عوامل اشتهار مذاهب الأئمة الأربعة
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا اشتهر الأئمة الأربعة دون سواهم من العلماء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فذلك فضل الله يختص به من يشاء من عباده، وكان من عوامل اشتهار الأئمة الأربعة وكثرة أتباعهم واشتهار مذاهبهم، أنها حفظت ودونت، قال الإمام بدر الدين الزركشي في البحر المحيط: 8/375: الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم، ولا كثرت الوقائع عليهم.اهـ
وبيَّن ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- في الفتاوى الفقهية الكبرى سبب تقليد الناس للمذاهب الأربعة فقال:4/308: لأن مذاهبهم انتشرت حتى ظهر تقييد مطلقها وتخصيص عامها بخلاف غيرهم، ففيه فتاوى مجردة لعل لها مكملاً أو مقيدًا لو انبسط كلامه فيه لظهر خلاف ما يبدو منه. اهـ.
وقد أراد الله تعالى لهذه المذاهب أن تحفظ أصولاً وفروعًا وقواعد، قال الإمام ابن رجب الحنبلي في رده على من اتبع غير المذاهب الأربعة: فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه، بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم، وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث.
فصار الناس كلهم يعوِّلون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم.
وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام، وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين. اهـ.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 ربيع الأول 1424(24/131)
لا تعارض بين الدعوة إلى مذهب السلف وبين العمل بالمذاهب الأربعة
[السُّؤَالُ]
ـ[في وقت نحن في أمس الحاجة إلى وحدة المسلمين نرى نوعا جديداً من الفرقة والتي جاءت باسم السلف الصالح والتي مست الشباب خاصة بإثارة المختلف فيه بدعوى العودة إلى الكتاب والسنة مع إلغاء المذاهب، فما السبيل إلى تفادي هذه الفتنة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فليس في الدعوة إلى اتباع الكتاب والسنة على مقتضى فهم السلف فتنة بل الفتنة أن لا يُدعى إلى ذلك، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ، وقال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115] .
فمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنة للمرء في دينه وسبيل إلى استحقاقه العذاب يوم الدين، ثم ليس في الدعوة إلى مذهب السلف إلغاء للمذاهب الأربعة المشهورة المتبعة في أقطار بلاد المسلمين، فإن على رأس السلف المقتدى بهم أئمة هذه المذاهب مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة رحم الله الجميع، وأقوالهم معتبرة وأفهامهم مقدمة، ولكن إذا استبان الدليل من الكتاب والسنة ولم يوجد له معارض فلا يعدل عنه إلى قول أحد كائناً من كان.
وإذا تقرر ذلك فلا تعارض بين الدعوة إلى مذهب السلف في الأصول والفروع وبين العمل بالمذاهب الأربعة، وإنما يأتي الخلل من الممارسات الخاطئة للدعوة، ومن الجهل بأقدار العلماء السابقين والمعاصرين، والتعصب لآراء الرجال وجعلها هي معيار الحق والصواب، وعدم ترتيب الأوليات، والخلط بين الواجبات والمستحبات، والمحرمات والمكروهات، وعلاج هذا يحتاج إلى اجتماع أهل العلم والحكمة، والقيام بنصح الشباب وتفقيههم في فقه الخلاف.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 ربيع الأول 1424(24/132)
تقليد المذاهب الأربعة.. رؤية فقهية إفتائية قضائية
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلق الله
ما حكم الاقتصار على الفتوى من المذاهب الأربعة فقط وأرجو ذكر أقوال الأئمة القدامى ومن الموجه له كلام الأئمة: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً.... هل هو موجه إلى علماء هذا العصر أم هو موجه للمجتهدين في العصور السابقة؟
أفيدونا رحمكم الله من خلال أقوال الأئمة وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالراجح من أقوال أهل العلم أن من كان أهلاً للفتوى فإنه يعول عليه، ويعتد بكلامه، ما دام مستكملاً للآلة، حائزاً للشروط.
قال ابن حجر في تحفة المحتاج -وهو شافعي-: وحاصل المعتمد من ذلك أنه يجوز تقليد كلٍّ من الأئمة الأربعة، وكذا من عداهم ممن حُفِظَ مذهبه في تلك المسألة ودُوِّنَ حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته. انتهى.
وقال في البحر الرائق -وهو حنفي-: فصل: يجوز تقليد من شاء من المجتهدين وإن دونت المذاهب كاليوم، وله الانتقال من مذهبه لكن لا يتبع الرخص. انتهى.
وقال في الفواكه الدواني -وهو مالكي-: قال بعض المحققين: المعتمد أنه يجوز تقليد الأربعة، وكذا من عداهم ممن يحفظ مذهبه في تلك المسائل ودُوِّن حتى عُرفت شروطه وسائر معتبراته. انتهى.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة لا عملاً ولا فتوى ولا قضاء، ومن هؤلاء ابن الصلاح وابن رجب الحنبلي وغيرهم، ولابن رجب هذا رسالة لطيفة سماها (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربع) وقد قال فيها مبيناً علة المنع من اتباع غيرها: قد نبهنا على علة المنع من ذلك، وهو أن مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسِبَ إليهم ما لم يقولوه أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذب عنها وينبه على ما يقع من الخلل فيها، بخلاف هذه المذاهب المشهورة. انتهى.
وقال الحطاب في مواهب الجليل: قال القرافي: ورأيت للشيخ تقي الدين ابن الصلاح ما معناه أن التقليد يتعين لهؤلاء الأئمة الأربعة دون غيرهم، لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت، حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها، فإذا أطلقوا حكماً في موضع، وجد مكملاً في موضع آخر، وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملاً أو مقيداً أو مخصصاً لو انضبط كلام قائله لظهر، فيصير في تقليده على غير ثقة بخلاف هؤلاء الأربعة، قال -يعني القرافي -: وهذا توجيه حسن فيه ما ليس في كلام إمام الحرمين. انتهى.
وبالغ بعض العلماء حتى نقل الإجماع على وجوب اتباع المذاهب الأربعة دون غيرها، قال في الفواكه الدواني: وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من الأئمة الأربعة (أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) رضي الله عنهم، وعدم الخروج عن مذاهبهم، وإنما حرم تقليد غير هؤلاء الأربعة من المجتهدين -مع أن الجميع على هدى- لعدم حفظ مذاهبهم لموت أصحابهم وعدم تدوينها. انتهى.
وقال في مراقي السعود:
والمجمع اليوم عليه الأربعة ... وقَفْوُ غيرها الجميعُ منعه
وهذا الإجماع غير مسلم، وقد رده غير واحد من أهل العلم.
ولمزيد من التفصيلات والقيود الأخرى انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18248، 17519، 6787، 2397.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 صفر 1424(24/133)
اتباع الدليل هو الأصل
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أتبع المذهب الحنفي ويصعب علي إذا احتجت إلى أي فتوى أن أجد إجابة من شيخ لذا اشتريت كتاب فقه ولاحظت فيه أحيانا اختلاف بين الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد مع أنهم كلهم أئمة المذهب الحنفي فهل لي حرية الاختيار بينهم حسب الاقتناع بالسند أو الأيسر لي في حل مشكلتي؟ وشكراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل هو اتباع الدليل من الكتاب والسنة، فما كان موافقاً للدليل من أقوال العلماء هو الأولى في الأخذ به بغض النظر عن قائله، وهذا ما أوصى به الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم:
5812.
فإن كان السائل له القدرة على التمييز بين الأدلة ودلالتها، والمقارنة بين أقول الفقهاء، ومعرفة الراجح منها، والعمل به، فإن هذا هو العمل الواجب في حقه، وإن لم تكن له هذه الملكة فإنه ـيجوز له تقليد مذهب معين كالمذهب الحنفي الذي ذكر في السؤال، وحينئذ يتحرى المعتمد في المذهب والمفتى به فيه، سواء كان من أقوال الإمام أو أحد صاحبيه وهذا التقليد ليس بواجب في حقه حيث إنه يجوز له العمل بفتوى من يفتيه من أهل العلم من أي مذهب كان.
لكن ننبه هنا إلى أنه لا يجوز البحث عن الرخص في المذاهب المختلفة إذ أن ذلك نوع من الضلال كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 414، فليرجع إليها ففيها تقسيم الرخص وبيان أحكام تتبعها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ذو الحجة 1423(24/134)
الأصل في العبادات التوقيف، وفي العادات الإباحة، وفي الأبضاع والأموال التحريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الذي تبنى عليه حقوق الله عز وجل، وما الذي تبنى عليه حقوق العباد، وما الأصل في العبادات والمعاملات؟ ولكم جزيل الشكر......]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فحقوق الله تعالى مبنية على التخفيف والمسامحة، وحقوق العباد مبنية على المضايقة والمماسكة المشاححة،
قال في أسنى المطالب: لأن حقوقه تعالى مبنية على التخفيف، وحقوق العباد على المضايقة.
وفي الموسوعة الفقهية: حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحة لا ستغناء الله وحاجة الناس.
والأصل في العبادات المنع والتوقيف، وفي العادات الإباحة والإذن، وفي الأبضاع التحريم، وفي الأموال المنع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:21] .
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59] .
وقال الزركشي في البحر المحيط 6/14: تنبيهات: الأول: قيل: ينبغي أن يستثنى من المنافع الأموال، فإن الأصل فيها التحريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم..... الحديث. وهو أخص من الدليل الذي استدلوا به على الإباحة فيقضي عليها.
قلت: قد نص الشافعي في الرسالة على ذلك فقال: أصل مال كل امرئ يحرم على غيره إلا بما أحل به، وذكر قبله أن النكاح كذلك، والنساء محرمات الفروج إلا بعقد أو بملك يمين، فجعل الأصل في الأموال والأبضاع التحريم.. ثم قال آخره: وهذا يدخل في عامة العلم.
قال الصيرفي: وهو كلام صحيح لا ينكسر أبداً، وهو أن ينظر في الأصل إلى الشيء المحظور كائناً ما كان من دم أو مال أو فرج أو عرض، فلا ينتقل عنه إلى الإباحة إلا بدليل يدل على نقله. انتهى كلام الزركشي رحمه الله.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو القعدة 1423(24/135)
أسباب كثرة الروايات عن الإمام أحمد، وبأيها يعمل
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى (في إحدى الروايتين عن أحمد) ولماذا هناك عنه روايتان وأيهما يعمل به؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالرواية هي نص الإمام المنقول عنه قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الروايات المطلقة هي نصوص الإمام أحمد.
ولكثرة الروايات عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة أسباب أهمها سببان:
أولهما: اختلاف رأي الإمام واجتهاده.
والثاني: اختلاف النقلة لمذهبه. بمعنى أن كل واحد يفهم عن الإمام شيئاَ غير ما يفهمه الآخر، ولذلك نجد بعضهم يقول: فلان فهمه -أي نص أحمد- على غير وجهه، وتارة يفتي الإمام أحمد في واقعة معينة لملابسات معينة بغير ما أفتى به في واقعة مشابهة فيظن بعضهم التعارض فيجعلها روايتان وهما ليستا كذلك في الحقيقة.
وأما قولك: وأيهما يعمل به؟ فنقول: يعمل بالرواية المعتمدة إن علمت وذلك يختلف باختلاف الناظر في الروايات، فإن كان الناظر فيها مجتهداً في المذهب -أي مجتهد وجوه- فله أن يجمع بين الروايات وينظر فيها ويعتمد منها ما تبين له، وإن كان غير مجتهد فيرجع في معرفة ذلك إلى الكتب المعتمدة في المذهب، كدليل الطالب وغاية المنتهى لمرعي الكرمي والإنصاف للمرداوي والمقنع لابن قدامة. ... ... ...
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 ربيع الثاني 1423(24/136)
اختلاف تنوع وفهم..لا اختلاف تضاد
[السُّؤَالُ]
ـ[أناطالب في جامعة "ستوني بروك "أحيانا أختلف مع إخواني في منظمة الطلاب لأنهم أحيانا يدعون بأنه يلزمهم اتباع المذهب الحنفي ولذا لا يصلون العصر معنا، هل تشرح لي الخلاف بين الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأعلم أن الأئمة السابقين لم يختلفوا في أصول الدين، كالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه، لأن هذه الأمور لا مجال فيها للاختلاف، ولم يختلفوا كذلك في وجوب الفروع المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلاة والصيام والحج، وحرمة الزنا والسرقة، بل كانوا يكفرون من خالفهم في أحد الأمور السابقة وما يشبهها، وإنما اختلف العلماء في الفروع الاجتهادية التي لم يأت فيها نص صريح قطعي الثبوت والدلالة، وهذا أمر طبيعي، لأن الاجتهاد يدعو إلى إعمال العقل، وعقول الناس متفاوتة، فلا بد أن يتفاوت فهمهم لهذه الأدلة التي تحتمل الاختلاف، ومثال القطعي: قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] ، فلا يمكن أن نقول هنا: للذكر مثل حظ الأنثى، لأنه لا مجال لا ختلاف العقول فيها، أما قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] ، فللعلماء أن يختلفوا في معنى (القرء) لأنه لفظ مشترك بين الطهر والحيض، وقال بعضهم القرء: هو الطهر، وبناءً عليه سيختلف حساب العدة عند الفريقين، وهذا لا مانع منه شرعاً، لأن الاختلاف سنة من سنن الله تعالى في خلقه. وقد وقع الاختلاف بين الأنبياء، كما حكى القرآن عن سليمان وداود، وحصل بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته، ففي الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم يوم الأحزاب: لايصلين أحد العصر إلا في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم.
ولا ينبغي لأحد أن يتخذ الخلاف أو الاختلاف الفقهي وسيلة للتفرق والتعصب، فيترك الصلاة خلف مخالفه في المذهب، أو لا يتزوج ابنته، أو يقطع زيارته، لأن كل هذا مما يخالف هدي الإسلام وسنة خير الأنام، وليعلم أن الأئمة لم يختلفوا اتباعاً للهوى، أو إشباعاً لشهوة حب الانتصار، وإنما اختلفوا لأن كل واحد منهم يرى أن الحق معه لما يرى من موافقته للأدلة الشرعية الثابتة عنده.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 جمادي الأولى 1423(24/137)
وراء تباين أنظار العلماء حكم لا حصر لها
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما نسأل عن حكم من الأحكام يكون الرد قال الشافعي وقال أحمد بن حنبل وقال مالك وقال أبو حنيفة وفي النهاية نخرج بأربعة أحكام لا ندري أيها نتبع فماذا نفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمما لا شك فيه عند المسلمين أن الدين دين الله والشرع شرعه، ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره، حكمه عدل وقوله فصل، ومن حاد عن دين الله وحكم بغير شرعه فقد دخل في قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44] ، وشرع الله صالح لكل زمان ومكان، وما ذلك إلا لأنه اشتمل على مقومات الاستمرار وعوامل الديمومة؛ ومنها صفة الثبات والمرونة، فهو ثابت في أصوله مرن في فروعه، قال تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام:38] ، والناظر من المجتهدين يجد حقيقة جلية وهي أن أحكام الشرع تنتظمها دائرتان، دائرة القطعيات وهي محل اتفاق وإجماع، ويندرج تحتها ما لاحصر له من المسائل الحادثة.
ودائرة الظنيات (الفروع) : وهذه دائرة المرونة، وفيها يختلف أهل العلم وتتباين أنظارهم بحسب مداركهم من الشرع وسعة علومهم وما رزقهم الله تعالى من الأفهام، والحكمة من هذا الاختلاف تظهر جلية واضحة لكل ذي بصيرة، وهي أن الله أراد بهذا الاختلاف التوسيع على عباده، فإذا ضاق الأمر بهم في قول عالم في زمن من الأزمان أخذوا بقول آخر، ولو أراد الله أن تكون نصوص الكتاب والسنة لا تحتمل إلا وجهاً واحداً لا اختلاف فيه ما أعجزه ذلك، ولكنه أراد من ذلك الخلاف حِكَمَاً يعلمها سبحانه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله أن عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد اجتمعا فجعلا يتذاكران الحديث فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفاً فيه القاسم وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه! فقال له عمر: لا تفعل، فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم. اهـ
ونظراً لاختلاف أحوال السائلين التي قد تضطر المفتي إلى ذكر أقوال أهل العلم رغبة في الوصول إلى مقصد الشريعة العظيم وهو إخراج المكلفين من الضيق والحرج الذي قد يلحقهم إن أفتاهم بقول واحد نظرا لكل ذلك ساغ ذكر الخلاف، ولذا نص بعض أهل العلم على أن للمفتي تخيير من استفتاه بين قوله وقول غيره، وممن نص على ذلك الإمام البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات، وذكره عن جماعة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه ... ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.
وصنف رجل كتاباً في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف؛ ولكن سمه كتاب السعة. ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة.... لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره، إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. انتهى.
ومن الأسباب التي تدعو المفتي إلى ذكر الأقوال أنه قد لا يتبين له رجحان أحد القولين لتكافؤ الأدلة -مثلاً- وهذا المنهج في الفتوى معمول به عند سلفنا من العلماء، ومن نظر في كتب الفتاوى كفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام النووي والسبكي والرملي وصاحب المعيار وصاحب النوازل وغيرهم علم حقيقة ما قلناه. ومع ذلك فإنا نسعى جاهدين، أن نبحث المسألة من كل جوانبها معملين النظر في الأدلة والدلالات مهتدين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز فَهْمَ خير القرون وسلف هذه الأمة، دون إغفال لمقاصد الشريعة.
والله نسأل التوفيق والسداد، ونظر الفتوى رقم:
1122
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 ربيع الأول 1423(24/138)
مدى مشروعية التقريب بين المذاهب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم في التقريب بين المذاهب؟ وجزاكم الله خيراً]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالتقريب بين المذاهب: كلام مجمل، وبيانه: أنك إن كنت تقصد التقريب بين أهل السنة، والمبتدعة فنقول ـ وبالله التوفيق ـ التقريب غير ممكن، وقد حاول بعض الدعاة والمصلحين التقريب بين أهل السنة وبعض الطوائف ردحاً من الزمن، وتوصل في النهاية إلى أن التقريب غير ممكن. وكل من عرف حقيقة مذاهب كثير من الفرق المنتمية للإسلام أدرك بطلانها بلا ريب لاعتقادهم السيء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم لمعتقد أهل السنة في كثير من أصول الاعتقاد.
وإن كنت تقصد التقريب بين المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، أو بين الدعاة إلى الله ممن هم على عقيدة أهل السنة والجماعة فلا شك أن الدعوة إلى التقريب بهذا المفهوم دعوة حسنة إذا قام بها من يحسنها، ففي الاجتماع خير وبركة، وقد حثنا الله جل وعلا على الاعتصام بحبله فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [آل عمران: 103] .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 صفر 1420(24/139)
المذاهب الفقهية والالتزام بها
[السُّؤَالُ]
ـ[السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما معنى المذاهب الأربعة وهل يجب على كل مسلم الانتماء الى أي منها، وهل يجوز أن نأخذ من كل مذهب ما نرتاح إليه من آراء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
لقد مر الفقه الإسلامي بعدة مراحل وأدوار، كان منها دور ظهور المذاهب الفقهية وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري، وفي هذا الدور ظهر نوابغ الفقهاء. فالمجتهدون العظام ظهروا في هذا الدور وأسسوا مذاهبهم الفقهية، واشتهر منها المذاهب الأربعة المنسوبة لأئمة عظام كان لهم بالغ الأثر في ازدهار الفقه ونمائه وتقدمه، وقد أسسوا مدارس فقهية انضوى تحت لوائها فقهاء كبار، وهذه المذاهب الأربعة ليست تجزئة للإسلام ولا إحداث تشريع جديد، وإنما هي مناهج لفهم الشريعة، وأساليب في تفسير نصوصها، وطرق في استنباط الأحكام من مصادرها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وهذه المذاهب هي: الحنفية نسبة للإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله المولود سنة 80هـ والمتوفى سنة 150هـ، والمالكية نسبة إلى للإمام مالك بن أنس رحمه الله - المولود سنة 93هـ والمتوفى سنة 179هـ، والشافعية نسبة للإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله - المولود سنة 150هـ والمتوفى سنة 204هـ، والمذهب الحنبلي والمنسوب إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله - المولود سنة 164هـ والمتوفى سنة 241هـ.
ولا يجب التزام مذهب معين منها، وإنما الذي يجب أن يلتزم هو الكتاب والسنة وحيث ظهر الدليل فهو المعول، ولا يجوز العدول عنه إلى قول أحد كائناً من كان، فلا يدفع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد، ولا عذر لأحد عند الله في اتباع قول يعلم أن الدليل ثابت بخلافه، ومن هنا يعلم أن ما ينتهجه بعض الناس في الفتيا بكل قول سيق إليه وإن كان الدليل بخلافه - بحجة طلب التيسير على الناس - يعتبر من أخطر الأمور على هذا المفتي وعلى من قلدوه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 ذو الحجة 1421(24/140)