدث نفسه بقول أنا منافق، أنا أخشى الكفر)
المسألة الرابعة: قوله، هل يجوز للإنسان أن يحدث نفسه، بقول: أنا منافق، أنا أخشى الكفر. وهل هذا شك في الدين، أم لا؟
الجواب: قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إن إيمانه، كإيمان جبرائيل، وميكائيل; ". وقال ابن القيم: تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه، وجله، وتفاصيله، وجمله; ساءت ظنونهم بنفوسهم، حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يا حذيفة: ناشدتك الله، هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا"، يعني: لا أفتح هذا الباب، في تزكية الناس، ليس معناه: أنه لم يبرئ من النفاق غيره، وكيف يكون ما هو من صفات السابقين الأولين، شكا في الدين؟ وعن الحسن البصري - في النفاق -: " ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن ".
وقال ابن القيم، رحمه الله: وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يشتد خوفه أن يكون منهم; ولهذا اشتد خوف(1/557)
سادة الأمة، وسابقيها على أنفسهم، أن يكونوا منهم. انتهى.
فكلما زاد الإيمان، اشتد الخوف من النفاق، وعلى حسب ضعف الإيمان، يكون الأمن منه; وأما خوف الكفر، فيكفي فيه قول الله تعالى، إخبارا عن خليله إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، وهو يدل على شدة خوفه من هذا الأمر; وفي الدعاء المأثور: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، وأن أرد إلى أرذل العمر " 1.
اعلم: أن كون الإنسان يشتد خوفه من الكفر والنفاق، ويكثر البحث عن أسبابهما، ونحو ذلك، هو أمر غير التلفظ به; وكونه يقول: أنا منافق: فذاك لون، وهذا لون.
(رد الشيخ سعد بن حمد على من زعم أن القحطاني المذكور في هذا الحديث هو محمد بن رشيد)
وقال ابنه: الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أشرف المرسلين، وعلى آله، وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد وقع البحث في الحديث، الذي في الصحيحين، حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه " 2، فصرح بعض الحاضرين، بأن
__________
1 النسائي: السهو (1347) والاستعاذة (5465) , وأحمد (5/36) .
2 البخاري: المناقب (3517) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2910) .(1/558)
القحطاني المذكور في هذا الحديث هو: محمد بن رشيد، الذي خرج في أواخر المائة الثالثة بعد الألف من الهجرة، وعظمت شوكته، وانتشرت دولته في أوائل المائة الرابعة، واستولى على كثير من البلدان النجدية، وقهر جماعات من أهل البادية، حتى استسلم لأمره كثير من أهل نجد واليمامة، أو أكثرهم; فسألني بعض الخواص، هل يسوغ القول بما قاله هذا القائل؟ وهل ينبغي الجزم به، أم لا؟
ثم بلغني عن بعض الإخوان: أنه نسب هذا إلى صديق 1 حسن الهندي، وأنه نقل عن صديق، أن الحديث يفيد: أن القحطاني المذكور في الحديث، مسلم، وليس بمؤمن; فعن لي أن أذكر بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم على هذا الحديث، مع كلمات يسيرة يستفيد بها السائل; وإن كنت لست أهلا لذلك، لقلة العلم، وعدم وجود من استفيد منه، من أهل التحقيق.
ولأن الكلام على أحاديث الرسول مما يحجم عنه الجهابذة الفحول، فكيف بمن هو مزجى البضاعة، قاصر الباع؟ وإني لمعترف - والصدق منجاة - بأن طلب الإفادة، ممن هو مثلي، من عجائب الدهر، ولكن الضرورة قد تلجئ إلى أعظم من ذلك، فأقول في الجواب: اعلم:
أن قول القائل، إن القحطاني المذكور في
__________
1 هو النواب, صديق خان, صاحب بهو بال, العالم المشهور.(1/559)
الحديث هو الرجل الذي وصفنا، لا شك أنه تعيين لمراد المعصوم صلى الله عليه وسلم وتبيين لمقصوده، وهذا مفتقر إلى أحد شيئين:
الأول: النقل الثابت عنه صلى الله عليه وسلم برواية الثقات; ونقل العدول المعتبرين عند أهل النقل بالتنصيص على المقصود بكلامه، إنه هذا الرجل بعينه; وهذا مما لا سبيل إليه البتة.
الثاني: وجود القرائن، وقيام الشواهد، الدالة على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم هو هذا، ولكن لا يطلع عليها إلا من حصل المعرفة التامة بمدلول لفظ الحديث; وضم إلى ذلك النظر في سيرة هذا الذي يدعى أنه المقصود، واعتبار حاله، وما كان عليه; وأما الجزم بالتعيين، مع تخلف العلم بمدلول اللفظ، أو وجود بعض الاحتمالات التي يتعذر معها الجزم بالمفهوم، أو عدم اعتبار حال المدعى أنه المراد، والإعراض عن التفتيش في سيرته، فلا يخفى بعده عن العلم المفيد، عند أهل المعرفة.
وإذا عرف هذا، فنقول: قال بعض أهل العلم في معنى الحديث، هو كناية عن استقامة الناس، وانقيادهم له، واتفاقهم عليه، قال: إلا أن في ذكرها - يعني العصا - دليل على عسفه لهم، وخشونته عليهم، وقال بعضهم: هو حقيقة أو مجاز عن القهر، والضرب; ونقل محمد طاهر الهندي، في شرح غريب الآثار، عن شرح المصابيح، أنه: عبارة عن التسخير، كسوق الراعي، انتهى.(1/560)
فظهر بهذا أن المذكور في الحديث، يكون له تسلط على الناس، حتى يقهرهم، ويستولي عليهم، كاستيلاء الراعي على غنمه، بحيث لا يتخلف أحد من رعيته عن طاعته. ومن تأمل ما وقع من كثير من الناس، من التخلف عن متابعة هذا الأمير، والخروج عن طاعته، والعصيان لأمره، وعرف ما قاله العلماء في معنى الحديث، أوجب له ذلك التوقف فيما قاله هؤلاء، والانكفاف عما أقدموا عليه، هذا لو لم ينقل في شأن القحطاني إلا هذا.
فكيف وقد قال القرطبي: يجوز أن يكون القحطاني هو الجهجاه، المذكور في الحديث الذي رواه مسلم، يشير لى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تذهب الأيام والليالي، حتى يملك رجل، يقال له الجهجاه " 1، ونقل في بعض الأخبار: أن خروج القحطاني بعد المهدي، كما سيأتي بيانه.
وأما إسلام القحطاني أو إيمانه، فليس في حديث الصحيحين تعرض لذلك، وقد تقدم الحديث، ولفظه: " لا تقوم الساعة، حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه " 2، وليس في هذا ما يدل على إسلامه، ولا إيمانه، كما أنه لا يدل على كفره، ولا نفاقه; بل هذا خبر مجرد، كإخباره صلى الله عليه وسلم بالجهجاه، وهذا من أنباء الغيب، التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم كما أخبر بالفتن، والملاحم، والدخان، والدابة، وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من
__________
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2911) , والترمذي: الفتن (2228) .
2 البخاري: المناقب (3517) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2910) .(1/561)
مغربها، وغير ذلك مما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما سيكون; نعم، إن ثبت ما روى أن خروج القحطاني يكون بعد المهدي، وأنه يسير على سيرة المهدي، فلا شك أنه من أهل الإسلام والإيمان، ومن الدعاة إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد وردت أحاديث تدل على خروج المهدي، وحكمه بالقسط والعدل، وهي مذكورة في سنن أبي داود، وابن ماجه، وغيرهما; منها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوله الله، حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا " 1 وقد ورد حديث، فيه: " لا مهدي إلا عيسى ابن مريم " 2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: هو حديث ضعيف، رواه يونس عن الشافعي، عن شيخ من أهل اليمن; ولا يقوم بإسناده حجة; وقال الذهبي في الميزان: يونس بن عبد الأعلى، أبو موسى الصدفي، روى عن ابن عيينة، وابن وهب، وعنه ابن خزيمة، وأبي عوانة، وخلق; وثقه أبو حاتم، وغيره، ونعتوه بالحفظ، والعقل، إلا أنه تفرد عن الشافعي بذلك الحديث: " لا مهدي إلا ابن مريم " وهو: منكر جدا. انتهى.
وقال صديق - في عون الباري، بعد ذكر حديث القحطاني -: يكون بعد المهدي، ويسير على سيرته، رواه أبو
__________
1 الترمذي: الفتن (2231) , وأبو داود: المهدي (4282) .
2 ابن ماجه: الفتن (4039) .(1/562)
نعيم بن حماد في الفتن. انتهى; فإن ثبت هذا، فهو يدل مع أحاديث المهدي، على تأخر خروج القحطاني، وأنه لا يخرج إلا بعد خروج المهدي، وأنه يكون على سيرة حسنة، وحالة مرضية، لا كما نقل عن البعض، أن حديث الصحيحين يدل على أنه مسلم، وليس بمؤمن، فإن الحديث لا يدل على ذلك، لا بمنطوقه، ولا بمفهومه، فإن كان صديق قال ذلك، فلا يخفى ما فيه.
وكذلك النقل عن صديق أنه قال: أقرب ما يكون القحطاني المذكور في الحديث، أنه محمد بن رشيد، في ثبوته عنه نظر، فقد قدمنا في هذا جزم صديق في كتابه بأن خروج القحطاني يكون بعد خروج المهدي، واستدلاله على ذلك بما رواه أبو نعيم; فكيف يتفق هذا، وذاك؟! ولا شك في عدم ثبوت هذه المقالة، عمن أخذ عن صديق وسمع كلامه.
فلذلك أقول: ينبغي أن ينظر فيمن نقل هذا عن صاحبنا الذي نقل عن صديق; وعلى تقدير ثبوت هذا، فهو قول مجرد عن الدليل، مناقض لما قرره هو واستدل عليه، كما عرفناك قريبا {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] . والله أعلم.(1/563)
(رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى أهل اليمن وغيرهم في بيان عقيدة أهل نجد)
وقال الشيخ: محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، آل الشيخ، إلى من يراه من أهل القرى، ورؤساء القبائل، من أهل اليمن، وعسير، وتهامة، وشهران، وبني شهر، وقحطان، وغامد، وزهران، وكافة أهل الحجاز، وغيرهم، هدانا الله وإياهم لدين الإسلام، وجعلنا وإياهم من أتباع سيد الأنام، آمين، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه لما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف، من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية - بعثنا الإمام المقدم، والرئيس(1/564)
المفضل المفخم، صاحب السعادة والسيادة: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، آل سعود، أعلى الله سعوده، وأدام للمسلمين وجوده، لأجل تعليمكم ما أوجبه الله عليكم، وتعبدكم به، من دين الإسلام الذي معرفته، والعمل به، والبصيرة فيه، سبب لدخول الجنة; والجهل به، والإعراض عنه، وعدم قبوله، والانقياد له، سبب لدخول النار.
فلما قدمنا بعض جهاتكم رأينا أهلها قد جال بهم الشيطان والهوى، وتمادوا في الغي والطغيان، والإعراض عن النور والهدى، وفرقوا أمرهم، وكانوا شيعا، وغلب عليهم الجهل وإيثار الشهوات، واستجابوا لداعي الشبهات، فوقعوا في وادي جهل خطير، فهم على شفا حفرة من السعير، وغلب على أكثرهم الاعتقاد في أهل القبور والأحجار والغيران، وتعظيم أهل الصلاح من المقبورين، وهذا هو دين أهل الجاهلية الأولين، الذي بعث فيهم سيد المرسلين وإمام المتقين.
فلما رأينا ذلك، وجب علينا الدعوة إلى الله بالحجج والبراهين، وهي طريقة النبي الأمين، وسبيل من اتبعه من الصحابة والتابعين، ومن سلك منهاجهم إلى يوم الدين، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .(1/565)
وكتبنا من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والعقائد السلفية، إلى القبائل والبلدان، بعدما سفت عليها السوافي، وقل من يعرفها من أهل القرى، والبوادي، نصحا لله ولرسوله ولكتابه، ولعباده المؤمنين.
وصار بعض الناس يسمع بنا معاشر الوهابية، ولا يعرف حقيقة ما نحن عليه، وينسب إلينا، ويضيف إلى ديننا ما لا ندعو إليه، فبعضهم يتقول علينا وينسب إلينا السفاسف والأباطيل، تنفيرا للناس عن قبول هذا الدين، وصدا لهم عن توحيد رب العالمين، فأوجب لنا تسويد هذه العجالة، بيانا لما نعتقده وندين الله به، وندعو إليه ونجاهد الناس عليه.
فاعلموا - أن حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، ونجاهد على التزامه، والعمل به - أنا ندعو إلى دين الإسلام، والتزام أركانه وأحكامه، الذي أصله وأساسه: شهادة أن لا إله إلا الله، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له. وهذه العبادة مبنية على أصلين: كمال الحب لله، مع كمال الخضوع، والذل له; والعبادة لها أنواع كثيرة; فمن أنواعها: الدعاء، وهو من أجلّ أنواع العبادة، وسماه الله عبادة في عدة مواضع من كتابه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] ؛ ونظائر هذا في القرآن كثير; وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة " 1.
__________
1 الترمذي: الدعوات (3371) .(1/566)
فنقول: لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث في الشدائد وجلب الفوائد إلا به، ولا يذبح القربان إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه وحده، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان ولا يستعاذ إلا به، وليس لأحد من الخلق شيء من ذلك، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الأولياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم; فلله حق لا يكون لغيره، وحقه تعالى: إفراده بجميع أنواع العبادة، فلا تأله القلوب محبة، وإجلالا، وتعظيما، وخوفا، ورجاء، إلا الله; فهذه هي الحكمة الشرعية الدينية، والأمر المقصود في إيجاد البرية.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ومعنى يعبدون: يوحدون; والعبادة هي: التوحيد; لأن الخصومة بين الرسل وأممهم، فيه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [سورة الجن آية: 18] . فمن دعا غير الله، من ميت، أو غائب، أو استغاث به، فهو مشرك كافر، وإن لم يقصد إلا مجرد التقرب إلى الله، وطلب الشفاعة عنده.
وقد دخل كثير من هذه الأمة في الشرك بالله، والتعلق على من سواه، ويسمون ذلك توسلا وتشفعا; وتغيير(1/567)
الأسماء لا اعتبار به، ولا تزول حقيقة الشيء ولا حكمه بزوال اسمه، وانتقاله في عرف الناس باسم آخر.
ولما علم الشيطان أن النفوس تنفر من تسمية ما يفعله المشركون تألها، أخرجه في قالب آخر تقبله النفوس; وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ليشربن أناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها "1، وكذلك من زنى وسمى ما فعله: نكاحا; فتغيير الأسماء، لا يزيل الحقائق; وكذا من ارتكب شيئا من الأمور الشركية، فهو مشرك، وإن سمى ذلك توسلا وتشفعا.
يوضح ذلك: ما ذكر الله في كتابه عن اليهود والنصارى بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] الآية; وروى الإمام أحمد، والترمذي، وغيرهما: أن عدي بن حاتم، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد تنصر في الجاهلية، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] الآية، قال: يا رسول الله، إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام، فذاك عبادتهم إياهم " 2.
وقال ابن عباس، وحذيفة بن اليمان، في تفسير هذه الآية: " إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا "; فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، لم يسموا أحبارهم ورهبانهم أربابا ولا آلهة، ولا كانوا يظنون أن فعلهم هذا معهم عبادة
__________
1 النسائي: الأشربة (5658) , وأحمد (4/237) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3095) .(1/568)
لهم; ولهذا قال عدي: إنهم لم يعبدوهم; وحكم الشيء تابع لحقيقته، لا لاسمه، ولا لاعتقاد فاعله; فهؤلاء كانوا يعتقدون أن طاعتهم في ذلك، ليست بعبادة لهم، فلم يكن ذلك عذرا لهم، ولا مزيلا لاسم فعلهم، ولا لحقيقته وحكمه.
يوضح ذلك: ما روى الترمذي، وصححه، عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 138] لتتبعن سنن من كان قبلكم ". فهؤلاء ما كانوا يظنون أن الذي طلبوه مما تنفيه لا إله إلا الله، فلم يكن جهلهم مغيرا لحقيقة هذا الأمر وحكمه.
ومن كان له معرفة بما بعث الله به رسوله، علم أن ما يفعل عند القبور من دعاء أصحابها، والاستغاثة بهم، والعكوف عند ضرائحهم، والسجود لهم، والنذر لهم، أعظم وأكبر من فعل الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأقبح وأشنع من قول الذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.(1/569)
قال بعض العلماء المحققين، رحمه الله تعالى: فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عليها، اتخاذ إله، مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به، ودعائه، والدعاء عنده؟ فأي نسبة للفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك، والبدع، يعلمون؟ انتهى.
ولقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسد الذرائع، التي تفضي إلى الشرك والتنديد، فقال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1، ونهى عن إيقاد السرج عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج " 2، ونهى أن تتخذ عيدا، ونهى عن البناء عليها، وأمر بتسويتها بالأرض، كما روى مسلم في صحيحه، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي، رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 3، ونهى عن تجصيص القبور، وعن الكتابة عليها.
فنحن ننكر الغلو في أهل القبور، والإطراء والتعظيم; ونهدم البنايات التي على قبور الأموات، لما فيها من الغلو والتعظيم، الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله، وهذه الأمور التي أوجبت عبادتها من دون الله، ابتدعها أناس، أرادوا بها التعظيم، وإظهار تشريفهم، فجاء من
__________
1 مالك: النداء للصلاة (416) .
2 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324) .
3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128 ,1/145) .(1/570)
بعدهم، فعبدوهم من دون الله، وقصدوا منهم كشف الملمات، وسألوهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات; واعتقدوا هذا الشرك الوخيم قربة ودينا يدينون به، واشتد نكيرهم على من أنكر ذلك، وحذروا عنه، ورموه بالزور والبهتان; والله ناصر دينه، في كل زمان ومكان، لكنه يمتحن حزبه بحربه مذ كانت الفئتان.
ومما نعتقده وندين الله به: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر، خيره وشره; ونؤمن بأسماء الله تعالى، وصفاته; ونثبت ذلك على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وننزه الله عما لا يليق بجلاله، تنْزيها بلا تعطيل; ونعتقد أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، عال على خلقه، وعرشه فوق السماوات; وهو بائن عن مخلوقاته; ولا يخلو مكان من علمه، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، فنؤمن باللفظ ونثبت حقيقة الاستواء، ولا نكيف، ولا نمثل، لأنه لا يعلم كيف هو إلا هو. قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس، رحمه الله، وبقوله نقول، وقد سأله رجل عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ فأثبت مالك رحمه الله الاستواء، ونفى علم الكيفية; وكذلك اعتقادنا في جميع أسماء الرب وصفاته، من الإيمان باللفظ، وإثبات الحقيقة، ونفي علم الكيفية.(1/571)
والقول الشامل في ذلك: أنا نصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نتجاوز القرآن والحديث; فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] فسبحان من لا سمي له، ولا كفو له، وهو أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا من خلقه.
ونؤمن بما ورد من أن الله تعالى ينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: " هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه " 1.
ونعتقد أن القرآن كلام الله، منَزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وسمعه جبرائيل من الباري سبحانه، ونزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نقول بقول الأشاعرة ولا غيرهم من أهل البدع.
ونؤمن أن الله فعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بقضائه وقدره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور. ونؤمن بآيات الوعيد، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول بتخليد أحد من المسلمين من أهل الكبائر في النار، كما تقول الخوارج والمعتزلة، لما ثبت
__________
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , وأحمد (2/433) .(1/572)
عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ وإخراجهم من النار، بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته، وشفاعة غيره، من الملائكة، والأنبياء. ولا نقف في الأحكام المطلقة، بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخلها من أهل الكبائر; وآخرون لا يدخلونها لأسباب تمنع من دخولها: كالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحوها.
ونعتقد أن الله يفعل ما يفعله لحكمة وأسباب; وهو تبارك وتعالى خالق الأسباب، ومسبباتها; ولا نشهد لشخص معين بجنة ولا نار، لأن حقيقة باطنه، وما مات عليه، لا نحيط به، لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا نكفر أحدا من أهل الإسلام بذنب دون الشرك، ولا نخرجه عن دائرة الإسلام بارتكاب كبيرة.
ونؤمن بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعد الموت; ونؤمن بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى أجسادها، فيقوم الناس لرب العالمين، في موقف القيامة، حفاة، عراة، غرلا، وتدنو منهم الشمس، فيلجمهم العرق، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
ونؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأن الصراط(1/573)
ينصب على متن جهنم، ويمر الناس على قدر أعمالهم. ونؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع، وأول مشفع; ولا ينكرها إلا مبتدع ضال، وأنها لا تقع إلا بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وهو سبحانه، لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، قال أبو هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه " 1، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص، بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [سورة المدثر آية: 48] .
ونؤمن أن الله تعالى خلق الجنة، وأنها موجودة الآن، وأن الله أعدها لمن أطاعه واتقاه، وأن الله خلق النار، وأنها موجودة الآن، وأن الله أعدها لمن كفر به وعصاه.
ونؤمن أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الجنة كما يرى القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة آية: 22] ، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه تعالى "2.
__________
1 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) .
2 مسلم: الإيمان (181) , والترمذي: صفة الجنة (2552) , وابن ماجه: المقدمة (187) , وأحمد (4/332 ,4/333 ,6/15) .(1/574)
نؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والمرسلين، وأن أفضل أمته أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين; ونتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونترضى عنهم، ونستغفر لهم، ونذكر محاسنهم، وفضائلهم، ونكف عما شجر بينهم، ونترضى عن أمهات المؤمنين، المطهرات المبرآت من كل سوء; وأن فضلاهن عائشة، ونبرأ من قول الرافضة، ونعتقد كفر غلاتهم، ونبرأ من قول الزيدية وغيرهم من أهل البدع.
ونرى الجهاد مع كل إمام، برا كان أو فاجرا، منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال; ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية، ونرى هجر أهل البدع، ومباينتهم; ونرى أن كل محدثة في الدين، بدعة.
ونرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل قادر، بحسب قدرته واستطاعته، بيده، فإن تعذر فبلسانه، فإن تعذر فبقلبه، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " 1.
ونعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان،
__________
1 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/54) .(1/575)
واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما في الحديث الصحيح: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " 1.
ونعتقد أن الله أكمل الدين، وأتم نعمته على العالمين، ببعثه محمد الرسول الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، دائما إلى يوم الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . فلما أكمل الله به الدين، وبلغ البلاغ المبين، قبضه الله إليه وتوفاه، واختار له الرفيق الأعلى.
ونعتقد أن رتبته صلى الله عليه وسلم أعلى رتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنْزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وأما الحياة التي تقتضي العلم والتصرف، والحركة في التدبير، فهي منفية عنه صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة: فعقيدتنا في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، عقيدة أهل السنة والجماعة، نؤمن بها، ونمرها كما جاءت، مع إثبات حقائقها، وما دلت عليه، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تبديل ولا تأويل.
__________
1 البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004 ,5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/379 ,2/414) .(1/576)
وأما مذهبنا، فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة، في الفروع، والأحكام، ولا ندعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد، كائنا من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد; فهذا الذي نعتقده، وندين الله به، فمن نسب عنا خلاف ذلك، أو تقول علينا ما لم نقل، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وحسابنا وحسابه عند الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر لديه مخبآت الصدور والضمائر {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب آية: 4] ، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى أهل الحجاز في بيان عقيدة أهل نجد)
وله: أيضا، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف، إلى من يراه، من عسير، وكافة الحجاز، واليمن، هداهم الله لدين الإسلام. وبعد: فاعلموا أن الذي نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه، ونجاهدهم عليه، هو دين الإسلام، الذي أوجبه الله على عباده، وهو حقه عليهم، الذي خلقهم لأجله. فإن الله خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به في عبادته أحدا من(1/577)
المخلوقين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، فمن تعلق على غير الله وصرف له شيئا من أنواع العبادة، فقد اتخذه إلها مع الله، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه حرم الجنة على من أشرك معه أحدا غيره، وحرم المغفرة عليه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 1.
ونأمر بهدم القباب، ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره; ونأمر بإقام الصلاة، جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها، وترك الحضور في المسجد; ونلزم ببقية شرائع الإسلام، كالزكاة، والصوم، والحج للقادر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; وننهى عن الربا، والزنى، وشرب الخمر، والتتن، وعن لبس الحرير للرجال، وننهى عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام.
وبالجملة: فإنا نأمر بما أمر الله في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وننهى عما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحلل إلا ما حلل الله; فهذا الذي ندعو إليه، ومن كان قصده الحق، ومراده الخير، والدخول فيه، التزم ما ذكرنا، وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا،
__________
1 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/374) .(1/578)
وعليه ما علينا، ونجاهد من لم يقبل ذلك، ونستعين الله على جهاده، ونقاتله حتى يلتزم ما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإنا - ولله الحمد والمنة - لم نخرج عما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن نسب عنا خلاف ذلك، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين; وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(منظومة الشيخ سليمان بن سحمان في بيان ما عليه أهل نجد من الاعتقاد)
قال الشيخ: سليمان بن سحمان، قدس الله روحه، ونور ضريحه، بعد سياق جملة من عقائد أهل هذه الدعوة: ذكرت هذه المنظومة، التي تتضمن ما نحن عليه من الاعتقاد، مما خالفنا فيه المشبهون الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وبالجملة: فهذا ما نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه، ونجاهد عليه من خالفنا في ذلك، بحول الله وقوته، وهذا نصها:
لك الحمد اللهم يا خير سيد ... ويا خير مسؤول مجيب لمجتد
لك الحمد كم أوليتنا وحبوتنا ... بفضلك آلاء بغير تعدد
لك الحمد كم آويتنا بل نصرتنا ... على كل من عادى لدين محمد
وعرفتنا الإسلام دين محمد ... وقد كان مرفوضا لدى كل ملحد
وبصرتنا نورا من الحق واضحا ... وجنبتنا أديان كل ملدد(1/579)
فلله ربي الحمد والشكر والثنا ... على كل ما أولى وأعطاه سيدي
وبعد: فإن الله جل جلاله ... أبان لنا الإسلام حقا لنهتدي
ونشكره لما هدانا إلى الهدى ... وقد صد عنه كل غاو ومعتد
فهبوا عباد الله من نومة الردى ... إلى الفقه في أصل الهدى والتجرد
ولا تشركوا بالله شيئا وجنبوا ... طرائق أهل الغي من كل ملحد
كمن كان يغدو للمقابر زائرا ... ويدعوهم في كل خطب ويجتدي
ويرجون غوثا في الشدائد عندما ... يلم بهم من حادث متجدد
ويرجون منهم قربة وشفاعة ... إلى الله ذي العرش العظيم الممجد
ويطلب منهم كشف كل ملمة ... وفي كل كرب فعل أهل التمرد
ويطلب من أهل المقابر كل ما ... يؤمله من كل خطب ومقصد
وينسون ربا واحدا جل ذكره ... إلها عظيما قادرا ذا تفرد
فيا أيها الراجي سلامة دينه ... عليك بتقوى الله ذي العرش تهتد
وإياه فارغب في الهداية للهدى ... لعلك أن تنجو من النار في غد
وكن باذلا للجد والجهد طالبا ... وسل ربك التثبيت أي موحد
وإن رمت أن تنجو من النار سالما ... وتحظى بجنات وخلد مؤبد
وروح وريحان وأرغد حبرة ... وحور حسان كاليواقيت خرد
فحقق لتوحيد العبادة مخلصا ... بأنواعها لله قصدا وجرد
وأفرده بالتعظيم والخوف والرجا ... وبالحب والرغبى إليه ووحد
وبالنذر والذبح الذي أنت ناسك ... ولا تستغث إلا بربك تهتد
ولا تستعن إلا به وبحوله ... له خاشيا بل خاشعًا في التعبد
ولا تستعن إلا به لا بغيره ... وكن لائذا بالله في كل مقصد(1/580)
إليه منيبا تائبا متوكلا ... عليه وثق بالله ذي العرش ترشد
ولا تدع إلا الله لا شيء غيره ... فداع لغير الله غاو ومعتد
وكن خاضعا لله ربك لا لمن ... تعظمه واركع لربك واسجد
وصل له واحذر مراءاة ناظر ... إليك وتسميعا له بالتعبد
وجانب لما قد يفعل الناس عند من ... يرون له حقا فجاؤوا بمؤيد
يقومون تعظيما ويحنون نحوه ... ويومون نحو الرأس والأنف باليد
وهذا سجود وانحنا بإشارة ... إليه بتعظيم وذا فعل معتد
إلى غير ذا من كل أنواعها التي ... بها الله مختص فوحده تسعد
وفي صرفها أو بعضها الشرك قد أتى ... فجانبه واحذر أن تجيء بمؤيد
وهذا الذي فيه الخصومة قد جرت ... على عهد نوح والنبي محمد
ووحده في أفعاله جل ذكره ... مقرا بأن الله أكمل سيد
هو الخالق المحيي المميت مدبر ... هو المالك الرازق فاسأله واجتد
إلى غير ذا من كل أفعاله التي ... أقر ولم يجحد بها كل ملحد
ووحده في أسمائه وصفاته ... ولا تتأولها كرأي المفند
فنشهد أن الله حق بذاته ... على عرشه من فوق سبع ممجد
عليه استوى من غير كيف وبائن ... عن الخلق حقا قول كل موحد
وأن صفات الله حق كما أتى ... بها النص من آي ومن قول أحمد
بكل معانيها فحق حقيقة ... وليست مجازا قول أهل التمرد
فليس كمثل الله شيء ولا له ... سمي وقل لا كفو لله تهتد(1/581)
وذا كله معنى شهادة أنه ... إله الورى حقا بغير تردد
فحقق لها لفظا ومعنى فإنها ... لنعم الرجا يوم اللقا للموحد
هي العروة الوثقى فكن متمسكا ... بها مستقيما في الطريق المحمدي
فكن واحدا في واحد ولواحد ... تعالى ولا تشرك به أو تندد
ومن لم يقيدها بكل شروطها ... كما قاله الأعلام من كل مهتد
فليس على نهج الشريعة سالكا ... ولكن على آراء كل ملدد
فأولها: العلم المنافي لضده ... من الجهل، إن الجهل ليس بمسعد
فلو كان ذا علم كثير وجاهلا ... بمدلولها يوما فبالجهل مرتد
وثانيها: وهو القبول وضده ... هو الرد فافهم ذلك القيد ترشد
كحال قريش حين لم يقبلوا الهدى ... وردوه لما أن عتوا في التمرد
وقد علموا منها المراد وأنها ... تدل على توحيده والتفرد
فقالوا كما قد قاله الله عنهم ... بسورة ص 1 فاعلمن ذاك تهتد
فصارت به أموالهم ودماؤهم ... حلالا وأغناما لكل موحد
وثالثها: الإخلاص، فاعلم وضده ... هو الشرك بالمعبود في كل مقصد
كما أمر الله الكريم نبيه ... بسورة تنْزيل الكتاب الممجد
ورابعها: شرط المحبة، فلتكن ... محبا لما دلت عليه من الهدي
وإخلاص أنواع العبادة كلها ... كذا النفي للشرك المفند والدد
ومن كان ذا حب لمولاه إنما ... يتم بحب الدين دين محمد
__________
1 يقرأ منونا, للوزن.(1/582)
فعاد الذي عادى لدين محمد ... ووال الذي والاه من كل مهتد
وأحبب رسول الله أكمل من دعا ... إلى الله والتقوى وأكمل مرشد
أحب من الأولاد والنفس بل ومن ... جميع الورى والمال من كل أتلد
وطارفه والوالدين كليهما ... بآبائنا والأمهات فتفتدي
وأحبب لحب الله من كان مؤمنا ... وأبغض لبغض الله أهل التمرد
وما الدين إلا الحب والبغض والولا ... كذاك البرا من كل غاو ومعتد
وخامسها: فالانقياد وضده ... هو الترك للمأمور أو فعل مفسد
فتنقاد حقا بالحقوق جميعها ... وتعمل بالمفروض حتما وتقتدى
وتترك ما قد حرم الله طائعا ... ومستسلما لله بالقلب ترشد
فمن لم يكن لله بالقلب مسلما ... ولم يك طوعا بالجوارح ينقد
فليس على نهج الشريعة سالكا ... وإن خال رشدا ما أتى من تعبد
وسادسها: وهو اليقين، وضده ... هو: الشك في الدين القويم المحمدي
ومن شك فليبقى على رفض دينه ... ويعلم أن قد جاء يوما بموئد
بها قلبه مستيقنا جاء ذكره ... عن السيد المعصوم أكمل مرشد
ولا تنفع المرء الشهادة فاعلمن ... إذا لم يكن مستيقنا ذا تجرد
وسابعها: الصدق، المنافي لضده ... من الكذب الداعي إلى كل مفسد
وعارف معناها إذا كان قابلا ... لها عاملا بالمقتضى فهو مهتد
وطابق فيها قلبه للسانه ... وعن واجبات الدين لم يتبلد
وما لم تقم هذى الشروط جميعها ...
بقائلها يوما فليس على الهدى(1/583)
ونشهد: أن المصطفى سيد الورى ... محمد المعصوم أكمل مرشد
وأفضل من يدعو إلى الدين والهدى ... رسول من الله العظيم الممجد
إلى كل خلق الله طرا وأنه ... يطاع فلا يعصى بغير تردد
ونأتي من المأمور ما نستطيعه ... ونجتنب المنهي من كل مفسد
وأن الصلاة الخمس فرض وأنها ... عمود لهذا الدين في نص أحمد
كذاك زكاة المال فرض وواجب ... على كل ذي مال لدى كل مهتد
ومن لا يصلي فهو لا شك كافر ... كما قاله المعصوم أكمل سيد
وقد فرض الله الصيام على الورى ... كما هو في نص الكتاب الممجد
كذلك حج البيت فرض وواجب ... على مستطيع قادر ذي تزود
فهذا هو الإسلام حقا كما أتت ... مبينة أركانه في المعدد
ونؤمن بالله العظيم إلهنا ... وأملاكه والرسل من كل أمجد
وكتب وباليوم الذي هو آخر ... وبالقدر المقدور حقا لنهتدي
فما قدر الرحمن كان كما يشا ... وما لم يقدر لا يكون فقيّد
وما كان من خير وشر فكله ... من الله تقديرا بغير تردد
وقد بعث الله النبي محمدا ... بإخلاص هذا الدين للمتفرد
وتكفير عباد القبور ومن على ... طريقتهم من كل غاو ومعتد
فكن سالكا في منهج الحق والهدى ... لتنجو من حر الجحيم المؤبد
وهذا اعتقاد للأئمة قبلنا ... ذوي العلم والتحقيق من كل مهتد
كمثل الإمام الشافعي وأحمد ... ومالك والنعمان من كل سيد
وأصحابهم من كل حبر وجهبذ ... وأتباعهم أهل التقى والتجرد(1/584)
ونحن على منهاجهم واعتقادهم ... نسير ولا نألو اجتهادا ونقتدى
بحول إله العرش جل جلاله ... وتوفيقه والله بالخير يبتدي
ونبرأ من كل ابتداع مخالف ... لأهل الهدى من قول كل ملدد
ومن دين عباد القبور جميعهم ... ومن كل جهمي كفور وملحد
ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا ... بتكفيرهم بالذنب كل موحد
وظنوه دينا من سفاهة رأيهم ... وتشديدهم في الدين أي تشدد
ومن كل دين خالف الحق والهدى ... وليس على نهج النبي محمد
فيا أيها الناس اسمعوا وتفطنوا ... جميعا لما قد قلته في المنضد
فإن كان حقا واضحا وعلى الهدى ... كما هو معلوم لدى كل مهتد
عليه من الحق المبين دلائل ... تلوح وتبدو جهرة للموحد
ففيئوا إلى دين الهدى وذروا الهوى ... ولا تتبعوا آراء كل ملدد
يرى الدين في أقوال من ضل واعتدى ... وزاغ عن السمحاء من قول أحمد
ويا عجبا كيف اطمأنت نفوسكم ... بتغيير دين المصطفى خير مرشد
فتأتون بالشرك المحرم جهرة ... ينادى به في كل ناد ومشهد
وما منكمو من منكِرٍ ومفند ... لذلك جهرا باللسان وباليد
إذا كنتمو من أهل دين محمد ... فكيف استجزتم فعل أهل التمرد
وكيف استلذيتم من العيش مطعما ... وما منكمو من منكِر ومفند
وكيف لكم طاب المنام وتهدؤوا ... وأنتم ترون الكفر بالله يزدد
وكيف لكم قر القرار وأنتمو ... على حالة لا ترتضى للموحد(1/585)
ألا فأفيقوا وانظروا وتفكروا ... فما مبصر في الدين يوما كأرمد
وليس أخو جهل كمن كان عارفا ... ولا آمن في دينه كالمقلد
ونحن على ما قد أبنا من الهدى ... نجاهد ما عشنا ونهدي ونهتدي
ونبذل في إظهار دين محمد ... نفوسا وأموالا بغير تردد
ولو تلفت منا النفوس بأسرها ... وباد جميع المال من كل أتلد
وطارفه حتى يفيئوا إلى الهدى ... ويظهر دين الله جهرا لمهتد
فإن لم يكن حقا لديكم وواضحا ... وليس على الدين القويم المحمدي
فهاتوا دليلا من كتاب وسنة ... ومن قول أصحاب النبي محمد
وأتباعهم والتابعين على الهدى ... وكل إمام حافظ ومسدد
وحاشا وكلا ما إلى ذاك مسلك ... يجيء به من زاغ عن دين أحمد
وما هو إلا في مهامه تائه ... بريء من الإسلام غاو ومعتد
ويا من على دين النبي محمد ... ذوي الحق من بدو وسكان أبلد
وأعني بذا سكان نجد ومن على ... طريقتهم من كل هاد ومهتد
تعالوا بنا نحيي رياضا من الهدى ... ونعمر أركانا لدين محمد
عفت وانمحت في كل قطر وموطن ... ولم يبق إلا من على دين أحمد
فأنتم على السمحاء باد يقينها ... موضحة معلومة للموحد
فعضوا عليها بالنواجذ واصبروا ... فأنتم حماة الدين في كل مشهد
وأنتم على الدين الحنيفي والهدى ... وغيركمو لا شك بالجهل مرتد
فيا أيها الإخوان جدوا وشمروا ... لنصرة دين الله بالمال واليد(1/586)
وبيعوا نفوسا في رضى الله واطلبوا ... بذاك خلودا في نعيم مؤبد
فما هذه الدنيا بدار إقامة ... سنظعن عنها عن قريب ونفتدي
ولكنما دار الإقامة والبقا ... إذا ما بعثنا من قبور وألحد
هي الدار في الأخرى فإن كنت حازما ... فإنك ذا فقر بها فتزود
فاعدد لها إن كنت بالله مؤمنا ... حنانيك أعمالا لتنجو في غد
إذا تم هذا واستبان لديكمو ... وقد كان معلوما بغير تردد
فيلزمكم أيضا حقوق كثيرة ... من الدين في الإسلام من قول أحمد
وذلك أن توفوا بعهد إمامكم ... على الكره منكم والرضى والتحمد
وتعطونه في ذاك سمعا وطاعة ... كما جاء في النص الأكيد المؤيد
إذا كان بالمعروف يأمركم به ... وينهى عن الفحشاء من كل مفسد
ولو جار في أخذ من المال واعتدى ... بضرب وتنكيل عنيف منكد
فلا تخرجوا يوما عليه تعنتا ... تريدون كشفا للظلامة باليد
كما فعلت أعني الخوارج إذ غلوا ... وقد مرقوا من دينهم بالتشدد
بغير دليل من كتاب وسنة ... ولكن برأي منهمو والتجهد
فكانوا كلاب النار يوم معادنا ... ولم يغن عنهم ما أتوا من تعبد
ومنها جهاد الكافرين ومن عصى ... وخالف أمر الله من كل معتد
وقد كان معلوما من الدين واضحا ... ولا شك في هذا لدى كل مهتد
ومنها حقوق المسلمين لبعضهم ... على بعضهم حقا لكل موحد
فما مسلم إلا وبالذنب قد أتى ... وقارف أو قد جاء يوما بمؤبد
فيعطى الحقوق اللازمات لدينه ... وإسلامه إذ كان للخير ينقد
يوالى على هذا وترعى حقوقه ... كما قال هذا كل حبر مسدد(1/587)
ويحمد من وجه على حسناته ... ويثنى عليه بالجميل ليزدد
كما أنه بالفعل للخير والتقى ... يثاب بلا شك لدى كل مهتد
ويبغض من وجه على هفواته ... وزلاته من غير بغض مبعد
ليقلع عن تلك المعاصي وفعلا ... وينْزجر الباقون عن كل مفسد
كما أنه بالسيئات وفعلها ... يعاقب تنكيلا بغير تشدد
فمن لم يراع ما ذكرناه لم ين ... على المنهج الأسنى يسير ويقتدي
وضاعت حقوق المسلمين لبعضهم ... على بعضهم في الدين دين محمد
وصار إلى دين الخوارج إذ غلوا ... ولم يهتدوا يوما إلى قول مرشد
وهذا قليل من كثير فمن رد ... من الخير منهاجا إليه ليهتدي
فيسأل أهل العلم عن طرق الهدى ... لينجو من حر الجحيم المؤبد
ولا يتلق العلم عن كل جاهل ... فيهلك بل يصبو إلى قول ملحد
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أما بعد: فقد اشتملت هذه المنظومة، على ستة مشاهد، ذكرها العلامة ابن القيم، رحمه الله، في إغاثة اللهفان، في علامة صحة القلب; وختمت ما ذكره الشيخ بذكر ما عليه أهل السنة والجماعة من الاعتقاد، وهذا نصها:
بحمد الله نبدأ في المقال ... وذكر الله في كل الفعال
فذكر الله يجلو كل هم ... عن القلب السليم على التوال
فللقلب السليم إذا تزكى ... علامات هنالك للكمال(1/588)
علامات لصحة كل قلب ... سليم عن مداخلة الضلال
علامات ذكرن بكل نثر ... عن الأعلام واضحة لتال
ولكني نظمت لها نظاما ... به أرجو التنافس في الفضال
مع الإقرار بالتقصير فيها ... وذكر للعقيدة في المقال
علامة صحة للقلب ذكره ... لذي العرش المقدس ذي الجلال
وخدمة ربنا في كل حال ... بلا عجز هنالك أو ملال
ولا يأنس بغير الله طرا ... سوى من قد يدل إلى المعالي
ويذكر ربه سرا وجهرا ... ويدمن ذكره في كل حال
ومنها وهو ثانيها إذا ما ... يفوت الورد يوما لاشتغال
فيألم للفوات أشد مما ... يفوت على الحريص من الفضال
ومنها شحه بالوقت يمضي ... ضياعا كالشحيح ببذل مال
وأيضا من علامته اهتمام ... بهم واحد غير انتحال
فيصرف همه لله صرفا ... ويترك ما سواه من المقال
وأيضا من علامته إذا ما ... دنا وقت الصلاة لذي الجلال
وأحرم داخلا فيها بقلب ... منيب خاضع في كل حال
تناءى همه والغم عنه ... بدنيا تضمحل إلى زوال
ووافى راحة وسرور قلب ... وقرة عينه ونعيم بال
ويشق الخروج عليه منها ... فيرغب جاهدا في الابتهال
وأيضا من علامته اهتمام ... بتصحيح المقالة والفعال(1/589)
وأعمال ونيات وقصد ... على الإخلاص يحرص بالك
أشد تحرصا وأشدهما ... من الأعمال ثمت لا يبالي
بتفريط المقصر ثم فيها ... وإفراط وتشديد لغال
وتصحيح النصيحة غير غش ... يمازج صفوها يوما بحال
ويحرص في اتباع النص جهدا ... مع الإحسان في كل الفعال
ولا يصغى لغير النص طرا ... ولا يعبأ بآراء الرجال
فست مشاهد للقلب منها ... علامات عن الداء العضال
ويشهد منة الرحمن يوما ... بما أسدى عليه من الفضال
ويشهد منه تقصيرا وعجزا ... بحق الله في كل الخلال
فقلب ليس يشهدها سقيم ... ومنكوس لفعل الخير قال
فإن رمت النجاة غدا وترجو ... نعيما لا يصير إلى زوال
نعيما لا يبيد وليس يفنى ... بدار الخلد في غرف عوال
فلا تشرك بربك قط شيئا ... فإن الله جل عن المثال
إله واحد أحد عظيم ... عليم عادل حكم الفعال
رحيم بالعباد إذا أنابوا ... وتابوا من متابعة الضلال
شديد الانتقام بمن عصاه ... ويصليه الجحيم ولا يبالي
فبادر بالذي يرضى لتحظى ... بخير في الحياة وفي المآل
ولازم ذكره في كل وقت ... ولا تركن إلى قيل وقال
وأهل العلم جالسهم وسائل ... ولا يذهب زمانك في اغتفال
وأحسن وانبسط وارفق ونافس ... لأهل الخير في رتب المعالي
فحسن البشر مندوب إليه ... ويكسو أهله ثوب الجمال(1/590)
وأحبب في الإله وعاد فيه ... وأبغض جاهدا فيه ووال
وأهل الشرك باينهم وفارق ... ولا تركن إلى أهل الضلال
وتشهد قاطعا من غير شك ... بأن الله جل عن المثال
علا بالذات فوق العرش حقا ... بلا كيف ولا تأويل غال
علو القدر والقهر اللذان ... هما لله من صفة الكمال
بهذا جاءنا في كل نص ... عن المعصوم من صحب وآل
وينْزل ربنا في كل ليل ... إلى أدنى السماوات العوالي
لثلث الليل ينْزل حين يبقى ... بلا كيف على مر الليالي
ينادي خلقه: هل من منيب ... وهل من تائب في كل حال؟
وهل من سائل يدعو بقلب ... فيعطى سؤله عند السؤال؟
وهل مستغفر مما جناه ... من الأعمال أو سوء المقال؟
وتشهد أنما القرآن ... حقا كلام الله من غير اعتلال
ولا تمويه مبتدع جهول ... بخلق القول عن أهل الضلال
وآيات الصفات تمر مرا ... كما جاءت على وجه الكمال
ورؤيا المؤمنين له تعالى ... عيانا في القيامة ذي الجلال
يرى كالبدر 1 أو كالشمس صحوا ... بلا غيم ولا وهم خيال
وميزان الحساب كذاك حقا ... مع الحوض المطهر كالزلال
__________
1 أي: كما يرى البدر.(1/591)
ومعراج الرسول إليه حق ... بنص وارد للشك جال
كذاك الجسر يبسط للبرايا ... على متن السعير بلا محال
فناج سالم من كل شر ... وهاو هالك للنار صال
وتؤمن بالقضا خيرا وشرا ... وبالمقدور في كل الفعال
وأن النار حق قد أعدت ... لأعداء الرسول ذوي الضلال
بحكمة ربنا عدلا وعلما ... بأحوال الخلائق في المآل
وأن الجنة الفردوس حق أعدت ... للهداة أولي المعالي
بفضل منه إحسانا وجودا ... وتكريما لهم بعد الوصال 1
وكل في المقابر سوف يلقى ... بلا شك هنالك للسؤال
نكيرا منكرا حقا بهذا ... أتانا النقل عن صحب وآل
وأعمالا تقارنه فإما ... بخير قارنت أو سوء حال
فيا فردا بلا ثان أجرني ... وثبتني بعزك ذا الجلال
وعاملني بعفوك واغن قلبي ... بفضلك عن حرامك بالحلال
ونق القلب من درن الخطايا ... ورشني من فواضلك الجزال
ولاطف باللطائف والعنايا ... ضعيفا في جنابك ذا اتكال
وجملني بعافية وعفو ... فإن تمنن بعفوك لا أبال
وصلى الله ما غنت بأيك ... على الأغصان من طلح وظال
تنادي دائما تدعو هديلا ... حمامات على فنن عوال
على المعصوم أفضل كل خلق ... وأزكى الخلق مع صحب وآل
__________
1 أي: الوصول.(1/592)
(رسالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي)
قال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن، آل فيصل، إلى جناب الأخوين المكرمين: الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي، وناصر الدين الحجازي، سلمهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإني أحمد إليكما الله، الذي لا إله إلا هو، على نعمه التي من أجلها: نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه، إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها; ونسأله أن يصلي على عبده، ورسوله، وحبيبه، وخيرته من خلقه، محمد، وآله وصحبه وحزبه.
وغير ذلك: ورد علينا ردكم على عبد القادر الإسكندراني، فرأيناه ردا سديدا، وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود; فحمدنا الله على ما من به عليكم، من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشائخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه; فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة، تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين، وشبه المارقين والملحدين; فلربنا الحمد لا نحصي(1/593)
ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه.
وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان، التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة، من ينهى عن ذلك، أو يغيره; فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام، واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك، ويحذر عنه، خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم، من الكفر، والشرك، والبدع، والمنكرات الفظيعة؛ فالعالم بالحق، والعارف له، والمنكر للباطل، والمغير له، يعد بينهم وحيدا غريبا.
فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله، وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله، ونزلت به كتبه، من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا; فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات; لا سيما في هذا الزمان، الذي قل(1/594)
خيره، وكثر شره، قال صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء " 1 وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم " 2؛ ونحن إن شاء الله من أنصاركم، وأعوانكم.
ومن حسن توفيق الله لكم: أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق، وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك; واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام، لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله، فإن الحق منصور، وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه 3 هدية نهديها إليكم، من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه، من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون; نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والهداية لأقوم منهج وطريق، والسلام.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وهو: كتاب التوحيد
__________
1 مسلم: العلم (2674) , والترمذي: العلم (2674) , وأبو داود: السنة (4609) , وأحمد (2/397) , والدارمي: المقدمة (513) .
2 البخاري: الجهاد والسير (3009) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) .
3 إشارة إلى كتاب: الهدية السنية, للشيخ سليمان بن سحمان, المطبوعة بمصر سنة 1344 هـ.(1/595)
المجلد الثاني: (كتاب التوحيد)
كتاب التوحيد
...
كتاب التّوحيد
بسم الله الرحمن الر حيم
كتاب التوحيد
[أربعة قواعد يتميز بها المسلم من المشرك]
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع له من الأفعال، المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال، أحمده سبحانه وأشكره إذ هدانا لدين الإسلام، وأزاح عنا شبه الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موحد له في الغدو والآصال.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، نبي جاءنا بدين قويم، فارتوينا مما جاءنا به من عذب زلال; اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه الذين هم خير صحب وآل، وسلم تسليما.
أما بعد: فقد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تنبغي مخالفتهم، أن أجمع مؤلفا يشتمل على مسائل أربع،(2/5)
وقواعد أربع، يتميز بهن المسلم من المشرك.
الأولى: أن الذي خلقنا وصورنا لم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، معه كتاب من ربنا، فمن أطاع فهو في الجنة، ومن عصى فهو في النار، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [سورة المزمل آية: 15] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [سورة النساء آية: 13"14] .
الثانية: أنه سبحانه ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
الثالثة: أنه إذا دخل الشرك في عبادتك، بطلت ولم تقبل; وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 116] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] .(2/6)
ومن نوع هذا الشرك: أن يعتقد الإنسان في غير الله: من نجم، أو إنسان أو نبي، أو صالح، أو كاهن، أو ساحر، أو نبات، أو حيوان، أو غير ذلك، أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة، فقد قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر آية: 2] ، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [سورة يونس آية: 107] .
فإذا تبين في القلب أنه عز وجل بهذه الصفة، وجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو; ولذلك قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 51] .
وقال تعالى موبخا لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وعزير، عليهما السلام، لما أنزل الله عليهم القحط والجوع: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] .
وقال تعالى لنبيه:صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] ، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ(2/7)
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] .
ومن نوع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله، فقد قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] ، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [سورة الفرقان آية: 58] ، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 122] ، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3] ، إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [سورة المائدة آية: 3] ، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162] .
ومن نوع هذا الشرك: تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال عدي بن حاتم، " يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم؟ وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى; قال: فتلك عبادتهم " وأحبارهم ورهبانهم: علماؤهم وعبادهم; وذلك أنهم اتخذوهم أربابا، وهم لا يعتقدون ربوبيتهم، بل يقولون: ربنا وربهم الله، ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم(2/8)
الله، وتحريم ما أحل الله، وجعل الله ذلك عبادة. فمن أطاع إنسانا عالما، أو عابدا، أو غيره، في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، واعتقد ذلك بقلبه، فقد اتخذه ربا، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ومن ذلك: " أن أناسا من المشركين، قالوا: يا محمد، الميتة من قتلها؟ قال: الله; قالوا: كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالا وقتل الله حراما؟ فنزل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1") .
ومن نوع هذا الشرك: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة، أو الصحبة، أو الولاية، وشد الرحال إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك; فتارة يسألونه وتارة: يسألون الله عنده; وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره.
ولما كان هذا بدء الشرك، سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب; ففي الصحيحين أنه قال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا) .
وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "3 وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زائرات
__________
1 النسائي: الضحايا (4437) , وأبو داود: الضحايا (2819) .
2 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .
3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) .(2/9)
القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج "1 وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2.
وفي صحيح مسلم عن علي، قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا أدع تمثالا إلا طمسته "3، فأمر بمسح التماثيل من الصور الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا أو بهذا.
"وبلغ عمر رضي الله عنه أن قوما يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، فأمر بقطعها"، "وأرسل إليه أبو موسى: أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف، فيه أخبار ما سيكون، وفيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا جدبوا، كشفوا عن القبر، فمطروا. فأرسل إليه عمر، يأمره أن يحفر في النهار ثلاثة عشر قبرا، ويدفنه بالليل بواحد منها، لئلا يعرفه الناس، فيفتنون به".
واتخاذ القبور مساجد مما حرم الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجد، ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرما، لم يكن من ذلك شيء على عهد الصحابة والتابعين.
وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة، لا أحد يدخلها، ولا تشد الصحابة الرحال إليه، ولا إلى غيره من المقابر، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم
__________
1 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324) .
2 مالك: النداء للصلاة (416) .
3 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) .(2/10)
قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " 1، فكان من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى، يصلون فيه، ثم يرجعون، لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها. وكانت مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة، وجعلوا ذلك مكان كنيسة، ولما فتح المسلمون البلاد، اتخذه بعض الناس مسجدا، وأهل العلم ينكرون ذلك.
وهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، فإنها محل الشرك; ولهذا توجد فيها الشياطين كثيرا، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنسان، يتلون لهم رجال الغيب، فيظنون أنهم رجال من الإنس غائبون عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالا، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] .
وما حدث في الإسلام من هذه الخرافات وأمثالها ينافي ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد، وإخلاص الدين لله وحده، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان.
ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد والإخلاص، ومعرفة الإسلام، أكثر تعظيما لمواضع الشرك; فالعارفون سنة محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالتوحيد والإخلاص، وأهل الجهل بذلك: أقرب إلى الشرك والبدع; ولهذا يوجد في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركا
__________
1 البخاري: الجمعة (1189 ,1197) والحج (1864) والصوم (1996) , ومسلم: الحج (827) , والترمذي: الصلاة (326) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/78) .(2/11)
وبدعًا؛ ولهذا: يعظمون المشاهد، ويخربون المساجد، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة، ولا جماعة; وأما المشاهد فيعظمونها، حتى يرون زيارتها أولى من الحج.
وكلما كان الرجل أتبع لدين محمد صلى الله عليه وسلم، كان أكمل توحيدا لله وإخلاصا لدينه; وإذا أبعد عن متابعته، نقص عن دينه بحسب ذلك; فإذا كثر بعده عنه، ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه، لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والله إنما أمر بالعبادة في المساجد، وذلك عمارتها، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 18] ، ولم يقل مشاهد الله، وأما نفس بناء المساجد، فيجوز أن يبنيه البر والفاجر، وذلك بناء، كما قال صلى الله عليه وسلم " من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة "1.
ثم كثير من المشاهد أو أكثرها كذب، كالذي بالقاهرة، على رأس الحسين رضي الله عنه؛ فإن الرأس لم يحمل إلى هناك، وكذلك مشهد علي، إنما حدث في دولة بني بويه; قال الحافظ وغيره: هو قبر المغيرة بن شعبة; وعلي إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة; ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق; ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفا عليهم إذا دفنوا في المقابر أن تنبشهم الخوارج.
المسألة الرابعة: أنه إذا كان عملك صوابا ولم يكن خالصا، لم يقبل؛ وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم
__________
1 البخاري: الصلاة (450) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (533) , والترمذي: الصلاة (318) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (736) , وأحمد (1/61) , والدارمي: الصلاة (1392) .(2/12)
يقبل; فلا بد: أن يكون خالصًا، صوابًا، على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال سبحانه في علماء أهل الكتاب وعبادهم وقرائهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103"104] ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [سورة الغاشية آية: 2"3"4] . وهذه الآيات ليست في أهل الكتاب خاصة، بل كل من اجتهد في علم، أو عمل، أو قراءة، وليس موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الأخسرين أعمالا، الذين ذكرهم الله تعالى في محكم كتابه العزيز، وإن كان له ذكاء، وفطنة، وفيه زهد وأخلاق، فهذا العذر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا باتباع الكتاب والسنة; وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة، فالذي يؤتى فضائل علمية، وإرادة قوية، وليس موافقا للشريعة، بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه.
وروي في صحيح البخارى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج فيكم قوم، تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعلمكم مع علمهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق "1.
__________
1 البخاري: فضائل القرآن (5058) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/56) .(2/13)
وروى في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يأتي في آخر الزمان ناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة "1. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان رجال كذابون، يأتون من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم، ولا يفتنونكم! "2 رواه أبو هريرة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "3 رواه ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي الله بأمره، وهم على ذلك "4 رواه معاوية رضي الله عنه: وقال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى "5 رواه أبو هريرة. رضي الله عنه وعن
__________
1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/81) .
2 مسلم: مقدمة (7) , وأحمد (2/321 ,2/349) .
3 مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1/458) .
4 البخاري: المناقب (3641) , ومسلم: الإمارة (1037) .
5 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) , وأحمد (2/361) .(2/14)
ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "1.
وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك، كما كان عليه الصحابة، والتابعون، ومن سلك سبيلهم فكل ما يحتاج إليه الناس، فقد بينه الله ورسوله، بيانا شافيا كافيا، فكيف أصول التوحيد، والإيمان؟ ثم إذا عرف ما بينه الرسول، نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها، فعرضت على الكتاب والسنة، والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول، فإنه الميزان مع الكتاب، فهذا سبيل الهدى.
وأما سبيل الضلال والبدع والجهل، فعكسه أن تبدع بدعة بآراء رجال وتأويلاتهم، ثم تجعل ما جاء به الرسول تبعا لها، وتحرف ألفاظه وتأويله على وفق ما أصلوه؛ وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول، ولا يتلقون منه الهدى، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم منه تأولوه، كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو فوضوه، كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
وكثير منهم إنما ينظر في تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقة على المذهب; وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلا، كالذين ذكرهم الله من اليهود الذين يفترون على الله الكذب، وهم يعلمون;
__________
1 البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه: المقدمة (66) , وأحمد (3/176 ,3/272) , والدارمي: الرقاق (2740) .(2/15)
ثم جاء من بعدهم من ظن صدق ما افترى أولئك، وهم في شك منهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى آية: 14] .
ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "1. فهذا دليل على أن ما ذم الله به أهل الكتاب، يكون في هذه الأمة من يشبههم فيه، هذا حق قد شوهد، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة فصلت آية: 53] . فمن تدبر ما أخبر الله به رسوله، رأى: أنه قد وقع من ذلك أمور كثيرة.
ومن زاد في الدين بشيء ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وليس عليه الصحابة والتابعون، فكأنما نقص، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم "2. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال قوم يتنزهون عن شيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم، وأشدهم لله خشية "3.
وعن أنس بن مالك قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما أخبروا
__________
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89) .
2 أبو داود: الأدب (4904) .
3 البخاري: الأدب (6101) , ومسلم: الفضائل (2356) , وأحمد (6/45 ,6/181) .(2/16)
كأنهم تقالوها، قالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد; وقال أحدهم: أنا أصوم الدهر ولا أفطر; وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم: كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني" رواه البخاري ; وقال صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم فخذوا به "1.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} 2 قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، فأولئك الذين سمى الله: أهل الزيغ، فاحذروهم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت رجلين اختلفا في آية، فخرج في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن ابتدع بدعة ضلالة لا
__________
1 مسلم: الفضائل (2363) , وابن ماجه: الأحكام (2471) , وأحمد (6/123) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4547) , ومسلم: العلم (2665) , وأبو داود: السنة (4598) , وابن ماجه: المقدمة (47) , وأحمد (6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256) , والدارمي: المقدمة (145) .(2/17)
يرضاها الله ورسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء "1 رواه بلال بن الحارث المازني رضي الله عنه، وروى في صحيح البخاري، ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "2. وروى عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة ".
وعن العرباض بن سارية، قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، وقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا; قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لأميركم، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "3.
وروي في سنن أبي داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تفرقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من عمل بما أنا عليه اليوم، وأصحابي " قال عبد الله
__________
1 الترمذي: العلم (2677) , وابن ماجه: المقدمة (210) .
2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240 ,6/270) .
3 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) .(2/18)
ابن مسعود: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها" ورواه جابر مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث الأعور، قال: "مررت بالمسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم; قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} . من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
قوله: (لا تزيغ به الأهواء) ، يعني: لا يصير بسببه مبتدعا ضالا; وقوله: (لا تلتبس به الألسن) ; أي: لا يختلط به(2/19)
غيره، بحيث يشبهه، ويلتبس الحق بالباطل، قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر آية: 9] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الدين بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي "1 رواه طلحة عن أبيه عن جده; وقال صلى الله عليه وسلم: " من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد " رواه أبو هريرة; وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم في زمن من ترك منكم عشر ما أمر الله به هلك، ثم يأتي زمان من عمل بعشر ما أمر الله به نج ا"2 حديث غريب.
وعن عبد الله بن مسعود، قال: " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3") .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل القرآن على خمسة وجوه: حلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال; فأحلوا الحلال; وحرموا الحرام; واعملوا بالمحكم; وآمنوا بالمتشابه; واعتبروا بالأمثال ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأمر ثلاثة: أمر بين غيه، فاجتنبه; وأمر بين رشده، فاتبعه; وأمر اختلف فيه، فكله إلى الله تعالى ".
__________
1 الترمذي: الإيمان (2630) .
2 الترمذي: الفتن (2267) .
3 ابن ماجه: المقدمة (11) , وأحمد (3/397) .(2/20)
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجة، طعمها طيب، وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها ; ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر; ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، مثل الحنظلة، طعمها مر ولا ريح لها "1 فبين أن في الذين يقرؤون القرآن، مؤمنين، ومنافقين.
وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين هي باتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك؛ فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها، هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم: الطائفة الناجية من أهل كل ملة; وهم: أهل السنة والحديث من هذه الأمة.
والرسل عليهم البلاغ المبين ; وقد بلغوا البلاغ المبين ; وخاتم الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه كتابه، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه; فهو المهيمن على جميع الكتب; وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين؛ فأسعد الخلق، وأعظمهم نعيما، وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا له وموافقة علما
__________
1 البخاري: فضائل القرآن (5020 ,5059) والأطعمة (5427) والتوحيد (7560) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (797) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5038) , وأبو داود: الأدب (4829) , وابن ماجه: المقدمة (214) , وأحمد (4/408) , والدارمي: فضائل القرآن (3363) .(2/21)
وعملا; والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
أصل دين الإسلام وقاعدته: أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.
والمخالفون في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة: من خالف في الجميع; ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفرهم. ومنهم: من لم يحب التوحيد ولم يبغضه. ومنهم: من كفرهم وزعم أنه مسبة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك ولم يحبه. ومنهم: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره. ومنهم: من لم يعرف التوحيد ولم ينكره.
ومنهم:" وهو أشد الأنواع خطرا" من عمل بالتوحيد، لكن لم يعرف قدره، ولم يبغض من تركه، ولم يكفرهم. ومنهم: من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره، ولم يعاد أهله، ولم يكفرهم; وهؤلاء قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء من دين الله سبحانه وتعالى، والله أعلم.(2/22)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر؛ فإن هذه الثلاث عنوان السعادة.
اعلم، أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة ; فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] . فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت: أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه.(2/23)
القاعدة الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون أن الله هو الخالق، الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم، إلا لطلب القربة والشفاعة، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم والتقرب إلى الله بهم؛ فدليل القربة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ودليل الشفاعة، قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] . والمثبتة هي التي تطلب من الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله; والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله، بعد الإذن، والدليل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2/24)
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
القاعدة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: منهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد الملائكة; ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين؛ ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار; وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم; والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [سورة الأنفال آية: 39] .
فدليل الشمس والقمر، قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة فصلت آية: 37] ، ودليل الملائكة قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40"41] .
ودليل الأنبياء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} الآية [سورة المائدة آية: 116] ، وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ؛ ودليل الصالحين قوله تعالى:(2/25)
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] .
ودليل الأشجار والأحجار، قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [سورة النجم آية: 19"20] ، وحديث أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال; رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى:، {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ".
القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يخلصون لله في الشدة، ويشركون في الرخاء، ومشركي زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . فعلى هذا: الداعي عابد والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(2/26)
[أربع قواعد يميز بها بين المسلمين والمشركين]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
أما بعد: فهذه أربع قواعد ذكرها الله في محكم كتابه، يعرف بها الرجل شهادة أن لا إله إلا الله، ويميز بها بين المسلمين والمشركين; فتدبرها، يرحمك الله; وأصغ إليها فهمك; فإنها عظيمة النفع.
الأولى: أن الله ذكر أن الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون أن الله الخالق، الرازق، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وأنه لا يرزق إلا هو; وأنه سبحانه منفرد بملك السماوات والأرض; وأن جميع الأنبياء، والمرسلين عبيد له، تحت قهره وأمنه.
فإذا فهم أن هذا مقر به الكفار، ولا يجحدونه، وسألك بعض المشركين عن دليله، فاقرأ عليه، قوله تعالى في حق الكفار: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ(2/27)
تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
القاعدة الثانية: أنهم يعتقدون في الملائكة، والأنبياء، والأولياء، لأجل قربهم من الله تعالى، قال الله تعالى في الذين يعتقدون في الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40"41] . وقال: في الذين يعتقدون في الأنبياء: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [سورة المائدة آية: 75"76] . وقال في الذين يعتقدون في الأولياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] .
القاعدة الثالثة: وهي أن الله العلي الأعلى ذكر في كتابه، أن الكفار ما دعوا الصالحين، إلا لطلب التقرب من الله تعالى، وطلب الشفاعة; وإلا فهم مقرون بأنه لا يدبر الأمر إلا الله كما تقدم، فإذا طلب المشرك الدليل على ذلك، فاقرأ عليه قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ(2/28)
وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فإذا فهمت هذه المسألة، وتحققت: أن الكفار عرفوا ثلاث هذه المسائل، وأقروا بها الأولى: أنه لا يخلق، ولا يرزق، ولا يخفض، ولا يرفع، ولا يدبر الأمر، إلا الله وحده، لا شريك له; الثانية: أنهم يتقربون بالملائكة والأنبياء، لأجل قربهم من الله وصلاحهم; الثالثة: أنهم معترفون أن النفع والضر بيد الله، ولكن الرجاء، من الملائكة والأنبياء للتقرب من الله، والشفاعة عنده.
فتدبر هذا، تدبرا جيدا، واعرضه على نفسك ساعة بعد ساعة; فما أقل من يعرفه من أهل الأرض، خصوصا من يدعى العلم! فإذا فهمت هذا، ورأيت العجب، فاعرف وحقق المسألة الرابعة وهي: أن الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائما، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون ويتركون دعاء الأنبياء والشياطين؛ فإذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا فيهم وإذا أصابهم الضر، والألم الشديد، تركوهم، وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء، والصالحين، لا يملكون نفعا، ولا ضرا.
فإذا شك أحد في أن الكفار الأولين كانوا يخلصون لله بعض الأحيان، فاقرأ عليه قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ(2/29)
ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} [سورة الإسراء آية: 67] ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] .
فهذا الذي هو من أصحاب النار: يخلص الدين لله تارة، ويخلص للملائكة والأنبياء تارة، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40"41] . وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.(2/30)
[توحيد العبادة]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين؛ سألت" رحمك الله" أن أكتب لك كلاما، ينفعك الله به.
فأول ما أوصيك به: الالتفات إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى، فإنه جاء من عند الله بكل ما يحتاج إليه الناس، فلم يترك شيئا يقربهم إلى الله وإلى جنته إلا أمرهم به، ولا شيئا يبعدهم من الله، ويقربهم إلى عذابه، إلا نهاهم، وحذرهم عنه; فأقام الله الحجة على خلقه، إلى يوم القيامة; فليس لأحد حجة على الله بعد بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عز وجل فيه وفي إخوانه من المرسلين: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء آية: 165] .
فأعظم ما جاء به من عند الله، وأول ما أمر الناس به:(2/31)
توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له وحده، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 1"3] ، ومعنى قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أي: عظم ربك بالتوحيد، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له; وهذا قبل الأمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرهن، من شعائر الإسلام; ومعنى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 2] ، أي: أنذر عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له; وهذا قبل الإنذار عن الزنى، والسرقة، والربا، وظلم الناس، وغير ذلك من الذنوب الكبار.
وهذا الأصل هو أعظم أصول الدين، وأفرضها، ولأجله خلق الله الخلق، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، ولأجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، ولأجله تفرق الناس بين مسلم وكافر.
فمن وافى الله يوم القيامة وهو موحد لا يشرك به شيئا دخل الجنة; ومن وافاه بالشرك دخل النار، وإن كان من أعبد الناس؛ وهذا معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله، هو: الذي يدعى، ويرجى، لجلب الخير، ودفع الشر، ويخاف منه، ويتوكل عليه. فإذا عرفت هذا، فعليك" رحمك الله" بمعرفة أربع قواعد; قلت: تقدم نحوها، فتركناها خشية التكرار.(2/32)
[أربع قواعد يميز بهن بين مذهب المسلمين ومذهب المشركين]
وقال أيضا رحمه الله تعالى: هذه أربع قواعد من قواعد الدين; يميز بهن المسلم بين مذهب المسلمين من مذهب المشركين.
القاعدة الأولى: أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر، الضار، النافع; ولم ينفعهم إقرارهم، إذ لم يخلصوا الدعاء لله وحده; والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] ، إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الآية [سورة الزمر آية: 38] .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا(2/33)
مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} الآية [سورة فاطر آية: 13"14] ، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة الأحقاف آية: 4] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] .
القاعدة الثانية: أن هولاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قصدوا من قصدوا بعبادتهم إلا لأجل التقرب والشفاعة منهم إلى الله، وأنه عز وجل نزه نفسه عن أن يتخذ من دونه ولي أو شفيع؛ بل أمرنا بالإخلاص، وهو: أن لا يجعل له واسطة: فلا نستغيث، ولا نستعين إلا به; والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [سورة الزمر آية: 3] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية [سورة الزمر آية: 44] .
القاعدة الثالثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أناس، منهم: من يعبد الأصنام الجمادات، والسحرة، والكهنة، والشياطين; ومنهم: من يعبد الملائكة، والصالحين; فلم يفرق بين الكل، بل قاتلهم جميعا، ولا فرق بينهم، إلى أن(2/34)
كان الدين كله لله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56"57] . وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} الآية [سورة سبأ آية: 40"41] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [سورة يونس آية: 28] .
القاعدة الرابعة: أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابهم الضر لم يجعلوا لله واسطة، بل يدعونه وحده مخلصين له الدين، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [سورة الروم آية: 33] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [سورة لقمان آية: 32] . وصلى الله على محمد.(2/35)
[التوجه لغير الله بالدعاء]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
اعلم رحمك الله: أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] .
فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة، إلا مع الطهارة; فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] .
فمن دعا غير الله، طالبا منه ما لا يقدر عليه إلا الله، من جلب خير، أو دفع ضر، فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ(2/36)
خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] .
فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله! أو: يا عبد الله بن عباس: أو: يا عبد القادر، أو: يا محجوب! زاعما أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده! أو وسيلته إليه، فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال، إلا أن يتوب من ذلك؛ وكذلك من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو توكل على غير الله، أو رجا غير الله، أو التجأ إلى غير الله، أو استغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضا شرك.
وما ذكرنا من أنواع الشرك فهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] ، وهذا الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، وأمرهم بإخلاص العبادة لله.
ويتضح بمعرفة أربع قواعد: أولها: أن تعلم أن الله هو: الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الضار، النافع، المدبر لجميع الأمور; والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ(2/37)
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] .
إذا عرفت هذه القاعدة، وأنهم أقروا بهذا، ثم توجهوا إلى غير الله، فاعرف القاعدة الثانية، وهي: أنهم يقولون: ما توجهنا إليهم ودعوناهم، إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم; والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] .
فإذا عرفت هذا، فاعرف القاعدة الثالثة، وهي: أن منهم من تبرأ من الأصنام، وتعلق بالصالحين، مثل عيسى، وأمه، والأولياء; قال الله فيمن اعتقد في عيسى وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 75"76] ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية(2/38)
[سورة التوبة آية: 31] .
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57] . والرسول صلى الله عليه وسلم قاتل من عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين، ولم يفرق بين أحد منهم، حتى كان الدين كله لله.
القاعدة الرابعة: وهي أن الأولين يخلصون لله في الشدائد، وينسون ما يشركون، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله؛ فإذا عرفت هذا، فاعرف أن شرك المشركين، الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف من شرك أهل زماننا، لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون مشائخهم في الشدة والرخاء; والله أعلم.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى ابن عبيد وغيره يأمرهم بلإخلاص]
وله أيضا، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خصوصا: محمد بن عبيد، وعبد القادر العديلي، وابنه، وعبد الله بن سحيم، وعبد الله بن عضيب، وحميدان بن تركي وعلي بن زامل، ومحمد أبا الخيل، وصالح بن عبد الله.(2/39)
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى، أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام؛ وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته، هو: إخلاص الدين، لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك؛ وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم; فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له; ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له؛ وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له؛ وهذا معنى قول لا إله إلا الله ; فإن المألوه هو: المقصود، المعتمد عليه ; وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه. فمن عرف هذه المسألة، عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم.
والكلام في هذا: ينبني على قاعدتين عظيمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله، ويعظمونه، ويحجون، ويعتمرون; ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل; وأنهم يشهدون أنه لا يخلق، ويرزق ولا يدبر إلا الله وحده لا شريك له; كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] .
فإذا عرفت أن الكفار يشهدون بهذا كله، فاعرف(2/40)
القاعدة الثانية وهي: أنهم يدعون الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى، وعزير، وغيرهم; وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء، سماه إلها; ولا يعني بذلك، أنه يخلق، أو يرزق; بل يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . والإله في لغتهم، هو الذي يسمى في لغتنا: فيه السر; والذي يسمونه الفقراء: شيخهم; يعنون بذلك: أنه يدعى، وينفع، ويضر; وإلا فهم مقرون لله بالتفرد بالخلق، والرزق; وليس ذلك معنى الإله، بل الإله المقصود: المدعو، المرجو.
لكن المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء; وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] . والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة.
إذا عرفتم هذا، فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي، كالزبير، وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح وهذا يدعوه في الضراء، وفي غيبته; وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا، والآخرة.(2/41)
فإن كنتم تعرفون أن هذا الشرك من جنس عبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر، والبحر، وشاع، وذاع، حتى إن كثيرا ممن يفعله يقوم الليل، ويصوم النهار، وينتسب إلى الصلاح، والعبادة"فما بالكم لم تفشوه في الناس؟ وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله، مخرج عن الإسلام.
أرأيتم لو أن بعض الناس، أو أهل بلدة، تزوجوا أخواتهم، أو عماتهم، جهلا منهم، أفيحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتركهم؟ لا يعلمهم أن الله حرم الأخوات، والعمات؟ فإن كنتم تعتقدون أن نكاحهن أعظم مما يفعله الناس اليوم عند قبور الأولياء والصحابة، وفي غيبتهم عنها، فاعلموا أنكم لم تعرفوا دين الإسلام، ولا شهادة أن لا إله إلا الله، ودليل هذا مما تقدم من الآيات التي بينها الله في كتابه; وإن عرفتم ذلك، فكيف يحل لكم كتمان ذلك، والإعراض عنه؟ وقد {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] .
فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم هزوا وجهلا، كما هي عادتكم، ولا تقبلونه، فانظروا في: الإقناع، في باب حكم المرتد، وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها فقد ارتد، وحل دمه، مثل: الاعتقاد في الأنبياء والصالحين. وجعلهم: وسائط بينه وبين الله، ومثل الطيران في الهواء، والمشي في الماء، فإذا كان من(2/42)
فعل هذه الأمور منكم، مثل: السائح الأعرج، ونحوه، تعتقدون صلاحه، وولايته; وقد صرح في الإقناع، بكفره; فاعلموا أنكم لم تعرفوا معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
فإن بان في كلامي هذا شيء من الغلو، من أن هذه الأفاعيل، لو كانت حراما فلا تخرج من الإسلام، وأن فعل أهل زماننا في الشدائد، في البر، والبحر، وعند قبور الأنبياء والصالحين ليس من هذه، بينوا لنا الصواب، وأرشدونا إليه.
وإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له; وعسى الله أن يهدينا وإياكم، وإخواننا، لما يحب ويرضى، والسلام.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى، بعد كلام له:
وأما النوع الثاني: فهو الكلام في الشرك والتوحيد، وهو المصيبة العظمى، والداهية الصماء; والكلام على هذا النوع، والرد على هذا الجاهل: يحتمل مجلدا، وكلامه فيه، كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا قرأه المؤمن تارة يبكي، وتارة يضحك!!.(2/43)
ولكن أنبهك منه على كلمتين; الأولى: قوله: إنهما نسبا من قبلهما إلى الخروج من الإسلام، والشرك الأكبر أفيظن أن قوم موسى لما قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، خرجوا من الإسلام؟ أفيظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط فحلف لهم أن هذا مثل قول قوم موسى: اجعل لنا إلها، أنهم خرجوا من الإسلام؟ أيظن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعهم يحلفون بآبائهم فنهاهم وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك "1 أنهم خرجوا من الإسلام؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر، فلم يفرق بين الشرك المخرج عن الملة، من غيره، ولم يفرق بين الجاهل والمعاند.
والكلمة الثانية: قوله: إن المشرك لا يقول: لا إله إلا الله، فيا عجبا من رجل يدعي العلم، وجاء من الشام بحمل كتب، فلما تكلم إذا أنه لا يعرف الإسلام من الكفر; ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين مسيلمة الكذاب.
أما علم أن مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويصوم أما علم أن غلاة الرافضة الذين حرقهم علي رضي الله عنه يقولونها؟! وكذلك الذين يقذفون عائشة، ويكذبون القرآن; وكذلك الذين يزعمون أن جبرائيل غلط وغير هؤلاء، ممن أجمع أهل العلم على كفرهم; منهم من ينتسب إلى الإسلام،
__________
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) .(2/44)
ومنهم: من لا ينتسب إليه، كاليهود؛ وكلهم يقولون: لا إله إلا الله وهذا بين عند من له أقل معرفة بالإسلام، من أن يحتاج إلى تبيان.
وإذا كان المشركون لا يقولونها، فما معنى: باب حكم المرتد الذي ذكر الفقهاء من كل مذهب؟ هل الذين ذكرهم الفقهاء، وجعلوهم مرتدين، لا يقولونها؟ هل الذي ذكر أهل العلم أنه أكفر من اليهود، والنصارى وقال بعضهم: من شك في كفر أتباعه، فهو كافر; وذكرهم في الإقناع في: باب حكم المرتد; وإمامهم: ابن عربي، أيظنهم لا يقولون: لا إله إلا الله؟! لكن هو أتى من الشام، وهم يعبدون ابن عربي، جاعلين على قبره صنما يعبدونه، ولست أعني أهل الشام كلهم، حاشا وكلا; بل لا تزال طائفة على الحق، وإن قلّت، واغتربت.
لكن العجب العجاب، استدلاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول: لا إله إلا الله ولم يطالبهم بمعناها، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الأعاجم، وقنعوا منهم بلفظها، إلى آخر كلامه. فهل يقول هذا الكلام من يتصور ما يقول؟ !.
فنقول، أولا: هو الذي نقض كلامه وكذبه، بقوله دعاهم إلى ترك عباده الأوثان، فإذا كان لم يقنع منهم إلا بترك عبادة الأوثان، تبين أن النطق بها لا ينفع إلا بالعمل بمقتضاها، وهو: ترك الشرك، وهذا هو المطلوب; ونحن(2/45)
إنما نهينا عن الأوثان المجعولة على قبر الزبير، وطلحة، وغيرهما، في الشام، وغيره.
فإن قلتم: ليس هذا من الأوثان، وإن دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم في الشدائد، ليست من الشرك، مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله في الشدائد، ولا يدعون أوثانهم، فهذا كفر; وبيننا وبينكم كلام العلماء، من الأولين، والآخرين، الحنابلة وغيرهم.
وإن أقررتم أن ذلك كفر وشرك، وتبين أن قول: لا إله إلا الله، لا ينفع إلا مع ترك الشرك، فهذا هو المطلوب، وهو الذي نقول، وهو الذي أكثرتم النكير فيه، وزعمتم أنه لا يخرج إلا من خراسان; وهذا القول، كما في أمثال العامة: لا وجه سمح، ولا بنت رجال; لا أقول صواب، بل خطأ ظاهر، وسب لدين الله; وهو أيضا متناقض، يكذب بعضه بعضا، لا يصدر إلا ممن هو أجهل الناس.
وأما دعواه: أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم إلا مجرد هذه الكلمة، ولم يعرفوهم بمعناها، فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين، ودين المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار; فإن المؤمنين يقولونها، والمنافقين يقولونها، لكن المؤمنون: يقولونها، مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها، والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها; فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين(2/46)
الصحابة والمنافقين. لكن هذا لا يعرف النفاق، ولا يظنه في أهل زماننا، بل يظنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما زمانه فصلح بعد ذلك! وإذا كان زمانه وبلدانه ينزهون عن البدع، ومخرجها من أهل خراسان، فكيف بالشرك والنفاق؟! ويا ويح هذا القائل، ما أجرأه على الله! وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم! حيث ظن أنهم لا يعلمون الناس معنى لا إله إلا الله.
أما علم هذا الجاهل أنهم يستدلون بها على مسائل الفقه، فضلا عن مسائل الشرك; ففي الصحيحين: "أن عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها "1 قال أبو بكر: فإن الزكاة من حقها"; فإذا كان منع الزكاة من منع حق: لا إله إلا الله، فكيف بعبادة القبور؟ والذبح للجن؟ ودعاء الأولياء وغيرهم، مما هو دين المشركين؟!.
وصرح الشيخ تقي الدين في: اقتضاء الصراط المستقيم، بأن من ذبح للجن، فالذبيحة حرام من جهتين: من جهة: أنها مما أهل لغير الله به; ومن جهة: أنها ذبيحة مرتد، فهي: كخنزير مات من غير ذكاة; ويقول: ولو سمى الله عند ذبحها، إذا كانت نيته ذبحها للجن، ورد على من قال: إنه إن ذكر اسم الله حل الأكل منها مع
__________
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/300 ,3/332 ,3/394) .(2/47)
التحريم.
وأما ما سألت عنه، من قوله: اللهم صل على محمد إلى آخره فهذه المحامل التي ذكر غير بعيدة، لو كان الإنكار على الرجل الميت الذي صنفها; والإنكار إنما هو على الخطباء والعامة الذين يسمعون; فإن كان يزعم أن عامة أهل هذه القرى، كل رجل منهم يفهم هذا التأويل، فهذا مكابرة; وإن كان يعرف أنهم ما قصدوا إلا المعاني التي لا تصلح إلا لله، لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أنه شرك لكون الذي قالها أولا، قصد معنى صحيحا.
كما لو أن رجلا من أهل العلم كتب إلى عامية أن نكاح الأخوات حلال ففهموا منه ظاهره، وجعلوا يتزوجون أخواتهم، خاصتهم وعامتهم لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أن الله حرم نكاح الأخوات، لكون القائل أراد الأخوات في الدين، كما قال إبراهيم" عليه السلام" لسارة: هي أختي; وهذا واضح بحمد الله، ولكن من انفتح له تحريف الكلم عن مواضعه، انفتح له باب طويل عريض.(2/48)
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى علماء الإسلام في الفتنة بالقبور]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام، من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير; مثل: عبادة غير الله، وتوابع ذلك، من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور، وعبادتها، واتخاذها مساجد، وغير ذلك، مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة، وقطع المعذرة; ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "1.
فلما عظم العوام قطع عاداتهم; وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم، وهو من أبعد الناس عنه" إذ العالم من يخشى الله" فأرضى الناس بسخط الله; وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم، وصدهم عن إخلاص الدين لله; وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين; وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب ليس له من الأمر شيء،
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(2/49)
قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه; وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله; قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء; والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون.
وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله، وكتابه ودينه; ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.
فأما كلام الحنابلة: فقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله، لما ذكر حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام، من مرق منه، مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة، قد يمرق أيضا; وذلك بأمور، منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه.(2/50)
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني; أو أنت حسبي أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل; فإن الله أرسل الرسل ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، أو المسيح، أو العزير، أو الصالحين، أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق; وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، انتهى.
وقال في الإقناع، في أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، فهو كافر إجماعا.
وأما كلام الحنفية: فقال الشيخ قاسم في شرح: درر البحار: النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا وكذا، باطل إجماعا، لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق، لا يجوز، ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر; إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي.(2/51)
وقال الإمام البزازي في فتاويه: إذا رأى رقص صوفية زماننا هذا في المساجد، مختلطا بهم جهال العوام الذين لا يعرفون القرآن، والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة: اتخذوا دينهم لهوا ولعبا. فويل للقضاة والحكام، حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم.
وأما كلام الشافعية: فقال الإمام محدث الشام: أبو شامة، في كتاب: الباعث على إنكار البدع والحوادث" وهو في زمن الشارح، وابن حمدان:" لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخاة، النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم.
وأطال رحمه الله الكلام، إلى أن قال: وبهذه الطرق، وأمثالها كان مباديء ظهور الكفر من عبادة الأصنام، وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط; وفي مدينة دمشق، صانها الله من ذلك، مواضع متعددة.(2/52)
ثم ذكر" رحمه الله" الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاله له بعض من معه: " اجعل لنا ذات أنواط، قال: الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} " 1 انتهى كلامه ورحمه الله.
وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها.
وأما كلام المالكية: فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع، لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط، فاقطعوها; وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "2.
قال في البخاري، عن أبي الدرداء أنه قال: (والله ما أعرف من أمر محمد شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا) . وروى: مالك، في الموطأ، عن بعض الصحابة، أنه قال: (ما أعرف
__________
1 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) .
2 الترمذي: العلم (2676) , وأبو داود: السنة (4607) , وابن ماجه: المقدمة (42) , وأحمد (4/126) , والدارمي: المقدمة (95) .(2/53)
شيئا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة) . قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي ... فقال: (ما أعرف شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة; وهذه الصلاة، قد ضيعت) ; قال الطرطوشي" رحمه الله:" فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة; فما ظنك بزمانك هذا؟! والله المستعان.
وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم" أعزهم الله" أن الكلام في مسألتين: الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك; وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله، فهو يشبه النصارى; وعيسى عليه السلام بريء منهم.
والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء; فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/54)
[إخلاص الدين واتباع السنة]
وله أيضا: رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الر حيم
إلى من يصل إليه من المسلمين، هدانا الله وإياهم لدينه القويم، وسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإياهم ملة الخليلين: محمد، وإبراهيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [سورة الشورى آية: 13] إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية [سورة الشورى آية: 13] . فيجب على كل إنسان يخاف الله والنار أن يتأمل كلام ربه الذي خلقه، هل يحصل لأحد من الناس أن يدين الله بغير دين النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [سورة النساء آية: 115] . ودين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد; وهو معرفة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والعمل بمقتضاهما.(2/55)
فإن قيل: كل الناس يقولونها، قيل: منهم من يقولها ويحسب معناها، أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، وأشباه ذلك; ومنهم من لا يفهم معناها ومنهم من لا يعمل بمقتضاها; ومنهم: من لا يعقل حقيقتها; وأعجب من ذلك: من عرفها من وجه، وعاداها وأهلها من وجه; وأعجب منه: من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها. وأعدائها; يا سبحان الله العظيم! تكون طائفتان مختلفتين في دين واحد، وكلهم على الحق! كلا والله {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] .
فإذا قيل: التوحيد زين، والدين حق، إلا التكفير والقتال; قيل: اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير، والقتال; فإن كان حق التوحيد الإقرار به، والإعراض عن أحكامه، فضلا عن بغضه ومعاداته، فهذا والله عين الكفر وصريحه; فمن أشكل عليه من ذلك شيء فليطالع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه; والسلام عائد عليكم، كما بدا، ورحمة الله وبركاته.(2/56)
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عيسى في قبوله كتب أهل الباطل]
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى: عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو؛ وأبلغوا الوالد السلام، وفي نفسي عليه بعض الشيء من جهة هذه المكاتيب، لما حبسها عنا ظننا فيه الظن الجميل، ثم بعد ذلك سمعنا أنه أعطاها بعض السفهاء، يقرؤونها على الناس; وأنا أعتقد فيه المحبة; واعتقد أيضا أن له غاية وعقلا; وهو صاحب إحسان علينا، فلا أود يعقبه بالأذى، ويكدر هذه المحبة بلا منفعة في العاجل والآجل.
وذكر أيضا عنه كلام يشوش الخاطر؛ فإن كان يرى أن هذا ديانة، ويعتقده من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة، وأشهد الله وملائكته إن أتاني منه، أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين، وأترك قول كل إمام اقتديت به، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يفارق(2/57)
الحق; فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان، وزخرفة كلامهم، الذي أوحى إليهم" ليجادل في دين الله، لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه" غرته وأصغت إليها أفئدتكم، فاذكروا لي حجة، مما فيها أو كلها، أو في غيرها من الكتب، مما تقدرون عليه أنتم ومن وافقكم، فإن لم أجاوبه عنها بجواب فاصل بين، يعلم كل من هداه الله أنه الحق، وأن تلك هي الباطل، فأنكروا علي.
وكذلك: عندي من الحجج الكثيرة الواضحة، ما لا تقدرون أنتم ولا هم أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقاة جند الله ورسوله؟ وإن كنتم تزعمون: أن أهل العلم على خلاف ما أنا عليه، فهذه كتبهم موجودة، ومن أشهرهم وأغلظهم كلاما: الإمام أحمد، وكلهم على هذا الأمر، لم يشذ منهم رجل واحد ولله الحمد، ولم يأت منهم كلمة واحدة أنهم أرخصوا لمن لم يعرف الكتاب والسنة في أمركم هذا، فضلا عن أن يوجبوه.
وإن زعمتم: أن المتأخرين معكم، فهؤلاء سادات المتأخرين وقادتهم: ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، عندنا له مصنف مستقل في هذا; ومن الشافعية الذهبي، وابن كثير، وغيرهم; وكلامهم في إنكار هذا أكثر من أن يحصر; وبعض كلام الإمام أحمد ذكره ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية، فراجعه. ومن أدلة شيخ(2/58)
الإسلام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] ، فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه، وهو الذي سماه الله شركا واتخاذهم أربابا، لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا.
والحاصل: أن من رزقه الله العلم، يعرف أن هذه المكاتيب التي أتتكم، وفرحتم بها، وقرأتموها على العامة، من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام آية: 112] ، إلى قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [سورة الأنعام آية: 113] ، لكن هذه الآيات ونحوها عندكم من العلوم المهجورة; بل أعجب من هذا: أنكم لا تفهمون شهادة: أن لا إله إلا الله، ولا تنكرون هذه الأوثان، التي تعبد في الخرج، وغيره، التي هي الشرك الأكبر، بإجماع أهل العلم، وأنا لا أقول هذا وحدي 1.
__________
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى نغميش في اتباع الدين]
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى: نغيمش، وجميع الإخوان; سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: إن
1 آخر ما وجد.(2/59)
سألتم عنا، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونخبركم أنا بخير وعافية، أتمها الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة; وسرنا والحمد لله ما بلغنا عنكم من الأخبار، من الاجتماع على الحق، والاتباع لدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا هو أعظم النعم المجموع لصاحبه بين خيري الدنيا والآخرة، عسى الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويرزقنا الثبات عليه.
ولكن، يا إخواني: لا تنسوا قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 20] ، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 2"3] .
فإذا تحققتم أن من اتبع هذا الدين، لا بد له من الفتنة; فاصبروا قليلا، ثم أبشروا عن قليل، بخير الدنيا والآخرة، واذكروا قول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر آية: 51] ، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين َإِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات آية: 171"173] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة المجادلة آية: 20"21] .(2/60)
فإن رزقكم الله الصبر على هذا، وصرتم من الغرباء الذين تمسكوا بدين الله مع ترك الناس إياه، فطوبى ثم طوبى، إن كنتم ممن قال فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس "1. فيا لها من نعمة! ويا لها من عظيمة! جعلنا الله وإياكم من أتباع الرسول، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، الذي يرده من تمسك بدينه في الدنيا; ثم أنتم في أمان الله وحفظه، والسلام.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أحمد بن يحيى وذكره مخالفيه]
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن يحيى، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته.
وبعد: ما ذكرت من قبل مراسلة سليمان، فلا ينبغي أنها تغضبك، أولا: أنه لو خالف، فمثلك يحلم ; ولا يأتي بغايته هذا، ولا أكثر منه; وثانيا: أنك إذا عرفت أن كلامه ما له فيه قصد، إلا الجهد في الدين، ولو صار مخطئا فالأعمال بالنيات; والذي هذا مقصده يغتفر له، ولو جهل عليك، ونحن: ملزمون عليك لزمة جيدة; وربك ونبيك ودينك لزمتهم لزمة تتلاشى فيها كل لزمة; وهذه الفتنة الواقعة
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(2/61)
ليست في مسائل الفروع التي ما زال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير، ولكن هذه في شهادة أن لا إله إلا الله، والكفر بالطاغوت.
ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة، ليسوا بالعامة; هذا ابن إسماعيل، والمويس، وابن عبيد، جاءتنا كتبهم في إنكار دين الإسلام الذي حكى في الإقناع، في باب حكم المرتد الإجماع من كل المذاهب، أن من لم يدن به فهو كافر; وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن، وما زادهم ذلك إلا نفورا. وزعموا أن أهل العارض، ارتدوا لما عرفوا شيئا من التوحيد! وأنت تفهم أن هذا لا يسعك، الاكتفاء بغيرك فيه، فالواجب عليك نصر أخيك، ظالما أو مظلوما.
وإن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة، فلا تعذر لا عند الله ولا عند خلقه، من الدخول في هذا الأمر; فإن كان الصواب معنا، فالواجب عليك الدعوة إلى الله، وعداوة من صرح بسب دين الله ورسوله ; وإن كان الصواب معهم، أو معنا شيء من الحق وشيء من الباطل أو معنا غلو في بعض الأمور، فالواجب منك مذاكرتنا ونصيحتنا، وترينا عبارات أهل العلم، لعل الله أن يردنا بك إلى الحق; وإن كان إذا حررت المسألة، إذا أنها من مسائل الاختلاف، وأن فيها خلافا عند الحنفية، أو الشافعية، أو المالكية، فتلك مسألة أخرى.(2/62)
وبالجملة: فالأمر عظيم، ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلامهم، ثم تعرضه على كلام أهل العلم، ثم تبين في الدعوة إلى الحق، وعداوة من حاد الله ورسوله، منا أو من غيرنا، والسلام.
[ما يجب علينا من معرفة الله]
وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
قال السائل: ما يقول الشيخ، شرح الله له صدره، ويسر له أمره، في مسائل أشكلت علي، فيما يجب علينا من معرفة الله، إذا كان موجب الإلهية الربوبية، وأراك قليل التعريج عليها، عند تقرير الإلهية؟
ويشكل علي أيضا: كون مشركي العرب، أقروا به; هل يكون من غير معرفة لوضوحه؟ أم توغلوا في التقليد، ولم يلتفتوا للحقيقة الموجبة للعبادة؟ أم زعمهم: أن هذا شيء يرضاه الرب؟ أم كيف الحال؟
أيضا: كلمة التوحيد، كونها محتوية على جميع الدين، من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وأنها نافية جميع المقصودات المسماة بالآلهة الباطلة، إذ حدها القصد، فتسمى بذلك من غير استحقاق، لأنها مخلوقة مربوبة مقهورة، والواحد في القصد هو الواحد في الخلق; وإن تكلم الناس في معناها وعملها، وأن ألفاظها مجردة من غير معرفة لا يفيد شيئا، لكن نظرت في حديث الشفاعة الكبرى،(2/63)
عند قوله سبحانه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [سورة الإسراء آية: 79] ، وإخراجه العصاة من أمته بإذن ربه، حتى قال: "أذن لي فيمن قال لا إله إلا الله"1 هذا مشكل علي جدا، وقاصر فهمي عن معرفته، إذا كان كلمة التوحيد هي الغاية، وتقييدها بالمعرفة مع العمل، وإخراجه صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان; فأنت" جزاك الله خيرا" بين لي معنى هذا الكلام، لا أضل ولا أضل.
وأخبرك: أني غافل عن الفهم في الربوبية، ما فهمي بجيد في الإلهية، فحين بان لي شيء من معرفتها، واتضح لي بعض المعرفة في الإلهية بضرب المثل: إن فيصل ما استعبد لعريعر إلا لأجل كبر ملك عريعر، مع أنه قبيل له، وأظن غالب الناس كذلك، وفيهم من لا يرى الربوبية، ولا يعتبرها، أو يتهاون بها، وهذا تسمعه من بعضهم، فجزاك الله خيرا، صرح بالجواب.
فأجاب:
بسم الله الرحمن الر حيم، إلى الأخ، حسن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سرني ما ذكرت من الإشكال، وانصرافك إلى الفكرة في توحيد الربوبية، ولا يخفاك أن التفصيل يحتاج إلى أطول، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله. فأما توحيد الربوبية، فهو: الأصل، ولا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى فيمن أقر بمسألة منه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
__________
1 البخاري: التوحيد (7510) .(2/64)
يُؤْفَكُونَ} [سورة الزخرف آية: 87] .
ومما يوضح لك الأمر أن التوكل من نتائجه، والتوكل من أعلى مقامات الدين، ودرجات المؤمنين; وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرفته بالربوبية، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية [سورة الزمر آية: 8] ؛ وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائما، في الشدة والرخاء، فلا يعرفونها، وهي نتيجة الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب، والرسل وغير ذلك; وأما الصبر والرضى، والتسليم والتوكل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرجاء، فمن نتائج توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الإلهية، هو أشهر نتائج توحيد الربوبية; وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر، لا بالمطالعة، وفهم العبارة.
وأما الفرق بينهما: فإن أفرد أحدهما مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، فهو توحيد الإلهية، وكذلك إذا أفرد توحيد الإلهية، مثل قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وأمثال ذلك; فإن قرن بينهما، فسرت كل لفظة بأشهر معانيها، كالفقير، والمسكين. وأما ما ذكرت من أهل الجاهلية: كيف لم يعرفوا الإلهية إذا أقروا بالربوبية؟ هل هو كذا؟ أو كذا؟ أو غير ذلك؟ فهو لمجموع ما ذكرت، وغيره.
وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات، ثم(2/65)
يشرح البردة، ويستحسنها، ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه! هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا نارا، ولا رسولا، ولا إلها; وأما كون لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك.
وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول: الأعمال كلها من لا إله إلا الله، فقوله الحق; والذي يقول: يخرج من النار من قالها، وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق؛ السبب مما ذكرت لك، من التجزي; وبسبب الغفلة عن التجزي، غلط أبو حنيفة، وأصحابه في زعمهم، أن الأعمال ليست من الإيمان، والسلام.
[التوحيد ثلاثة أصول]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه.
بسم الله الرحمن الر حيم،، وبه نستعين. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فاعلم رحمك الله، أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] والعبادة هي:(2/66)
التوحيد، لأن الخصومة بين الأنبياء والأمم فيه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
التوحيد: ثلاثة أصول، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الذات والأسماء والصفات.
الأصل الأول: توحيد الربوبية، وهو: الذي أقر به المشركون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم، وهو: توحيد الله بفعله، والدليل عليه، قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ? قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] ، والآيات على هذا كثيرة جدا، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
والأصل الثاني: وهو توحيد الألوهية، فهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر،(2/67)
والذبح، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم; فدليل الدعاء، قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية [سورة غافر آية: 60] ، وكل نوع من هذه الأنواع، عليه دليل من القرآن.
وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 158] ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] ، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} الآية [سورة الحج آية: 62] ، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [سورة الحشر آية: 7] ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] .
الأصل الثالث: وهو توحيد الذات والأسماء والصفات كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1"4] ، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ(2/68)
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 180] ، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
واعلم: أن ضد التوحيد الشرك، وهو ثلاثة أنواع شرك أكبر; وشرك أصغر; وشرك خفي.
والدليل على الشرك الأكبر، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 116] ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] .
وهو: أربعة أنواع.
النوع الأول: شرك الدعوة، والدليل عليه، قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65"66] .
النوع الثاني: شرك النية، وهي: الإرادة والقصد; والدليل عليه، قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15"16] .(2/69)
النوع الثالث: شرك الطاعة، والدليل عليه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، هو طاعة العلماء والعباد، في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، لما سأله فقال لسنا نعبدهم فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية.
النوع الرابع: شرك المحبة، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] .
والنوع الثاني: شرك أصغر، وهو الرياء، والدليل عليه، قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
والنوع الثالث: شرك خفي، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفاة السوداء في ظلمة الليل"1 وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ".
والكفر: كفران، كفر يخرج من الملة، وهو: خمسة أنواع.
__________
1 أحمد (4/403) .(2/70)
النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل عليه، قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة العنكبوت آية: 68] .
النوع الثاني: كفر الاستكبار، والإباء، مع التصديق; والدليل عليه، قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 34] .
النوع الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل عليه، قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [سورة الكهف آية: 35"37] .
النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل عليه، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [سورة الأحقاف آية: 3] .
النوع الخامس: كفر النفاق، الدليل عليه، قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [سورة المنافقون آية: 3] . وكفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو: كفر النعمة; والدليل عليه، قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الآية [سورة النحل آية: 112] ، وقوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة إبراهيم آية: 34] .(2/71)
وأما النفاق، فهو: نوعان; نفاق اعتقادي، ونفاق عملي.
فأما الاعتقادي، فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية لانتصار دين الرسول; فهذه الأنواع الستة، صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار; نعوذ بالله من الشقاق، والنفاق.
وأما النفاق العملي فهو خمسة أنواع; إذا حدث كذب; وإذا خاصم فجر; وإذا عاهد غدر; وإذا ائتمن خان; وإذا وعد أخلف; والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
[أنواع التوحيد]
وسئل أيضا: رحمه الله تعالى، عن توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الصفات؟
فأجاب: توحيد الربوبية: هو الذي أقر به الكفار، كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وأما توحيد الألوهية، فهو: إخلاص العبادة لله وحده من(2/72)
جميع الخلق، لأن الإله في كلام العرب، هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين، والملائكة، وغيرهم; يقولون: إن الله يرضى هذا، ويشفعون لنا عنده.
فإذا عرفت هذا معرفة جيدة، تبين لك غربة الدين; وقد استدل عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على بطلان مذهبهم، لأنه إذا كان هو المدبر وحده، وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة، فكيف يدعونه ويدعون معه غيره، مع إقرارهم بهذا.
وأما توحيد الصفات: فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية، إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار أعقل ممن أنكر الصفات، والله أعلم.
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
أصل الحنيفية: عبادة الله وحده لا شريك له، وتجنب الشرك، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ، ومغلظ الكفر: الكبر، والشرك; فإن كان الإنسان ما عبد الله، فهو مستكبر، مثل ما يقع من غالب البدو، من التهزى بالوضوء والصلاة; فإن كان عبد الله، وعبد معه غيره، فهو مشرك، مثل ما يقع من كثير من العباد، مثل النصارى وجنسهم، ولكن فيهم رقة.
فإذا عرفت هذا، وعرفت ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم من سد(2/73)
الذرائع، مثل كونه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ونهى المصلي أن لا يصمد للسترة، وألا يستقبل النار، ونهى المأمومين عن القيام إذا صلى الإمام جالسا، وأمرهم بالجلوس وغير ذلك.
فإذا عرف الإنسان أنه أمر بالجلوس إذا جلس الإمام، والإخلال بالركن لأجل المشابهة لما يفعله الكفار لعظمائهم، ونظر لما يجري من الناس من التكبر، والقيام والخضوع، وغير ذلك، عرف نفسه، وعرف ربه، وما يجب له من الحقوق، لعله واقع في شيء من هذا.
وعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئا ينفع أمته إلا أمرهم به، ولا شيئا يضرهم إلا نهاهم عنه، وكذلك كونه يعرف أن أصل الشرك الاعتقاد في الصالحين وغيرهم، وهو الذي فارق النبي صلى الله عليه وسلم قومه، وقاتلهم عنده.
وقال رحمه الله تعالى:
إذا أمر الله العبد بأمر، وجب عليه فيه سبع مراتب: الأولى: العلم به; الثانية: محبته; الثالثة: العزم على الفعل; الرابعة: العمل; الخامسة: كونه يقع على المشروع خالصا صوابا; السادسة: التحذير من فعل ما يحبطه; السابعة: الثبات عليه.
إذا عرف الإنسان أن الله أمر بالتوحيد، ونهى عن الشرك; أو عرف أن الله أحل البيع، وحرم الربا; أو(2/74)
عرف أن الله حرم أكل مال اليتيم، وأحل لوليه أن يأكل بالمعروف إن كان فقيرا، وجب عليه أن يعلم المأمور به، ويسأل عنه إلى أن يعرفه، ويعلم المنهي عنه، ويسأل عنه إلى أن يعرفه.
واعتبر ذلك بالمسألة الأولى، وهي: مسألة التوحيد، والشرك.
أكثر الناس علم أن التوحيد حق، والشرك باطل، ولكن أعرض عنه ولم يسأل، وعرف أن الله حرم الربا، وباع واشترى ولم يسأل، وعرف تحريم أكل مال اليتيم، وجواز الأكل بالمعروف، ويتولى، مال اليتيم ولم يسأل.
المرتبة الثانية: محبة ما أنزل الله، وكفر من كرهه، لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] . فأكثر الناس لم يحب الرسول، بل أبغضه، وأبغض ما جاء به ولو عرف أن الله أنزله.
المرتبة الثالثة: العزم على الفعل; وكثير من الناس عرف وأحب، ولكن لم يعزم، خوفا من تغير دنياه.
المرتبة الرابعة: العمل، وكثير من الناس إذا عزم أو عمل وتبين عليه من يعظمه من شيوخ أو غيرهم"ترك العمل.
المرتبة الخامسة: أن كثيرا ممن عمل، لا يقع خالصا، فإن وقع خالصا، لم يقع صوابا.
المرتبة السادسة: أن الصالحين يخافون من حبوط(2/75)
العمل، لقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات آية: 2] ، وهذا من أقل الأشياء في زماننا.
المرتبة السابعة: الثبات على الحق، والخوف من سوء الخاتمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، ويختم له بعمل أهل النار "1، وهذه أيضا: من أعظم ما يخاف منه الصالحون; وهي قليل في زماننا، فالتفكر في حال الذي تعرف من الناس، في هذا وغيره، يدلك على شيء كثير تجهله، والله أعلم.
[مفهوم التوحيد الذي فرض الله على عباده]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
اعلم رحمك الله: أن التوحيد الذي فرض الله على عباده، قبل الصلاة والصوم، هو: توحيد عبادتك، فلا تدعو إلا الله وحده لا شريك له، لا تدعو النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره; كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
واعلم أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، صفة إشراكهم أنهم يدعون الله، ويدعون معه الأصنام، والصالحين، مثل عيسى، وأمه، والملائكة; يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله; وهم يقرون أن الله سبحانه، هو:
__________
1 البخاري: القدر (6594) , ومسلم: القدر (2643) , والترمذي: القدر (2137) , وأبو داود: السنة (4708) , وابن ماجه: المقدمة (76) , وأحمد (1/382 ,1/414 ,1/430) .(2/76)
النافع، الضار، المدبر; كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الآية [سورة يونس آية: 31] .
فإذا عرفت هذا وعرفت أن دعاءهم الصالحين، وتعلقهم عليهم، أنهم يقولون: ما نريد إلا الشفاعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليخلصوا الدعاء لله، ويكون الدين كله لله; وعرفت أن هذا هو التوحيد، الذي أفرض من الصلاة والصوم، ويغفر الله لمن أتى به يوم القيامة، ولا يغفر لمن جهله ولو كان عابدا. وعرفت أن ذلك هو الشرك بالله، الذي لا يغفر الله لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنى، وقتل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله.
ثم مع هذا عرفت أمرا آخر، وهو أن أكثر الناس" مع معرفة هذا الدين" يسمعون العلماء في سدير، والوشم، وغيرهم، إذا قالوا: نحن موحدون الله، نعرف ما ينفع ولا يضر إلا الله، وأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وعرفت أنهم لا يعرفون من التوحيد إلا توحيد الكفار، توحيد الربوبية، عرفت عظم نعمة الله عليك، خصوصا إذا تحققت أن الذي يواجه الله، ولا عرف التوحيد، أو عرفه ولم يعمل به، أنه خالد في النار، ولو كان من أعبد الناس، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/77)
وله أيضًا: تقريب الله التوحيد، بالعقل، والنقل والأئمة، والأدلة المصرفة.
فأما العقل: فكون الإنسان الذي في عقله أنك تلجأ إلى الحي، ولا تلجأ إلى الميت، وتطلب الحاضر، ولا تطلب الغائب، وتطلب الغني ولا تطلب الفقير; وأما النقل: ففي القرآن أكثر من أربعين مثلا; والأئمة مثل ما يعرف: أن الناس متعلقة قلوبهم باتباع العلماء، ويقال من أكبر الأئمة; ومعلوم أنه محمد، وإبراهيم، عليهما السّلام.
فأما إبراهيم، فكما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [سورة البقرة آية: 124] ، لما جعله الله إماما، معلوم أنه في التوحيد، وما جرى عليه من قومه، أوقدوا له نارا، إذا مر الطير من فوقها سقط فيها.
ومحمد صلى الله عليه وسلم فأي شيء هو مرسل به؟ دعوة الصالحين، هو مرسل بهدمها أو يقيمها؟ أو هو ساكت عنها؟ لا قال شينة، ولا زينة؟! ومعلوم أنه ما تفارق هو وقومه إلا عندها. وأما الأدلة المصرفة: فبحر لا ساحل له، كل ما رأيت فهو يدل على الوحدانية.
[أربع قواعد في حال المشركين ينبغي فهمهن]
وقال رحمه الله تعالى:
هذه: أربع قواعد، ينبغي لكل إنسان يتأملهن، ويفهمهن فهم قلب يفيض عملهن على الجوارح.
الأولى: الإنسان إذا مات على ما علم من ألفاظ الصلاة(2/78)
فقط، هل معه دين يدخل به الجنة وينجيه من النار؟ أم لا؟
الثانية: هذه الحوادث عند المقامات ونحوها، هل هي توجد أو شيء منها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، والقرون المثنى عليهم؟ أم لا؟
الثالثة: هذا الذي يفعلونه عندها، من القصد، والتوجه، من إجابة الدعوات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، هل هو الذي يفعله مشركو العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عند اللات، والعزى، ومناة، سواء بسواء؟ أم لا؟
الرابعة: من فعل هذا، وهو مسلم مؤمن، هل يكفر ويحبط إيمانه بذلك؟ أم لا؟ فإن أشكلت عليك الأولى، فانظر، إلى سؤال الملكين في القبر، وقوله: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا، فقلته مثلهم; الثانية: إن قلت توجد، فعليك الإثبات; الثالثة: إن قلت القصد، غير القصد فعليك التفريق، بالأدلة الصحيحة، من كتاب أو سنة، أو إجماع الأمة; الرابعة: إن قلت، الإسلام: يحميه عن الكفر ولو فعل ما فعل، فطالع باب حكم المرتد، من الإقناع وغيره; والله أعلم.
[ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب في قوله لو أتيتني بقراب الأرض خطايا]
وقال رحمه الله تعالى:
ظهر لي في الحديث، في قوله:صلى الله عليه وسلم " لو أتيتني بقراب الأرض خطايا "1 إلخ، أن هذا فيه: تنبيه على جلالة التوحيد،
__________
1 الترمذي: الدعوات (3540) .(2/79)
وأن هذا من نوع التمثيل، كما ذكر في الشرك وكبره عند الله، في قوله تعالى في الأنبياء {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، لكون التوحيد يكفر الخطايا، كما أن الشرك يحبط الحسنات.
وقال أيضا، رحمه الله تعالى:
الواجب على كل عبد أن يعرف هذه المسائل:
المسألة الأولى: الرب الذي خلقنا ورزقنا لم يتركنا هملا لم يأمرنا، ولم ينهنا ; بل أرسل إلينا رسولا، من أطاعه فهو في الجنة، ومن عصاه فهو في النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [سورة المزمل آية: 15"16] .
المسألة الثانية: أن أعظم ما جاء به هذا الرسول من عند الله أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد غيره، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] .
المسألة الثالثة: أن من صدق الرسول، ووحد الله، ما يجوز له يواد من حاد الله ورسوله حتى يتوب من المحادة لله ورسوله، والدليل على ذلك، قوله تعالى. {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ(2/80)
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة آية: 22] .
فمن لم يعرف ربه، بمعنى معبوده، ودينه ورسوله الذي أرسله الله إليه بدلائله في الدنيا، ولم يعمل به، سئل عنه في القبر فلم يعرفه; ومن لم يعرفه في القبر، ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها الجن والإنس ما أطاقوا حملها.
ومن عرفه بدليله، وعمل به في الدنيا، ومات عليه، سئل في القبر فيجيب بالحق، فإنه ذكر في الحديث: " إن العبد المؤمن، أو الموقن، إذا وضع في قبره، سألته الملائكة عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه; فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وصدقنا، واتبعنا، فيقال له: نم صالحا، قد علمنا أنك مؤمن "1. وأعظم البينات الذي جاء به الرسول: كتاب الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 23] .
وأما المنافق والمرتاب، إذا سئل عن ذلك، يقول: " هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "2 فتعذبه الملائكة; فالحذر، الحذر، من ذلك! تفقهوا في دينكم قبل الموت، وصلى الله على محمد.
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4699) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2871) , والنسائي: الجنائز (2057) , وأبو داود: السنة (4753) , وأحمد (4/295) .
2 البخاري: العلم (86) , ومسلم: الكسوف (905) , وأحمد (6/345) , ومالك: النداء للصلاة (447) .(2/81)
وسئل أيضا: عن مسائل فأجاب:
الأولى: أن الله سبحانه، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد، وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ.
الثانية: أن العبادة التي شرعها الله تعالى كلها، تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة آية: 5] ؛ فإن دين الإسلام، هو دين الله، الذي أمر به الأولين والآخرين، كما قال تعالى" وهي: الثالثة" {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112] ، وفسر إسلام الوجه بما يقتضى الإخلاص; والإحسان: العمل الصالح، المأمور به; وهذان الأصلان جماع الدين; لا نعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع، بل بما شرع، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
الرابعة: أن هذين الأصلين هما تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله.
فالأولى: تتضمن إخلاص الألوهية، فلا يتأله القلب غيره، لا بحب، ولا خوف، ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكرام. والثانية: تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر; فلا حرام إلا ما حرم، ولا دين إلا ما شرع.(2/82)
ولهذا ذم الله تعالى المشركين، في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا ما لم يأذن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 45"46] . فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا الله بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤل إلى الشرك، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [سورة التوبة آية: 29] .
ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فمن استسلم له ولغيره، فهو مشرك; ومن لم يستسلم له، فهو مستكبر.
وقال أيضا:
الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان أنواع: النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له، الذي بعث الله به رسوله.
النوع الثاني: أن يدعو الله، ويدعو معه نبيا، أو وليا، ويقول: أريد شفاعته، وإلا فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلا الله. لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح لعله يشفع لي، فهذا الذي فعله المشركون، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/83)
حتى يتركوه، ولا يدعوا مع الله أحدا، لا لطلب شفع، ولا نفع.
النوع الثالث: أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك، أو بالأنبياء، أو الصالحين; فهذا ليس شركا، ولا نهينا الناس عنه; ولكن المذكور عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهم أنهم كرهوه، لكن ليس مما نختلف نحن، وغيرنا فيه.
وقال أيضا رحمه الله:
ذكر في السيرة، في استماع أبي جهل، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه معروف، يقول: هذا حق، وذكر الذي منعه، خوفه أن يصيروا تبعا لبني عبد مناف، والواقع: لو أن واحدا من الملوك، يقر أن هذا الدين حق، ولا يدع اتباعه، إلا خوف أن يزول ملكه، لوجدت النفوس تعذره.
الثانية: كونهم يخفون إقرارهم على عامة أهل مكة، مخافة أن يتبعوه، وأما أهل هذا الزمان، فكل مطوع شيطان، منطقه الله: أن التوحيد دين الله ورسوله، والشرك الذي هم يفعلون: دين الشيطان; ولا أحد يعي لقولهم.
وقال أيضا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب:
هذه: كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وأن(2/84)
محمدا رسول الله، وقد غلط أهل زماننا فيها، وأثبتوا لفظها دون معانيها، وقد يأتون بأدلة على ذلك، تلتبس على الجاهل المسكين، ومن ليس له معرفة في الدين، وذلك يفضي إلى أعظم المهالك.
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم "1 الحديث، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته: من أحق بها يوم القيامة؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "2 وقوله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "3، وكذلك حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله "4.
وهذه الأحاديث الصحيحة، إذا رآها هذا الجاهل، أو بعضها، أو سمعها من غيره، طابت نفسه وقرت عينه، واستفزه المساعد على ذلك، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك، فلو أنه دعا غير الله، أو ذبح له، أو حلف به، أو نذر له، لم ير ذلك شركا، ولا محرما، ولا مكروها، فإذا أنكر عليه أحد بعض ما ينافي التوحيد لله، والعمل بما أمر الله، اشمأز ونفر، وعارض بقوله: قال رسول الله، وقال رسول الله.
وهذالم يدر حقيقة الحال، فلو كان الأمر كما قال، لما قال الصديق رضي الله عنه في أهل الردة: (والله لو منعوني عناقا، أو قال عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم
__________
1 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) .
2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) .
3 أبو داود: الجنائز (3116) , وأحمد (5/233 ,5/247) .
4 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .(2/85)
عليه) ، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟
وما يصنع هذا الجاهل، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم، فإنهم شر قتيل تحت أديم السماء "1، أفيطن هذا الجاهل أن الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وقال صلى الله عليه وسلم (في هذه الأمة") ولم يقل: منها" " قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم "2.
وكذلك أهل حلقة الذكر"لما رآهم أبو موسى في المسجد، في كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة، هللوا مائة" الحديث" فلما أنكر عليهم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما أردنا إلا الخير; قال: (كم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا " أن قوما يقرءون القرآن، لا يجاوز حلوقهم، أو قال تراقيهم "3 وأيم الله لا أدري أن يكون فيكم أكثرهم) ، فما كان إلا قليلا، حتى رأوا أولئك يطاعنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النهروان، مع الخوارج; أفيظن هذا الجاهل المشرك، أنهم يشركون لكونهم يسبحون ويهللون ويكبرون؟
وكذلك المنافقون، على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون في سبيل الله، بأموالهم، وأنفسهم، ويصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، ويحجون معه، قال الله
__________
1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/81 ,1/131) .
2 البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) .
3 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم: الزكاة (1064) , وأحمد (3/60) .(2/86)
تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء آية: 145] ، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وكذلك قاتل النفس بغير الحق يقتل، أفيظن هذا الجاهل أنه لم يقل لا إله إلا الله، وأنه لم يقلها خالصا من قلبه؟
فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] ، حتى قال هؤلاء الجهلة ممن ينتسب إلى العلم والفقه: قبلتنا من أمها لا يكفر.
فلا إله إلا الله، نفي وإثبات الإلهية كلها لله: فمن قصد شيئا من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبي مرسل، لجلب نفع، وكشف ضر، فقد اتخذه إلها من دون الله; مكذب بلا إله إلا الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
فإن قال: هذا المشرك، لم أقصد إلا التبرك ; وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت، كما أخبر الله عنهم، أنهم لما جاوزوا البحر: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فأجابهم بقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الآيتين [سورة الأعراف آية: 138] .
وحديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة(2/87)
يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى" {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لتركبن سنن من كان قبلكم" وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] ، وفي الصحيح عن ابن عباس، وغيره: "كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره".
فيرجع هذا المشرك، يقول: هذا في الشجر، والحجر، وأنا أعتقد في أناس صالحين، أنبياء، وأولياء، أريد منهم الشفاعة، عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله; فقل له: هذا دين الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
وقد ذكر أناسا يعبدون المسيح، وعزيرا فقال الله: هؤلاء عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجونها، ويخافون عذابي، كما تخافونه; وأنزل الله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيتين [سورة الإسراء آية: 56] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا(2/88)
سُبْحَانَكَ} الآيتين [سورة سبأ آية: 40] .
والقرآن، بل والكتب السماوية، من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل عملا منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] ، وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية:22] . قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم " ما شاء الله وشئت، قال: اجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده "1 وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر" فسئل عنه فقال: الرياء "2.
وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض، من قبل قوم نوح، كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها، وسدانتها، وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، كما قص الله ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين.
__________
1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371) .
2 أحمد (5/428) .(2/89)
وكفى في معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون" قال الله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89] ، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] ، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] .
ولما أراد سبحانه إظهار توحيده وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهورا، وفي توراة موسى، وإنجيل عيسى مذكورا، إلى أن أخرج الله تلك الدرة بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل، وهداه إلى أقوم السبل.
فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات والدلالات على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصره، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، حين وضعتني، أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام "1.
وولد صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلة مولده، حتى سمع انشقاقه، وسقط أربع عشرة شرفة، وهو باق إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت
__________
1 أحمد (4/127) .(2/90)
بحيرة ساوة، وكانت بحيرة عظيمة في مملكة العراق، عراق العجم وهمدان، تسير فيها السفن، وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة، كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك، حتى بني مكان "ساوة" وباقية إلى اليوم.
وأرسلت الشهب على الشياطين، كما أخبر الله بقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الآية [سورة الجن آية: 9] . وأنبته الله نباتا حسنا، وكان أفضل قومه مروة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، حتى سماه قومه الأمين، لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة، والخصال المرضية.
ووصل بصرى من أرض الشام، مرتين، فرآه بحيرا الراهب فعرفه، وأخبر عمه أنه رسول الله، وأمر برده، فرده مع بعض غلمانه، وقال لعمه: احتفظ به، فلم نجد قدما أشبه من القدم الذي بالمقام من قدمه. واستمرت كفالة أبي طالب، كما هو مشهور، وبغضت إليه الأوثان، ودين قومه، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك.
والدليل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقل والنقل ; أما النقل: فواضح; وأما العقل: فنبه عليه القرآن; من ذلك: ترك الله خلقه بلا أمر، ولا نهي لا يناسب في حق الله، ونبه عليه في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ(2/91)
مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [سورة الأنعام آية: 91] .
ومنها أن قول الرجل: إني رسول الله، إما أن يكون خير الناس، وإما أن يكون شرهم وأكذبهم؛ والتمييز بين ذلك سهل، يعرف بأمور كثيرة; ونبه على ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الآيات [سورة الشعراء آية: 221] . ومنها: شهادة الله بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [سورة الرعد آية: 43] ، ومنها: شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم، كما في الآية.
ومنها:" وهي أعظم الآيات العقلية" هذا القرآن الذي تحداهم الله بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية، فنحن نعلمها من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم، وفصحائهم، وتكريره هذا، واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه، وإدخال الشبه على الناس؛ ومنها تمام ما ذكرنا، وهو إخباره سبحانه أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أعطوا من الفصاحة والكمال والعلوم.
ومنها: نصرة من اتبعه، ولو كانوا أضعف الناس، ومنها: خذلان من عاداه، وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم؟ ومنها: أنه رجل أمي لا يخط، ولا يقرأ(2/92)
الخط، ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى ذلك أحد من أعدائه، مع كثرة كذبهم، وبهتانهم; ومع هذا، أتى بالعلم، الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [سورة العنكبوت آية: 48] .
وقال رحمه الله تعالى:
ولما بلغ أربعين سنة: بعثه الله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [سورة البقرة آية: 119] ، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب آية: 46] . ولما أتى قومه بلا إله إلا الله، قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، وزيد بن مروان، وغيرهم، قالوا: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين، يوافي الموسم كل عام، فيقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة "1، وأبو لهب وراءه، يقول: لا تطيعوه، فإنه صابئ كذاب، فيردون عليه أقبح الرد.
ولما أمره الله بالهجرة، هاجر، وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين، ولم يميز بين من اعتقد في نبي، ولا ولي، ولا شجر، ولا حجر; وما زال يعلم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال، وبان للناس من التوحيد ساطع الجمال، وعن أنس قال قال أناس: يا رسول الله، يا خيرنا
__________
1 أحمد (3/492) .(2/93)
وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل "1.
وعن عبد الله بن الشِّخِّير، قال: " انطلقت في وفد بني عامر، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى "2. وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "3.
وما زال صلى الله عليه وسلم معلما لأصحابه هذا التوحيد، ومحذرا من الشرك، حتى أتاهم وهم يتذاكرون الدجال، فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل "4 وحتى قال: " لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله "5، وحتى قال: " لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان "6، وحتى قال " لا تقولوا: لولا الله وفلان"،وحتى قال: "لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي "7، وحتى قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر " 8.
وحذرهم من الشرك بالله، في الأقوال والأعمال، حتى قال: "إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب. وأنا تارك فيكم كتاب الله، فيه الهدى والنور، ومن تركه كا ن
__________
1 أحمد (3/249) .
2 أبو داود: الأدب (4806) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24) .
4 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30) .
5 البخاري: الأيمان والنذور (6648) , وابن ماجه: الكفارات (2101) , وأحمد (2/8) .
6 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384) .
7 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316) .
8 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125) .(2/94)
على الردى "1، وحتى قال: " خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة 2 وكل ضلالة في النار "، وحتى أنه لم يترك النهي عند الموت، والتحذير لنا من هذا الشرك، حتى قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3 وحتى قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب " الحديث.
وحتى حذرهم عن الكفر بنعمة الله، قيل هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي، وقال بعضهم: هو كقوله: الريح طيبة، والملاح حاذق، ونحو ذلك; ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين الأحاديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله "4 وكذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" 5 قال: (إن الصلاة من حقها، والزكاة من حقها) كما قال الصديق لعمر، ووافقه عمر، وسائرهم على ذلك، ويكون ذلك أنه إذا قالها قد شرع في العصمة، وإلا بطلت.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الحديثين، في وقت، ليعلم المسلمون أن الكافر إذا قالها وجب الكف عنه، ثم صار القتال مجردا إلى الشهادتين، ليعلم أن تمام العصمة يحصل بذلك، لئلا يقع شبهة; وأما مجرد الإقرار، فلا يعصمهم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى
__________
1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي: فضائل القرآن (3316) .
2 مسلم: الجمعة (867) , وأحمد (3/371) .
3 مالك: النداء للصلاة (416) .
4 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) .
5 البخاري: الإيمان (25) , ومسلم: الإيمان (22) .(2/95)
جلاها الصديق رضي الله عنه ووافقه عمر.
وقال صاحب المنازل: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، هذا هو التوحيد، الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه حقنت الدماء والأموال; وانفصلت دار الإيمان من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة، وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال، بعد أن يسلموا من الشبهة، والحيرة، والريبة، بصدق شهادة، صححها قبول القلب، وهذا توحيد العامة، الذي يصح بالشواهد، وهي الرسالة والصنائع، ويجب بالسمع، ويوجد بتبصير الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد، والحمد لله رب العالمين.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه.
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: بعثه الله {بشيرا ونذيرا} ، {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} . ونذكر قبل ذلك شيئا من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل بعثته، قال قتادة: ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى وشريعة من الحق; ثم اختلفوا بعد ذلك; فبعث الله لهم نوحا، وكان أول رسول أرسل لأهل الأرض; قال ابن عباس، في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة البقرة آية: 213] ، قال (على الإسلام) .(2/96)
وكان أول ما كادهم الشيطان به تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في كتابه {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ، قال الكلبي: هؤلاء قوم صالحون، فماتوا في شهر، فجزع عليهم أقاربهم، وقال لهم رجل: هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام، على صورهم؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام، ونصبها لهم.
وفي غير حديثه، قال أصحابهم: لو صورنا صورهم، كان أشوق لنا إلى العبادة، فكان الرجل يأتي أباه وابن عمه، فيعظمه، حتى ذهب القرن الأول، ثم جاء القرن الآخر، وعظموهم أشد من الأول; ثم جاء القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم، فعبدوهم. فلما بعث الله نوحا، وأغرق من أغرق، وأهبط الماء هذه الأصنام، من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جدة; فلما نضب الماء، بقيت على الشاطئ، فسفت الريح عليها حتى وارتها، ثم عمر نوح وذريته الأرض، وبقوا على الإسلام ما شاء الله، ثم حدث فيهم الشرك.
وما من أمة إلا ويبعث الله فيها رسولا، يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك، فمنهم: عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد; بعث الله لهم هودا عليه السلام، وكانوا في ناحية الجنوب، بين اليمن وعمان، فكذبوه، فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم، ونجى الله هودا ومن معه; ثم بعث(2/97)
الله صالحا إلى ثمود، وكانوا بالشمال، بين الشام والحجاز، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [سورة فصلت آية: 17] ، فأرسل الله عليهم صيحة فأهلكتهم; ونجى الله صالحا ومن معه. ثم بعد ذلك أخرج إليهم إبراهيم عليه السلام، وأهل الأرض إذ ذاك كلهم كفار، فكذبوه إلا ابنة عمه سارة، زوجته، ولوطا أيضا، فأكرمه الله ورفع قدره، وجعله إماما للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
ومنذ ظهر إبراهيم، لم يعدم التوحيد في الأرض، كما قال تعالى:
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] ، وكان له ابنان، أحدهما: إسحاق عليه السلام وهو أبو بني إسرائيل، وإسرائيل يعقوب بن إسحاق، والثاني: إسماعيل عليه السلام، وهو أبو العرب، وقصته وأمه مشهورة، لما وضعها عليه السلام في مكة، وكان هو في الشام، فنشأ إسماعيل عليه السلام في أرض العرب، فصار له ولأولاده: ولاية البيت ومكة.
فلم يزالوا بعده على دين إسماعيل، حتى نشأ فيهم عمرو بن لحي، بن قمعة، فملك مكة، وكان معظما فيهم بسبب الدين والدنيا; فسار إلى الشام، ورآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك، وزينه لأهل مكة، ثم اقتدى بهم أهل الحجاز، وكان له رئي من الجن، فأتاه، فقال: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، ائت جدة، تجد فيها أوثانا معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى(2/98)
عبادتها تجب.
فأتى جدة فاستثارها، ثم حملها. فلما حضر الحج، دعا العرب إلى عبادتها، فأجابوه، ففرقها في كل قبيلة واحد، فلم تزل تعبد حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها، وقال: " رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار "1، وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم، ونصب الأوثان، وكان أهل الجاهلية إذ ذاك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، وإهداء البدن; وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
ومن أقدم أصنامهم: مناة على ساحل البحر، بقديد بين مكة والمدينة، ولم يكن أحد أشد تعظيما له من الأوس والخزرج; فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وكان أصله رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره; فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها. ثم اتخذوا العزى، وكانت بوادي نخلة، وبنوا عليها بيتا، وكانوا يسمعون منه الصوت، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد فأتاها، فعضدها وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة: إذ هو بجنية، نافشة شعرها، فقال خالد،
يا عزى كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة.
__________
1 البخاري: المناقب (3521) وتفسير القرآن (4623) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2856) , وأحمد (2/366) .(2/99)
وكان من العرب من يتعلق على الملائكة، يريدون شفاعتهم، وهم بنو ملح، وكان منهم من يدعو الجن، وكانت النصارى تدعو عيسى وأمه; وكان من الناس، من يدعو أناسا صالحين، غير ما ذكرنا; وهو أول أنواع الشرك وقوعا في الأرض، كما تقدم. وامتلأت أرض العرب، وغيرها، من الأوثان، والشرك بالله، وكان لكل قوم شيء يقصدونه، غير ما كان عند الآخرين.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وجد حول البيت: ثلاثمائة وستين صنما، وجعل يطعن في وجوهها، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء آية: 81] ، وهي تساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد، وحرقت.
وقال بعض الصحابة في اللات:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... إن التي حرقت بالسد فاشتعلت
وكيف ينصركم من ليس ينتصر ... فلم تقاتل لدى أحجارها هدر
وصلى الله على محمد.
[بيان الشهادة والتوحيد]
وقال أيضا: بوأه الله منازل النبيين، والصديقين:
بسم الله الرحمن الر حيم
هذه كلمات، في بيان شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان(2/100)
التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، وهو أفرض من الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، فرحم الله امرأ نصح نفسه، وعرف أن وراءه جنة ونارا، وأن الله عز وجل جعل لكل منهما أعمالا. فإن سأل عن ذلك، وجد رأس أعمال أهل الجنة: توحيد الله تعالى، فمن أتى به يوم القيامة، فهو من أهل الجنة، قطعا، ولو كان عليه من الذنوب مثل الجبال.
ورأس أعمال أهل النار: الشرك بالله، فمن مات على ذلك، فلو أتى يوم القيامة بعبادة الله الليل والنهار، والصدقة والإحسان، فهو من أهل النار قطعا، كالنصارى، الذين يبني أحدهم صومعة في البرية، ويزهد في الدنيا، ويتعبد الليل والنهار، لكنه خلط ذلك بالشرك بالله، تعالى الله عن ذلك، قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] . وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [سورة إبراهيم آية: 18] .
فرحم الله امرأ، تنبه لهذا الأمر العظيم، قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 27] .
نسأل الله: أن يهدينا، وإخواننا المسلمين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم العلماء، الذين علموا ولم(2/101)
يعملوا، وطريق الضالين، وهم العباد الجهال، فما أعظم هذا الدعاء، وما أحوج من دعا به أن يحضر قلبه في كل ركعة، إذا قرأ بها، بين يدي الله تعالى، أن يهديه وأن ينجيه; فإن الله قد ذكر: أنه يستجيب هذا الدعاء الذي في الفاتحة، إذا دعا به الإنسان من قلب حاضر.
فنقول: لا إله إلا الله، هي: العروة الوثقى ; وهي: كلمة التقوى; وهي: الحنيفية ملة إبراهيم; وهي: التي جعلها الله عز وجل كلمة باقية في عقبه; وهي: التي خلقت لأجلها المخلوقات; وبها قامت الأرض والسماوات; ولأجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب; قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، والمراد: معنى هذه الكلمة; وأما: التلفظ باللسان، مع الجهل بمعناها، فلا ينفع; فإن المنافقين يقولونها، وهم تحت الكفار، في الدرك الأسفل من النار.
فاعلم: أن معنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عما سوى الله تبارك وتعالى، وإثباتها كلها لله وحده، لا شريك له، ليس فيها حق لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [سورة مريم آية: 93] ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ(2/102)
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38] ، وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} الآية [سورة النحل آية: 111] .
فإذا قيل: لا خالق إلا الله، فهذا معروف، لا يخلق الخلق إلا الله، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وإذا قيل: لا يرزق إلا الله، فكذلك; فإذا قيل: لا إله إلا الله، فكذلك، فتفكر رحمك الله، في هذا، واسأل عن معنى الإله، كما تسأل عن معنى الخالق، والرازق.
واعلم أن معنى الإله، هو المعبود هذا هو تفسير هذه اللفظة، بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئا، فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلا إله واحد، وهو: الله وحده، تبارك وتعالى علوا كبيرا.
والعبادة: أنواع كثيرة ; لكني أمثلها بأنواع ظاهرة، لا تنكر، من ذلك: السجود؟ فلا يجوز لعبد، أن يضع وجهه على الأرض، ساجدا، إلا لله وحده، لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي.
ومن ذلك: الذبح فلا يجوز لأحد، أن يذبح إلا لله وحده; كما قرن الله بينهما في القرآن، في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162] ، والنسك، هو: الذبح; وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، فتفطن لهذا"(2/103)
واعلم أن من ذبح لغير الله، من جني أو قبر، فكما لو سجد له; وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، قال: " لعن الله من ذبح لغير الله "1.
ومن أنواع العبادة: الدعاء؛ كما كان المؤمنون، يدعون الله وحده، ليلا ونهارا، في الشدة والرخاء، لا يشك أحد، أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر" رحمك الله" فيما حدث في الناس اليوم، من دعاء غير الله في الشدة والرخاء; هذا يريد سفرا، فيأتي عند قبر أو غيره، فيدخل عليه بما له، عمن ينهبه، وهذا تلحقه الشدة، في البر، أو البحر، فيستغيث بعبد القادر، أو شمسان، أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أن ينجيه من هذه الشدة.
فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو: المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقا، ميتا، عاجزا؟! وتترك الحي، القيوم، الحاضر، الرؤوف، الرحيم، القدير؟! فقد يقول" هذا المشرك": إن الأمر بيد الله، ولكن هذا العبد الصالح يشفع لي عند الله، وتنفعني شفاعته وجاهه; ويظن أن ذلك يسلمه من الشرك.
فيقال لهذا الجاهل: المشركون عباد الأصنام، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغنم أموالهم وأبناءهم ونساءهم، كلهم يعتقدون أن الله هو النافع، الضار، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا ما أردت من الشفاعة عند الله، كما قال
__________
1 مسلم: الأضاحي (1978) , والنسائي: الضحايا (4422) , وأحمد (1/108 ,1/118 ,1/152) .(2/104)
تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3.] ، وإلا فهم يعترفون بأن الله هو الخالق، الرازق، النافع الضار، كما أخبر الله عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
فليتدبر اللبيب العاقل، الناصح لنفسه، الذي يعرف: أن بعد الموت جنة ونارا، هذا الموضع، ويعرف الشرك بالله، الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [سورة النساء آية: 48] ، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فما بعد هذا البيان بيان، إذا كان الله عز وجل قد حكى عن الكفار أنهم مقرون أنه هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم التقرب والشفاعة عند الله تعالى.
وكم آية في القرآن، ذكر الله فيها هذا، كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ، وكقوله; {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ(2/105)
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 63] ، وغير ذلك من الآيات التي أخبر الله بها عنهم أنهم أقروا بهذا لله وحده، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم إلا الشفاعة، لا غير ذلك.
فإن احتج بعض المشركين أن أولئك يعتقدون في الأصنام، وهي حجارة وخشب ونحن نعتقد في الصالحين، قيل له: والكفار أيضا، منهم من يعتقد في الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى ابن مريم، وفي الأولياء مثل العزير، واللات، والعزى، وناس، من الجن، وغيرهم; وذكر الله عز وجل ذلك في كتابه، فقال في الذين يعتقدون في الملائكة ليشفعوا لهم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 41] ، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] .
وقال فيمن اعتقد في عيسى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} الآية [سورة النساء آية: 171] ، وقال: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] فإذا كان عيسى بن مريم، وهو من أفضل الرسل، قيل(2/106)
فيه هذا، فكيف بعبد القادر وغيره، أن يملك ضرا أو نفعا؟!
وقال في حق الأولياء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] ، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، وعزيرا، والمسيح، فقال الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجون أنتم رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فرحم الله امرأ: تفكر في هذه الآية العظيمة، وفيما نزلت فيه وعرف: أن الذين اعتقدوا فيهم، إنما أرادوا التقرب إلى الله والشفاعة عنده.
وهذا كله يدور على كلمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار، يعرفون أن الله سبحانه هو الخالق الرازق، الذي يدبر الأمر، وحده، وإنما أرادوا التقرب بهؤلاء إلى الله تعالى; والثانية: أن تعرف أن منهم أناسا يعتقدون في أناس من الأنبياء والصالحين، مثل: عيسى، والعزير، والأولياء; فصاروا هم والذين يعتقدون في الأصنام، من الحجر، والشجر، واحدا، فلما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الذين يعتقدون في الأوثان، من الخشب، والحجر، وبين الذين يعتقدون في الأنبياء، والصالحين، على أن أهل زماننا هذا، يعتقدون في الحجارة على(2/107)
القبور، والشجر الذي عليها.
إذا تبين هذا، وأنه ليس من دين الله، وقال بعد ذلك المشرك: هذا بين، نعرفه من أول ... فقل له: إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا هذا إلا بعد التعلم، ومن الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين; وأنت عرفت هذا بلا تعلم، فأنت أعلم منهم! بل الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علمهم الله تعالى، قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة محمد آية: 19] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] .
فإذا كان هذا نبينا، فما بال الخليل إبراهيم عليه السلام يوصي بها أولاده، وهم أنبياء؟ قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة آية: 132] ، و {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] . فإذا كان هذا أمر لا يخاف على المسلمين منه، فما بال الخليل، يخاف على نفسه وعلى بنيه، وهم أنبياء؟ حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] .(2/108)
وما بال العليم الحكيم، لما أنزل كتابه ليخرج الناس من الظلمات، إلى النور، جعله في هذا الأمر، وكثر الكلام فيه، وبينه، وضرب فيه الأمثال، وحذر منه، وأبدى وأعاد؟ فماذا كان الناس يفهمونه بلا تعلم، ولا يخاف عليهم من الوقوع فيه، فما بال رب العالمين جعل أكثر كتابه فيه؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من خلقه، فأصمهم وأعمى أبصارهم.
وأنت يا من من الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الحق، لكن لا أتعرض اللات والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله، ما علي منهم; لم يصح إسلامه; وأما مجادلة بعض(2/109)
المشركين بأن هؤلاء الطواغيت ما أمروا الناس بهذا، ولا رضوا به، فهذا لا يقوله إلا مشرك مكابر؛ فإن هؤلاء ما أكلوا أموال الناس بالباطل، ولا ترأسوا عليهم، ولا قربوا من قربوا، إلا بهذا; وإذا رأوا رجلا صالحا استحقروه، وإذا رأوا مشركا كافرا تابعا الشيطان، قربوه وأحبوه وزوجوه بناتهم، وعدوا ذلك شرفا!!
وهذا القائل يعلم أن قوله ذلك كذب، فإنه لو يحضر عندهم، ويسمع بعض المشركين يقول: جاءتني شدة، فنخيت الشيخ، أو السيد، فنذرت له، فخلصني، لم يجسر أن يقول هذا القائل: لا يضر ولا ينفع إلا الله; بل لو قال هذا، وأشاعه في الناس، لأبغضه الطواغيت; بل لو قدروا على قتله لقتلوه; وبالجملة: لا يقول هذا إلا مشرك مكابر، وإلا فدعواهم هذه، وتخويفهم الناس، وذكرهم السوالف الكفرية التي بآبائهم شيء مشهور لا ينكره من عرف حالهم، كما قال تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] .
ولنختم الكتاب، بذكر آية من كتاب الله، فيها عبرة لمن اعتبر، قال تعالى في حق الكفار: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] ، فذكر عن الكفار أنهم إذا جاءتهم الشدة تركوا غيره، وأخلصوا له الدين; وأهل زماننا إذا جاءتهم الشدة والضر، نخوا غير الله، سبحانه وتعالى عن ذلك.(2/110)
فرحم الله: من تفكر في هذه الآية وغيرها من الآيات; وأما من من الله عليه بالمعرفة، فليحمد الله تعالى; وإن أشكل عليه شيء، فليسأل أهل العلم عما قال الله ورسوله، ولا يبادر بالإنكار، لأنه إن رد، رد على الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: 22] .
واعلم رحمك الله أن أشياء من أنواع الشرك الأكبر وقع فيه بعض المصنفين على جهالة، لم يفطن له، من ذلك، قوله في البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
وفي الهمزية جنس هذا وغيره أشياء كثيرة; وهذا من الدعاء، الذي هو من العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده; وإن جادلك بعض المشركين بجلالة هذا القائل، وعلمه وصلاحه، وقال بجهله: كيف هذا؟ فقل له: أعلم منه وأجل، أصحاب موسى، الذين اختارهم الله وفضلهم على العالمين، حين قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فإذا خفي هذا على بني إسرائيل، مع جلالتهم وعلمهم وفضلهم; فما ظنك بغيرهم؟
وقل لهذا الجاهل: أصلح من الجميع وأعلم، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما مروا بشجرة، قالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(2/111)
هذا: كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ففي هذا عبرتان عظيمتان:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح أن من اعتقد في شجرة، أو تبرك بها، أنه قد اتخذها إلها، وإلا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون أنها لا تخلق، ولا ترزق، وإنما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بالتبرك بها، صار فيها بركة.
والعبرة الثانية: أن الشرك قد يقع فيمن هو أعلم الناس، وأصلحهم، وهو لا يدري، كما قيل: الشرك أخفى من دبيب النمل; بخلاف قول الجاهل: هذا بين نعرفه; فإذا أشكل عليك من هذا شيء، وأردت بيانه من كلام أهل العلم، وإنكارهم جنس الشرك، الذي حرمه الله، فهو موجود; وأعني كلام العلماء في هذا، إن أردت من الحنابلة، وإن أردت من غيرهم; والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
فصل في معنى لا إله إلا الله: اعلم رحمك الله تعالى، أن "لا إله إلا الله" هي: الكلمة العالية، والشريفة الغالية، من استمسك بها فقد سلم، ومن اعتصم بها فقد عصم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل "1. والحديث يفصح أن لا إله إلا الله، لها لفظ ومعنى،
__________
1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .(2/112)
ولكن الناس فيها ثلاث فرق: فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنى وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها. وفرقة: نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك. وفرقة: نطقوا بها ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] .
فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقا; والثانية هم المنافقون; والثالثة هم المشركون; فلا إله إلا الله: حصن، ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب، ورموه بحجارة التخريب، فدخل عليهم العدو، فسلبهم المعنى، وتركهم مع الصورة; وفي الحديث: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "1 سلبوا معنى لا إله إلا الله، فبقي معهم لقلقة باللسان، وقعقعة بالحروف، وهو ذكر الحصن لا مع الحصن، فكما أن ذكر النار لا يحرق، وذكر الماء لا يغرق، وذكر الخبز لا يشبع، وذكر السيف لا يقطع، فكذلك ذكر الحصن لا يمنع.
فإن القول قشر، والمعنى لب، والقول صدف، والمعنى در، ماذا يصنع بالقشر مع فقدان اللب؟! وماذا يصنع بالصدف مع فقدان الجوهر؟!
لا إله إلا الله مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا ينتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا ينتفع بهذه الكلمة دون معناها. فعالم
__________
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) .(2/113)
الفضل: أخذوا بهذه الكلمة بصورتها ومعناها، فزينوا بصورتها ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالمعنى، وبرز لهم شهادة القدم بالتصديق {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] .
وعالم العدل: أخذوا هذه الكلمة بصورتها دون معناها، فزينوا ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالكفر، بالاعتقاد فيمن لا يضر ولا ينفع؛ فقلوبهم مسودة مظلمة، لم يجعل الله لهم فرقانا يفرقون به بين الحق والباطل، ويوم القيامة يبقون في ظلمة كفرهم {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [سورة البقرة آية: 17] .
فمن قال: لا إله إلا الله، وهو عابد لهواه ودرهمه وديناره ودنياه، ماذا يكون جوابه يوم القيامة لمولاه؟ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الجاثية آية: 23] ، " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش "1.
إذا قلت: لا إله إلا الله، فإن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في الثمرة، فأنت منافق، وإن كان مسكنها منك القلب، فأنت مؤمن؛ وإياك أن تكون مؤمنا بلسانك دون قلبك. فتنادي عليك هذه الكلمة في عرصات القيامة: إلهي صحبته كذا وكذا سنة، فما اعترف بحقي، ولا رعى لي
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2887) .(2/114)
حرمتي حق رعايتي؛ فإن هذه الكلمة تشهد لك، أو عليك.
فعالم الفضل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم الجنة; وعالم العدل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم النار {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [سورة الشورى آية: 7] .
لا إله إلا الله: شجرة السعادة; إن غرستها في منبت التصديق، وسقيتها من ماء الإخلاص، ورعيتها بالعمل الصالح، رسخت عروقها، وثبت ساقها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وتضاعف أكلها {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [سورة إبراهيم آية: 25] .
وإن غرست هذه الشجرة في منبت التكذيب والشقاق، وأسقيتها بماء الرياء والنفاق، وتعاهدتها بالأعمال السيئة والأقوال القبيحة، وطفح عليها غدير العذر ولفحها هجير هجر، تناثرت ثمارها، وتساقطت أوراقها، وانقشع ساقها، وتقطعت عروقها، وهبت عليها عواصف القذر، ومزقتها كل ممزق {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] .
فإذا تحقق المسلم هذا، فلا بد معه من تمام بقية أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،(2/115)
وحج البيت الحرام، من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين "1 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وسئل رحمه الله، عن: معنى: "لا إله إلا الله ".
فأجاب: اعلم رحمك الله، أن هذه الكلمة، هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي: كلمة التقوى، وهي: العروة الوثقى، وهي: التي جعلها إبراهيم عليه السلام: {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] . وليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويصومون ويتصدقون; ولكن المراد معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله مخلصا "2، وفي رواية: " صادقا من قلبه "3، وفي لفظ: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله "4، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة.
واعلم: أن هذه الكلمة، نفي، وإثبات: نفي الألوهية عما سوى الله تبارك وتعالى من المخلوقات، حتى عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن الملائكة، حتى جبرائيل، فضلا عن غيرهم من الأولياء والصالحين؛ إذا فهمت ذلك، فتأمل هذه الألوهية التي أثبتها الله لنفسه، ونفاها عن محمد،
__________
1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/92 ,2/120) .
2 أحمد (5/236) .
3 البخاري: العلم (128) .
4 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .(2/116)
وجبرائيل عليهما السلام، فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، أن يكون لهم مثقال حبة خردل.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة، في زماننا: السر، والولاية; فالإله معناه: الولي الذي فيه السر; وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ; وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا; وذلك أنهم يظنون، أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزلة، يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله; فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم، هم الذين يسميهم الأولون: الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط.
إذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة، فذلك بأمرين: الأول: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم، وغنم أموالهم، واستحل دماءهم، وسبى نساءهم، كانوا مقرين لله بتوحيد الربوبية; وهو أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وهذه: مسألة عظيمة، مهمة، وهي: أن تعرف أن(2/117)
الكفار شاهدون بهذا كله، ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم، وكانوا أيضا يتصدقون، ويحجون، ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات، خوفا من الله عز وجل.
ولكن الأمر الثاني، هو الذي كفرهم، وأحل دماءهم وأموالهم، وهو: أنهم لا يشهدون الله بتوحيد الألوهية وهو: أنه لا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره فقد كفر، ومن ذبح لغيره، فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر; وأشباه هذا.
وتمام هذا: أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الملائكة، وعيسى، وعزيرا، وغيرهم من الأولياء، فكفرهم الله بهذا، مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر; فإذا عرفت معنى لا إله إلا الله وعرفت أن من نخا نبيا أو ملكا، أو ندبه، أو استغاث به، فقد خرج من الإسلام؛ وهذا هو الكفر، الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون، ونحن ندعوهم، وننذر لهم، وندخل عليهم، ونستغيث بهم،(2/118)
نريد بذلك الجاه، والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر; فقل: كلامك هذا دين أبي جهل وأمثاله; فهم يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأولياء، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
فإذا تأملت هذا تأملا جيدا، عرفت أن الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية، وهو التفرد بالخلق، والرزق، والتدبير؛ فهم ينخون عيسى، والملائكة، والأولياء يقصدون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده; وعرفت أن الكفار، خصوصا النصارى منهم من يتعبد الليل والنهار، ويزهد في الدنيا، ويتصدق بما دخل عليه منها، معتزلا في صومعة عن الناس، ومع هذا كافر، عدو لله، مخلد في النار، بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء، يدعوه، ويذبح له، وينذر له; وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل; وتبين لك: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بد أ"1.
فالله، الله، إخواني! تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره، أسه ورأسه، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله; واعرفوا معناها; وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين; واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(2/119)
منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله، وافترى; بل كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا: إخوانه، وأولاده; فالله، الله، تمسكوا بأصل دينكم، لعلكم تلقون ربكم، لا تشركون به شيئا. اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه، تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا، أعظم من كفر الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] ، فقد ذكر الله تعالى عن الكفار، أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادات والمشائخ، فلا يدعونهم، ولا يستغيثون بهم، بل يخلصون لله وحده لا شريك له، ويستغيثون به ويوحدونه; فإذا جاء الرخاء أشركوا.
وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة، وإذا مسه الضر، يستغيث بغير الله، مثل: معروف، وعبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء، مثل: زيد بن الخطاب، والزبير وأجل من ذلك مثل: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالله المستعان! وأعظم من ذلك، وأعظم: أنهم يستغيثون بالطواغيت، والكفرة المردة، مثل: شمسان; وإدريس، ويوسف، وأمثالهم; والله أعلم.(2/120)
وقال رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله أن فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة، والصوم؛ فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك، أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة، والصوم. وتحريم الشرك، والإيمان بالطاغوت أعظم من تحريم نكاح الأمهات، والعمات; فأعظم مراتب الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك: أن يشهد العبد أن الإلهية كلها لله، ليس منها شيء لنبي، ولا لملك، ولا لولي، بل هي حق الله على عباده. والألوهية هي التي تسمى في زماننا: السر؟ والإله في كلام العرب هو الذي يسمى في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يدعى به، ويستغاث به; فإذا عرف الإنسان أن هذا الذي يعتقده كثيرون في شمسان وأمثاله، أو قبر بعض الصحابة، هو العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من اعتقد في نبي من الأنبياء فقد كفر، وجعله مع الله إلها آخر، فهذا لم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله.
ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله، من جنى، أو أنسى، أو شجر، أو حجر، أو غير(2/121)
ذلك; وتشهد عليه بالكفر، والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك; فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة، والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت.
وهذا كلام يسير، يحتاج إلى بحث طويل، واجتهاد في معرفة دين الإسلام، ومعرفة ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والبحث عما قال العلماء، في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، ويجتهد في تعلم ما علمه الله رسوله، وما علمه الرسول أمته من التوحيد; ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثر الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة، والله أعلم.
[لا إله إلا الله تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:
اعلم رحمك الله: أن معنى لا إله إلا الله، نفي وإثبات: لا إله نفي، إلا الله إثبات; تنفي أربعة أنواع; وتثبت أربعة أنواع; المنفي الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب.
فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه إلها، والطواغيت: من عبد، وهو راض، أو ترشح للعبادة، مثل: شمسان; أو تاج، أو أبو حديدة.
والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو(2/122)
مسكن، أو عشيرة، أو مال، فهو: ند، لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] .
والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق، وأطعته مصدقا، لقوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] .
وتثبت أربعة أنواع: القصد: كونك ما تقصد إلا الله; والتعظيم، والمحبة، لقوله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، والخوف، والرجاء، لقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يونس آية: 107] .
فمن عرف هذا، قطع العلائق من غير الله، ولا يكبر عليه جهامة الباطل، كما أخبر الله عن إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بتكسيره الأصنام، وتبريه من قومه; لقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
وقال أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
اعلم أرشدك الله؛ أن الله خلقك لعبادته، وأوجب(2/123)
عليك طاعته; ومن أفرض عبادته عليك: معرفة لا إله إلا الله، علما، وقولا، وعملا؛ والجامع لذلك، قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] .
فاعلم: أن وصية الله لعباده، هي: كلمة التوحيد، الفارقة بين الكفر، والإسلام; فعند ذلك: افترق الناس، سواء جهلا، أو بغيا، أو عنادا; والجامع لذلك: اجتماع الأمة على وفق قول الله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108] .
فالواجب على كل أحد، إذا عرف التوحيد وأقر به، أن يحبه بقلبه، وينصره بيده ولسانه; وينصر من نصره ووالاه; وإذا عرف الشرك وأقربه أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه، ويخذل من نصره ووالاه، باليد واللسان والقلب; هذه حقيقة الأمرين; فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] .
فنقول: لا خلاف بين الأمة، أن التوحيد: لا بد أن يكون بالقلب، الذي هو العلم واللسان الذي هو القول; والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي; فإن أخل بشيء(2/124)
من هذا، لم يكن الرجل مسلما; فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به، فهو كافر، معاند، كفرعون وإبليس; وإن عمل بالتوحيد ظاهرا، وهو لا يعتقده باطنا، فهو: منافق خالصا، أشر من الكافر; والله أعلم.
قال رحمه الله: وهو نوعان: توحيد الربوبية; وتوحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية، فأقر به الكافر والمسلم; وأما توحيد الألوهية، فهو الفارق بين الكفر والإسلام، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا، وهذا.
ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر; قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] .
فإذا تبين لك أن الكفار يقرون بذلك، عرفت أن قولك: لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله; لا يصيرك مسلما حتى تقول: لا إله إلا الله، مع العمل بمعناها؛ فهذه الأسماء، كل واحد منها، له معنى يخصه.
أما قولك: الخالق، فمعناه: الذي أوجد جميع مخلوقاته، بعد عدمها; وأما قولك: الرازق، فمعناه: أنه لما(2/125)
أوجد الخلق، أجرى عليهم أرزاقهم؛ وأما المدبر، فهو: الذي تنزل الملائكة من السماء إلى الأرض بتدبيره، وتصعد إلى السماء بتدبيره، ويسير السحاب، بتدبيره، وتصرف الرياح، بتدبيره؛ وكذلك جميع خلقه، هو: الذي يدبرهم، على ما يريد. فهذه الأسماء، التي يقر بها الكفار، متعلقة بتوحيد الربوبية، التي يقر بها الكفار.
وأما توحيد الألوهية، فهو قولك: لا إله إلا الله، وتعرف معناها كما عرفت معنى الأسماء المتعلقة بالربوبية، فقولك: لا إله إلا الله، نفي وإثبات; فتنفي الألوهية كلها، وتثبتها لله وحده; فمعنى الإله في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يقال فيهما أو غيرهما: سر ممن يعتقد فيهم أنهم يجلبون منفعة أو يدفعون مضرة; فمن اعتقد في هؤلاء، أو غيرهم، نبيا كان أو غيره، فقد اتخذه إلها من دون الله.
فإن بني إسرائيل لما اعتقدوا في عيسى ابن مريم وأمه سماهما الله إلهين; قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . ففي هذا دليل على أن من اعتقد في مخلوق لجلب منفعة، أو دفع مضرة، فقد اتخذه إلها; فإذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذا(2/126)
حاله، فما دونهم أولى.
وأيضا فإن من تبرك بحجر، أو شجر، أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بهم، فقد اتخذهم آلهة; والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، يريدون بذلك التبرك، قال: "الله أكبر: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 136"137] ".
فمثل قول الصحابة في ذات أنواط، بقول بني إسرائيل، وسماه إلها، ففي هذا دليل على أن من فعل شيئا مما ذكرنا، فقد اتخذه إلها.
والإله هو: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله وحده، فمن نذر لغير الله، أو ذبح له، فقد عبده، وكذلك: من دعا غير الله ... قال الله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" 1، وكذلك: من جعل بينه وبين الله واسطة، وزعم أنها تقربه إلى الله، فقد عبده.
وقد ذكر الله ذلك عن الكفار، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
__________
1 الترمذي: الدعوات (3371) .(2/127)
عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وكذلك ذكر عن الذين: جعلوا الملائكة وسائط، فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 41] .
فذكر سبحانه: أن الملائكة نزهوه عن ذلك، وأنهم تبرؤوا من هؤلاء، وأن عبادتهم كانت للشياطين، الذين يأمرونهم بذلك، وذكر سبحانه عن الذين جعلوا الصالحين وسائط، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57"56] ، وذكر سبحانه: أنهم لا يملكون كشف الضر عن أحد، ولا عن أنفسهم، وأنهم لا يحولونه عن أحد; وأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه; فهذا يبين لك معنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت حال المعتقدين في عيسى بن مريم، والمعتقدين في الملائكة، والمعتقدين في الصالحين، وحالهم معهم، أنهم: لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن غيرهم، عرفت أن من اعتقد فيمن دونهم أضل سبيلا; فحينئذ يتبين لك معنى لا إله إلا الله، والله أعلم(2/128)
مذاكرة الشيخ: أهل حرمة.
قال لهم: لا إله إلا الله، سألنا عنها كل من جاءنا منكم من مطوع، ولا وجدنا عندهم، إلا أنها لفظة ما لها معنى! ومعناها لفظها! ومن قالها فهو مسلم! ووقتا يقولون لها معنى، لكن معناها لا شريك له في ملكه!
ونحن نقول: لا إله إلا الله، ليست باللسان فقط، لا بد للمسلم إذا لفظ بها، أنه يعرف معناها بقلبه; وهي التي جاءت لها الرسل، وإلا فالملك ما جاءت الرسل له.
وأنا أبين لكم إن شاء الله مسألة التوحيد، ومسألة الشرك، تعرفون: المشهد فيه قبة، والذي من الرجال صلى الظهر، قام واستقبل القبر، وولى الكعبة قفاه، وركع لعلي ركعتين، صلاته لله توحيد، وصلاته لعلي شرك، أأنتم فهمتم؟ قالوا: فهمنا، صار هذا مشركا، صلى لله، وصلى لغيره.
ولله سبحانه حق على عبده، في البدن، والمال، والصلاة: زكاة البدن، والزكاة في المال حق لله; فإذا زكيت لله، وخرجت بشيء تقسمه عند القبة، فزكاتك لله توحيد، وزكاتك للمخلوق شرك; كذلك سفك الدم: إن ذبحت لله توحيد، وإن ذبحت لغيره صار شركا، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162] ، والنسك: سفك الدم; كذلك التوكل، من أنواع العبادة، إن توكلت على الله صار توحيدا; وإن(2/129)
توكلت على صاحب القبة، صار شركا، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] .
وأكبر من ذلك كله: الدعاء; تفهمون أن الدعاء مخ العبادة; قالوا: نعم; قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، أنتم تفهمون أن هنا من يدعو الله، ويدعو الزبير، ويدعو الله، ويدعو عبد القادر، الذي يدعو الله وحده مخلص; وإن دعا غيره صار مشركا، فهمتم هذا؟ قالوا: فهمنا، قال الشيخ: هذا إن فهمتموه، فهذا الذي بيننا وبين الناس.
فإن قالوا: هؤلاء يعبدون أصناما، ويدعونهم، يريدون منهم; ونحن عبيد مذنبون، وهم صالحون، ونبغي بجاههم، فقل لهم: عيسى نبي الله عليه السلام، وأمه صالحة، والعزير صالح، والملائكة كذلك; والذين يدعونهم أخبر الله عنهم، وأنهم ما أرادوا منهم ما أرادوا إلا بجاههم قربة وشفاعة.
واقرأ عليه الآيات في الملائكة، في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} الآية وفي الأنبياء، قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171] ، وفي الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية [سورة الإسراء آية: 56] ، ولا فرق بينهم صلى الله عليه وسلم.
وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله صادقا "1.
__________
1 أحمد (4/402) .(2/130)
والحديث الآخر: "مخلصا دخل الجنة" ما معنى الصدق؟ والإخلاص؟ والفرق بينهما؟ وأيضا حديث: البطاقة، كونها رجحت بتلك السجلات، لما تضمنت من الإخلاص، والصدق; ما معنى: الصدق في ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
المسألة كبيرة; ولما ذكر الإمام أحمد الصدق والإخلاص، قال: بهما ارتفع القوم، ولكن يقربهما إلى الفهم: التفكر في بعض أفراد العبادة، مثل الصلاة، فالإخلاص فيها، يرجع إلى إفرادها عما يخالطها كثيرا، من الرياء، والطبع، والعادة، وغيرها؛ والصدق يرجع إلى إيقاعها على الوجه المشروع ولو أبغضه الناس لذلك. وحديث البطاقة: أنه رزق عند الخاتمة قولها، على ذلك الوجه، والأعمال بالخواتيم; مع أن علي بقية إشكال، والله أعلم.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
هذه: أمور خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية
الكتابيين، والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها.
فالضد يظهر حسنه الضد ... وبضدها تتبين الأشياء(2/131)
فأهم ما فيها، وأشدها خطرا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية، تمت الخسارة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة العنكبوت آية: 52] .
المسألة الأولى: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص; وأخبر أن من فعل ما يستحسنونه، فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار; وهذه المسألة هي التي تفرق الناس لأجلها، بين مسلم وكافر; وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .
المسألة الثانية: أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصواب، فأتى بالاجتماع في الدين بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً(2/132)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] ، ونهانا عن مشابهتهم بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105] ، ونهانا عن التفرق في الدين بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] .
المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر عندهم، وعدم الانقياد له، فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة; فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم، والنصيحة، وغلظ في ذلك، وأبدى فيه وأعاد. وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه، في الصحيحين أنه قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1 ولم يقع خلل في دين الناس، ودنياهم، إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث، أو بعضها.
الرابعة: أن دينهم مبني على أصول، أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار، أولهم وآخرهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
__________
1 أحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) .(2/133)
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة لقمان آية: 21] ، فأتاهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} الآية [سورة سبأ آية: 46] ، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
الخامسة: أن من أكبر قواعدهم: الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشيء، ويستدلون على بطلان الشيء بغربته وقلة أهله، فأتاهم بضد ذلك، وأوضحه في غير موضع من القرآن.
السادسة: الاحتجاج بالمتقدمين، كقوله: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51] ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [سورة المؤمنون آية: 24] .
السابعة: الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه; فرد الله ذلك بقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 26] ، وقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89] ، وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 146] .
الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء، بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 111] ، وقوله: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] ، فرده الله(2/134)
بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 53] .
التاسعة: الاقتداء بفسقة العلماء فأتى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 34] ، وبقوله: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] .
العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله، وعدم حفظهم كقوله: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [سورة هود آية: 27] .
الحادية عشر: الاستدلال بالقياس الفاسد، كقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [سورة إبراهيم آية: 10] .
الثانية عشر: إنكار القياس الصحيح. والجامع لهذا وما قبله: عدم فهم الجامع والفارق.
الثالثة عشر: الغلو في العلماء، والصالحين كقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [سورة النساء آية: 171] .
الرابعة عشر: أن كل ما تقدم مبني علي قاعدة وهي: النفي والإثبات، فيتبعون الهوى والظن، ويعرضون عما آتاهم الله.
الخامسة عشر: اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم(2/135)
الفهم، كقوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [سورة هود آية: 91] ، فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم; والطبع بسبب كفرهم.
السادسة عشر: اعتياضهم عما أتاهم من الله، بكتب السحر، كما ذكر الله ذلك، في قوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [سورة البقرة آية: 101"102] .
السابعة عشر: نسبة باطلهم إلى الأنبياء، كقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [سورة البقرة آية: 102] ، وقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [سورة آل عمران آية: 67] .
الثامنة عشر: تناقضهم في الانتساب، ينتسبون إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه.
التاسعة عشر: قدحهم في بعض الصالحين، بفعل بعض المنتسبين، كقدح اليهود في عيسى، وقدح اليهود والنصارى في محمد صلى الله عليه وسلم.
العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين، ونسبته إلى الأنبياء، كما نسبوه لسليمان.
الحادية والعشرون: تعبدهم بالمكاء والتصدية.
الثانية والعشرون: أنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا.(2/136)
الثالثة والعشرون: أن الحياة الدنيا غرتهم، فظنوا أن عطاء الله منها يدل على رضاه، كقوله: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سورة سبأ آية: 35] .
الرابعة والعشرون: ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء، تكبرا، وأنفة، فأنزل الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآيات [سورة الأنعام آية: 52] .
الخامسة والعشرون: الاستدلال على بطلانه بسبق الضعفاء، كقوله: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11] .
السادسة والعشرون: تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
السابعة والعشرون: تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله، كقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 79] .
الثامنة والعشرون: أنهم لا يعقلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم، كقوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 91] .
التاسعة والعشرون: أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله الطائفة، كما نبه الله عليه بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 91] .(2/137)
الثلاثون:" وهي من عجائب آيات الله" أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع، وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحون.
الحادية والثلاثون:" وهي من عجائب الله أيضا" معاداتهم الدين، الذي انتسبوا إليه، غاية العداوة، ومحبتهم دين الكفار الذين عادوهم وعادوا نبيهم، غاية المحبة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم بدين موسى، واتبعوا كتب السحر، وهي من دين آل فرعون.
الثانية والثلاثون: كفرهم بالحق إذا كان مع من لا يهوونه، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} الآية [سورة البقرة آية: 113] .
الثالثة والثلاثون: إنكارهم ما أقروا أنه من دينهم، كما فعلوا في حج البيت، فقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] .
الرابعة والثلاثون: أن كل فرقة تدعي أنها الناجية، فأكذبهم الله بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 111] ، ثم بين الصواب بقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية [سورة البقرة آية: 112] .
الخامسة والثلاثون: التعبد بكشف العورات، كقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية [سورة الأعراف آية: 28] .(2/138)
السادسة والثلاثون: التعبد بتحريم الحلال، كما تعبدوا بالشرك.
السابعة والثلاثون: التعبد باتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله.
الثامنة والثلاثون: الإلحاد في الصفات كقوله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة فصلت آية: 22] .
التاسعة والثلاثون: الإلحاد في الأسماء، كقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [سورة الرعد آية: 30] .
الأربعون: التعطيل، كقول آل فرعون.
الحادية والأربعون: نسبة النقائص إليه.
الثانية والأربعون: الشرك في الملك: كقول المجوس.
الثالثة والأربعون: جحود القدر.
الرابعة والأربعون: الاحتجاج على الله.
الخامسة والأربعون: معارضة شرع الله بقدره.
السادسة والأربعون: مسبة الدهر كقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [سورة الجاثية آية: 24] .
السابعة والأربعون: إضافة نعم الله إلى غيره كقوله:(2/139)
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [سورة النحل آية: 83] .
الثامنة والأربعون: الكفر بآيات الله.
التاسعة والأربعون: جحد بعضها.
الخمسون: قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء.
الحادية والخمسون: قولهم في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر} [سورة المدثر آية: 25] .
الثانية والخمسون: القدح في حكمة الله تعالى.
الثالثة والخمسون: أعمال الحيل الظاهرة والباطنة، في دفع ما جاءت به الرسل، كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 54] ، وقوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [سورة آل عمران آية: 72] .
الرابعة والخمسون: الإقرار بالحق ليتوصلوا به إلى دفعه، كما قال في الآية.
الخامسة والخمسون: التعصب للمذهب، كقوله فيها: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 73] .
السادسة والخمسون: تسمية اتباع الإسلام شركا، كما ذكره في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين [سورة آل عمران آية: 79] .(2/140)
السابعة والخمسون: تحريف الكلم عن مواضعه.
الثامنة والخمسون: لي الألسنة بالكتاب.
التاسعة والخمسون: تلقيب أهل الهدى، بالصباة، والحشوية.
الستون: افتراء الكذب على الله.
الحاديه والستون: التكذيب بالحق.
الثانية والستون: كونهم إذا غلبوا بالحجة فزعوا إلى الشكوى للملوك، كما قال: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 127] .
الثالثة والستون: رميهم إياهم بالفساد في الأرض، كما في الآية.
الرابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص دين الملك، كما قال تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] ، وكما قال تعالى: {ِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} الآية [سورة غافر آية: 26] .
الخامسة والستون: رميهم إياهم بانتقاص آلهة الملك، كما في الآية.
السادسة والستون: رميهم إياهم بتبديل الدين، كما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [سورة غافر آية: 26] .(2/141)
السابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص الملك، كقولهم: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] .
الثامنة والستون: دعواهم العمل بما عندهم من الحق، كقوله:
{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 91] ، مع تركهم إياه.
التاسعة والستون: الزيادة في العبادة، كفعلهم يوم عاشوراء.
السبعون: نقصهم منها، كتركهم الوقوف بعرفات.
الحادية والسبعون: تركهم الواجب ورعا.
الثانية والسبعون: تعبدهم بترك الطيبات من الرزق.
الثالثة والسبعون: تعبدهم بترك زينة الله.
الرابعة والسبعون: دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم.
الخامسة والسبعون: دعواهم محبة الله، مع تركهم شرعه، فطالبهم الله بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] .
السادسة والسبعون: دعاؤهم إياهم إلى الكفر، مع العلم.
السابعة والسبعون: المكر الكبار، كفعل قوم نوح.(2/142)
الثامنة والسبعون: أن أئمتهم إما عالم فاجر، وإما عابد جاهل، كما في قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 75] إلى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} .
التاسعة والسبعون: تمنيهم الأماني الكاذبة، كقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [سورة البقرة آية: 80] ، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [سورة البقرة آية: 111] .
الثمانون: دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس.
الحادية والثمانون: اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
الثانية والثمانون: اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد، كما ذكر عن عمر.
الثالثة والثمانون: اتخاذ السرج على القبور.
الرابعة والثمانون: اتخاذها أعيادا.
الخامسة والثمانون: الذبح عند القبور.
السادسة والثمانون: التبرك بآثار المعظمين، كدار الندوة، وافتخار من كانت تحت يده، كما قيل لحكيم بن حزام: بعت مكرمة قريش؟ فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى.
السابعة والثمانون: الاستسقاء بالأنواء.(2/143)
الثامنة والثمانون: الفخر بالأحساب.
التاسعة والثمانون: الطعن في الأنساب.
التسعون: النياحة.
الحادية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر بالأنساب، فذكر الله فيه ما ذكر.
الثانية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر أيضا، ولو بحق، فنهي عنه.
الثالثة والتسعون: أن الذي لا بد منه عندهم، تعصب لإنسان لطائفته، ونصر من هو منها ظالما أو مظلوما، فأنزل الله في ذلك ما أنزل.
الرابعة والتسعون: أن دينهم أخذ الرجل بجريمة غيره، فأنزل الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] .
الخامسة والتسعون: تعيير الرجل بما في غيره، فقال: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية "1.
السادسة والتسعون: الافتخار بولاية البيت، فذمهم الله بقوله:
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 67] .
السابعة والتسعون: الافتخار بكونهم ذرية أنبياء، فأتى لله بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية [سورة البقرة آية: 134] .
الثامنة والتسعون: الافتخار بالصنائع، كفعل أهل
__________
1 البخاري: الإيمان (30) , ومسلم: الأيمان (1661) , وأبو داود: الأدب (5157) .(2/144)
الرحلتين على أهل الحرث.
التاسعة والتسعون: عظمة الدنيا في قلوبهم، كقولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف آية: 31] .
المائة: التحكم على الله، كما في الآية.
الحادية بعد المائة: ازدراء الفقراء، فأتاهم بقوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سورة الأنعام آية: 52] .
الثانية بعد المائة: رميهم أتباع الرسل بعدم الإخلاص وطلب الدنيا، فأجابهم بقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [سورة الأنعام آية: 52] ، وأمثالها.
الثالثة بعد المائة: الكفر بالملائكة.
الرابعة بعد المائة: الكفر بالرسل.
الخامسة بعد المائة: الكفر بالكتب.
السادسة بعد المائة: الإعراض عن ما جاء عن الله.
السابعة بعد المائة: الكفر باليوم الآخر.
الثامنة بعد المائة: التكذيب بلقاء الله.
التاسعة بعد المائة: التكذيب ببعض ما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، كما في قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} [سورة الأعراف آية: 147] ، ومنها: التكذيب بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] . وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] ، وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] .
العاشرة بعد المائة: الإيمان بالجبت والطاغوت;(2/145)
الحادية عشر بعد المائة: تفضيل دين المشركين، على دين المسلمين.
الثانية عشر بعد المائة: لبس الحق بالباطل.
الثالثة عشر بعد المائة: كتمان الحق مع العلم به.
الرابعة عشر بعد المائة: قاعدة الضلال وهي: القول على الله بلا علم.
الخامسة عشر بعد المائة: التناقض الواضح لما كذبوا الحق، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [سورة ق آية: 5] .
السادسة عشر بعد المائة: الإيمان ببعض المنزل دون بعض.
السابعة عشر بعد المائة: التفريق بين الرسل.
الثامنة عشر بعد المائة: مخالفتهم فيما ليس لهم به علم.
التاسعة عشر بعد المائة: دعواهم اتباع السلف، مع التصريح بمخالفتهم.
العشرون بعد المائة: صدهم عن سبيل الله من آمن به.
الحادية والعشرون بعد المائة: مودتهم الكفر والكافرين.
الثانية والعشرون بعد المائة: والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة والعشرون بعد المائة: العيافة، والطرق، والطيرة، والكهانة، والتحاكم إلى الطاغوت، وكراهية التزويج بين العيدين; والله أعلم1.
__________
1 صححت هذه الرسالة وعدلت أرقام مسائلها وفق ما ظهر من التحقيق لها في القسم الأول من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من صفحة 333 - إلى نهاية - 352.(2/146)
وقال أيضا: رحمه الله تعالى:
ذكر بعض ما في قصة الجاهلية المذكورة في السيرة، من الفوائد:
الأولى: ما في قصة ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر من بيان الشرك بالله; وإزالة الشبهة التي أدلى بها المشركون، من قولهم: نريد الجاه والشفاعة، وقولهم: ليس دعوة الصالحين مثل الأصنام وقولهم: نحن نعلم أن الله هو النافع الضار وقولهم: هؤلاء ولو أشركوا، فهم من أمة محمد; وقول شياطينهم: هذا شرك أصغر. فكل هذا: يكشفه قصتهم.
الثانية: مضرة البدع ولو صح قصد مبتدعها، وأنها سبب للخروج عن الإسلام.
الثالثة: التحذير من الغلو.
الرابعة: كون الحق في القلوب ينقص، والباطل يزيد.
الخامسة: التحذير من الكذب على العلماء، وقد يكون الكاذب لم يتعمد.
السادسة: معرفة أن الأصنام لم تعبد لذاتها; وإنما عبدت لأجل الصالحين.
السابعة: أن الردة وعبادة الأصنام، قد يكون سببها فعل بعض الصالحين.
الثامنة: التحذير من الفتنة بقبور الصالحين، لقوله: (عكفوا على قبورهم) .
التاسعة: أن من أسباب الردة بعد الأمد عن النبوة.
العاشرة: أن من أسبابها: نسيان العلم.
الحادية عشر: ما في قصة عمرو بن لحي من التحذير من فتنة البلد الحرام.
الثانية عشر: التحذير من فتنة أهل الشام.
الثالثة عشر:(2/147)
التفطن لما أعطي عمرو من الأعمال.
الرابعة عشر: ما أعطى من الكمال.
الخامسة عشر: ما أعطى من الملك.
السادسة عشر: ما أعطى من طاعة الناس له.
السابعة عشر: التفطن للفرق بين: كرامات الأولياء، وتنزل الشياطين.
الثامنة عشر: أن من علامات الباطل زيادته كل وقت، وعلامات الحق ثقله ونقصانه. التاسعة عشر: العبرة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في النار.
العشرون: اللطيفة: كون صور الصالحين يبعث عليها أول الرسل، ولم يكسرها إلا خاتم الرسل. الحادية والعشرون: معرفة أن الكفار لم يقصدوا بالشرك وعبادة الأصنام إلا الخير. الثانية والعشرون: كون بعض الأوثان عندهم أعظم من بعض. الثالثة والعشرون: تفرقهم واختلافهم، في تعظيم أوثانهم وفي عبادتها. الرابعة والعشرون: كونهم في أمر مريج وفي قول مختلف، يقولون: إن الأمر بيد الله لا يدبر إلا هو، ويقولون: {اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] . الخامسة والعشرون: فعلهم العبادات1.
[معنى قوله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية]
وسئل رحمه الله، عن قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران آية: 154] ، وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [سورة الفتح آية: 6] ، وقوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [سورة فصلت آية: 23] ، ما معنى سوء الظن بالله؟
__________
1 آخر ما وجد.(2/148)
وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، ما معناه؟ وما معنى: إدخال البخاري إياه في كتاب الطب؟
وكذلك: الحديث الذي أورده: " ما من مسلم يصيبه أذى "1 فإن فسرتم "الأذى" بجميع المكروهات، كما هو المشهور من معنى اللفظ الآخر: " ما يصيب المسلم، من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى "2 فعطف: "الأذى" على ما تقدم، والعطف يقتضي المغايرة، هل المراد: المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية; أم لا؟
وما معنى قولهم: من الشرك التصنع للمخلوق، وخوفه، ورجاؤه؟.
وهل المراد به: الشرك الأكبر؟ أو الأصغر؟
وقوله: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله "3 ما معناه؟
فأجاب: أما قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران آية: 154] ، وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [سورة الفتح آية: 6] ، فقد بسط الكلام عليها في الهدى، على وقعة أحد، وقد فسره بأشياء كثيرة، نقولها ونعتقدها، ولا نظن إلا أنها عقل وصواب، فتأمل كلامه تأملا جيدا.
وأما قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، وإدخال البخاري لها في كتاب الطب، فمراد البخاري: أن هذه الأمراض، التي يكرهها العبد، هي مما يكفر الله بها عن المؤمن
__________
1 البخاري: المرضى (5647) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2571) , وأحمد (1/381 ,1/441 ,1/455) , والدارمي: الرقاق (2771) .
2 البخاري: المرضى (5642) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2573) , والترمذي: الجنائز (966) , وأحمد (2/303 ,2/335 ,3/4 ,3/18 ,3/24 ,3/38 ,3/48 ,3/61 ,3/81) .
3 أحمد (2/391) .(2/149)
سيئاته، ويطهره بها، لأن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، عام في جزاء الدنيا والآخرة; وأما: إدخاله هذا في كتاب الطب، فواضح، وأهل العلم: يذكرون في الباب، ما هو أبعد من هذا، تعلقا واستطرادا.
وأما قوله: (ما من مسلم يصيبه أذى) فهو عام، وأما عطف: "الأذى" على الوصب، والنصب، والهم; فمن عطف العام على الخاص، وهو كثير جدا في كلام العرب، وفي كلامنا.
وأما سؤالكم: هل هذا في المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية؟
فنقول: أما الشرك الذي يصدر من المؤمن وهو لا يدري، مع كونه مجتهدا في اتباع أمر الله ورسوله، فأرجو أن لا يخرجه هذا من الوعد.
وقد صدر من الصحابة أشياء من هذا الباب، كحلفهم بآبائهم، وحلفهم بالكعبة، وقولهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقولهم: اجعل لنا ذات أنواط; ولكن إذا بان لهم الحق اتبعوه، ولم يجادلوا فيه حمية الجاهلية لمذهب الآباء والعادات.
وأما الذي يدعي الإسلام، وهو يفعل من الشرك الأمور العظام، فإذا تليت عليه آيات الله استكبر عنها، فليس هذا بالمسلم; وأما الإنسان الذي يفعلها بجهالة، ولم يتيسر له من(2/150)
ينصحه، ولم يطلب العلم الذي أنزله الله على رسوله، بل أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ما حاله. وأما قول من قال: من الشرك التصنع للمخلوق; فلعل مراده: التصنع بطاعة الله الذي يسمى: الرياء، وهو كثير جدا، فهذا صحيح في أمور لا يفطن لها صاحبها.
وأما خوف المخلوق فالمراد به: الخوف الذي يحملك أن تترك ما فرض الله عليك، وتفعل ما حرم الله عليك، خوفا من ذلك المخلوق; وأما: الرجاء، فلعل المراد: الذي يخرج العبد عن التوكل على الله والثقة بوعده، وكل هذه الأمور كثيرة جدا.
وأما قولك: هل المراد به الشرك الأصغر، أو الأكبر؟ فهذا يختلف باختلاف الأحوال، وقد يتصنع لمخلوق فيخافه، أو يرجوه، فيدخل في الشرك الأصغر، وقد يتزايد ذلك ويتوغل فيه، حتى يصل إلى الشرك الأكبر.
وسئل رحمه الله:
عن معنى عقد اللحية؟ والضرب في الأرض؟ هو الذي نعرف: أن بعضهم يخط خطوطا، ثم يعدها: إن ظهرت شفعا فكذا، وإن ظهرت وترا فكذا، أم غير ذلك؟ وتفسير: "الجبت" برنة الشيطان; ما رنة الشيطان؟. وحديث: "من ردته الطيرة فقد أشرك، وكفارة ذلك أن تقول: اللهم لا طير إلا طيرك" إلخ، أم كيف يزول ذلك الشرك بهذا اللفظ؟ مع أن الطيرة مخامرة باطنة، واللفظ وحده لا يفيد، أو فائدة(2/151)
قليلة؟ وما معنى: الفخر، والطعن؟ وما معنى مكر الله بالعبد؟ وما الفرق بين الروح، والرحمة؟
فأجاب رحمه الله: عقد اللحية: لا أعلمه، لكن ذكر في الآداب ما يقتضي أنه شيء يفعله بعض الناس في الحرب، على وجه التكبر. وأما الضرب، فهو مشهور جدا حتى إن بعض الناس يخط، فمن وافق خطه فذاك، والذي يبدو للذهن: أنه عام في كل أنواع الخط، وخط ذلك النبيِّ عُدِمَ، لا يوجد من يعرفه.
ورنة الشيطان: لا أعرف مقصود الحسن، بل عادة السلف، يفسرون اللفظ العام ببعض أفراده، وقد يكون السامع يعتقد أن ذلك ليس من أفراده، وهذا كثير في كلامهم جدا، ينبغي التفطن له.
وقوله في الطيرة: "وكفارة ذلك أن تقول" إلخ.
فالطيرة تعم أنواعا، منها ما لا إثم فيه، كما قال عبد الله: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) ; فإذا وقع في القلب شيء، وكرهه، ولم يعمل به، بل خالفه، وقال، لم يضره، فإن قال من الحسنات شيئا فهو أبلغ وأتم في الكفارة; فلو قدرنا أن تلك الطيرة من الشرك الخفي أو الظاهر، ثم تاب منه، وقال هذا الكلام على طريق التوبة، فكذلك.(2/152)
وأما الفخر بالأحساب؛ فالأحساب: الذي يذكر عن مناقب الآباء السالفين، التي نسميها: المراجل; إذا تقرر هذا، ففخر الإنسان بعمله منهي عنه; فكيف افتخاره بعمل غيره؟!
وأما الطعن في الأنساب، ففسر بالموجود في زماننا: ينتسب إنسان إلى قبيلة، ويقول بعض الناس: ليس منهم، من غير بينة، بل الظاهر أنه منهم.
وأما مكر الله، فهو: أنه إذا عصاه وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه. وأما الفرق بين الروح والرحمة، فلا أعرفه، ولعله: فرق لطيف، لأن الروح فسر بالرحمة في مواضع.
وسئل رحمه الله:
عن الوعيد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، هل هو صحيح، أم غير ذلك؟. أيضا نبهني عبد الوهاب في خطه للموصلي: أنك ما رضيت قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في مشيئته وإرادته، حتى إني أفكر فيها، ولا بان لي فيها شيء أيضا، سوى المذكور عند النووي:
" اللهم إني أسلمت نفسي إليك "1 إلخ، بين لي معناه، جزاك الله خيرا.
الجواب: الوعيد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه ثابت عند أهل الحديث; فإن كنت قد حفظت القرآن، أو شيئا منه، ثم نسيته، فودي أن تعود إليه. وأما قوله في الخطبة:
__________
1 البخاري: الدعوات (6311) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) , والترمذي: الدعوات (3394 ,3574) , وأبو داود: الأدب (5046) , وابن ماجه: الدعاء (3876) , وأحمد (4/285 ,4/290 ,4/292 ,4/296 ,4/299 ,4/301) , والدارمي: الاستئذان (2683) .(2/153)
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في مشيئته، وإرادته، فعجب! كيف يخفى عليك؟ هذا للألوهية، والمذكور في الخطبة توحيد الربوبية، الذي أقر به الكفار.
وأما قوله: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك "1 إلى آخره، فترجع إلى الإخلاص، والتوكل، ولو كان بينهما فروق لطيفة. والله أعلم.
وسئل رحمه الله:
عن الفقير الصابر، والغني الشاكر أيهما أفضل؟ وعن حد الصبر وحد الشكر؟. فأجاب: أما مسألة الغنى والفقر، فالصابر والشاكر كل منهما من أفضل المؤمنين; وأفضلهما: أتقاهما، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات آية: 13] .
وأما حد الصبر وحد الشكر، فلا عندي علم إلا المشهور بين العلماء، أن الصبر: عدم الجزع، والشكر: أن تطيع الله بنعمته التي أعطاك.
[رسالة حسين وعبد الله ابني الشيخ إلى الحفظى في الحث على التوحيد]
قال ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، ما نصه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من حسين، وعبد الله، ابني الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، إلى جناب: الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات
__________
1 البخاري: الدعوات (6311) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) , والترمذي: الدعوات (3394 ,3574) , وأبو داود: الأدب (5046) , وابن ماجه: الدعاء (3876) , وأحمد (4/285 ,4/290 ,4/292 ,4/296 ,4/299 ,4/301) , والدارمي: الاستئذان (2683) .(2/154)
الصالحات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنا نحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والصلاة والسلام، على نبيه وحبيبه، محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الشهير، والعلم المستطير، وقد وصل الله إلينا كتابك، وفهمنا ما حواه، من حسن خطابك; وتذكر أنك على هذا الدين، الذي نحن عليه، من إخلاص الدين لله، وترك عبادة ما سواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق.
فالحمد لله الذي من علينا وعليك، وهذا هو أفرض الفرائض على جميع الخلق; ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه، فله البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة وله العزة والرفعة والجاه، والملابس الفاخرة; وفي الحديث: عن الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، قال: " إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما، ويضع به آخرين ".
والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا رحمه الله، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أنه لا يغفره، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله، والشأن كل الشأن، في معرفة حقيقة التوحيد، الذي بعث الله به رسوله، وبه يكون الرجل مسلما، مفارقا للشرك وأهله; وذلك لأن كثيرا(2/155)
من المصنفين، إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية، الذي أقر به المشركون; ومنهم من يفسره بتوحيد الذات، والصفات; وذلك وإن كان حقا، فليس هو المراد من توحيد العبادة، الذي هو معنى لا إله إلا الله.
وكثير من المصنفين يفسر الشرك بالإشراك في توحيد الربوبية، الذي أقر به كفار العرب، وغيرهم من طوائف المشركين، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] ، وقال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 88] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وإنما الخلاف بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو في توحيد الإلهية، الذي هو توحيد العبادة; ولهذا لم يصيروا موحدين بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية; فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون وابتدعوه، كابن حجر: الهيتمي وأشباهه.
واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، وعلى ما كان عليه السلف الصالح من أصحابه والتابعين لهم بإحسان، ولا تغتر بما حدث بعدهم من البدع المضلة في أصول الدين وفروعه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(2/156)
[سورة الأنعام آية: 153] .
وبهذا تعرف أن حقيقة أصل الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.
وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، هو أن يطاع فيما أمر، وينتهى عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه ويترك; فعلى أقواله وأفعاله: تعرض الأقوال والأفعال; فما وافق قوله، فهو: المقبول; وما خالفه فهو المردود; وكاتبه حمد بن ناصر بن معمر، وصلى الله على محمد.
وسئل الشيخ: حمد بن ناصر، بن معمر، رحمه الله تعالى، عن الفرق بين الشفاعة المثبتة، والمنفية؟
فأجاب: أما الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، فهي مسألة عظيمة، ومن لم يعرفها لم يعرف حقيقة التوحيد والشرك; والشيخ رحمه الله تعالى عقد لها بابا في كتاب التوحيد، فقال: باب الشفاعة، وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، ثم ساق الآيات، وعقبه بكلام الشيخ تقي الدين.
فأنت راجع الباب، وأمعن النظر فيه، يتبين لك حقيقة الشفاعة، والفرق بين ما أثبته القرآن وما نفاه، وإذا تأمل الإنسان القرآن، وجد فيه آيات كثيرة في نفي الشفاعة، وآيات كثيرة(2/157)
في إثباتها; فالآيات التي فيها نفي الشفاعة، مثل قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، ومثل قوله: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] ، وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4] ، وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الآيات التي فيها إثبات الشفاعة، فمثل قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فالشفاعة التي نفاها القرآن هي; التي يطلبها المشركون من غير الله، فيأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى قبر من يظنونه من الأولياء والصالحين; فيستغيث به، ويستشفع به إلى الله، لظنه أنه إذا فعل ذلك شفع له عند الله، وقضى الله حاجته، سواء أراد حاجة دنيوية أو حاجة أخروية، كما حكى الله عن المشركين في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، لكن كان الكفار الأولون، يستشفعون بهم في قضاء الحاجات الدنيوية; وأما المعاد، فكانوا مكذبين به، جاحدين له; وأما المشركون اليوم فيطلبون من غير الله حوائج الدنيا والآخرة;(2/158)
ويتقربون بذلك إلى الله، ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة، و {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16] .
وأما الشفاعة: التي أثبتها القرآن، فقيدها سبحانه بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له; فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا إلا لمن رضي قوله وعمله; وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته أهل التوحيد والإخلاص، فمن طلبها منه اليوم، حرمها يوم القيامة؛ والله سبحانه قد أخبر أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين; وإنما تنفع من جرد توحيده، بحيث أن يكون الله وحده هو إلهه، ومعبوده؛ وهو سبحانه: لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3] .
فإذا تأملت الآيات، تبين لك أن الشفاعة المنفية هي التي يظنها المشركون، ويطلبونها اليوم من غير الله. وأما الشفاعة المثبتة فهي التي لأهل التوحيد والإخلاص. كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته، لا يشرك بالله شيئا; والله أعلم.(2/159)
وسئل أيضا: الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، عن قوله: (أسألك بحق السائلين عليك) ... ؟ إلخ.
فأجاب: أما السؤال عن قول الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) ، فهذا ليس فيه دليل على جواز السؤال بالمخلوق، كما قد توهم بعض الناس فاستدل به على جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ; وإنما هو سؤال الله تعالى بما أوجبه على نفسه، فضلا وكرما، لأنه يجيب سؤال السائلين إذا سألوه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] .
ونظيره قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47] ، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [سورة هود آية: 6] ، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنبياء آية: 88] . هذا ما ذكره العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح، وإلا فهو ضعيف، وعلى تقدير صحته فهو من باب السؤال بصفات الله، لا من باب السؤال بذوات المخلوقين، والله أعلم.
سئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ:
هل يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والمرسلين والصالحين في الدعاء؟
فأجاب: التوسل المشروع، الذي جاء به الكتاب(2/160)
والسنة، هو: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات، كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} الآية [سورة آل عمران آية: 193] .
وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، الحديث; وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه وغيره: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "1.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم "2، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه: " أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك" 3 الحديث، وأمثال ذلك.
فهذا كله أمر مشروع، لا نزاع فيه، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] .
وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم، فهذا كله مستحب، كما توسل
__________
1 أحمد (1/452) .
2 النسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) .
3 الترمذي: الدعوات (3570) .(2/161)
الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي.
وأما التوسل بجاه المخلوقين، كمن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على النهي عنه. وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعا، ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم، لأن الذي لهم من الجاه والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، والله المجازي لنا على ذلك.
وأما التوسل بذواتهم، مع عدم التوسل بالإيمان والطاعة، فلا يكون وسيلة، ولأن المتوسل بالمخلوق إن لم يتوسل بما يحصل من المتوسل به من الدعاء للمتوسل أو بمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في كتاب: الاستغاثة: ما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه(2/162)
لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك.
وذكر القدوري في شرح الكرخي، عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز معنى، وفاقا. انتهى.
وقد احتج من أجاز المسألة بالمخلوقين بأمور:
الأول: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 الحديث.
فالجواب: إن الحديث في إسناده عطية العوفي، وفيه كلام، ضعفه الإمام أحمد، والثوري، وهشيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني والنسائي، وابن حبان، وقال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب، وقال ابن معين: صالح; وقال ابن سعيد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وبتقدير ثبوته، هو من التوسل المستحب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول الإجابة وإثابته.
والثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه من
__________
1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) , وأحمد (3/21) .(2/163)
حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي " الحديث.
فالجواب: إن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف بالاتفاق، ضعفه مالك، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعة، وأبو داود، وابن سعد، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه.
فهذا كما ترى، تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو: هو. وقال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك لما ذكر الحاكم هذا الحديث فقال: هذا صحيح، قال الذهبي: أظنه موضوعا، ثم هو مخالف للقرآن، لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: ما رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن شاهين والبيهقي وصححه الترمذي عن عثمان بن حنيف: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعوه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في "1 هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا
__________
1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .(2/164)
من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هدا لفظ الترمذي، وقال بعضهم: هذا يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غير. والجواب: إن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه، فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته؛ وتوسلهم به هو: دعاؤه، ودعاؤهم معه، فيكون وسيلتهم إلى الله تعالى، وهذا لم يفعله الصحابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في مغيبه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: اللهم فشفعه في، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه.
قلت: ومن تأمل هذا الحديث، علم صحة هذا، فإنه صريح في أن الأعمى أتاه فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك; قال: فادعه، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وأن الأعمى سأل ربه أن يشفعه فيه، بأن يستجيب دعاءه صلى الله عليه وسلم وهذا كاف في حكم هذه المسألة.
واعلم: أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه. فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو(2/165)
بجاه نبيك محمد (، ونحو ذلك، فهذا بدعة ليس بشرك.
وسؤاله ودعاؤه، هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة، أو أنا في كرب شديد فرِّج عني، أو استجرت بك من فلان فأجرني، ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه عن الملة، لأنه صرف حق الله لغيره، لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر.
وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله; فافهم ذلك، وفقنا الله وإياك لسلوك أحسن المسالك.
وبهذا يظهر جواب المسألة الثانية، وهي: إذا وجد نحو ذلك في تصنيف بعض العلماء، هل له محمل أم لا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[رسالة عبد العزيز بن سعود إلى الحفظي يوصيه بتحقيق الشهادتين]
وقال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد العزيز بن سعود، إلى جناب الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله من جميع الأشرار، وجعله من عباده الصالحين الأبرار، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من الفجار.(2/166)
أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو; وهو للحمد والثناء أهل، وأسأله أن يصلي على صفوته وخيرته من خلقه، محمد خير أنبيائه، وأمينه على إنبائه، وعلى آله وصحبه، الذين كانوا سيوفا قاطعة على رقاب أعدائه.
وقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه، من لطيف خطابكم، فإن سألت عن الأحوال، فلله الحمد والمنة، نحن في أحسن حال، وأسر بال، نسأل الله أن يزيدنا، وسائر إخواننا من النعم والإفضال.
وما ذكرت من اتباعكم، هذه الدعوة الإيمانية، وإخلاصكم الدعوة والتوحي، لمن له الوحدانية، فهنيئا لمن كانت حاله كذلك، وأنقذه الله من الشرك والمهالك، لأن الإسلام عاد في هذه الأزمان غريبا كما بدأ، كما أخبر به الصادق المصدوق، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره; نسأل الله أن يجعلنا وإياك من الغرباء، الذين ذكر أنهم يحيون من السنة ما أمات الناس.
وما ذكرت من طلب الوصية في كتابك، فأعظم ما نوصيك به: تحقيق هذين الأصلين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله; وذلك لأنهما أصل الإسلام; ولا ينفع علم، ولا يقبل عمل، بدون تحقيقهما قولا وعملا واعتقادا؛ وهما أصل التقوى، التي أوصى الله بها الأولين والآخرين، في كتابه، بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا(2/167)
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وفسر التقوى من فسرها من السلف، بتفاسير; منها: أنها العمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله; واجتناب معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله; فأعظم ما نوصيك به: استحضار هذا.
ثم الدعوة إلى الله، قال جل جلاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] . وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، قال (لعلي ابن أبي طالب (" فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم "1
فإذا حققت هذه التقوى، وكنت من أهلها، فلا تخف ولا تحزن; وقد وردت البشرى من الله أنه معك حيث كنت، ناصرا، ومعينا، وحافظا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] . وإذا كان الله معك، فمن تخاف؟ وإذا كان عليك، فمن ترجو؟ وكما قال بعضهم: من اتقى الله، كان الله معه، ومن كان الله معه: فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
نسأل الله أن يهدينا، وإياكم إلى صراطه المستقيم، ويدخلنا برحمته جنات النعيم، والسلام عليكم. ورحمة الله
__________
1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأحمد (5/333) .(2/168)
وبركاته.
وبعد ما فرغ أمير المؤمنين من جوابه، خطر لأحد خدام علماء المسلمين أن يذيل بكلمات لطيفة، غايتها ثناء على الله، وتحدث بنعمة الله، وترغيب في دين الله، مراعيا فيها ما قيل في المثل: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل; وقد اتفقت على روي المبتدي1 وبحره.
فقال غفر الله له:
تألق برق الحق في العارض النجدي ... فعم حياة الكون في الغور والنجد
وأورقت الأشجار وانتضدت بها ... يوانع أنواع من الثمر الرغد
وأشرقت الأنوار من زهر ورده ... وأعبقت الأقطار من طيب الند
وغردت الأطيار بالذكر تطرب ال ... مسامع جهرا فوق أغصانها الملد
وقام خطيب الكائنات لربها ... على الخصب بعد المحل بالشكر والحمد
فذاك الحيا محيي القلوب ربيعها ... ومطعومها مشروبها طيبها الوردي
فها نحن نجني من ثمار غراسه ... ونرجوا جناه العفو في جنة الخلد
فإن كنت مشتاقا إلى ذلك الجنا ... فذقه تجد طعما ألذ من الشهدي
هو الوحي دين الله عصمة أهله ... وحظهم الأوفى وجدهم المجدى
به ينتجى والناس في هلكاتهم ... به يرتجى نيل الرغائب والرفد
__________
1 المراد بالمبتدي الحفظي, أرسل قصيدة إلى الإمام عبد العزيز بن سعود, تتضمن إجابته واستبشاره بهذه الدعوة, وهذه القصيدة المذيل بها هنا جواب عليها.(2/169)
به الأمن في الدنيا وفي الحشرواللقا ... ومن قبل عند الاحتضار وفي اللحد
به تصلح الدنيا به تحقن الدما ... به يحتمى من كل باغ وذي حقد
به زعزعت أركان كسرى وقيصر ... ولم يجد ما حازا من المال والجند
ومثلهما في السالكين طريقهم ... أرانا كما قد قاله صادق الوعد
فلله حمد يرتضيه لنفسه ... على نعم زادت عن الحصر والعد
فأعظمها بعث الرسول محمد ... أمين إله الخلق واسطة العقد
دعانا إلى الإسلام دين إلهنا ... وتوحيده بالقول والفعل والقصد
هدانا به بعد الضلالة والعمى ... وأنقذنا بعد الغواية بالرشد
حبانا وأعطانا الذي فوق وهمنا ... وأمكننا من كل طاغ ومعتد
وأيدنا بالنصر واتسقت لنا ... ممالك لا تدعو سوى الواحد الفرد
فنسأله إتمام نعمته بأن ... يثبتنا عند المصادر كالورد
فيا فوز عبد قام لله جاهدًا ... على قدم التجريد يهدي ويستهدي
وجدد في نصر الشريعة صارما ... بعزم يرى أمضى من الصارم الهندي
وتابع هدي المصطفى الطهر مخلصًا ... لخالقه فيما يسر وما يبدي
ويا حسرة المحروم رحمة ربه ... بإعراضه عن دين ذي الجود والمجد
لقد فاته الخير الكثير وما درى ... وقد خاب واختار النحوس على السعد
ومن بعد حمد الله أزكى صلاته ... وتسليمه الأوفى الكثير بلا حد
على المصطفى خير الأنام وآله ... وأصحابه أهل السوابق والزهد
قال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى، وقد سئل عن رجل عبد الله على ظاهر دين الإسلام، يأتي بالواجبات، ويترك المقبحات، ولا يقلد في دينه أحدا من(2/170)
أرباب هذه المذاهب المشهورة، بل إن كان فيه أهلية النظر في أدلة الكتاب والسنة عمل بها، وإلا سأل من وجده من العلماء، فهل هذا ناج، أم لا؟
فنقول: بعد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم، قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] .
فأخبر الله سبحانه أن من أطاع الله ورسوله، من الأولين والآخرين، فهو ناج من العذاب، ويحصل جزيل الثواب، وهذا أمر مجمع عليه بين الأمة، ولله الحمد، لا اختلاف فيه، لكن الشأن في تحقيق ذلك، وتصديق القول بالعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، وذلك: لأن الناس أحدثوا بعد نبيهم (والسلف الصالح محدثات، زعموا أنها من البدع الحسنة، فأقبح ذلك وأشده: دعوة غير الله، والاستغاثة بالصالحين، من الأحياء والأموات، في جلب الفوائد، وكشف الشدائد، وسؤالهم الحاجات، ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم عنده.
وكذلك كنا نفعله، قبل أن يمن الله علينا بدين الإسلام، نحن وغيرنا، حتى اشتهر ذلك في كثير من البلاد، وصار عند غالب الناس هو غاية تعظيم الصالحين ومحبتهم، ومن أنكره عليهم كفروه وخرجوه.(2/171)
فلما ظهر الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة يوم المآب نهانا عن ذلك، وأخبر أن هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، إلا بالتوبة منه، وأنه هو فعل المشركين عبدة الأوثان، من العرب وغيرهم.
وأتانا بالدلائل القطعية، من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] . وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة معروفة. فلما عرفنا أن هذا هو الشرك الذي بعث الله الرسل وأنزل الكتب، تنهى عنه، وتأمر بعبادة الله، وإخلاص الدعوة له وحده لا شريك له، وأن هذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، تبرأنا من الشرك بالله وأهله، ومن دعوة غير الله، والاستغاثة بهم في الشدائد، وجلب الفوائد، وإخلاص الدعوة لله وحده لا شريك له.
فلما فعلنا ذلك، وأزلنا جميع الأوثان والقباب التي في بلداننا، أنكر الناس ذلك، وكفرونا، وخرجونا، وبدعونا، ورمونا بعداوتهم عن قوس واحد، فاعتصمنا بالله،(2/172)
وتوكلنا عليه، وجاهدناهم في الله، وفي دين الله، فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، والحمد لله على ذلك، فهو الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
إذا عرفتم ذلك، فنقول في جواب المسألة الكبرى: من عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص جميع العبادة بأنواعها لله وحده لا شريك له، فلم يستغث إلا بالله، ولم يدع إلا الله وحده، ولم يذبح إلا لله وحده، ولم ينذر إلا لله وحده، ولم يتوكل إلا عليه، ويذب عن دين الله، وعمل بما عرف من ذلك بقدر استطاعته، فهو ناج بلا شك، وإن لم يعرف هذه المذاهب المشهورة.
[نبذة للشيخ عبد العزيز الحصين في توحيد العبادة]
قال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الحصين رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنَزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بحكم القضاء، من السعادة والشقاء; وأكمل لنا ديننا، ولم يجعله ملتبسا علينا، وتفضل، فرضي لنا الإسلام دينا، فنحمده على ذلك ونشكره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونتوب إليه ونستغفره، وصلى الله وسلم على المبعوث بالمحجة البيضاء، والشريعة الغراء; محمد أفضل الرسل والأنبياء; وعلى آله وأصحابه الأتقياء،(2/173)
صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم البعث والجزاء.
أما بعد: فإن العبادة التي هي اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه، هي الغاية التي خلق الله لها جميع العباد، من جهة أمر الله تعالى، ومحبته ورضاه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وبها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وذلك أن الدين كله بأنواعه لله وحده، والأمر كله لله، مختص بجلاله وعظمته، ليس للخلق منه شيء البتة، لا ملك، ولا نبي، ولا ولي، بل حق لله تعالى، غير جنس حق المخلوق.
فأما حقه تعالى: فتوحيده وإفراده بعبادته، التي أوجبها تعالى على عباده، وخلقهم ليعملوا بها، وإخلاصها له تعالى وتقدس، بعد نفيها عن غيره; وحصرها له وعليه; والدعاء بما لا يقدر على جلبه ودفعه إلا الله، مختصا به، لا يجوز أن يدعى في ذلك غيره تبارك وتعالى، ورجاؤه فيه، والتوكل عليه، وذبح النسك، والنذر، لجلب الخير، أو دفع الشر، والإنابة، والخضوع كله لله، مختص بجلاله، كالسجود، والتسبيح، والتكبير والتهليل.
قال سبحانه وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال لنبيه {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا(2/174)
يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] . وقال تعالى لأفضل خلقه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21"22] .
وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162"163] . وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] .
وحق الأنبياء: الإيمان بهم، وبما جاؤوا به، واتباع النور الذي أنزل معهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، وموالاتهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين، والناس أجمعين; وعلامة التصديق في ذلك: اتباع هديهم، والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم، والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمدا (خاتمهم، وأفضلهم، وإثبات شفاعتهم، التي أثبتها الله سبحانه في كتابه، وهي من بعد إذن ربهم لهم فيها، ممن يرضى عنه من أهل التوحيد، وأن المقام المحمود، الذي ذكره الله في كتابه لنبينا محمد (.
وكذلك حق أوليائه: محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان(2/175)
بكرامتهم، لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيرا لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك وتعالى، ويدفعوا عنهم سوءا لا يقدر على دفعه أو رفعه إلا الله، لأنه عبادة مختصة بجلاله سبحانه، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] ، فسماه عبادة، وأضافها إلى نفسه; وروى النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله: "إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ رسول الله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} " الآية [سورة غافر آية: 60] ، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وكل ما في القرآن، من دعاء، أو دعوة، فهو إما بمعنى: اسألوني أعطكم، كما في هذا الحديث، وكقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] . وإما بمعنى: امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، كما في قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ} [سورة الشورى آية: 26] ، أي يثيبهم على أحد التفسيرين، لا أن يتخذوا في ذلك واسطة، بين الله، وبين من دعاهم، ولا سيما في حصول المطلوب، كالواسطة بين السلطان ورعيته; فإن ذلك دين المشركين الذين قال الله فيهم: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الآية [سورة سبأ آية: 22] . وقال(2/176)
تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] .
وإنما ذكر الله ذلك عنهم، لأنهم يدعون الملائكة والأنبياء، ويصورون صورهم محبة لهم، ويرجونهم ويلتجئون إليهم ليشفعوا لهم فيما دعوهم فيه، وذلك بطرق مختلفة; ففرقة قالت: ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله ورجائه، بلا واسطة تقربنا إليه، وتشفع لنا عنده، لعظمته; وفرقة قالت: الأنبياء والملائكة ذوو وجاهة عند الله، ومنْزلة عنده، فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم، ليقربوهم إلى الله زلفى; وفرقة: جعلتهم قبلة في دعاء الله؛ وفرقة قالت: إن على كل صورة مصورة على صور الملائكة والأنبياء وكيلا موكلا بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه، وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله، وإلا أصابته نكبة بأمره; فالمشرك إنما يدعو غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ويلتجئ إليه فيه ويرجوه منه، لما يحصل له في زعمه من النفع.
وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع: إما أن يكون مالكا لما يريد منه داعيه، فإن لم يكن مالكا، كان شريكا; فإن لم يكن، كان ظهيرا، فإن لم يكن ظهيرا، كان شفيعا. فنفى الله سبحانه هذه المراتب الأربع عن غيره نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك عن غيره، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي لأجلها وقعت(2/177)
العداوة والمخاصمة، بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [سورة الإسراء آية: 111] ، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [سورة المؤمنون آية: 88] . وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [سورة آل عمران آية: 26] .
وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] . وقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وقوله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [سورة طه آية: 108] ، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22"23] .
فأثبت سبحانه وتعالى ما لا نصيب فيها للمشرك البتة، وهي: الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه سبحانه، الذي يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء; ولهذا لما قالت الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] "وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ(2/178)
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43"44] . وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} الآية [سورة الأنعام آية: 51] .
فليس الموحد إلا من اجتمع قلبه ولسانه على الله، مخلصا له تعالى ألوهيته المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه عنه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا، عالما بالفرق، بين حق: الخالق، والمخلوق، من الأنبياء، والأولياء، مميزا بين الحقين؛ وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، وفي حال القلب أيضا، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
فهذا من تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معنى الإله عند الأولين: ما تألهه القلوب بالمحبة التي كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع، والرجاء، والالتجاء، والتوكل، والدعاء، بما هو مختص بالله، وذبح النسك له.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، وقالوا لمن أحبوه كحب الله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] ، وهم ما(2/179)
ساووهم به في الصفات، ولا في الذات، ولا في الأفعال، كما حكى الله عنهم في الآية، في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآيات [سورة المؤمنون آية: 84] .
والشاهد لله، بأنه: لا إله إلا هو، وقائلها نافيا في قلبه ولسانه، ألوهية كل ما سواه من الخلق، ومثبتا الألوهية لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضا عن ألوهية جميع المخلوقات، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات؛ وذلك يتضمن: اجتماع القلب، في عبادته، ومعاملته، على الله تعالى، ومفارقته في ذلك ما سواه، فيكون مفرقا في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالما بالله، ذاكرا له، عارفا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم، بعبادته وأفعاله وصفاته.
فيكون محبا له، مستعينا، به لا بغيره، متوكلا عليه لا على غيره، ممتنعا عن دعاء غيره، بما لا يقدر على إيجاده أو دفعه أو رفعه إلا الله; فلا يجعل ما هو مختص بجلاله تعالى، لغيره وهذا المقام، هو لمعنى في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ وهذا من خصائص ألوهيته تعالى، التي يشهد له بها عباده المؤمنون; كما أن رحمته تعالى لعبيده، وهدايته إياهم، وخلق السماوات(2/180)
والأرض وما بينهما، وما فيهما من الآيات، من خصائص ربوبيته التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ حتى إبليس عليه اللعنة، معترف بها في قوله: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} [سورة الحجر آية: 36] . وقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الحجر آية: 39] .
وأمثال هذا الخطاب الذي يعرف فيه بأن الله ربه وخالقه ومليكه، وأن ملكوت كل شيء في يده تعالى وتقدس، وإنما كفر بعناده، وتكبره عن الحق، وطعنه فيه، وزعمه أنه فيما ادعاه وقاله، محق، وكذلك المشركون الأولون يعرفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون.
قال الله (آمرا نبيه (أن يسألهم عن ربهم الذي خلقهم، ورزقهم، ويحييهم، ويميتهم، ويدبر أمورهم كلها، فإذا عرفوه واعترفوا به، استحق أن يخص بألوهيته، فلا يدعوا مع الله إلها آخر، بل يتركوا تلك الآلهة التي يدعونها ويرجونها، وينسكون لها، لتقربهم إلى الله زلفى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] .(2/181)
فهم قد أقروا واعترفوا بأن الله سبحانه: خالق الأشياء كلها، وموجدها، ومالكها، وأنه النافع، الضار، المعطي، المانع، الذي لا رازق سواه، ولا قابض، ولا باسط إلا هو، وحده لا شريك له في ذلك، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40"41] .
وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [سورة لقمان آية: 32] . وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 88"89] . وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} الآيات [سورة الشعراء آية: 69"70] .
وروى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، من حديث حصين بن منذر: أن رسول الله (قال: " يا حصين كم تعبد؟ قال; سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، فقال له رسول الله: أسلم حتى أعلمك كلمات، ينفعك الله بهن فأسلم، فقال: قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي ".(2/182)
فبمجرد معرفتهم ربوبيته تعالى، واعترافهم بها، لم تنفعهم ولم تدخلهم في الإسلام، مع جعلهم مع الله آلهة أخرى يدعونها ويرجونها، لتقربهم من الله زلفى، وتشفع لهم عند الله، فبذلك كانوا مشركين في عبادته، ومعاملته، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وقد وصف الله سبحانه، دين المشركين، الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65"66] . وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
وسيظهر تعالى المحق على المبطل، بحكمه بين الفريقين غدا، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] .
وفي صحيحي: البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مسعود (قال: " سألت رسول الله (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك.(2/183)
قال: قلت: ثم أى؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " 1، فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية [سورة الفرقان آية: 68] ، فبين النبي (أن أعظم الذنب: الشرك بالله الذي هو جعل الأنداد واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه.
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي (قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 2، فدين الله وسط، بين الغالي فيه، والجافي عنه.
والشرك شركان؛ شرك أكبر، وهو: الذي تقدم بيانه آنفا، فهو محبط للأعمال، موجب للخسران والخلود في النيران، إلا بالتوبة منه والرجوع إلى دين الإسلام.
وشرك أصغر: كالرياء، والسمعة، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة (عن النبي (قال: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه " 3. ومنه: الحلف بغير الله، روى الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عمر: " عن النبي أنه قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا; قل: ما شاء الله وحده " 4، وروى الإمام أحمد في مسنده: " أن رجلا أتي به قد أذنب ذنبا، وهو أسير، فلما وقف بين يدي النبي (قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، فقال: النبي عرف
__________
1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/431) .
2 مسلم: الأقضية (1715) , وأحمد (2/367) , ومالك: الجامع (1863) .
3 مسلم: الزهد والرقائق (2985) .
4 أحمد (1/347) .(2/184)
الحق لأهله " 1.
والشرك الأصغر: ذنب تحت المشيئة، كسائر الذنوب، بل هو أكبرها، لعموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، وحديث: " أي الذنب أعظم " 2، ولكن لا يكفر مرتكبها ولا يخرج عن الملة الإسلامية، إذا لم يستحل فعلها.
فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل المؤمنين بإيمانهم، في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [سورة آل عمران آية: 193] ، وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم، وهم الثلاثه النفر، توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة التي تقربهم وتحببهم إلى ربهم، رواه البخاري في صحيحه; لأنه وعد أنه: يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . وكالأدعية المأثورة في السنن: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 3 وأمثال ذلك.
وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ، فإنها القربة التي تقرب إلى الله، وتقرب فاعلها منه، وهي: الأعمال الصالحة، كما
__________
1 أحمد (3/435) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) .
3 النسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) .(2/185)
روى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله (قال: " قال الله تعالى: من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " 1 الحديث بتمامه.
ولهذا كان رسول الله (إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فإنها أعظم التقرب إلى الله (كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [سورة البقرة آية: 45] .
وليست الوسيلة بمخلوق يبتغى، ليجعل واسطة بينه وبين خلقه، يتقربون به إليه، لأن هذا عين ما نهى الله عنه في الآيات، وأنزل بقبحه الكتب، وأرسل الرسل، وهو ما قالت بنو إسرائيل لموسى، صلاة الله وسلامه عليه، يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة; فإن قصدهم يتقربون به إليه.
وأما الإقسام على الله بمخلوق، فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه، نهي تنْزيه، أو تحريم؟ على قولين، أصحهما أنه كراهة تحريم; قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف يقول، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به، وأكره: بمعاقد العز من عرشك،
__________
1 البخاري: الرقاق (6502) .(2/186)
وهو حق خلقك; وقال أبو يوسف: معاقد العز: هو الله، فلا أكره هذا; وأكره: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال رحمه الله: المسألة بحق المخلوق لا تجوز لهذا، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه: لا حق للمخلوق على الخالق.
وقال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً} الآية [سورة الجاثية آية: 10] ، فإذا والى العبد ربه وحده، أقام له وليا من الشفعاء، وعقد الموالاة بينه وبين عباده المؤمنين، فصاروا أولياءه في الله; بخلاف من اتخذ مخلوقا من دون الله، فهذا لون، وذاك لون; كما أن الشفاعة الشركية الباطلة نوع، والشفاعة الحق الثابتة التي إنما تنال بالتوحيد نوع; وهذا موضع فرقان، بين أهل التوحيد، وأهل الشرك بالله; والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومما استدل به الذين يدعون مع الله غيره، في المهمات من أهل القبور والأموات، ويقولون: المراد الوسيلة: " اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة; يا محمد إني، أتوجه بك إلى ربي، في حاجتي هذه لتقضى، اللهم شفعه في " 1 رواه الترمذي، والحاكم، وابن ماجه، عن عثمان بن حنيف، قال: " جاء رجل ضرير إلى النبي، فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: إن شئت اخترت لك، وهو خير، وإن شئت دعوت
__________
1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .(2/187)
لك. قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء " 1 قال الحاكم: صحيح.
وهذا الحديث دليل للشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لا عليه، لوجوه.
الأول: أنه في غير محل النِّزاع، بل اختراع منكر، ووردت الأحاديث بحرمته، وهو عمارة القبور، وإلقاء الستور عليها، وتسريجها، وهذه كلها كبائر كما قال أهل العلم، حتى ابن حجر الهيتمي، وغيره; إن حدها: كل ما أتبع بلعنة، أو غضب، أو نار.
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: " قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2.
ولمسلم: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3.
وفي صحيحه: عن جندب بن عبد الله البجلي، (قال " سمعت النبي (قبل: أن يموت بخمس، وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 4.
__________
1 الترمذي: الدعوات (3578) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
2 البخاري: الصلاة (437) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530) , وأبو داود: الجنائز (3227) , وأحمد (2/284 ,2/396 ,2/453 ,2/518) .
3 البخاري: الجنائز (1390) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , ولنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) .
4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .(2/188)
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: " لما نزل برسول الله، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " 1 متفق عليه.
وروى الإمام أحمد في مسنده، بإسناد جيد، عن عبد الله بن مسعود، (أن النبي قال: "إن من شرار الناس، من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " 2 وعن ابن عباس، رضي الله عنهما; قال: " لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج" 3 رواه الإمام أحمد، وأهل السنن.
وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن سجد للقبر نفسه؟ أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام، وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم، من تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من عبادتها بدعائها، ورجائها، والالتجاء إليها، والتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها، وخطاب الموتى بالحوائج: يا سيدي، يا مولاي افعل بي كذا وكذا; وأخذ ترابها، وجعل الخرق عليها تبركا، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتحليتها، وشد الرحال إليها؛ وينضاف إلى ذلك إلقاء الخرق على الشجر،
__________
1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34) , والدارمي: الصلاة (1403) .
2 صحيح البخاري: كتاب الفتن (7067) , وسنن الترمذي: كتاب الطهارة (12) .
3 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337) .(2/189)
ودعاؤها، والذبح والنذر لها، اقتداء بمن عبد اللات، والعزى; والويل كل الويل عندهم، لمن عاب، أو أنكر عليهم.
ومن جمع بين سنة رسول الله (في القبور، وما أمر ونهى، وما كان عليه أصحابه، وبين الذي عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا; ودعاء المقبور عند المهمات شرك بالله (، قد ذكرنا أدلته فيما تقدم; وإن كان سبب قول الله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، مجيء خبر من اليهود، إلى رسول الله (والمسلمين، وقوله: "نعم القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله أندادا; فتقولون: ما شاء الله وشاء فلان، فقال أما إنه قد قال حقا " 1، وأنزل الله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} الآية [سورة البقرة آية: 22] .
وممن أخرج الحديث: جلال الدين السيوطي في: الدر المنثور، في تفسير الآية، وعن قتيلة" امرأة من جهينة" قالت: " أتى يهودي إلى النبي فقال: إنكم تنددون وتشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت; وتقولون: والكعبة; فأمرهم النبي (أن يقولوا: ورب الكعبة، وما شاء الله، ثم شئت ;" رواه النسائي.
وقد أقر النبي (قول اليهودي: إن هذا شرك، فكيف حال من نادى عند المهمات غير الله؟ إذ هو داخل تحت
__________
1 ابن ماجه: الكفارات (2118) , وأحمد (5/72) , والدارمي: الاستئذان (2699) .(2/190)
قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] .
وهؤلاء يحب أحدهم معتقده أكثر من حب الله، وإن زعم أنه لا يحبه كحب الله، فشواهد الحال تشهد عليه بذلك; فإنه يعظم القبر أعظم من بيت الله، ويحلف بالله كاذبا، ولا يحلف بمعتقده; ويحلف بالله تعالى في أي محل، ولا يحلف بمعتقد يعتقده; فلا جامع بين ما استدلوا به، وبين ما نهاهم عنه محمد بن عبد الوهاب، عافاه الله تعالى.
الثاني: أن الحديث دليل للشيخ رحمه الله تعالى، أنه لا يدعى غير الله (فإن مسألة: (اللهم إني أتوجه إليك) ; المسؤول: الله (، وإنما توجه إليه بحبيبه المصطفى عنده، ونهايته: سؤال الله (أن يشفعه، فمستهله سؤال الله (، ونهايته سؤاله سبحانه; ووسطه: يا حبيبنا محمدا، إنا نتوسل بك إلى ربك، فاشفع لنا.
فهذا خطاب لخاص معين في قوله، كقولنا في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته; وكاستحضار الإنسان محبه ومبغضه في قلبه، فيخاطبه بما يهواه لسانه، وهذا كثير في لسان الخاصة، دون العامة، ومعناه: أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته المشتملة على الدعاء; ولهذا قال في تمام الحديث: اللهم شفعه في; وهذا متفق على جوازه.(2/191)
وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء، كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أم بغيرها; ومنه ما قص الله عن الإسرائيلي المستغيث بموسى على القبطي، في قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} الآية [سورة القصص آية: 15] . وكاستشفاع الأمة من أهل الموقف بالأنبياء، والطواف عليهم، يسألونهم أن يشفعوا إلى الله من أهل الموقف عامة.
وأما: المخلوق الغائب أو الميت، فلا يستغاث به، ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله البتة; وهذا موافق لقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154] . وإنما غاية طلب الشفاعة عند الله (أن يشفع نبيه فيه، وهو (قد انتقل من هذه الدار، إلى دار القرار، بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس بن عبد المطلب، وسألوه أن يدعو لهم في الاستسقاء عام القحط، أخرجه البخاري، عن أنس بن مالك (في: باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء، إذا قحطوا; ولم يأتوا إلى قبره، ولا وقفوا عنده، مع أنه (حي في قبره حياة برزخية، أعلى من حياة الشهداء.
وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان، على أن النبي (لا يسأل بعد موته، لا استغفارا، ولا دعاء ولا(2/192)
غيرهما; فإن الدعاء عبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، ولو كان هذا من العبادة، لَسَنَّهُ رسولُ الله (، ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع له.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} الآية [سورة النساء آية: 64] ، فإتيانهم له (للاستغفار مخصوص بوجوده في الدنيا، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، مع شدة احتياجهم وكثرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعاني كتاب الله وسنة رسوله، وأحرص اتباعا لملته من غيرهم; بل كانوا ينهون عنه، وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده; منهم الإمام مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي; وهم من خير القرون التي قد نص (عليها في قوله: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 1 قال عمران: لا أدري أذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه، رواه البخاري في صحيحه.
الثالث: أنهم زعموا أنه دليل للوسيلة إلى الله تعالى بغير محمد (، فلا دليل فيه أصلا، لأنهم صرحوا بأنه لا يقاس مع فارق، فلا يجوز لنا أن نقول: اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك برسولك نوح، يا رسول الله، يا نوح، إلى آخره، ولا أن نقول: اللهم إنا نسألك، ونتوجه إليك بخليلك إبراهيم، إلى آخره، ولا أن نقول: بكليمك موسى، ولا بروحك عيسى.
__________
1 البخاري: الشهادات (2651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأحمد (4/427 ,4/436) .(2/193)
ونحن نقول: إن الجامع في نوح عليه الصلاة والسلام: الرسالة; وفي إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: الخلة مع الرسالة; وفي موسى عليه الصلاة والسلام: الكلام مع الرسالة; وفي عيسى عليه الصلاة والسلام: كونه روح الله وكلمته، مع الرسالة; فليس لنا هذا، لأنه أولا: لم يرد، ولا حاجة لنا إلى فعل شيء لم يرد; ثانيا: إنما أبيح القياس عند من يقول به، للحاجة في حكم لم يوجد فيه نص; فإذا وجد النص، فلا يحل القياس، عند من يقول به، ولا حاجة بنا إلى قول هو مخترع، خصوصا مع ما ورد في الشرك، وأنه في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
الرابع: أن الوسيلة ليست هي أن ينادي العبد غير الله ويطلب حاجته، التي لا يقدر على وجودها إلا الله، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [سورة الحج آية: 73] ، بل هذا شرك بالله؛ وجعلوا دليلهم مع ما تقدم، بعد ارتكابهم أكبر المناكر، قوله ("يا عباد الله أعينوني" وقوله: "يا عباد الله احبسوا".
وهذا من جملة الجهل والضلال، وإخراج المعاني عن مقاصدها، من وجوه:
الأول: أن هذه ليست بوسيلة أصلا، إذ معنى الوسيلة: ما يتقرب به من الأعمال إلى الله (، وهذا ليس بقربة، لأنه ورد في أذكار السفر: أن العبد، إذا أراد عونا، بمعنى:(2/194)
أنه إذا أعيى من حمل متاعه، أو انفلتت دابته، فقد جعل الله عبادا من صالحي الجن أو من الملائكة، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] ، واستعماله في كل المهمات، من أعظم الجور; وإن أراد فيما ورد الحديث به خاصة: امتثال قول رسول الله (فقد يكون بهذه الإرادة قربة.
ولا دلالة فيه أن ينادي عبد القادر الجيلاني من قطر شاسع، بل ولا من عند قبره، ولا ينادي غيره، لا الأنبياء، ولا الأولياء، إنما غايته أن العبد يقول، كما قال رسول الله (: "يا عباد الله"، وإذا نادى شخصا باسمه، معينا، فقد كذب على رسول الله (ونادى من لم يؤمر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون، وقيام وقعود; وإنما أبيح له ذلك، إن أراد عونا على حمل متاعه، على الدابة، أو انفلتت.
الثاني: أن الحديثين غير صحيحين; أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير بسند منقطع، عن عتبة (وحديث: انفلات الدابة، عزاه النووي لابن السني، وفي إسناده: معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث; ولا دليل في الحديثين، مع ضعفهما، ولا في الحديث المتقدم قبلهما، على شيء يفعله عباد القبور، من دعائها، ورجائها، والتوكل عليها، والذبح، والنذر لها، والهتف بذكر من فيها، عند الشدائد.(2/195)
الثالث: أن الله قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [سورة المائدة آية: 3] ، فبعد أن أكمله بفضله ورحمته، فلا يحل لنا أن نخترع فيه ما ليس منه، ونقيس ما لا يقاس عليه.
الرابع: أن الحديث الصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله، من غير شذوذ ولا علة، فكيف يعمل بالحديث المتكلم فيه، فيما لا يدل عليه دلالة مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام؟! فهذا هو البهتان.
الخامس: أنهم عمروا مواقفهم بذكر من يعتقدونه، ونسبوا الأفعال إليهم، وكل أحد يذكر ما وقع له من الاستغاثة بفلان، ومن أنجده، وكشف شدته، فإذا قال أحد: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة يس آية: 83] ، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، قامت عليه الجماعة، وقالوا: معلوم {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة يونس آية: 62] .
فإذا قال: نعم، وليس بيد أحد منهم ملكوت خردلة، والله يقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] . والقطمير: القشرة اللطيفة تكون على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] .
فإذا كان فيهم من يدعي العلم والإنصاف، وهو(2/196)
واسع الصدر، يقول: هذه الآية نزلت في عباد الأصنام; فإذا قيل له: نعم، الأصنام: ود، وسواع، ونسر: أسماء رجال صالحين; وهذه الخرق على التوابيت، هي: فعل عباد الأصنام، وأسماء رجال صالحين; وقد قرر أهل العلم: أن العام لا يقصر على السبب; ولا يحل إلا أن نؤدي الأمانة.
فإذا قيل: أدوا الأمانة، فإنه تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [سورة النساء آية: 58] ، فلا نقول: هذه نزلت في مفتاح باب الكعبة، فلا نحتج بها; كذلك لا نقول: هذه نزلت في عباد الأصنام، ونفعل فعلهم، ونقول: لسنا بمشركين; وفي الأحاديث القدسية عن سيد البرية: "قال الله (: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي " أخرجه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الدرداء (، فيجيب بأن الأمة مطبقة على هذا، والأمة لا تجتمع على ضلالة، يلزم من هذا تضليل الأمة وتسفيه الآثار.
فيجاب عليه: أما إن الأمة مطبقة على هذا، فكذب على الأمة، وليست بمطبقة على هذا؛ وهذه كتب الفروع في كل مذهب، وكتب الحديث والتفسير، ليس فيها أنه يدعى غير الله (ولا يسن، ولا يستحب، ولا ينبغي، ولا يجوز، ولا يباح; بل الآيات البينات، والأحاديث، وأقوال العلماء ترشد إلى أن هذا شرك محقق; والله تعالى يقول لرسوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ(2/197)
أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] . ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] .
السادس: قد اختلف في التوسل إليه بشيء من مخلوقاته، فقال أبو محمد ابن عبد السلام في فتاويه: إنه لا يجوز التوسل إليه بشيء من مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف في حق نبينا (لاعتقاده أنه ورد في ذلك حديث، وأنه لم يعرف صحة هذا الحديث; وتقدم قول أبي حنيفة وأصحابه، رحمهم الله تعالى.
السابع: أنهم يشترون أولادهم ممن يعتقدونه، ويجعلون له النذور، وإذا جاء المولود، جعلوا لمن ينتسب إلى ذلك المعتقد طعاما، وقد أوحى إليهم الشيطان أن يجعلوا زوايا لمن يعتقدونه، وفيها جماعة ينسبون أنفسهم إلى ذلك، كالعلوانية، والقادرية، والرفاعية، وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [سورة الحج آية: 78] ، في الكتب المنَزلة، كالتوراة، والإنجيل، وفي هذا القرآن؛ فاستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو خير.
وإذا مرض هذا المشترى من المعتقد، نذر أهله النذور، ولم يزل يستغيث به ليشفي سقمه، ويكشف شدته، ولم يلتزموا في فعلهم هذا أن يكون المشترى منه الولد ميتا في تلك البلدة; بل يشتري أهل مكة أولادهم من عبد القادر الجيلاني، ومن الجبرتي، المدفون في زبيد;(2/198)
ويجهلون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 6] ، فإن الشراء ممن يملك الشيء.
وهذا الأمر سار في العلماء، والجهال; فهم قد غلبت عليهم العوائد، وسلبت عقولهم من تفهم المراد والمقاصد، ولم يجدوا هذا في كتاب فروع أحد من الأئمة، صانهم الله عن هذه الوصمة، فما استدلوا به مما تقدم، لا يكون دليلا على التوسل بالأموات، المعلوم حالهم أنهم في أعلى الجنان، فكيف غيرهم، ممن لا يعلم حاله، ولا يدرى أين مآله؟ أم كيف يكون دليلا على دعاء غير الله تعالى، في المهمات؟ ويقال: المراد الوسيلة، ويستدل لها بهذا؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فبهذا تبين أن الشيطان اللعين نصب لأهل الشرك قبورا يعظمونها ويعبدونها أوثانا من دون الله; ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادتها واتخاذها أعيادا، وجعلها" والحالة هذه" أوثانا، فقد انتقصها وغمصها حقها، وسبها; فيسعى الجاهلون المشركون في قتالهم وعقوباتهم، وما ذنبهم عند هؤلاء المشركين، إلا أنهم أمروهم بإخلاص توحيده، ونهوهم عن الشرك بأنواعه، وقالوا بتعطيله.
فعند ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم فهم لا يؤمنون، وقالوا: قد انتقصوا أهل المقامات والرتب،(2/199)
فاستحقوا الويل والعتب، وفي زعمهم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، ويسري ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، وحب الأولياء وأتباع المرسلين.
بسبب ذلك عادونا، وبالعظائم والكبائر والجرائم الغزار رمونا، ونسبوا كل قبيح إلينا، ونفروا الناس عنا وعما ندعو إليه، ووالوا أهل الشرك وظاهروهم علينا، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله وكتابه.
ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] له، الموافقون له، العارفون به وبما جاء به، والعاملون به، والداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن دينه وهديه وسنته {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [سورة الأعراف آية: 45] .
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] ، باتباعه واحترامه والعمل به، وتعظيم الأنبياء والأولياء، واحترامهم متابعتهم لهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه; وهم: أعصى الناس لهم، وأبعدهم منهم، ومن هديهم ومتابعتهم، كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي.
وأهل التوحيد أين كانوا، أولى بهم وبمحبتهم، ونصرة طريقتهم وسنتهم، وهديهم، ومنهاجهم، وأولى بالحق قولا وعملا، من أهل الباطل؛ فالمؤمنون(2/200)
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، بعضهم من بعض.
ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه، وتدبره وتفهمه، أغناه عن اتباع الشيطان وشركه، الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول بكليته، وحدث نفسه بهما، وعمل باقتباس الهدى والعلم منه، لا من غيره، أغناه عن البدع والشرك، والآراء والتخرصات، والشطحات والخيالات، التي هي من وساوس الشيطان والنفوس، وتخيلات الهواء والبؤساء.
ومن بعد عن ذلك، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، بل مضرة عليه; كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وذكره، وخشيته والتوكل عليه، أغناه أيضا عن عشق الصور؛ وإذا خلا من ذلك، عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده؛ فالمعرض عن التوحيد عابد الشيطان، مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع، شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره، عابد الصور، شاء أم أبى.
وفي صحيح: مسلم، عن أبي الهياج الأسدي، واسمه حيان بن حصين، قال: "قال لي علي ابن أبي طالب (: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله: أن لا أدع(2/201)
تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 1 وفي صحيحه أيضا; عن ثمامة بن شفي الهمداني قال: "كنا مع فضالة بن عبيد، بأرض الروم، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، فقال: سمعت رسول الله يأمر بتسويتها، وقد أمر به " 2 وفعله الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون.
قال الشافعي، في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور ويؤيد الهدم، قوله: " ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 3، وحديث جابر الذي في صحيح مسلم: "نهى (عن البناء على القبور"؛ ولأنها أسست على معصية الرسول، لنهيه عن البناء عليها، وأمره بتسويتها; فبناء أسس على معصيته، ومخالفته (، بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وأولى من هدم مسجد الضرار، المأمور بهدمه شرعا، إذ المفسدة أعظم، حماية للتوحيد; والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى، شرحا لكلام جده، الشيخ: محمد، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
قوله رحمه الله تعالى: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
__________
1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96 ,1/128) .
2 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) .
3 صحيح مسلم: كتاب الجنائز (969) , وسنن الترمذي: كتاب الجنائز (1049) , وسنن النسائي: كتاب الجنائز (2031) , وسنن أبي داود: كتاب الجنائز (3218) , ومسند أحمد (1/87 ,1/96 ,1/128) .(2/202)
قلت: وأدلة هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] : أمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى لا إله إلا الله، الذي دعا إليه العرب وغيرهم.
والكلمة هي: لا إله إلا الله، ففسرها بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فقوله: (ألا نعبد) ، فيه معنى: لا إله، وهو نفي العبادة عما سوى الله، وقوله: (إلا الله) ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص; فأمره تعالى أن يدعوهم إلى قصر العبادة عليه وحده، ونفيها عمن سواه ومثل هذه الآية كثير، يبين أن الإلهية هي العبادة، وأنها لا يصلح منها شيء لغير الله، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، معنى قضى: أمر ووصى، قولان، ومعناهما واحد; وقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] ، فيه معنى: لا إله، وقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] فيه معنى: إلا الله.
وهذا هو توحيد العبادة، وهو دعوة الرسل، إذ قالوا لقومهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] . فلا بد من نفي الشرك في العبادة رأسا، والبراءة منه وممن فعله، كما قال تعالى، عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] . فلا بد(2/203)
من البراءة من عبادة ما كان يعبد من دون الله.
وقال عنه عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48] . فيجب اعتزال الشرك وأهله بالبراءة منهما، كما صرح به في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، والذين معه هم الرسل، كما ذكره ابن جرير.
وهذه الآية تتضمن جميع ما ذكره شيخنا رحمه الله، من التحريض على التوحيد، ونفي الشرك، والموالاة لأهل التوحيد، وتكفير من تركه بفعل الشرك المنافي له؛ فإن من فعل الشرك فقد ترك التوحيد؛ فإنهما ضدان لا يجتمعان، فمتى وجد الشرك انتفى التوحيد.
وقد قال تعالى في حال من أشرك: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] ، فكفّره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة؛ وأمثال هذه الآيات كثيرة، فلا يكون موحدا إلا بنفي الشرك، والبراءة منه، وتكفير من فعله.
ثم قال رحمه الله تعالى: الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله، فلا يتم مقام التوحيد إلا بهذا ; وهو دين الرسل،(2/204)
أنذروا قومهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة الأحقاف آية: 21] .
قوله في عبادة الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
قوله: والتغليظ في ذلك، وهذا موجود في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات آية: 50] ، {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات آية: 51] . ولولا التغليظ، لما جرى على النبي (وأصحابه من قريش ما جرى، من الأذى العظيم، كما هو مذكور في السير مفصلا، فإنه بادأهم بسب دينهم وعيب آلهتهم.
قوله رحمه الله تعالى: والمعاداة فيه كما قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [سورة التوبة آية: 5] ، والآيات في هذا كثيرة جدا، كقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . والفتنة: الشرك.
ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من(2/205)
الآيات، فلا بد من تكفيرهم أيضا، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص؛ فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته، كما في الحديث الصحيح: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " 1. فقوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) : تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد، لم يعصم دمه وماله.
فهذه الأمور هي تمام التوحيد، لأن؛ لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال: بالعلم، والإخلاص، والصدق، واليقين، وعدم الشك؛ فلا يكون المرء موحدا إلا باجتماع هذا كله، واعتقاده، وقبوله، ومحبته، والمعاداة فيه، والموالاة فبمجموع ما ذكره شيخنا، رحمه الله، يحصل ذلك.
ثم قال رحمه الله تعالى: والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع، فقبل الشرك واعتقده دينا، وأنكر التوحيد واعتقده باطلا، كما هو حال الأكثر؛ وسببه: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، من معرفة التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، واتباع الأهواء وما عليه الآباء، كحال من قبلهم من أمثالهم من أعداء الرسل، فرموا أهل التوحيد بالكذب والزور، والبهتان والفجور; وحجتهم: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] .
__________
1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .(2/206)
وهذا النوع من الناس والذي بعده، قد ناقضوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص، وما وضعت له، وما تضمنته من الدين الذي لا يقبل الله دينا سواه، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع أنبيائه ورسله، واتفقت دعوتهم عليه كما لا يخفى فيما قص الله عنهم في كتابه.
ثم قال رحمه الله: ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. قلت: ومن المعلوم أن من لم ينكر الشرك، لم يعرف التوحيد، ولم يأت به، وقد عرفت أن التوحيد لا يحصل إلا بنفي الشرك، والكفر بالطاغوت المذكور في الآية.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم; فهذا النوع أيضا لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك، وما تقتضيه من تكفير من فعله، بعد البيان إجماعا؛ وهو مضمون سورة الإخلاص، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] وقوله، في آية الممتحنة: {كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4] ومن لم يكفر من كفر القرآن فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد، وما يوجبه.
ثم قال رحمه الله: ومنهم من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه، فالجواب: أن من لم يحب التوحيد لم يكن موحدا، لأنه هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده، كما قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؛ فلو رضي بما رضي به الله، وعمل به لأحبه، ولا بد من المحبة، لعدم(2/207)
حصول الإسلام بدونها، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه؛ فمن أحب الله أحب دينه، وما لا فلا؛ وبالمحبة يترتب عليها ما تقتضيه كلمة الإخلاص من شروط التوحيد.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يبغض الشرك ولم يحبه. قلت: ومن كان كذلك، فلم ينف ما نفته لا إله إلا الله من الشرك والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه، فهذا ليس من الإسلام في شيء أصلا، ولم يعصم دمه ولا ماله، كما دل عليه الحديث المتقدم.
وقوله رحمه الله: ومنهم من لم يعرف الشرك ولم ينكره. قلت: من لم يعرف الشرك ولم ينكره، لم ينفه ; ولا يكون موحدا، إلا من نفى الشرك وتبرأ منه وممن فعله، وكفرهم؛ وبالجهل بالشرك لا يحصل شيء مما دلت عليه لا إله إلا الله، ومن لم يقم بمعنى هذه الكلمة ومضمونها، فليس من الإسلام في شيء، لأنه لم يأت بهذه الكلمة ومضمونها عن علم ويقين، وصدق وإخلاص، ومحبة وقبول، وانقياد; وهذا النوع، ليس معه من ذلك شيء، وإن قال لا إله إلا الله، فهو لا يعرف ما دلت عليه، ولا ما تضمنته.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يعرف التوحيد ولم ينكره فأقول: هذا كالذي قبله، لم يرفعوا رأسا بما خلقوا له من الدين الذي بعحث الله به رسله وهذه الحال(2/208)
حال من قال الله فيهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] .
وقوله رحمه الله: ومنهم" وهو أشد الأنواع خطرا" من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه ولم يكفرهم، فقوله رحمه الله: وهو أشد الأنواع خطرا، لأنه لم يعرف قدر ما عمل به، فلم يجيء بما يصحح توحيده، من القيود الثقال التي لا بد منها، لما علمت أن التوحيد يقتضي نفي الشرك، والبراءة منه، ومعاداة أهله، وتكفيرهم، مع قيام الحجة عليهم، فهذا قد يغتر بحاله، وهو لم يجيء بما عليه من الأمور التي دلت عليها كلمة الإخلاص، نفيا وإثباتا.
وكذلك قوله رحمه الله: ومنهم من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره; فهذا أقرب من الذي قبله، لكن لم يعرف قدر الشرك، لأنه لو عرف قدره لفعل ما دلت عليه الآيات المحكمات، كقول الخليل: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] ، وقوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4] .
فلا بد لمن عرف الشرك وتركه من أن يكون كذلك، من الولاء والبراء، من العابد والمعبود، وبغض الشرك وأهله، وعداوتهم، وهذان النوعان، هما الغالب على أحوال كثير ممن يدعى الإسلام، فيقع منهم من الجهل(2/209)
بحقيقته ما يمنع الإتيان بكلمة الإخلاص، وما اقتضته على الكمال الواجب الذي يكون به موحدا، فما أكثر المغرورين، الجاهلين بحقيقة الدين!
فإذا عرفت أن الله كفر أهل الشرك، ووصفهم به في الآيات المحكمات، كقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] وكذلك السنة.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: فأهل التوحيد، والسنة، يصدقون الرسل فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا، ويفهمونه، ويعملون به، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويجاهدون من خالفهم، تقربا إلى الله، وطلبا للجزاء من الله لا منهم. وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم، وما كذب عليهم، ولا يفهمون حقيقة مرادهم، ولا يتحرون طاعتهم، بل هم جهال لما أتوا به، معظمون لأغراضهم.
قلت: ما ذكره شيخ الإسلام يشبه حال هذين النوعين الأخيرين ; بقي مسألة حدثت، تكلم بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: عدم تكفير، المعين ابتداء لسبب ذكره رحمه الله تعالى، أوجب له التوقف في تكفيره قبل إقامة الحجة عليه، قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي لم يشرع لأحد أن يدعو أحدا من الأموات، لا(2/210)
الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها؛ كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله (، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين ما جاء به الرسول مما يخالفه، انتهى.
قلت: فذكر رحمه الله تعالى ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم، على التعيين خاصة، إلا بعد البيان والإصرار فإنه قد صار أمة وحده; لأن من العلماء من كفره، بنهيه لهم عن الشرك في العبادة، فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيدا بن الخطاب، قال: الله خير من زيد، تمرينا لهم على نفي الشرك، بلين الكلام، نظرا إلى المصلحة، وعدم النفرة، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[تقرير الإلهية]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، في تقرير الإلهية، ما نصه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد(2/211)
المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.
اعلم أن أعظم شهادة، وأفرضها على الخلق، قولا، وعملا، واعتقادا، ما شهد الله به لنفسه من اختصاصه بالإلهية، دون جميع خلقه، أزلا وأبدا، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . فكرر الشهادة به في هذه الآية; وأخبر أن ملائكته، وأولي العلم شهدوا له بذلك، جل وعلا; وأخبر عباده بهذه الشهادة، ودعاهم إلى أن يشهدوا له بها، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [سورة النساء آية: 87] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة طه آية: 8] ، وقال: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [سورة القصص آية: 70] .
وأخبر أنه بعث بهذه الشهادة الرسل جميعهم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، فبين في هذه الآية وأمثالها كقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] ، أن الإلهية هي العبادة; فإن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، محبة، وتعظيما، وتذللا، وخضوعا، وتوكلا، ورغبة إليه، ورهبة، وخوفا، ورجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة.
وقال تعالى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ(2/212)
شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وبين تعالى ما تضمنته هذه الشهادة من النفي والإثبات بقوله، عن خليله عليه السلام، أنه قال لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26"28] .
والكلمة هي: لا إله إلا الله، فعبر عنها الخليل بمعناها، فنفى ما نفته هذه الكلمة من الشرك في العبادة، بالبراءة من كل ما يعبد من دون الله، واستثنى الذي فطره، وهو الله سبحانه الذي لا يصلح من العبادة شيء لغيره، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود آية: 1] ، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة هود آية: 2] ، فيه معنى: لا إله، وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، هو المستثنى في هذه الكلمة العظيمة، وفي هذه الآيات: نفي الإلهية عما سوى الله، نفيا عاما، بلا النافية للجنس، وأثبت الإلهية له وحده، دون كل ما سواه.
والآيات في معنى هذه الكلمة كثيرة في القرآن، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] : نفي استحقاق العبادة لغيره، وأثبتها لنفسه بقوله: {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . وقال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وأمر نبيه (أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى هذه الكلمة، وما تضمنته من النفي والإثبات،(2/213)
فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فتضمنت هذه الآية معنى " لا إله إلا الله " من نفي الإلهية عما سوى الله وتفردة بالعبادة دون كل ما سواه.
ومعنى: {تَعَالَوْا} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي: هلموا وأقبلوا، إلى أن نكون نحن وأنتم في توحيد الله مجتمعين على ذلك، ثم قرر تعالى بقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] .
وهذه الكلمة هي التي دعا رسول الله (قريشا والعرب أن يقولوها، ويعملوا بها، وقال لهم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكا في الجنة " 1 فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] .
وذلك أنهم نشؤوا في الفترة، بعد عبادة الأصنام، حين استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي، وفرقها في القبائل، وهي الأصنام التي عبدها قوم نوح، فعبدوها، وكثرت عبادة الأوثان والأصنام; فصار عند الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، على صورة من كانوا يعبدونه.
وعبدوا اللات: والعزى، ومناة، وذا الخلصة، وغيرها مما لا يحصى كثرة، ولذلك أنكروا معنى لا إله إلا الله
__________
1 أحمد (3/492) .(2/214)
لما دعاهم النبي (إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، فأبوا أن ينفوا ما نفته من عبادة الأوثان والأصنام، وأن يخلصوا العبادة لله وحده.
ولمعرفتهم معنى هذه الكلمة نهوا أبا طالب عن أن يقولها عند موته، لما قال له رسول الله: " يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. قال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " 1 علموا أنه لو قالها لترك عبادة غير الله، وأنكرها، لمعرفتهم ما دلت عليه من النفي والإثبات، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 36] .
وأما هذه الأمة، فلما كثر الشرك فيهم كما كثر في أولئك، وبنيت المساجد على القبور وعبدت، وبنيت المشاهد على اسم من بنيت باسمه من الصالحين وعبدت، صاروا يقولون: لا إله إلا الله، والشرك قد قام في قلوبهم، واتخذوه دينا، فأثبتوا ما نفته هذه الكلمة من عبادة غير الله، وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص.
فعكسوا مدلول هذه الكلمة العظيمة، بكونهم أثبتوا ما نفته من الشرك، ونفوا ما أثبتته من الإخلاص الذي هو حق الله على عباده، فيقول قائلهم: لا إله إلا الله، وقد اعتقد عكس ما دلت عليه; وهذا غاية الجهل والضلال، يقول كلمة
__________
1 البخاري: المناقب (3884) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) .(2/215)
تتضمن النفي والإثبات، فلا يعرف ما نفت ولا ما أثبتت؛ هذا وهم فيما يقرءونه، ويقرؤونه في مذاهبهم، وما كانوا يتعاطونه من العلوم، لا يجهلون مثل هذا.
وكثير منهم له في علم المعقول اليد الطولى، فسبحان الله! كيف جهلوا من ذلك ما دعت إليه الرسل من توحيد الله، ونفي الشرك الذي نهوا أممهم عنه، كما هو صريح في القرآن، لا يخفى على من له أدنى فهم إن وفق لفهمه، فوضعوا الشرك موضع التوحيد، بالقبول والعمل، ووضعوا التوحيد موضع الشرك، بالإنكار على من دعا إليه وعداوته!
فبهذا يتبين لك معنى ما أخبر به النبي من قوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدا ". 1 فلا غربة للإسلام أعظم من هذه الغربة التي عليها الأكثرون في هذه القرون المتأخرة; وقد ذكر العلماء" رحمهم الله" من أهل السنة والجماعة في معنى: لا إله إلا الله، وبيان ما نفته وما أثبتته، ما يفيد العلم اليقيني بمعناها الذي أوجب الله تعالى معرفته، وما تضمنته من النفي والإثبات.
قال الوزير: أبو المظفر في الإفصاح: قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . قال: واسم الله مرتفع بعد { (إِلاَّ} [سورة محمد آية: 19] من
__________
1 مسلم: الإيمان (145) , وابن ماجه: الفتن (3986) , وأحمد (2/389) .(2/216)
حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله تعالى، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
قال ابن القيم رحمه الله في البدائع: فدلالتها" أي لا إله إلا الله" على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال رحمه الله: والإله هو: الذي تألهه القلوب، محبة وإجلالا، وإنابة، وإكراما، وتعظيما، وذلا، وخضوعا، وخوفا، ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، لا يصلح ذلك كله إلا لله؛ فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قوله: لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وقال: أبو عبد الله القرطبي، في تفسيره: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا هو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو: المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو: الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق هو، بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.(2/217)
وقال رحمه الله تعالى: فإن الإله هو: المحبوب، المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، وبهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها هم أهل الله وحزبه; والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته. فإذا صحت، صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق، غير الملك الأعظم; فإن هذا العلم، هو: أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ; وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه; وإلا فهو جهل صرف ; وهذا الذي ذكرناه عن شيخ الإسلام والبقاعي، هو: الموجود في كلام أهل السنة جميعهم.
إذا عرفت ذلك فمما يدل على غربة الإسلام ما أخبر به النبي (من وقوع الشرك في هذه الأمة، كما في الصحيح من حديث ثوبان: " وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ". وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود، عن النبي (أنه قال: " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو(2/218)
سبع وثلاثين، فإن يهلكوا، فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقم تسعين عاما. قال: قلت: أمما بقي، أو مما مضى؟ قال: مما مضى " 1.
ومما يبين غربة الإسلام وشدتها، ما جرى من الملوك والقضاة والرؤساء على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من العداوة والحبس، وشدة الإنكار عليه، لما دعاهم إلى ما تضمنته لا إله إلا الله، ومعناها الذي تقدم عنه وعن أمثاله من العلماء; وقد ردوا عليه بشبهات واهية، وضلالات في الضلال متناهية; رد عليهم رحمه الله تعالى في: منهاج السنة، واقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب الاستغاثة في الرد على ابن البكري; ورد على أهل البدع جميعهم من الفلاسفة والمتكلمين، كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة.
وذكر رحمه الله أن هؤلاء كلهم، وإن كثرت أبحاثهم ومصنفاتهم، فما منهم من يعرف ما دلت عليه كلمة الإخلاص: " لا إله إلا الله "؛ فلم يعرفوا التوحيد الذي أثبتته، ولا الشرك الذي نفته؛ هذا معنى كلامه ولتلميذه العلامة ابن القيم، في بيان أنواع التوحيد والرد على أهل البدع، المصنفات الكثيرة المفيدة؛ فمن أحسنها: إغاثة اللهفان، وكتاب: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة.
وللحافظ ابن عبد الهادي: الصارم المنكي في الرد
__________
1 أبو داود: الفتن والملاحم (4254) .(2/219)
علي السبكي ولهم أصحاب كثير أخذوا عنهم; فلما طال الأمد بعدهم صارت كتبهم في أيدي أناس جهلة، وفي خزائن الكتب الموقوفة، فلم يلتفتوا إليها، فرجعوا إلى ما كان عليه من قبلهم ممن مضى من المبتدعة، وكثر الشرك في القرى والأمصار; وصاروا لا يعرفون من التوحيد إلا ما تدعيه الأشاعرة من تأويل صفات الرب والإلحاد فيها، فصاروا كذلك حتى نسي العلم، وعم الشرك والبدع، إلى منتصف القرن الثاني عشر، فإنه لا يعرف إذ ذاك عالم أنكر شركا أو بدعة مما صار في آخر هذه الأمة.
فشرح الله صدر شيخنا، فضلا من الله ونعمة عظيمة منَّ بها تعالى في آخر هذا الزمان، فعرف من الحق ما عرف شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، بتدبره الآيات المحكمات، وصحيحي البخاري ومسلم، والسن، والمسانيد، والآثار، ومعرفة ما كان عليه رسول الله (والتابعون، وأتباعهم، وما عليه سلف الأمة وأئمتها، والأئمة من أهل الحديث والتفسير، والفقهاء كالأئمة الأربعة ومن أخذ عنهم، فتبين له التوحيد وما ينافيه، والسنة وما يناقضها.
فدعا الناس من أهل قريته وما قرب منها أن يتركوا عبادة أرباب القبور والطواغيت، وعبادة الأشجار والأحجار، والذبح للجن، ونحو ذلك; وكل هذا قد وقع في قرى نجد وغيرها كالبوادي؛ فلما أنكر ذلك كرهوا(2/220)
ذلك منه، وطرده أهل قريته عنها، وهي: حريملا، وصار في العيينة يدعو إلى دين الإسلام، وينهى عن الشرك وعبادة الأوثان، وقبل ذلك طائفة منهم ومن أهل الدرعية; ثم بعد ذلك ضاق نطاق أمير العيينة لما رآه قد أنكر قوله الخلق الكثير والجم الغفير، وقد نصب له العداوة أهل القرى والأمصار، والبادي والحاضر، فأمره أن ينتقل من بلده عنه.
وصار في الدرعية عند محمد بن سعود وأولاده وإخوانه، وبعض الأعيان من جماعته؛ فصار لهم قبول لهذه الدعوة، فصبروا على عداوة الناس قريبهم وبعيدهم، وكل قصدهم بالحرب، فثبتهم الله على قلتهم وكثرة من خالقهم، وقتل من قتل من أعيانهم، فصبروا، وصارت الحرب بينهم سجالا، والله يحميهم ويقوي قلوبهم؛ وما جرى بينهم وبين عدوهم، مذكور في التاريخ.
فأظهر الله هذا الدين في نجد، والبادية، حتى لم يكن فيهم من ينازع ويجادل، لأن الله أبطل كل شبهة، بما أبداه هذا الشيخ ببيانه، ومصنفاته التي صارت في أيدي المسلمين; وانتشرت دعوته في الأمصار، وقبلها القليل منهم ممن له التفات إلى ما ينفعه، بخلاف من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله، وهم الأكثرون، فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة، فيا سعادة من هدي إلى معرفة حقيقة دين الإسلام واتبعه.(2/221)
وقد وجدت للعلامة ابن القيم رحمه الله كلاما في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، يتعين نقله هنا، لعظيم فائدته، وشدة الحاجة إليه، قال رحمه الله تعالى:
فصل: عظيم النفع، جليل القدر; ينتفع به: من عرف نوعي التوحيد القولي العلمي الخبري والتوحيد القصدي الإرادي العملي، كما دل على الأول سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] ، وعلى الثاني سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] . وكذلك دل على الأول، قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} الآية [سورة البقرة آية: 136] ، وعلى الثاني: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] ، ولهذا كان النبي (يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر وسنة المغرب; ويقرأ بهما في ركعتي الطواف; ويقرأ بالآيتين في سنة الفجر، لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي.
والتوحيد العلمي أساسه: إثبات الكمال للرب، ومباينته لخلقه، وتنْزيهه عن العيوب والنقائص، والتمثيل; والتوحيد العملي أساسه: تجريد القصد بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح، لله وحده.
ومدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، على(2/222)
هذين التوحيدين؛ وأقرب الخلق إلى الله: أقومهم بهما علما وعملا; ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله؛ وأقربهم إليه وسيلة، أولو العزم؛ وأقربهم الخليلان؛ وخاتمهم: سيد ولد آدم، وأكرمهم على الله، لكمال عبوديته وتوحيده.
فهذان الأصلان هما قطب رحى الدين، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور; والله سبحانه بينهما غاية البيان، بالطرق العقلية والنقلية، والفطرية والنظرية، والأمثال المضروبة؛ ونوع سبحانه الطرق بإثباتهما كل التنويع، بحيث صار معرفة القلوب الصحيحة والفطر السليمة لهما بمنْزلة: رؤية العين المبصرة التي لا آفة بها، للشمس، والقمر، والنجوم، والأرض والسماء، فذلك للبصيرة، بمنْزلة هذه للبصر.
فإن تسلط التأويل على التوحيد الخبري، العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك; ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين، لا ينفك أحدهما عن صاحبه ; وإمام المعطلين المشركين: فرعون، فهو إمام كل معطل ومشرك إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين: إبراهيم، ومحمد عليهما السلام.
وقال أيضا لما ذكر سبب عبادة الأصنام التي صورها قوم نوح، على صور الصالحين; وما زال الشيطان يوحي(2/223)
إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بالمقبور والإقسام به على الله; فإن شأن الله أعظم من أن يقسم به عليه، أو يسأل بأحد من خلقه; فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه، وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا; ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم؛ وكل هذا قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه مضاد لما بعث الله به رسوله (من تجريد التوحيد، وألا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل(2/224)
الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله؛ ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج آية: 73"74] .
فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه" فمن لم يسمعه فقد عصى أمره" كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه، بأصح برهان، وأوجز عبارة وأحسنها وأحلاها، وسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، وساعد بعضهم بعضا، وعاونه بأبلغ المعاونة، لعجزوا عن خلق ذباب واحد؛ ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبه الذباب إياه، فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب، ومن عابده الطالب، فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟
فأقام سبحانه حجة التوحيد، وبين إفك أهل الشرك والإلحاد، بأعذب الألفاط وأحسنها، لم يعترها غموض، ولم يشبها تطويل، ولم يعبها تعقيد، ولم يزر بها زيادة ولا تنقيص؛ بل بلغت في الحسن والفصاحة والإيجاز، ما لا يتوهم متوهم، ولا يظن ظان، أن يكون أبلغ في معناها منها،(2/225)
وتحتها من المعنى الجليل العظيم الشريف، البالغ في النفع، ما هو أجل من الألفاظ; انتهى، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
[معنى حديث من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله]
وسئل: أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه عما في الصحيح عن النبي (أنه قال: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " 1.
فأجاب: اعلم أن لا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى؛ وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل، عليه السلام باقية في عقبه لعلهم يرجعون; ومعناها: نفي الشرك في الإلهية عما سوى الله، وإفراد الله تعالى بالإلهية.
والإلهية هي: تأله القلب بأنواع العبادة، كالمحبة، والخضوع، والذل، والدعاء، والاستعانة، والرجاء، والخوف، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز، أمرا وترغيبا للعباد، أن يعبدوا بها ربهم وحده.
وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة؛ وكل فرد من أفراد العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده؛ فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله، الذي لا يصلح لغيره، وجعل له أندادا.
__________
1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .(2/226)
وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر، بأرباب القبور والأشجار والأحجار، واتخذوا ذلك دينا، زعموا أن الله يحب ذلك ويرضاه، وهو: الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [سورة النساء آية: 48] . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] .
وقال في معنى هذا التوحيد: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، أي: أمر ووصى; وهذا معنى: لا إله إلا الله; فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] ، هو معنى: لا إله، في كلمة الإخلاص، وقوله: (إلا إياه) ، هو معنى الاستثناء، في لا إله إلا الله، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كما سنذكر بعضه.
وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وهذا نهي عام يتناول كل مدعو، من ملك، أو نبي، أو غيرهما، فإن: {أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] نكرة في سياق النهي، وهي تعم؛ وأمثال هذه الآية كثير، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين: " فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 1، وفيهما أيضا: " من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار " 2.
وإخلاص العبادة لله تعالى هو: التوحيد الذي
__________
1 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/236 ,5/242) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4497) .(2/227)
جحده المشركون قديما وحديثا ولما قال رسول الله لقومه وغيرهم من أحياء العرب: " قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا " 1 قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 5"7] .
فعرفوا معنى لا إله إلا الله، وأنه توحيد العبادة، لكن جحدوه، كما قال عن قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] . وقال تعالى عن مشركي هذه الأمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35"36] . عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله ترك الشرك في العبادة، وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك، أو نبي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك.
فإخلاص العبادة لله هو: أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق، قال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، فإسلام الوجه هو: إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة كلها لله تعالى.
وهذا هو توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، وتوحيد القصد
__________
1 أحمد (3/492) .(2/228)
والإرادة; ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهي: لا إله إلا الله; فإن مدلولها نفي الشرك، وإنكاره، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 79] .
وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي لم يرض لعباده دينا سواه كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] ، والدين هو: العبادة، وقد فسّره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء; وهو بعض أفراد العبادة، كما في السنن من حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 1، وحديث النعمان بن بشير: " الدعاء هو العبادة " 2 أي: معظمها، وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة، أمورا سنذكرها، إن شاء الله تعالى.
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] . وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] . وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] . والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] ، والحنيف هو: الراغب عن الشرك، المنكر له؛ وقد فسّره ابن القيم، رحمه الله، بتفسير شامل
__________
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3247) , وابن ماجه: الدعاء (3828) .(2/229)
المدلول: لا إله إلا الله، فقال: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل، من أولهم إلى آخرهم.
وقد بين تعالى ضلالهم بالشرك، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 3] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] ، وهذا المذكور في هذه الآية هو: توحيد الربوبية، ومشركوا العرب، والأمم لم يجحدوه بل أقروا به لله، فصار حجة عليهم فيما جحدوه من الإلهية.
ولهذا قال بعد هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة الحج آية: 71] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، بل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التوحيد، مطابقة، وتضمنا، والتزاما.
وهو الدين الذي بعث به المرسلين، من أولهم إلى(2/230)
آخرهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة الأحقاف آية: 21] ، فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يخلصوا له العبادة، وهي أعمالهم، ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإراداتهم، التي لا يستحقها غيره، كما تقدم، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] . وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [سورة الحج آية: 34] .
وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة الحج آية: 26] ، والمراد: تطهيره عن الشرك في العبادة، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية:30"31] .
وقد بين الله تعالى في مواضع من القرآن، معنى كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه، وهو صراطه المستقيم، كما قال تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، [سورة يس آية: 61] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي(2/231)
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، فعبر عن معنى: لا إله، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] ، وعبر عن معنى: إلا الله، بقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] .
فتبين أن معنى لا إله إلا الله، هو: البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كما تقدم; وهذا واضح بين لمن جعل الله له بصيرة، ولم تتغير فطرته، ولا يخفى إلا على من عميت بصيرته، بالعوائد الشركية، وتقليد من خرج من الصراط المستقيم، من أهل الأهواء والبدع والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وقال تعالى في بيان معناها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] . والمعنى: أي بعض كان من نبي أو غيره، كالمسيح ابن مريم، والعزير، ونحوهما; وفي قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، معنى: لا إله، وقوله: إلا الله، هو المستثنى في كلمة الإخلاص.
وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه النبي (أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .(2/232)
وقد قال تعالى في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، ففي قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [سورة الكهف آية: 16] ، معنى لا إله، وقوله: {إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص، وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [سورة الكهف آية: 14] ، إلى قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} [سورة الكهف آية: 14] . فتقرر بهذا أن الإلهية هي: العبادة ; وأن من صرف شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله، وما تقتضيه وما تستلزمه، وذكر ثواب أهل التوحيد وعقاب أهل الشرك.
ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان، كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة، وسببه: تقليد المتكلمين الخائضين فظن بعضهم أن معنى لا إله إلا الله: إثبات وجود الله تعالى، ولهذا قدروا الخبر المحذوف في: لا إله إلا الله، وقالوا: لا إله موجود، إلا الله ; ووجوده تعالى قد أقر به المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة. وطائفة ظنوا أن معناها: قدرته على الاختراع.
وهذا معلوم بالفطرة، وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله تعالى كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من عجائب المخلوقات; وبه استدل الكليم موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون، لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الشعراء آية:(2/233)
23"26] .
وفي سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء آية: 102] . ففرعون يعرف الله، ولكن جحده مكابرة وعنادا.
وأما غير فرعون من أعداء الرسل، من قومهم، ومشركي العرب، ونحوهم، فأقروا بوجود الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . [سورة الزخرف آية: 9] . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف آية: 87] ، فلم يدخلهم ذلك في الإسلام، لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده.
وفي الحديث الصحيح: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1، وتقدم قول قوم هود: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ، دليل على أنهم أقروا بوجوده وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه.
فالخصومة بين الرسل وأممهم، ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء; وإنما كانت الخصومة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ
__________
1 البخاري: تفسير القرآن (4497) .(2/234)
أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [سورة هود آية: 25"26] .
وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 16] ، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 17] ، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت آية: 18] .
فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس، قديما وحديثا، كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [سورة الروم آية: 42] .
وقد أخبر النبي (أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة، وقبلها، على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد; واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل، في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، ونسبته إلى الخطأ والضلال، كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم، كـ " ابن كمال " المشهور بالشرك والضلال، وقد كمل في جهله وضلاله، وأتى في كلامه بأمحل المحال.(2/235)
وقد اشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره، يسمع، ومع سمعه ينفع؛ وما يشعره أنه في قبره الآن رفات، كحال الأموات، وهذا قول شنيع، وشرك فظيع; ألا ترى أن الحي الذي قد كملت قوته، وصحت حاسة سمعه وبصره، لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين، لم يمكنه سماع نداء من ناداه; فكيف يسمع ميت من مسافة شهر أو شهرين، أو دون ذلك أو أكثره، وقد ذهبت قوته، وفارقته روحه، وبطلت حواسه؟ هذا من أعظم ما تحيله العقول، وتنكره الفطر.
وفي كتاب الله (ما يبطله، قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] ، فأخبر الخبير جل وعلا أن سماعهم ممتنع، واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة.
فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك، ونشؤوا عليه، أتوا في أقوالهم بالمستحيل، ولم يصدقوا الخبير في إخباره، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة فاطر آية: 13] ، فذكره تعالى أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم، وكذلك عدم شعورهم، يبين تعالى بهذا جهل المشرك، وضلاله، فأحق في كتابه(2/236)
الحق، وأبطل الباطل، ولو كره المشركون.
لكن هؤلاء لما عظم شركهم نزلوا الأموات في علم الغيب، منْزلة علام الغيوب، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وشبهوهم برب العالمين، سبحانه وتعالى عما يشركون; قال الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [سورة الأعراف آية: 191 192] .
وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة، التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين، ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول: هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله وتخلصكم من عذابه، بل الحجة ما في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، نترك ما نزل به جبرائيل على محمد لجدله؟!
إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين ; فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح، فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه؛ ولو جاز، لما ترك(2/237)
الصحابة السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم، التوسل بالنبي (بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا.
وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب، عام الرمادة، بمحضر من السابقين الأولين، يستسقون، فقال عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، ثم قال: ارفع يديك يا عباس، فرفع يديه يسأل الله تعالى) ; ولم يسأله بجاه النبي ولا بغيره; ولو كان هذا التوسل حقا، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص.
فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت، والاستشفاع به، فهذا هو شرك المشركين بعينه; والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا، فمن ذلك قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43"44] . فالذي له ملك السماوات والأرض، هو الذي يأذن في الشفاعة، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وهو لا يرضى إلا الإخلاص في الأقوال(2/238)
والأعمال، الباطنة والظاهرة، كما صرح به النبي في حديث أبي هريرة وغيره; وأنكر تعالى على المشركين اتخاذ الشفعاء، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] .
فبين تعالى في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين، وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم، لما سألوها من غير وجهها، وأن هذا شرك، نزه نفسه عنه، بقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهل فوق هذا البيان بيان; وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربوهم إليه.
وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله، والتغليظ في ذلك، وأنه في غاية الضلال، وأنه شرك بالله، وكفر به، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
فمن أراد النجاة: فعليه بالتمسك بالوحيين، اللذين هما حبل الله، وليدع عنه بنيات الطريق، كما قال تعالى: {وَأَنَّ(2/239)
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] ، وقد مثل النبي الصراط المستقيم، وخط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: " هذه هي السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه " 1 والحديث في الصحيح وغيره، عن عبد الله بن مسعود، وكل من زاغ عن الهدى، وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء، فهو شيطان.
فصل:
والعاقل، إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته، كابن كمال وغيره، من دعا الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فالعاقل يعلم أن معارضتهم قد اشتملت على أمور كثيرة:
الأمر الأول: أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة، وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد؛ فهم في الحقيقة إنما عارضوا الرسل والكتب المنْزلة عليهم من عند الله.
الأمر الثاني: تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته، وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه، وقد خالفوا جميع الرسل والكتب، فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد، ودعا إليه من الأولين والآخرين.
__________
1 أحمد (1/435) , والدارمي: المقدمة (202) .(2/240)
وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد وأنكر الشرك، أسوة أعداء الرسل، كقوم نوح إذ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأعراف آية: 60] ، وقال قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [سورة الأعراف آية: 66] ، وقول من قال من مشركي العرب، للنبي: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [سورة الفرقان آية: 4] ، فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر، يعرفه كل عاقل منصف، فقد تناولت مسبتهم: كل من دعا إلى الإسلام وعمل به، من الأولين والآخرين، كما أن من كذب رسولا، بما جاء به من الحق، فقد كذب المرسلين، كما ذكره الله تعالى في قصص الأنبياء؛ فمن أنكر ما جاءت به الرسل، فهو عدو لهم.
الأمر الرابع: وتضمنت معارضتهم أيضا الكذب، والإفك، والبهتان، وزخرف القول في ذلك، أسوة أعداء الرسل، الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام آية: 112] ، فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله، في عبادته، من الأولين والآخرين، فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه وأتوا به من الفشر والأكاذيب، وجدها كما قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(2/241)
[سورة النور آية: 39] .
والأمر الخامس: معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي هي في غاية البيان والبرهان، وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد، فعارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين؛ فيقولون: قال ابن حجر الهيتمي، قال البيضاوي، قال فلان، ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء، وأدرى في فنون العلم، لكنهم أخطؤوا كخطأ هؤلاء، وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى، وليسوا بأعلم منه.
وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف، الذي هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ودين الرسل الذي قال الله تعالى فيه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، فأولئك المعارضون للحق، ممن ذكرنا وأمثالهم، فيهم شبه بمن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سورة الزخرف آية: 24] . وهذا على تقدير أنهم أصابوا في(2/242)
النقل عنهم، ولعلهم أخطؤوا وكذبوا عليهم، والله أعلم.
والأدلة بالإجماع ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة إذا لم يخالف كتابا ولا سنة، فإن خالف نصا أو ظاهرا، لم يكن حجة، وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا، وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه.
وأما قوله في الحديث الصحيح: " وكفر بما يعبد من دون الله " 1، فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال; لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلت عليه، من ترك الشرك والبراءة منه، وممن فعله فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك، صار مسلما، معصوم الدم والمال; وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] .
وقد قيدت لا إله إلا الله، في الأحاديث الصحيحة، بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح: " فإن
__________
1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) .(2/243)
الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 1، وفي حديث آخر: " صدقا من قلبه " "، خالصا من قلبه " 2 مستيقنا بها قلبه، غير شاك، فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود، إذا اجتمعت له مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] . وقال تعالى لنبيه (: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، فمعناها يقبل الزيادة، لقوة العلم، وصلاح العمل.
فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة، علما ينافي الجهل، بخلاف من يقولها وهو لا يعرف معناها ولا بد من اليقين المنافي للشك، فيما دلت عليه من التوحيد؛ ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك، فإن كثيرا من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة، وينكر معناها، ويعادي من اعتقده وعمل به؛ ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق، كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ؛ ولا بد من القبول المنافي للرد، بخلاف من يقولها ولا يعمل بها ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص، وغير ذلك، والفرح بذلك، المنافي لخلاف هذين الأمرين ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه مطابقة، وتضمنا، والتزاما. وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه.
__________
1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .
2 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) .(2/244)
وأنت أيها الرجل: ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم، قد عكس مدلول لا إله إلا الله، كابن كمال ونحوه من الطواغيت، فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة، ويعتقدون ذلك الشرك دينا، وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص، ويشتمون أهله، وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] .
وهذا النوع من الناس، الذين قد فتنوا، وفتنوا يستجهلون أهل الإسلام، ويستهزؤون بهم، أسوة من سلف من أعداء الرسل، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
الكلام في بيان ما أوردناه، على الجهمي، الذي في بني ياس.
أما الكلام في معنى لا إله إلا الله، فأقول وبالله التوفيق: أما هذه الكلمة العظيمة، فهي التي شهد الله بها لنفسه، وشهد بها له ملائكته، وأولو العلم من خلقه، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ(2/245)