العمل الصالح ليس محصورا في الشعائر التعبدية
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب انغمس في كثير من أعمال الدنيا في كثير من الأحيان، حتى أني منذ شهر أرتب للزواج، وانشغلت في التجهيز وإعداد المسكن، إلا أني أشعر بضيق وأنني مقصر في حق نفسي، وفي الآونة الأخيرة بدا كل تفكيري في الزواج وسداد الديون حتى لا أكاد أذكر الآخرة إلا قليلا، وأسهو في صلاتي.
فهل هناك ضابط للأشياء الدنيوية؟ أرجو الإفادة؟ لأني حينما أشكو لإخوتي قسوة قلبي يقولون تلك مرحلة وستمر ولابد منها، وما دمت لا تقع في محرمات فلا يضيرك شيء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التقرب إلى الله تعالى بالعبادات ليس مقصورًا على أداء الشعائر من صلاة وصوم ونحوهما، بل إن أي عمل مشروع يؤديه العبد رجاء ما عند الله فهو عبادة، وإن كان العمل موافقًا للطبع محبوبا للنفس، مثل أن يقضي الرجل شهوته مع امرأته، ومثل الطعام والشراب والنوم وسائر المباحات، وانظر شمول مفهوم العبادة في الإسلام في الفتويين رقم: 19569، 4476.
وعلى هذا، فإن اشتغالك بأمور الزواج لا يكون من أمور الدنيا المحضة إذا لاحظت فيه إعفاف نفسك وإعفاف امرأة مسلمة، وتكثير سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من فوائد النكاح، وإنجاب الذرية والقيام على تربيتها والنفقة عليها. وقل مثل هذا في الاهتمام بقضاء ما عليك من دين، والسعي في إرجاع الحقوق لأصحابها ـ فإن هذا مما يحبه الله تعالى ويرضاه وهو قُربة.
والواجب عليك أن تحذر من أن يشغلك الإعداد للزواج عن فروض الأعيان، أو عما تيسر من أعمال الخير التي تحفظ على القلب حياته كقراءة القرآن وذكر الله ونحو ذلك. ولمزيد فائدة حول أسباب جمع القلب وإحضاره في الصلاة، وحول وسائل وإرشادات لتقوية الإيمان، انظر الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 6598، 10800، 1208، 16610، 12744، 21743.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 رجب 1430(9/3911)
يذكر الله وهو يسمع الأغاني ويقوم الليل ويشاهد الأفلام الإباحية
[السُّؤَالُ]
ـ[إني أرسل الرسالة هذه باغيا النصح عسى أن يهديني الله: إني كتلة من التناقض تمشي على الأرض، على سبيل المثال: أذكر الله وأنا أسمع الأغاني، أداوام على الصلاة في الليل، قراءة القرآن، وأشاهد الأفلام الإباحية وأمارس العادة السرية. فما نصيحتكم لي علما أني أشعر أني بين تيارين تيار الهداية والتوبة وتيار الفساد والضلال انصحوني أفادكم الله؟
وشكرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنك بفعل بعض الطاعات مع اقتراف بعض المعاصي، تكون ممن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وإن لم يتجاوز الله تعالى عن سيئاتك فإنها توزن يوم القيامة بحسناتك، وتكون العبرة بالراجح منهما. ولتحذر من حبوط بعض عملك الصالح بسبب إصرارك على بعض المعاصي؛ فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك بعض الذنوب تكون سببًا في ذهاب الحسنات. وانظر الفتويين: 8404، 41314.
ولا يحملنك تقصيرك مع الله على ترك ما تزاوله من الخير، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا أقل من ذلك، ولكمال عدله سبحانه يجزيك على إحسانك وإن كنت مسيئًا، وانظر الفتويين: 40781، 73587.
وإن مما يعينك على الاستقامة على أمر الله وعدم غشيان معاصيه: علمك بحقارة الدنيا وسرعة انقضاء أيامها، وعلمك بأن دين العبد هو رأس ماله، وأن العبد إذا فرَّط في جنب الله لأجل شهوة عابرة أو لذة زائلة فإنه مغبون حيث يشتري الفاني بالباقي.
ومن أسباب الاستقامة كذلك أن تسأل الله تعالى بذل وإلحاح أن يشرح صدرك، ويلهمك رشدك، ويكفيك شر الشيطان وشر نفسك، وأن تتخذ صحبة من الشباب الصالح المؤمن؛ فإن صحبتهم من أعظم المعينات على الثبات على طريق الحق، ففتش عنهم وانتظم في سلكهم، واعبد الله معهم، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وأن تجتهد في الابتعاد عن جميع ما يهيج غريزتك ويدفعك للمعاصي من غشيان للأسواق والأماكن المختلطة، ومن الاختلاء بالكمبيوتر والإنترنت، وانظر الفتوى رقم: 23243. ولمزيد بيان راجع الفتوى رقم: 25342. والفتاوى المرتبطة بها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 رجب 1430(9/3912)
معنى حديث: من لا يغفر لا يغفر له
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من الممكن أن تشرحوا لنا معنى الحديث الشريف: من لا يغفر لا يغفر له؟ باختصار، بارك الله فيكم، هل مثلا إذا ما سامحت من آذاني إذن لن يسامحني الله؟.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المشار إليه رواه الهثيمي في زوائد المسند بلفظ: مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ، وَمَنْ لاَ يَغْفِرْ لاَ يُغْفَرْ لَهُ. وقال: هو في الصحيح خلا قوله: من لا يغفر لا يغفر له.
ورواه البخاري في الأدب المفرد بلفظ: من لا يرحم لا يرحم، ولا يغفر لمن لا يغفر، ولا يعف عمن لم يعف، ولا يوق من لا يتوقى. قال الشيخ الألباني: حسن.
وفي رواية لمسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله. وفي رواية لغيره: من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء. وفي رواية: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. وفي لفظ: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
هذه الألفاظ والروايات تفيد بمجملها أن الجزاء من جنس العمل، وأن من يغفر للناس ويتجاوز عن زلاتهم، يغفر الله له ويرحمه.
ويوضح هذا المعنى ما جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوزعنه لعل الله أن يتجاوزعنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه.
وليس معناه- والله أعلم- أن المسلم إذا لم يتنازل عن حقه فإن الله تعالى لا يغفر له، لأن الله تعالى يقول: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى:40} .
ولذلك فإن من حق من ظلمه شخص أوآذاه أن يأخذ منه بحقه، ولا إثم عليه ولا حرج في ذلك، وإن كان العفو أولى وصاحبه أقرب إلى عفو الله ورحمته، كما قال تعالى: وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى {البقرة:237} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 رجب 1430(9/3913)
هل يحبط ثواب ما تقدم من العبادة بالانقطاع عن المواظبة عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت من إمام أحد المساجد أن من كان يداوم على عبادة ثم طال عليه الأمد وانقطع عنها كسلا، فعمله السابق لا يقبل منه. فهل هذا الكلام صحيح؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الكلام ليس بصحيح، وليس له دليل من منقول أو معقول، بل ظواهر الأدلة تنقضه، فكل عمل أخلص فيه صاحبه وكان موافقا للشرع، فتقبله الله تعالى، لا يحبط ثوابه لمجرد الانقطاع عنه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً. {الكهف:30}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. رواه مسلم.
وهذا هو مقتضى إقامة الميزان يوم القيامة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. {الأنبياء:47} .
وهذا لا يتعارض مع حض الشرع على المداومة على الأعمال الصالحة والاستقامة عليها، والنهي عن الانقطاع وذمه، فإن المواظبة على المستحبات هي الأفضل بلا شك، ولذلك أخبرت عائشة في حديث البخاري وغيره فقالت: وكان أحب العمل إليه ـ تعني النبي صلى الله عليه وسلم. ما دوام عليه صاحبه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 رجب 1430(9/3914)
ذكر الموت لا يمنع من رعاية المصالح الدنيوية والأخروية
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أحس بأن الموت قريب مني، وأحس بأنني أصبحت طيبة لدرجة كبيرة، وأحس بأنني أريد أن أصلي دائما وأحب أن أخرج لأرى كل مكان، وأحب أن لا يغضب أحد مني، وأحب أن لا أنام أريد أن أستمتع بأيامي الأخيرة. ما الحل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} .
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على كثرة ذكر الموت، وأخبر عن فوائد ذلك، فقال: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ. رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الهيثمي والألباني.
قال القرطبي رحمه الله في كتابه التذكرة: قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب فيها. انتهى.
ولا ينبغي أن تكون كثرة ذكر المسلم للموت مثبطة أو باعثة على الوسوسة واليأس أو الهلع وترك العمل، أو التفريط وتجاوز حد الاعتدال فيصبح التفكير بالموت مسيطرا على عقله وشاغلاً له عن مهامه وطاعاته وتربية عياله، فإن ذاك من مكائد الشيطان ووساوسه.
والمطلوب هو الاعتدال والتوازن مع كثرة ذكر الموت، ويكون ذلك بأن يجعل المسلم ذكر الموت باعثا له على العمل، مرققا لقلبه، شاغلا له بما فيه صلاحه، مباعدا له عما يوبقه، ومن كانت هذه حاله فهو أحزم الناس وأشرفهم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَكْثَرَهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ. رواه ابن ماجة، والطبراني في الصغير وحسنه المنذري والهيثمي وقال العراقي: إسناده جيد.
قال ثابت البناني: كان يقال: ما أكثر أحد ذكر الموت إلا رؤي ذلك في عمله.
فينبغي إذا لمن تذكر الموت أن يحسن عمله، وأن يجتهد في رعاية مصالحه، ثم لا يضره متى مات.
قال أبوحازم: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه ثم لا يضرك متى مت.
وقال القرطبي في التذكرة: وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك. انتهى.
فاجتهدي أختنا الكريمة في العمل، وعليك بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أخشع الأمة وأعلمهم بالله وأشدهم ذكرا للموت، ومع هذا دعا إلى الله وجاهد في سبيله، وكان يضحك حتى تبدو نواجذه، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، وكان يجلس يستمع لأصحابه وهم يتذاكرون أمور الجاهلية ويبتسم، فلم يمنعه ذكر الموت عن مثل هذه الأمور، فعليك بالتوازن والاعتدال، ونسأل الله أن يحسن خواتيمنا جميعا.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 رجب 1430(9/3915)
معنى التوكل والتفويض والفرق بينهما
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الفرق بين التوكل والتفويض مع الدليل؟.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبين التوكل والتفويض اشتراك في أصل المعنى، من حيث اعتماد القلب على الله وإسناد الأمور إليه، وقد جعل بعضهم التفويض أعلى درجات التوكل وهو روحه ولبه وحقيقته، قال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات: التوكل ثم التسليم ثم التفويض، فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه، فالتوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية، فالتوكل صفة المؤمنين والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين. اهـ.
وقال الهروي في منازل السائرين عن مقام التفويض: هو ألطف إشارة وأوسع معنى من التوكل، فإن التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام والتوكل شعبة منه. اهـ.
وقد شرح ابن القيم ذلك وناقشه ورده فقال في مدارج السالكين: يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة ويفوض الأمر إلى صاحبه من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه، بخلاف التوكل فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل.
فيقال: وكذلك التوكل أيضا، وما قدحتم به في التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء، فإنك كيف تفوض شيئا لا تملكه البتة إلى مالكه، وهل يصح أن يفوض واحد من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه، فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل، بل لو قال قائل: التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع لكان مصيبا، ولهذا كان القرآن مملوءا به أمرا وإخبارا عن خاصة الله وأوليائه وصفوة المؤمنين بأن حالهم التوكل، وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه، وسماه المتوكل كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأت في التوراة صفة النبي: محمد رسول الله سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل وبه انتصروا على قومهم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم أهل مقام التوكل، ولم يجئ التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ {غافر: 44} ، وقد أمر الله رسوله بأن يتخذه وكيلا فقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا {المزمل: 9} .
إلى أن قال: فالذي نذهب إليه أن التوكل أوسع من التفويض وأعلى وأرفع. اهـ.
وقال في موضع آخر: التوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضا لا يتصور وجوده بدونها. اهـ.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح العقيدة الواسطية: التوكل مما اختلفت فيه عبارات العلماء، بم يُفسر؟ ولعله أن يكون من أحسنها أن التوكل هو صدق التجاء القلب إلى الله جل وعلا بتفويض الأمر إليه بعد فعل السبب وذلك يجمع شيئين: التفويض وفعل الأسباب، وقد فسر التوكل بأنه تفويض الأمر إلى الله، وهذا ليس بصحيح، وإن كان لغة وكلتك بالأمر أو تقول العرب توكلت على فلان يعني فوضت أمري إليه، توكلت على الله يعني فوضت أمري إليه، لكن جاء الشرع ببيان أن تحصيل الأسباب من التوكل، وهذا في قوله عليه الصلاة والسلام: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. وذلك من الطير عمل، فإذن التوكل يجمع فعل السبب وتفويض الأمر إلى الله وصدق اللجإ إلى الله في أن يحصل المقصود. اهـ.
وقد سبق بيان معنى التوكل وكيفية تحصيله في الفتوى رقم: 18784.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رجب 1430(9/3916)
لا عبرة بإصلاح النية بعد انتهاء العمل
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما يعمل المسلم عملا صالحا بنية غير صالحة كالرياء مثلا أو رد الجميل لإنسان فقط.
ثم انتبه إلى نفسه وتاب توبة نصوحة وندم. فهل تصحيح النية بالإخلاص لوجه الله بعد انقضاء العمل يرجع ثواب العمل؟ أم أن النية انقضت بانقضاء العمل ولا ثواب عليه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعمل الذي أداه صاحبه بنية فاسدة كالرياء يقع حابطا لا ثواب عليه أصلا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. متفق عليه.
فالعمل المقبول الذي يثاب فاعله يشترط له نية صالحة، فما يفعله العبد من أعمال لا يقبل منه إلا ما كان خالصا وصوابا، كما سبق التنبيه عليه في الفتويين: 76510، 120325. ووقت هذه النية إنما هو أول العمل لا بعده.
قال السيوطي في مبحث وقت النية من كتاب الأشباه والنظائر: الأصل أن وقتها أول العبادات ونحوها. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: ذهب الفقهاء إلى أن وقت النية هو أول العبادات، أو أن الأصل أن أول وقتها أول العبادات، فيجب - كما عبر بعضهم - أن تقترن النية بأول كل عبادة إلا أن يشق مقارنتها إياها. اهـ.
وعلى ذلك فالعمل الذي عَرِي عن نية صالحة إلى منتهاه لا ثواب عليه، فإن انتبه صاحبه بعد ذلك وندم على ذلك، فإنه يؤجر على ندمه وتوبته من تقصيره، ولكن هذه التوبة لا تحصِّل ثواب عمل كانت النية فيه فاسدة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 رجب 1430(9/3917)
من دل غيره على معصية ثم تاب لا يلحقه إثم استمرار غيره على تلك المعصية
[السُّؤَالُ]
ـ[ببساطة لقد قمت بتعليم أحد الأصدقاء كيفية الدخول على المواقع المحرمة، وبعد ذلك تبت وندمت على هذا الفعل، وحاولت أن أمنعه من دخول هذه المواقع، وأحيانا اضطر للكذب وادعاء أن مثل هذه المواقع قد تفعل كذا وكذا بالكمبيوتر حتى يرجع، ولكنه دائما يقول إنني من علمته كيفية الدخول، ودائما يقول إني أدخل على هذه المواقع لتأخذ أنت هذه السيئات، مع العلم بأنني قمت بإزالة البرنامج المستخدم في عملية الدخول حتى أمنعه، ولكن للأسف استطاع أن يحضر نسخة أخرى من البرنامج، مع العلم أني تبت وندمت على هذا الفعل، فما العمل وما هو الحكم؟.
أرجو الإفادة؛ لأن هذا الموضوع يخيفني جدا كلما تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين، مع العلم أنني دائما أتحدث معه في الدين حتى يتذكر ويفيق، وكثيرا ما آخذه إلى الصلاة في المسجد ـ وخاصة في الفجر ـ ولكن عندما يحدث خلاف بيني وبينه يذكرني بأنني كنت السبب، وأنه مصر على هذا العمل حتى يكسبني سيئات.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه أن يقبل توبتك، وأن يثبتك عليها ويصرف عنك كيد شياطين الجن والإنس.
واعلم أيها السائل أنك إن صدقت في توبتك وندمت على ما كان منك، وبذلت الجهد في استصلاح من كنت سببا في إضلالهم، فقد أديت ما عليك ولن يضرك ـ إن شاء الله ـ ما يكون منهم من إصرار على طريق الغواية، وقوله إنه سيستمر على فعل المعصية حتى يحملك من أوزاره قول خاطئ، يدل على جهله وسذاجته، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والأصل المتقرر في الشريعة أنه لا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولكن استثنى من ذلك أهل البدع والمنكرات الداعين إليها، فهؤلاء يحملون من أوزار من أضلوهم كما قال سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ {العنكبوت: 13} . وقال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ {النحل: 25} .
وقال صلى الله عليه وسلم: ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. رواه مسلم وغيره.
فإذا تاب من ذنبه، وأصلح، وبذل جهده في إصلاح ما كان منه فقد برئ من ذلك ـ إن شاء الله ـ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وقد نص أهل العلم على أن من تاب من ذنب، فإنه تقبل توبته ولا يضره بقاء أثر ذنبه، ومثلوا لذلك بمن نشر بدعة ثم تاب منها.
قال صاحب المراقي:
من تاب بعد أن تعاطى السببا * فقد أتى بما عليه وجبا
وإن بقي فساده كمن رجع * عن بث بدعة عليها يتبع.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 رجب 1430(9/3918)
نصائح لمعالجة الفتور الإيماني
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت مواظبة على الصلاة وقراءة القرآن وصلاة السنن، ولكني الآن أصلي قبل موعد الصلاة الجديدة مباشرة، ولا أقرأ القرآن بالكمية التي كنت أقرؤها ولاأعرف السبب.
أرجو مساعدتي لكي أعود كما كنت.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته تكون بالطاعة، ونقصه يكون بالمعصية، والإيمان يحتاج إلى تجديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ- أي: يبلى ويستهلك - فِي جَوْفِ أَحَدكُم ـ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوبَ الْخَلِق، فَاسْأَلوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيَمَانَ فِي قُلُوبِكُ. رواه الطبرانى وحسنه الهيثمى والعراقي، وقال الحاكم وقال: رواته مصريون ثقات، وصححه الألباني.
والقلب أحيانا تعترضه سحابة مظلمة فيفتر المؤمن، ولكنه سرعان ما يستفيق ويعود لربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت. رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني.
والمعاصي من أكبر أسباب الانقطاع عن بعض الخيرات، كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {المطففين: 14} . رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني.
فاسألي الله أن يجدد الإيمان في قلبك، وتوبي إليه توبة عامة من كل الذنوب صغيرها وكبيرها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول- وهو من هو في الفضل والخيرـ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ. رواه مسلم.
وعليك بوسائل تقوية الإيمان، وقد ذكرناها في الفتوى رقم: 10800 فراجعيها.
واحرصي على صحبة الصالحات المجتهدات فلها أثر كبير في علو الهمة، مع تنويع العبادة، وإعطاء النفس بعض المباحات حتى لا تمل، فكل هذا يعين على الثبات على الخير والمواظبة على الطاعات.
ثم ننبهك أختنا إلى أن تأخير الصلاة إن كان حتى يخرج وقتها بدون عذر - كنسيان أو نوم - ذنب عظيم، لا يرفع إلا بالتوبة والندم على ذلك، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بأنه مفرط أي مقصر، حيث قال: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى. رواه مسلم في صحيحه.
وأما إن كنت تؤخرين الصلاة عن أول وقتها، وتصلينها قبل دخول وقت الصلاة الأخرى، فهذا وإن لم يكن محرما، ولكنه يفوت عليك فضيلة الصلاة في أول وقتها ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ونسأل الله أن يوفقك إلى كل خير.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 رجب 1430(9/3919)
التوبة تجب ما قبلها
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد أوقعتني نفسي الأمارة بالسوء في محرم كبير، لقد أحببت فيما مضى فتاة، ولقد شغفتني حبا، فصرت متعلقا بها، وتغير سلوكي حتى صرت متيما بها، ولا أهوى إلا إياها، فخفت أن أخسرها وتصورت أن بي سحرا، فقصدت عرافا تلو الآخر لأفك ما بي مما أتصوره سحرا، ثم قررت أن أسحرها، وأخذت طلاسم لأحرقها وحرقتها، ولكني لم أكن مقتنعا، ثم أخذت شيئا لأطعمها، ولكني امتنعت. في تلك الفترة كنت سيئ الخلق، وكنت لا أصلي، واقترفت المعاصي، وذهبت إلى الأطباء النفسيين، أما الآن فأنا أحاول جاهدا تذكر تلك الذنوب وإرجاع حقوق الناس قبل الممات، وخاصة تلك الفتاة، فذهبت إليها، وصارحتها، واستسمحتها واعتذرت إليها، وقبلت. وأنا خائف جدا، فما هو حكمي؟ وماذا أستطيع تقديمه أكثر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئا للأخ السائل توبته إلى الله، ونسأل الله تعالى أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجنبه مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. فباب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان مهما بلغ ذنبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} . وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِ هَ ا. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
ومن أوائل هذه الذنوب التي يجب إحسان التوبة منها: ترك الصلاة، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 5317 ورقم: 3146.
ثم التوبة من الذهاب إلى السحرة والعرافين، فإن ذلك يعد من عظائم الذنوب، وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 13238، 8631، 14231.
ثم إقامة علاقة بامرأة أجنبية خارج إطار الزوجية، وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 22194، 9431، 1435.
فعليك ـ أخي الكريم ـ أن تنشغل بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى، وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا، مع رد المظالم إلى أهلها واستحلالهم منها.
وعليك أخي الكريم بكثرة أعمال البر والطاعة تعويضا عما فات، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وحسنه الألباني.
وبالجملة فقد سبق بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي، وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 10800، 1208، 93700، 5450، 75958، 29785.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 رجب 1430(9/3920)
النادم على ذنوبه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة ربه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة أبلغ من العمر 17 عاما، قدمت على فعلة شنيعة، وأحس بالذنب الشديد لما اقترفته، فقد جرفني جلوسي على الانترنت إلى مشاهدة مواقع إباحية، وبذلك فقد خنت ثقة أهلي بي مع العلم أني لم أدمن عليها، ولكني شاهدتها أكثر مرة، ولكنها لا تتجاوز العشر مرات. أنا الآن عزمت أن أتركها، وأن لا أرجع إليها مرة أخرى، وتبت إلى الله، فأنا محافظة على صلاتي وديني، ولكن إحساسي بالذنب لما فعلته يقتلني. كيف لي أن أتخلص من هذا الإحساس المرير؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي وفقك للتوبة، وأنعم عليك بالرجوع إليه قبل فوات الأوان، ونسأل الله أن يحفظكِ، وأن يحفظ عليكِ دينكِ ويحسن ختامكِ.
واعلمي أن إحساسك بالذنب كلما تذكرت ذنبك دليل على أن جذوة الإيمان في قلبك لم تذبل، فإن الندم توبةٌ، وكلما زاد إيمان العبد زاد ألمه على تفريطه في جنب الله تعالى، وانظري الفتوى رقم: 113411.
ولكن هذا الندم يجب أن لا يصحبه يأس أو قنوط من رحمة الله تعالى، فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، وانظري الفتويين رقم: 2969، 1882.
هذا، وننصحك بأمور:
الأول: أن تجتنبي الخلوة مع الحاسوب والإنترنت؛ فإن النفس أمارة بالسوء.
الأمر الثاني: أن تدمني القراءة في كتاب الله، فإنه شفاء لما في الصدور وسبب للطمأنينة وهناءة العيش، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {الإسراء:82} .
الأمر الثالث: أن تكثري من الاستغفار، وذكر الله في اليوم والليلة، وخاصة الأذكار الموظفة التي تقال في الصباح والمساء، وبعد الصلوات، وعند النوم، وتجدينها وغيرها من الأذكار في "حصن المسلم".
الأمر الرابع: أن تسألي الله الهداية والاستقامة، وأن يكفيك شر الشيطان وشر نفسك، والتمسي أوقات الإجابة مثل ثلث الليل الآخر، وأثناء السجود، وآخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة، وعند الفطر عندما تصومين.
الأمر الخامس: أن تتخذي رفقة من الأخوات الصالحات فإنهن خير معين بعد الله تعالى على الاستقامة على دين الله، ففتشي عنهن، وانخرطي في سلكهن واعبدي الله معهن، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
الأمر السادس: أكثري من استماع الأشرطة الإسلامية، فإن فيها علمًا غزيرًا، وتهذيبًا للأخلاق، وتذكيرًا بسير الصالحين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 رجب 1430(9/3921)
المرء يثاب على طاعاته وإن لم يعرف الحكمة منها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل أدائي للعبادات من غير فهم مذموم، كأن أحج وأفعل مثل ما كان يفعل الرسول صلي الله عليه وسلم في الحج مما ثبت عنه ولكن من غير فهم لأسباب هذه الأفعال، مثل الأصل في قصة السعي بين الصفا والمروة، والرمل في الثلاث أشواط الأولى؟
فهل إذا أديت هذه الأركان مع فهم يكون الأجر أكثر وإذا أديتها من غير فهم ولكن أديتها كما ثبت عن الرسول صلي الله عليه وسلم هل يكون هذا تقليدا؟ وهل التقليد من غير فهم مذموم؟ وهل بإمكاننا أن نقول إن أداءنا للعبادات هو تقليد للرسول صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولا أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمى تقليدا، لأن التقليد كما عرفه الأصوليون هو: الأخذ بقول الغير بغير دليل، وقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله هو الدليل الذي يعتمد عليه العلماء الذين يسوغ تقليدهم، وقفو أثر النبي صلى الله عليه وسلم واتباع هديه هو الواجب على كل مسلم مصداقا لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {آل عمران:31} .
والآيات والأحاديث في وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، وليس من شرط صحة المتابعة أن تعلم حكم الأحكام ولا أسباب تشريعها، بل مهما علم العبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا أو أمر بكذا فسمع وأطاع فقد فعل ما وجب عليه وليس أجره ناقصا بإذن الله، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقفون أثره صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة ولو لم يعلموا سر التشريع ولا حكمة الحكم، ومن ذلك قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين قبل الحجر الأسود: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. وقال رجل لابن عمر لا نجد صلاة السفر في القرآن. فقال ابن عمر: إن الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً يفعل.
وبه تعلم أن الواجب على المسلم إذا أتاه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سمع بالفعل من أفعاله الشريفة صلى الله عليه وسلم أن يبادر بالامتثال والاتباع، وليعلم أن له في ذلك الأجر الجزيل والمثوبة العظيمة، وليس معنى هذا التقليل من أهمية معرفة حكم الأحكام وأسرار التشريع وأسباب التكاليف التي لمشروعيتها سبب كالرمل في الأشواط الثلاثة الأولى في طواف القدوم، وأن الأصل في مشروعيته أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يروا المشركين القوة من أنفسهم في عمرة القضاء، وكذا الأصل في مشروعية السعي وأن مبتدأه فعل هاجر أم إسماعيل عليه السلام باحثة عن الماء لوليدها الرضيع، ونحو ذلك من الأحكام، فإن معرفة ذلك لها أثر عظيم في ترسيخ الانقياد وتحصيل البصيرة في الاتباع، ثم تعلم مثل هذه الأمور داخل في طلب العلم المأجور فاعله، ولكن لا تتوقف المثوبة على معرفة هذا، وليس للعبد أن يجعل انقياده منوطا بمعرفة الحكمة فإن ذلك يقدح في تمام المتابعة.
والله أعلم
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 رجب 1430(9/3922)
المعاصي من أعظم أسباب تنكيد العيش وتعسير الأمور
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي طويل ولكنني أختصره في عدة أسطر، أنا فتاة عمري35 سنة غير متزوجة، لا ينقصني شيء، بدأت التزم وأتدين والحمد لله، ولا أضع المكياج، ولا ألبس ملابس ملفتة، ولا أحضر حفلات مختلطة، ولكن الكل يقول لي إن لم تضعي المكياج وتحضري حفلات مختلطة وتلبسي ملابس ملفتة لن تتزوجي، وأنا الآن كبيرة، ولست صغيرة، كما أن والدي منفصلان من 5 سنوات، ونحن نعيش مع والدتنا، ولذلك لا يتقدم أحد لخطبتنا، ونصحتني إحدى النساء أن أتعرف على شخص غير عربي، ولكنه مسلم عبر الانترنت، وأتزوجه لأنني إن لم أفعل لن أتزوج، لأن أهل البلاد عندنا لا يتزوجون من كان والدها ووالدتها منفصلين. فما هي نصيحتكم؟ أنا في حيرة من أمري. هل اعمل كما يقولون؟ أم أبقى ملتزمة ثابتة؟ وما هو الصواب فقد اختلطت عندي الأمور.
جزاكم الله كل خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتبرج والسفور والتعرف على الرجال الأجانب سواء بقصد الزواج أو غيره كل ذلك من المحرمات التي تجلب سخط الله وغضبه كما بيناه في الفتاوى التالية: 115873، 119236، 25535.
فاتقي الله أيتها السائلة، واعلمي أن من أصول الاعتقاد ومحكمات الدين اليقين الجازم بأن الأمور كلها بيد الله، وأنه سبحانه وحده هو الذي يقبض ويبسط ويعطي ويمنع، وإليه ترجع الأمور.
فإذا ثبت هذا في قلب العبد فكيف يطلب رزق الله من زواج أو غيره بمعصيته ومخالفة شرعه، وهل يمكن لعاقل أن يقبل هذا فضلا عن أن يدعو غيره إليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته. صححه الألباني.
فكوني أيتها السائلة على يقين من أمرك، واطرحي عنك الشك والارتياب، فإن المعاصي لا تجلب رزقا ولا تيسر أمرا، بل هي أعظم أسباب تأخير الرزق وتنكيد العيش وتعسير الأمور، جاء في المسند وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. حتى وإن أنعم الله سبحانه على العاصي ببعض النعم استدراجا له فإنها لا تأتيه إلا منغصة منزوعة البركة بسبب ذنوبه ومخالفاته، يقول ابن القيم في كتابه الجواب الكافي: ومن عقوباتها (المعاصي) أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة، وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله وما محيت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ {الأعراف: 96} وقال تعالى وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ {الجن: 16-17} وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وفي الحديث: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته، وإن الله جعل الروح والفرح في الرضاء واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. انتهى.
فأعرضي وفقك الله عن هؤلاء الغاوين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، فما أشد غبنهم وأعظم خسارتهم حين صاروا من دعاة الشيطان يبيعون دينهم بدنيا غيرهم.
هذا، مع التنبيه على أنه يجوز للمرأة أن تعرض نفسها على رجل صالح ليتزوجها فهذا لا حرج فيه، كما بيناه في الفتوى رقم: 7682، ولكن بشرط الالتزام بالضوابط المذكورة في الفتويين رقم: 21489، 19196.
وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 19839.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 رجب 1430(9/3923)
إعجاب المرأة برجل أجنبي عنها.. الأسباب والعلاج
[السُّؤَالُ]
ـ[أتساءل عن تكرار الإحساس تجاه الشباب بالإعجاب، مع التأكد أنه حرام. هل هذا مرض؟ أم غضب من الله؟ وهل يسامحني ربي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا حكم إعجاب المرأة برجل أجنبي عنها وما يتبع ذلك من حب له أو ميل قلبي تجاهه، وذلك في الفتوى رقم: 76936، وما أحيل عليه فيها من فتاوى.
أما استفسارك عن سبب ذلك، وهل هو مرض أم هو من قبيل غضب الله سبحانه؟ فنقول: أما مجرد إحساس المرأة بالميل الطبيعي نحو الرجل دون تسبب منها بفعل محرم من نظر ونحوه، فهذا لا حرج فيه ولا يعد من قبيل المرض، ولا من سخط الله على عبده؛ لأن هذا مركوز في أصل جبلتها وفطرتها، ولكن عليها أن تجاهد نفسها في دفع خواطره عن قلبها بكل سبيل.
وأما إذا كان هذا الأمر بكسب منها وتجاوز في علاقتها بالرجال، أو لم يكن بكسب منها لكنها لم تقف عند حد الخواطر القلبية وأحاديث النفس، وتعدته إلى أفعال الجوارح من نظرة أو لقاء أو كلام أو خلوة أو لمسة ونحو ذلك، فهذا كله حرام لا خلاف في حرمته، وهذا سبيل الوقوع في داء عضال ومرض قتال وهو العشق كما بيناه في الفتاوى رقم: 117632، 9360، 27626.
وقد يكون الوقوع في مثل هذه المعاصي من النظر والعشق ونحو ذلك بسبب ذنوب سبقت من العبد أوجبت هوانه على ربه، فسهل على الشيطان أن يوقعه في هذه الفواحش، وقد نص العلماء على أن ترك الواجبات من أسباب الابتلاء بالمعاصي وتسلط الشياطين، لقوله سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف: 36} وقوله جل وعلا: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة: 14} .
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ... أن ترك الواجب سبب لفعل المحرم، قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة: 14} فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين، وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء. انتهى.
فإن كان هذا الذي تجدين في قلبك من قبيل المحظور فتوبي إلى الله، واصدقي في توبتك تجدي الله غفورا رحيما، فإنه سبحانه وعد بقبول توبة التائبين إليه المقبلين عليه، فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى: 25}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 رجب 1430(9/3924)
توبة من ساعد على نشر المنكرات
[السُّؤَالُ]
ـ[إخواني في الله: كنت شريكا مع أحد الأصدقاء في منتدى متعدد الأقسام: العامة، والإسلامية، والترفيهية، والفنية، والأغاني، والأدبية. وساهمت بمبلغ كبير لترقيته وتطويره، ولكن بعد أن هداني الله شعرت بحجم الإثم الذي آخذه من سماع الأعضاء للأغاني، ووضعهم لصور تواقيع نسائيه، واختلاط الشباب مع البنات.
فقررت إزالة هذه الأقسام ولكن شريكي عارض فكرة الإزالة، فقررت أن أنفصل من شراكة هذا المنتدى، فأنزلت موضوع براءة ذمة في المنتدى، وأنه ليس لي علاق بالمنتدى لا من قريب أو بعيد، واطلع عليه كثيرون، وقلت له متى ما يتوفر لك مبلغ عليك أن تتبرع بمبلغ حصتي من المنتدى للمحتاجين والفقراء، وأن لا تعتبر حصتي جزءا من تطويرك للمنتدى. فوافق.
ولكني عندي قلق شديد هل بالطريقة هذه برئت ذمتي عند الله سبحانه وتعالى؟ وإذا كانت طريقتي خطأ فأرشدوني جزاكم الله خيرا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الإعانة على نشر المنكرات وإشاعة الفاحشة من الذنوب العظام، التي ينبغي أن يسارع صاحبها للتوبة إلى الله. فالحمد لله الذي هدى الأخ السائل للتوبة من هذه المنكرات الظاهرة، فإن من تاب تاب الله عليه، والتوبة مقبولة بشروطها، التي سبق بيانها في الفتوى رقم: 5450.
ثم اعلم أخي الكريم أن من تاب من المنكر يجب عليه السعي في إزالة جميع آثاره، فإذا نشر فسادا يجب عليه أن يمحوه، وأن يقنع الناس بخلافه، وأن يدعو الناس للخير ليكفر ما نشره من الشر والفساد، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 50160.
ولذلك يلزم السائل الكريم أن يغلق هذه الأقسام المخالفة للشرع في هذا المنتدى، وأن يجبر شريكه على ذلك، وإلا أغلق المنتدى كله، إن كان قادرا على ذلك. فإن لم يكن في استطاعته فعل ذلك فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وليجتهد في الدعوة إلى الخير ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصح وهداية الخلق، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 رجب 1430(9/3925)
ثواب من ذكر الله ففاضت عيناه من خشيته
[السُّؤَالُ]
ـ[كلما رددت ذكر الله من أذكار أو دعاء أو بمجرد التفكير فى أمر من أمور لله أبكى بكاء شديد فلا أعلم هل هذا شعور بالتقصير نحو الله؟ أم خوف منه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه ليس عندنا ما يجزم به في مثل حالتك التي ذكرت ولكن الشرع نوه بالبكاء عند ذكر الله كما في حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظله قال: ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
وقد ذكر أهل العلم في معنى الحديث أنه يشمل من بكى من خشية الله أو شوقا إليه ومحبة له.
وقد روى أبو نعيم في الحلية عن أبي بن كعب أنه قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن عز وجل ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار.
وعن أنس مرفوعا: من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقد تعقبهما الألباني فى الضعيفة فذكر أن في سنده أبا جفعر الرازي وهو متكلم فيه ولكنه ثبت هذا المعنى في عدة أحاديث منها الحديث" لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها الحديث:" عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله" وراه الترمذي وصححه الألباني.
وقال الحافظ في الفتح نقلاعن القرطبي: فيض العين بحسب حال الذاكر ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 رجب 1430(9/3926)
يكفي التائب أن يعلم محبة الله للتوبة وفرحه به
[السُّؤَالُ]
ـ[أتمنى أن أجد عندكم جوابا لسؤالي بدون تجريح أو إهانة، لأني سبق وسألت أكثر من شيخ وكان أسلوبهم معي قاسيا جدا: أنا فتاة أبلغ من العمر 25 سنة، مقصرة في ديني لم أصل في حياتي إلا عددا يكاد يعد علي الأصابع، فعلت كل المعاصي الكبيرة والصغيرة: زنيت، وسرقت، وكذبت، تاركة صلاتي، هاجرة للقرآن، لا أصوم ولا في أي رمضان من سنين عمري ال 25 صمت، وأصابني خوف شديد وندم عظيم لكن بعد فوات الأوان، خسرت شرفي، وأكلت المال الحرام، والآن لا أعرف ماذا أفعل؟ لي أكثر من سنيتن وأنا لا أسمع الأغاني ولا أسعى إليها، ولا أسرق، وقدر الإمكان أحسن من سلوكي لكن صلاتي في 25 سنة. هل يجب أن أقضيها؟ انصحوني ماذا أفعل؟ أرجوكم أود أن ألتزم على قدر استطاعتي ولا يوجد لدي من ينصح، ولا أستطيح أن أفشي أسراري لأحد.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمة التوبة، وأن يشرح صدرك ويهديك إلى سواء السبيل، فأقبلي ـ أختنا الكريمة ـ على ربك ولا تيأسي من روحه ولا تقنطي من رحمته، فإن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه. قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر: 53} .
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
وقد وعد الله تعالى من يقترف أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات، إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات. قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا. {الفرقان:68-71} .
فهنيئا للتائب الصادق الذي يُتبِع سيئاته بحسنات ماحية، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. {هود: 114} .
ويكفي التائب أن يعلم محبة الله للتوبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ. متفق عليه.
فينبغي لك أن تنشغلي بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا.
ولا شك ـ إن شاء الله ـ أنك إن استقمت على توبتك وبدلت سيئاتك بحسنات أن الله الكريم سيقبلك ويرحمك، قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأعراف: 153} .
فأقبلي على الله يقبل الله عليك، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. متفق عليه.
وقد سبق لنا بيان حقيقة التوبة وشروطها ودلائل قبولها، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 5450، 29785، 4603.
وراجعي لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 97196، 76092، 60222.
أما بالنسبة لما فاتك من صلاة مفروضة وصيام رمضان، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تارك الصلاة لا يكفر، وعليه فإن من ترك الصلاة متعمدا وجب عليه قضاؤها سواء قلت الصلوات المتروكة أو كثرت، وكذا القول في الصيام. وذهب بعضهم إلى تكفير التارك للصلاة ولم يفرقوا بين تاركها عمدا أو تكاسلا وبين جاحد وجوبها للأدلة العامة في ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر. رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. رواه مسلم.
وعلى هذا القول فإن من ترك الصلوات متعمدا وجب عليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا وإن يكثر من النوافل والطاعات والاستغفار، وليس عليه قضاء ما فاته من الصلوات وما ترك من صيام رمضان. ولا كفارة سوى التوبة النصوح، والندم والاستقامة ما بقي، وإن قضى تلك الصلوات الفائتة على أي نحو تيسر له بحسب استطاعته، سواء كان ذلك ليلا أو نهارا, مع مراعاة الترتيب بين الفوائت، وكذا لو صام ما فاته من شهور مضت مع إطعامه ثلاثين مسكينا مع قضاء كل شهر كفارة عن تأخير القضاء؛ خروجا من الخلاف فذلك الأولى، لأن القول بالقضاء هو قول أكثر أهل العلم. وراجعي في ذلك الفتاوى الآتية أرقامها: 5317، 3146، 17940، 35136.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 رجب 1430(9/3927)
خائف من أخطائه وتفريطه في حقوق الله
[السُّؤَالُ]
ـ[إني خائف جدا بسبب أخطائي وذنوبي التي لا أقدر على إصلاحها، أو لا أعرف كيف أصلحها، وأصاب بحالة من اليأس والعياذ بالله. أرجو الإفادة. وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فباب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
فهنيئا للتائب الصادق الذي يُتبِع سيئاته بحسنات ماحية، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} فإن الله تعالى يحب المغفرة، فيغفر تعالى لمن يتوب إليه ويستغفره، كما جاء في الحديث الشريف: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم.
فعليك أخي الكريم أن تنشغل بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا، مع رد المظالم إلى أهلها إن كان هناك مظالم.
واجتهد في تقوية إيمانك ورغبتك في الاستقامة بكثرة مطالعة كتب الترغيب والترهيب والرقائق، وتدبر القرآن وتتفكر من خلاله في أمور الآخرة ومصير الطائعين والعصاة، وما فيه من الحديث عن مراقبة الله وجبروته وانتقامه ممن عصاه.
وعليك بالصحبة الصالحة التي تعينك على الثبات والاستقامة، فالمرء على دين خليله كما في الحديث، وعليك أن تستعين بالدعاء في الصلاة وأوقات الاستجابة.
وقد سبق بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي، وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 10800، 1208، 93700، 5450، 75958، 29785.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 رجب 1430(9/3928)
التوبة من الكفر والمعاصي الغليظة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا إنسان كثرت فيه الأغلاط والمعاصي، وتعديت حدود الله عزوجل وأنا نادم على أعمالي وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقد كنت أجامع الحيوانات، وأشاهد صور الأولاد وأقول لهم: أنتم الله. وبعد أن يقذف المني أرجع إلى عقلي وأستغفر الله،في وقت ممارسة العادة السرية لا أعرف ماذا أفعل ولا أعمل حسابا لشيئ مهما كان كبيرا أوصغيرا، وبعد أن يقذف المني أشعر بمصيبة كبيرة، قد فعلتها من كفر وضلال، أنا في مصيبة كبيرة لم أشعر بنفسي، أنا نادم على فعلي هذا. وأرجو من الله أن يغفر لي وإن كان هناك طريق للتوبة أرجوكم أن تساعدوني بها. وهل لي توبة عند الله عز وجل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يتوب عليك من هذا الكفر والغي، فلا ريب أن مقولة: أنتم الله. وكون السائل حين اقتراف هذه المعصية ـ على حد قوله ـ لا يعمل حسابا لشيء مهما كان كبيرا أو صغيرا، من الضلال المبين، وهي أمور يقشعر الجلد من هولها وفظاعتها، وهكذا دائما خطوات الشيطان، يبدأ بالمعاصي صغيرها ثم كبيرها، حتى يوقع الإنسان في الكفر الأكبر إن استطاع، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. {الحشر: 16} .
ولكن الحمد لله الذي كتب على نفسه الرحمة فوسعت كل شيء. قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأنعام: 54} .
وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا. {النساء: 110} .
وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر: 53} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
فتب ـ أخي الكريم ـ توبة نصوحا جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا. ولا شك ـ إن شاء الله ـ أنك إن استقمت على توبتك وبدلت سيئاتك بحسنات أن الله الكريم سيقبلك ويرحمك. قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأعراف: 153} . وراجع لزاما الفتوى رقم: 112696.
وقد سبق الكلام على كبيرة إتيان البهائم، وبيان حكم العادة السرية، في الفتويين: 28444، 7170.
وعليك بالمبادرة بالزواج، فإن كنت عاجزا فواظب على الصيام وذلك امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء. متفق عليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 رجب 1430(9/3929)
عدد الذنوب الكبائر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الكبائر؟ إذا سمحتم عددوها لي تعدادا ولا أريد السبع الموبقات فقط بل أريد أكثر من ذلك.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الكبائر قد أوصلها بعضهم إلى سبعين كبيرة، وقد ألف فيها الهيثمي والذهبي وغيرهما، فنرجو أن تراجع كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي، وكتاب الكبائر للذهبي. وللحجاوي منظومة مختصرة عدها عدًا. وللمتأخرين بعض المؤلفات في هذا من أحسنها كتاب الكبائر للشيخ محمد عبد الوهاب. فهو كتاب مختصر مشحون بالأدلة، وقد طبع محققا مخرج الأحاديث، وهذه الكتب موجودة في المكتبة الشاملة فراجع موقعها على الانترنت.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 جمادي الثانية 1430(9/3930)
شروط قبول توبة تارك الصلاة والسارق
[السُّؤَالُ]
ـ[أحد الشباب لا يصلي ويسرق، ويريد أن يتوب. هل يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما من ذنب وإن عظم يتوب صاحبه منه توبة نصوحاً إلا تاب الله تعالى عليه وغفر له؛ فضلاً منه ورحمة وجوداً. قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ. {الزمر: 52، 54}
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. أخرجه مسلم عن أبي موسى.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. رواه الترمذي وحسنه. الغرغرة: بلوغ الروح الحلقوم.
والتوبة المقبولة لها شروط سبق بيانها في الفتوى رقم: 29785.
وبالنسبة للصلاة، فإن العلماء مختلفون في وجوب قضاء ما تركه الإنسان منها عمدا، والجمهور على وجوبه وهو أحوط كما سبق بيانه في الفتويين رقم: 12700، 512.
ويشترط في قبول توبة السارق أن يرد المسروقات إلى أصحابها، فإن عجز عن معرفة أصحابها فليتصدق بتلك المسروقات ـإن كانت موجودة - وإن كانت غير موجودة فليتصدق بقيمتها. على أنه متى ما وجد أصحابها خيرهم بين أن يرد عليهم مثل ما أخذ منهم أو قيمته وبين أن يقبلوها صدقة عنهم. وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 3051. وانظر أيضا الفتوى رقم: 40782.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 جمادي الثانية 1430(9/3931)
حكم مشاهدة الحركات البهلوانية في السيرك
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم النظر إلى حركات السيرك علما أن هذه الحركات البهلوانية قد يختلط فيها السحر مع الحركات الخفية؟ وكيف نميز بين هذه الحركات من غيرها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا ننصح المسلم بالإعراض عن النظر إلى مثل هذه الأمور، وأن يوظف وقته وطاقته فيما يرضي الله تعالى. وقد قدمنا المحاذير في النظر إلى السيرك، والكلام على ما يتعلق بالسحر والاحتيال والحركات الخفية في الفتويين رقم: 51837، 100439.
وعلى من لا يميز بين ما يحرم نظره كالأعمال السحرية وبين غيره أن يبعد عن كل ذلك عملا بحديث الترمذي: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وهذه الأمور إن سلمت من السحر، ورؤية العورات. فأقل أحوالها أن تكون من اللغو الذي حض الشرع على الإعراض عنه، فقد قال الله تعالى في صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. {المؤمنون:3} .
وقال في صفات عباد الرحمن: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا. {الفرقان:72} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 جمادي الثانية 1430(9/3932)
الاستغفار بدون التوبة لا يستلزم المغفرة
[السُّؤَالُ]
ـ[متى يكون الاستغفار يحتاج إلى استغفار؟ وهل إذا أنا كنت معتادا على بعض الصغائر لكن مع الاستغفار هل يغفر لي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالاستغفار الذي يحتاجُ إلى الاستغفار هو الاستغفار الذي يكون بمعنى التوبة وصدر ممن يقيم على المعصية، ولا يعطي التوبة حقها، ولا يقوم بما وجب عليه فيها، فهذا لا ينفعه استغفاره بلسانه حتى يأتي بشروط التوبة، قال القرطبي: من شروطها أي التوبة: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر، وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. انتهى.
وقال النووي: وعن الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين.
ويقاربه ما جاء عن رابعة العدوية رضي الله تعالى عنها قالت: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. انتهى.
قال المناوي في فتح القدير: تنبيه سئل أحدهم أيهما أفضل: التسبيح والتهليل والتكبير أو الاستغفار؟ فقال: يا هذا الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون منه إلى البخور، ولا بد من قرن التوبة بالاستغفار لأنه إذا استغفر بلسانه وهو مصر عليه فاستغفاره ذنب يحتاج للاستغفار ويسمى توبة الكذابين. انتهى.
وليس معنى هذا أن نفس هذا الاستغفار ذنب، بل معناه كما بينه أهل العلم أنه ليس هو الاستغفار التام، ولكنه دعاء من جنس الدعاء، وقد يكون سببا للمغفرة بفضل الله ورحمته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدّعاء والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا يتوب ... إلى أن قال: والتّوبة تمحو جميع السّيئات، ... وأمّا الاستغفار بدون التّوبة فهذا لا يستلزم المغفرة، ولكن هو سبب من الأسباب. انتهى.
وقال ابن رجب: وإن قال بلسانه: أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه فهو داعٍ لله بالمغفرة كما يقول: اللهمّ اغفر لي، وهو حسنٌ وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين فمراده أنّه ليس بتوبة كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حق، فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار.
وقال: ومجرّد قول القائل: اللهمّ اغفر لي طلب للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدّعاء إن شاء أجابه وغفر لصاحبه، لاسيّما إذا خرج من قلب منكسر بالذّنب وصادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصّلوات. انتهى.
وأما كونك تعتاد بعض الصغائر، فإنّا نُحذرك كل التحذير من الاستهانة بمعصية الله، والانهماك فيها بحجة أنها من الصغائر، فقد تكون من الكبائر وأنت لا تشعر كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ {النور:15} .
وقال أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنّا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. أخرجه البخاري، ثم إن الإصرار على الصغائر يدخلها في حد الكبائر، والذنوب يجر بعضها إلى بعض، والسيئة تطلب السيئة حثيثا، فإذا عمل العبد السيئة، قالت له أختها إلى جنبها اعملني.
وتلد الصغائر الكبائر، وتسهل فعلها على العبد، فحذار حذار من محقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على المرء فيهلكنه.
خلِّ الذنوب صغيرها * وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق * أرض الشوك يحذرُ ما يرى
لا تحقرن صغيرةً * إن الجبال من الحصى
قال ابن القيم رحمه الله: وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى المراتب. وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرّد الفعل. والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره. انتهى.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن من رحمة الله بعباده أن جعل للصغائر مكفرات تمحو أثرها، ولو لم يتب العبد منها، فمن ذلك اجتناب الكبائر، لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً {النساء:31} .
وتكفرها كذلك الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصوم رمضان لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وما عدا ذلك من الطاعات التي وردت الأحاديث بأنها تكفر الذنوب، كصوم عرفة وصوم عاشوراء، ونحو ذلك، فهو محمول عند الجمهور على الصغائر، فإنها تكفر بأمثال هذه الطاعات، التي ثبت في الشرع تأثيرها في محو الصغائر، قال النووي في شرح مسلم: وتنقسم أي المعاصي باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح: ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر ولا شك في حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير. انتهى.
ومن أسباب تكفير الصغائر الاستغفار، فإنه دعاء وطلب للمغفرة كما تقدم في كلام ابن تيمية وابن رجب رحمهما الله.
واعلم أن هذا كله إنما هو في الجملة، وأما معرفة ما إذا كان يغفر لك بما تفعله من الاستغفار فإن ذلك من الغيب الذي ليس لنا أن نتكلم فيه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 جمادي الثانية 1430(9/3933)
المعاصي لا تتغير بالنية
[السُّؤَالُ]
ـ[يحتج الكثير من الناس بحديث: إنما الأعمال بالنيات. في عمل بعض المنكرات مثل الاختلاط، ومصافحة النساء الأجنبيات. فيقولون إنهم لا ينوون شرا. فهل هذا القول صحيح؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى كما تعبدنا بإخلاص النية له، فقد تعبدنا أيضا باتباع وموافقة سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإخلاص النية من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، واتباع السنة من تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله.
والاحتجاج بهذا الحديث على فعل المعاصي احتجاج داحض ومسلك من مسالك الشيطان؛ فإن المعاصي لا تتغير إلى طاعات بالنية، لأن النية لا مدخل لها في المحرمات.
قال الغزالي رحمه الله في الإحياء: المعاصي لا تتغير بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات. فيظن أن المعصية تنقلب طاعة. اهـ.
وقال أيضاً: والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلماً وعدواناً، بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله، إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم. اهـ.
وقال ابن أمير الحاج في المدخل: الأفعال الشرعية ثلاثة: واجب، ومندوب، ومباح، والحرام والمكروه لا يتقرب بهما إلى الله تعالى. اهـ.
وقال الإمام النووي في شرح الأربعين: قال الحارث المحاسبي: ولا إخلاص في محرم ولا مكروه، كمن ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، ويزعم أنه ينظر ليتفكر في صنع الله تعالى، وهذا لا إخلاص فيه، بل لا قربة ألبتة. اهـ.
وقد تقدم بيان حكم الاختلاط في الفتويين رقم 3539، 118479. وكذلك حكم مصافحة النساء الأجنبيات في الفتويين رقم: 2412، 3045. وقد تقدم شرح الحديث المذكور في الفتوى رقم: 121838.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 جمادي الثانية 1430(9/3934)
علاج هيجان الشهوة بالإكثار من الصيام
[السُّؤَالُ]
ـ[أشكو من الكبر والعجب والمشي بخيلاء إذا لبست الجديد من الثياب والجميل منها. أشكو من النظر إلى النساء والاستمناء إذا أكلت جيدا، وإذا تقوى جسمي بالرياضة والأكل، حتى الصيام على السنة لم يعصمني من الحرام. صمت مرة يوم اثنين ثم ثلاثة أيام البيض يعني إلى الخميس ووقعت في الاستمناء بالسبت. فكرت في الزهد في هذه الدنيا لأنني لم أحقق وسطية الإسلام مع قلة العلم وكثرة الفتن في بلادنا تونس. أخاف أن أضيع الدنيا والآخرة لقلة علمي بالزهد، وأخاف أن أخسر عملي لأنه شاق جدا، ولأني نويت صيام يوم بعد يوم. هذه بعض عيوبي فانصحوني أثا بكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أمر الله سبحانه عباده بترك ظاهر الإثم وباطنه فقال جل شأنه: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ {الأنعام: 120}
جاء في تفسير السعدي: فنهى الله عباده، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، أي: السر والعلانية، المتعلقة بالبدن والجوارح، والمتعلقة بالقلب، ولا يتم للعبد ترك المعاصي الظاهرة والباطنة إلا بعد معرفتها والبحث عنها، فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن، والعلمُ بذلك واجبا متعينا على المكلف. وكثير من الناس تخفى عليه كثير من المعاصي، خصوصا معاصي القلب، كالكبر والعجب والرياء، ونحو ذلك، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يحس به ولا يشعر، وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة , ثم أخبر تعالى أن الذين يكسبون الإثم الظاهر والباطن، سيجزون على حسب كسبهم، وعلى قدر ذنوبهم، قلَّت أو كثرت، وهذا الجزاء يكون في الآخرة، وقد يكون في الدنيا، يعاقب العبد، فيخفف عنه بذلك من سيئاته. انتهى.
وأنت أيها السائل – هداك الله وغفر لك – قد جمعت بين ظاهر الإثم وباطنه، أما باطنه فالكبر والعجب والخيلاء، وهذه من أمراض القلوب ورعونات النفس الأمارة بالسوء، والواجب على الإنسان أن يجاهد نفسه ليتخلص من هذه الأمراض وأمثالها، وقد بينا خطر ذلك وطريقة علاجه في الفتاوى رقم: 19854، 58992، 24081، 63817، 32856، 118700.
أما ظاهر الإثم فهو ما تذكر من النظر إلى النساء والاستمناء وقد بينا حرمة هذين الفعلين وقبحهما وكيفية التخلص منهما في الفتاوى رقم: 1087، 7170، 110188، 23935.
ولا شك أن أفضل علاج لخطر الشهوة هو الزواج، وقد أرشد النبي الشباب إليه كما في الحديث: يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج. متفق عليه.
فمن لم يقدر على النكاح فإن الصيام هو الوصفة النبوية لعلاج ما يتعلق بهيجان الشهوة وثورانها، قال – صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء.
قال النووي: والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المنى كما يفعله الوجاء. انتهى.
وجاء في فتح الباري: لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه. انتهى
وراجع الفتوى رقم: 6995 فإن بها نصائح لمن غلبته شهوته.
واعلم أن الصوم المقصود في الحديث، إنما هو الصوم المتكرر الكثير، أما مجرد صوم يوم أو يومين لا يحصل به الغرض.
جاء في فتح الباري: واستشكل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة، وذلك مما يثير الشهوة، لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر، فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك. انتهى.
ولا يلزم أن تكثر من الصيام حتى تذهب قوتك خصوصا مع ما تذكر من مشقة العمل الذي تعمل به. ولمعرفة حقيقة الزهد نحيلك على الفتوى رقم: 59675.
أما بخصوص ما تشكو منه من الفتن في بلدك، فإنا ننصحك بمطالعة الفتوى رقم: 51487.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 جمادي الثانية 1430(9/3935)
كثرة الأمراض هل هي ابتلاء من الله للعبد
[السُّؤَالُ]
ـ[فضيلة الشيخ: هل كثرة المشاكل الصحية وعدم شفائها بالعلاج، وأحيانا يتم شفاؤها ولكن تظهر بنفس المكان مشكلة أخرى. هل هو من العقاب أما الابتلاء؟؟ أم هو من السحر أو الإصابة بالعين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كل هذا قد يحصل، فقد يكون الأمر ابتلاء، وقد يعاقب الله بعض العصاة في الدنيا لينتهوا وينيبوا إليه، وقد يصاب البعض بالسحر أو العين، والعلاج في كل هذا أن يصلح العبد علاقته بربه، ويلتزم بطاعته والبعد عما يسخطه، ويكثر من سؤال الله العافية، ويواظب على التعوذات المأثورة في المساء والصباح وعند النوم والدخول للمنزل والخروج.
وإذا حصل المرض بحث عن علاجه الطبيعي فما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله. كما في الحديث.
ويشرع كذلك للمريض أن يستعمل الرقية الشرعية، سواء كان مصابا بالسحر أو العين، أم كان الأمر مرضا عاديا، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 80694، 117976، 113584، 100381.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 جمادي الثانية 1430(9/3936)
رواة قصيدة ابن المبارك: يا عابد الحرمين..
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مدى مصداقية قصيدة ابن المبارك: يا عابد الحرمين ... فلقد سمعت عمن ينكرها أشد الإنكار. رجاءً أرسلوا لي سندها وفي أي مرجع معتمد أجدها؟ وأحوال رجال سند من روى هذه القصيدة عن ابن المبارك -جرحا وتعديلا- ومن أثبتها من العلماء المعاصرين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن القصيدة المشار إليها معروفة ومشهورة عند أهل العلم فقد ذكرها كثير منهم في كتبه، ومن هؤلاء الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، والحافظ ابن كثير في تفسيره، والحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء حيث قال: وروى عبد الله بن محمد قاضي نصيبين، حدثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرسوس:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
إلى آخر القصيدة، فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم فقرأه وبكى ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.
ولهذا فنكران هذه القصة بالكلية غير معقول ولا داعي له، مع العلم بأن السير والأخبار والقصص لم يكن السلف يتشددون في روايتها ويدققون في رواتها جرحا وتعديلا، ولهذا قال العراقي في ألفية السيرة:
وليعلمِ الطالبُ أنَّ السّيَرَا * تَجمَعُ ما صحَّ وما قدْ أُنْكرَا
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 جمادي الثانية 1430(9/3937)
الاستغفار للميت والحي
[السُّؤَالُ]
ـ[1-لو سمحتم أريد أن اعرف هل الاستغفار للميت ينفعه؟
2-هل الاستغفار للغير له صيغة معينة أم أقول استغفر الله وبنية أنه للغير؟
3-هل يجوز أن أستغفر للحي أيضا؟
4-هل يجوز أن أستغفر لعدد كبير من الناس أي أن أقول أستغفر الله بنية الاستغفار لي ولأكثر من شخص في وقت واحد؟
شكرا وجزاكم الله كل الخير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالاستغفار ينفع الميت بإجماع العلماء، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ ... {الحشر:10} . فهذا دعاء بالمغفرة للمهاجرين والأنصار ممن جاء بعدهم، وهذا الدعاء ينفع قطعا، لأن الله لا يمدح ويقر إلا على الأعمال الصالحة النافعة.
ومما يؤكد نفع الاستغفار والدعاء للميت أحاديث صلاة الجنازة الثابتة في الشفاعة للميت والاستغفار له، وقبول الله عز وجل ذلك من المصلين عليه ممن لا يشركون بالله شيئا، ومن ذلك ما رواه عَوْف بْن مَالِكٍ قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ قَال حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ. رواه مسلم.
وصيغة الاستغفار للغير تكون بقولك: اللهم اغفر لفلان، وراجعي فيما ينفع الميت من أعمال الأحياء الفتويين: 3500، 69795.
والاستغفار للحي جائز أيضا بل مستحب، والأدلة على هذا كثيرة، ومن السنة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ، قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ. قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ وَلِلْمُقَصِّرِينَ. رواه البخاري ومسلم.
والاستغفار مثل الدعاء وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على دعاء المسلم للمسلم ورغب فيه، ففي صحيح مسلم عن أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ.
ويستحب كذلك أن تستغفري لأي عدد شئت من المسلمين، والأفضل أن تستغفري للمؤمنين والمؤمنات على العموم فهذا من كنوز الخير، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍٍ حَسَنَةً.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وإسناده جيد. وحسنه الألباني.
وصيغة الاستغفار لك ولغيرك أن تقولي: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، أو لفلان وفلانة ونحو ذلك.
وراجعي في الترغيب في الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات والدعاء لهم الفتوى رقم: 74418.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 جمادي الثانية 1430(9/3938)
الذنوب التي يكفرها التسبيح دبر الصلاة
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك مقولة ولا أعلم هل هي حديث أم مأثور بأن من قال: سبحان الله 33مرة، والحمد لله 33مرة، والله أكبر 33مرة وختم بقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. فما هي الذنوب المقصودة هنا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته في فضل التسبيح والتحميد والتهليل فحديثٌ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الفضلُ حاصلٌ لمن قال هذا الذكر دبر الصلاة المكتوبة.
فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين تلك تسع وتسعون. ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زيد البحر. رواه مسلم.
والذنوب التي يكفرها هذا الذكر هي الصغائر، فإن الصلاة المكتوبة نفسها، وهي أعظم الأعمال لا تكفر إلا الصغائر كما في الحديث ما لم يغش كبير وتقدم.
قال المناوي رحمه الله:
والظاهر أن المراد الصغائر كما مر نظائره غير مرة (ولو كانت) في الكثرة (مثل زبد البحر) وهو ما يعلو على وجهه عند هيجانه. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الثانية 1430(9/3939)
حد الصغيرة والفرق بينها وبين الكبيرة
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن تشرحوا لي بالتفصيل الذنوب الصغيرة وأمثلة كثيرة عليها وما هي مكفراتها؟
وهل يعتبر الكذب، والتدخين، والعادة السرية منها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كثر كلام العلماء حول ضابط الصغيرة والكبيرة، وانتشرت أقوالهم في ذلك انتشاراً واسعاً، وإذا عرفت حد الكبيرة تبين لك حدُ الصغيرة، فإن الذنوب قسمان: صغائر وكبائر.
قال ابن القيم رحمه الله: والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، بنصّ القرآن والسنة، وإجماع السلف، وبالاعتبا ر. انتهى.
قال القرطبي في حد الكبيرة: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. انتهى.
فما لم يكن كذلك فهو صغيرةٌ على هذا الاعتبار.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الكبائر هي ما رتب عليه عقوبة خاصة بمعنى أنها ليست مقتصرة على مجرد النهي أو التحريم، بل لا بد من عقوبة خاصة مثل أن يقال من فعل هذا فليس بمؤمن، أو فليس منا، أو ما أشبه ذلك، هذه هي الكبائر، والصغائر هي المحرمات التي ليس عليها عقوبة. انتهى.
وأحسن ما حُدت وعرفت به الصغيرة أنها ما دون الحدين حدُ الدنيا وحدُ الآخرة، وهذا التعريفُ مرويٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال رحمه الله: أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل وغيرهما وهو: أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة. وهو معنى قول من قال: ما ليس فيها حد في الدنيا، وهو معنى قول القائل: كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر.
ومعنى قول القائل: وليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة أي وعيد خاص كالوعيد بالنار والغضب واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة أو ثمانين، وبين العقوبات التي ليست بمقدرة وهي التعزير، فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد-في غير أمر العباد بها-بين العقوبات المقدرة كالغضب واللعنة والنار، وبين العقوبات المطلقة. وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره؛ فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة. انتهى.
وإذا تبين لك بهذا ضابط الصغيرة، فإنه يدخل في الصغائر ما لا يكادُ ينحصر من الذنوب، فكلُ ما نهى عنه الشارع، ولم يرتب عليه وعيداً مخصوصاً فهو داخلٌ تحت اسم الصغيرة.
وأما مكفرات الصغائر، فإن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا. {النساء:31} .
وتكفرها كذلك الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصوم رمضان، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وما عدا ذلك من الطاعات التي وردت الأحاديث بأنها تكفر الذنوب، كصوم عرفة، وصوم عاشوراء، ونحو ذلك،فهو محمولٌ عند الجمهور على الصغائر، فإنها تكفر بأمثال هذه الطاعات، التي ثبت في الشرع تأثيرها في محو الصغائر، ومن ذلك الذكر المأثور دبر الصلاة كما يأتي إن شاء الله.
قال النووي في شرح مسلم: وتنقسم-أي المعاصي - باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت فى الصحيح ما لم يغش كبيرة، فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر، ولا شك فى حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير. انتهى.
وأما هذه الذنوب التي سألت عنها، فإنا قد بينا في الفتوى رقم: 25998. حكم التدخين وأنه صغيرة لعدم انطباق حد الكبيرة عليه، وكذا الاستمناء هو من الصغائر كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 22267. وليس معنى كون هذه الذنوب من الصغائر، أن يستهين بها العبد، أو يتجاسرُ عليها، فإن الصغائر تنقلب إلى كبائر بالإصرار عليها، كما بينا ذلك في الفتاوى المذكورة، واستهانة العبد بالمعصية قد تدخلها في حد الكبيرة.
قال ابن القيم رحمه الله: وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى المراتب. وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرّد الفعل. والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غير هـ. انتهى.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن احتقار الذنوب، فإن الصغائر تجر إلى الكبائر، فقد روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ وذا بعودٍ، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه. وقد أشبعنا القول في شرح هذا الحديث في الفتوى رقم: 39543.
وأما الكذب فقد وقع الخلافُ بين أهل العلم في كونه من الصغائر أو من الكبائر؟
قال ابن القيم رحمه الله: واختلف الفقهاء في الكذب في غير الشهادة هل هو من الصغائر أو من الكبائر؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد حكاهما أبو الحسين في تمامه، واحتج من جعله من الكبائر بأن الله سبحانه جعله في كتابه من صفات شر البرية وهم الكفار والمنافقون فلم يصف به إلا كافرا أو منافقا،وجعله علم أهل النار وشعارهم، وجعل الصدق علم أهل الجنة وشعارهم، وفي الصحيح من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا.انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الثانية 1430(9/3940)
أخذت مالا كثيرا من أبيها بغير علمه فكيف تستحله
[السُّؤَالُ]
ـ[سرقت مالا من أبي منذ سنوات على فترات متعددة، لكن لا أعلم فهو مبلغ كبير بالآلاف، وندمت ندما شديدا وتبت ولله الحمد، واستغفرت ربي وعاهدت على عدم الرجوع. لكن ماذا أفعل؟
لا أستطيع إرجاع المال لأني فتاة لا أزال أتلقى المصروف اليومي ولا أملك وظيفة والمبلغ كبير، ولا يمكني إحصاءه ولا إرجاعه، ولا أستطيع مواجهة والدي بأني سرقته والله إني لأخجل وأخاف غضبه مني وتوتر علاقتي به!!
لكن قلت له يا والدي حللني إن كنت قد فعلت بك شيئا يوما ما.. ولم أفصح له عن هذا الشيء بل فقط قلت له أبي حللني إن كنت فعلت شيئا بك.. فقال لي.. (بحل وأنت لم أجد منك إلا الخير ولست غاضبا عليك..
فهل يكفي هذا أم لا بد من إخباره أنني سرقت وأطلب الحل..؟
أم يكفي أنه حللني دون أن أخبره لأني خجلت جدا من مواجهته وخفت كثيرا فقط قلت له إني أحس أنني قد غلطت عليك في يوم وأخاف أنك غضبت علي بشيء، فحللني إن كنت يوما أخطأت بحقك، فقال (بحل يا بنتي لم أجد إلا خيرا منك وهو دائما يقول أنا أحلل كل شخص أخطأ بحقي..سواء من أبنائي أو من الناس فهل هذا يجزي أيضا.. ومعناه أنني داخله ضمن الحل أم لابد من مواجهته بذنبي فأنا خائفة أن أموت وأنا برقبتي دين لا أستطيع رده!
أرجوك أرشدني للطريق الصحيح,, إن كان لا بد من الذهاب والتحلل منه هل لي أن أرسل له رسالة على جواله أقول له أنا شخص قد سرق منك مالا وتبت فأرجوك حللني.. ولا أكشف هويتي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسرقة ذنب عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب، ويعظم الإثم بسرقة الولد من مال أبيه؛ لأنه بذلك قد جمع بين السرقة والعقوق، فالواجب عليك أن تتوبي إلى الله توبة نصوحا، وأن تجتنبي العودة إلى هذا الذنب مرة أخرى، خاصة وأنك قد عاهدت الله على عدم العودة إليه. وراجعي شروط التوبة من السرقة بالفتوى رقم: 28499، وقد ذكرنا فيها أن من شروطها رد المسروق إلى صاحبه، وعلى هذا فالأصل أنه يجب عليك أن تردي هذا المال لأبيك واستحلالك منه بالصيغة التي ذكرت لا يكفي؛ لأنه قال ما قال بناء على ثقته فيك، وأنك لم يحدث منك تقصير تجاهه، وحتى يكون استحلاله معتبرا فلا بد أن تذكري له أن له عليك حقا -قطعا- وربما يكون غير عالم به، فإن أبرأك بعد ذلك كنت في حل ولو لم تذكري له حقيقة هذا الحق لأن الإبراء من المجهول صحيح على الراجح من أقوال العلماء، كما بينا بالفتوى رقم: 111664، ونوصيك بالإحسان في المستقبل والحرص على الإكثار من الحسنات.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الثانية 1430(9/3941)
العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها
[السُّؤَالُ]
ـ[فتاة وقعت في الزنا مع خطيبها، ثم تابت، ثم عادت ووقعت في الزنا معه مرة أخرى نتيجة إلحاحه المستمر لشهور، ثم تابت إلى الله ولم تفعلها مرة أخرى. هل يقبل الله توبتها في المرة الثانية؟ علما بأنها في المرتين صادقه التوبة عازمة على ألا تفعلها ثانية. هى تشك أن الله قبل توبتها الثانية لأن أهلها عرفوا بما فعلت وفضحت وسط أهلها، فهل هذا عقاب من الله أم غضب عليها ولم يعد يقبل توبتها؟ أرجو الإجابة لأنها في حالة سيئة جدا خوفا من أن يكون الله غضب عليها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن جريمة الزنا من أعظم الذنوب وأكبر الفواحش التي توجب غضب الله ولعنته, وقد بينا هذا في الفتوى رقم: 114945.
ولكن مع قبح هذه الجريمة وبشاعتها فإن من تاب منها توبة صادقة فإن الله بفضله يقبل توبته ويقيل عثرته, فإنه سبحانه وعد بقبول التوبة عن عباده فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. {الشورى: 25} .
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: قد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة فقال: وتوبوا إلى الله جميعا. ووعد القبول فقال: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده. وفتح باب الرجاء فقال: لا تقطنوا من رحمة الله. انتهى.
ووعد الله سبحانه بالقبول لتوبة عبده وعدا مطلقا غير مقيد بالتوبة الأولى أو بغيرها، بشرط أن يتوب في كل مرة توبة صادقة نصوحا، مستوفية لشروطها المبينة في الفتوى رقم: 113925.
فقد قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. {البقرة: 222} , ومعنى التوابين أي الذين يتوبون من الذنب وإن تكرر حدوثه منهم.
قال ابن كثير رحمه الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. أي: من الذنب وإن تكرر غشْيانه. انتهى.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ.
قال النووي: وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفاً وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته. وقوله في الحديث: اعمل ما شئت. معناه: ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك.
ولكن ليس في هذا الحديث ترخيص في فعل الذنوب، ولا إغراء بالرجوع إليها فإن العود إلى الذنب قبيح لما يتضمنه من نقض التوبة.
ولكن فيه فائدة عظيمة أشار إليها القرطبي رحمه الله بقوله: وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله. انتهى من فتح الباري.
وما حدث لها من فضيحة باطلاع الناس على فعلها ذلك لا يعني عدم قبول توبتها, بل لعل هذا الذي حدث لها من قبيل تعجيل العقوبة في الدنيا، وهذا فيه خير لصاحبه ولا شك.
يبقى بعد ذلك الحديث عن علاقتها بهذا الشاب الذي يظهر أنه ضعيف الدين وسيء الخلق, فهذا لا ينبغي لها أن تتزوجه إلا بعد أن تتيقن من توبته، أو يغلب هذا على ظنها، ويشترط ألا يتم الزواج إلا بعد استبراء الرحم, وقد بينا هذا في الفتاوى الآتية أرقامها: 9644 , 1591 , 62719.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الثانية 1430(9/3942)
تأخر عنها الخطاب وأصبحت تشعر بملل وكوابيس
[السُّؤَالُ]
ـ[أخجل كثيرا من التحدث في هذا الموضوع، ولكنني مضطرة كثيرا لأنني الآن وصلت إلى عمر 30 رغم أنني لا يظهر علي العمر، ولم أتزوج بعد، وعلما أنني خريجة الجامعة، وحاليا أدرس الماجستير وعلى قدر كبير من الجمال، والله شاهد على كلامي، ومحبوبة جدا من صديقاتي ومتواضعة وهم أيضا يستغربون من الوضع ودائما يقولون لي لماذا لم تتزوجي بعد. هناك من يعجب بي أحس بذلك، ويطلبني ولكن لا يعود مرة أخرى ويترك الموضوع وهناك شيء أريد أن أقول لكم بأنني حريصة جدا في التعامل وهذا لأنني أقول حرام من الناحية الدينية أن أتعامل مع شخص وليس هناك ارتباط رسمي بيننا بينما الشخص المقابل يفسر تصرفاتي غلطا ويقولون بأني معقدة، فهل هذا سبب هروب الخطاب مني، وإلى متى وهل أغير تعاملي، وهل تغير العصر وأصبح أمثالي غير مقبولة، وهل سبب أنني محجبة وصديقاتي غير المحجبات تزوجوا ولديهم أولاد. لا أستطيع تفسير الموضوع وأنني دائما حزينة جدا، ولا أريد الإطالة عليكم، ولكنني أريد أن أقول لكم إنني عندما أدعو لغيري دعائي يقبل، ولكن عندما أدعو لنفسي لا. ولهذا أحس ببرودة في صلاتي ودعائي أصبحت الآن لا أدعو مطلقا، وأصبت بملل وأعاني من التشنجات وآلام قوية في الرقبة كلما قرأت القرآن. وعندما أقرأ القرآن أرى منامات مزعجة مثل القطط وأناس غرباء لا أعرفهم وكوابيس. وحتى في السجدة لا أستطيع الدعاء لنفسي. ساعدوني أرجوكم فكم صعبة هذه الحياة، وأنا في وسط لا أحد مثلي، فكلهم لديهم العائلة، وأنا لا فإنني أتعس واحدة في هذا العالم، وكأن الخير والسعادة ليسا من نصيبي. فماذا أفعل أرجوكم ساعدوني وادعو لي أمانة فأنتم أملي الوحيد بعد الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يفرج كربك، وأن ييسر أمرك، وأن يرزقك زوجا صالحا تقر به عينك إنه سميع مجيب.
واعلمي أنه ما من شيء في هذا الكون إلا ويجري بتقدير الله تعالى، وسيأتيك بإذن الله تعالى ما كتب لك من الأزواج، فعليك بالصبر أولا، ولا تتواني في أمر الدعاء، فإنه من أعظم ما يمكن أن يتحقق به المطلوب، ولا تلتفتي إلى ما يمكن أن يثنيك عن الدعاء، فإنه يستجاب للمرء ما لم يستعجل كما ورد في الحديث، وراجعي آداب الدعاء بالفتوى رقم: 23599.
وقولك بأنك أتعس واحدة في هذا العالم كلام باطل من إيحاء الشيطان ليدخل الحزن إلى قلبك، وعليك أن تتذكري نعمة الله عليك بالإسلام والعافية في البدن والأمن وغير ذلك من نعمه الكثيرة التي لا تحصى، والتي يفقدها كثير من الناس، فإذا فعلت ذلك علمت ما أنت فيه من الخير، وانشرح صدرك لسؤال الله تعالى المزيد من الخير.
ونوصيك بإحسان الظن بالله تعالى، وأنه يفعل بالإنسان ما هو خير له، وإن كان هذا الإنسان لا يعلم الخير بالتفصيل.
وهذه الآلام التي تعاني منها قد يكون سببها وجود شيء من التوتر بسبب التفكير في أمر الزواج، ويمكنك أن تراجعي بخصوصها بعض المختصين من الأطباء. وانظري في ضوابط تداوي المرأة الفتوى رقم: 8107.
ونوصيك بالاستعانة ببعض صديقاتك في سبيل الحصول على زوج صالح، كما أنه يجوز لك عرض نفسك على من ترغبين في الزواج منه من الصالحين على أن تلتزمي بالضوابط الشرعية في الحديث معه ونحو ذلك، ولا يجوز لك الخروج عن حدود الأدب والحياء في التعامل مع الرجال الأجانب، ولا تلتفتي إلى ما قد يجول بخاطرك من وساوس الشيطان بكون تعاملك بحزم مع الرجال الأجانب هو سبب صدود الخطاب عنك، ولعلك تعلمين كثيرا ممن أزلن ماء الحياء عن وجوههن وتساهلن في التعامل مع الأجانب لم يتزوجن، ومن تزوجت منهن لم يدم زواجها طويلا. فلا تلتفتي إلى شيء من الترهات في هذا الجانب، وعليك بالحفاظ على دينك.
وقد يكون صدود الخطاب عن المرأة بسبب وجود شيء من السحر أو العين ونحوهما، فإن غلب على ظنك وجود ذلك فعليك بالرقية الشرعية والحرص على تلاوة القرآن وذكر الله تعالى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 جمادي الثانية 1430(9/3943)
وسائل استحضار الوقوف بين يدي الله يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما السبيل للتفكر في اليوم الآخر واليقين أن كل البشر سيدخلون القبر، وسيقفون يوم القيامة للحساب؛ لأن هنالك من البشر الكثير قد غابت عنهم هذه الأمور؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي غمرة الدنيا وتقلباتها يحتاج المرء إلى أن يتعاهد نفسه بتذكيرها باليوم الآخر، لتزداد إيمانا ويقينا. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {الحشر:18، 19}
وسبيل ذلك:
1- إدامة النظر في كتاب الله تعالى، وتدبر آياته والتفكر فيها، خاصة الآيات التي تصف أهوال يوم القيامة، وكذلك الأحاديث التي تتعلق بذلك. قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في فصل (الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان باللقاء) :
وملاك ذلك كله: أمران أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته تنزلها على داء قلبك. فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله. اهـ
2- الحرص على سماع المواعظ الدينية، ومطالعة الكتب التي تصف فتنة القبر وأهوال يوم القيامة وصفة الجنة والنار، مثل كتاب القيامة الصغرى، وكتاب القيامة الكبرى، ضمن سلسلة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة للدكتور: عمر سليمان الأشقر، وغيرها، وذلك لأن اليقين كما يزيد بالأدلة والبراهين، فإنه يزيد أيضا بمطالعة التفاصيل، وكلما كان اطلاع الشخص على تفاصيلها أكثر كان إيمانه بها أعظم.
3- لزوم الأجواء الإيمانية ومجالسة الصالحين، يقول الحسن البصري: إخواننا عندنا أغلى من أهلينا، أهلونا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا الآخرة.
4- الحذر من فتنة المال والأهل والولد، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {التغابن:15}
5- قصر الأمل، قال تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. {الحجر:3} وعن علي رضي الله عنه أنه قال: أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة.
6- تجنب الإفراط في المباحات من أكل، وشرب، ونوم، وكلام، وخلطة، فكثرة الأكل تبلد الذهن، وتثقل البدن عن طاعة الله، وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان، والإفراط في الكلام يقسي القلب، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها، والنظر في تدبير أمرها، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت لذلك، قال صلى الله عليه وسلم: لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب. رواه ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني.
7- ولا بد أن يصحب ذلك كله الدعاء بأن يجدد الله إيمانك، فقد روى الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الإيمان يخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 17066، 69768، 113672
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 جمادي الثانية 1430(9/3944)
خطوات عملية لتجنب سوء القضاء
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الخطوات العملية التي ممكن أن يعملها المسلم لتجنب سوء القضاء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأولى هذه الخطوات: صحة الاعتقاد، ومعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فيعلم العبد أن قضاء الله هو قضاء القوي المتين العزيز القدير الذي لا يرد، وهذا يحمل العبد على التسليم والخضوع. وفي الوقت نفسه يعلم أنه قضاء الرحمن الرحيم، الغني الكريم، الرءوف الحليم، وهذا يحمله على الصبر والرضا وانتظار الفرج، فيجتمع بذلك للعبد الرضا والتسليم لقضاء الله تعالى. ومن ذلك صحة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فهذه العقيدة هي التي تسكب في قلوب المؤمنين السكينة، وتفيض على نفوسهم الطمأنينة، وتربيهم على العزة، فينشغلون بما ينفعهم، ولا يأسون على ما فاتهم ولا ما أصابهم. وراجع الفتويين: 20434، 52762.
وثاني هذه الخطوات: هي تصحيح المسير إلى الله بالاستغفار والتوبة النصوح، التي تصلح ماضي العبد بالندم على الذنوب والمعاصي، وتصلح حاضره بالإقلاع عنها، وتصلح مستقبله بالعزم على الاستقامة وعدم العود إليها. وذلك أن البلاء إنما ينزل بالذنب، ولا يرفع إلا بالتوبة، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى: 30} وقال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً {النساء: 123} وقال سبحانه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ {هود: 3} وقال: لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {النمل: 46} .
والخطوة الثالثة: تبدل السيئ بالحسن، وإتباع السيئات بالحسنات حتى تمحوها، ولزوم تقوى الله تعالى في السر والعلن بمراقبته وحفظ أمره ونهيه والاستقامة على ذلك، فمن اتقى الله تولاه وحفظه، ولم يكله إلى غيره، ونصره على عدوه، قال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {آل عمران: 120} وقال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا * ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {الطلاق: 2-4} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفظ الله يحفظك. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.
واعلم أخي الكريم أن الاستقامة على أمر الله هي التي تستقيم بها أحوال العبد في معاشه ومعاده، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {الأحقاف:13} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم. رواه الطبراني، وجوده المنذري، وحسنه الألباني. قال المناوي في فيض القدير: أي فإنكم إن استقمتم مع الله استقامت أموركم مع الخلق. اهـ.
والخطوة الرابعة: هي الإلحاح على الله تعالى بالدعاء، مع حسن الظن وصدق التوكل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء. متفق عليه. وفي رواية للبخاري: تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة. رواه الحاكم وصححه، حسنه الألباني.
فالمحافظة على هذه العبادات تستقيم بها الحياة، وهي في الوقت نفسه من أسباب رفع البلاء، كما سبقت الإشارة إليه في الفتويين: 43195، 61611.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 جمادي الثانية 1430(9/3945)
مشاعر الحب والكره إذا كتمها المرء في نفسه
[السُّؤَالُ]
ـ[فضيلة الشيخ..
هل يحاسب الإنسان على مالا يظهره؟ بمعنى إن كنت أحب شخصا ما -حبا شديدا- (صديقتي مثلا) فهل أحاسب على ذلك رغم أني لم أظهر من هذا الحب شيئا سوى الاهتمام بهذه الصديقة بالحد المعقول، كالسؤال عن ما يضايقها ومساعدتها والدعاء لها بظهر الغيب بالحفظ والسلامة؟ وكذلك إن كرهت شخصا ما؟ أي أنني لم أظهر هذا الكره ولكن أكننته في قلبي.
جزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري هل السائل رجل أم امرأة، فإن كان السائل رجلا فنقول: فالإنسان لا يحاسب على خواطره المجردة؛ لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم. وراجع أيضا الفتوى رقم: 74413.
إلا أننا ننبه السائل إلى أن إقامة علاقة مع امرأة أجنبية لا تجوز إلا تحت ظل الزوجية، سواء كان ذلك على سبيل الصداقة أو غيرها، وفعل ذلك يعتبر تعديا لحدود الله. وانظر الفتوى رقم: 108220.
كما أن الكلام مع المرأة الأجنبية لا يجوز إلا بشروط ذكرناها في الفتوى رقم: 12562، فراجعها للأهمية. وراجع أيضا الفتاوى أرقام: 73383، 21582، 117263. ونوصي السائل بأن يشغل نفسه بطاعة الله عز وجل، والإكثار من ذكره.
وأما إن كان السائل امرأة فنقول: إن كنت تحبين صديقتك في الله تعالى لما ترينه عليها من صدق في إيمانها وإحسان في عبادتها لربها فأنت مأجورة على ذلك إن شاء الله، وإن لم تصرحي لها بذلك، لكن لو أخبرتها لكان حسنا.
ومن علامات هذه المحبة أنها تزيد إن زادت طاعة الشخص وعبادته.. وتنقص إذا حصلت منه مخالفة أو تفريط وتقصير في جنب الله تعالى، أما إن كنت تحبينها لمجرد المشاكلة في الطباع والموافقة في الهوى والرأي فهذه ليست المحبة التي وردت فيها النصوص في فضلها.
وأما إن كانت محبتك لها تعلقا وعشقا، فهذه محبة ضارة وهي من مصائد الشيطان التي يصيد بها بني آدم، فلا يبقى في قلب العبد حظ لربه جل وتعالى، فعليك الاجتهاد في التخلص منها، والحذر من الاسترسال معها، وعمري قلبك بحب الله جل وعلا وقولي: اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك.
وما دمت تجاهدين نفسك ولم تعملي بمقتضى ذلك العشق، فلست آثمة إن شاء الله. وراجعي للأهمية الفتاوى أرقام: 8424، 106227، 9360.
وأما بالنسبة لمسألة الكراهية فنقول للسائل أو السائلة: كراهيتك لشخص ما لا تأثم بمجردها؛ لما سبق بيانه من العفو عن حديث النفس، وذلك ما لم تتجاوز ذلك إلى فعل ما يقتضيه ذلك في الظاهر، كالهجر لغير غرض شرعي وكالقطيعة وغير ذلك، وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.
فإن كانت هذه الكراهية لأمر غير شرعي فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. واعلم أن الشيطان هو السبب في تلك الكراهية. وتذكر أخي السائل قوله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {الحجرات:10} . وانظر الفتوى أرقام: 102730، 1642، 48931.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 جمادي الثانية 1430(9/3946)
هل الذي لا يمرض يحرم جسمه على الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب عندي 30 سنة حتى الآن لا أكشف مرة، ولا كسر عندي، ولا أي شيء، كل بفضل الله، ولكن سمعت أن حديثا يقول من لم يمرض حرم جسمه على الجنة. مع العلم أنا مسلم وأقرأ القرآن وأحافظ إن شاء الله على الصلاة. أرجو منكم الرد على هذه الصفحة إن شاء الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لم نطلع على حديث يفيد ما ذكرت، وعليك أن تحمد الله على ما أعطاك من العافية، والتوفيق للتلاوة والصلاة، فإن العافية هي أعظم النعم بعد الإيمان ففي الحديث: أسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية. رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقد ذكر النووي في شرح مسلم: أنه يكره تمنى البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه. انتهى.
ثم إنه قد ثبتت عدة أحاديث في فضل الصبر على البلاء منها حديث الترمذي: إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم. وحديث البخاري: من يرد الله به خيرا يصب منه.
وقد ذكر المباركفوري في شرح الترمذي أن المقصود بها الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه.
فاحمد الله على العافية، واغتنم صحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، كما في حديث المستدرك، ووظف قواك وطاقتك في الأعمال التي تنال بها محبة الله، وتخدم بها دينك وأمتك.
وراجع في الأعمال التي تنال بها محبة الله الفتوى رقم: 47241.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 جمادي الثانية 1430(9/3947)
أهمية غض البصر والحذر من فتنة النساء
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجوكم لدي مشكلة أو أن شئتم خليط من المشاكل أعانكم الله على فهمها ... أولاً قصتي أني كنت متدينا بفضل الله، وزدت فترة في التدين، فكان زملائي يضخمونني ويمدحونني بمبالغة، وأصابني وسواس في أشياء غريبة غير الوسواس عند الناس العادية، فمثلاً أدقق في كل شيء، فعندما شعرت أني معجب بنفسي قرأت كثيراً وسمعت من شيوخ كثيرة أن الطاعات بفضل الله وليس بنفسك فاقتنعت، ولكن عندما أفعل أي شيء أدقق فهل هو من محض فضل الله أم مني، فمثلاً حسن الظن بالله ربنا يقول: فليظن عبدي بي ما شاء، فأنا أخاف أن أنسبها لنفسي وأخاف أن أكذب وأنسبها إلى الله، وأحلف عندما أنوي أن أتبرع أو أصلي أن الفضل لله ويأتيني وسواس يعلمه الله في الشدة من هذا الموضوع، وأن الإخلاص هل هو بفضل الله أم أكون كذابا لو حلفت أنه من فضل الله.. ومعنى ذلك أني لا أنسبه إلى الله ولا أنسبه لنفسي، فهل كل أعمالي محبطة لان لإخلاص شرط، فأرجوكم أريد دليلا خاصا بهذه النقطة إن الإخلاص من فضل الله لكي أحلف وأبرئ ذمتي أمام الله ... ثم شيئاً آخر أن قلبي مطمئن ولا يخاف من ربنا وأيضاً فيه حقد، ونفسي تدلني على طريق أصلح بها أمراض قلبي ونفسي، أنا نفسي أوصل لربنا وأدخل الفردوس وكل هذه العقبات أمامي.. وبالمناسبة في هذه الفترة وأنا في كلية الطب وعندي امتحانات وحصل لي بعض الحاجات مثلاً لم أستطع غض البصر نهائياً ووقعت في حب فتاة عادية لا أشعر أنها تناسبني أبداً ولا أعرف كيف أتخلص من الموضوع، وكل فترة أمر من أمام بيتها وأنا لا أريد الزواج منها والفجر ضاع وعرفت أن هذا عقاب لأن الفضل بيد الله، وها هو وكلني إلى نفسي فلم أستطع أن أفعل شيئا، فأرجو المعذرة على الإطالة لأن مشكلتي توصلني إلى حالة الكآبة وعندي امتحانات ولا أعرف أن أتخلص من العجب والوسوسة، وعندي وسوسة في البدعة، فمعظم كلامي العادي أحس أنه بدعة، فأرجوكم أجيبوني عن كل نقطة وليس كلاما عاما ولا تحيلوني إلى إجابات سابقة.. وجزاكم الله خيراً، وأنا سوف أفرح كثيراً لو لو تمت الإجابة قبل يوم 21 لأني عندي امتحان وسأرى البنت التي قلت لحضراتكم عليها يوم 23 وأخاف أن يخذلني ربي في الامتحان حيث مذاكرتي ضعيفة، ولكن توفيقه لي كبير وكرمه كثيراً جداً جداً، وأنا أحبه وأسأله أن يغفر لي ما أفعله هذه الأيام من الاعتراض والمعاصي وحتى الرياء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة إنما هي من فضل الله على العبد وتوفيقه له، كما قال سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلا ً {النساء:83} ، وقال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدا ً {النور:21} ، قال السعدي: أي ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان، لأن الشيطان يسعى هو وجنده في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميالة إلى السوء أمارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، والإيمان غير قوي، فلو خلي وهذه الدواعي، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء، ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى.. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. انتهى.
وقال القشيري: ردَّهم في جميع أحوالهم إلى مشاهدة ما منَّ الحقُّ في قسمي النفع والدفع، وحالتي العسر واليسر، والزَّكى من الله، والنُّعمى من الله، والآلاءُ من الله، قال تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. انتهى.
ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم. وقد سبق لنا بيان أن القيام بالطاعات من توفيق الله وفضله، في الفتوى رقم: 116993. فلو حلف العبد أن طاعته وإخلاصه من فضل الله عليه لبرَّ وأصاب.
وأما مسألة العجب فهي بإذن الله منتفية عنك طالما أنك مدرك أن ما بك من نعمة فهي من فضل الله عليك وتوفيقه لك، وقد سبق لنا بيان حقيقة العجب وحالاته وحكمه وعلاجه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 32856، 63817، 64618.
وأما مسألة ضعف الخوف من الله تعالى، فقد سبق لنا بيان سبل غرس مخافة الله وكيفية اكتسابها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 25324، 66109، 41019.
وأيضا آفة الحقد سبق لنا بيان مضارها وطرق علاجها والهدي النبوي في إزالة أدرانها، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 14710، 47219، 69659.
وكذلك علاج أمراض القلوب، سبق بيانها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 17323، 8372، 49609.
وبصفة عامة قد سبق لنا بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي وبيان شروط التوبة وبيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان، في الفتاوى ذات الأرقام التالية:
10800، 1208، 93700، 5450، 33860، 56356.
وأما شعورك بأن معظم كلامك العادي بدعة فهذا أمر عجيب، فإن البدعة أمر مخترع في الدين، فأين هذا من كلامك العادي، وانظر تعريف البدعة في الفتوى رقم: 631.. ولهذا نقطع أن أصل مشكلتك أيها السائل الكريم هي الوسوسة المرضية، فعليك -أخي الكريم- بالإعراض عن هذه الوساوس الشيطانية وتجاهل هذه الخطرات المرضية، واشغل نفسك عنها بذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، والاهتمام بمذاكرتك وبما ينفعك في أمر دينك ودنياك؛ لئلا تفسح المجال للشيطان، والهج بالدعاء والذكر ليكشف الله عنك البلاء. ولمزيد الفائدة عن الوسوسة وعلاجها يمكنك مراجعة الفتوى رقم: 3086.
واحذر أخي الكريم أن تسلط الشيطان على نفسك باقتراف المعاصي والذنوب والتي من جملتها إطلاق النظر إلى ما حرم الله تعالى، واعلم أن في غض البصر -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - ثلاث فوائد جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله: فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
والثانية: من غض البصر فهو يورث نور القلب والفراسة.. وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة. والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة.
والثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة فإن الرجل الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه. اهـ (بتصرف من كتاب حجاب المرأة المسلمة) .
والعاقل لا يمكن أن يسوِّيَ بين شهوة عاجلة منغصة، مع ما يعقبها من ألم البعد عن الله في الدنيا، وما يترتب عليها من حساب في الآخرة، وبين نعيم الجنة وعافية الدنيا وسعادتها.
وقد أشرت -أخي الكريم- في سؤالك إلى عقوبة شديدة وقعت لك وهي ضياع صلاة الفجر، وقد تجمع عليك معها عقوبة دنيوية كعدم التوفيق في الامتحانات، فاتق الله أخي الكريم يجعل لك مخرجا ويرزقك من حيث لا تحتسب، وإياك ومقاربة فتنة النساء فإنها أخاذة، وقد سبق لنا بيان التحذير النبوي البليغ من فتنة النساء في الفتوى رقم: 35047. فاصرف نفسك عن تلك الفتاة التي ذكرت، خاصة أنك لا تريد الزواج منها، وأنها لا تناسبك، كما ذكرت، وإن كنت تستطيع الزواج فعجل به، وإلا فعليك بالصوم كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 جمادي الثانية 1430(9/3948)
هل يشفع الطفل الصغير إذا مات لوالديه
[السُّؤَالُ]
ـ[ماتت لى طفلة عن عمر تسعة أشهر، فهل تشفع لوالديها وتدعو لهما كما نسمع؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن شفاعة الولد لوالديه ذكرها جمع من أهل العلم، وقد بوب عليها الهيثمي في غاية المقصد، وهناك أحاديث تشير إلى فضل من مات له ولد، وأنه يدخل الجنة بسببه وشفاعته، ففي الحديث: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ألا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وفي الحديث: أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا حجابا من النار. قالت امرأة: واثنان قال: واثنان. متفق عليه. وفي الحديث: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم. متفق عليه. وفي الحديث: صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه فيأخذ بثوبه فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة. رواه مسلم. وفي الحديث: أن السقط يجر أمه بسرر هـ إلى الجنة إذا احتسبته. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني. وفي الحديث: ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله بفضل رحمته إياهم الجنة، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون حتى يدخل آباؤنا فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم. رواه النسائي وصححه الألباني. وفي الحديث: ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة فيقال لهم ادخلوا الجنة فيقلولون حتى يدخل آباؤنا فيقال لهم ادخلوا أنتم وآباؤكم. رواه الطبراني وصححه الألباني.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 جمادي الثانية 1430(9/3949)
حكم اتباع الهوى
[السُّؤَالُ]
ـ[هل اتباع الهوى من الكفر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالهوى هو ما يهواه الشخص ويتمناه ويحبه ويميل إليه من الخير أو الشر، وعلى ذلك فاتباع الهوى مجالاته كثيرة، فمنها اتباع الشخص ما يتمناه من الأمور المباحة، ومنها اتباع الهوى في فعل محرم أو التكاسل عن فعل واجب، ومنها اتباع الهوى في عبادة غير الله، وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الأخير كفر بلا شك وقد ورد في هذا المعنى الأخير آيات كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا {الفرقان:43} ، وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ {محمد:16} ، وقوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ {القصص:50} ، وعموماً فإن الهوى لم يأت في القرآن إلا مذموماً، وراجع للفائدة في ذلك الفتوى رقم: 39475.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 جمادي الثانية 1430(9/3950)
صفة التوبة من الربا
[السُّؤَالُ]
ـ[أخذت قرضا من البنك بفائدة بغرض إتمام بناء المنزل! وبعد أخذ القرض حصل لي عدة مصائب من أهمها فقدت عملي حيث كنت في عمل محترم، لم أستطع إتمام بناء المنزل، ولم أستطع قضاء ديوني، وساءت علاقتي مع أهلي وجيراني، وكنت النجم الساطع في الأسرة والحارة، وأنا نادم على هذا القرض. أفتوني كيفية التوبة من هذا القرض حيث إني غير قادر على سداد القرض دفعة واحدة، ومن أكبر المصائب التي حصلت لي أني كنت ملتزما بصلاة الفجر جماعة في المسجد وإلى الآن حوالي سنة وأنا أصلي في البيت في أوقاتها. أرجو منكم الرد حيث إني محتاج إلى جواب واف وشاف، وإلا فأنتم تتحملون مسئولية عدم إرشادي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالربا من كبائر الذنوب، بل هو من السبع الموبقات، وصاحبه ملعون محارب لله ورسوله، مستحق للعقاب الدنيوي والأخروي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه. وقال: ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل. رواه أحمد، وحسنه الألباني.
وما ذكره السائل مما حدث له إنما هو بعض مظاهر هذا العقاب الرباني. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
ولكن من تاب تاب الله عليه، فقد قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء: 110} وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
وقد بين الله تعالى صفة التوبة من الربا بقوله: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ {البقرة: 279} فإن استطعت أن ترد على البنك رأس ماله فقط ولا تزد على ذلك فافعل، وهذا مع تحقيق بقية شروط التوبة من الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم على عدم العود، وبهذا تتحقق توبتك بإذن الله، كما سبق التنبيه عليه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 18177، 43486، 62646. وقد سبق بيان شروط التوبة عموما في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 5450، 75958، 29785.
وإذا كنت عاجزا الآن عن السداد فليس عليك أكثر من ذلك، وأبشر بالخير فإن الله غفور رحيم.
فعليكِ ـ أخي الكريم ـ بصدق التوبة وكثرة الاستغفار والاجتهاد في الطاعات، ومن أهمها المحافطة على صلاة الجماعة لا سيما صلاة الفجر، فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 جمادي الثانية 1430(9/3951)
ستر المسلمة على أختها من القربات الجليلة
[السُّؤَالُ]
ـ[سلام الله عليك يا شيخ؛ أنا أعرف فتاة تعرضت للاغتصاب رغما عنها، ونتج عنه حمل، وخبأت الأمر عن أهلها، ولما أنجبت أعطت المولود لواحدة في الخارج هي الآن لا تعرف عنه شيئا، ولكن هي لما أرادت أن تتزوج عملت بكارة اصطناعية هي الآن متزوجة وعندها أولاد. سؤالي هو: هل عندي أنا التي أعرف الأمر إثم في ذلك؟ لأني أعرف ولم أقل شيئا لا لأهلها ولا لزوجها خوفا من تشتت الأسرة ورد فعل سيئ. وجزاكم الله خيرا حضرة الشيخ.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا إثم عليك من هذا، بل إذا قصدت وجه الله بالستر على هذه الفتاة كنت مأجورة إن شاء الله أعظم الأجر وأجزل الثواب من الله جل وعلا، فإن الستر على المسلمين من الطاعات العظيمة والقربات الجليلة، وهو من موجبات ستر الله على عبده في الدنيا والآخرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة. رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزال الذي أشار على ماعز عندما وقع في الزنا أن يظهر أمره للنبي، فقال له النبي: يا هزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك. رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني
وفي مصنف عبد الرزاق: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه.
وليس من شك في أن هذه المرأة قد أخطأت بتفريطها في المولود، ولكن المتعين عليك أنت هو أن تداومي سترك عليها، ولا تبوحي بشيء من أمرها لا لقريب ولا لبعيد؛ حفاظا عليها وعلى أسرتها، وتذكري أنها قد تجرعت مرارة الاغتصاب وهتك العرض، فلا تجمعي عليها مع ذلك مرارة الطلاق والضياع، وإن كان قد حدث منها تفريط في شيء مما حدث فأمرها إلى الله فهو سبحانه خير الفاصلين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 جمادي الثانية 1430(9/3952)
من مات قبل الدجال فهل يدل ذلك على محبة الله له
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز قول: من كان يحبه ربي لا يدرك وقت خروج المسيح الدجال؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن محبة الله لعبده تحصل له بقيامه بالأعمال الصالحة التي يحب الله تعالى من قام بها مثل التقى والإحسان والتوبة والطهارة وإتباع السنة لقوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {آل عمران:76} ولقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة:222} ولقوله تعالى: وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {البقرة:195} ولقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ {آل عمران:31} .
وأما كون الشخص توفي قبل أن يخرج الدجال فليس أمارة لمحبة الله له، فكم مات من الكفار والمنافقين قبل خروج الدجال، ولم يكن ذلك دليلا لمحبة الله إياهم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 جمادي الثانية 1430(9/3953)
إخفاء العبادة هل يلزم منه تحقق الإخلاص
[السُّؤَالُ]
ـ[هل بمجرد الخلوة يتحقق الإخلاص؟ أقصد أحيانا أكون في خلوة لا أحد يراني، وأريد أن أفعل عبادة معينة فيأتي في بالي والديّ أو صديقي، فأشعر أني أفعل هذه الطاعة لأجل الشخص الذي في بالي. فهل هذا مجرد وسواس أم قد يقع ذلك؟ وكيف التخلص من هذا لأني أشعر وقد أصل إلى اليقين أني أفعل العبادة لأجل الذي في بالي. فهل هذا هو شرك النية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مما يعين على الإخلاص الخلوة بنوافل الطاعة، وإخفاء العبادة التي لم يأمر الشرع بإظهارها، ولكن مجرد الخلوة وإخفاء العبادة لا يلزم منه بالضرورة أن يسلم المرء من بقيه الغوائل، فقد يخلو الشخص بعبادته فيداخله العجب والغرور نسأل الله تعالى العافية.
وبخصوص ما تجده وتشعر به عند أداء العبادة قد يكون مصدره عدم الإخلاص، وقد يكون من وساس الشيطان لتترك عبادتك، فعليك بمجاهدة النفس للحصول على الإخلاص، وقد سبق أن بينا بعض الأمور التي تعين على الإخلاص في الفتوى رقم: 45583. وما أحيل عليه فيها.
وعلي كل حال، فلا ينبغي لك أن تترك أي عمل صالح تقوم به خشية من عدم الإخلاص فيه، فقد قال الفضيل:
ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
واحذر من الاسترسال في مجاراة الوساوس والتجاوب معهما، فما دمت حريصا على الإخلاص فأبشر بالخير.
نسأل الله تعالى أن يزرقنا وإياك الصدق في القول والإخلاص في العمل.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتويين رقم: 10396، 45448.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 جمادي الثانية 1430(9/3954)
علاقته بربه وأمه ليست على ما يرام وحياته مضطربة
[السُّؤَالُ]
ـ[لو تفضلتم لي بالإفتاء في مشكلتي التي أعاني منها، وهي بأنني تعرضت لإطلاق نار من قبل الأقارب وأحدثوا إصابة بذراعي الأيمن.. وشاء الله بأن أقوم بتغيير أقوالي مقابل الجلوس جلسة إسلامية يحكم بها بكتاب الله وسنة رسوله، وهذا كان من قبل شيوخ تحدثوا معي قبل المحكمة بلحظات.. وأنا قمت بهذا لعلمي بأنني لن أظلم إذا جلسناها.. وشاء الله أنهم لم يقوموا بالجلوس..نظرا لأسباب منها أن والدي غير متواجد وأن الشيخ الذي تعهد لي بهذا قال لي بأن حقي ليس عنده!!! ولكن بعد يوم المحكمة عند أخر كلماتي في المحكمة كنت تحت ضغط رهيب في محاولة للرجوع في كلامي، ولكني صممت وقلت لنفسي عند الله أكيد أكبر.. وبعد نهاية جلسة المحكمة وحكم على اثنين منهم بالبراءة والثاني ثلاث سنوات أحسست أنني أخذت حقي.. وبعدها أحسست أنني متغير جدا وأنه يوجد لي عزة أحمد الله عليها.. وبعدها جلست يومين مخنوقا جدا فقمت أصلي ركعتين لله.. فأحسست بأنني محتاج لصلاة ركعتين أيضا..وبعدها أحسست بان شيء قد خرج من أصبع قدمي اليسار..وأحسست بعدها بأنني مولود من جديد ودائما أحس بالبرد.. وأنا كنت أشرب المخدرات (الحشيش) فقمت وتوضأت وقرأت القرآن صدمت به لأنني لم أكن أقرؤه قبل ذلك.. فقررت أن أقلع عن المخدرات، وأن أصلي.. وبمجرد ما بدأت في الصلاة بدأت المشاكل بيني وبين أمي.. ومن طبع أمي أنها تدعو علي.. وبعدها تلخبطت حياتي وفشلت في كليتي وتقريبا فشلت في صلاتي.. وكان بعد كل مشكلة مع أمي أقول بيني وبين نفسي بأن ربي غضب علي لأنني كنت أقرأ القرآن هكذا.. ولا تصح لي صلاة وأمي غير راضية عني.. وبعدها بكم يوم أراجع نفسي وأقلع أقوم أصلي التوبة وأرجع لكي أراضي أمي وتحدث مشكلة وهكذا..
فأنا لا أقدر أصلي ولا عارف أدرس ولا عارف أترك المخدرات.. حياتي ملخبطة جدا.. وكثير التثاؤب.. لكن أنا أحب القرآن جدا، وأحب أن أتوب إلى الله، ولكن هناك أسباب تدفعني لكي أرجع كما كنت، وأسباب مشاكلي مع أمي تدفعني لكي أقتنع بأن ربي غير راض عني؟؟
فرجاء أنقذوني أين المشكلة؟؟ وهذه بالمختصر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا علم لنا بتفاصيل ما حصل لك من حادث، وما جرى من محاكمة المتهمين به، وكلامك فيها يشوبه شيء من الغموض لكنا نقول: لا يجوز تغيير الأقوال أمام القاضي والادعاء أو الإخبار بما يخالف الواقع؛ لأن هذا هو الكذب المذموم، ومن أراد العفو أو الصفح عمن جنى عليه فيمكنه ذلك بأيسر الطرق وأوضحها، وذلك بأن يتنازل عن حقه أمام المحكمة، ولا مجال للحديث في مثل هذا خصوصا بعد صدور الحكم من القضاء.
أما ما أحسست به من خروج شيء من أصبع قدمك وشعورك الدائم بالبرد، فهذا لا يمكننا الجزم بتفسيره، ولكن على أية حال نوصيك بالرقية الشرعية المبينة في الفتاوى التالية أرقامها: 22104، 4310، 2244، 80694.
وأما ما تشعر به من ضيق وفشل دائما فهذا – في الغالب – إنما يكون من ثمرات البعد عن منهج الله والانغماس في معصيته، فإن الله سبحانه بحكمته وفضله قد جعل الرضا والفرح والسرور والنشاط والأنس وقرة العين في طاعته وامتثال أوامره، قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً {النحل:97} وقال سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {طه:123} وجعل أضداد هذه من الهم والحزن والضيق واليأس والكآبة في التفريط في الطاعة وفعل المعصية، فما يجده الإنسان من هم وغم وضيق في الصدر ونكد في العيش، فإن هذا ثمرة من ثمرات المعاصي النكدة ونتاج من نتاجها المر، قال الله سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:12} ، وقد قال الله سبحانه: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا {النساء: 123}
فالواجب عليك هو أن تسارع بالتوبة الصادقة إلى الله جل وعلا، خصوصا من التهاون في الصلاة، فإن هذه كبيرة من أعظم الكبائر وأشنعها، وقد بينا طرفا من ذلك في الفتوى رقم: 6061.
وما تفعله من ترك الصلاة أحيانا بسبب خلافك مع أمك لا يجوز، وهو من كيد الشيطان لك، فإن الصلاة لا يجوز تركها بحال.
ثم عليك بالإقلاع عن تعاطي المخدرات فإنها حرام قطعا، وهي من أشد الأشياء إفسادا لمصالح الدين والدنيا. وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 35757، 1994، 8001.
ثم اعلم أن برك بأمك من أعظم الواجبات عليك، وحقها هو أعظم الحقوق عليك بعد حق الله سبحانه، وأن عقوق الأم كبيرة تذهب ببركة الأعمال الصالحة وتحبط ثوابها، وتوجب لعنة الله جل وعلا. وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 43879، 27653، 112162.
فإن أقبلت على الله سبحانه بتوبة صادقة نصوح، وأصلحت ما بينك وبينه، ثم أصلحت ما بينك وبين أمك، وبذلت الجهد لاسترضائها فيما سلف منك من تقصير تجاهها فأبشر حينئذ بفضل الله ورحمته وفرجه ولطفه، فإن الله سبحانه يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {الأعراف: 96} وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 2، 3} , وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {الطلاق: 4}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 جمادي الثانية 1430(9/3955)
الجمع بين عمارة الدنيا والآخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن العلوم غير العلم الشرعية لن تفيدنا في شيء، وأنها مجرد هدر للوقت، حيث إنه علينا أن نهتم بكيفية إصلاح آخرتنا والتفقه في الدين، فإن بقي لنا وقت يمكن البحث في أمور الدنيا يعني لن يبقى وقت، لأن العلوم الشرعية بحر، ولن نسأل أمام الله عن إعمار الأرض لأنه لم يطالبنا بذلك، ولم يطالبنا بتطوير دنيانا بل الأخد منها فقط ما يحتاجه المسافر من زاد، ولن يسألنا عن من يعانون من المجاعة لأن رزقهم على الله: وفي السماء رزقكم وما توعدون. وأنه لا ينبغي لنا أن نطور مستوانا المعيشي ولكن الزهد في الدنيا. تعليل لذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم لم يهتموا بالدنيا ولم يبحثوا عن علومها، إنما هذا من فعل العجم. خلاصة: لماذا ندرس في المدارس والجامعات ونحن لا نعلم أي شيء عن ديننا فهو جد صعب التوفيق بين الاثنين. أفيدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ف الجواب على هذا السؤال يتخلص في بيان عدة أمور:
الأول: أن العبادة التي خلقنا الله لأجلها هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فهي ميدان واسع وأفق رحب، تشمل الفرائض والأركان والنوافل والمعاملات والأخلاق، وتشمل كيان الإنسان كله، وجوارحه، وحواسه جميعها، فالمسلم يعبد الله تعالى في كل أوقاته وأحواله، فحياته كلها لله رب العالمين، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. {الأنعام:162} . وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 19569، 4476.
ف بإمكان المسلم أن يحول حياته كلها إلى أجر وثواب وطاعة وعبودية لله تعالى؛ با ستصح اب النية الصالحة في أعماله العادية، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 24782، 58107.
وطالب العلوم المدنية-الدنيوية- إن احتسب الأجر ونوى نفع نفسه ونفع أمته وتقويتها وكفايتها ما تحتاجه في مجال دراسته، فهو مأجور عليها، وينبغي أن يوازن بين دراسته وتعلمه هذا وبين عبادته وعمارته لآخرته، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 40889. وهذا كما قال معاذ رضي الله عنه: أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. متفق عليه.
قال النووي:
مَعْنَاهُ: أَنِّي أَنَام بِنِيَّةِ الْقُوَّة وَإِجْمَاع النَّفْس لِلْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطهَا لِلطَّاعَةِ , فَأَرْجُو فِي ذَلِكَ الْأَجْر كَمَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي , أَيْ: صَلَوَاتِي. اهـ.
وقال ابن حجر:
حَاصِله أَنَّهُ يَرْجُو الْأَجْر فِي تَرْوِيح نَفْسه بِالنَّوْمِ لِيَكُونَ أَنْشَطَ عِنْد الْقِيَام. وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد.. أَنَّ الْمُبَاحَات يُؤْجَر عَلَيْهَا بِالنِّيَّةِ إِذَا صَارَتْ وَسَائِلَ لِلْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَة أَوْ الْمَنْدُوبَة أَوْ تَكْمِيلًا لِشَيْءٍ مِنْهُمَا. اهـ.
والأمر الثاني: أن هناك حقوقا على العبد كثيرة، منها ما هو لله، ومنها ما هو لنفسه، ومنه ما هو للناس، والمسلم الموفق هو الذي يؤدي إلى كل ذي حق حقه، كما جاءت السنة النبوية: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. رواه البخاري.
فينبغي أن يوازن العبد بين أعماله في أمر دينه ودنياه، بتحصيل ما ينفعه في معاشه ومعاده؛ فإن ديننا دين الوسطية، فلا رهبانية فيه كرهبانية النصارى، ولا مادية كمادية اليهود، إنما نأخذ من دنيانا لآخرتنا، ولا غنى لمسلم عن واحدة منهما.
قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. {القصص: 77} .
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. رواه مسلم.
وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من قدر نفع الخلق وإعانتهم وقضاء حوائجهم حتى فضل ذلك على الاعتكاف الذي هو تخلٍ وتفرغ كامل للعبادة، فقال صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد- يعني مسجد المدينة- شهرا. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام. رواه الطبراني، وحسنه الألباني.
الأمر الثالث: أن الناس قد أدركوا بعد الحروب العالمية في القرن العشرين، وما كان فيها من ترجيح كفة دولة على دولة وجيش على جيش، لا بالعدد ووفرة المال، وإنما بامتلاك تلك التقنيات الحديثة في السلاح ووسائل النقل والاتصال وما إلى ذلك، فمن ذلك الزمن أصبحت قوة الأمم ونفوذها يقاس بتحصيلها هذه العلوم المدنية، ولا يخفى ماذا خسر العالم وانجر عليه من ويلات عندما أمسك غير المسلمين بزمام تلك العلوم الحديثة!! فصار لزاما على المسلمين أن يسعوا لاستعادة مكانتهم وريادتهم للعالم ليأخذوا بيده إلى عافية الدنيا وسعادة الآخرة، وذلك بامتثالهم لأمر الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. {الأنفال: 60} .
و (ما) الموصولة في قوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ. تفيد العموم، وقوله: مِنْ قُوَّةٍ. جاء منكراً، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، ولا ريب أن هذه العلوم هي من أهم ما تحصل به هذه القوة في هذا العصر. وراجع في الفتويين: 111873، 29268.
الأمر الرابع: أن هذه العلوم التي يُحتاج إليها في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب، والصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما، هي في الحقيقة من فروض الكفايات، وقد سبق التنبيه على ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 52486، 58231، 12465، 63622، 65459.
فيجب على أمة الإسلام أن يكون فيها من يجيد هذه الدراسات ويحسن هذه التخصصات بالقدر الذي يكفيها، لأنها إذا تركت بالكلية ستضيع المجتمعات ويتعطل القيام ببعض الطاعات، ويحتاج المسلمون إلى غيرهم.
ومع ذلك فتعلم هذه العلوم لا يبيح للمرء أن ينصرف عن تعلم دينه، بل الواجب عليه أن يصحح عقيدته، ويتعلم أحكام عبادته، ولا يمارس أي عمل إلا بعد معرفة حكم الله فيه. فإذا تعلم المرء فرض عينه فلا حرج عليه بعد ذلك أن يتعلم من الأمور الشرعية أو الدنيوية ما يسد به ثغرة من ثغرات المجتمع، وهو مأجور على علمه وسعيه سواء أكان في أمور الدين أو في أمور الدنيا إذا أخلص النية لله وقصد بذلك وجهه، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 72130، 49739.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 جمادي الثانية 1430(9/3956)
المصائب الدنيوية قد تخفف من أوزار البدع غير المكفرة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل المرض والابتلاء يكفر من البدع؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالبدع التي لا تبلغ الكفر يجري عليها ما يجري على الذنوب والمعاصي، من الموازنة بينها وبين الحسنات، ومن جواز تخلف الوعيد عن مرتكبها لوجود مانع أو انتفاء شرط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع، هذا في عذاب الآخرة، فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية أو بسبب فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال. مجموع الفتاوى.
وقال أيضاً في مجموع الفتاوى: وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا ... مجموع الفتاوى.
وأسباب سقوط العقوبة عن العصاة كثيرة ومنها المصائب المكفرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ. وكل شيء عملناه جزينا به؟ فقال: غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك اللأواء؟ قال: فقلت: بلى، قال: هو ما تجزون به. رواه أحمد وصححه الألباني.
وعلى ذلك فقد تكفر لا كفارة عليك أو تخفف من وزرها، بحسب شدة المصائب وبحسب درجات البدع، فإنها متفاوتة كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 105033.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 جمادي الثانية 1430(9/3957)
أمور تعين على الخشوع والثبات عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[الحمد الله أواظب على الصلاة في المسجد، وقراءة القرآن، والدعاء، ولكن تأتيني أيام لا أستطيع فيها الخشوع، وأجاهد نفسي في هذه الأيام لكي أخشع في صلاتي لله، وهذه الحالة تأتيني على فترات، ولا أعلم ما السبب، وفى أيام أخرى يمن علي الله سبحانه وتعالى بالخشوع حتى تفيض عيني بمائها في قراءة وسماع القرآن، والحمد الله لا أخشى إلا الله، ولا أصلى لله كي يراني أحد، أو أنافق أحدا ولا رياء من أحد والله أفعل ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى عز وجل والله يعلم هذا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن الجميل أخي الكريم ما ذكرته من صلاتك في المسجد، والدعاء وغيرها من علامات الإيمان، وينبغي أن تعلم أنه ما من قلب إلا ويتعرض لبعض الفتور، وبعض ما يغشاه ويعلوه مما يصيبه الإنسان من بعض الذنوب، أو التوسع في المباحات، أو الغفلة ونحو ذلك من الأسباب التي تؤثر في خشوع القلب، ولا يسلم أحد من المؤمنين من هذا، حتى خير القرون عوتبوا من الله فعن ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ. إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. رواه مسلم.
وينبغي للمؤمن أن يحزن على حاله ويحاول جاهدا تحصيل الخشوع ولين القلب، والبحث عن الأمور التي تعينه على الخشوع والثبات عليه. ومن هذه الأمور:
1- معرفة فضل وثواب الخشوع وما أعد الله لأهله في جنات النعيم، فمعرفة الثواب تعين على تحصيل العمل، ومن ذلك قول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ......أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. {المؤمنون:1-11) .
فالخشوع في الصلاة هو أول صفات المؤمنين، وثمرته هي الفلاح، وأصحابه من الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.
2- الاستعاذة بالله من عدم خشوع القلب، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ. ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ. رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
3- أن تطعم المسكين وتمسح رأس اليتيم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ. رواه أحمد وحسنه الشيخ الألباني.
4- إذا أحدثت ذنبا فسارع بالتوبة: فآثار الذنوب هي التي تغطي القلب وتجعله قاسيا وتذهب خشوعه وجلاء ذلك التوبة، ومما يدل على ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وحسنه الألباني.
5- الإكثار من الاستغفار: فعَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. رواه مسلم.
قال النووي في شرحه: الْغَيْن وَالْغَيْم بِمَعْنًى, وَالْمُرَاد هُنَا: مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى:
وَالْغَيْنُ حِجَابٌ رَقِيقٌ أَرَقُّ مِنْ الْغَيْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ اسْتِغْفَارًا يُزِيلُ الْغَيْنَ عَنْ الْقَلْبِ فَلَا يَصِيرُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، كَمَا أَنَّ النُّكْتَةَ السَّوْدَاءَ إذَا أُزِيلَتْ لَا تَصِيرُ رَيْنًا. انتهى.
6- الدعاء: فعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. رواه مسلم.
7- كثرة ذكر الموت وزيارة القبور: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ثُمَّ بَدَا لِي أَنَّهَا تُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ. فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرً. ارواه أحمد وصححه الألباني.
ونوصي السائل بمراجعة رسالة: أمراض القلوب وشفاؤها. لابن تيمية رحمه الله، وراجع: فصل في منازل إياك نعبد التي ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله في: مدارج السالكين لابن القيم. ونسأل الله أن يرزقنا يقظة تبعدنا عن رقاد الغفلة وتحيي قلوبنا وأن يرزقنا الخشوع.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 جمادي الثانية 1430(9/3958)
وسائل استجلاب الخشوع والاستقامة
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أصلي ولكن في كل مرة أقرر أن آتي إلى الصلاة أحس وكأن جبال الدنيا على رأسي، وأريد أن أنهيها غير أنني عندما أصلي لا أستطيع أن أخشع، أفكر في الأمور الدنيوية رغم أنني أنفث عن يساري ثلاثا، وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ولكن لا فائدة، علما بأنني ليست لدي ثقة بنفسي، ومصاب بالاكتئاب، أخاف أن أصلي وأن أبتعد عن المحرمات، ولكن أخاف أن أرجع عن ذلك فيضحك الناس مني. أرجو المساعدة حيث إ ن حياتي أصبحت بلا معنى؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عدم الالتزام من أخطر المسائل التي تفضي بالعبد لمشاكل الدنيا والآخرة، فالحفاظ على الصلاة يساعد العبد على ترك المعاصي وحل المشاكل، لقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. {العنكبوت:45} . ولقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. {البقرة:153} .
فيجب عليك أن تحمل نفسك على المواظبة على الصلاة في المسجد، واستعن بالله تعالى وأكثر من سؤاله أن يصرف قلبك على طاعته، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.
ومما يعين على الاستقامة أن تسكن قريبا من المسجد، وأن تبادر إلى المسجد عند سماع الأذان في الوقت الذي يفر فيه الشيطان. فقد قال بعض الحكماء: بادر إلى الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف.
ومما يعين عليها أن تغير صحبتك، فاترك مجالسة أهل الغفلة، وأكثر من مجالسة أهل الخير والاستقامة، ففي الحديث: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. رواه أبو داود.
وأكثر من مطالعة كتب الرقائق، وكتب الترغيب والترهيب، وانظر فيها بتأمل فوائد الاستقامة على الصلاة والطاعات وخطر التقصير في الصلاة ومقارفة المنكر.
وأما عدم الخشوع في الصلاة فهو مرض يتعين علاجه، ولكن لا يسوغ أن يكون سببا أو حجة لك في ترك الصلاة، فألزم نفسك المواظبة على الصلاة، وواصل مجاهدتها في حضور القلب عند تلاوة القرآن في الصلاة، وعند الأدعية المأثورة، مع البعد عن الشواغل والاستعداد للصلاة قبل وقتها، والقيام بالنوافل المسنونة قبل أو بعد الفريضة، وهناك رسالة توجد في المكتبة الشاملة ألفها الشيخ محمد صالح المنجد عنوانها: 33 سببا للخشوع في الصلاة. ننصحك بقراءة هذه الرسالة والاستفادة منها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 جمادي الثانية 1430(9/3959)
الخوف من الرياء وتجريد النية لله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أستشيركم في هذا الأمر: أبدأ، أني والحمد لله ثابت في ديني، وأنا طبعا لا أحد يعلم إلا أنا وأمي وأبي وإخوتي أني أقوم الليل، وأتصدق دون علمهم، وطبعا الصلوات في وقتها جميعا مع الفجر، وصرت الآن أصوم الإثنين والخميس، وأنا لا أحب أن يقولوا إني متدين أو مطوع أبداً إلا بعد أن أترك تلك العادة السيئة، واليوم أمام العائلة كلها-أعمامي وأزواجهم وأبنائهم- قالت أمي إني أصوم وكلهم متفاجؤون كأني رسول ويقولون لي ادع لنا، أنا أدعو لنفسي بالمغفرة وأخاف أن يغضب علي الله، وعندما يقول لي أحد هذا الكلام أغضب من داخلي حتى أني أحس أني صرت في مرحلة الرياء. فبماذا تنصحوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يثبتك على الحق ويعينك على الخير، ويهديك لأرشد الأمر. وأما ما ذكرت من خوف الرياء فهذا الخوف مما يحمد، فجاهد نفسك على الإخلاص وتجريد النية لله تعالى، وأكثر من الاستعاذة به سبحانه، فعن أبي علي رجل من بني كاهل قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقال: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون فقال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل. فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه.
قال المنذري: رواه أحمد والطبراني ورواته إلى أبي علي محتج بهم في الصحيح، وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدا جرحه اهـ. وحسنه الألباني لغيره.
وليحذر السائل الكريم أن يأتيه الشيطان من باب مخافة الرياء ويدعوه إلى ترك بعض الأعمال الصالحة، فالأمر كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك. اهـ.
وقد سبق لنا بيان حقيقة الإخلاص وبواعثه وثمراته، وحقيقة الرياء وآثاره وكيفية علاجه، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 10396، 8523، 7515، 10992.
وقول السائل الكريم: بعد أن أترك تلك العادة السيئة. إن كان يعني بها الاستمناء، فهي بالفعل عادة سيئة بل محرمة ومضرة، وقد سبق الكلام على حكمها وما فيها من أضرار بدينة ونفسية في الفتوى رقم: 7170. ولكن لا يصح أن يكون فعل المحرمات مدعاة لترك الطاعات، بل العكس هو الصحيح.
ونوصيك أخي الكريم أن تكثر القراءة في الكتب المتعلقة بالتزكية ككتاب: مختصر منهاج القاصدين. للمقدسي. والكتب المتعلقة بأحوال الآخرة ككتاب: حادي الأرواح. لابن القيم، وكتاب: التخويف من النار. لابن رجب، وكتاب التذكرة. للقرطبي. فإن هذه من أنفع العلوم لصلاح الباطن وحصول الاستقامة. كما نوصي بكثرة تلاوة القرآن وذكر الله، فإن في ذلك عصمة من الشيطان. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 1208.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 جمادي الثانية 1430(9/3960)
نصائح غالية لمن كان على الهدى فأغواه الشيطان
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا تقول في شاب عمره22عاما كان يحفظ من كتاب الله، وكان من الشباب الذين يحافظون على الصلاة في المسجد، ويسعى في أن يعف نفسه وأن يرزقه الله رزقا حسنا، ثم تبدل به الحال فإذا به توقف عن حفظ وتحفيظ القرآن، ولا يقرأ القرآن إلا بين الحين والآخر وبدون تدبر وخشوع، وأصبح يفوت الصلاة في المسجد ويجمع عدة صلوات مع بعضها، وينام عن الأخرى، أو يجمع أياما مع بعضها، وتخلى عن اللحية وأصبح أمر حلق اللحية هينا عليه، ولم يستطع أن يعف نفسه فتوقف عن الصيام، وإن صام فبلا روح، صيام عن الأكل والشرب فقط، وهيأت له نفسه فعل السوء منذ شهر فمارس العادة السيئة ولأول مرة بعد22 عاما، وأصبح من المدمنين عليها كل يوم، وأحيانا مرتين في اليوم، يندم بعدها يغتسل يصلي، ويأتي عليه كل ليلة مساء يفعل هذا الفعل السوء ثم يصحو الصبح يقول لن أفعل ذلك، أغض بصري ثم يصلي، ثم يأتي ليلة عليه يفعل الفعل السوء كل يوم على ذلك قرابة الشهر، رغم أنه قرأ عن حرمتها وأضرارها ولكن تسول له نفسه في لحظات الدخول إلى المواقع الجنسية ثم يفعل فعلته، ساءت حالته أصبح ينطوي على نفسه وحزينا ينام لوقت طويل، ضاعت منه صلاة الفجر، كل من يراه يقول له أصبحت من العبوسين ودائما حزينا، لم يستطع الحصول على شقة للزواج بسبب ارتفاع الإيجارات وضعف راتبه، انشغل عنه أصحاب الخير الذين كانوا يرافقونه ويدلونه على الخير، كل في عمله، وأصبح رفيق الهوى والنفس السوء والشيطان. أحبتي في الله إخواني وأخواتي بالله عليكم أسألكم توجيه نصيحة له، وأرجو من كل من يقرأ هذه الفتوى ومن شيوخنا الأفاضل الدعاء له بظهر الغيب، فو الله إنه بأشد الحاجة أن يثبته الله عز وجل وأن يرده إلى دينه ردا جميلا، وأن يحفظه من الفتن، وأن يعافيه الله من هذه العادة الذميمة.
نسألكم الدعاء بالله عليكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرد هذا الشاب إلى دينه ردا جميلا، وأن يعافيه من كل سوء وبلاء إنه سميع مجيب.
ثم إننا نوصيه بهذه المناسبة بأن يكثر من الدعاء لنفسه بالتوبة والهداية، فمن يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وعليه أن يصدق مع الله تعالى فمن يصدق الله يصدقه، قال سبحانه: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ. {محمد:21} .
ونقول لهذا الشاب: أترضى أن يكون لك نصيب من هذه الآية: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. {الأعراف:175، 176} .
أتأمن مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فما يدريك أن يفجأك الموت فتندم حين لا ينفع الندم، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين. {الزمر:54ـ56} .
وننصحه بأن يخلو ساعة بنفسه يتفكر في حاله ويقارن بين حال الإيمان والصفاء الذي كان عليه حين كان مقبلا على حفظ كتاب الله محافظا على فرائضه، وبين حال التعاسة التي هو عليها الآن والتي بدت على صفحات وجهه فرآها الناس عليه، فإن هذا من ذل المعصية، وقد صدق من قال: ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة.
وعليه في ساعة الخلوة هذه أن يحاول التماس السبب الذي أوقعه في هذا الردى بعد أن كان على الهدى، فربما يكون قد زلت قدمه بالوقوع في ذنب عوقب بسببه بالحرمان من نور الطاعة وسلطت عليه بسببه الشياطين فأصبحت تؤزه إلى المعاصي أزا.
وعلى كل حال فإننا ننصحه بالتوبة النصوح مما يأتي من منكرات ولا سيما التفريط في الفرائض كفريضة الصلاة، فهي أفضل الأعمال ومن حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وعليه أن يعلم أن في إثارة الشهوة بمشاهدة الأفلام الإباحية فتحا لباب الفتنة على القلب، وإذا كان يتحسر الآن على فعله عادة الاستمناء فربما جاء يوم يتحسر فيه على ما هو أعظم من ذلك.
ولا شك أن الزواج من أعظم ما يمكن أن يعف به نفسه عن الوقوع في الفواحش، وننصحه بأن يكثر من دعاء الله تعالى أن ييسر له أمر الزواج، وعليه أيضا أن يجتهد في البحث عن بعض الصالحين الذين يريدون إعفاف بناتهم فيتزوج منهم فربما أعانوه في أمر الحصول على مسكن، وإذا لم يتيسر له الزواج فعليه بالعودة للصيام، وإذا عجز عنه فهنالك كثير من الأمور الأخرى التي يمكن أن تعينه على العفاف كصحبة الصالحين وممارسة الرياضة، وللمزيد يمكن مراجعة الفتويين رقم: 52421، 113311.
وقد سبق لنا بيان وسائل تقوية الإيمان والمحافظة عليه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 10800، 6342، 31768، 76210.
وسبق أيضا بيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان في الفتويين رقم: 33860، 56356.
ويمكنه أيضا أن يكتب إلى قسم الاستشارات بموقعنا هذا فسيجد بإذن الله من المستشارين هنالك التوجيهات النافعة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 جمادي الأولى 1430(9/3961)
هل كتابة أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم تجلب الرزق
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن تعليق ورقة كتب عليها أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم يجلب الرزق. وأن هناك حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص. ما صحة هذا الأمر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم نقف على شيء صحيح مما ذكره السائل الكريم، ونستبعد جدا ثبوت مثل هذا، ومسألة زيادة الرزق وقلته، وسعته وضيقه، لها أسباب قد سبق التنبيه عليها في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 6121، 42127، 36909، 110691. وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 49494، 114514.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 جمادي الأولى 1430(9/3962)
حكم التوبة خشية الفضيحة بين الناس
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم رجل يتوب من أجل ألا يفضح، أو حتى يستره الله، فهل توبته صحيحة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتوبة التي وردت النصوص في عظيم فضلها وثوابها هي التي تحققت فيها الشروط التالية:
الشرط الأول: الإخلاص وهو أن يقصد بتوبته وجه الله عز وجل.
الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب.
الشرط الثالث: الندم على فعله.
الشرط الرابع: العزم على عدم الرجوع إليه.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة قبل أن يصل العبد إلى حال الغرغرة عند الموت.. فالذي يتوب خشية الفضيحة أو رجاء ستر الله عليه أمام الخلق يكون قد شاب توبته بما يقدح في صحتها وخلوصها لله تعالى، وفي هذا الموضوع يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته.
والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ولحفظ حاله، أو لحفظ قوته وماله أو استدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 جمادي الثانية 1430(9/3963)
أعمال من عملها غفر له ما تقدم من ذنبه
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يفعل الإنسان حتى يغفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ورد في بعض الأحاديث بيان أعمال تكفر عن فاعلها ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنها لا تخلو من ضعف أو مقال فيما نعلم.
لكن وردت أحاديث صحيحة تنص على أعمال يغفر لعاملها ما تقدم من ذنبه. فمن ذلك: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه.
من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه
من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه
من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه.
إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه.
إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه.
من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه الترمذي وابن ماجه.
من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. رواه مسلم.
لكن المراد في هذه الأحاديث تكفير الصغائر لا الكبائر، فالكبائر لا يكفرها إلا التوبة.
قال في تحفة الأحوذي:
قال القاضي عياض: هذا المذكور في الحديث من غفر الذنوب ما لم يؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما يكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله. وقال القارىء في المرقاة: إن الكبيرة لا يكفرها الصلاة والصوم وكذا الحج وإنما يكفرها التوبة الصحيحة لا غيرها، نقل ابن عبد البر الإجماع عليه بعد ما حكى في تمهيده عن بعض معاصريه أن الكبائر لا يكفرها غير التوبة. ثم قال: وهذا جهل وموافقة للمرجئة في قولهم: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب. وهو مذهب باطل بإجماع الأمة. انتهى.
قال العلامة الشيخ محمد طاهر في مجمع البحار ما لفظه:
لا بد في حقوق الناس من القصاص ولو صغيرة وفي الكبائر من التوبة، ثم ورد وعد المغفرة في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان، فإذا تكرر يغفر بأولها الصغائر وبالبواقي يخفف عن الكبائر وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة يرفع بها الدرجات. انتهى.
وعلى ذلك فأعظم أسباب المغفرة على الإطلاق التوبة النصوح. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. {التحريم:8} .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه وحسنه ابن حجر.
ولمعرفة شروط التوبة النصوح راجع الفتوى رقم: 1909.
ولمزيد بيان راجع كتاب معرفة الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة للإمام الحافظ ابن حجر. ولمزيد الفائدة عن أسباب مغفرة الذنوب راجع الفتوى رقم: 51247.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
30 جمادي الأولى 1430(9/3964)
الدعاء على الظالم والصبر على ظلمه والعفو عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[أود شكركم على المجهودات المبذولة لخدمة الإسلام والمسلمين، جزاكم الله كل خير، أما عن سؤالي فهو التالي. لحق بي أذى من أناس كنت أحسن إليهم وأكرمهم، وآثرتهم على نفسي في كثير من الأحيان، وكل ما أساؤوا لي أو لعائلتي كنت أغفر وألتمس لهم الأعذار، بعد مرور سنوات عديدة أستيقظ على حقيقة أكبر مما كنت أتصورها، أذاهم تعدوا حدود المعقول، أو بالأحرى لم أستطع تصديق ما حصل مع من أحسنت إليهم سحروني وأي سحر، افتضح أمرهم بعد كل هاته السنين، المهم الحقيقة لا أنوي أن أغفر لهم وفي كل مرة أردد حسبي الله ونعم الوكيل، أحيانا أدعوا عليهم، فهل بهذا (الدعاء) يعد عدم صبر على أمر الله، وهل بعدم الغفران لهم (لم يطلبوا ذلك رغم اعترافهم) ، ينقص من أجر الصبر عل المصيبة، هناك من نصحني بعد الدعاء عليهم، ولكننني أفعل ذلك من باب أنهم أعداء الله (مشعوذون) ، وجزاكم الله كل الخير ووفقكم إلى ما فيه الخير في الدنيا والآخرة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الدعاء على الظالم لا حرج فيه، فقد دعا نوح وموسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم على الكفار، وقد دعا سعد وسعيد رضي الله عنهما على من ظلمهما كما في الصحيح، والظاهر والله أعلم أنه لا يستوي في الأجر من عفا وصبر وكظم وغفر مع من لم يعف ودعا على الظالم.
لأن الدعاء على الظالم يعتبر من الاقتصاص المباح، ولا شك أن الصبر والعفو عنه أفضل فقد قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى:40}
فأباح في الآية الأولى المجازاة للظالم المسيء بالمثل، ورغب في العفو والصبر بعد ذلك. ويروى عن الإمام أحمد أنه قال: الدعاء قصاص، فمن دعا فما صبر. كذا في مطالب أولي النهي للشيخ مصطفى الرحبياني. وقد ذكر بعض أهل العلم أن الأفضل عدم الدعاء على الظالم إن لم يكن ظلمه عاما، وأما إذا عم ظلمه فالأفضل الدعاء عليه ليكف الله بأسه عن الأمة.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 54408، 20322، 118283، 119271.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 جمادي الأولى 1430(9/3965)
كيف يحذر العبد من مكر الله
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يحذر المؤمن مكر الله؟ هل يخص الدنيا أم الآخرة؟
جزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المؤمن يحذر مكر الله إذا عرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله وسننه الإلهية التي لا تعرف المحاباة، وقد وصف الله تعالى نفسه فقال: وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {آل عمران: 54} والمكر في الأصل: التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب.. ومكر الله تعالى، وهو تدبيره الذي يخفى على الناس، إنما يكون بإقامة سننه وإتمام حكمه، وكلها خير في أنفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم. والمراد بالجهل ما يتعلق بصفات الله تعالى وسننه اغترارا بالظواهر، كأن يغتر القوي بقوته، والغني بثروته، والعالم بعلمه، والعابد بعبادته، فيخطئ تقديره ما قدره الله تعالى فيظن أن ما عنده يبقى، وما يترتب عليه من الآثار في ظنه لا يتخلف. اهـ من تفسير المنار. وقال التستري في تفسيره: المكر المضاف إلى تدبيره في سابق علمه من قدرته فلا ينبغي لأحد أن يأمن مكره، لأن أمن المكر لا يدفع القدر، ولا يخرج أحداً عن قدرة الله تعالى. اهـ.
وقد وصف الله تعالى من يأمن مكره بالخسران فقال: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {الأعراف: 99} قال السعدي: هذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان. بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. وأن يعمل ويسعى في كل سبب يخلصه من الشر عند وقوع الفتن، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة. اهـ.
فهذا حال المؤمن العارف بربه المسارع في طاعته، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {المؤمنون: 60-61} قالت عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية.. أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد. وصححه الألباني. وقال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. اهـ.
وقال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم مأمونو العواقب ومع ذلك هم أشد خوفا، والعشرة المشهود لهم بالجنة كذلك، وقد قال عمر رضي الله عنه: لو أن رجلي الواحدة داخل الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله. اهـ.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان يعني الإبهام والتي تليها لعذبنا الله ثم لم يظلمنا شيئا. رواه ابن حبان، وصححه الألباني. وقال ابن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار. رواه البخاري والترمذي.
وكذلك مما يحمل المؤمن على عدم الأمن من مكر الله تعالى أنه لا يدري أغفرت سيئاته وقبلت حسناته أم لا، ثم بعد ذلك بما يختم له فإنما الأعمال بالخواتيم، قال المناوي في فيض القدير: من تحققت له المغفرة استراح، وذلك لا يكون إلا بعد فصل القضاء والأمر بدخول الجنة، فليس الموت مريحا لأن ما بعده غيب عنا. اهـ.
وعدم الأمن من مكر الله لا يخص الدنيا بل يمتد إلى الآخرة، ويلازم المؤمن إلى أن يحط رحاله في الجنة، وعندئذ يأمن مكر الله تعالى، كما سبق في نقل السبكي عن عمر، وقد سئل الإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة (المقصد الأرشد 2 / 398) .
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 35806، 65684، 59862، 58994، 119642.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 جمادي الأولى 1430(9/3966)
علامات محبة الله تعالى لعبده ورضاه عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[كيفية الثبات على الطاعة؟ كيف أعرف برضى ربي علي؟ كيف أعلم أن الله يحبني ويرضى على؟
تبت من ذنب واستغفرت من هذا الذنب، لكن إذا كان عندي ذنب آخر فهل الله لم يقبل التوبة من الذنب الأول؟ هل لن يرضي عني بسبب الذنب الآخر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما كيفية الثبات على الطاعة، فقد سبق بيانها في الفتويين رقم: 15219، 12928. فارجع إليهما. وأما علامات محبة الله لعبده ورضاه عنه فهي كثيرة، وأخصها حب العبد لله تعالى، واتباعه لنبيه، فمن أحب الله بصدق واتبع هدي نبيه عليه الصلاة والسلام أحبه الله. قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. {آل عمران:31} .
ومنها الاتصاف بالصفات التي ذكرها الله تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
ومن علاماتها الابتلاء بالمصائب المكفرة، إذا قوبلت بالصبر إذ هي كالدواء، فإنَّه وإن كان مُرّاً إلا أنَّك تقدمه على مرارته لمن تحب - ولله المثل الأعلى - ففي الحديث الصحيح: إنَّ عِظم الجزاء من عظم البلاء، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
ومن علاماتها أن يتولى الله تعالى أمره ظاهره وباطنه، فيكون هو المستعمل لجوارحه، فلا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا يرى إلا ما يحبه الله، ولا يعمل بيده إلا ما يرضاه الله، ولا يذهب إلا إلى ما يحبه الله، ويكون دعاؤه مسموعا مجابا، ويكون محفوظا من كل سوء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه. رواه البخاري.
وكما يسدد الله ظاهره فإنه تعالى بفضله وكرمه أيضا يسدد باطنه، ويجعل همومه هما واحد، ويبغّض الدنيا في قلبه، ويوحشه من غيره، ويؤنسه بلذة المناجاة في خلواته، ويكشف له الحجب بينه وبين معرفته.
ومن علاماتها أن يكون محبوبا مقبولا عند الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. متفق عليه.
وقد علق الله عز وجل محبته في الكتاب والسنة على أوصاف وأعمال كثيرة، فمن قام بهذه الأوصاف وتحلى بها وعمل تلك الأعمال رجاء مثوبة الله جل وعلا وابتغاء وجهه الكريم فإنه يرجى له أن يحظى بمحبة الله عز وجل.
وكل ما سبق ذكره إنما هو على وجه العموم، أما بالنسبة لعبد معين، فلا نستطيع القطع بمحبة الله له بعينه من عدمها؛ لأن ذلك من الغيب المحجوب عنا، ولكننا نرجو ذلك للمحسنين الذين امتثلوا ما يستوجبون به محبة الله لهم.
فإذا وجدت شيئا من هذه العلامات فلا تغتر بها، ولتحذر من مكر الله، واسأله حسن الختام.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 22830، 58064.
أما قبول توبتك من ذنب مع أن عندك ذنبا آخر، ففيها قولان لأهل العلم، فمنهم من منع صحة التوبة من ذنب مع إصراره على غيره، ومنهم من صحح ذلك.
وهذا مذهب الجماهير بل حكاه بعضهم إجماعا، وتوسط ابن القيم رحمه الله فذهب إلى أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه فتصح، كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا، فإن توبته من الربا صحيحة، وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة، أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر، فهذا لا تصح توبته. وراجع بسط كلامه في كتاب مدارج السالكين عند كلامه على منزلة التوبة.
ونلفت نظرك أيها السائل الكريم إلى أنه حتى وإن قبل الله توبتك من ذنب وأنت مقيم على آخر، فإن منزلتك عنده ليست كمنزلة التائب من جميع الذنوب. وتسويف التوبة هو الآخر ذنب يحتاج إلى توبة منه؛ فإن التوبة واجبة من جميع المعاصي بلا استثناء. قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. {النور:31} . وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا. {التحريم:8} .
وتذكر قوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ*أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. {الزمر:54- 58} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 جمادي الأولى 1430(9/3967)
الطريق إلى دمع العين وخشوع القلب
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف تكون للمسلم عين دامعة، وقلب خاشع، أي أنه إذا قرأ القرآن بكى من خشية الله, وإذا ذكر بالله تذكر، وإذا سمح محرما امتنع،وإذا سمع طاعة أقبل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من أعظم ما يساعد على البكاء من خشية الله، وخشوع القلب، وخضوع الجوارح أن يكثر العبد من تلاوة القرآن، ومطالعة نصوص الأحاديث وقصص السلف بتدبر وحضور قلب، ويكثر كذلك من مطالعة سير السلف وقصصهم في التأثر بالقرآن والمواعظ النبوية، فإذا أمكن أن تبرمج وقتا هادئا تكون مرتاحا نفسيا ثم تخلو بنفسك وتتلو مقطعا من القرآن بتدبر، أو تسمعه من أحد القراء المتقنين، وتطالع كذلك في كتب الحديث وتقرأ في أبواب الترغيب والترهيب، وأحوال أهل القبور، وفي أهوال يوم القيامة، وتباين حال العباد في الجنة والنار. فنرجوا الله أن يرزقك رقة قلب ودمعة عين، وخضوع الجوارح لأمر الله، وبعدها عن معصيته.
وهذا الموضوع لا شك موضوع مهم، وكلنا نحتاج له، ولكن إشباع الكلام فيه يحتاج لبحث طويل والإشارات يحصل بها بعض الفائدة إن شاء الله.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 جمادي الأولى 1430(9/3968)
إذا زنا بذات زوج فهل يلزمه أن يستحل زوجها
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل زنى بامرأة متزوجة أو لامس أو نظر إليها أو ماشابه. هل يقتص منه زوجها يوم القيامة؟ وماهى كفارة هذا الذنب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالزنا ذنب عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب حذر منه الرب تعالى بقوله: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. {الإسراء:468} .
وكذا لمس المرأة الأجنبية أوالنظر إليها لغير حاجة فإنهما من المنكر، ومن فعل شيئا من ذلك مع امرأة متزوجة كان إثمه أشد وآكد.
والواجب عليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا، ولكن هل من شروط صحة توبته استحلال زوج هذه المرأة؟ تكلم السيوطي في فتاويه عن هذه المسألة فقال فيمن خان رجلا في أهله بزنا أو غيره:
لا تصح التوبة منه إلا بالشروط الأربعة ومنها استحلاله بعد أن يعرف به بعينه ثم له حالان:
أحدهما: أن لا يكون على المرأة في ذلك ضرر بأن أكرهها فهذا كما وصفنا.
والثاني: أن يكون عليها في ذلك ضرر بأن تكون مطاوعة فهذا قد يتوقف فيه من حيث إنه ساع في إزالة ضرره في الآخرة بضرر المرأة في الدنيا والضرر لا يزال بالضرر، فيحتمل أن لا يسوغ له في هذه الحالة إخباره به وإن أدى إلى بقاء ضرره في الآخرة، ويحتمل أن يكون ذلك عذرا ويحكم بصحة توبته إذا علم الله منه حسن النية، ويحتمل أن يكلف الإخبار به في هذه الحالة ولكن يذكر معه ما ينفي الضرر عنها بأن يذكر أنه أكرهها ويجوز الكذب بمثل ذلك، وهذا فيه جمع بين المصلحتين لكن الاحتمال الأول أظهر عندي، ولو خاف من ذكر ذلك الضرر على نفسه دون غيره فالظاهر أن ذلك لا يكون عذرا، لأن التخلص من عذاب الآخرة بضرر الدنيا مطلوب، ويحتمل أن يقال أنه يعذر بذلك ويرجى من فضل الله تعالى أنه يرضى عنه خصمه إذا علم حسن نيته ولو لم يرض صاحب الحق في الغيبة والزنا ونحوهما أنه يعفو إلا ببذل مال فله بذله سعيا في خلاص ذمته، قال: ثم رأيت الغزالي قال فيمن خانه في أهله أو ولده أو نحوه لا وجه للاستحلال والإظهار فإنه يولد فتنة وغيظا بل يفزع إلى الله تعالى ليرضيه. اهـ.
قال العبادي في حاشيته على تحفة المحتاج بعد أن نقل كلام السيوطي وذكر ما قاله الغزالي:
أقول الأقرب ما اقتضاه كلام الغزالي حتى لو أكره المرأة على الزنا لا يسوغ له ذكر ذلك لزوجها إذا لم يبلغه من غيره لما فيه من هتك عرضها. اهـ.
وقول الغزالي هذا هو الذي نميل إليه ونرى أنه أقرب للصواب، أي لا يخبره به ولا يستحله فيه.
وأما الكفارة فإن كان المقصود بها كفارة مخصوصة فليس عليه كفارة مخصوصة، وإنما تجب عليه التوبة.
والله أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 جمادي الأولى 1430(9/3969)
السعادة لا تنال إلا بطاعة الله وترك معصيته
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعرف أن الذي أنا فيه ابتلاء من ربي والحمد لله راضية.
لكن لي شهر تقريبا وأنا في حالة إحباط تام وأبكي كثيرا- والحمد لله- لا أحب أن أشتكي لبشر، أجلس وأتكلم مع خالقي وأفضفض له بكل الذي في قلبي، لكن أحيانا يأتيني شعور يقول لي: يمكن أن يكون هذا عقابا وليس ابتلاء
لأني غلطت في حياتي كثيرا والله شاهد أني عاهدت نفسي أن لا أعود للغلط ثانية، وما في أكرم من الكريم الحمد لله.
أطلب الدعاء من أبي وأمي -والحمد لله- دائما يدعوان لي، لكن لا أقدر أن أخصص ما أريده لكي يدعوان لي به، أفرح عندما تقول لي أمي: الله يفتح عليك، وأفرح عندما أم خطيبي تقول لي: الله ينصرك.
والله لي شهر وأنا حزينة والحمد لله قريبه من ربي أكثر، لكن أخاف أن أرجع للخطأ حتى وإن كان صغيرا، أو يحدث لي مثل ما حدث السنه الماضية وتبقى علي مواد تجعلني أعيد سنة، والله ثقتي في الله كبيرة، لكن ما أخاف منه أنه لم تعد عندي همة وعزم، وصرت في قلق وتوتر وعصبية، والله هذا أكثر شيء يؤلمني لأني أعرف أن هذا من ضعف الإيمان، كيف يكون الإنسان مهموما والله موجود، هو المدبر، كيف!!
أحمد ربي أني لو أخطأت فرضا، أغضبت أحدا، مباشرة يعاقبني الله في دنياي وهذا فضل من ربي،
وأسأله أن لا يعاقب أهلي ولا ذريتي بعد عمر طويل بسببي، أنا صرت لاأحب أن أجلس مع أحد، دائما في غرفتي. الدراسة في سنة رابع طب بشري أشعر أنها شبح، أخاف من الاختبارات بعد ما رسبت السنة الماضية، وحدثت لي مشاكل الله عالم بها، وأمي وأبي غضبا مني.
أسأل الله لي ولكم الجنة بغير حساب، وأتمنى من ربي العزيز الذي لا يطلبه أحد باسم العزيز شيئا إلا وأعزه أن تدعو لي الله يرضى عني ويرضي أبي وأمي علي، ويفتح لي أبواب رزقه، ويعلمني من علمه فهو العليم، ويبعد عني كل شر وعين، ويفتح علي فتوح العارفين، ويحفظني المناهج حفظ ملائكته المقربين، ويفهمني فهم الأنبياء ولا يحوجني لبشر أبدا، وينصرني ويغفر لي، ويثبتني، ويفرج همومي وهموم سائر البشر، ويجعل همتي عالية، ودرجاتي في الاختبارات ممتازة لكي أرفع رأس أبي وأمي بدل السنة الماضية، وأنفع الإسلام والمسلمين بالطب، ويسهل دراستي ويعينني لأني من غير توفيقه تعالي ولا شيء.
وصلى اللهم وبارك وسلم على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه أن يوفقك للتوبة وأن يغفر لك ما أسلفت، وأن يرضى عنك ويرضي عنك والديك، وأن يرزقك التوفيق والسداد في أمور الدين والدنيا.
واعلمي أيتها السائلة أن الخير والسعادة والحياة الهانئة المطمئنة كل ذلك لا ينال إلا بطاعة الله جل وعلا والبعد عن معصيته، فإذا استقام الإنسان على أمر ربه فلا يضره ما فاته بعد ذلك من عرض الدنيا الزائل، بل ولا يضره ما يصيبه من هموم الدنيا وأنكادها فهذا كله له خير، وهو في ذلك إنما يتقلب بين تكفير السيئات ورفع الدرجات، فليست البلايا دليلا على بغض الله لعبده، وليست السعة والسلامة دليلا على رضا الله عنه، وقد بينا طرفا من ذلك في الفتوى رقم: 75054.
وأما ما أسلفت من ذنوب وتقصير في جنب الله سبحانه فتداركيه بالاستغفار والتوبة الصادقة إلى الله جل وعلا، وراجعي ثمرات الاستغفار في الفتوى رقم: 24902.
وقد ذكرنا في الفتوى رقم: 66870. نصائح لطلاب العلم يستعينون بها على صعوبات الدراسة، وعناء الاختبارات.
وبينا في الفتويين رقم: 35247، 49867. وما أحيل عليه فيهما، بعض أدعية قضاء الحاجة، وشروط استجابة الدعاء بها وبغيرها، فراجعي ذلك كله ففيه خير كثير وفوائد عميمة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 جمادي الثانية 1430(9/3970)
توبة العاصي الذي أفسد في الأرض
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن لإنسان مفسد فوق الأرض التوبة لإصلاح الضر بعد الفساد، مغيرا نواياه الخبيثة إلى نوايا صالحة؟ وجزاكم الله كل الخير وحفظكم ورعاكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن توبة العاصي ممكنة، فيجب عليه البدار بها، وعليه أن يحسن الظن بالله تعالى في قبولها، فهو القائل:: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ. {الشورى: 25} . وهو القائل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر:53} . وهو القائل: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {المائدة:39} . والقائل: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأنعام: 54} .
فعلى العاصي أن يبادر بالتوبة، ويبتعد عن الأجواء التي تذكره بالمعاصي وتدعوه إليها، ويكثر من مطالعة نصوص الوحيين التي ترغب في العمل الصالح وتنفره من المعاصي، وعليه أن يصحب أهل الخير عملا بوصية العالم لمن قتل مائة نفس فأمره بترك أرض السوء والذهاب إلى أرض أخرى بها أناس صالحون يعبدون الله وأن يعبد الله معهم، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: للاطلاع على البسط في الموضوع: 31768، 69465، 73937.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 جمادي الأولى 1430(9/3971)
بذل الوسع للاستيقاظ لصلاة الفجر
[السُّؤَالُ]
ـ[1- لم أكن أعلم أن النذر مكروه.
2- ما هو معنى الحديث عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر فقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. متفق عليه.
3- أنا أحافظ على الصلوات المفروضة أكثر شيء في حياتي بفضل الله، ولا أتذكر أن فاتتني صلاة الفجر مرة قبل الزواج، ولكني بعد الزواج صارت تفوتني كثيرا، وأصحو وأنا في فزع وهم وكدر أن فاتتني هذه الصلاة مع أني قد أضبط أكثر من 5 منبهات، وأوصي بعض الأقارب أو الأصدقاء بأن يوقظوني، ولكن قد أصحو وقد لا أصحو، يعلم الله أنه ليس تكاسلا، ولكن لا أفيق من نومي إلا بعد الشروق، فأزداد هما وحزنا.
فاتفقت مع زوجي في أحد الأيام أن نخرج عن فوات صلاة الفجر 100جنيه عن صلاة بدون نذر ولا غيره.
ففعل فترة ثم تخاذل، فاتفقت معه على أن نصوم هذا اليوم أي أنه إذا صحونا من نومنا، وقد طلعت علينا الشمس فنصوم هذا اليوم حتى يغفر الله لنا، وإن لم يكن علينا ذنب حيث نكون في غير وعينا، فيجبر الصيام عدم لحاقنا بصلاة الفجر، ففعلنا فترة حتى دخل الصيف فشق علينا ذلك، حيث إننا نصوم هذا اليوم بلا سحور، وقد يكون بلا عشاء أيضا، حتى أننا وجدنا بعد صيامنا فترة أن الصلاة صارت لا تفوتنا إلا مرة في الشهر، فكان يقول زوجي مازحا: شق على إبليس أن نصوم يوم تطوع بدلا من فوات الصلاة، ونحن في غير وعينا فصار يتولى إيقاظنا بدلا من صوم التطوع.
المهم أننا بعد دخول الصيف توقفنا فعادت الصلاة تفوتنا كثيرا، والمشكلة أني أحاول النوم مبكرا، ولكن عمل زوجي يمنعني من ذلك، حيث أنه يعمل لوقت متأخر من الليل، فأنتظره ولا أستطيع النوم قبل رجوعه أبدا مع المحاولات، والآن نذرت أنا نذرا لله في يوم وقد ضاق صدري وبكيت كثيرا لفوات هذه الصلاة فنذرت وأنا ساجدة أثناء قضائها أن أعود فأصوم اليوم الذي تضيع علي فيه صلاة الفجر، وليس لي دخل بزوجي لأنه يعمل عملا شاقا، ولا يستطيع الصوم أثناءه، فوجدت أني صمت أسبوعين متتابعين تقريبا، وأنا أجاهد نفسي حتى أتفادى ذلك، ولكن دون جدوى، فصمت من الحيضة إلى الحيضة حتى أني أصحو بعد الشروق بدقيقتين أو ثلاثة وهكذا كل يوم. وبدأ زوجي يغضب مني لأنه يعود في وسط النهار فلا آكل معه، وأيضا لأني نحيفة وهذا يؤثر علي وهو لا يريدني نحيفة، لأنه كما ذكرت أصوم بلا سحور. فما الحل لصلاة الفجر أولا؟ وما الحل لهذا النذر ثانيا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أما مسألة الاستيقاظ لصلاة الفجر والوسائل والأسباب المعينة على ذلك، فقد سبق بيانها في الفتوى رقم: 2444. ثم ننبه الأخت السائلة على أنها إن فعلت كل ما بوسعها من أسباب الاستيقاظ لأداء الصلاة في وقتها، وحصل نوم بعد ذلك فلا إثم عليها إن شاء الله، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وفي الحديث: إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها. رواه مسلم والترمذي واللفظ له وأبو داود وابن ماجه.
فما دمت قد بذلت كل ما في وسعك فلا حرج عليك، ولكن عليك ألا تيأسي من تكرار المحاولة كل ليلة حتى يفتح الله ويمن عليك بالصلاة في وقتها. وقد سبق التنبيه على ذلك في الفتويين رقم: 26280، 28211.
وأما النذر الذي ذكرته في سجودك، فإذا كنت قد تلفظت به، ولم يكن مجرد حديث نفس، فهو من نذر اللجاج والغضب، وهو الذي يخرجه صاحبه مخرج اليمين للحث على فعل شيء أو المنع منه، غير قاصد للنذر ولا القربة، وهذا حكمه حكم اليمين، وصاحبه مخير بين الوفاء بما حلف عليه وبين أن يحنث فيلزمه كفارة يمين وهي المبينة في الفتوى رقم: 204.
أما إذا كان مجرد حديث نفس، ونيةً دون تلفظ، فإنه لا يلزمك شيء.
ثم ننبه السائلة الكريمة إلى أن الراجح من أقوال أهل العلم أن النذر وإن كان الوفاء به واجبا إلا أن إنشاءه مكروه، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر. وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 16705.
وراجعي في النذر وحكمه الفتاوى التالية أرقامها: 1125، 71832، 31778.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 جمادي الأولى 1430(9/3972)
موازنة الطالب بين عبادته ودراسته
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤال: ما واجب الإنسان المسلم اليومي؟ وماذا يجب عليّ كوني طالبا لدي مدرسات غير مسلمات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمسلم الموفق هو الذي يؤدي إلى كل ذي حق حقه، كما جاءت السنة النبوية: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. رواه البخاري.
فينبغي أن يوازن العبد بين أعماله في أمر دينه ودنياه، وكذلك مطلوب من الطالب أن يوازن بين الدراسة والعبادة، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 40889.
وأعمال اليوم والليلة فرضا ونفلا كثيرة، فينبغي أن يحافظ العبد على ما يستطيع منها، فخير الأعمال أدومها وإن قل. ويمكنك الاستعانة بكتاب: الترغيب والترهيب لمعرفة ذلك. وكذلك يمكنك مراجعة الفتوى رقم: 52800. والكتب التي أحلنا عليها فيها.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 37734، 60030، 25407.
وبالنسبة للمدرسات غير المسلمات اللاتي يدرسن لك، فإن استطعت أن تستغني عنهن ولو بالتحول إلى مدرسة أخرى فيجب عليك أن تفعل ذلك. وإلا فاتق الله ما استطعت وغض بصرك واحفظ فكرك، وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 1665، 6993، 2523، 53912.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 جمادي الأولى 1430(9/3973)
كيف تستقيم أحوال العبد في معاشه ومعاده
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد من سيادتكم الأدعية الصحيحة التي تفرج الكرب وتخفف حدة القدر، وما هي الأعمال التي يجب اتباعها في اليوم والليلة لتحقيق ذلك بإذن الله تعالى؟ حيث إنني كثيرا ما أتعرض لذلك، وهل القدر واقع لا مفر منه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقدر الله تعالى نافذ لا محالة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والإيمان بهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر، وهو ركن من أركان الإيمان الستة، وهو التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الوجود يجري وفق علم الله وتقديره في الأزل، كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه: يا بني! إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني. رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني.
وقد سبق بيان مفهوم القضاء والقدر ومراتبه وثمراته في الفتوى رقم: 67357. وكذلك سبق بيان حكم التسخط على قضاء الله في الفتوى رقم: 23586.
وأما أدعية تنفيس الكروب وتفريج الهموم فقد سبق بيانها في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 26503، 101542، 103409.
ثم اعلم أخي الكريم أن بداية الطريق يكون بإصلاح حالك مع الله والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة من جميع الذنوب، فإن ذلك من أعظم أسباب رفع البلاء، فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى: 30} وقال سبحانه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ {هود: 3} وقال: لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {النمل: 46} ثم بعد ذلك بدل السيئ بالحسن، وأتبع السيئات بالحسنات حتى تمحوها، والزم تقوى الله تعالى في السر والعلن بمراقبته وحفظ أمره ونهيه، فمن اتقى الله وقاه وتولاه، ولم يكله إلى غيره ونصره على عدوه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. ...... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {الطلاق:3-4} .
وخلاصة القول أن الاستقامة على أمر الله هي التي تستقيم بها أحوال العبد في معاشه ومعاده، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {الأحقاف:13} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم. رواه الطبراني، وجوده المنذري، وحسنه الألباني.
وأما أعمال اليوم والليلة فرضا ونفلا فكثيرة، فينبغي أن يحافظ العبد على ما يستطيع منها، فخير الأعمال أدومها وإن قل. ويمكنك الاستعانة بكتاب (الترغيب والترهيب) لمعرفة ذلك. وكذلك يمكنك مراجعة الفتوى رقم: 52800 والكتب التي أحلنا عليها فيها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 جمادي الأولى 1430(9/3974)
جزاء من يسعى في فتنة شباب المسلمين
[السُّؤَالُ]
ـ[ما جزاء من يحاول أن يفتن شباب المسلمين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالفتنة تطلق ويراد بها معان كثيرة، وهي تنقسم إلى فتن الشبهات وفتن الشهوات، وأسوأ فتن الشبهات فتنة الشرك بالله، وفتنة العدول عن محكم الآيات وصريح السنة وصحيحها، ومن أسباب مشروعية الجهاد إزالة الفتنة من طريق الناس ليؤمنوا بالدين ويقيموا شعائره وشرائعه بحرية، كما في قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ {البقرة:193} ، وقد بين الله سبحانه في كتابه أن الفتنة تحول دون أن يكون الدين كله لله سبحانه، ولهذا قال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه {الأنفال:39} ، فالفتنة تناقض الدين، ومن ساهم في هذه الفتن التي تناقض الدين وحاول فتنة المسلمين بها فهو ممن حاد الله ورسوله، وقد قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ {المجادلة:5} ، ومروجو هذه الفتن مصيرهم بينه سبحانه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {المجادلة:20} ، قال الشيخ ابن السعدي: هذا وعيد لمن حاد الله ورسوله بالكفر والمعاصي، أنه مخذول مذلول، لا عاقبة له حميدة، ولا راية له منصورة. انتهى.
وأسوأ فتن الشهوات.. إشاعة الفواحش في المجتمع وقد توعد الله من فعل هذا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النور:19} ، وهذا الوعيد لمن أحب فقط، فكيف بمن سعى ونشر ودعا وزين هذه الفتن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا، بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضى عمل قوم حشر معهم، كما حشرت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب معهم.
فمن هذا الباب قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها، مثل القواد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة، لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك.. مثل المغنين، وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين، خلاف ما إذا كانت قليلة خفيفة خفية، ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى معصية الله وينهي عن طاعته منهي عنه محرم، بخلاف عكسه فإنه واجب. انتهى من مجموع الفتاوى.
ألا فليتق الله من اتخذ هذا النهج سبيلاً، أو من مكن له ممن في يده إزالة الفتنة، ولكنه يتركها أو يساهم فيها، وليعلم هؤلاء جميعاً أن عاقبة ذلك الندم، وزوال النعم، قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {النحل:112} ، وللفائدة تراجع في ذلك الفتوى رقم: 34957، وفيها واجب المسلم لدرء الهجمة على العفاف، والفتوى رقم: 52925 ففيها بيان أن حب إشاعة الفاحشة في المؤمنين محرم، ونسأل الله أن يرد كيد الكائدين للمسلمين في نحورهم، وأن يجنب المسلمين شرورهم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 جمادي الأولى 1430(9/3975)
تحدث الزوجين عما عملا قبل زواجهما من طاعات
[السُّؤَالُ]
ـ[يقضي الزوجان فترات جلوس طويلة، وقد يحكي كل منهما للآخر عن مواقف مر بها قبل وبعد الزواج من باب الفضفضة، أو لكي يعرف كل منهما طبيعة الآخر. فعندما يذكر أي منهم عملا صالحا (مثل صدقة أو صلاة أو بكاء من خشية الله) هل يعتبر ذلك من الرياء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن حديث المسلم عما وفقه الله من العمل الصالح لا يعد من الرياء إن لم يقصد بالإخبار بذلك تحصيل منفعة دنيوية أو مدح الخلق، ويدل لذلك عموم الأمر بالتحدث بالنعم في قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {الضحى:11} فقد ذكر ابن العربي في تفسير الآية أن الحسن فسرها بقوله: إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك. اهـ
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 جمادي الأولى 1430(9/3976)
علامة الصلاة في الوجه هل هي دليل على صلاح الإنسان
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد ظهرت قبل شهر أو شهرين علامة السجود على جبهتي، ولكن ليس الذي أعرفه عند الناس الصالحين والمؤمنين والمكثرين للسجود. والصراحة راحة يا شيخ: أنا بعيد عن الصلاة.. أصلي يومين وأجلس شهرا لا أصلي- والعياذ بالله- لا أعلم ما السبب ولكن العلامة التي ظهرت لي خط طويل أسود خفيف ما بين الرمشين إلى الشعر، وليس العلامة الدائرة المعروفه لدى الناس، لذلك هل هو من الصلاة أو من ماذا بالضبط يا شيخ؟ وأتمنى أن تذكر الأعمال والواجبات، والمنكرات لظهور هذه العلامة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الأثر الحسي الذي يكون على وجه الإنسان من السجود ليس هو السيما التي ذكرها الله تعالى في صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ. {الفتح:29} . ... ولا تعتبر هذه العلامة دليلا على صلاح الإنسان أو عدمه، بل المقصود بذلك ما يظهر على وجه المصلي المخلص لله الخاشع في صلاته القائم بما أوجبه الله عليه التارك لما حرمه عليه، وهذه السيما هي ما يظهر على الوجه من السمت الحسن والخشوع والوقار والتواضع، كما تقدم بيانه في الفتوى رقم: 28034.
وكان الأجدر بالسائل الكريم أن يكون اهتمامه بالمحافظة على صلاته، التي هي عماد الدين، وليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا تركها، وقد تقدمت لنا نصيحة في المحافظة على الصلاة، وبيان عقوبة تاركها في الدنيا والآخرة، في الفتويين: 4307، 6061. فراجعهما لزاما.
والذي عليك الآن أن تبادر بالتوبة النصوح من ترك الصلاة، وأن تجتهد في قضاء الفوائت على الفور - كما هو اختيار جماهير العلماء - بحسب استطاعتك، سواء كان ذلك ليلا أو نهارا, مع مراعاة الترتيب بين الفوائت، وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 20354، 12700، 21894.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/3977)
حرمة الخيانة وبيان عقوبتها في الآخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[لي شريك في التجارة، خان الأمانة معي وهرب من البلد المقيم فيها، واختفى بهروبه مبلغ ضخم جدا من المال علما بأن الأموال هي أمانات للناس مما تسبب بمشاكل كبيرة لي، كوني بقيت أواجه هذه المصيبة، علما بأن أهلي باعوا المنزل الذي يسكنونه وتم هجرتهم من المدينة. ماهو حكم الشرع في هذا الخائن. ولو استطعت أن أستحصل منه قسما من المال لي حرام.علما بأني بعت المحلات وتجارتي وسددت قسما من الدين، ولا أملك حاليا ما أعيش أنا وعائلتي المهجرة. وهل يجوز قتله (شرعا) علما بأنه خانني للمرة الثالثة لكن بمبالغ قليلة. وبارك الله من هدانا إلى الصواب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد نهى الله تعالى عن الخيانة، وأمر سبحانه بأداء الأمانة ومدح المؤمنين بذلك، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {لأنفال:27} . وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {النساء:58} وقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {المؤمنون:8} .
والخائن وإن استطاع أن يفر من عقوبة الدنيا فهو عرضة لأنه يفضح في الآخرة بقدر غدره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان. رواه الشيخان.
قال ابن حجر في (الفتح) : أَيْ عَلَامَة غَدْرَته؛ وَالْمُرَاد بِذَلِكَ شُهْرَته وَأَنْ يَفْتَضِح بِذَلِكَ عَلَى رُءُوس الْأَشْهَاد، وَفِيهِ تَعْظِيم الْغَدْر سَوَاء كَانَ مِنْ قِبَل الْآمِر أَوْ الْمَأْمُور. انتهى.
وراجع في تعريف الخيانة وحكم الخائن وكيفية التصرف معه، الفتاوى ذات الأرقام التالية: 70876، 17344، 16938.
أما قتل الخائن فلا يجوز برغم خيانته؛ فإن قتل النفس لا يباح إلا بإحدى ثلاث، بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. متفق عليه.
ثم على تقدير استحقاق المرء للقتل، فإن إقامة الحد لا توكل إلى آحاد الناس، بل ذلك إلى السلطان أو نائبه، كما نص عليه أهل العلم.
وأما أنت فلا يسعك إلا أن ترفع أمرك للقضاء الشرعي لاستيفاء حقك. كما سبق بيانه في الفتويين: 100536، 72397. فإن القتل شأنه عظيم وإثمه كبير.
قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {النساء:93} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء. متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دما حراماً، فإذا أصاب دما حراماً بلح. رواه أبو داود، وصححه الألباني. ومعنى (معنقاً) أي خفيف الظهر سريع السير. ومعنى (بلح) أي أعيا وانقطع.
وأما حكم الحصول على شيء من المال من هذا الخائن، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه، ولو قهرا أو دون علمه، ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم، بشرط أن لا تزيد على حقك. وهذه المسألة تعرف بمسألة الظفر، وقد سبق بيانها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 8780، 6022، 28871.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 جمادي الأولى 1430(9/3978)
الصبر على تحصيل مراتب الإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة التزمت الحمد لله بالزى الشرعي، والتحقت بمعهد إعداد دعاة لطلب العلم. ومنذ وقت بعيد وأنا مشتركة في حلقة قرآن. والحمد لله جاهدت نفسي على قيام الليل والتسبيح وقراءة وردي يوميا. ولكني لا أشعر بثمرة هذا الالتزام. ولا يستجاب لدعائي. فهل هذا دليل على غضب من الله علي، أو أنه لم يقبلني؟ وما الذي يجب أن أفعله وأستزيد منه حتى أستطيع الحصول على رضا الله سبحانه وتعالى وأشعر بالقرب منه.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي من عليك بنعمة الهداية والتوفيق، ونسأله سبحانه أن يزيدك ثباتا وتقوى.
وأما ما تشعرين من عدم وجود ثمرة لهذه الطاعات وعدم استجابة الدعاء، فإنا نوصيك بعدم الاستعجال في ذلك، فإن صلاح القلب واستقامته وطمأنينته بذكر الله وعبادته أمر ليس بالسهل اليسير، ولا بد من الصبر على ذلك ومجاهدة النفس أوقاتا طويلة وأزمنة مديدة حتى يتمكن الإيمان من القلب، وتأملي حال السلف رحمهم الله فقد أتعبوا أنفسهم في تحصيل مراتب الإيمان أيما تعب، حتى انقادت نفوسهم للحق وقرت عيونهم بالطاعة، يقول أحدهم: كابدت قيام الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى.
وإن من أعظم الآفات التي تعرض للسائر إلى الله جل وعلا آفة التعجل في طلب النتائج، سواء في صلاح قلبه أو في إجابة دعوته، وما يترتب عليها من الاستحسار وترك العمل، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا في مثل قوله: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي. رواه البخاري ومسلم. وفي مثل قوله: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. رواه مسلم.
قال ابن القيم: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله.
واعلمي أيتها السائلة أنه لا تلازم بين عدم تحقق مطلوب الداعي وبين قبول دعائه، فإن الله تعالى يستجيب الدعاء ويقبله ويعظم الأجر لصاحبه، ولكن قد لا يحقق له مطلوبه، وقد سبق لنا تفسير ذلك في الفتوى رقم: 117689، فراجعيها.
وراجعي شروط إجابة الدعاء وآدابه في الفتوى رقم: 11571.
ثم ننصحك في النهاية بأن تراجعي نفسك وتدققي في محاسبتها، فقد تكون هناك معصية ما أو آفة خفية، تحول بينك وبين ما تأملين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 جمادي الأولى 1430(9/3979)
هل يشترط في توبة المرتد الإقلاع عن كل الذنوب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من فعل أشياء كفر تخرجه من الملة يجب عليه للعودة إلى الإسلام أن يقلع عن كل ما حرم الله حتى يقبل إسلامه، يعني يجب أن لا يعمل حراما قط حتى يقبل إسلامه بعد ذلك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أحدا من أهل العلم ذكر أن ذلك شرط في قبول توبة المرتد، والله جلا وعلا يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر: 53} .
ثم إن العصمة من الذنوب ليست لأحد من البشر حاشا الأنبياء، وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. {آل عمران: 135} . وقال أيضا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ. {الأعراف: 201} .
قال السعدي:
لما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب، تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه. اهـ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نساء، إذا ذُكِّر ذَكَرَ. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: الذنب للعبد كأنه أمر حتم؛ فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. اهـ.
وراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 8927، 37185، 5450، 29785.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 جمادي الأولى 1430(9/3980)
أما ترضون أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن 3 بنات وشاب، الحمد لله متدينون وعلى خلق كريم ونحتل مراكز مرموقة، وأعمارنا تتراوح من 30 سنة وحتى 36 سنة لم نتزوج حتى الآن ولا يتقدم لنا أحد، لعل هذا ابتلاء من الله ولكن منذ أيام تم الإعلان عن زفاف مغنية من رجل أعمال ملياردير بتكلفة فرح 88 مليون جنيه بخلاف مهرها وشبكتها وما إلى ذلك. سؤالي: هل العري والسفه يقدر بل ويسعى الجميع للمنافسة على الفوز به، وبنات الناس المحترمة واللاتي يحافظن على أنفسهن لا يقدرن. هل هناك حكمة وراء ذلك لأن هذه المرأة مثال لكثير من المغنيين والممثلات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنذكر السائلة أولاً بركن الدين العظيم وعماده القويم ألا وهو الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء ثقة بالله وبعلمه وحكمته وتوكلاً عليه سبحانه، فإن الله سبحانه قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. {الفرقان:2} . وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا. {الأحزاب:38} .
فعلى العبد أن يعلم علم اليقين أن ما قدره الله له هو الخير المحض، وأن يكف النفس عن البحث فيما وراء ذلك فإن هذا مما استأثر الله بعلمه. يقول الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
وليتذكر العبد أن هذا الباب كان من أسباب ضلال إبليس عندما فضل الله عليه آدم فاعترض على ربه وصار من الكافرين، فقال: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. يقول الطحاوي رحمه الله: فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في محض الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً. انتهى.
والزواج وإن كان من نعم الله سبحانه على عباده إلا أن تيسيره للعبد ليس دليلاً على حب الله له أو كرامته عليه، كما أن تأخره ليس دليلاً على هوان العبد على ربه، فها هم الكفرة المشركون يتزوجون ويرزقون الذرية، ويتنعمون بأنواع الملاذ في الدنيا ثم يستعملون هذا كله في الكفر بالله وحربه وحرب دينه وأوليائه، ثم الله يزيد لهم في المال والولد إملاء واستدراجاً، وهذا من هوان الدنيا على الله سبحانه أن يحرم منها أولياءه، ويكيل منها لأعدائه كيلاً، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
ولو تأملت أيتها السائلة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على ربه لرأيت تصديق هذا، فقد لاقى من ضيق العيش وشدته ما لا يصبر عليه غيره، وقد كان يمضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة وطعامه وطعام أهل بيته لا يزيد على التمر والماء، وكان ينام على الحصير الخشن حتى يؤثر ذلك في جنبه، ولو شاء لسأل الله أن يجعل جبال مكة له ذهباً. فمعيار الكرامة على الله ليس بسعة الدنيا ولا بضيقها، قال سبحانه: فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كلا. {الفجر:15-16} . قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: يقول تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، قال الله (كلا) أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر.
وفي النهاية نوصيكن جميعاً بتقوى الله والمداومة على ذكره وشكره، ثم الإكثار من الدعاء أن ييسر الله لكن الزواج وأن يبارك لكن فيه، فإنه سبحانه بيده خزائن الرحمة والبركة، وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة وبلية تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة، فلا ضيق مع رحمة الله إنما الضيق في إمساك رحمته عن عبده. فإن الله يرزق عبده أو أمته الزواج مع رحمته وبركته فإذا الزواج مودة ورحمة وسكن وألفة، فإذا أمسك عنهم رحمته فإذا الزواج همّ عميم وعذاب أليم، ولا تزال الخلافات والمشكلات بين الزوجين وأهلهما وأولادهما حتى ينتهي الأمر بالطلاق والفراق. ويهب الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته عنها فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار.
وكل النعم والعطايا تتغير وتتبدل من حال إلى حال حسب انفتاح رحمة الله أو إمساكها، قال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. {فاطر:2} .
ولا تغتري بحال العصاة المسرفين على أنفسهم فإنهم وإن كانت حياتهم في الظاهر فرحاً وسروراً إلا أنها في حقيقة الأمر لهو ووحشة ونفور، وإن ذل المعصية في رقابهم لا يفارقهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 جمادي الأولى 1430(9/3981)
التائب هل يشرع له طلب المسامحة من زوج من زنى بها
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل متقدم في السن أراد حج بيت الله الحرام، وقبل ذلك أراد أن يتسامح مع الناس ويرد المظالم إلى أهلها، فذهب إلى رجل في مثل سنه فطلب منه السماح، ولم تكن بينهم أية معاملة أو عداوة، فسأله الرجل فيم؟ فأخبره الأول بأنه في شبابه زنى مع زوجته، فاندهش الرجل الثاني، ثم قال للأول بأنه سامحه، ولكن طلق زوجته في الحين، رغم أنها عجوز، ومر على معصية الزنى زمن طويل. فهل ما فعله الرجل الأول من إخبار الآخر عن واقعة الزنى مع زوجته صواب أم خطأ؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن هذا الرجل قد أخطأ حين فضح هذه المرأة عند زوجها، وأخبره بفجوره بها، وهو مطالب شرعا بالستر على نفسه وعليها ففي الحديث: يا أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحتة نقم عليه كتاب الله. رواه مالك في الموطأ.
وفي الحديث: من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة. رواه مسلم.
والتوبة من الزنى لا تتوقف على طلب السماح من زوج المزني بها أو وليها، ويكفي الزاني التوبة النصوح.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 جمادي الأولى 1430(9/3982)
ثمرات التفكر في خلق الكون
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي قيمة النظر في جمالية الكون؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالنظر في جمال الكون والمخلوقات هو من التفكر في خلق الله عز وجل وجميل صنعه، وثمراته كثيرة ومنها:
إدراك عظمة الخالق سبحانه وبديع قدرته وعجيب صنعه وإتقانه، فلا فلتة ولا مصادفة ولا خلل ولا نقص كما قال سبحانه: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ {النمل: 88} .
ومنها: زيادة الإيمان: فالتفكر يستدل به المرء على ما لله من صفات الكمال والجلال، ويعلم أنه لا يخلق أحد كخلق الله ولا يدبر كتدبيره سبحانه وتعالى، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر الله به عن نفسه ووحدانيته، قال ابن العربي: أمر الله تعالى بالنظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادة في اليقين وقوة في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد، قيل لأبي الدرداء: أفترى الفكر عملا من الأعمال؟ قال: نعم هو اليقين. فالتفكر طريق العبد إلى اليقين، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {الأنعام:75} .
وقال بعض السلف: مازال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم حتى أيقنت قلوبهم بربهم.
ومنها: أن التفكر في جمال الكون وإتقانه يجعل الإنسان يدرك أن الله خلقه لأمر عظيم وهو عبادته وحده لا شريك له، وأنه سبحانه لم يخلق مثل هذا الكون الفسيح المتقن ليعبث الإنسان أو يعبد غير الخالق، بل إن المتأمل لخلق الإنسان ابتداء وانتهاء، والناظر فيما اختصه الله به من عقل وإرادة، يدرك أنه إنما خلق لأمر عظيم، قال تبارك وتعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ {الذاريات:21} قال قتادة رحمه الله: من تفكر في نفسه عرف أنما لينت مفاصله للعبادة.
ومنها: أن التفكر من صفات العلماء ومن أعظم العبادات التي تقود إلى الخشوع لله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {فاطر: 27-28}
ومنها: أن هذا التفكر بحد ذاته عبادة من أجلّ العبادات أمر الله بها وذم من غفل عنها، كما قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ {يونس:101} ، وقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ... {الأعراف: 185} ، وقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... {سبأ: من الآية9} ، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ {يوسف:105} .
ومنها: أن التفكر مما يزيد التقوى ويرسخ الإيمان، قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. {يونس:6} . وقيمة التفكر وثمراته لا يمكن حصرها في هذه الفتوى، وننصح للاستزادة في موضوع التفكر بمراجعة كتاب: مفتاح دار السعادة. لابن القيم رحمه الله، والفتاوى ذات الأرقام التالية: 6342، 38365، 69768، 46174، 113672.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 جمادي الأولى 1430(9/3983)
خطوات عملية تزيد من تمسك الشباب بالدين
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نعمر وجدانية الشباب على تعاليم الدين وما حكم هذا الموضوع؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس من شك في أن تعمير وجدان الشباب بتعاليم الدين أمر مطلوب في الشرع، فالشاب الناشئ في عبادة الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظله إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
والسبيل إلى تعمير وجدان الشباب بهذا الدين هو تقوية صلتهم بالله تعالى، وحضهم على استشعار مراقبته دائماً، وأن يوضع في برامجهم الدراسية كثير من نصوص الوحي التي تعظم الله في قلوبهم وترسخ محبته فيهم، وتحبب إليهم طاعته وترهبهم من معصيته، وتوضح لهم قيمة المسلم وأهمية احترامه والبعد عن إذايته والاعتداء عليه، وتوضح لهم أهمية التحابب في الله والصفح عن المسيء والحلم والعفو عنه، ومن الخطوات العملية المعينة لكل شاب على ذلك:
أولاً: الصدق في طلب الهداية، فإن من صدق مع الله تعالى صدقه الله.
ثانياً: التوبة والندم على ما سلف، وسؤال الله تعالى الثبات والحفظ في المستقبل.
ثالثاً: سؤال الله الثبات دائماً، والصواب في العمل.
رابعاً: الإكثار من قراءة القرآن بتدبر، لأن هذا القرآن له أثر كبير على القلب، إذا قرأه الإنسان بالتدبر.
خامساً: الحرص على زيادة الإيمان بالإكثار من الطاعات، بعد المحافظة على الفرائض، والاستعاذة من العجز والكسل.
سادساً: التزود بالعلم النافع ليكون السير على بصيرة، ولأن العلم عون على دفع الشبهات.
سابعاً: البدء بالسير، ومن الله التيسير، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {الليل7} .
ثامناً: نصح نفسه حينما تؤثر هذه النفس عليه وتقول له: إن المدى بعيد، والطريق طويل، فلينصح نفسه وليثبت فالجنة حُفت بالمكاره، والنار حُفت بالشهوات.
تاسعاً: الابتعاد عن قرناء السوء، لأن قرناء السوء يؤثرون عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة.. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة. انتهى.
عاشراً: عدم الالتفات إلى سخط الخلق، وليكن المأمول رضى الخالق، فقد ثبت في صحيح ابن حبان بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من التمس رضى الله سبحانه بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
الحادي عشر: اليقين بأن هذا هو سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، وأن مفارقته سبب شقاء الدارين ... هذا ولا شك أن التزام الشباب بتعاليم الدين باطناً وظاهراً أمر واجب، قال تعالى: خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ {البقرة:93} ، وقال لموسى عليه السلام: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا {الأعراف:145} ، وقال سبحانه ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ {مريم:12} ، ودعوتهم إلى ذلك واجب على الكفاية.. قال تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {آل عمران:104} ، وإذا كانت هذه الآية تتناول جميع الناس، فلا شك في دخول الشباب في ذلك دخولاً أوليا، وذلك لأهمية صلاحهم فبصلاحهم تصلح الأمة فهم عصب الأمة ومستقبلها، ويراجع للمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 21750، والفتوى رقم: 115348.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الأولى 1430(9/3984)
الموازنة بين الحقوق الواجبات
[السُّؤَالُ]
ـ[أشكو من تفريطي في حق الله سبحانه وتعالى عندما تكون زوجتي وأولادي معي في بلاد الغربة, فالعمل يهلكني في الصباح وبعد أن أرجع للبيت أنشغل بمطالب الأولاد والزوجة ويأتي علي الليل وقد أنهكت قواي، وكل ما أفعله هو الصلوات ورواتبها وبعض السنن والأذكار الخفيفة، وهكذا كل يوم حتى أنني أحس بالحزن العميق أن عمري يفنى في هذه الملهيات، كما أني أحس بجفاء وبعد عن الله، ولكن إذا سافرت الزوجة والأولاد أبدأ بالاجتهاد في العبادات وأبدأ بالإحساس بالقرب من الله، فكيف أوازن بين الأهل والأولاد والقرب من الله، وهل إذا نويت أن خدمتي لزوجتي وأولادي تكون خالصة لله (حتى الجماع أفعله وأنا مرهق لكني أفعله حتى أعطي لزوجتي حقها في ذلك) ، فهل أتحصل على نفس أجر العبادات والنوافل التي تقل بوجودهم وكيف أزيل عن نفسي هذا الحزن الذي ينتابني بانقضاء عمري ووقتي في ملهيات الحياة دون أن أتقرب إلى لله في يومي بشيء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على المسلم أن يوازن بين واجباته المختلفة، ويتجنب الإفراط في بعض الواجبات على حساب البعض، ففي الحديث الذي رواه البخاري: قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء: إن لنفسك عليك حقاً ولربك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك، فقال له: صدق سلمان. ولا شك أن العبادة ليست مقصورة على الصلاة والذكر ونحو ذلك، وإن كان ذلك من أعظم أنواع العبادة، إلا أن مفهوم العبادة يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من أعمال القلوب والجوارح، قال الحكمي:
ثم العبادة هي اسم جامع * لكل ما يرضى الإله السامع.
والقيام بواجبات الزوجة والأولاد والإحسان إليهم من العبادات التي يحبها الله ويثيب عليها ثواباً عظيماً، فقد ورد في الشرع أن أجر النفقة على الأهل من أعظم الأجور، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك. صحيح مسلم.
. بل -كما ذكرت- فإن الجماع مما يؤجر عليه العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:.. وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر. صحيح مسلم.
كما أن الإحسان في معاملة الأهل من حسن الخلق وهو من أفضل الأعمال عند الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق. رواه الترمذي وصححه الألباني..
بل إن الخلق الحسن يوصل العبد لما قد يدركه بالعبادات الشاقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. رواه أبو داود وصححه الألباني.
فإذا كنت حال وجود أهلك تنشغل بحقوقهم عن الاجتهاد في بعض أنواع العبادات فذلك لا يستدعي الحزن والكآبة لأن هذه الأمور التي تشغلك هي أيضاً من العبادات التي تثاب عليها، وانظر في ذلك الفتوى رقم: 58107.
أما قولك إنك تشعر بجفاء وبعد عن الله فذلك الذي يستدعي منك وقفة مع نفسك ومراجعة لحالك، والذي نوصيك به في ذلك الأمر أن تحرص على الاجتهاد في تصحيح نيتك في أعمالك واحتساب الأجر من الله وحده، وأن تركز على أعمال القلوب من التوكل على الله والخوف والرجاء والشكر والرضا، وأن تحرص على التعاون مع أهلك على الطاعات والاجتماع على الذكر وسماع العلم النافع، ولو لوقت قليل تداوم عليه، وكذلك الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على حسب علمك وقدرتك، مع الإلحاح في الدعاء فإنه من أعظم الأسباب النافعة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 17666، والفتوى رقم: 58107.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/3985)
عسى أن يرد الله عليك زوجتك إن تبت واتقيت
[السُّؤَالُ]
ـ[قصتي أنني كنت لا أصلي ولا أخاف الله، ولا أحمده على نعمته التي أعطاني إياها، وهي العمل الجيد، والفتاة التي كنت أتمناها، وقد خطبتها وكتبت كتابي عليها، وكنت أسعد الناس مع أهلها ومعها بالاتفاق على كل شيء، وقبل الزواج بشهرين أصبحت إنسانة أخرى، وأصبحت لا تطيقني لأسباب تافهة جدا، وكأنها ليست هي من أحببت وانفصلنا من بعدها، وعدت إلى ربي لأستغفره من ذنوبي وعرفت أنه عقاب من الله، فاستغفرت وحمدت الله وتبت توبة لله نصوحة لا رجعة فيها إن شاء الله، وأدعو ربي كل يوم وكل ساعة، وأكثر من الصلاة والنوافل والصدقات وفعل الخير والبعد عن المنكر؛ أن يجمعني بها مجددا بالحلال لأحمده حمدا كثيرا، وإني والله من التائبين.
سؤالي: هل يعيد الله الحال على ما كان عليه بيني وبينها بعد توبتي وحمدي وصبري؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة ووفقك للأوبة والإنابة إليه سبحانه.
واعلم أيها السائل أنك إن صدقت الله في توبتك، وأخلصت له فيها، فإنا لنرجو الله جل وعلا أن يوفقك في أمر زواجك، وأن يرد عليك زوجتك ردا جميلا، وأن يصرف عنكما الهم والغم والخلاف والشقاق، فكل هذا من آثار المعاصي ونتائجها السيئة.
ثم نوصيك بالرقية الشرعية المبينة بالتفصيل في الفتاوى رقم: 22104، 4310، 2244، 80694، فربما كان للسحر أو الحسد دور فيما حصل بينك وبين زوجك.
فإن أخذت بهذه الأسباب مع الإلحاح على الله في الدعاء، ولم يحصل ما تتمنى من الألفة بينك وبين زوجتك، فاستسلم حينئذ لقضاء الله وقدره. واعلم أن ما قدره الله خير لك، فإن الله سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن إلا الخير، وراجع في ذلك الفتاوى رقم: 116408، 25874، 47818.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 جمادي الأولى 1430(9/3986)
الطريق إلى تحقيق محبة الله ورسوله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب مسلم، وملتزم بالصلوات، وملتح والحمد لله، وهذه الصفات لست أباهي بها، ولكن لكي يكون الأمر معلوما لدى فضيلتكم.
إني أواجه مشكلة في فهم محبة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه المشكلة هي أنني أتحاور مع نفسي في بعض الأوقات وأقول لماذا أحب الله وأنا أعبده لكي يدخلني الجنة ويخلصني من النار، وهو الذي خلقني؟ ولماذا (لماذا هنا ليست ردا لوجوبية حب الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمرنا بها في القرآن ولكن لفهم السبب) أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد من عباد الله وقد دعانا إلى الإسلام، وبماذا أستفيد من حبه؟ وماذا يستفيد من حبنا هو صلى الله عليه وسلم؟
كيف يكون الحب لله ولرسوله مع العلم أنني أعلم أن الطاعة هي الحب بذاته، ولكني لا أشعر ولا أحس بالحب في قلبي مع أني أفعل الطاعات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العبد مجبول على التواضع للعظمة ومحبة الكمال وأهله، وهو كذلك مفطور على محبة من أحسن إليه لا سيما مع غناه عنه.
وبأدنى تأمل في مخلوقات الله تعالى وآياته المبثوثة في الكون، وكذلك بالتفكر في أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله المثلى، يدرك العبد بسلاسة ويسر أن العظمة والكمال المطلق ثابت لله تعالى من كل وجه. وأنه ما من نعمة حصلت وما من نقمة دفعت إلا بفضل الله ورحمته.
ولا شك أن هذا يورث العبد محبة الله والإخبات بين يديه والإنابة إليه. فإن جمع إلى ذلك التدبر لكتاب الله وآياته المتلوة وقف على أرض صلبة من صدق المحبة لله تعالى، العظيم الحليم، الغني الكريم.. سبحانه وبحمده. وذلك أن محبة الله تعالى فرع لمعرفته، فلا يمكن أن نحب الله عز وجل دون أن نعرفه، كما لا يمكن أن نعرفه معرفة حقة ثم لا نحبه، لذلك ينبغي أن تكون بداية السائل هي التعرف على الله تعالى، ولا سبيل إلى معرفته عز وجل أقصر ولا أيسر، ولا أنفع ولا أرفع، من التعرف عليه من خلال كلامه سبحانه، فمن تدبر كتاب الله، وتفهم ما فيه من أسماء الله وصفاته وأفعاله أحبه ولا شك؛ فإن محبة الشيء إنما تكون لكماله في ذاته، وكماله في أفعاله.
والله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وأفعاله، وقد سبق بيان ذلك مع بيان الأسباب الجالبة والموجبة لمحبة الله في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 111261، 27513، 71891.
وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتم الإيمان إلا بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. رواه الشيخان. وهذه المحبة هي أيضا فرع عن معرفة مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه، وقدره في نفسه، وأثره في أمته، فينبغي للسائل الكريم كثرة القراءة في السيرة النبوية والشمائل المحمدية، ولذلك ننصح بالرجوع إلى عنوان (شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم) في العرض الموضوعي للفتاوى. ويمكنك أن تراجع في ذلك الفتويين رقم: 12185، 6667.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/3987)
محاسبة النفس من أجل الطاعات
[السُّؤَالُ]
ـ[أشكو من ثقل الأعباء والمسؤوليات التي في عنقي من الأولاد والزوجة والعمل والأب والأم والأهل والناس، وأشعر دائما بحزن عميق ورعب شديد كلما أتخيل أن الله سياحسبني على هذه المسؤوليات جميعا، فما النجاة أثابكم الله لأني أغتم لذلك غما شديداً ولا أفعل شيئاً سوى الحزن لأني لا أستطيع الوفاء بما علي من حقوق لهؤلاء جميعا، فمثلا الأولاد أحس بالتقصير في تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة لأني أعتني بأكلهم وشربهم لضعف صحتهم وهذا يأخذ مني وقتا ومجهودا كبيرا، كذلك الزوجة لا أعلمها العلم الشرعي إلا إذا دعت الضرورة بوجود موقف ما، بل حتى لا أعطيها حقها في الجماع لدرجة أنها بدأت هي التي تطلب، وكذلك أبواي لا أستطيع أن أحمل عنهما ما هما فيه من مشاكل وهموم وأعباء، فارشدوني آثابكم الله هل أنا بذلك مقصر وسياحسبني الله على ذلك مع العلم بأنني بالفعل مرهق في حياتي بدنيا ونفسيا ولا أستطيع حمل عبء نفسي فما بالك بعبء غيري، وهل هناك عمل أداوم عليه ينجيني من تلك المحاسبة، فأفيدوني أثابكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الذي تشكو منه من أنك دائم المحاسبة لنفسك لهو أمر حسن جميل، والواجب على العبد دائماً أن يكون حاله كذلك، فذلك علامة الإيمان وحياة القلب، وهذا هو دأب الصالحين وعادة عباد الله المتقين، جاء في كتاب إغاثة اللهفان لابن القيم رحمه الله: وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، وذكر أيضاً عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين وماذا أردت تأكلين وماذا أردت تشربين، والفاجر يمضي قدماً قدماً لا يحاسب نفسه، وقال قتادة في قوله تعالى وكان أمره فرطا: أضاع نفسه وغبن مع ذلك تراه حافظاً لماله مضيعاً لدينه، وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته، وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك. انتهى.
فكيف تطلب إذا أيها السائل الفرار من هذه الطاعة العظيمة، لكن الذي ننبهك عليه هو أن تستثمر هذا الأمر استثماراً إيجابياً ليكون حاملاً لك على المسارعة إلى رضوان الله وطاعته، والفرار من معصيته، لا أن يكون دافعاً لك لليأس والقنوط فإن هذا من مكر الشيطان وكيده لك ... والإنسان إنما خلقه الله في هذه الحياة الدنيا للابتلاء والاختبار، ولا بد من مجاهدة النفس على أداء الحقوق وفعل الواجبات، ولا يكلفك ربك إلا وسعك، فإن بذلت وسعك وطاقتك في تربية أولادك والبر بوالديك وتعليم زوجك ونصحها وإعطائها ما يجب لها من حق ومجاهدة نفسك في تعلم الخير والعمل به فقد أديت ما عليك -إن شاء الله- وسيكون لك عون من الله سبحانه إذا رآى في قلبك الخير وعلم من نيتك الإخلاص والصدق، قال سبحانه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى {مريم:76} ، وقال جل شأنه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ {محمد:17} ، ومما يعينك على ذلك الإكثار من ذكر الله جل وعلا، فإن الذكر له أثر عجيب في تقوية القلب والبدن، وقد دل النبي صلى الله عليه وسلم ابنته الكريمة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها لما جاءته تشتكي ما تجده من أثر العمل بالرحا وتطلب خادماً فلم تجده فجاءها النبي في بيتها وقال لها ولزوجها: ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم. متفق عليه.
فسدد أيها السائل وقارب ووازن بين الحقوق فأعط كل ذي حق حقه فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولوالديك عليك حقاً ولولدك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً، وراجع حقوق الزوجة والأولاد في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 21921، 10574، 99047، وراجع حق الزوجة في الجماع خاصة في الفتوى رقم: 75228.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/3988)
وقوع العبد في المعاصي لا يستلزم انعدام محبته لله بالكلية
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب في المرحلة الجامعية، أحب الله ورسوله إلا إنه يوجد بي داء مهلك ومحبط للأعمال، وهو أني لما أخلو بنفسي على النت مثلا تأتيني الأفكار الشيطانية، وأدخل إلي بعض المواقع التي لا يرضاها الله ولا رسوله، وبعدها أشعر أني كنت في غيبوبة كيف فعلت هذا مع أني محب لله ورسوله؟
بل إني أستحي من الناس ولا أستحي من الله، ووالله إني أجاهد نفسي كثيرا، وأكون مترددا في مشاهدة تلك الخبائث، لكن تغلبني شهوتي فهل محبتي ادعاء؟ وهل توبتي إلى الله غير صادقة؟ لأني في كل مرة أتوب لكن أرجع هل أنا خبيث أم طيب؟ أنا لا أعلم لكن كل ما أعلمه أني أحب الله ورسوله مع العلم بأني كنت معارضا إدخال وصلة النت إلى البيت لكن أبي سامحه الله وافق إخوتي وأني أجلس والله الزمن الطويل في حالة شد وجذب مع نفسي ومجاهدة على أن لا أجلس على النت وحدي لكن في النهاية أستسلم وأدخل إلى ما لا يرضاه الله ولا رسوله، والله قبل أن تكتمل الصفحة الخبيثة أغلق النت لكن وجود مثل هذا الخبث داخلي يحتاج إلى علاج.
أنا منافق مرائي لأني لا أستطيع أن أفعل هذا أمام الناس، بل إني مشتهر بينهم بالصلاح.
أفيدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتك على الصراط المستقيم، وأن يعصمك من الشيطان الرجيم، ويعيذك من شر نفسك وسيئات أعمالك.
وأما محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهي على درجات متفاوتة، وإذا تغلغلت هذه المحبة في عروق العبد وأوصاله، أحرقت محبة ما سواها في قلبه، وقطعت علائقه بغير مولاه، فصار يقدم محاب الله على حظوظ نفسه دائما.
ووقوع العبد في المعاصي لا يستلزم انعدام محبته لله بالكلية، وإنما يدل على نقصانها ويقدح في كمالها، وإلا فإن رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله. والقصة مذكورة في صحيح البخاري. فأثبت النبي عليه الصلاة والسلام له محبة.
وأما معاودة الذنب بعد التوبة، فلا يقدح في صدق التوبة عند الأكثرين.
قال ابن القيم رحمه الله: هل يشترط في صحتها (يعني: التوبة) أن لا يعود إلى الذنب أبدا؟ أم ليس ذلك بشرط؟ فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب وقال: متى عاد إليه تبينا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة. والأكثرون على أن ذلك ليس بشرط، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن كانت في حق آدمي: فهل يشترط تحلله؟ فيه تفصيل ... فإذا عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية، ولم تبطل توبته المتقدمة. (مدارج السالكين) .
ولكن احذر يا أخي أن تركن إلى ذلك، فقد لا توفق للتوبة مرة أخرى؛ فإنك لا تستطيع أن تتوب إلا بإذن الله جل وعلا، فهو المتفضل عليك أولا بتوفيقك لها، ثم هو المتفضل عليك آخرا بقبولها منك.
قال ابن القيم رحمه الله: وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من الله، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولا: إذنا وتوفيقا وإلهاما، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيا: قبولا وإثابة (مدارج السالكين)
فإذا وفقك الله إلى توبة صادقة، فاشكره عليها ولا تغتر بحلمه، وتستمرئ معصيته.
وأما عن سؤالك: هل أنا خبيث أم طيب؟ فإنا لا نستطيع الإجابة عليه بإطلاق، فقد يجتمع في القلب من هذا ومن ذاك، فيكون لما غلب عليه منهما.
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: القلوب أربعة: قلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه مثل سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق كمثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلب. رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وصححه الألباني موقوفا على حذيفة رضي الله عنه.
وعليك يا أخي بالاستمرار في مجاهدة نفسك ولا تيأس. قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت:69} وقف على بابه وانطرح بين يديه، وأكثر من التضرع والابتهال إليه؛ فإن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين. واقترب منه وواصل السير إليه؛ فإن الله سبحانه قد قال في الحديث القدسي: إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة. متفق عليه.
وننصحك بالتحرز من الانفراد بقدر الإمكان، وذكر نفسك بالكلمات التالية، اجعلها أو شيئا منها نصب عينيك دائما بالقرب من جهازك أو على سطح المكتب (disk top) (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) {النساء:108} (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) {يونس:61} (الله أحق أن يستحيا منه) .
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل علي رقيب.
ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا أن ما يخفى عليه يغيب.
(الله معي، الله شاهدي، الله ناظر إليّ)
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 جمادي الأولى 1430(9/3989)
الحكمة من الوعيد بالعذاب والعقاب في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو تفسير ما ذكر القرآن بأن غالبية الآيات تتحدث عن العقاب والعذاب لدرجة أن بعض الناس بدأت ترى وتفكر أن ما كتب ليس بصحيح لأن الله ليس بالخالق الشرير وهو لا يريد ظلم وعقاب الناس لأنه قادر على جعلهم يتبعونه إذا أراد وإذا كان ذلك صحيحا فهذا يجعلهم يتخيلونه بوجه شرير خلق الناس فقط ليعذبهم ويضعهم في المعاصي والمهالك ولم يمنعهم من الغلط لأنه قادر على منعهم من الغلط وبذلك فهو يريد فقط عقاب البشر وتعذيبهم ... باختصار بعض الناس يشككون بأن كل ما ذكر هو فقط تخويف البشرية وجعلهم يعيشون بحالة رعب وترقب دائم، وعندما أجبتهم بأنها حكمة الله في العقاب والغفران ولا أحد يعرف إذا كان سيغفر له أو يعاقب سواء كان مسلما أو كافرا كان الجواب بأن الله الذي خلق الكون ونحن غبار هذا الكون لن يفعل هذا بالبشر لأنه لم يخلقنا ليتسلى بنا وقت الفراغ، بل هناك إحدى إجابتين أو هو خلق ليعاقب فقط أو ليس لهذا الكلام أساس من الصحة سوى تاريخ تناقله البشر، سؤالي هو أريد إثباتا علميا ودينيا لهذه الاستفسارات؟ وشكراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2} ، وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2-3} ، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179} ، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} ، وقد سبق الكلام عن الحكمة من خلق العباد مع غنى الله عنهم، ولماذا لم يخلقوا كالملائكة معصومين، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5492، 114255، 44950، 113166، 69481، 33718.
وبناء على نتيجة هذا الامتحان تكون عاقبة الإنسان من النعيم أو الجحيم، والإنسان ليس بمخير بإطلاق ولا مسيراً بإطلاق، فهو ميسر لما خلق له ففعله وإن كان بقدر الله تعالى إلا أن له فيه اختياراً واكتساباً، وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26413، 35375، 95359.
وأما كثرة ورود ذكر العذاب والعقاب والنار في القرآن، فهذا من رحمة الله بعباده ومعونته لهم على تحقيق الاستقامة، حتى يكون العبد على بينة من أمره، وعلم بعاقبته التي سيلقاها إن هو عصى الله تعالى، قال عز وجل: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ {الزمر:16} ، قال ابن كثير: أي إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم، وقوله: يا عباد فاتقون. أي: اخشوا بأسي وسطوتي، وعذابي ونقمتي. انتهى.
وقال السعدي: (ذلك) الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار سوط يسوق الله به عباده إلى رحمته (يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون) ، أي جعل ما أعده لأهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى التقوى وزاجر عما يوجب العذاب، فسبحان من رحم عباده في كل شيء وسهل لهم الطرق الموصلة إليه وحثهم على سلوكها ورغبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس وتطمئن له القلوب وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير وذكر لهم الأسباب الزاجرة عن تركه. انتهى.. وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {آل عمران:30} ، فبين أن تحذيرهم لهم من العقاب دليل على رأفته بهم، وقد سبق أن بينا أن الخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وذلك في الفتوى رقم: 18074.
ثم يجب أن ننتبه إلى أن كثرة ذكر النار وما فيها من أنواع العذاب والعقاب قرين لكثرة ذكر أنواع النعيم المقيم الذي ينتظر المتقين في الجنة، فلا تكاد تجد ترهيباً بذكر النار إلا قريناً للترغيب بذكر الجنة، وبهذا يمتزج الخوف بالرجاء في توازن مثمر في قلب العبد، لا سيما وهو يعلم أن رحمة الله تعالى تغلب غضبه، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 74460.
وقد قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {آل عمران:30} ، قال السعدي: أعاد الله تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة، لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب. انتهى ... وكثيراً ما يقترن بالخوف والرجاء أمر ثالث وهو التذكير بعظمة الله تعالى ونعمه المتكاثرة على عباده، مما يثمر محبة الله تعالى وبهذا تتحقق عبودية الله كما قال تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {غافر:3} ، وقد سبق أن بينا أن عبادة الله لا تتم إلا بالحب والخوف والرجاء، وذلك في الفتوى رقم: 65393.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الأولى 1430(9/3990)
يكن همك الصدق مع الله والتوبة النصوح
[السُّؤَالُ]
ـ[لو سمحتم تساعدوني، لي صديق غره أحد رفاق السوء إلى اللواط وعمره 16 سنة والآن عمره 22سنة وهو تاب إلى الله ولكن لديه مشكلة وهي أن بعض الناس يعرف هذه القصة، وبدأ كل ما يتكلم معه أحد يظن أنه يعرف القصة، ماذا يفعل وما حكم التكلم معه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على هذا الشخص هو الثبات على طريق التوبة إلى الله جل وعلا, وأن يكثر من الأعمال الصالحة المكفرة, ولا يضره بعد ذلك ظن الناس به ولا كلامهم عنه, فإن الناس لا يقدمون ولا يؤخرون ولا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض والله سبحانه هو الآخذ بنواصيهم, فليجعل هذا الرجل محل نظره إلى ما يوصله إلى رضوان الله ومغفرته, ثم ليسع جاهدا إلى تكميل شعب الإيمان فإن الله سبحانه قد وعد أهل الإيمان بأن يجعل لهم ودا في قلوب عباده الصالحين, قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {مريم: 96} , قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله، عز وجل، لمتابعتها الشريعة المحمدية -يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه. وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه.. ثم ذكر رحمه الله حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: يا جبريل، إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيحبه جبريل. قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا. قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. انتهى
وتأمل رحمك الله حال الصحابي الجليل ماعز رضي الله عنه وقد وقع في جريمة الزنا وعلم بذلك أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لما صدق في توبته ورجوعه إلى الله جل وعلا وجعل الله قصته مثلا يضرب في الصدق مع الله والتوبة النصوح, وصار رضي الله عنه يذكر لا بمعصيته ولكن بالثناء عليه بصدق التوبة والإخلاص فيها.
أما حكم هذا الرجل ومعاملته فيعامل مثله كمثل سائر الناس ولا يستقيم أن تظل هذه المعصية تلاحقه طول عمره بعد أن تاب وأناب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الأولى 1430(9/3991)
التوبة من سب المسلم ووصف خلقته بالقبح
[السُّؤَالُ]
ـ[سببت أحد زملائي، وعيرته في خلقه وخلقه، وصفته بأنه اثى مع أني أحبه كثيرا، وهو لا يعرف بأني أنا من شتمه. سؤالي هو كيف أصلح خطئي دون أن يعرف بأني أنا من شتمه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسباب المسلم وإيذاؤه بأي وجه من وجوه الإيذاء حرام، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله. رواه الترمذي وصححه الألباني وقال أيضا: سباب المسلم فسوق. متفق عليه.
وأما التعيير بقبح الصورة والمنظر فإن فيه ذنبا آخر فوق إيذاء المسلم، ألا وهو إيذاء الله جل وعلا، وإساءة الأدب معه، فإن الله هو الخالق المصور، والمرء لا دخل له ولا تصرف في هيئته وصورته، وقد قال رسول الله: ولا تقبح الوجه. رواه أبو داود وحسنه الألباني. جاء في عون المعبود: (ولا تقبح الوجه) بتشديد الموحدة أي لا تقل إنه قبيح أو لا تقل قبح الله وجهك أي ذاتك فلا تنسبه ولا شيئا من بدنها إلى القبح الذي هو ضد الحسن لأن الله تعالى صور وجهها وجسمها وأحسن كل شيء خلقه وذم الصنعة يعود إلى مذمة الصانع انتهى.
والواجب عليك إذ صدر منك ما صدر من إيذاء لهذا الرجل أن تتوبي إلى الله جل وعلا، ثم لا يلزمك أن تخبريه بما كان منك، بل اكتفي بالدعاء والاستغفار له. ونرجو الله سبحانه أن يجعل هذا كفارة لما كان منك في حقه.
والأولى أن تطلبي منه العفو جملة من غير ذكر لما كان منك، وبشرط أن لا يؤدي طلب العفو منه إلى خلوة أو خضوع بالقول أو نحو ذلك.
مع التنبيه إلى أنه لا يجوز إقامة علاقة حب ولا صداقة بين المرأة والرجال الأجانب، فكل هذا حرام ولا يعترف به الإسلام إلا تحت مظلة الزواج الشرعي الصحيح، كما بينا ذلك في الفتويين رقم: 117181، 44940 ...
فالواجب على المرأة إذا مالت لأحد الرجال ووقع في قلبها حبه، فإما أن تطلب منه أن يتقدم للزواج بها، أو تكتم هذا في قلبها وتجتهد في دفعه حتى يذهب أثره ويتلاشى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الأولى 1430(9/3992)
أحوال العمل الذي خالطه الرياء
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم العمل الذي شابه الرياء أثناء العمل، كشخص دخل الصلاة وهو بنية خالصة وهو موسوس وصوته يكون عاليا في الصلاة، فيكون صوته مرتفعا قليلا، فيخفض صوته لا لأجل ألا يشوش على من بجانبه ابتغاء وجه الله، ولكن لكي لا يحدث له ذم من جانب الشخص الذي بجانبه، أو تسوء صورته عند ذلك الشخص؟ وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلا ة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على كل مسلم أن يُخلص عمله لله عز وجل، وألا يبتغي بعمله إلا وجهه تعالى، فقد قال الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ {البينة:5} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه. أخرجه النسائي، والآيات والأحاديث في الباب كثيرة. وانظر الفتوى رقم: 14005، ورقم: 114613.
والعملُ الذي يُخالطه رياء، فإن كان الرياء في أصل العمل فلا شك في حبوطه، وأما إن طرأ الرياء في أثناء العمل فهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والذي رجحه الحافظ ابن رجب، أن العمل لا يحبطُ في هذه الصورة.
قال رحمه الله: واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضا بحيث لا يراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم قال الله عز وجل: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ {النساء142} وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز. وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه.
وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره.
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج إلى تجديد نية.
انتهى.
وليعلم أن الصورة المذكورة في السؤال وهي خفض الصوت في الصلاة حتى لا تشوش على من بجانبه ليست من باب الرياء بل هو مطلوب شرعا لحديث: لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن. رواه أحمد.
والذي ينبغي للموسوس أن يحرصَ على اتباع السنة، وألا يرفع صوته فيما لا يُشرع رفع الصوت فيه، فإن الاسترسال مع الوساوس، خطره عظيم، وفي مجاهدته للوسوسة مرضاة لربه عز وجل، وذلك أولى أن يحرص عليه من نظر الناس ومرضاتهم، نسأل الله أن يرزقنا وسائر إخواننا إخلاصا وصدقا.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 جمادي الأولى 1430(9/3993)
الذنوب تؤدي إلى حلول النقم وزوال النعم
[السُّؤَالُ]
ـ[ارتكبت ذنوبا كثيرة وأصبح حالي سيئا وحياتي نكدة.هل هذا عذاب من الله ويمكن تجنبه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الذنوب من الأسباب المباشرة لنزول المصائب وحلول النقم وزوال النعم، فما من مصيبة تنزل بالعبد إلا بكسبه وما جنت يداه، كما قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. {آل عمران:165} . وقال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. {الشورى:30} . وقال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. {لأنفال:53} .
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه المنذري وحسنه العراقي والبوصيري والأرنؤوط.
وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 49228، 41620، 40632، 56211.
وذلك في الحقيقة من مظاهر رحمة الله تعالى بالعبد، فمن جهة ينتبه العبد ويرجع إلى الله ويتوب إليه. ومن جهة أخرى يكون ذلك مما تكفر به سيئاته. كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 19810.
وإذا كان البلاء ينزل بسبب الذنوب فإنه يرفع بالتوبة والاستقامة، كما قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ. {هود:3} . وقال عز وجل: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا. {نوح: 10-12} . وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. {الاحقاف:13} .
فإن أردت أن يغير الله حالك فغير حالك مع الله تعالى، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. {الرعد: 11} .
فعليك بالتوبة والاستغفار، والاستعانة بالله، وحسن الظن به، وصدق التوكل عليه، ولزوم تقواه سبحانه والاستقامة على شريعته، ثم الأخذ بالأسباب وعدم العجز، وقد سبق بيان حقيقة التوبة وشروطها ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4603، 5450، 29785.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 جمادي الأولى 1430(9/3994)
كيفية التوبة من الغيبة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا امرأة متزوجة وأعيش وسط عائلة زوجي، بحيث لا تخلو مجالسهم من الغيبة والنميمة، ولم أكن أشارك وكنت أنكر ذلك من قلبي، وبعد مرور سنوات ضقت ذرعا من ظلمهم لي وتصرفاتهم نحوي، وأصبحت أغتابهم وأقول بما يفعلوه معي من أفعال مؤذية، رغم الصبر عليهم واحترامهم، لكنني الآن اريد العودة إلى الطريق الصواب، وأريد أن أكون تائبة إلى الله توبة نصوحا لا رجوع بعدها. كلامي كان بدافع الظلم لي وسأصبر على ما يقولون رغم الأذى فمعي ربي سيحميني. فهل يقبل الله توبتي؟ لقد قال لي أحد الأشخاص كلاما آيسني من رحمة ربي، وأنا على يقين بأن ربي سيرحمني ويعفو عني، فهل من كفارة لما فعلت ولما تكلمت؟ وهل إذا تصدقت عنهم أو فعلت أي شيء مقابل العفو عني يوم القيامة والستر هل يكون ذلك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن باب التوبة مفتوح بفضل الله لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو ينزل الموت بالمذنب ويتيقنه.
فقد قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}
فهذا إخبار من الله بسعة عفوه وكرمه، ونهي عن اليأس من رحمة الله وتبشير بمغفرة الذنوب للتائب، وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وحسنه الألباني.
وكيف تيأسين من رحمة الله وقبول توبتك، وقد وعد الله من عمل أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات. قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {الفرقان: 68، 69، 70، 71} .
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: من تاب إلى الله توبةً نصوحاً، واجتمعت شروطُ التوبة في حقه، فإنَّه يُقطع بقبولِ الله توبته، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاماً صحيحاً، وهذا قولُ الجمهور، وكلامُ ابن عبدِ البرِّ يدلُّ على أنَّه إجماع.
فلا تيأسي من رب غفور رحيم، قال في كتابه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً {النساء:110}
وأنت قد ندمت على ذلك، والندم هو الركن الأعظم للتوبة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: النَّدَمُ تَوْبَةٌ. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
والواجب عليك لتصح توبتك أمور وهي: الإخلاص فتقصدي بتوبتك وجه الله، وأن تتركي الذنب، وأن تندمي على ما فعلت، وأن تعزمي على عدم الرجوع إليه. وإذا كان الذنب فيه حق لأحد من العباد كالغيبة فيجب على التائب أن يتحلل من صاحب الحق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْه. رواه البخاري.
ووجوب التحلل هذا مشروط بما إذا لم يؤد إلى مفسدة عظمى كالمهاجرة والشقاق، وفي حالتك إذا خفت من وقوع مفسدة بينك وبين أهل زوجك إذا طلبت منهم المسامحة وكانوا لا يعلمون بغيبتك لهم، فلا تخبريهم بذلك ولكن تلطفي معهم وحاولي أن تستسمحيهم مسامحة عامة.
ويمكنك مطالعة شروط التوبة المقبولة في الفتوى: 5450، وبيان أنها حماية من القنوط في الفتوى: 2969، كما يمكنك الاستزادة حول تحلل المرء من الذين اغتابهم وأقوال العلماء في ذلك في الفتوى رقم: 66515.
وما ذكرناه من التوبة بشروطها هو الحل للتخلص من تبعات الغيبة، وليس من شروط توبتك التصدق عنهم، ولكن أكثري أنت من فعل الحسنات فإن الله يقول: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 جمادي الأولى 1430(9/3995)
الموقف الشرعي للمظلوم من ظالمه
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي هل أكشف أمر من أذاني وتسبب لي بالسوء وباعترافه وهو يكمل إساءته وأنا حتى الآن لم أرد الإساءة بالإساءة وأكشف أمره، أم أصبر وأدعو الله أن يكشف أمره لأنني إذا كشفت أمره سيفصل من عمله وأنا أخاف قطع الأرزاق؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فللمظلوم فعل ما يراه مناسبا لمقدار الظلم الذي وقع عليه ولحاله ومقدار صبره، فالأمر راجع إليك: فيمكنك العفو والصفح، والعفو عن الناس.
والتنازل عن حظ النفس في المعاقبة بالمثل، أو الانتصار للذات منزلة عالية لا يستطيعها إلا المحسنون، ولذلك أكد سبحانه وتعالى حبه للعافين عن الناس فقال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {آل عمران: 34} .
وقد سبق بيان منزلة العفو وما ورد فيه من فضائل في الفتاوى التالية أرقامها: 6297، 43275، 54408. وبينا أيضا أن العفو مستحب وليس بواجب في الفتوى رقم: 36925.
ويجوز لك أيضا التظلم لمن يقدر على أخذ حقك ممن ظلمك وبيان إساءته وفضح أمره، ولو كان في هذا قطع لعمله، فهو ما جناه على نفسه بشؤم ظلمه وإساءته، بشرط ألا تزيدي في ردك ولا تتعدي، فقد فقال الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ {النحل:126} .
وقال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا {الشورى: 40} . وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الانتصار من الظّالم لقوله جلّ ذكره: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ {الشورى: 39} قال إبراهيم يعني النّخعيّ: كانوا يكرهون أن يستذلّوا فإذا قدروا عفوا.
وأحيانا يكون عدم العفو أفضل فيما لو كان العفو يزيد من ظلم الظالم وإساءته، قال القرطبي رحمه الله: وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوبا إليه كما تقدم، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وهو أن زينب أسمعت عائشة رضي الله عنهما بحضرته فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة: دونك فانتصري. أخرجه مسلم في صحيحه بمعناه. انتهى.
وللاستزادة حول ذلك راجعي الفتوى رقم: 112756، ونسأل الله أن يكف عنك ظلم الظالمين وأن يكفيك شرهم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 جمادي الأولى 1430(9/3996)
الطريق إلى السعادة وذم التفكير في الانتحار
[السُّؤَالُ]
ـ[لا أحس بطعم السعادة أبدا ودائما أفكر بالانتحار؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرزقك عيش السعداء، ونزل الشهداء، ومرافقة الأنبياء بمنه وكرمه؛ إنه سميع مجيب.
ونرجو أن تسمحي لنا أن نوجه إليك هذا السؤال ألا وهو، هل تدرين أين السعادة؟ والجواب موجود فيما جاء به الوحي من رب السماء والأرض، والذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه، حيث بين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن السعادة في الإيمان وفي تقوى الرحمن وعمل الصالحات، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97} وقال سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:123، 124} وقد دلت هذه الآية على أن من أعظم أسباب الشقاء الإعراض عن الله تعالى والبعد عن دينه، وإننا نخشى أن تكوني ممن ذهب يبحث عن السعادة في أمور أخرى ليست مما يحقق السعادة أصلا، أو لا تحقق السعادة إلا إذا كان معها الدين كما هو الحال في المال.
فمكمن العلاج يتحقق بجانبين:
الجانب الأول: التوبة الصادقة لله تعالى، فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {التحريم:8} . ثم إنه يجب عليك الحذر والتخلص من كل وسيلة قد تقودك إلى المعاصي، بالإضافة إلى اجتناب مصاحبة رفيقات السوء. وهذا الجانب نسميه بجانب التخلية والتفريغ.
الجانب الثاني: الحرص على فعل الطاعات والمحافظة على الفرائض ولا سيما الصلاة، والإكثار من ذكر الله وشكره، فقد قال تعالى: أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {الرعد: 28} وقال سبحانه: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {العنكبوت:45}
ونوصيك بمصاحبة النساء الصالحات، فإنهن إن نسيت ذكرنك، وإن ذكرت أعنك.
وأما الانتحار فنوصيك أن تفري منه فرارك من الأسد أو أشد، ولا تفكري فيه أبدا، ولا تدعي خاطره يمر بقلبك، فقد كاد لك الشيطان حين نكد عليك حياتك الدنيا، ويريد أن يقودك إلى نكد أعظم في نار جهنم، وتدبري معنا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. عصمنا الله وإياك من الزلل وخطأ العمل.
وفي الختام نقول لك: عليك برقية نفسك والمحافظة على الأذكار، وإن كنت في حاجة إلى مراجعة بعض المختصين في طب النفس لإعطائك شيئا من العقاقير المهدئة فراجعي بعض الثقات وأهل الخبرة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 جمادي الأولى 1430(9/3997)
علامات يستأنس بها تدل على قبول التوبة
[السُّؤَالُ]
ـ[وقعت في كبيرة من الكبائر وفلوسي راحت كلها في البورصة فهل هذا عقاب من الله أم ماذا؟ وماذا علي أن أفعل في هذا الذنب العظيم حتى يتوب الله علي وما هي الدلالات على أن الله تاب علي، وجزاكم الله خيرا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا مانع من أن يكون الذي أصابك من شؤم المعصية؛ فكل ضرر واقع في الدنيا والآخرة سببه الذنوب والمعاصي. قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ {النساء:79} وقال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى:30} .
فعليك يا أخي السائل أن تتوب إلى الله مما فعلته وتلح على الله في طلب المغفرة، واعلم أن التائب لا يكون تائبا حقا إلا إذا توفرت في توبته خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص ـ وهو أن يقصد بتوبته وجه الله عز وجل.
الثاني: الإقلاع عن الذنب.
الثالث: الندم على فعله.
الرابع: العزم على عدم الرجوع إليه.
الخامس: أن يوقع التوبة في وقت القبول -وهي بفضل الله- تقبل في كل وقت إلا في حالتين: إذا بلغت الروح الحلقوم، وإذا طلعت الشمس من مغربها.
فهذه الشروط فيما إذا كان الذنب بين العبد وربه كشرب الخمر مثلاً.
وأما إذا كان الذنب يدخل فيه حق العباد، فلا بد من إبراء الذمة من هذا الحق، فإن كان مظلمة استحلها منه، أو حقا رده إليه، بالإضافة إلى الشروط الخمسة الآنفة الذكر.
فإذا وفقك الله إلى التوبة، فينبغي أن تكون حالك بين رجاء قبول التوبة، ومخافة العقاب من الله تعالى، فذلك أدعى لأن يغفر الله لك ويرحمك، لكن لا مانع من أن يكون هناك علامات تدل على قبول التوبة يستأنس العبد بها.
فمن ذلك: أن يجد العبد التائب حرقة في قلبه على ما فرط منه في جنب الله، وأن ينظر لنفسه بعين التقصير في حق الله الجليل.
ومنها: أن يكون أشد تجافيا عن الذنب وعن أسبابه، نائيا بنفسه عن هذه الموارد.
ومنها: أن يميل إلى الإقبال على ربه ومولاه، وينظر إلى توفيق الله له بالتوبة على أنه نعمة عظيمة من أعظم النعم عليه، فيفرح بها ويحافظ عليها ويخاف زوالها، ويخشى عقوبة نكثها.
ومنها: أن يصاحب أهل الفضل والخير ويقاطع أصدقاء السوء ومن لا خير فيهم.
ومنها: أن يستمر على الاستقامة على دين الله تعالى.
ومنها: أن يوفق للطاعة، فمن رأى أنه موفق للطاعات وعمل الخيرات وهو مخلص في ذلك لله تعالى فليبشر، فهذا من دلائل رضا الله عنه في تلك الحال ولا يأمن مكر الله بل يسأل الله الثبات وحسن الخاتمة. ومن رأى من نفسه حب المعاصي والإصرار عليها وعدم التوفيق لكثير من الخير فهذا -عياذاً بالله- من دلائل غضب الله عليه، فليتدارك ذلك بتوبة نصوح لعل الله يوفقه إليها فيختم له بخير.
وليس من علامات قبول التوبة أن تعود الأحوال التي زالت عن الشخص إليه، بل قد يقبل الله توبته ولا يبسط له في رزقه مثل ما كان أولا، المهم أن يتوب المرء إلى الله تعالى وينيب إليه، فإن بسط له فذلك من نعم الله عليه، وإن لم يبسط له فقد أنعم عليه نعما أخرى قد يكون غافلا عنها، وهي صحة البدن مثلا، ونعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، ونعمة التوفيق إلى التوبة. قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا {النحل: 18} .
والتوبة إذا كانت صادقة فإن الله قد وعد بقبولها. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ {الشورى: 25} .
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 97163، 5646، 48830.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 جمادي الأولى 1430(9/3998)
مظاهر الفتور وأسبابه وعلاجه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو الحل فى مسألة الفتور فى الدين التي تنتابني كل فترة، حتى أنني أجد صعوبة وثقلا فى أداء الواجبات، وليس النوافل، مع أنني والحمد لله على قدر إمكاني بعيد عن المعاصي، فالإيمان يزيد فى بعض الأحيان وينقص فى وقت آخر، وأعرف أن الإيمان هكذا يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومع ذلك أحس بفتور يجعلني فى حالة ملل، ولا أكاد أدخل فى الصلاة، ولا أكاد أعقل منها شيئاً، وتفلت مني من القرأن ما تفلت، مع العكس فى أوقات أخرى أجد نفسي فوق السحاب من خشوع وتدبر وتفكر وذكر، ثم أنزل مرة أخرى هكذا، ولكن الرجوع مرة أخرى أجد فيه صعوبة بالغة جداً، وأنا لا أحب ذلك لأني أحس بتأنيب ضمير، وأني مقصر، وأن الله غير راض عني، وأني فعلت معصية فى وقت ما، هي سبب ذلك. أريد منكم إجابة شافية، لا أريد كلاما مكررا. رفع الله قدركم بهذا الجهد الوفير، وأثابكم خير الثواب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أصل الصلاح هو صلاح القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. متفق عليه.
فلا يمكن أن يستقيم حال العبد حتى يستقيم قلبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه. رواه أحمد وحسنه الألباني.. ولذلك كان علاج الفتور وغيره من الآفات إنما يبدأ بإصلاح القلب وتنقيته من أمراضه، ثم مجاهدة النفس والشيطان ... وقد سبق لنا بيان أسباب قسوة القلب وطرق علاجه من أمراضه، وبيان حقيقة القلب السليم والطريقة المثلى لتحصيله، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 47474، 17323، 19176.. كما سبق لنا بيان أقوى الوسائل لمحاربة الشيطان والأسباب المعينة على التخلص من غوايته في الفتوى رقم: 29464، والفتوى رقم: 33860.
وكذلك سبق لنا بيان عوامل الفتور وكيفية علاجه، وبيان وسائل تقوية الإيمان وكيفية المحافظة على الهداية والاستقامة، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 17666، 10800، 1208، 30035.. وراجع للمزيد من الفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 95383، 43712، 27074.
وللدكتور ناصر بن سليمان العمر رسالة عن مظاهر الفتور وأسبابه وعلاجه، وللشيخ المنجد رسالة مفيدة عن ظاهرة ضعف الإيمان وكيفية علاجها. فراجعهما ففيهما خير كثير.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 جمادي الأولى 1430(9/3999)
مات أبوه فقل إيمانه وأصابه الفتور وفشل في دراسته
[السُّؤَالُ]
ـ[ولدت في أسرة ملتزمة دينيا، وكان والدي داعية إلى الله، واتخذت نفس الطريق عند بلوغي سن الخامسة عشر حتى وفاة والدي وأنا بسن العشرين، وهنا حدث ما أريد السؤال بشأنه: لقد تغيرت 180 درجة كأنني أصبحت شخصاً آخر، أصبحت بلا خلق ولا أعطي أهمية لأي شيء أو شخص حتى الله سبحانه وتعالى، وحدث ذلك بعد وفاة والدي بسنتين، وقد هاجمتني موجة اكتئاب عارمة جلست بسببها فى بيتنا لمدة ثلاث سنوات، لا أخرج ولا أخالط الناس، وأثر ذلك على دراستي ففشلت كثيراً، وأنا مدمن للمواقع الإباحية والأفلام الجنسية، كلما تركتها عدت إليها حتى أصابني اليأس فى نفسي، وأصبحت أكذب وألعن وأشتم وتركت الصلاة مدة ثلاثة أشهر لا أصلي إلا إذا كان أحد موجوداً وألح علي بالصلاة، ولا أحب الناس وأكرههم كثيراً، حتى أنني أكره أمي وإخوتي، وأنا الآن أحس بضياع شديد، ولا أعرف من أين أبدأ، وأين أتجه، وماذا أفعل، وأخاف أن أموت، وأنا على هذه الحالة، فأدخل النار، ويغضب مني الله مع أني أحبه، وأحب أن أكون من الصالحين، فأرجوكم قد تكون إجابتكم فيها دوائي فأنقذوني، وأرجوكم لا تذكروا اسمي أو إيميلي في الرسالة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى لنا ولك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا وإياك حسن الختام والبعد عن الآثام ... وإننا نحسب أنك على خير وفي بداية العودة إلى الطريق الصحيح، لأن إدراك الإنسان لتفريطه ومدى تقصيره علامة خير فيه، فقد أخبر الله سبحانه عن بعض الغافلين فقال: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ {الأعراف:30} ، فالذي لا يحس هو صاحب القلب الميت، وقد صدق من قال: ما لجرح بميت إيلام.
وننصحك أولاً بالتماس الأسباب التي دعت إلى تغير الحال، فقد تكون معصية وقعت فيها فتحت أبواباً من الشر على نفسك، فضعفت همتك وأقعدتك عن طلب المعالي، أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.. انتهى.
وقد تكون شددت على نفسك ولم توازن بين حاجة الروح وحاجة الجسد، فحصل لك شيء من الملل، وقد يوجد غير ذلك من الأسباب، وأنت أدرى بحالك، فالمقصود أن تلتمس هذه الأسباب، فتعمل على تداركها وإزالتها، وتتوب إلى الله تعالى توبة نصوحاً، مما وقعت فيه من المعاصي، وهذا من باب التخلية قبل التحلية.. ثم عليك بعد ذلك بالإقبال على نفسك واستكمال فضائلها، وستجد نفسك قد عدت إلى سيرتك الأولى نشاطاً في الطاعة وحرصاً على العبادة.
وقد سبقت لنا عدة فتاوى تبين أسباب الفتور وسبل علاجه، ووسائل تقوية الإيمان والرجوع إلى الرحمن، فنرجو أن تراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 17666، 111852، 10800.
وإذا أحسست بأنك ربما تكون في حاجة إلى مراجعة بعض أهل الاختصاص من الأطباء النفسيين فعليك بمراجعة الثقات وذوي الخبرة منهم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 جمادي الأولى 1430(9/4000)
أمر التوبة موكول لعلم الله وإرادته
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال: هناك صديقان في نفس العمرعلى طريق غير مستقيم، ولكن الأول توفاه الله وهو عاص، والثاني عندما شاهد صديقه يموت تاب إلى الله، وتوجه إليه، لو بقي الأول حيا ومات الثاني لتاب الأول ما هو تفسيركم لهذا؟ والله أعلم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكره السائل الكريم من أن الثاني لو مات وبقي الأول لتاب، ليس بلازم، فقد رأينا كثيراً ممن يرون مصارع أصحابهم من جلساء السوء ومع ذلك لا يتوبون ولا هم يذكرون، في حين نرى شباباً يتوبون دون رؤيتهم لمصرع أحد، بل بسماعهم لكتاب الله وللمواعظ أو بمجالسة الصالحين، فأمر التوبة موكول لعلم الله وحكمته وإرادته ومشيئته، كما قال تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. {التوبة:27} ، وذلك كسائر مظاهر وآثار الهداية، إنما هي منة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، قال الله تعالى: وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. {النحل:93} ، وقال: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ. {المدثر:31} .
وقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى بحال من يريد بهم الهداية، فقال: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ. {الشورى:13} . قال السعدي:
هذا السبب الذي من العبد يتوصل به إلى هداية الله تعالى، وهو إنابته لربه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصداً وجهه فحسن مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها، كما قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ. انتهى.
ولذلك لما علق الكفار هدايتهم بنزول المعجزات على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله تعالى بهذه الحقيقة، وذلك في قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ. {الرعد:27} . قال السعدي:
يخبر تعالى أن الذين كفروا بآيات الله يتعنتون على رسول الله، ويقترحون ويقولون: لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ. وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا فأجابهم الله بقوله: قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ. أي: طلب رضوانه، فليست الهداية والضلال بأيديهم حتى يجعلوا ذلك متوقفاً على الآيات. انتهى.. وراجع للمزيد من الفائدة في ذلك الفتوى رقم: 32573.
وأما مسألة الخواتيم فقد سبق أن بينا معناها وكونها ميراث السوابق، فذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4001، 34264، 34370.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 جمادي الأولى 1430(9/4001)
تكفل الله بالرزق.. والمجاعات
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله عز وجل في آية كريمة: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. لكن هناك مجاعات في إفريقيا وأطفال يموتون؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى كما أخبر في هذه الآية أن رزق الخلائق عليه، فقد أخبر في آيات أخرى أنه يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره ويضيقه على من يشاء، على ما يقتضيه علمه وحكمته سبحانه، كما قال تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. {الشورى:12} . وقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. {الإسراء:30} .
وقد جعل الله هذا البسط وضده من آياته التي ينتفع بها المؤمنون، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. {الروم:37} . حيث يستدلون بها على كمال القدرة والحكمة، ولله تعالى در من قال:
كدر الأريب وطيب عيش الجاهل * قد أرشداك إلى حكيم كامل.
قال الطيبي: كانت الفاصلة قوله تعالى: لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إيذاناً بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه، وليس الغنى بفعل العبد وجهده، ولا العدم بعجزه وتقاعده، ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال:
كم من أريب فهم قلبه * مستكمل العقل مقل عديم.
ومن جهول مكثر ماله * ذلك تقدير العزيز العليم.
من تفسير الألوسي.
وهذه الآية من آيات الله لا ينتفع بها إلا المؤمنون فأكثر الناس عنها غافلون، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. {سبأ:36} .
والمقصود أن تكفل الله برزق الخلق موكول إلى مشيئته سبحانه، ولذلك نص القرآن على أن إغناء الله لأحد من خلقه متعلق بمشئيته سبحانه، كما في قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. {التوبة: 28} . ولذلك قال البغوي في قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا. {هود: 6} قال: أي هو المتكفل بذلك فضلا، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق. اهـ.
ولمزيد الفائدة يرجى الاطلاع على الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 13270، 69389، 66358.
وليعلم أن الله تعالى هو الرازق بأن يسر أسباب الرزق وسهلها ثم أمر عباده بطلبه والسعي في تحصيله، فإذا لم يفعلوا ويبذلوا جهدهم وفكرهم في ذلك فهم الملومون.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 جمادي الأولى 1430(9/4002)
نصحه ناصح ألا يفعل أمرا وقال هذه أمانة فقال إن شاء الله
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني الأعزاء: حصل معي أمر منذ فترة، فطلب مني شخص ملتزم وكبير بالسن بأن لا أعود لفعل هذا الشيء مرة أخرى لأن به ضررا لي، فقال لي هذه أمانة في رقبتك بأن لا تعود لفعل هذا الأمر مرة أخرى، وأنا أجبته بلساني بإن شاء الله، وأبشر. لكن بقلبي كنت أريد أن أفعل هذا الشيء مرة أخرى ومرات. لكن لا استطيع أن أرده لاحترامي لهذا الشخص قلت له إن شاء الله، ولكن قلبي يريد عكس ذلك. فهل يجب علي أن أترك هذا الشيء؟ وهل الأمانة حصلت علي؟ وما هي الأضرار بعدم الالتزام بأمانته التي سلمني إياها؟ وهل أصبحت أمانة علي؟ مع العلم أنني لست راض بحمل هذه الأمانة بقلبي، لكني جاملته بلساني.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يتضح لنا ماهية هذا الشيء الذي أعطيت الوعد ألا تفعله، وهل هو محرم أم لا، وهل هناك ضرر حقيقي يلحقك منه أم أنه ضرر موهوم، وما هو قدر الضرر إن كان حقيقيا، كل هذا مما يتوقف عليه الجوا ب والفتوى.
لكنا على أية حال نقول: إذا كان هذا الشيء مما حرمه الله ووردت النصوص بتحريمه فيجب الكف عنه والانتهاء عن فعله فورا ولو لم يأخذ أحد عليك عهدا بذلك، فقد أخذ الله سبحانه العهد والميثاق على بني آدم أجمعين أن يطيعوه وحملهم بذلك أمانة عظيمة أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، قال سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً. {الأحزاب:72} .
وهذه الأمانه هي تكاليف الدين جميعا، قال الإمام القرطبي في تفسيره:
والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور. انتهى.
فإذا لم يرد نص معين بتحريمه وكان فيه ضرر محقق فهو أيضا حرام، ويجب تركه لما تواتر من أدلة الشريعة على تحريم الضرر والإلقاء بالنفس في مواطن العطب والهلكة قال سبحانه: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. {النساء: 29، 30} . وقال سبحانه: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. {البقرة: 195} .
وقال صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار. رواه مالك وأحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
وهذا كله مما لا خلاف فيه.
يبقى النظر فيما كان بينك وبين هذا الرجل من حديث، والظاهر أن هذا ليس من الوعد في شيء لأنك لم تزد أن قلت: إن شاء الله. وهذه الصيغة ليست صريحة في الجزم بالوعد، بل غاية الأمر فيه أنها من قبيل الكناية، والكنايات لا يلزم بها شيء إلا مع النية، ونيتك وقصدك على خلاف قولك، فلم يتوافر في ذلك لا اللفظ الصريح ولا النية، وعلى ذلك فلا حرج عليك إذا فعلت هذا الشيء ما لم يكن إثما أو عدوانا.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/4003)
ضعف الإيمان ظاهرة لها علاج
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا قلت إن إيماني ضعف، فهل هذا القول سيؤثر على عقيدتي باعتبار أن الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته ورسله و.... إلخ، مع العلم بأني لا أقصد في قولي حول موضوع أركان الإيمان؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص، وضعفه ظاهرة معروفة حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم. رواه الحاكم وقال: رواته ثقات.. ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
وذلك أن الإيمان مراتب وشعب؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.. فمن قال (إيماني ضعف) بمعنى أنه فرط في بعض شعب الإيمان فكلامه صدق وحكمه صحيح، ولا يعني هذا أن عنده شكاً في أمور الاعتقاد أو خللا في أركان الإيمان، وقد سبق لنا بيان أسباب ضعف الإيمان ومظاهره وعلاجه، وذلك في الفتوى رقم: 40757، والفتوى رقم: 76425.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 جمادي الأولى 1430(9/4004)
هل تؤجر المرأة إذا أكرهت على الزنا وماتت من جراء ذلك
[السُّؤَالُ]
ـ[الفتاة التي تتعرض للاغتصاب بالإكراه وتتوفى في هذا الحدث. هل تأخذ حسنات على ما تعرضت له؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان هذا الذي أصاب هذه الفتاة من اعتداء على عرضها قد حدث رغما عنها، ولم يكن لها أي تسبب في ذلك لا بتبرج ولا بخلوة ولا بأي نوع من أنواع التفريط، بل تم هكذا بإكراه تام فهي إن شاء الله مثابة عليه، ولها عند الله تعالى الأجر الكبير على زهوق نفسها من جراء هذا الفعل الآثم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نَصَبٍ (تعب) ولا وَصَبٍ (مرض) ولا هَمّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غَمّ حتى الشوكة يُشَاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه. متفق عليه.
أما إذا كان لها تسبب في ذلك بالتفريط في أوامر الله بالتبرج وإبداء الزينة أو بالاختلاط المحرم بالرجال ونحو ذلك حتى أوقع بها هؤلاء المعتدون في براثن الفاحشة فأمرها حينئذ للكبير المتعال يوم يرجع الخلق إليه فيفصل بينهم بالحق وهو خير الفاصلين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 جمادي الأولى 1430(9/4005)
توبة المستهزئ هل تقبل وهل له أن يتزوج بمسلمة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل شدة الاستهزاء بالخالق تؤثر في قبول التوبة حتى لو بأي شكل كان وبشيء لا يتصوره العقل؟ وهل بعد التوبة يستحق الزواج من مسلمة مع العلم أن ذلك ناتج عن مرض الوسواس القهري. أرجو الإجابة على هذا السؤال من تحويل إلي فتاوى أخرى؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أن من تاب تاب الله عليه مهما كان ذنبه ومهما عظمت خطيئته، فإن الله تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، قال عز وجل في حق التائبين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر: 53} .
وفي سنن ابن ماجه بسند حسن: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فمن كان يستهزئ بالله عز وجل ثم تاب صحت توبته وقبلها الله منه إن استوفت شروطها، ومحت ما كان قبلها من الذنب مهما كانت شدة استهزائه، وجاز تزويجه، وقد كان من الصحابة رضي الله عنهم من هم معادون للدين قبل أن يسلموا ثم منّ الله عليهم بالإسلام فصاروا إلى فضل الله وكرامته. واعلم أن الاستهزاء بالله كفر إلا أن يكون وسوسة وهواجس نفس فإن العبد لا يآخذ به لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم.
والتوبة من الكفر مقبولة إذا استوفت شروطها وأركانها كما قدمنا، وانظر الفتوى رقم: 118361.
فنسأل الله أن يرزقنا وسائر إخواننا التوبة النصوح.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 جمادي الأولى 1430(9/4006)
أسباب التراجع في التحصيل العلمي
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة متفوقة في دراستي، وإن كان لدي أي سؤال في المحاضرة أسأل وأناقش بدون خوف أو إحراج..لكن في الفترة الأخيرة منذ 3 سنوات بدأت أتراجع في دراستي وحتى لو بذلت مجهودا.. كذلك إذا كان لدي سؤال أو أريد أن أناقش الأستاذ أشعر بخوف ورهبة كبيرة.. فهل هذا حسد.. وكيف أستطيع أن أرقي نفسي. وهل هناك دعاء خاص لأكون من المتميزات.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد يكون هذا الذي أصابك من تراجع في الاجتهاد وضعف في المستوى العلمي بسبب عين أو حسد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن كل ذي نعمة محسود. رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني، وإن كنا لا نجزم بذلك، فقد يكون وراء ذلك أسباب أخر.
ولكن على أية حال نوصيك بالمداومة على الرقية الشرعية المبينة في الفتويين رقم: 7151، 4310.
ثم نوصيك بتقوى الله سبحانه، والبعد عن المعاصي، فإن الذكاء وجودة الذهن وسرعة التحصيل وقوة القلب، من أعظم نعم الله على العبد، والمعاصي تذهب بالنعم وتضيعها، وقد كان الشافعي رحمه الله آية في سرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم، ثم أحس ذات يوم أنه لم يعد في الحفظ كما كان، فاشتكى إلى أستاذه وكيع بن الجراح ـ رحمه الله ـ سوء الحفظ فقال له: استعن على الحفظ بترك المعاصي، فنظم هذه الأبيات الرائعة والتي تفيض بالفقه والحكمة:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم ن ــــــــــور * ونور الله لا يهدى لعاصي
وقد قال الله سبحانه: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ {المائدة: 13}
فأخبر سبحانه أنهم بسبب ارتكاب المعاصي نسوا حظا من العلم النافع، فاستعيني رحمك الله على ما أصابك بالتوبة والاستغفار الذي يذهب أثر الذنوب والمعاصي.
ثم ننبهك على أن هناك ضوابط شرعية ينبغي الالتزام بها في حال تلقت المرأة تعليمها من الرجال أو في الأماكن المختلطة، وقد سبق بيانها في الفتويين رقم: 54191، 5310.
أما بخصوص الدعاء فكل دعاء دعوت به لصلاح الحال وكشف الضر وقوة الحفظ وجودة الفهم ينفعك الله به إن شاء، فإنه سبحانه وعد باستجابة دعاء الداعين فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ {البقرة:186} ,وقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ {غافر:60}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 جمادي الأولى 1430(9/4007)
يجتهد في العبادة لكنه مبتلى بفضول النظر
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن يتسع صدركم لي، ومساعدتي في إيجاد حل لمشكلتي. فأنا شاب بلغت سن 31 ولم أتزوج، وأعاني من أمر أهمني، ويجعلني أشعر بالذنب، فلله الحمد أنا إنسان أخاف رب العباد، وأجتهد قدر إمكانياتي في العبادة وقراءة القرآن، ولكن تحصل مني أمور، وهذه الأمور حصلت معي عدة مرات في عملي ووظيفتي، حيث إنني أتصفح الانترنت وأضعف أمام هذا الجهاز اللعين، فيوسوس لي الشيطان بمحادثة الفتيات على الماسنجر ومشاهدة مقاطع خليعة، وأنا خائف ومتوتر وينتج عن هذا التوتر والخوف أن حصل عندي إنزال للمني مرات عديدة أثناء عملي بدون قصد مني، وإنما نتيجة التوتر، وأنا لست متعودا على تلك الأمور، فما هو مدى إثمي؟ وكيف أتوقف عن هذه الأفعال؟ وكيف أكفر عن تلك المعاصي؟ خاصة أني أحسست نفسي من الذين قال فيهم القرآن: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) صدق الله العظيم، لكني أتوب وأرجع، ساعدوني فإني إنسان ضعيف جدا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نسأل الله أن يتوب عليك، وأن يطهر قلبك، وأن يحصن فرجك، ويرزقك الزوجة الصالحة، والذرية الطيبة. ثم اعلم أخي الكريم أن مخافة الله ومراقبته والاستحياء منه أمور يعصم الله بها العبد من الزلل، بها يفوز به برضوان الله وجنته، كما قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ {الرحمن: 46} وقال سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {النازعات:40،41} وهذا هو مقام الإحسان الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. متفق عليه.
فاحذر أخي الكريم أن تتبدل عن هذا المقام الرفيع السامي، بمقام من يتحقق فيهم قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا {النساء: 108} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
واعلم أخي الفاضل أن في غض البصر عن المحرمات قطعا لسبيل الشيطان إلى كثير من المحاذير والمحرمات، وفيه ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ ثلاث فوائد جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
وأما الفائدة الثانية من غض البصر: فهو أنه يورث نور القلب والفراسة.. وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة. اهـ والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة.
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن الرجل الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه اهـ. بتصرف من كتاب حجاب المرأة المسلمة.
ولا يمكن أن يسوِّيَ عاقل بين شهوة عاجلة منغصة، مع ما يعقبها من ألم البعد عن الله في الدنيا، وما يترتب عليها من حساب في الآخرة، وبين نعيم الجنة وعافية الدنيا وسعادتها.
ثم اعلم أخي الكريم أن الإشكال ليس في وقوع الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
فبادر إلى التوبة، وأتبع السيئة بالحسنة حتى تمحوها، كما قال صلى الله عليه وسلم: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ وأحمد، وحسنه الألباني. قال ابن تيمية: وأتبع السيئة الحسنة تمحها، فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا مضرا أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات اهـ.
فمن المصائب أن يتابع العبد بين السيئات دون توبة واستغفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) رواه الترمذي وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وابن ماجه وأحمد. وحسنه الألباني.
وقد سبق أن بينا مخاطر الأفلام والصور الخليعة في الفتاوى المحال عليها في الفتويين رقم: 14130، 21807. كما سبق أن بينا بعض مخاطر المحادثة بين الرجال والنساء بواسطة الإنترنت في الفتويين رقم: 48990، 46454.
وأما مسألة خروج المني، فقد سبق أن بينا في الفتوى رقم: 79170 أن نزوله إذا كان ب دون لذة فلا يجب منه الغسل عند جماهير العلماء خلافا للشافعية، ولكن ينقض الوضوء، وأما إن كان نزوله بشهوة ف هذا يوجب عليك الغسل، سواء نجم ذلك عن توتر أو غيره، ما لم يصل نزوله في اليقظة إلى حد السلس، فإن وصل إلى حده بأن لازم كل الوقت أو جله فإنه يعتبر سلسا، وقد أوضحنا في الفتوى رقم: 41896، كلام أهل العلم فيما يفعل من ابتلي بسلس المني.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 جمادي الأولى 1430(9/4008)
السبيل إلى علاج الخوف المرضي
[السُّؤَالُ]
ـ[عند قيام الليل قبل النوم أشعر بالخوف عند الصلاة، وكذلك عند صلاة الفجر أشعر بالخوف، وبعض الأوقات لا أذهب للمسجد للصلاة بسبب الخوف ينتابني شيء من الخوف، لا أدري ما هو سببه، ولقد زاد عندما قام أحد اللصوص بسرقة السيارة من أمام باب المنزل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما تشعر به من الخوف إنما هو خوف مرضي، لا يجوز لك أن تستسلم له، بل عليك أن تجاهده حتى تتخلص منه، وقولك إنك تشعر بالخوف عند الصلاة هو من تلبيس الشيطان عليك، فإن الصلاة هي سبب الأمن والطمأنينة وراحة البال، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فلو أقبلت على الصلاة وأديتها على وجهها لحصلت لك بها قرة العين، ولزال عنك ما تجده من الخوف، ولا يجوز لك أن تستسلم للخوف الذي يؤدي بك إلى ترك صلاة الجماعة، فإن شهود الجماعة فرض عين على الرجال على الصحيح من أقوال العلماء، فعليك أن تجاهد هذا الخوف المرضي حتى تجتثّ شجرته من قلبك، وطريق علاج الخوف المرضي أن تحسن ظنك بالله عز وجل، وتتوقع الخير منه، وتكون راجيا لفضله وبره ورحمته، فإنه تعالى أرحم بالعبد من الأم بولدها، ومما يعينك على ذلك أيضا الإيمان بالقدر، وأن تعلم أنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصابك لم يكن ليخطأك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا استحضرت هذا المعنى لم تخش غير الله، ولم تخف نازلة تنزل بك، فقد جف القلم بما أنت لاق.
ومما يعينك على ذلك أيضا تحقيق التوكل على الله عز وجل، فإن كفايته وحفظه إنما تكون لمن توكل عليه، وبقدر تحقيق التوكل يكون الحفظ والكفاية، وليكن لك في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة، وقد حضر الخوف الحقيقي فطرحوا عنهم كل همٍّ وخوف وفوَّضوا أمرهم لمن بيده الأمر والتدبير، فكفاهم ودفع عنهم كيد عدوهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {آل عمران: 173،174} فكيف تخاف أنت بعد هذا من لا شيء!؟، وما كان مما ذكرته من أمر السرقة فإنما هو مصيبة ابتلاك الله بها لحكمته تبارك وتعالى، فوجب عليك الصبر عليها، وسؤال الله العافية فيما يستقبل.
واسمع إلى هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم رحمه الله يبين لك فيه سبيل السعادة والراحة وانشراح الصدر وحصول الأمن واندفاع الخوف، يقول رحمه الله: من ترك الاختيار والتدبير في رجاء زيادة أو خوف أو نقصان أو طلب صحة أو فرار من سقم، وعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه لنفسه، وأبر به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة، ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه، وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قوي قاهر له يتصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرف بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات، وحمّل كله وحوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها، فتولاها دونه وأراه لطفه وبره وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ولا اهتمام منه، لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرغ قلبه منها، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه. انتهى.
وانظر الفتوى رقم: 79740.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 جمادي الأولى 1430(9/4009)
تكرار التوبة وعدم الاغترار بحلم الله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[حججت بيت الله الحرام مع خالص النية، ولكن بعد الرجوع وقعت بنظرات على مواقع الإنترنت السيئة، وأتوب ثم أقع ثانية، ثم أجد نفسي مظلمة بعدها، أين أنا من طريق الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر العلماء من علامات صحة التوبة أن يكون العبد بعدها خيراً منه قبلها، وإنه لمن المحزن أن تقع في تلك المعاصي بعد حج بيت الله عز وجل، ومع ذلك نقول: طالما أنك تتوب بعد الذنب فأنت على الطريق إن شاء الله، ولكن احذر أن تركن إلى ذلك وتستمر بالمعصية حتى تصبح إلفا وعادة، وتزول وحشتها من قلبك ويحال بينك وبين التوبة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. {الأنفال:24} ، فإنك لا تستطيع أن تتوب إلا بإذن الله جل وعلا، فهو المتفضل عليك أولاً بتوفيقك لها، ثم هو المتفضل عليك آخراً بقبولها منك.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من الله، سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولاً: إذنا وتوفيقاً وإلهاما، فتاب العبد فتاب الله عليه ثانياً: قبولا وإثابة. مدارج السالكين.
فإذا وفقك الله إلى توبة صادقة، فاشكره عليها ولا تغتر بحلمه.
وعليك يا أخي بالاستمرار في مجاهدة نفسك ولا تيأس، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. {العنكبوت:69} ، وقف على بابه وانطرح بين يديه، وأكثر من التضرع والابتهال إليه فإن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين، واقترب منه وواصل السير إليه، فإن الله سبحانه قد قال في الحديث القدسي: إذا تقرب العبد إلى شبرا تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة. متفق عليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 جمادي الأولى 1430(9/4010)
الدواء الشافي من شهوات النفس
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف تقوي إيمانك؟ كيف يستطيع المسلم مقاومة الشهوات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسبل تقوية الإيمان كثيرة، منها: المحافظة على الطاعات، والابتعاد عن المحرمات، ومجالسة الصالحين، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتدبره، وقراءة السنة النبوية، وملازمة ذكر الله عز وجل، واللهج بالدعاء والافتقار إلى الله، وقد ذكرنا في فتاوى سابقة وسائل تقوية الإيمان وزيادة الخوف من الله تعالى، والثبات على الهداية، ومن ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 24565، 25324، 26309، 6342، 11759.
وأما عن مقاومة الشهوات فهي بتقوية الإيمان، وتقوية وازع الخوف من الله ومراقبته، وتذكر فضل مجاهدة النفس؛ كقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت:69} ، وملازمة البيئة الصالحة والصحبة النقية المخلصة، وإدراك شؤم المعصية في الدنيا والآخرة، والاستحياء من الله، ويكون الاستحياء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنْ اسْتَحَى مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى وَلْيَحْفَظْ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ. رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
وننصح السائل بقراءة كتاب: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) لابن القيم فهو من أحسن الكتب التي عالجت أمر الشهوات المحرمة، وبينت فضل تركها وشؤم إتيانها، ونسأل الله أن يجعلنا من المتقين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
04 جمادي الأولى 1430(9/4011)
تزكية النفس من آكد ما يجب الاهتمام به
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن النفس مليئة بالنواقص والعيوب ولهذا قال تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. وإذا كان ذلك كذلك فلماذا قال تعالى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن السعي في تزكية النفس من آكد ما يجب الاعتناء به، فقد وعد الله تعالى من زكى نفسه بالفلاح ودخول الجنة، وقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليزكي الناس فقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى. {الأعلى:14} .
وقال تعالى: وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى. {طه:76} . وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ. {عمران:164} .
والنفس البشرية مهيأة لسلوك طريق الخير وطريق الشر، والاتصاف بالأخلاق الحميدة والأخلاق الذميمة ويدل لهذا قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. {الشمس:7، 8} .
وقد ذم الله تعالى اتباع هوى النفس وذكر أنها أمارة بالسوء فقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى. {النجم:23} . وقال: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ. {يوسف:53} .
وأخبرنا عن قبائح بني إسرائيل بعد ما بدلوا وغيروا فذكر منها أنهم: كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُون. َ {المائدة:70} .
وقد تكلم بعض أهل العلم على أمراض القلوب وبيان أهمية معرفتها ومعرفة دوائها، فذكر الغزالي أن ذلك يلزم كل إنسان لأن وقوع الأمراض غريزة في النفس البشرية.
وخالف البعض فذكروا أنها غالبة في النفوس ولكنها ليست لازمة قال صاحب مطهرة القلوب:
عرفان أمراض القلوب وسبب * كل ما يزيله عينا وجب.
لدى الغزالي وليس لازما ... * ذلك من زرق قلبا سالما
منها لدى غير الغزالي فالغزا * لي يرى أمراضها عزائرا
في الآدمي وسواه غالبه ... * فيه رآه ها لا سجايا لازبه.
وأما آية الملك فليس فيها بيان سلامة النفوس من العيوب والأخلاق السيئة، وإنما كان الحديث فيها عن خلق السماء وأنه خلقها في غاية الإتقان، وليس فيها نقص ولا عدم تناسب فقد قال في أول الآية: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ. {الملك:3} .
وإذا قلنا أنه أراد جميع المخلوقات فلا شك أن جميع المخلوقات متقنة. فقد قال الله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ. {السجدة:7} .
وراجع تفسير القرطبي وابن جزي.
وراجع الفتوى رقم: 97298.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/4012)
هل يبنى بيت الحمد لمن فقد زوجته فصبر
[السُّؤَالُ]
ـ[توفيت زوجتي فصبرت واحتسبت، وحمدت الله سبحانه، فهل يبني لي الله عزوجل قصرا في الجنة يسمى بقصرالحمد؟ أم ينطبق فقط على من مات له ولد؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرحم زوجتك وسائر موتى المسلمين، وأن يرزقك الصبر على فقدها، والحديث المذكور في السؤال هو في ثواب الصبر على موت الولد، وورد بلفظ: "بيت الحمد" وليس " قصر الحمد" وهناك احتمال في دخول كل من مات له حبيب وحمد الله واسترجع عند موته في ثواب هذا الحديث، وفضل الله واسع وقد قال المباركفوري في قَوْلُهُ: (وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ" أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى الْحَمْدِ الَّذِي قَالَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ ذَلِكَ الْحَمْدِ. قَالَهُ الْقَارِي) انتهى. وهذا يشعر بترتب الثواب على الحمد والاسترجاع عند المصيبة، والله أعلم.
ونذكرك بهذه البشارة التي تنطبق على حالتك في فقد زوجتك واحتسابك وصبرك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ. رواه البخاري في صحيحه، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قَوْله (إِذَا قَبَضْت صَفِيّه) هُوَ الْحَبِيب الْمُصَافِي كَالْوَلَدِ وَالْأَخ وَكُلّ مَنْ يُحِبّهُ الْإِنْسَان، وَالْمُرَاد بِالْقَبْضِ: قَبْض رُوحه وَهُوَ الْمَوْت ... والْمُرَاد بِاحْتَسَبَهُ: صَبَرَ عَلَى فَقْده رَاجِيًا الْأَجْر مِنْ اللَّه عَلَى ذَلِكَ. انتهى
ولا تنس عظيم الفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِيْنَ الَّذِيْنَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيْبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أولئك عَلَيْهِمْ صَلواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأولئك هُمُ الْمُهْتَدُونَ {البقرة:156،157} ولله عز وجل حكم عظيمة في ابتلاء العبد، فراجع الفتوى رقم: 13270. ففيها بيان ذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
04 جمادي الأولى 1430(9/4013)
الفرق بين حبوط العمل وعدم قبوله
[السُّؤَالُ]
ـ[ماهو الفرق بين إحباط العمل وعدم القبول في الشرع؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكلا من حبوط العمل وعدم قبوله يشتركان في أن العامل لا ينتفع بعمله، ولكن يختص عدم القبول بأن سببه لا يكون إلا مع العمل أو قبله، ومثال ذلك أن لا يريد العامل بعمله وجه الله الكريم، أو يخالف فيه هدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. وأما حبوط العمل الذي يعني بطلانه، فقد يكون بسبب لاحق أيضا، ومثال ذلك أن يتصدق العبد بصدقة يريد بها وجه الله فتقبل ويكتب له أجرها، ثم يمن بها ويؤذي صاحبها، فيحبط ثوابها ويبطل. كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ. {البقرة: 264} .
أو كأن يعمل العبد من السيئات ما يترتب عليه حبوط ثواب عمل قد تُقبِّل من قبل. كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. {الحجرات:2} .
وهذا حبوط جزئي، وقد يكون حبوطا كليا وذلك بالردة والوقوع في الشرك الأكبر، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. {الزمر:65} . وقوله سبحانه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. {الأنعام:88} .
وقال الراغب في المفردات:
حبط العمل على أضرب:
ـ أحدها: أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامة غناءا، كما أشار إليه بقوله: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. [الفرقان/23] .
ـ والثاني: أن تكون أعمالا أخروية، لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، كما روي أنه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له: بم كان اشتغالك؟ قال: بقراءة القرآن، فيقال له: قد كنت تقرأ ليقال: هو قارئ، وقد قيل ذلك، فيؤمر به إلى النار.. الحديث.
ـ والثالث: أن تكون أعمالا صالحة، ولكن بإزائها سيئات توفي عليها، وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان.
وأصل الحبط من الحَبَط، وهو أن تكثر الدابة أكلا حتى ينتفخ بطنها، وقال عليه السلام: إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم. انتهى.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. {هود:15، 16} . قال: أما الفرق بين الحبوط والبطلان فلا أعلم بينهما فرقاً بينا. تفسير آيات من القرآن الكريم.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 113107. أن معنى عدم قبول العمل في الشرع يرجع إلى معنيين: أحدهما فساد العمل، والثاني عدم الثواب عليه، وسبق تفصيل ذلك والأمثلة عليه في الفتوى رقم: 12276 , وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 57512، 48724.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 جمادي الأولى 1430(9/4014)
أسباب تخلف أثر الاستغفار
[السُّؤَالُ]
ـ[كثرة الاستغفار لها آثار طيبة فمن لم يجد لاستغفاره آثارا فما السبب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد يكون تخلف أثر الاستغفار راجعاً إلى خلل فيه، كأن يكون بمجرد اللسان من غير صدق فيه، وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان، فأما إذا انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نية ورغبة فهذا هو الاستغفار الذي عليه تحمل الأخبار الواردة في ثمرات الاستغفار الطيبة.
وينبغي الإكثار من الاستغفار آخر الليل، فإن الاستغفار في أوقات الأسحار له مزية خاصة، قال الله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ {آل عمران:17} ، وقال تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {الذاريات:18} .
والاستغفار مثل الدعاء يتوقف حصول ثمرته على تحقق شروط وانتفاء موانع، فهو والاستغفار من جنس الدعاء لأنه سؤال الله المغفرة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 جمادي الأولى 1430(9/4015)
التوبة النصوح الصادقة تمحق أكبر الكبائر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل شدة الاستهزاء بالله يؤثر في قبول التوبة؟ وشكراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتوبة من أي ذنب كان مهما عظم ولو كان كفراً أكبر مقبولة متى استجمع صاحبها شروطها، ومن ذلك الاستهزاء بالله جل شأنه قال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب: الاستهزاء بدين الله أو سب دين الله أو سب الله ورسوله أو الاستهزاء بهما، كفر مخرج عن الملة، ومع ذلك فإن هناك مجالاً للتوبة منه، لقوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فإذا تاب الإنسان من أي ردة توبة نصوحاً استوفت شروط التوبة، فإن الله تعالى يقبل توبته. انتهى.
ولا فرق في قبول التوبة النصوح بين المجاهر والمسر، والشديد والخفيف، وبين المحارب للإسلام وغير المحارب، فمن تاب توبة صحيحة قبلت توبته مهما كان جرمه وعظم ذنبه، كما سبق بيانه. وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 118361، 61254، 117954.
ويمكنك مطالعة شروط التوبة المقبولة ودلائل قبولها في الفتوى رقم: 5450، والفتوى رقم: 29785.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 جمادي الأولى 1430(9/4016)
بعد الزوجة لا يسوغ الاستجابة لنداء الشهوة
[السُّؤَالُ]
ـ[يا شيخ أنا شاب عندي 26 سنة متزوج منذ سنة وزوجتي ليست معي بالدوحة والشيطان قد يسيطر علي في كل شيء فيخيل وقوفي إلي جانب امرأة والمكان يسمح لي بأن آتيها فأفعل وأقع في المعصية وبعدها أتوب إلى الله وأعزم على أن لا أفعل ذلك مره أخرى، ولكن يأتيني الشيطان ويسيطر علي مرة أخرى وهكذا وهكذا إلى أن فقدت الإحساس من قلبي بل مات قلبي، مع العلم أني أحب زوجتي فوق الوصف وأحترمها جدا ولكن الأشياء التي تحصل مني دمرت حياتي وتجعلني أبكي من شدة الألم والإحساس بالذنب ولكني غير قادر على السيطرة على هذه الأشياء ويراودني إحساس أني غير مسيطر على نفسي في أفعالي مع أنني أصلي ولا أترك فرضا وأحاول أتقرب إلى الله بفعل الخير والصدقة فأجيبوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسؤالك غامض غير واضح والذي فهمناه منه هو أن الشيطان يستهويك حتى يوقعك في معصيةٍ ما تخص النساء, وأنك ترجع سبب هذا إلى كون زوجتك بعيدة عنك, وهذا – بلا شك - ليس عذرا لك ولا لغيرك في معصية الله وانتهاك حرماته, فإن كانت زوجتك بعيدة عنك وخفت على نفسك الفتنة والوقوع في الحرام فيمكنك أن تستقدمها بحيث تكون معك, فإن لم يمكنك ذلك فسافر أنت إليها ولا تقم في مكان تعصي فيه الله حتى لو ترتب على ذلك خسارة دنيوية, فإن كل خسارة في الدنيا يسيرة هينة إذا ما قورنت بخسارة الدين, فإن لم تتمكن لا من هذا ولا ذاك فقد دلّك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على دواء ناجع لإخماد ثوران الشهوة وتهذيب حدتها وذلك في حديثه الشريف: يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء.
قال النووي: والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء. انتهى.
وجاء في فتح الباري: لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه. انتهى.
ثم عليك بمجاهدة نفسك وشيطانك في جنب الله واستعن على ذلك بكثرة ذكر الله والصلاة, قال سبحانه: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {العنكبوت:45} .
جاء في تفسير البغوي: وقال عطاء في قوله: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر، قال: ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. انتهى.
وجاء في الحديث: أن يح يى بن زكريا قال لبني اسرائيل: وآمركم بذكر الله كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
ويلزمك مع كل هذا أن تتوب إلى الله جل وعلا توبة صادقة مما كان منك فيما مضى مع العزم الأكيد على عدم العودة مرة أخرى, والإكثار من الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة فإن الله يكفر بها السيئات ويمحو بها الخطيئات قال سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} .
وراجع في الفتوى رقم: 12928 , وسائل الإفلات من حبائل الشيطان, وفي الفتوى رقم: 5450 , شروط التوبة الصادقة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الأولى 1430(9/4017)
هل تقبل توبة من نقض عهده مع الله على ترك المحرم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من نقض العهد على أن يترك محرما يكون منافقا لا توبة له كما في قصة " حاطب "المشهورة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن خلف العهد مع الله تعالى في ترك محرم أشد من خلف العهد في غيره لاجتماع معصيتين فيه هما: خلف العهد وارتكاب المحرم. ولكن لو تاب العاصي منهما تاب الله عليه؛ فالتوبة تمحو ما قبلها، ولو كان أعظم الذنوب وهو الشرك بالله تعالى، ما لم يغرغر صاحبها أوتطلع الشمس من مغربها..
وقد بينا حكم خلف العهد مع الله تعالى في الفتوى: 6938.
وأما قولك: كما في قصة حاطب فلم يتضح لنا المقصود به؛ فإن كان قصدك قصة ثعلبة بن حاطب التي يذكرها بعض أهل التفسير عند قول الله تعالى " ومنهم من عاهد الله.. " فهذه القصة لا تصح كما قال المحققون من أهل العلم، وقد بينا ذلك في الفتوى: 15817.
وإن كنت تقصد قصة حاطب بن أبي بلتعة فإنها تدل كذلك على أن من تاب تاب الله عليه. وانظر الفتوى: 40829.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 جمادي الأولى 1430(9/4018)
الاستغفار من الذنب يختلف عن العهد
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الاستغفار من الذنب يعد من قبيل المعاهدة أو العهد الذي يسمى مخلفه ناقضا للعهد، أم أن العهد له صيغ معينة أو ألفاظ خاصة تختلف عن أحكام التوبة والاستغفار؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا السؤال غير واضح، وعلى العموم فإن الاستغفار من الذنب يختلف عن العهد؛ فالاستغفار من الذنب يشمل طلب العبد من ربه مغفرة ذنوبه وسترها والعفو عنها.
وأما العهد فهوالالتزام له بأمر ما من الأمور المشروعة، ويكون مع الله تعالى ومع عباده، ويجب الوفاء به، ونقضه من صفات المنافقين، ومن صيغه: علي عهد الله، وعهد الله.
قال ابن قدامة في الشرح الكبير: وإذا قال: عليَّ عهد الله وميثاقه لأفعلن، أو قال: وعهد الله وميثاقه لا أفعل، فهو يمين.
وللمزيد انظر الفتاوى الآتية أرقامها: 111551، 66837، 55005، 7375.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 جمادي الأولى 1430(9/4019)
هل يؤجر من ساءت خاتمته إذا تاب خلق بسبب ذلك
[السُّؤَالُ]
ـ[هل العاصي الذي ساءت خاتمته واسود وجهه، أوما إلى ذلك حتى ذاع أمره بين الناس فتاب بسبب سوء خاتمته -أعاذنا الله من ذلك- خلق كثير، فهل يكون ذلك فى ميزان حسناته، نرجو من الله ثم منكم الجواب على السؤال من جميع جوانبه؟
وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الميت قد أفضى إلى ما قدم، ولا نعلم دليلاً شرعياً يفيد أنه ينال أجراً بسبب من تابوا متأثرين بما شاع عنه، ولا يظهر لنا أنه ينال شيئاً بسببه، لأنه ليس له جهد فيما حصل، والله تعالى يقول: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. {النجم:39} ، ثم إن الميت يصعب الجزم بسوء خاتمته، فيتعين الكف عن الكلام في شأنه، وإذا تيقن موته على التوحيد فينبغي الترحم عليه والاستغفار له، وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 102033، 75740، 76379.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 جمادي الأولى 1430(9/4020)
حكم ارتكاب المعصية ناسيا لحرمتها
[السُّؤَالُ]
ـ[سيدي الفاضل، لقد قام صديق لي بارتكاب خطإ وهو أن هذا الرجل انقطع لمدة عشرة أيام عن زوجته من حيث الفراش بسبب الدورة الشهرية، وحيث إنه رجل سريع القذف قام بتدخين سيجارة من الحشيش بقصد إطالة مدة الجماع، وتفكيره بهذا الأمر أنساه تماما أنها حرام، وبعد الانتهاء من الفراش تذكر حرمتها وندم على ذلك. فسألني: هل من شرب هذه السيجارة يخرج من رحمة الله عز وجل ولا يقبل عمله، علما أنه شخص ملتزم جدا وسوف يقوم بأداء العمرة ولكنه خائف أن صلاته وعمله لا يقبل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من الأسباب التي ترفع الإثم: النسيان؛ فمن وقع في معصية الله تعالى ناسيًا فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذه؛ فلا يأثم إلا من اقترف الحرام عالمًا عامدًا ذاكرًا.
فإذا كان صاحبك صادقًا في دعواه النسيان وذهول العقل عن حرمة تناول المسكر-الحشيش ـ فلا شيء عليه إن شاء الله تعالى.
وإن كان غير صادق، فإنه ارتكب ذنبا وسبيله التوبة إلى الله عز وجل، ومن تاب تاب الله عليه.
وراجع للمزيد الفتوى رقم: 117058.
هذا، وقد سبق لنا تقديم إرشادات لمن ابتلي بسرعة القذف، تجدها ضمن الفتوى رقم: 43923
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 ربيع الثاني 1430(9/4021)
الانتصار للنفس من الظالم والدعاء عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[تقدمت للعمل بمكان وتمت عرقلة بعض الأمور أمامي بدون وجه حق، ظننت أن رئيسي في العمل هو السبب. ثم أبلغتني سكرتيرته بأن موظفين آخرين في مجلس الإدارة كانوا وراء العرقلة. بقيت في حيرة ولا يوجد لدي بينة على أي منهم. هل يجوز الدعاء بالصيغة الآتية: اللهم أوقعهم في شر عملهم. أو من كان ينوي بي شرا بغير وجه حق اللهم أوقعه فيه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجوز لمن ظلم أن ينتصر لنفسه ممن ظلمه، ومن ذلك الدعاء على الظالم بدون تعد في الدعاء، وإذا لم يكن عندك بينة على ظلم هؤلاء لك فلا حرج أن تدعو فتقول: اللهم من ظلمني منهم فخذ لي حقي منه أو نحو ذلك، وقد قال تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. {الشورى:41} . قال ابن كثير في تفسيره: أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم. اهـ
ومن هذا الانتصار الدعاء على الظالم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ رواه البخاري ومسلم.
وللاطلاع على مزيد من الأدلة والتفصيل راجع الفتويين: 31158، 118283.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 ربيع الثاني 1430(9/4022)
فرط في الصلاة لشعوره أن ماله حرام
[السُّؤَالُ]
ـ[تقصيري في عملي، وفي واجباتي تجاه كل من حولي، جعلني أشعر أن مالي حرام، وبذلك جعلني أيأس وجعلني أقصر في الصلاة، وفي كل شيء. أرجو الإجابة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يفرج همك، وأن ييسر أمرك، وأن يصلح حالك. واعلم أن من كثرت عليه المصائب، فالحل أن يلتجئ إلى الله تعالى، ويكثر من طاعته عسى أن يعينه ذلك في أن يجد من الهم فرجا، ومن الضيق مخرجا، قال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ {البقرة:45} .
روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت.
وقد أخطأت الطريق وجانبت الصواب حين وقعت في اليأس، فأدى بك ذلك إلى الوقوع في معصية الله والتفريط في أهم فرض من فرائضه، ألا وهو الصلاة، والتي هي عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، والصلة بين العبد وربه، وسبق لنا ذكر شيء من الأدلة على فضائلها بالفتوى رقم: 4307. فالواجب عليك أن تتوب إلى الله تعالى وتحافظ على الصلاة.
وأما ما ذكرت من أمر التقصير في العمل، فإن كان تقصيرا يؤدي إلى الإخلال به، وكنت أجيرا تعمل عند غيرك من جهة عامة أو خاصة، فالواجب عليك التوبة والحرص على إتقان العمل، وأما ما يكتسب المرء من المال الحرام فلا يخلو من أن يتعلق به حق لمخلوق أو لا، ولكل من الحالين حكمه كما بينا بالفتوى رقم: 3519.
وأما بالنسبة لتقصيرك في واجباتك تجاه من حولك، فالواجب عليك أولا أن تتوب مما قد مضى، وتستسمح من قصرت في حقه، وأن تحرص مستقبلا على أن تعطي كل ذي حق حقه من أهل أو زوجة ونحو ذلك، روى البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه: أن سلمان قال لأبي الدرداء رضي الله عنهما: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان.
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم: 71116.
والله أعلم. ... ...
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ربيع الثاني 1430(9/4023)
توبة السارق لا تتم إلا برد المسروق لأصحابه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا إنسانة محتارة في أمري، عملت في حياتي الكثير من الذنوب منها السرقة للأسف، لا أعرف كيف قمت بهذا العمل، ولكني بحق ندمانة لأبعد الحدود، وقد أديت فريضة الحج على اقتناع تام وتوجه إلى الله تعالى طالبة المغفرة، مع العلم أنني لم أرجع الحقوق لأصحابها، والله لم أكن أعرف حينها أنني يجب أن أعيد المسروقات لأصحابها، ولا أعرف هل أعتبر نفسي قد حججت فعلا أم أنه لا تجوز حجتي، وأنا لم أعد المسروقات.
المهم أنا الآن أنوي التعويض عن كل ذلك، ولكن هناك مشكلة أنا أسكن فلسطين وسرقت أثناء فترة الدراسة في الأردن. وقد سرقت من أعمامي وخالتي ومن بنات لا أعرفهن ولا أعرف مكان سكناهم أصلا وقد علمت أنني يجب أن أعيد المسروقات إلى أصحابها أو التعويض عنها في حال استهلاكها والمشكلة أنني أتحرج من فكرة أن يفتضح أمري إذا اعترفت لأقاربي بالموضوع هذا من ناحية، وكذلك أنا لا أذهب إلى الأردن الآن أبدا لأنني التزمت ولا أسافر بدون محرم والحمد لله، والمشكلة أنهم لا يأتون لزيارتنا ولا نتبادل الهدايا في المعتاد وسيستغربون فكرة الهدية مني خاصة أنها ستكون باهظة الثمن بقدر المسروقات، ولا أستطيع إعطاءهم المال لنفس الفكرة، فلا أحد سيصدق أنها هدية وسيفتضح أمري أكيد، ولا أعرف كيف سأوصل المسروقات لهم. أنا فعلا نادمة جدا ومتعبة من هذا الموضوع، ولا أعرف كيفية التصرف فهل يجوز أن أخرج قيمة ما سرقت كله على شكل صدقة عن كل منهم تجنبا للفضيحة.
وسؤالي المهم أنني أديت فريضة الحج، ولست متأكدة من قبولها، وأنا في ذمتي حقوق للناس وذنوب، وأنتظر توفر المال اللازم لسداد الحقوق كلها ما استطعت على شكل جمعية سأقبضها خلال شهرين. ولكن أهلي سيخرجون لأداء العمرة خلال شهر، ويريدون ذهابي معهم، وأنا لا أستطيع أن أعترف لهم بما فعلت كي ينتظروني حتى أرجع الحقوق لأصحابها، ولا أملك المال حاليا كي أرجع ما أخذت ومحتارة في أمري.
سؤالي من شقين:
هل أخرج للعمرة وأنا في ذمتي حقوق للعباد مع العلم سأقوم بسدادها حين أقبض الجمعية أي بعد رحلة العمرة المقررة مع أهلي، وهل تجوز العمرة لي في هذا الوضع؟
الشق الثاني: هل أرجع الحقوق إلى أصحابها على شكل صدقة عن كل واحد سرقت منه وبنفس القيمة لتعذر وصولي إليهم وتجنبا للفضيحة؟
والله نادمة لابعد الحدود ومتعبة وأريد أن أكون إنسانة نظيفة من الذنوب التي لا أعرف كيف قمت بها في الماضي وأخشى من الاعتراف لأهلي ولمن سرقتهم بذنوبي ولا أعرف كيفية التصرف أفيدوني أرجوكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن السرقة محرمة تحريما شديدا، والإسراف في الذنوب والمعاصي عموما ضرر كبير على العبد في دنياه وآخرته، ولكن من تاب إلى الله تعالى توبة صادقة مستجمعة لشروطها فإن الله عز وجل وعد بقبول توبته كما قال تعالى: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {المائدة:39} وكما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82}
وبما أن الأخت السائلة قد ندمت على ذنوبها وسرقتها فنرجو أن تكون توبتها صادقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة. رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني. ولم يبق على الأخت السائلة إلا الإتيان ببقية شروط التوبة وهي رد المال المسروق إلى أهله. وأما ما ذكرته من أنها تخشى من الفضيحة فالجواب هو لا بد من رد تلك المسروقات إلى أهلها، ولا يلزم إخبارهم بحقيقة الأمر، فأديها إليهم على شكل هدايا كما ذكرت، وأما كونك ليس من المعتاد أن تهدي لهم فيمكن أن تضعي المال في حسابهم أو تتصلي بهم مثلا وتشكريهم على معروفهم لك أيام الدراسة، وأنك قررت التواصل معهم، وأرسلي لهم المال كهدية على أساس أنها بداية التواصل، والمهم أنك لن تعدمي حيلة توصلين بها الحقوق من غير إحراج، ولا يجزي أن تتصدقي بالمال عنهم ما دمت تعرفينهم وتستطيعين إيصال المال إليهم ولو مراسلة. وأما من سرقت منهم ولا تعرفين مكانهم فتصدقي بالمبلغ المسروق عنهم. وقد نص أهل العلم على أن الغاصب إذا جهل صاحب المال المغصوب ولم يتمكن من إيصال المال إليه ولا لورثته لعدم علمه بهم فإنه يتصدق به عنه مضمونا.
قال صاحب الزاد: وإن جهل ربه تصدق به عنه مضمونا. قال في الشرح: أي بنية ضمانه إن جاء ربه، فإذا تصدق به كان ثوابه لربه وسقط عنه إثم الغصب. انتهى.
ولا تذهبي إلى العمرة من مالك الخاص قبل سداد ما عليك من تلك الأموال المسروقة إلا كان أهلك سيتكفلون بمال العمرة، فلا حرج عليك في الذهاب. وأما الحج وتأثير السرقة عليه فالحج صحيح إن شاء الله تعالى ولا أثر لتلك الذنوب عليه، والله تعالى حكم عدل كما أنه يعاقب على الذنوب أو يعفو عنها فهو يثيب على الطاعات ويكافئ عليها وقد قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا {طه:112}
وانظري للأهمية الفتوى رقم: 57510، حول حكم حج السارق، والفتوى رقم: 40782، حول شروط توبة السارق.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 ربيع الثاني 1430(9/4024)
ثواب الصبر على موت الأحبة
[السُّؤَالُ]
ـ[توفيت زوجتي بعد أيام من زواجنا بمرض مفاجئ، وكانت خير الزوجة الصالحة والمؤمنة بالله، وإني لأحبها حبا لم أحب قبله أي إنسان، واني لصابر على هذه المصيبة ابتغاء مرضاة الله سبحانه. فهل يشملني حديث الرسول عليه الصلاة والسلام التالي: (عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد. (رواه الترمذي وقال حديث حسن.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرحم زوجتك وسائر موتى المسلمين، وأن يرزقك الصبر على فقدها، والحديث المذكور في السؤال هو في ثواب الصبر على موت الولد، وهناك احتمال في دخول كل من مات له حبيب وحمد الله واسترجع عند موته في ثواب هذا الحديث، وفضل الله واسع. وقد قال المباركفوري في قَوْلُهُ: وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ. أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى الْحَمْدِ الَّذِي قَالَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ ذَلِكَ الْحَمْدِ. قَالَهُ الْقَارِي. اهـ.
وهذا يشعر بترتب الثواب على الحمد والاسترجاع عند المصيبة، والله أعلم.
ونذكرك بهذه البشارة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ. رواه البخاري في صحيحه، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قَوْله (إِذَا قَبَضْت صَفِيّه) هُوَ الْحَبِيب الْمُصَافِي كَالْوَلَدِ وَالْأَخ وَكُلّ مَنْ يُحِبّهُ الْإِنْسَان، وَالْمُرَاد بِالْقَبْضِ: قَبْض رُوحه وَهُوَ الْمَوْت ... والْمُرَاد بـ (احْتَسَبَهُ) : صَبَرَ عَلَى فَقْده رَاجِيًا الْأَجْر مِنْ اللَّه عَلَى ذَلِكَ. اهـ
ولله عز وجل حكم عظيمة في ابتلاء العبد، فراجع الفتوى رقم: 13270 ففيها بيان ذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 ربيع الثاني 1430(9/4025)
رأي الشرع في الحجب العشرة
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو الإفادة عن رأي الشرع في الحجب العشرة التي تظهر حالياً في مواقع الإنترنت؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان مراد السائل الحجب التي طبعتها دار القاسم، فإن الكلام المذكور فيها صحيح، وهذه الحجب قد تكلم عليها ابن القيم في مدارج السالكين، كما جاء الكلام عليها مفصلاً في كتب أهل العلم. والأدلة على عظم الخطر في هذه الأمور مبسوطة في كتبهم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 ربيع الثاني 1430(9/4026)
الاستعانة بالله والتوبة صيانة من آثار الذنوب
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد الانتحار خوفا من الزنا حيث أني خطبت مرتين، وفي كل مرة أعمل الزنا مع خطيبي لأني لا أريد الحياة، لأن كل شيء فيها يوقعني في المعصية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب عليك أولاً أن تتوبي إلى الله تعالى توبة نصوحاً من الزنا، والتوبة النصوح تقتضي ترك الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على ما وقع سابقاً، وراجعي في ذلك الفتوى رقم: 5450.
ورحمة الله واسعة ولا يعظم على مغفرته ذنب فهو القائل سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر:53} ، وراجعي الفتوى رقم: 80666.
وصيانة نفسك من العودة لهذا الذنب أمر يسير وذلك بأن تستعيني بالله أولاً، وتكثري من مثل هذا الدعاء الذي رواه مسلم عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: اللهم إني اسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. رواه أبو داود.
ثم عليك بالحذر من الخلوة بالأجنبي، أو الحديث إليه لغير حاجة ونحو ذلك مما قد يقود إلى الوقوع في الزنا، علماً بأن الخاطب أجنبي عن مخطوبته حتى يعقد له عليها، ومن هنا فإن من الحلول أيضاً أن تشترطي على من يريد الإقدام على الزواج منك أن يتم العقد مباشرة من غير أن تكون هنالك فترة خطوبة، وبذلك تحلين له كزوجة بعد العقد. والحاصل أن الحلول متيسرة.
وأما الانتحار فلا يقدم عليه عاقل تحت أي ظرف، ونحسب أن عندك من الدين وكمال العقل ما يحول بينك وبين فعل هذه الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء، والتي هي داء وليست بدواء ينتقل بها المرء إلى الشقاء الحقيقي، فانظري ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق المنتحر حيث قال: من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. متفق عليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 ربيع الثاني 1430(9/4027)
سعة رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[قد يبدو أن في سؤالي شيئا من الغرابة بعض الشيء، ولكنه تصور كثيرا ما يخالجني فأرجو توضيح الأمر بارك الله فيكم.
ما أشعر به هو أن النبي صلى الله عليه وسلم طيب القلب، ولا شك في ذلك طبعا، فتراه يحلم على الأعرابي الذي جذبه من ثوبه، ولكن كثيرا ما يخالجني أن الله ليس كذلك، فكثيرا ما أستشعر من كلام العلماء أن المذنب مستحق للعقوبة، فلا أستشعر الرحمة، ولا الحلم الذين أستشعرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحقيقة أن هذا الإحساس ليؤثر على مشاعر الحب تجاه الله عز وجل، فلا أشعر إلا بالخوف لا أكثر، فأرجو التوضيح بارك الله فيكم، وإن كان مع التوضيح إحالة لبعض الكتب التي تعين على حب الله فذلك أفضل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمحبة الله تعالى فرع لمعرفته، فلا يمكن أن نحب الله عز وجل دون أن نعرفه، كما لا يمكن أن نعرفه معرفة حقة ثم لا نحبه، لذلك ينبغي أن تكون بداية السائل هي التعرف على الله تعالى، فإذا عرفه عرف أن ما ذكره من حال النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم رحمته، وكذلك رحمة كل ذي رحمة من الخلق، إنما هي أثر من آثار رحمة الله تعالى، كما قال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ {آل عمران: 159} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه. رواه البخاري ومسلم.
وإن كنا نقر أنه لا يصح ولا يليق أن نقارن بين رحمة الله تعالى وبين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنا نذكر مثالا واحدا؛ لنقرب ما نريد إيضاحه للسائل الكريم، وهو ما حدث في غزوة أحد وما ترتب على ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كيف كان حكم الله القدري والشرعي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية. فنزلت (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) فتاب الله عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم. رواه أحمد والبخاري والترمذي واللفظ له.
ثم يكفينا في ذلك حكم أعلم الناس بالله تعالى ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول: ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم. متفق عليه.
ولو ذهبنا نورد النصوص الشرعية الدالة على سعة رحمة الله لطال بنا المقام جدا، ولكن نذكر السائل الكريم ببعض النصوص التي تبين المراد، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً {النساء:110} وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} وقال عز وجل: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {غافر:7} وقال تبارك وتعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {الأنعام: 54} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل لم يعمل خيرا قط: فإذا مات، فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم. فغفر له. متفق عليه.
ثم لنذكر مظهرا واحد من مظاهر سعة رحمة الله تعالى، وهو تجازوه سبحانه عن الزلل، وشكره للقليل من العمل، وعفوه عن السيئات، ومضاعفته للحسنات، قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {الأنعام:160} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة. متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله تعالى أن يتجاوز عنا. فلما هلك قال الله عز وجل له: هل عملت خيرا قط؟ قال: لا إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته ليتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك. رواه البخاري ومسلم والنسائي واللفظ له.
وقال صلى الله عليه وسلم: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. رواه البخاري ومسلم.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: نزع رجل لم يعمل خيرا قط غصن شوك عن الطريق إما كان في شجرة فقطعه وألقاه وإما كان موضوعا فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة. رواه البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له.
ومن ذلك أيضا ما في الصحيحين من قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم أقبل تائبا إلى الله عليه فقبضته ملائكة الرحمة، دون أن يعمل شيئا من الصالحات بعد توبته.
وعلى أية حال فما أُتي السائل إلا من قبل قلة معرفته بالله تعالى، ولذلك نبهناه أن بداية العلاج إنما هو في معرفة الله وأوامره الشرعية وأحكامه القدرية وسننه الكونية، ولا سبيل إلى معرفته عز وجل أقصر ولا أيسر، ولا أنفع ولا أرفع، من التعرف عليه من خلال كلامه سبحانه، نعني القرآن العظيم، فمن تدبر كتاب الله، وتفهم ما فيه من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله المثلى أحبه ولا شك، وقد سبق لنا تفصيل ذلك مع بيان الأسباب الجالبة لمحبة الله، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 111261، 71891، 27513.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 ربيع الثاني 1430(9/4028)
المصر على المعصية إذا خشي اطلاع الناس هل يحبط عمله
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي فضيلة الشيخ هو: هل إصرارالعبد على بعض الذنوب، وما يترتب عليه من خشية الناس والتستر منهم قد يؤدي به إلى الشرك وإحباط العمل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإصرار هو المواظبة على المعصية وعدم الإقلاع، فالعبد يعتبر مصرا إذا لم يقلع عن المعصية ولم يتب منها ويندم على فعلها، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 66518.
ولا تلازم بين الإصرار على المعصية وبين الشرك. كما أن إصرار العبد على شيء من الذنوب عدا الشرك، لا يؤثر على قبول أعماله الصالحة، اللهم إلا الذنوب التي خصها الشرع بأنها مبطلة للعمل، كالمن والأذي يبطل الصدقة. كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 35296.
وكون المصر على ذنب من الذنوب يستخفي من الناس ويخشاهم، لا يعني أنه مشرك أو أن عمله كله قد أحبط، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات، لكن قد تحبط ما يقابلها عند أهل السنة. اهـ.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: لا تحبط طاعة بمعصية غير الردة المذكورة.. وقال ابن عقيل: لا تحبط طاعة بمعصية إلا ما ورد في الأحاديث الصحيحة فيتوقف الإحباط على الموضع الذي ورد فيه ولا نقيس عليه. اهـ.
بل إن المستتر بمعصيته أهون جرما من المجاهر بها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل أمتي معافى إلا المجاهرين. رواه البخاري ومسلم. وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 29331، 34056، 76194.
وليس معنى ذلك التهوين من شأن الإصرار على الذنوب، فإن المصر معرض لغضب الله وعقابه، وقد يستدرجه الشيطان بخطواته إلى ما هو أكبر من ذلك، حتى يوقعه في الكفر، وقد ذكروا من أمثلة ذلك قصة مشهورة في تفسير قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. {الحشر: 16} . كما ذكر الطبري وابن كثير وغيرهما. وراجع للفائدة الفتويين رقم: 54604، 63343.
ويكفي في الزجر عن التستر بالذنوب عن أعين الناس ومبارزة الله بها، قول الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. {النساء:108} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا.. أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. رواه ابن ماجه، وصححه البوصيري والألباني.
فهكذا قد يكون حال العبد إذا حصلت مقاصة بين حسناته ومعاصيه في السر، أو غلب عليه هذا التناقض حتى يصير ـ والعياذ بالله ـ منافقا منكوس القلب، صالحا مستقيما في الظاهر، فاسدا خبيثا في الحقيقة والباطن.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 ربيع الثاني 1430(9/4029)
ظهور المعاصي في الأمة نذير شؤم وعذاب
[السُّؤَالُ]
ـ[أثر الردائل في المجتمع؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الرذائل لا تنتشر في مجتمع إلا أفسدته، وأحلت به عقاب الله وعذابه، وعندئذ يعم البلاء الصالح والطالح، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {الأنفال:25}
قال ابن كثير: يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة ـ أي اختبارا ومحنة ـ يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب، بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع. ثم نقل عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب. قال: وهذا تفسير حسن جدا. انتهى.
وعن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ـ وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها ـ قالت: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. متفق عليه.
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله عز وجل بعذاب من عنده. فقلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذ أناس صالحون. قال: بلى. قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان. رواه أحمد، وصححه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
ومن أمثلة العقوبات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم. رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.
وقد ضرب النبي للمجتمع ككل مثلا رائعا في حلول النقم عليه إذا فشت فيه الرذائل دون نكير، فقال صلى الله عليه وسلم: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا. رواه البخاري.
ولمزيد من الفائدة يرجى الاطلاع على الفتويين: 52539، 117775.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 ربيع الثاني 1430(9/4030)
تخاف النوم ليلا وتقوم كثيرا فزعة
[السُّؤَالُ]
ـ[أقوم من نومي فزعة، وأظن أحيانا وأنا مغمضة العينين بأن شيئاً ما لمسني، وعندي أرق شديد بسبب تفكيري الدائم بهموم الدنيا، لا أنام جيداً، عدد المرات التي أقومها لا تعد، علما بأنني أنام مع زوجي وطفلي الرضيع، وسابقاً كان من يخنقني وأنا نائمة والآن تركني ذلك الشيء من كثرة قراءتي للقرآن، أصبح نومي كارثة، أخاف من النوم، من ناحية أنا متعبة أعمل صباحا في مكتب وأرجع ظهراً أنام أحسن من الليل لماذا لا أدري؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يعافيك، ونبشرك بأن ما تذكرينه من بلاء لا يضيعه الله تعالى بفضله ورحمته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه.
ثم نوصيك- أختنا الكريمة- بإعادة النظر في حقوق الله وحقوق الخلق عليك، ومراجعة حالك مع الله ومع الناس، لمحاولة الوقوف على جوانب التفريط والتقصير لعلاجها فما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة، ولذلك فإن بداية الطريقة تكون بتوبة نصوح واستغفار عام لما علمت وما لم تعلمي من الذنوب، ثم محاولة الاستقامة التامة على طاعة الله تعالى وتقواه، ففي ذلك- إن شاء الله- فرج عاجل وتيسير للأمور ورحمة واسعة، كما قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا*.. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا. {الطلاق:2-3-4} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: احفظ الله يحفظك. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.
وعليك بصدق اللجوء والتوكل على الله، وحسن الظن به تعالى وعليك بالإلحاح في الدعاء والتضرع وقراءة القرآن خاصة سورة البقرة، والإكثار من الطاعات خاصة الصلاة، والذكر والصدقة، والرقية الشرعية ففي ذلك -إن شاء الله تعالى- كفاية لشكواك، وقد سبق لنا بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع والأرق، وذلك في الفتويين رقم: 77314، 108859. كما سبق لنا بيان ست وصفات لعلاج القلق النفسي وذلك في الفتوى رقم: 16790.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 ربيع الثاني 1430(9/4031)
كيفية شكر الله تعالى على نعمه العظيمة
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد تعديت سن الستين وأشعر أن أعمالى قليلة جدآ لا توازى النعم الكثيرة التى يتفضل بها ذو الفضل العظيم سبحانه وتعالى، ويغمرنى بها، وكلما تذكرت الكثير مما تمنيته وقد تحقق فكم من مال احتجته وأجده يصل لى بالضبط لازيادة ولانقص ومن حيث لا أتوقعه نهائيا، فستر منه سبحانه وتعالى، وكم تمنيت الحج ليلا ونهارآ وأشترك فى مسابقة لها جائزة واحدة للحج وأفوز بها، سبحانه وتعالى يعطى ويتفضل الحنان المنان أن أعطانى الصحة والعمل الحمدلله بعد الستين، وكلما تذكرت الماضى الطويل خلفى أبكى كيف أوفى لله شكره، وأشعر أننى لا أعمل أى عمل يضعنى فى مكانة قريبة من الأبواب المذكورة فى السنة للجنة، وحيث إننى أعمل من الصباح حتى بعد العشاء أصل إلى بيتى، فصيامى غير الفرض قليل والصلاة والحمدلله لاتترك أبدآ، ولكن قليل من السنن ولكن نظرا لطول المسافة بين العمل والبيت أستمع للقرآن تقريبا طوال الوقت.
فماذا أفعل حتى أوفي لله شكره وهو سبحانه ذو الفضل العظيم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنهنئ أولا السائل على هذا الشعور الطيب، ونسأل الله تعالى له المزيد من الحرص على شكر الله تعالى وحمده والثناء عليه.
فالمؤمن دائما يستشعر فضل الله عليه ويرى نعمه عليه كثيرة يعحز عن شكرها، ولاسيما نعمة الإسلام فهي أعظم نعم الله على العبد، وكل ما يأتيه من خير فهو تابع لهذه النعمة.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين وهو يتكلم عن حقيقة الشكر وكيف يكون العبد شاكرا: وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا وعلى قلبه: شهودا ومحبة وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة، والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره. فهذه الخمس هي أساس الشكر وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدة اختل من قواعد الشكر قاعدة، وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور. اهـ.
ولتعلم أن من أعظم ما يشكر العبد به ربه عز وجل هو أداء الفرائض كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.
ثم بعد الفرائض التشبث بما يستطيع من النوافل، ومن أعظمها وأسهلها وأخفها: ذكر الله تعالى.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
ولمزيد من التفصيل حول شكر النعم كيفيته وقواعده انظر الفتويين رقم: 73736، 74127.
وننبه السائل الكريم على ملحوظة في قوله: ويتفضل الحنان المنان أن الحنان لم يثبت كونه اسما لله تعالى في السنة الصحيحة، وأما اسم المنان فثابت وصحيح، وقد بينا هذا في الفتوى رقم: 39861.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 ربيع الثاني 1430(9/4032)
تتحمل هذه الفتاة إثم نفسها
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف هل أكون مسؤولا عن زوجتي في فترة العقد قبل البناء؟ أم تكون هذه المسؤولية بعد البناء فقط؟ أعني بالمسؤولية هنا أن ينالني إثم إذا فعلت هي ذنبا ما.
وسؤالي لأني خاطب وقد طالت فترة الخطوبة لبعض الظروف، ولا أريدها أن تطول أكثر من ذلك حتى لا تنهار الضوابط الشرعية بيني وبين خطيبتي.
لكن ما يمنعني من العقد حاليا أن خطيبتي في آخر سنواتها الدراسية، وظروف دراستها تضطرها لعدم ارتداء النقاب، وللسفر بين محافظتين بدون محرم. وهي تأخذ بقول من يقول أن هذا جائز لكني لا أرى ذلك.
فبم تنصحوني بارك الله فيكم، هل أؤجل العقد حتى تنتهي من دراستها فتتوقف عن السفر وترتدي النقاب إن شاء الله، أم أعقد والحال كما هو عليه؟ علما بأنها لن تستطيع التوقف عن السفر أو ارتداء النقاب قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبمجرد عقد الرجل على المرأة تصبح زوجة له، لكن ما دامت في بيت أبيها ولم يسلّم لها المهر ويدخل بها، فطاعتها لأبيها وليست لزوجها.
وعلى ذلك، فإذا عقدت على هذه الفتاة ولم تدخل بها فإنك لا تتحمل إثم ما يصدر منها من مخالفة للشرع، لكن عليك أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وانظر الفتوى رقم: 78509.
والذي ننصحك به أنّه إذا أمكنك أن تعقد عليها وتعجل الدخول بها فهو أولى، وحينئذ تكون طاعتها لك ولا سلطان لأهلها عليها، أما إذا لم يمكن ذلك فننصحك بتعجيل العقد، مع مداومة نصحها في الأمور التي ذكرتها وبيان الحق فيها، وراجع في مسألة ستر الوجه الفتوى رقم: 4470. وفي مسألة السفر بدون محرم الفتوى رقم. 46251.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 ربيع الثاني 1430(9/4033)
أهمية تصحيح النية قبل العمل واحتساب الأجر
[السُّؤَالُ]
ـ[ساعات أعمل حاجات مثلا أن أطعم أحدا، أو أفك كرب أحد بنية أني أحب هذه الحاجات، مثلا أحب الناس كلها في سعادة، لكن نيتي ليست لله، حيث لو لم أكن متدينا لفعلتها، هل أجازى عليها وأؤجر؟ وأحيانا أعمل الحاجة لله للثواب فقط، وأحيانا أعملها حبا لله فقط وشكرا، هل كل واحدة على حدة تنفع؟ ولو جمعتهم تنفع؟ أرجو أن تكونوا فهمتموني.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل الجامع فيما يفعله العبد من أعمال أن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان صوابا، وابتغى به العبد وجه الله، فالعمل المقبول عند الله تعالى يشترط له شرطان، وهما: الإخلاص، والمتابعة، وإذا تخلف أحد هذين الشرطين عن عمل لم يقبل، وقد بينا هذا في الفتوى رقم: 14005 فلتراجع.
وأما عن العمل لله للثواب أو حبا لله وشكرا له أو الأمرين معا، فهذه الأعمال إن توفرت فيها الشرط الثاني وهو أن يكون العمل على السنة ويكون لله، فهذا مما يؤجر عليه العامل، ولا بأس باستصحاب أكثر من نية مشروعة في العمل الواحد كامتثال أمر الشرع، وحب الله، والطمع فيما عند الله، وشكر الله على نعمه، فهذا مما أثنى الله به على عباده المسارعين في الخيرات حيث مدحهم بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ {الأنبياء: 90}
قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: في عمل القُرُبات وفعل الطاعات، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) قال الثوري: (رَغَبًا) فيما عندنا، (وَرَهَبًا) مما عندنا. انتهى.
وننصح السائل بالاجتهاد في تصحيح النية، واحتساب الأجر فيما يقوم به من أعمال، حتى وإن كان يحب القيام بهذا العمل نفسيا فلا تعارض بين هذا وبين أن يعمل لله، حتى لا يتعب فيما لا طائل تحته، ولا يحصل في النهاية إلا على شهوة النفس فقط، وراجع في كيفية غرس الإخلاص في النفس والبعد عما يشوبه الفتوى رقم: 52210.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 ربيع الثاني 1430(9/4034)
كيف يكون العبد تقيا متسامحا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف لي أن أكون عبدا تقيا متسامحا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يجعلنا جميعا من المتقين، وقد أمرنا سبحانه بذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {آل عمران:102} .
قال بعض السلف: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وقال ابن جرير رحمه الله: اتَّقُوا اللَّهَ: خافوا الله، وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه. وقال ابن مسعود في قوله: حَقَّ تُقَاتِهِ.: قال: أن يُطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. رواه أحمد والترمذي والدارمي وحسنه الألباني.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرحه للحديث السابق: والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين. قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) (النساء:131) وأصلُ التّقوى: أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه. انتهى.
وقال أبوحامد الغزالي رحمه الله: إنما الفضيلة فى أمر هذه النفس أن تقوم عليها بقوة العزم فتمنعها عن كل معصية، وتصونها عن كل فضول، فإذا فعلت ذلك كنت قد اتقيت الله تعالى فى عينك وأذنك ولسانك وقلبك وبطنك وفرجك وجميع أركانك، وألجمتها بلجام التقوى، ولهذا الباب شرح يطول، وأما الذي لا بد منه هاهنا فأن نقول: من أراد أن يتقي الله فليراع الأعضاء الخمسة فإنهن الأصول: وهى العين والأذن واللسان والقلب والبطن، فيحرص عليها بالصيانة لها عن كل ما يخاف منه ضرراً في أمر الدين من معصية وحرام وفضول وإسراف من حلال، وإذا حصل صيانة هذه الأعضاء فمرجو أن يكف سائر أركانه، ويكون قد قام بالتقوى الجامعة بجميع بدنه لله تعالى. انتهى.
وننصح للاستزادة حول موضوع التقوى بمراجعة كتاب: "التقوى الدُرَة المَفقُودة والغاية المَنشُودة" للشيخ أحمد فريد حفظه الله. ومراجعة الفتويين: 11844، 24800. ولمعرفة صفات المتقين مراجعة الفتوى: 42230.
وأما كيف يكون العبد متسامحا؟ فيكون ذلك بالسماحة، وهي كما قال الجرجانيّ في التعريفات أن المراد بها: بذل ما لا يجب تفضّلا. اهـ أو كما قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث أنّ المقصود بها: الجود عن كرم وسخاء. اهـ وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: مَا الْإِيمَانُ؟ فقَالَ: الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ. رواه أحمد وصححه الألباني.
قال ابن القيم معلقًا على هذا الحديث: وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان:
1- بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه: السماحة.
2 - وترك ما نهيت عنه والبعد عنه، فالحامل عليه: الصبر. انتهى من مدارج السالكين.
ويكون التسامح مع الغير في المعاملات المختلفة بتيسير الأمور والملاينة، والتنازل عن الحقوق والإنصاف من النفس والعدل مع الآخرين، والإحسان إليهم والتغاضي عن هفواتهم، ومن كان سمح النّفس كان حسن المصاحبة لإخوانه ولأهله ولأولاده ولخدمه ولكلّ من يخالطه أو يرعاه.
ولمزيد من التفصيل راجع الفتوى: 72777.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 ربيع الثاني 1430(9/4035)
من أتى بسبب التوبة تاب الله عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[قمت بتعريف أحد أصدقائي على فتاة، وأعلم أن هناك علاقات غير شرعيه تتم بينهما، علما بأني تبت إلى الله، وقطعت علاقتي بتلك الفتاة، وقمت بدعوة صديقى أن يتوب إلى الله لأني أنا السبب في علاقته بالفتاة، هل ما زال علي وزر أفيدوني أفادكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد أسأت أولا فيما قمت به، فهذا العمل من إشاعة المنكرات في المجتمع، ويترتب عليه من المحرمات ما لا يعلمه إلا الله، وقد تقدم الكلام على ما يسمى الصداقة بين الرجال والنساء، وبيان ما فيها من محرمات في الفتويين: 11945، 10271.
ثم إنك قد أحسنت بالتوبة إلى الله، وقد قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} . وقال صلى الله عليه وسلم: النَّدَمُ تَوْبَةٌ. رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
والتوبة الصادقة تمحو الذنوب مهما عظمت، قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {النحل:119}
وما دمت قد تبت إلى الله، وبينت لصديقك أن ما يفعله محرم، وندمت على ذلك، فلا وزر عليك إن شاء الله، فإن من تاب وأصلح، وبين خطأ ما كان سببا فيه تاب الله عليه، كما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {البقرة:160} .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب، ندما وإقلاعا، وعزما على عدم المعاودة {وَأَصْلَحُوا} ما فسد من أعمالهم، فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن، ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضا، حتى يبين ما كتمه، ويبدي ضد ما أخفى، فهذا يتوب الله عليه، لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة، تاب الله عليه، لأنه {التَّوَّابُ} أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح، بعد الذنب إذا تابوا، وبالإحسان والنعم بعد المنع، إذا رجعوا، {الرَّحِيمُ} الذي اتصف بالرحمة العظيمة، التي وسعت كل شيء، ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة، فتابوا وأنابوا، ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم، لطفا وكرما، هذا حكم التائب من الذنب. انتهى.
وننصحك باستمرار دعوتك لصديقك، وحثه على ترك ما هو فيه من المعاصي، إن كنت تأمن ألا يفتنك بعد توبتك، وإلا فاتركه وشأنه، عسى الله أن يتوب عليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 ربيع الثاني 1430(9/4036)
المعاصي تمحق بركة الدين والدنيا
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤال عن عدم البركة في الأموال والأولاد والزوج، حيث إن الزوج يتعامل مع بنوك ربا، وهو مقتنع بأنه حلال رغم أنه متدين وحج بيت الله، وأيضا عند شراء أي شىء في البيت تكون غير سليمة، مثلا شراء ثلاجة جديدة أو أثاث حتى الأولاد يكونون في عدم طاعة، وأنا نصحت زوجي كثيرا بالتخلي عن الربا، ولكنه أتى لي بأدلة تحلل البنوك الربوية من الشيخ مفتى الجمهورية، وأنا أريد حلا لهذه المشكلة، فأنا أعيش في كرب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن قلة البركة في المال والولد وسائر أمور الحياة سببها المعاصي والذنوب، كما أن تقوى الله وطاعته سبب لحلول الخير وفتح بركات السماء والأرض، قال سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {الأعراف: 96}
يقول ابن القيم رحمه الله وهو يعدد بعض عقوبات الذنوب والمعاصي: ومن عقوباتها أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة، وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق. انتهى
كما أن ذنوب الوالدين لها تأثير كبير في فساد الأولاد وعقوقهم وقلة طاعتهم، وهذا لا يستغرب، فإن من عصى الله ولم يوقر أوامره، كيف ينتظر من غيره أن يطيعه ويوقره، يقول ابن الحاج رحمه الله في كتابه المدخل وهو يتحدث عن المعاصي التي يقع فيها الزوجان وما ينتج عنها من الآثار السيئة: لا جرم أن التوفيق بينهما قل أن يقع وإن دامت الألفة بينهما فعلى دخن، وإن قدر بينهما مولود فالغالب عليه إن نشأ العقوق وارتكاب ما لا ينبغي، كل ذلك بسبب ترك مراعاة ما يجب من حق الله تعالى منهما معا. انتهى.
أما بخصوص فوائد البنوك فهذه لا شك أنها من الربا المحرم، ولا عبرة بمن خالف في هذا، وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتاوى رقم: 1513 , 13533 , 1954.
فالواجب على زوجك المبادرة بالتوبة إلى الله من هذه المعاملات المحرمة، وأن يسحب أمواله كلها من هذه البنوك، فيمسك رأس ماله، وينفق الفوائد في أوجه الخير بنية التخلص منها، فإنها لا تحل له بحال، كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 3098.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ربيع الثاني 1430(9/4037)
الصبر على البلاء وترك الحزن على ما فات من الدنيا
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة من بلد مسلم، عاملة في مؤسسة حكومية، أعاني من الظلم في عملي بسبب أني أرتدي الحجاب، أنا أتعب وأتفانى في عملي، نشيطة وذكية، لكن في النهاية أحرم من كل الامتيازات والترقيات. هذا يحزنني كثيرا، أذكر جيدا أني اجتهدت بكل قوة في موضوع مهم، لكن في النهاية قامت زميلة في العمل بتقديمه في المؤتمر، وهذا بأمر من المدير لأني ببساطة أرتدي الحجاب وهي متبرجة، أشعر بالظلم وأتالم كثيراً في داخلي لسلبي حقوقي وأفكاري، فأرجو أن تساعدوني نفسيا ولو بكلمة طيبة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه أن يزيدك رسوخاً في الحق وثباتاً عليه، وأن يجعل لك من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً، وأبشري أيتها السائلة، فأنت بهذا على طرق الأنبياء والصالحين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. فعليك أن تحتسبي هذا الذي يقع عليك عند الله.
ومما يهون عليك مرارة الظلم أن تذكري قدر الدنيا وهوانها على الله سبحانه، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ولذا فإنه يحجبها عن أوليائه ويمد منها لأعدائه مداً، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. قال النووي: معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد. انتهى.
أما هؤلاء اللاتي عصين الله وخالفن أمره في الحجاب ابتغاء عرض الدنيا الزائل، فإنهن في الحقيقة خاسرات قد سقطن من عين الله تعالى ولذا عصينه، ولو كان لهن عند الله قدر لعصمهن ولوفقهن للستر والحجاب، وما يؤتيهن الله من متاع الدنيا أو درجاتها، فهذا استدراج لهن وإملاء، ولكن أنى يعقلن؟ قال سبحانه وتعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا {الإسراء:18-19} .
فلا تحزني على ما فاتك من الدنيا، ولا تبتئسي بفقد درجاتها الوظيفية، وتذكري قوله سبحانه: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً {الإسراء:21} ، ويمكنك مع هذا أن ترفعي أمرك للمسؤولين حتى تدفعي عنك هذا الظلم والبغي، فالله تعالى يقول عن المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ {الشورى:39} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ربيع الثاني 1430(9/4038)
لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يخفي الإنسان نفسه عن الله عن طريق فعل المعصية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمراد السائلة غير واضح، والله تعالى علمه محيط بكل شيء، قال سبحانه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. {غافر:19} ، وقال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. {طه:7} ، وقال عز وجل: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار ِ. {الرعد:10} ، سواء في ذلك الطائع والعاصي، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. {هود:5} .
وقد عاب الله على من يستخفي من الناس ولا يستحي منه سبحانه، فقال: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا. {النساء:108} ، قال السعدي: وهذا من ضعف الإيمان ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم، وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول. فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا. أي: قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة. انتهى. ولزيادة الفائدة يرجى الاطلاع على الفتوى رقم: 14440.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ربيع الثاني 1430(9/4039)
حقيقة الدنيا وهل يصح أن يقال إنها غير عادلة
[السُّؤَالُ]
ـ[أكثر من التفكير وأحيانا القول بأن الدنيا غير عادلة. بمعنى آخر، أن الإنسان يمكن أن لا يأخذ ما يستحقه من سعادة وراحة في هذه الدنيا. إذا هي غير عادلة له. أؤمن -والحمد لله- أن الله هو العدل وأن كل ما يأتي به الله أو يقدره هو خير لنا حتى ولو لم نعلم الحكمة فيه. وكل ما يأتيني الشيطان يوسوس لي أقول في نفسي: ربي أعلم مني بما هو خير لي وأسكت.
فهل تفكيري في ما ذكرته في البداية خاطئ:الدنيا غير عادلة، أو أنه يعارض شيئا من الدين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالدنيا ـ كما هو معروف ـ ليست بدار جزاء ووفاء، وإنما هي دار محنة وابتلاء، وذلك أنها لم تخلق للدوام والبقاء بل للزوال والفناء، روى الطبري عن ابن جريج في قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة قال: أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دار جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما.
فلا يصح أن يحكم على حال الدنيا بمعزل عن الآخرة، فإن الله تعالى لم يخلقها إلا ليبتلي بها عباده ويمتحنهم فيها، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. {هود:7} .
ولذلك قال الله عز وجل: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ. {آل عمران: 198،197،196} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط. رواه مسلم.
وقال -أيضا -صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء. رواه الترمذي وصححه، وصححه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. رواه مسلم.
ومر صلى الله عليه وسلم على سخلة ميتة فقال لأصحابه: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله. فقال: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
فلا غرابة إذن أن يحرم منها الأنبياء والصالحون ويشدد عليهم فيها، ويعطاها أعداء الله ويوسع عليهم فيها.
فعن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك. قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء. قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء. رواه ابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
ودخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فما رأى في بيته شيئا يرد البصر، فقال: ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكان متكئا ـ فقال: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. متفق عليه.
فإن كان هذا هو ما تعنيه السائلة بقولها: الدنيا غير عادلة. بمعنى أن ليست ميزانا للتفاضل بين الناس، وأن حصول زهرتها لا يدل على رضا الله، فهذا صحيح، ويدل عليه قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ*وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كَلَّا.. {الفجر:17} .
وكذلك إن كانت تعني أن إقامة العدل المطلق لا يكون في الدنيا بل يكون في الآخرة، فقد قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. {الأنبياء:47}
وقال صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم.
على أننا ننبه السائلة الكريمة أنه لا ينبغي الانشغال بسب الدنيا وعيبها، بل النافع أن يزهد العبد فيها ويأخذ منها ما يعمر به آخرته، وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 96397.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 ربيع الثاني 1430(9/4040)
استحضار النية واحتساب الأجر
[السُّؤَالُ]
ـ[بارك الله لكم فيما تقدمونه من خدمة جليلة للإسلام والمسلمين وجعله في ميزان حسناتكم.
لي سؤال أود أن تفيدوني فيه: هو أنى كنت أتناقش مع زميل لى بالعمل فنبهنى إلى أن العبادات من فرائض ونوافل لن تحسب أو أؤجر عليها مادمت لم أحتسبها عند الله، أى يجب ان تكون أعمالك لله، فقلت له إنى ما أفعله من عبادات فبالطبع هي لله وابتغاء وجهه، ولكننى أفعلها بفطرة المسلم الذى يريد أن يزيد من حسناته وأعماله الصالحة حتى يجد ما يلقى به الله يوم القيامة، وزاد الأخ الكريم وقال لي: إنك يجب أن تنتبه إلى أن تتحول هذه الأعمال إلى روتين يومي. وهذا ما يحدث لى بالطبع، فمن تكرار ما أفعله من عبادات أصبحت كالواجبة علي، لا أفكر في أنني يجب أن أفعلها أم لا، ولكنني أقوم بها وأنا راض بما أفعله، ومسرور ولكن لا أفكر فى نيتي قبل كل عمل أو عبادة.
لذا أصابنى نوع من الشك فيما قاله الأخ الكريم لي وأصبحت أعبد الله وأقوم بالنوافل، وهناك نوع من الشك يساورنى فيما أفعله وهل سوف أؤجر على ماقمت به من عبادات، وهل يجب أن أنوي قبل كل عمل أنه لله، وأن كان كذلك، فكيف وأصل العبادات كلها لله الواحد القهار. وكيف أتجنب الروتين فى عباداتي ولأنها يومية تصبح عندى كالواجبة، وكيف أتجنب الرياء فى عباداتى، وأتاكد من أننى لست منافقا، وإنما أبتغي وجه الله.
أرجو أن أكون أوضحت لكم ما أريد، وأن تجيبوني حيث إننى في حالة نفسية سيئة مما قاله الأخ لي، وبين محاولة تطبيق ما قاله وبين صحته أو عدم فهمي له.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكون العبادات لا يؤجر فاعلها إلا إذا احتسبها، أمر صحيح، يشهد له الحديث المتفق عليه: إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا أجر إلا عن حسبة، ولا عمل إلا بنية. رواه الديلمي وصححه الألباني بشواهده.
قال المناوي في فيض القدير: لا أجر إلا عن حسبة أي عن قصد طلب الثواب من الله، ولا عمل معتد به إلا بنية انتهى.
فاستحضار النية واحتساب الأجر في العبادة أمر ضروري، ولا خلاف بين العلماء في اشتراط النية في صحة العبادات. والنية يراد بها أمران: تمييز العبادات عن العادات، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا ما يعنى الفقهاء ببيانه. وأما أرباب السلوك فيريدون بها تمييز المراد والمعبود، وهذا هو الإخلاص، أن يراد بالعبادة وجه الله تعالى وحده، كما سبق التنبيه عليه في الفتويين: 47980، 43991.
ويكفي في حصول الاحتساب، وبالتالي ثواب العمل، أن يكون الدافع للعمل هو طلب ثواب الله، والقصد من ورائه امتثال أمره تعالى.
قال المناوي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: لا أجر لمن لا حسبة له: أي لمن لم يتقصد بعمله امتثال أمره تعالى والتقرب به إليه. انتهى.
وأما بقية الإشكال الذي ذكره السائل الكريم فيتضح الجواب عليه بأن يعلم أن النية يجب استصحاب حكمها، ولا يجب استصحاب ذكرها، بمعنى أنه يكفيه أن لا يقطع نيته بما يناقضها وإن لم يتذكرها.
قال ابن قدامة في (المغني) : الواجب استصحاب حكم النية دون حقيقتها بمعنى أنه لا ينوي قطعها. انتهى.
وقال القرافي في كتاب (الأمنية في إدراك النية) : النية قسمان: فعلية موجودة، وحكمية معدومة، فإذا نوى المكلف أول العبادة فهذه نية فعلية، ثم إذا ذهل عن النية حكم صاحب الشرع بأنه ناو ومتقرب، فهذه هي النية الحكمية، أي حكم الشرع لصاحبها ببقاء حكمها لا أنها موجودة، وكذلك الإخلاص والإيمان والكفر والنفاق والرياء وجميع هذا النوع من أحوال القلوب، إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت فعلية، وإذا ذهل عنها حكم صاحب الشرع ببقاء أحكامها لمن كان اتصف بها قبل ذلك. انتهى.
وقد ضبط الشيخ وليد السعدان القواعد المتعلقة بالنية في رسالة مختصرة مفيدة في (تحقيق قواعد النية) ، فكانت القاعدة الثالثة هي: لا ثواب إلا بالنية، وحشد لها كثيرا من أدلة القرآن والسنة وقال: وهذا يفيدك أنه لا بد من الاحتساب وطلب الأجر والثواب من الله تعالى في كل عمل من أعمال البر، حتى ولو كان واجباً؛ فإن الإنسان قد يعتاد فعل الواجب فيصير عنده كالعادة، فيفعله دون أن يستحضر أن هذا الفعل قربة لله تعالى يرجى بها ثوابه وجنته، فمن فعل الواجب بلا نية التقرب والاحتساب فإنه وإن سقطت المطالبة عنه، فإنه لا أجر له، فالنية مهمة في كل عمل، فلا بد من مجاهدة النفس عليها. انتهى.
وكانت القاعدة الرابعة عشرة منها هي: (استصحاب حكم النية شرط، واستصحاب ذكرها فضيلة) فلو غفل الصائم أو المصلي عن كونه في عبادة وانقطع استشعاره لنية العبادة، فلا شيء عليه، ولكن فاته الكمال والفضيلة فقط؛ لأن الذي انقطع ليس هو حكم النية وإنما الذي انقطع تذكرها، واستصحاب تذكر النية ليس شرطاً في الصحة وإنما هو من باب الفضائل والكمالات. اهـ
والذي يظهر من حال السائل الكريم أنه ينوى التقرب إلى الله بعباداته ويحتسب ثوابها عنده تعالى؛ فقد ذكر في سؤاله عن حال نفسه ما يقتضي حصول الاحتساب منه، وهو قوله: (ما أفعله من عبادات بالطبع هي لله وابتغاء وجهه، ولكن ني أفعلها بفطرة المسلم الذ ي يريد أن يزيد من حسناته وأعماله الصالحة حتى يجد ما يلقى به الله يوم القيامة) . وقوله: (أقوم بها وأنا راض بما أفعله ومسرور) .
ويبقى أن يجتهد في تحصيل الكمال، بدوام ذكر هذه النية واستحضارها، بحيث لا تصير أعماله أشبه بالعادة مع تكرارها. والذي يعين على هذا: دوام ذكر الله، وقصر الأمل، وتذكر الدار الآخرة، بحيث يقوم العمل على أقدام المحبة والخوف والرجاء.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {المؤمنون: 61،60،59،58،57}
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى ذلك فقال: اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، وصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها. رواه الديلمي، وحسنه الألباني.
وكذلك الحال في بقية العبادات، إذا قام بها العبد ذاكرا ربه، وَجِلا قلبه، قصيرا أمله، كانت نية العبادة على الوجه الأكمل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 ربيع الثاني 1430(9/4041)
تجاوزي مشاكلك بتقوية الصلة بالله والاستعانة به
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة عمري 21 عاما الحمد الله على كل حال وكان ابتلاء أحمده كثيرا.
أولا لا أريد منكم إلا الإرشاد الصحيح: في البداية، أنا عشت طفولة قاهره في داخلي والسبب يرجع لا أعرف لمن؟ أنا طفلة كان أبي عصبي وحنون كان دايما إذا لم نسمع له في بعض الأمور مثل الدراسة لو لم أحفظ كان يضربني وأنا مثل أي طفلة تلجأ لحماية أخاف وأقول أني سوف أذهب إلى الحمام وأبكي ثم أعود وغير ذلك، إن أوضاعنا المادية ضيقه وأيضا أتذكر أنني ذهبت مع أخي للسوق وجاء رجل كبير مصري الجنسية وتحرش جنسيا بي وبأخي لا أعرف إذا كان أخي يذكر مثلي، وأيضا أتذكر أن رجلا أغراني بشكولاته وكنت طفله صغيرة ذهبت معه وأخذني لمنزله وتحرش بي، أنزل البنطال وصار يمارس الجنس عادي لمس فقط، وأنا في طفولتي دائما ساكتة ولا أعرف أتكلم، دائما أبكي وأتححج أني مريضة، كنت أخاف أن أتكلم وأهلي يضربوني لأن أمي وأبي دائما في خلاف، فأنا طفولتي قتلني لحد الآن، تركت لي أعراضا، تعبت، أبكي دائما، تعلمت الدين الإسلامي من صديقة مقربة لي وصرت أصلي وتعلمت والحمد الله، وكبرت إلى أن جاءت فترة المراهقة، بلغت، أحببت شخصا لكن أعرف أنه غلط وتذكرت الله وسحبت علاقتي، وكان هدفي ليس الحب أو مثل المرهقات طالعات إلي آخره كنت أود أن أتكلم وأخاطب شخصا يفهمني ولا يضربني، دائما كنت أتذكر مراقبة الله، إلى أن وصلت الثانوية -للأسف-خلافات أهلي تزيد ودائما ساكتة لا أعرف ماذا أعمل؟ وكيف أتعامل مع الحياة وغير ذلك. نحن مغتربون وكان وضع الاستقرار في بيئة ثانية صعبا ضغطت من داخلي نفسيا وحتى وصلت مرحلة الثانوية وأنا أري زميلاتي مبسوطات مع أهلهن ويتكلمن عن علاقاتهن الشرعية وغير الشرعية بحرية، حتى الآن أعاني من ضغط وكبت، وصلت الثانوية وأنا في حالة من الصمت القاتل أستمع دائما للناس وأحل أمورهم إلا أنا دايما اشتكي همي لله أخاطبه دوما لكن مشكلتي صلاتي أتقطع في أدائها وهذا الذي أتعبني، وغير ذلك،أنا مررت بمرحلة الثانوية بضغط كبير بين مشاكل العائلة ومشاكل أبي وأمي وصرت أذهب إلى المدرسة ليس لغرض العلم ولا العمل بغرض التفريغ عن روحي فقط، للأسف تعرفت على بنات -والعياذ بالله -يحببن الشباب ويمارسن الجنس معهم لكن أنا لما كنت أسمعهم كانت غريزتي تطلب هذه الأشياء ووقعت بالحب وممارسته مع القبل واللمس، لكن فقط جلست شهرا على هذا الحال وأحسست بملل وبضيق لأني أعرف أنه حرام وأن ربي سوف يعاقبني، لكن الشيطان والخلوة التي حدثت، معي لكن حدثت معي حالة غربية بسبب انفصال أبي عن أمي، والسبب يعود أن أمي لا تريد أبي من عدم التوافق مع أبي، بصراحة أمي لا تحب أن تمارس الجنس معه، لأنها تزوجت أبي وهي لا تريده، فقط التقاليد القديمة والجهل أهلها زوجوها، المهم كان أبي دائما لكي يرجعها يستخدم أسلوب الجري وراء الشعوذة والسحر، ولكن نحن كنا أكثر وعيا منها، وأكثر ثقافة دينية منه، ونعرف أن هذا حرام، وكنا نحرق ونتلف الحجابات، وبالرغم أن أبي يصلي ويصوم ويحج واعتمر كثيرا، لكن للأسف مستواه الفكري كان ضعيفا، المهم كنت أنا تعبانه في علاقتي بالغير، أصلي وتبت وقطعت العلاقة، ولكن بمرور الأيام سأل أبي شيخا وقال له مشكلته معي وقال الشيخ: اقراء سورة البقرة كل يوم وسوف يصاب من أولادك اتنين، وفعلا أنا وأختي، أنا استيقظت من النوم فزعة، رأيت حيه حقيقة وتم الإغماء علي وفقدت الوعي، ثم صار معي شي غريب أي أحد يكلمني لا أتكلم إلا سوى أقرأ سورة الفاتحة وأوآخر سورة البقرة آية الكرسي، ومرت الأيام وأخذني أبي إلى المستشفى وبنفس المستشفى أقرا القران؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما كان من أبيك من ذهاب للسحرة والمشعوذين هو خطأ كبير، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من تطير، أو تطير له، أو تكهن، أو تكهن له، أو سحر، أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: إسناده جيد.
وعلاج ما يكون من السحر أو المس إن وجد، يسيرٌ بإذن الله تعالى، وذلك بالمحافظة على الأذكار والرقى المشروعة مع التوكل على الله، ولمعرفة كيفيتها تراجع الفتوى رقم: 2244، والفتوى رقم: 10981.
واعلمي أن أعظم أمور الدين بعد الإيمان بالله هي الصلاة، والمحافظة عليها من أعظم الواجبات ومن أهم أسباب الثبات على الدين وصلاح القلب ونزول السكينة عليه، والتهاون بها من أكبر الكبائر كما أنه من أعظم أسباب الانحراف عن الدين وفساد القلب واضطرابه وحيرته، وانظري الفتوى رقم: 75584.
وأما ما كان منك من علاقات محرمة، فاعلمي أنك أخطأت حين ظننت أنك تستطيعين أن تعوضي ما عانيتيه في أسرتك، بسلوك طرق تغضب الله، فإنه لا راحة للقلب ولا طمأنينة إلا في ظل طاعة الله، فالواجب عليك التوبة من ذلك بالإقلاع والندم والعزم على عدم العود، ولا شك أن الزواج هو أفضل علاج وأقوم سبيل، فينبغي لأبيك إذا تقدم إليك ذو دين وخلق أن يزوجك، فلا تخجلي أن تعلني لوالديك رغبتك في تعجيل الزواج إذا أتاك ذو دين وخلق، أو توسطّين من أقاربك من يبين لهم ذلك، وأن رفضهم ذلك لمجرد كونه من غير بلدكم، قد يكون من العضل الذي نهى الله الأولياء عنه، والذي يؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض، وإلى أن يتيسر لك الزواج فإن عليك أن تصبري، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. {النور:33}
ومما يعينك على ذلك:
- الاستعانة بالله والتوكل عليه وكثرة الذكر والدعاء، والتبرؤ من الحول والقوة.
- تجنب مشاهدة ما يغضب الله سواء في التلفاز أو الصحف والمجلات.
-الحذر من رفيقات السوء والبعد عن مجالس الغفلة ومجتمعات المعاصي، والحرص على مصاحبة الصالحات.
- الصدق مع الله بمجاهدة النفس والصبر ومخالفة الهوى ابتغاء رضا الله.
- الحرص على تعلم أمور الدين اللازمة، وسماع المواعظ النافعة، وقراءة الكتب المفيدة، ومطالعة المواقع الإسلامية الموثوقة، والبرامج الهادفة، وشغل الفراغ بالأعمال المفيدة.
واعلمي أن كل ما مرّ بك في طفولتك أو خلافات والديك، أمور يمكن تجاوزها بتقوية الصلة بالله والاستعانة به، ويمكن للسائلة أن تتواصل مع قسم الاستشارات النفسية بالموقع، وستجد عنده ما يعينها على حل مشاكلها واستبصار طريقها الصحيح إن شاء الله تعالى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 ربيع الثاني 1430(9/4042)
أعلى أهل الإيمان منزلة.. وطرق استجلابها
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أسأل إذا كانت هناك منزلة أعلى من الشهادة في سبيل الله يستطيع أن يحصلها المسلم في أيامنا هذه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن منزلة الشهادة في سبيل الله عظيمة وقد بينا شيئا من ذلك في عدة فتاوى وبإمكانك أن تطلع على بعضها في الفتويين رقم: 32629، 9751.
وليس فوق منزلة الشهداء في سبيل الله غير منزلة النبيين والصديقين؛ فقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن أعلى أهل الإيمان منزلة هم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء. قال الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. {النساء:69}
قال ابن القيم رحمه الله: والصديق هو الذي صدق في قوله وفعله، وصدق الحق بقوله وعمله، فقد انجذبت قواه كلها للانقياد لله ولرسوله. وراجع في هذا الفتوى رقم: 32228.
ومنزلة الصديقين يمكن اكتسابها والحصول عليها في كل زمان ومكان لمن وفقه الله تعالى لها، وصدق في قوله وفعله، وجاهد نفسه وأخلص لله تعالى.
أما منزلة النبوة فلا يمكن الحصول عليها؛ لأنها اصطفاء من الله تعالى لبعض عباده؛ كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. {الحج:75}
وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 ربيع الثاني 1430(9/4043)
إخفاء الأعمال والخوف من النفاق
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا امرأة ملتزمة والحمد لله لكن عندي خوف كبير من الرياء والنفاق، فانا أحب الناس وأتمنى أن يحبني الجميع، فأحاول أن أكون لطيفة مع الجميع، وأن لا أعمل أي خصومات مع أهلي، أو أهل زوجي وأسايرهم جميعا، لا أقف مع أحد ضد أحد.
فهل هذا نفاق وأنا أفتخر بديني وإسلامي، وإذا عملت شيئا لله من قول أو فعل أفتخر به أمام الجميع.
فهل هذا أيضا نفاق ورياء، مع أني أنوي دائما في كل عمل أن يكون خالصا لله لكن بعد عمله أشك في أنه ليس خالصا لله فكيف أتخلص من هذه المشكلة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالخوف من النفاق والرياء إذا كان في إطاره الصحيح وفي حدود الاعتدال فهو من علامات الإيمان، وهو مما يدفع إلى الاجتهاد في تصفية الأعمال وتحرّي الإخلاص والصدق، وذلك من أهم أسباب النجاة، وراجعي الفتوى رقم: 29642،والفتوى رقم: 68464.
أما عن سؤالك، فإن حرصك على العلاقة الطيبة مع أهلك وأهل زوجك واجتناب ما يكدّر صفو هذه العلاقة، هو خلق كريم وسلوك فاضل، ما دام ذلك بعيدا عن المداهنة في الدين، بمعنى أن تكون المجاملة على حساب أمر شرعي، كترك الأمر بالمعروف أو الإقرار بالمنكر، ولمعرفة الفرق بين النفاق والمجاملة، راجعي الفتوى رقم: 75660. والفتوى رقم: 26817.
وأما افتخارك بدينك وفرحك به فهو أمر مطلوب، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. {يونس:58} ، وهذا الفرح يقتضي أن يتحدث الإنسان عن نعمة الإسلام، لا أن يتحدث عن أعماله للناس.
فالذي ننصحك به أن تجتهدي في أن تقصدي بأعمالك وجه الله وتكثري من الدعاء بالتوفيق والقبول، وتحرصي على إخفاء أعمالك ما استطعت، فإن الأفضل إخفاء الأعمال عن الناس ما لم يكن هناك مصلحة شرعية في الإظهار، قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. {البقرة: 271} ، وانظري الفتوى رقم: 112216، والفتوى رقم: 29466.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 ربيع الثاني 1430(9/4044)
تابت إلى الله لكنها لا تشعر بحلاوة التوبة
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد أذنبت فتاة ذنبا يعد من الكبائر، ولقد كانت علي قدر كبير من التدين والقرب من الله كما كانت تحسب نفسها، ولكن بعد مداومة الذنوب الصغيرة إلي أن وصلت للكبيرة والمغلظة وفعلتها مرة واحدة شعرت أنها بعيدة عن الله، ورغم توبتها إلا أنها تشعر في كثير من الاحيان بالضياع وعدم القدرة على الوصول إلي قلبها، واستشعار رضا الله، بل هي دائما في حيرة ما بين التوبة النصوح، وبين التفكير في الشخص الذي فعلت معه ذلك الفحش، هي لا تريد العودة وتندم أشد الندم، ولكن تشعر في كثير من الأحيان أنها ما كانت لتتوب لولا بعد هذا الشاب عنها، علي الرغم من أنها هي التي سارعت وأخبرته بهول ما فعلا، لما علمت أن الايلاج في الدبر يعد زنا موجبا للحد، وهما فعلاه ولم يكونا يعلمان بذلك، وعندما أعلمته قرر تركها، وهي في حيرة من أمرها، هل ستقبل توبتها أم لا؟ هي لا تستشعر حلاوة التوبة والإيمان، وهل ستظل هكذا دائما ولن تستطيع أن تعود لما كانت عليه؟ مع العلم أنها قطعت كل علاقتها وتداوم الآن علي الصلاة والصيام، وتنوي العمرة، وتكفل اليتيم.
أفيدونا أفادكم الله، وأعينونا علي التقرب من الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن سعة رحمة الله وعظيم كرمه أن من تاب توبة صادقة من أي ذنب فإن الله يقبل توبته، بل إنه تعالى يفرح بتوبة عبده ويحب التوابين، فالتوبة الصادقة تمحو ماقبلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. رواه ابن ماجه، وحسنه الالباني.
ويعود القلب بعد التوبة أقرب إلى الله وأكثر حباً له وشوقاً إليه وإقبالاً على طاعته واستشعاراً لحلاوة الطاعة، فإذا لم يجد العبد ذلك بعد التوبة فذلك لضعف صدقه في توبته، فلتعلم هذه الفتاة أنها إن صدقت في توبتها فستعود أفضل مما كانت، لكن ذلك له أسباب يجب عليها تحصيلها، فعليها بمراجعة نفسها في صدق التوبة بالإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العود إليه، ولتحذر أن يظل في القلب التفات للذنب وتعلق به، فإن ذلك ينافي صدق التوبة، فعليها إزالة كل تعلق في قلبها بهذا الشاب الذي ارتكبت معه المعصية، وذلك بالاستعانة بالله، وقطع كل الأسباب التي تزيد هذا التعلق، وعدم الاسترسال مع الأفكار والخواطر، وشغل الأوقات بالأعمال النافعة، وتذكر الموت وما بعده من أمور الآخرة، والبعد عن مجالس الغفلة ومجتمعات المعاصي، والحرص على مصاحبة الصالحات، وحضور مجالس العلم والذكر، وغير ذلك مما يصلح القلب ويقرب من الله، مع الإلحاح في الدعاء فإنه من أنفع الأسباب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 ربيع الثاني 1430(9/4045)
القلب الأبيض السليم
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يكون لي قلب أبيض، وماذا أفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلكي يكون قلبك أبيض لا بد من معرفة صفات هذا القلب وأعماله، ومن خلالها سيتبين لك كيف يكون لك قلب أبيض.
فالقلب الأبيض هو القلب الذي سلم من كل شبهة أو شهوة تعارض أمر الله عز وجل، هو القلب الذي سلم من الشرك والنفاق، وسلم من الغل والحقد والحسد، وهو الذي سلم من كل إرادة تعارض إرادة الله عز وجل، هو القلب الذي لم يصب بالقسوة ولم يختم عليه بالأختام، ولم يتدنس بالبدع والخرافات والأوهام وسوء الظن، هو القلب السليم الذي ينجو صاحبه يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. {الشعراء: 88-89}
قال الشيخ ابن السعدي في تفسيره: والقلب السليم معناه الذي سلم من الشرك والشك، ومحبة الشر والإصرار على البدعة والذنوب، ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص، والعلم، واليقين ومحبة الخير، وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله، وهواه تابعا لما جاء عن الله.
والقلب الأبيض أيضا هو الذي إذا عرضت عليه فتنة رفضها وأنكرها ونفر منها؛ فيشرق لذلك الإيمان فيه فيبيض ويصبح منورا، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفات قلوب العباد فقال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ. رواه مسلم.
وأما الأفعال التي من فعلها كان قلبه أبيض، فهي بالابتعاد عن الإثم والبغي والغل والحسد، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
وكذلك من أهم ما يبيض القلب ويحفظ حياته المداومة على فرائض الله، والتقرب إليه سبحانه بالنوافل، ففي صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.
ويكون لك قلب أبيض أيضا بدوام مجاهدة النفس على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومصاحبة من تذكرك رؤيته بالله، ودعاء الله بأن يكون لك قلب أبيض سليم، والبعد عن الصفات الذميمة وأمراض القلوب، ومن أبلغ الأشياء في إحياء القلوب: تعلم العلم الشرعي، مع إدامة الذكر والتسبيح، وتلاوة القرآن بفهم وتدبر. ولمزيد من الفائدة يرجى الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 8372، 19176، 41702، ففيها الكلام على أنواع القلوب والقلب السليم وحقيقته، والطريقة المثلى للوصول إلى ذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 ربيع الثاني 1430(9/4046)
آلام الحيض هل تكفر من خطايا المرأة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن البنت عندما تتألم من الدورة الشهرية كثيراً، تمسح الذنوب عنها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كل مصيبة تصيب العبد فيتلقاها بالصبر والاحتساب فإنه يثاب عليها، وتكفر بها خطاياه كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث الكثيرة، ويدخل في ضمن هذا ما يصيب المرأة من ألم أو وجع حال الحيض، فإنه مصيبة بلا شك فتؤجر إذا صبرت عليها واحتسبت. وقد عرف القرطبي المصيبة بقوله: هل كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه.
قال الله عز وجل في بيان ثواب الصابرين: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {البقرة:155-156- 157} ، وقد روى مسلم في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
وعند مسلم أيضاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به سيئاته.
وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل عنه حتى الشوكة يشاكها.
والآيات والأحاديث في الباب كثيرة مشهورة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 ربيع الثاني 1430(9/4047)
هل ينتفي الإيمان بالشماتة في المسلم والفرح ببلائه
[السُّؤَالُ]
ـ[لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
أشعر بالإحباط واليأس عندما أسمع هذا الحديث النبوي الشريف، لأنني أحس أنني لن أكون مؤمنة، ولن يكون الله سبحانه وتعالي راضيا عني، مع أنني ملتزمة دينيا والحمد لله، ولأني أشعر بالإحباط،وبأن كل عبادتي وتقربي إلى الله سيذهب هباءا، نعم هباءا، وأريد أن أقص عليكم قصتي عساكم أن تساعدوني فيها:
لي أختي أصغر مني متزوجة، وقد أنجبت طفلين، وبعد مرور الزمن اكتشف الأهل والأقارب أن زوجها يشرب المخدرات فتفاجآنا، بل صعقنا، فأردنا تطليق أختي من زوجها لكن أختي رفضت، ودخلنا في مشاكل مع زوجها وأهله، وسمع بها جميع الأهل والأصدقاء، بل الحي والمدينة التي أسكن بها، والمفاجأة كانت من الناس لأنهم نسجوا القصص والروايات عن أختي قصصا بالعرض والشرف، لقد أشاعوا الأقاويل بشرفها وعرضها فكانت الصدمة لنا كبيرة، لم نكن نتصور يوما أن الأهل والأصدقاء يشيعون عن أختي قصصا تقشعر لها الأبدان، ومع ذلك فقد أصبح بيتنا جحيما، ومرض أبي وأمي وأصبنا بإحباط ويأس، ولكن الحمد لله أن الله أعطانا الصبر والقوة لمتابعة حياتنا ولم نراجع أحدا، ولم نغلق البيت في وجه أي أحد، مع أننا نعرف كل شخص تكلم عن أختي.
المشكلة أن الحقد دخل قلبي وتمنيت لكل إنسان ذكر أختي بالسوء أن يصاب به، وبعد فترة وبعد أن هدأ الوضع ورجعت حياتنا إلى وضعها الطبيعي تندمت أني دعوت على الناس، وأصبحت في كل صلاة وأنا ساجدة أطلب المغفرة لجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات وخاصة لمن أساء لأختي،وأن يشرح لي صدري، ولكن للأسف أشعر أن هذا الدعاء لن يخرج من قلبي، وأحاول جاهدة لكن دون جدوى، وفي هذه الأيام سمعت أخبارا عن بعض الأقارب أخبارا سيئة، ودخل الهم بيوتهم وهؤلاء الأقارب أول أناس ذكروا أختي بالسوء بعرضها وشرفها، فعندما سمعت بما حصل لبناتهم شعرت بالسعادة، وفي نفس الوقت أحس بوجعهم.
فهل الله غير راض عني، وأنني لست مؤمنة وأن صلاتي وصيامي ذهبت سدى؟
وماذا أعمل لأخرج الحقد من قلبي وأنسى آلامي بسبب من أساؤا لي، مع أنني أدعو في صلاتي أن يشرح الله لي صدري؟
أرجو أن تساعدوني فأنا في صراع مع نفسي وأحس باكتئاب ويأس شديد، وأخاف أن أجن وأبتعد عن ديني لأنني خائفة من أن الله غير راض عني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشماتة بالمسلمين والفرح بما ينزل بهم من بلاء أو مصيبة لا يجوز – حتى وإن أساءوا - فإنه مناف للأخلاق الكريمة، والشيم المرضية التي أمر الله عباده بها, ولا يتصف بذلك من كمل إيمانه وقوي يقينه بربه.
ولكن هذا الفعل – مع قبحه – لا يخرج صاحبه عن دائرة الإيمان، لأنه من نواقص الإيمان وليس من نواقضه, وقوله – صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ليس المراد به نفي الإيمان عمن لم يحصل هذه المرتبة, بل المراد به نفي كمال الإيمان وتمامه.
جاء في شرح النووي على صحيح مسلم: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الاسلام مثل ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم، وانما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا أجمعين والله أعلم. انتهى.
فجاهدي أيتها السائلة نفسك في هذا، وعوديها خلق العفو والصفح عمن أساء وأخطأ, وكفيها عن الشماتة بالمسلمين, وتذكري ما حدث من أهل النفاق، بل ووقع فيه بعض بعض الصحابة من الخوض في عرض أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وعندما هم ّ أبو بكر أن يمنع الخير عن بعضهم عاتبه الله سبحانه بقوله: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. {النور: 22}
ومن الأدوية المفيدة في علاج مثل هذه الأمراض – بعد التضرع إلى الله والإلحاح عليه أن يكشف السوء - أن تواظبي على صوم ثلاثة أيام من كل شهر فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر. رواه النسائي وصححه الألباني.
جاء في فيض القدير. وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر، محركا: حقده أو غيظه أو نفاقه بحيث لا يبقى فيه رين، أو العداوة أو أشد الغضب. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 ربيع الثاني 1430(9/4048)
ما يلزم من أخطأ في حق نفسه وحق غيره
[السُّؤَالُ]
ـ[أخي أخطأ خطأ كبيرا في حق نفسه وحق أحد من المقربين منه، وهو الآن يشعر بالذنب وقد قرر التكفيرعن هذا الخطأ بالتوبة إلي الله، والطلب ممن أخطأ في حقه أن يسامحه، ومعاقبة نفسه أيضا عن طريق الصيام وعبادات أخرى, ولكنه يصر علي أن هذا لا يكفي وأنه يجب عليه معاقبة نفسه عقابا شديدا مثل أن يوقف حياته كلها، ولا يتزوج وأشياء أخرى, وأنا أرى أن هذا خطأ، وأنه يجب أن يتخلص من شعوره بالذنب بعد أن يقوم بالتوبة إلي الله، وخصوصا أن من أخطأ هو في حقه قد سامحه بالفعل، ولكنه لا يستطيع أن يسامح نفسه، وأنا لا أدري ماذا أفعل لأقنعه؟
فأرجو المساعدة وتبيين الرأي الصواب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على أخيك وقد أخطأ في حق نفسه وحق غيره أن يبادر بالتوبة إلى الله جل وعلا وأن يتحلل ممن ظلمه, وعليه مع ذلك أن يكثر من الأعمال الصالحة المكفرة فقد قال الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} , وفي صحيح الترمذي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن. حسنه الألباني.
فإن فعل هذا فنرجو أن يقبل الله توبته، فإنه سبحانه قد وعد بقبول التائبين فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى:25}
أما أن يتجاوز هذا إلى ما ذكرت من فعل ما يعود عليه بالضرر والأذى مثل الامتناع عن الزواج ونحوه فهذا لا يجوز، لأنه لا ضرر ولا ضرار، والإنسان ممنوع من إدخال الضرر على نفسه كما منع من إدخال الضرر على غيره.
فإن كان إقدامه على هذا الفعل بدافع التدين والتقرب إلى الله فهنا يعظم الإثم ويتأكد المنع, لدخوله حينئذ في حيز البدعة المحرمة, ذلك أن المسلم إنما أمر بعبادة الله بما شرعه الله، وقد شرع الله للذنب التوبة وفعل الصالحات, فمن لم يكتف بهذا ورام ما وراءه مما لم يشرعه الله ولم يأمر به فقد ابتدع في دين الله.
قال الشاطبي في تعريف البدعة: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. انتهى من الاعتصام.
وقال في موضع آخر: لأن بعض الصحابة هم أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هم بالاختصاء، مبالغة في ترك شأن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:من رغب عن سنتي فليس مني. فإذا ً كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والعامل بغير السنة تدينا، هو المبتدع بعينه. انتهى.
ولا شيء أعظم خطرا على دين المرء من البدعة نسأل الله السلامة والعافية.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 ربيع الثاني 1430(9/4049)
عاهد الله ألا يعود إلى الذنب لكنه عاد
[السُّؤَالُ]
ـ[فعلت ذنبا، ولكن تبت، ووعدت الله بعدم الرجوع إليه، ولكني عدت إليه. فماذا أفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي أيتها السائلة أن التوبة لها شروط ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم على عدم العود، ويزاد شرط رابع فيما إذا كانت المظلمة في حقوق العباد، فإذا تحققت هذه الشروط فأبشري بقبول توبتك، فقد وعد سبحانه بقبول التوبة بقوله: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. {الشورى: 25}
فإن حدث بعد ذلك وعدت إلى نفس الذنب فعليك أن تجددي التوبة مرة أخرى من رجوعك إليه، فقد قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. {البقرة: 222} .
ومعنى التوابين أي الذين يتوبون من الذنب وإن تكرر حدوثه منهم، قال ابن كثير رحمه الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. أي: من الذنب وإن تكرر غشْيانه. انتهى.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ،فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ.
قال النووي: وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفاً وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته. وقوله في الحديث: اعمل ما شئت. معناه: ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك.
ولكن ليس في هذا الحديث ترخيص في فعل الذنوب، ولا إغراء بالرجوع إليها فإن العود إلى الذنب قبيح لما يتضمنه من نقض التوبة، ولكن فيه فائدة عظيمة أشار إليها القرطبي رحمه الله بقوله: وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وان كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله. انتهى. من فتح الباري.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 ربيع الثاني 1430(9/4050)
بشريات من الله لمن يترك الحرام
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شخص متزوج ولي طفلان، وعمري 31 سنة، أسكن مع أهلي في منزل واحد متكون من ثلاث غرف فقط، مع عائلة كبيرة من 9 أفراد، إخوتي في عمر الزواج، توظفت في إحدى دوائر الدولة، تمكنت من شراء قطعتي أرض سكنية، بعد أن ادخرت أموالي لمدة ثلاث سنوات، اشتريت الأرض عن طريق جمعية تعاونية بمبلغ بسيط قدره ثلاثة ملايين دينار عراقي بينما سعرها الفعلي هو 15 مليون دينار عراقي، علما أن سعر الدولار الواحد يساوي 1250 دينار عراقي.
للتوضيح- لطفا-راتبي الشهري هو ما يقارب 300$ أردت أن أقوم ببناء دار صغيرة لي وأطفالي ولكن لا توجد في العراق إلا القروض ذات فائدة -الربا- وأنا أعرف أنه حرام وحتى القروض من الدولة المنزل يكلف حدود 30000$ ثلاثون ألف دولار.
أتمنى من الله أن تدلوني على طريقة للاقتراض وبضمان راتبي الشهري، أو المساعدة عن طريق جمعيات الخير، لكي أتمكن من بناء منزل لي لأن هناك مشاكل كثيرة في بيت العائلة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا علم لنا بجهة معينة يمكن أن تساعدك فيما طلبت، وليس هذا من اختصاصنا، وعلى أية حال فإنك قد أحسنت في تركك الاقتراض بالربا فهو من كبائر الذنوب وعاقبته إلى محق وقلة بركة، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ {البقرة: 278-279} .
وتذكر أن تركك لهذه المعاملة المحرمة من صفات المتقين، وقد وعدهم الله بالفرج والتيسير فقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 2-3} ، وقال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا {الطلاق: 4-5} .
وقد بينا عدم جواز الاقتراض بالربا لشراء مسكن في الفتاوى التالية أرقامها: 1215، 1986، 6689، فلتراجعها.
وإن كان هناك بنك إسلامي فراجعه لعلك تجد عنده المخرج، ونسأل الله لك الفرج والتيسير.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ربيع الثاني 1430(9/4051)
هبة الحياة للعبد في ذاتها نعمة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا محتار جدا فى نقطة معينة، واسمح لي أقول كل الذي في قلبي مباشرة، ربنا في القرآن ذكر أن له نعما كبيرة علينا كبشر، ومن هذه النعم مثلا السمع أو البصر، أو الوالدين لكن هذه الحاجات أساسيات لي كبشر حتى أقدر أعمر الأرض وأعيش فيها، ولو كنت خلقت كفيفا كنت سأتأقلم مع وضعي. إذن فهذه ليست نعما. صحيح أم لا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكلامك ليس بصواب، وبيانُ ذلك أن العباد ليس لهم حقٌ على الله عز وجل حتى يزعم العبد أن نعمة الله عليه في السمع والبصر ضرورية لقيام حياته، وعمارة الأرض، ومن ثمّ فلا تكون نعمة، بل نفس حياته نعمة، وتمكينه من عمارة الأرض نعمةٌ أي نعمة. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ {الأنعام:165} وقال تعالى: هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا {هود:61}
فكل عرقٍ ينبض في العبد، وكل نفس يتنفسه شاهدٌ بمنة الله عز وجل عليه وفضله، وأنه لا يستغني عن ربه طرفة عين، فهو غارقٌ في نعم الله عز وجل، يتقلب فيها آناء الليل وأطراف النهار، ومعرفة هذه الحقيقة أول طريق الشكر، وكيف يمكن للعبد أن يقوم بشكر نعمة الله عليه، وهو ينكر أن يكون ما به من النعم العظام، والمنن الجسام نعمةً منه تعالى. قال تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ {النحل:53}
بل العبد مهما اجتهد في الشكر فهو مقصرٌ فيه، وسبيل قيامه بالشكر أن يعرف أنه عاجزٌ عنه.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. وقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} يخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وأمسُوا توابين. وفي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع، ولا مستغنى عنه ربَّنا. وقد روي في الأثر: أن داود عليه السلام قال: يارب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود، أي: حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم.
وقال الشافعي، رحمه الله: الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه، إلا بنعمة تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها. اهـ
وقال القائل في ذلك:
لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ * تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ ...
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ انتهى بتصرف.
وحسبك أن تسأل نفسك، ماذا لو سلبك الله نعمة البصر؟ أو نعمة السمع؟ أو ما هو أقل منها؟، وكيف ستتمكن من الحياة المستقيمة؟ وهؤلاء العميان والصم والبكم لا شك في كونهم أنقص حظاً من القيام بمصالح أنفسهم، فأولى بك ثم أولى أن تحمد الله الذي عافاك مما ابتلاهم به، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا، وانظر لنفسك إذا مرضت كيف تضطرب أمورك، ويختل نظام حياتك، وحينئذٍ تعرف نعمة الله عليك بالصحة، وليس ما أنعم الله به عليك وعلى جميع العباد إلا محض فضل ٍ منه تبارك وتعالى، ولو شاء أن يسلبك ما وهبك لفعل، ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره.
ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ * كلا ولا عملٌ لديه ضائعُ
إن عُذبوا فبعدله أو نعموا * فبفضله وهو الكريم الواسعُ.
فاجتهد في استحضار نعم الله عليك وشكرها، فإن الشكر هو سبب زيادة النعم، وحذارِ حذارِ من كفر نعمة الله، فإن ذلك خطرٌ ما بعده خطر، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. {إبراهيم:7}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ربيع الثاني 1430(9/4052)
هل الإنسان لا يؤجر على عمله إلا إذا احتسبه
[السُّؤَالُ]
ـ[بارك الله لكم فيما تقدمونه من خدمة جليلة للإسلام والمسلمين، وجعله في ميزان حسناتكم.
لي سؤال أود أن تفيدوني فيه هو:
كنت أتناقش مع زميل لي بالعمل فنبهني إلى أن العبادات من فرائض ونوافل لن تحسب أو أؤجر عليها مادمت لم أحتسبها عند الله أي يجب أن تكون أعمالك لله، فقلت له: إن ما أفعله من عبادات فبالطبع هي لله وابتغاء وجهه، ولكنني أفعلها بفطرة المسلم الذي يريد أن يزيد من حسناته وأعماله الصالحة حتى يجد ما يلقى به الله يوم القيامة, وزاد الأخ الكريم وقال لي: إنك يجب أن تنتبه إلى أن تتحول هذه الأعمال إلى روتين يومي.وهذا ما يحدث لي بالطبع، فمن تكرار ما أفعله من عبادات أصبحت كالواجبة علي. لا أفكر في أنني يجب أن أفعلها أم لا، ولكنني أقوم بها وأنا راض بما أفعله ومسرور، ولكن لا أفكر في نيتي قبل كل عمل أو عبادة، لذا أصابني نوع من الشك فيما قاله الأخ الكريم لي وأصبحت أعبد الله وأقوم بالنوافل وهناك نوع من الشك يساورنى فيما أفعله، وهل سوف أأجر على ما قمت به من عبادات؟ وهل يجب أن أنوى قبل كل عمل أنه لله، وإن كان كذلك فكيف وأصل العبادات كلها لله الواحد القهار؟
وكيف أتجنب الروتين فى عباداتي، ولأنها يومية تصبح عندى كالواجبة، وكيف أتجنب الرياء في عباداتي وأتاكد من أننى لست منافقا وإنما أبتغى وجه الله؟
أرجو أن أكون أوضحت لكم ما أريد، وأن تجيبوني حيث إنني في حالة نفسية سيئة بسبب ما قاله الأخ لي،وبين محاولة تطبيق ما قاله وبين صحته أو عدم صحته أو عدم فهمي له؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
نسأل الله أن يرفع عنك ما تجده من السوء، ثم اعلم أن أجر العامل يحصل له إذا نوى بعمله التقرب إلى الله عز وجل وابتغاء مرضاته، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن تكليف العبد أن يعمل عملا بلا نية تكليف بما لا يطاق، وبه تعلم أن العمل لا ينفك عن نية، فإذا كان العمل ابتغاء وجه الله حصل الثواب، وإذا كان ابتغاء عرض الدنيا أو نظر الناس فهو حابط لا ينتفع به صاحبه.
فظهر لك أنك مثاب- إن شاء- الله على ما تقوم به من الطاعات إذا وقع بنية التقرب إلى الله، وأما الاحتساب فهو أمر زائد على النية وهو أخص منه. كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 99355.
وبقدر كمال الاحتساب واستحضار عظمة الله في قلب العبد يكون كمال المثوبة وعظم الأجر، وما ذكرته من أن كثيرا من الناس يؤدون العبادات بصورة روتينية بحيث لا يكادون يتفكرون في مقاصد العبادات أمر صحيح، وهذه العبادات وإن أسقطت الفرض لكنها لا تؤثر أثرها المطلوب التام إلا إذا أحضر العبد قلبه فيها، واستحضر جلال ربه وعظمته، وحاسب نفسه لله أتم المحاسبة، وأقبل على ربه بكليته منطرحا بين يديه، راجيا لثوابه خائفا من عقابه، عالما أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فمثل هذا العبد هو الذي يكون لعبادته أثر عظيم في صلاح قلبه، ويكون انتفاعه بعبادته أتم، وربما جاوز الصالحون هذا المقدار فاحتسبوا في المباحات فضلا عن احتسابهم في القربات، كما قال معاذ: أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. رواه البخاري. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: ومعناه أنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبه في التعب، لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب. انتهى.
ويمكن التغلب على هذا الأمر بالاستعانة بالله عز وجل، ومداومة محاسبة النفس وتعريفها فضائل الأعمال، وكثرة التفكر في أسماء الله وصفاته، وإشعارها باطلاعه تعالى على ما يسره العبد ويعلنه، فيحمله ذلك على تحسن العمل وإتقانه والاجتهاد في إحضار النية فيه، لعلمه أنه بنظر الرب تبارك وتعالى.
وأما قضية الرياء، فإنها مسألة مهمة، والذي ينبغي للعبد أن يخاف الرياء ويحرص على توقيه، لكن ينبغي أن يكون خوفه من الرياء خوفا صحيحا يحمله على الاجتهاد في الإخلاص والطاعة، لا على اليأس والقنوط، وانظر الفتوى رقم: 117814.
ويمكن للعبد أن يعرف إن كان مخلصا أو مرائيا إذا كان صادقا مع نفسه، فيعرف مقاصدها الحقيقية من وراء العمل ويديم التفتيش في عيوب نفسه، والبحث في خفايا نيته، فإن وجد خيرا حمد الله، وإن وجد غير ذلك أصلح نيته وتاب إلى ربه.
نسأل الله أن يرزقنا وإياك الإخلاص والصدق.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ربيع الثاني 1430(9/4053)
معاملة الله للعبد كما يعامل العبد الناس
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الله يعامل العبد كما يعامل العبد الناس؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد وقعت هذه القاعدة في كلام بعض أهل العلم، وقررها ابن القيم في كتابه الوابل الصيب أحسن تقرير وانتصر لها بأدلة من الكتاب والسنة، ونحن نسوق كلامه بحروفه في هذه المسألة لما فيه من النفع قال رحمه الله:
وفي الصحيح أن الله تعالى وتر يحب الوتر، وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء وإنما يرحم من عباده الرحماء، وهو ستير يحب من يستر على عباده، وعفو يحب من يعفو عنهم من عباده، وغفور يحب من يغفر لهم من عباده، ولطيف يحب اللطيف من عباده، ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ، ورفيق يحب الرفق، وحليم يحب الحلم، وبر يحب البر وأهله، وعدل يحب العدل، وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودا وعدما، فمن عفا عفا عنه، ومن غفر غفر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاق شاق الله تعالى به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده على ما حسب ما يكون العبد لخلقه، ولهذا جاء في الحديث: من ستر مسلما ستره الله تعالى في الدنيا والاخرة، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله تعالى عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله تعالى حسابه. ومن أقال نادما أقال الله تعالى عثرته، ومن أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظل عرشه، لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر ونجاه من حر المطالبة وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجز نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش.
ودليل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه. أخرجه مسلم
وقال أبو اليسر: أشهد بصر عيني هاتين (ووضع إصبعيه على عينيه) وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله. رواه مسلم.
ثم يتابع ابن القيم كلامه: وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوما: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته، فكما تدين تدان وكن كيف شئت فان الله تعالى لك كما تكون أنت ولعباده ولما أظهر المنافقون الإسلام وأسروا الكفر وأظهر الله تعالى لهم يوم القيامة نورا على الصراط وأظهر لهم أنهم يجوزون الصراط وأسر لهم أن يطفئ نورهم وأن يحال بينهم وبين الصراط من جنس أعمالهم، وكذلك من يظهر للخلق خلاف ما يعلمه الله فيه فإن الله تعالى يظهر له في الدنيا والآخرة أسباب الفلاح والنجاح والفوز ويبطن له خلافها. وفي الحديث: من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به. والمقصود أن الكريم المتصدق يعطيه الله ما لا يعطي جزاء له من جنس عمله.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ربيع الثاني 1430(9/4054)
أحسن العمل والظن بربك، ولا تأمن مكر الله
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد قرأت حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك أناس تأتي يوم القيامة بأمثال الجبال حسنات ثم يجعلها الله هباء منثوراً؛ لأنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.. وسؤالي هو هل معنى ذلك أن المرء كلما عمل عملاً صالحاً ثم بعده عصى الله في الخلوة، فإن هذا الذنب يذهب بثواب الحسنة التي عملها، وهل إذا عاش حياته يعمل الحسنات ثم يعمل بعدها ذنوب في خلواته، ثم تاب توبة نصوحا عن ذلك، هل يكون له ثواب الأعمال الصالحة الفائتة؟ أم تكون ذنوب الخلوات قد ذهبت بها، أرجو التفضل علينا بالإجابة في أسرع وقت بما فتح الله عليكم من علم؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث الذي أشرت إليه حديث صحيح، رواه ابن ماجه من حديث ثوبان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الوعيد الشديد لمن يخشى الناس، ويجعل الله أهون الناظرين إليه ... ولكن هذا الحديث مع ما يشتمل عليه من وعيد شديد وتهديد أكيد - ليس هو النص الوحيد المتعلق بأهل المعاصي - فإن نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة متضافرة على ما يرغب العاصي في التوبة، وأنه إذا تاب توبة نصوحاً كان كمن لا ذنب له، بل إن الله يبدل سيئاته حسنات، كما أن في السنة الصحيحة أذكاراً من قالها غفر له (جميع ذنوبه) ولو كانت كزبد البحر، وفيها الترغيب في أعمال من أداها بشروطها عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
إذاً نصوص الكتاب والسنة تشتمل على الوعيد والترهيب كما تشتمل على الوعد والترغيب، والمؤمن متعبد بهما جميعاً، بحيث يكون العبد في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، الخوف من حبوط عمله وعدم قبوله، والرجاء في قبوله والإثابة عليه، فيؤدي العبادة مستوفياً شروط قبولها من الإخلاص لله والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يحافظ عليها بالحذر من التلبس بأسباب حبوطها وردها، والتي منها الحديث موضوع السؤال ...
والخلاصة: أن أهل السنة والجماعة يتعاملون مع نصوص الوحي جملة، ولا يجتزئون بعضها، فلا يقصرون النظر إلى نصوص الوعيد فيقتلهم الخوف ويؤول بهم الحال إلى اليأس والقنوط من رحمة رب العالمين، وكذلك لا يتعلقون بنصوص الوعد فيحسنون الظن بأنفسهم ويسيئون العمل ويقولون: سيغفر لنا!..
والذي ننصحك به أن تحسن العمل الذي يرضي الله عنك، وتحسن الظن به، وفي نفس الوقت لا تأمن مكره سبحانه وتعالى، كما ننصحك بطلب العلم الشرعي النافع على أهله، فهو أعظم وسيلة تحفظك من الضلال والشكوك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ربيع الثاني 1430(9/4055)
عذاب الظالم أشد أم المغتاب
[السُّؤَالُ]
ـ[أيهما عقابه أشد عند الله (الظلم أم الغيبة) ؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كلا من الظلم والغيبة يعتبر جريمة عظيمة ومعصية كبيرة، ولا شك أن بعض أنواع الظلم أشد عقوبة من الغيبة، وخاصة إذا كان الظلم من الشرك الذي يخلد صاحبه في النار، فقد قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {لقمان:13} ، وقال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ (المائدة:72} ، وسبق بيان حرمة الظلم، وأنه ليس في درجة واحدة.. وذلك في الفتوى رقم: 11885.
وعن عقاب صاحب الغيبة يقول صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج: فمررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قال: فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. رواه أحمد وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط. وسبق بيان حكم الغيبة وبيان بعض ما يلاقيه أصحابها من العذاب في الفتوى رقم: 66124.
ولهذا فإن عقوبة الظالم والمغتاب كلاهما شديدة، وهما من أشد عقوبات أصحاب الكبائر والمعاصي، إذا لم يتب أصحابهما منهما توبة نصوحاً، أو يتجاوز الله تعالى عنهما، ولكن الظالم ظلماً أكبر لا يغفر الله له، وعقوبته أشد من عقوبة أي ذنب، نسأل الله تعالى أن يعافينا وجميع المسلمين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ربيع الثاني 1430(9/4056)
كيف يفعل التائب من الزنا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الزاني المحصن في بلاد لا تطبق شرع الله، مع أنه ترك الفتاة دون أن يشبع رغبته منها بعد أن أولج ذكره، وذلك بعد أن تذكر عظمة الله وندم على فعلته هذه وأقسم ألا يعود إليها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولاً: أن الزنا هو: تغييب الحشفة في الفرج سواء أشبع الرجل رغبته منها أم لا، ويجب على من وقع في الزنا أن يتوب إلى الله تعالى محصناً كان أو غير محصن، وسواء كان في بلد يطبق شرع الله تعالى أو كان في بلد لا يطبق شرع الله.
ثانياً: أنه يجب على المسلم إذا وقع في الزنا أن يستر على نفسه ولا يخبر بذلك أحداً، ولا يجب عليه أن يطلب إقامة الحد على نفسه ولو كان في بلد يقيم شرع الله، وراجع الفتويين: 22413، 50695.
ثالثاً: أن إقامة الحدود من شأن الحاكم المسلم، كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 29819.
ويكفي المسلم على كل حال أن يتوب بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وعليه أن يصدق في التوبة، وأن يجتنب الوسائل التي قد تؤدي إلى الوقوع في الزنا، وللمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم: 114834.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ربيع الثاني 1430(9/4057)
الفرق بين النذر والعهد والعزم على ترك المعصية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الفرق بين النذر، وبين العهد، وبين التوبة على عدم فعل المعصية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فترك المعاصي كلها واجب شرعي، فمن نذر ترك معصية، فالراجح الذي عليه جمهور أهل العلم أن النذر لا ينعقد في واجب، وعليه؛ فمن نذر ترك معصية فلا كفارة عليه. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه تجب عليه كفارة يمين، وما ذهب إليه أحوط وأبرأ للذمة. كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 49954.
وأما من عاهد الله على ترك معصية ففعلها، فالواجب عليه مع التوبة كفارة يمين-على الراجح- ما دام أضاف العهد إلى الله تعالى؛ لقول الله تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {النحل:91}
كما سبق بيانه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 7375، 29057، 15049.
وأما التوبة من المعاصي، فهي عمل قلبي في الأساس، وهي عقد العزم على ترك المعصية مستقبلا، بعد الإقلاع عنها في الحال، والندم على فعلها في الماضي. ولا يلزم من نكث التوبة إلا تجديدها والصدق في ذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ربيع الثاني 1430(9/4058)
نصائح لمن كبر سنه وابتلي بالنظر المحرم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا رجل عمري 58 سنة، شاهدت فلم شواذ، جذبني له، وأصبحت أنام وأصحو وأتمنى أن أمارس هذا الوضع، ويردعني إيماني وإسلامي، ولكن الشيطان يقف أمامي.
ماذا أفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أولا: نقول للأخ السائل: تب إلى الله عز وجل من النظر إلى تلك المحرمات.
أخي، لعل الشيب قد ظهر في رأسك، أما تستحي من نظر الله إليك؟
أما أنذرك الشيب؟ وما في نصحه ريب!
إن وقوع الفاحشة من كبير السن أشد قبحا من وقوعها من الشاب، ففي صحيح مسلم، ومسند أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر.
ثانيا: الوقاية خير من العلاج. قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {النور:30} . فقدم الله تعالى الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج؛ لأن النظرة تزرع في القلب الشهوة، فهي بريد الزنا، ورائد الفجور، وسهم مسموم إلى القلب، ورب شهوة أورثت حزنا طويلا.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها * فتك السهام بلا قوس ولا وتر
ثالثا: تزود يا أخي للقاء ربك، واشغل نفسك بأعمال الخير واجمع قلبك على الله تعالى قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {الحشر: 18،19} وقال سبحانه: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {الزمر: 54-58}
ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فعليك بتلاوة القرآن والاستماع إليه والإكثار من ذكر الله، ومتابعة محاضرات أهل العلم الربانيين، ومجالسة الأخيار واجتناب الأشرار.
واعلم أن الله سائلك عن وقتك، وجسمك يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني.
وفيما أحل الله من النكاح غنية عن الحرام، وأخيرا عليك بالدعاء والجأ إلى الله وتضرع إليه، واسأله الحفظ والتثبيت وتعوذ به من الفتن.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 179، 5453 6872،، 7123، 7413.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 ربيع الأول 1430(9/4059)
سترها ربها فتمادت في العصيان بدلا من أن تتوب
[السُّؤَالُ]
ـ[ربي يستر علي وأنا مستمرة بعصيانه ما يقارب سنتين أو ثلاث، مما جعلني أتمادى بالطغيان في المعاصي والتمسك بها وعدم تركها. فما هو سبب هذا الستر؟ هل هي محبة الله لي ولأهلي وخوفه علي من الفضيحة أم ماذا؟؟؟
علما بأني أفعل الخير ببري بوالدتي ومساعدة غيري بما قدرت عليه!!
أرجو الإجابة. هل ربي يحبني أم غاضب علي لاستمراري على ما أفعله من خذلان وعصيان له!!]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكان حريا بالسائلة -عافاها الله مما هي فيه- أن تقدر هذا الستر من الله عليها فتتوب إليه، لا أن تغتر بالستر فتتمادى في المعاصي، ثم يستدرجها الشيطان ويسول لها أن هذا الستر لمحبة الله لها!
وقد وصف الله أحبابه في كتابه ولم يذكر منهم من يتمادى في المعاصي ويصر عليها، ولا يُعظّم نعمة الستر عليه، وعن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
فأهل المسارعة في الخيرات هم الذين يحبهم الله ويحبونه، فسارعي أختاه وأنت مستورة مكرمة إلى ترك معصية الله وتوبي إليه، فمهما كان ذنبك فلو أقبلت على الله لقبلك وصرت من أحبابه كما ترتجين، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة:222} .
وقد ندم أقوام أمهلهم الله فاغتروا ولم يتوبوا، وقص الله علينا أخبارهم، فالسعيد من اتعظ بغيره، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {الزمر: 53-58}
ولتعلمي أنه ليست العقوبة الوحيدة على المعاصي هي هتك ستر صاحبها، بل هناك عقوبات باطنة أشد من العقوبات الظاهرة، ومن ذلك: قسوة قلب العاصي، وتماديه، وشدة إعراضه، وغفلته حتى عن العقوبة. قال ابن الجوزي: أعظم المعاقبة أن لا يُحِسّ المعاقَب بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفَرَحِ بالمال الحرام، والتمكّن من الذنوب، ومن هذه حاله، لا يفوز بطاعة. اهـ
وقد يكون هذا الستر استدراجا من الله لك، وقد منحك فرصا كثيرة لتتوبي ولم تفعلي، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
وقد يستر الله على العاصي ولا يعجل له العقوبة لأمور أخرى، منها:
أن الله عز وجل عفو يحب العفو، وحليم يمهل ولكنه لا يهمل، وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. رواه البخاري ومسلم.
ومنها: أن الله يحب توبة عباده، فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا، ففي صحيح مسلم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.
ومنها: أن الله قد يتكرم ويغفر للعاصي مادام هذا الذنب لم يصل إلى حد الكفر به أو الإشراك، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً {النساء:48} .
ومنها: أن العبد قد تكون له حسنات أخرى تمحو تلك السيئات فلا يعاقبه الله لذلك، كما قال سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} . إلى غير ذلك مما قد يستر الله به على العبد.
وعلى كل فالمؤمن الصادق لا يغتر بحلم الله وعفوه، ولا يقنط من رحمته، بل يبقى دائما وجلا من عقاب الله تعالى، راجيا لمغفرته وعفوه مع الأخذ بأسباب ذلك.
ونسأل الله أن يوفقك لطاعته وترك معصيته، لتنالي محبته ورضاه، ولتستري نفسك وأهلك، فمهما بلغت لذة المعصية فإنها لا تقارن بذل الفضيحة.
ولمزيد الفائدة حول معرفة من يحبهم الله راجعي الفتوى التالية: 22830.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ربيع الأول 1430(9/4060)
التائب لا يضره كلام الناس
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد فعلت ذنبا كبيرا، ولقد كنت مشتركا أنا و3 من الناس، لكني كنت أقلهم فى هذا الذنب فعاقب الله هؤلاء الثلاثة وأدخلهم السجن، وأما أنا فلم أدخل السجن بفضل الله عز وجل، لكن كلام الناس يلاحقني، ولقد تبت إلى الله، ولكني لا أستطيع أن أتعامل مع بعض الناس لأنهم يعتقدون أني مثل الثلاثة.
فهل تتفضلون بالرد على سؤالي؟
وجزاكم الله كل خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأحمد الله أن من عليك بالتوبة من هذا الذنب، واجتهد في دعائه تعالى أن يقبل منك توبتك ويثبتك عليها، والذي ننصحك به إذا كنت صادقاً في توبتك ألا يكون لك التفات إلى الناس، فإنه ليس بيدهم ضر ولا نفع، ولا عطاء ولا منع، بل اجعل قصدك وهمتك مرضاة ربك عز وجل، ولا تقدم مرضاة غيره عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. أخرجه الترمذي في السنن.
فأنت إن جعلت الهموم كلها هماً واحداً، واجتهدت في إصلاح عملك، والتقرب إلى ربك عز وجل، ولم تلتفت إلى ما سواه، فإنه تعالى سيكفيك مؤنة الناس، ويبدل بغضهم لك حباً، فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
نسأل الله أن يمن علينا وعليك بالهداية والاستقامة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ربيع الأول 1430(9/4061)
تمني الموت فرارا من المعصية
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أموت فما الحل؟ والسبب هو أنني لا أستطيع الامتناع عن المعصية التي تطاردني كل وقت وبكل مكان حتى بالمسجد. قبل أن أيأس أليس لي حق في أن أموت بسرعة بدلا من هذا البلاء والشقاء فيما يبدو ليس له نهاية؟ وكل الحلول لا تنفع وبصراحة. أريد أن أموت قبل أن أرتكب معاصي أخرى أو قبل أن أرتد أو أكفر لأنني أشك في أنني لن أفعل ذلك. أنا ملتزم لكن إلى متى، أنا في ستر لكن إلى متى؟ متى النهاية؟ أليس من حق هذا المعذب أن يتمنى الموت لا أن يقول إن كان الموت راحة لي من كل شر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه النبرة اليائسة التي تبدو في سؤالك تحتاجُ منا إلى أن ننبهكَ على أمورٍ مهمة نسأل الله لنا ولك الهداية:
أولها: أن عقل الإنسان قاصر، وتصوره للحقائق ضئيل، وعلمه بجنب علم الله عز وجل كقطرةٍ في بحرٍ أو أقل، وقد يكره الشيء وفيه الخير له، وقد يحبُ الشيء وفيه هلاكه. قال الله عز وجل: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216}
فأولى للعبد أن يُسلم لحكم الله وحكمته، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من أصابه شيءٌ فظن أن الموت خيرٌ له أن يقول: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي. ولستَ أنت أيها المسكين القاصر العقل بأعلم من الله ورسوله بما فيه المصلحة فَسَلِّمْ تسلم.
ثانيها: أن سوء الظن بالله ذنبٌ ربما يفوق ما تزعمُ أنه يلاحقك من معصية، فظنكَ بالله أنه يضيعك ويخذلك ولا يهديكَ إلى الحق، ولا يأخذ بناصيتكَ إلى الاستقامة مما قد يؤدي بكَ إلى القنوط من رحمته واليأس من روحه، وقد قال عز وجل: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ {الحجر:56} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يموتنَ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله. أخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه، وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي. متفقٌ عليه.
فأحسن يا أخي الظن بربك، ولا داعيَ لهذا القنوط واليأس، بل أقبل عليه تعالى عالماً أن الفضل بيده وحده، واثقاً أنه تعالى رحيمٌ بك، وأنه لن يُخيبَ سعيك.
ثالثها: إرادتكَ الموت فراراً من المعصية مغالطةٌ كبرى، ومخالفة للسنة الصريحة، فإن طول العمر لا يزيد المؤمن إلا خيرا، فإن كان محسناً ازداد إحسانا، وإن كان مسيئاً تاب وأقلع.
رابعها: زعمك أن المعصية تطاردك، وأن جميع الحلول لم تنفع، كلامٌ غير مُسلَّم فأي حائلٍ بينك وبين التوبة؟ ، وأي مانع لك منها؟، فباب التوبة مفتوح لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، ومهما تاب العبد إليه تاب الله عليه، فإنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. وراجع الفتوى رقم: 112268.
فعليكَ أيها الكريم أن تتحلى بالعزيمة الصادقة، والإخلاص في القصد، ثم اعلم أن الله عز وجل سيقبل توبتك ويعينك عليها، فإنه تعالى وعد من جاهد نفسه فيه تبارك وتعالى أنه يُعينه ويهديه، قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت:69} .
وعليكَ أن تكثر اللجأ إلى الله، وتجتهد في الدعاء أن يصرف الله عنك وسوسة الشيطان وكيده، وتسأل الله الذي سترك أولا أن يُتم عليك عافيته وستره، فإنه تعالى أكرم مأمول وأفضل مسئول، نسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يحبُ ويرضى، وعليك أن تبحث عن رفقة صالحة تعينك على الطاعة وتبعدك عن المعصية.
ولمزيد الفائدة راجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 59976، 24031، 12928، 10397.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ربيع الأول 1430(9/4062)
التوبة والمحافظة على الصلاة واختيار الصحبة الصالحة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب عندي 20 سنه ولا أعرف كيف أتوب إلى الله توبة نصوحة، ومشكلتي أنني كل ما أتوب أرجع مرة أخرى للمعاصي خصوصا أني قاعد فى بيت -تقريبا- لا أحد يصلي فيه إلا أمي، وأخواتي طول النهار مشغلات بالأغاني والتلفزيون وأنا لم أتعود على الصلاة منذ الصغر، يعني في النهاية أنا تقريباً ما زلت في بداية طريقي للصلاة أنا أعرف أني متأخر، لكن أريد أن أدرك نفسي لأني أحس أنه مع غياب الصلاة يغيب الضمير، وراحة النفس أيضا تذهب ويبقى الشخص غضبان، وكذلك اخترت أصحابا لي أخرين غير أني كنت أكلمهم منذ زمان لكن أهلى غير موافقين عليهم، خائفين علي أن أنجرف تحت أي تيار مهما كان اسمه أو مبدؤه، وبحق أحس أني تائه، لا أعرف أبدأ من أين، وكل ما أنوي التوبة لا أعرف لماذا أرجع عن التوبة، أنا بحق أريد أحدا يساعدني، وأنا أتكلم بجد، وفيه كثير جداً مثلي ومن الممكن أن يكونوا أسوأ مني، لكن لا نعرف أين نذهب لشاطئ الأمان لكي ننجو بأنفسنا من الذنوب التي نفعلها، ولا تنسوا أني مقيم فى بيت لا يصلي فيه أحد، ولا يقبل أحد النصيحة من الثاني حتى والدي لا يصلي، فانظروا لي بجد في حل للموضوع هذا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي منَّ عليك بنعمة التوبة والمحافظة على إقامة الصلاة بعد أن كنت من الغافلين، فإن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وتاركها على خطير عظيم، وانظر في ذلك الفتويين رقم: 1145، و: 94213.
وهذه التوبة لا بد لك من استيفاء شروط قبولها، وستجد بيان ذلك في الفتوى رقم: 33434، وللحفاظ على الإيمان والوقاية من الانتكاس والرجوع للمعاصي، راجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18654، 31318، 31768.
هذا ونوصيك أن تلزم تلك الصحبة الصالحة التي أشرت إليها -إذا تأكدت من صلاحها- فإنها من أعظم الوسائل التي تعينك على الاستقامة على أمر الله تعالى، وأما ما ذكرته من خوف الوالدين، فإن بإمكانك أن تزيل ذلك الخوف بالتلطف معهما، ومحاولة إقناعهما بأهمية الصحبة الصالحة وأنك لن تصحب إلا الأخيار الذين يدلونك على الخير ويحذرونك من الشر. وانتفع بالوصايا التي ذكرت في الفتوى رقم: 59669.
ثم استعن بالله على نصيحة والدك وأشقائك بأن يقيموا الصلاة التي كتبها الله تعالى عليهم، وانتفع بوسائل الدعوة المذكورة في الفتوى رقم: 27688، والفتوى رقم: 35114.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 ربيع الأول 1430(9/4063)
لا بأس بهذا الموضوع مع إبداء الملاحظات المرفقة
[السُّؤَالُ]
ـ[وصلتني هذه الرسالة عبر البريد الإلكتروني فما هو حكمها وما مدى صحتها، وهل أعيد نشرها أم لا؟ جزاكم الله كل خير.
اقرأ وتخيل:
سُكون يخيم علي كل شيء، صمت رهيب وهدوء عجيب، ليس هناك سوى موتى وقبور.
انتهى الزمان وفات الأوان، صيحة عالية رهيبة تشق الصمت يدوي صوتها في الفضاء، توقظ الموتى تبعثر القبور، تنشق الأرض يخرج منها البشر حفاة عراة، عليهم غبار قبورهم، كلهم يسرعون يلبون النداء، فاليوم هو يوم القيامة، لاكلام ينظر الناس حولهم في ذهول، هل هذه الأرض التي عشنا عليها؟؟؟
الجبال دكت، الأنهار جفت، البحار اشتعلت، الأرض غير الأرض، السماء غير السماء، لا مفر من تلبية النداء، وقعت الواقعة!!!!
الكل يصمت، الكل مشغول بنفسه لا يفكر إلا في مصيبته، الآن اكتمل العدد من الأنس والجن والشياطين والوحوش، الكل واقفون في أرض واحدة.
فجأة.....
تتعلق العيون بالسماء، إنها تنشق في صوت رهيب يزيد الرعب رعبا والفزع فزعا، ينزل من السماء ملائكة أشكالهم رهيبة، واقفون صفا واحداً في خشوع وذل، يفزع الناس يسألونهم أفيكم ربنا؟!!! ترتجف الملائكة، سبحان ربنا، ليس بيننا ولكنه آت ...
يتوالي نزول الملائكة حتي ينزل حملة العرش، ينطلق منهم صوت التسبيح عاليا في صمت الخلائق، ثم ينزل الله تبارك وتعالي في جلاله وملكه ويضع كرسيه حيث يشاء من أرضه، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، الناس أبصارهم زائغة، والشمس تدنو من الرؤس من فوقهم لا يفصل بينهم وبينها إلا ميل واحد، ولكنها في هذا اليوم حرها مضاعف.
أنا وأنت واقفون معهم نبكي، دموعنا تنهمر من الفزع والخوف، الكل ينتظر، ويطول الانتظار خمسون ألف سنة، تقف لا تدري إلى أين تمضي إلى الجنة أو النار؟
خمسون ألف سنة ولا شربة ماء، تلتهب الأفواه والأمعاء الكل ينتظر.
البعض يطلب الرحمة ولوبالذهاب إلي النار من هول الموقف وطول الانتظا، ر لهذه الدرجة؟!!! نعم ماذا أفعل.. هل من ملجأ يومئذ من كل هذا؟
نعم، فهناك أصحاب الامتيازات الخاصة: السبعة الذين يظلهم الله تحت عرشه منهم: شاب نشأ في طاعة الله، ومنهم رجل قلبه معلق بالمساجد، ومنهم من ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، هل أنت من هؤلاء؟
الأمل الأخير..
ما حال بقية الناس؟ يجثون على ركبهم خائفين.. أليس هذا هو أدم أبو البشر؟ أليس هذا من أسجد الله له الملائكة؟ الكل يجري إليه....
اشفع لنا عند الله، اسأله أن يصرفنا من هذا الموقف.. فيقول: إن ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله من قبل.. نفسي نفسي..
يجرون إلى موسى فيقول: نفسي نفسي..
يجرون إلى عيسى فيقول: نفسي نفسي.. وأنت معهم تهتف نفسي نفسي.....
فإذا بهم يرون محمدا صلى الله عليه وسلم فيسرعون إليه فينطلق إلى ربه ويستأذن عليه فيؤذن له يقال: سل تعط واشفع تشفع.. والناس كلهم يرتقبون فإذا بنور باهر إنه نور عرش الرحمن وأشرقت الأرض بنور ربها.
سيبدأ الحساب.. ينادي.. فلان ابن فلان.. إنه اسمك أنت
تفزع من مكانك.. يأتي عليك الملائكة يمسكون بك من كتفيك، يذهبون بك في وسط الخلائق الراكعة على أرجلها وكلهم ينظرون إليك، صوت جهنم يزأر في أذنك.. وأيدي الملائكة على كتفك.. ويذهبون بك لتقف أمام الله للسؤال ...
ويبدأ مشهد جديد ...
هذا المشهد سأدعه لك أخي ولك يا أختي، فكل واحد منا يعرف ماذا عمل في حياته، هل أطعت الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؟ هل قرأت القرآن الكريم وعملت بأحكامه؟ هل عملت بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
أم أتخذت لك نهجا غير نهجه ... وسنة غير سنته ... وكنت من الذين أخبر عنهم حين قال: وإنّ أمّتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار.
فهل سألت نفسك من أي فرقة ستكون؟ هل أديت الصلاة في وقتها؟ هل صمت رمضان إيمانا واحتسابا؟ هل تجنبت النفاق أمام الناس بحثا عن الشهرة؟ هل أديت فريضة الحج؟ هل أديت زكاة مالك؟ هل كنت باراً بوالديك؟ هل كنت صادقا مع نفسك ومع الناس أم كنت تكذب وتكذب وتكذب؟
هل كنت حسن الخلق أم عديم الأخلاق؟ هل.. وهل.. وهل؟
هناك الحساب....
أما الآن ... !!! فأعمل لذلك اليوم ... ولا تدخر جهداً، وأعمل عملاً يدخلك الجنة، ويبيض وجهك أمام الله يوم تلقاه ليحاسبك، وإلا فإن جهنم هي المأوى..
واعلم أن الله كما أنه غفور رحيم هو أيضا شديد العقاب فلا تأخذ صفة وتنسى الأخرى.
إن كنت محباً للخير والمشاركة في الأجر والثواب مرر هذه الرسالة إلى إخوانك ومحبيك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبعد اطلاعنا على هذه الرسالة أو الموعظة، ولم نلاحظ فيها ما يخالف الشرع إلا ما جاء في قول صاحبها: ويضع كرسيه حيث يشاء من أرضه، وقوله: فإذا بنور باهر، إنه نور عرش الرحمن، فلا ندري من أين جاء بهذه العبارات، فالأمور الغيبية لا يمكن الحديث عنها إلا على ضوء الوحي من الكتاب أو السنة، ولم نقف على دليل أو عبارة من نصوص الوحي من القرآن أو الحديث فيها ما ذكر. ولذلك فإذا أزيلت هذه الملاحظات فلا نرى مانعاً من إعادة إرسالها أو نشرها كموعظة لمن يرغب في ذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 ربيع الأول 1430(9/4064)
حقيقة التوبة من الذنوب المتعلقة بحقوق الآدميين
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت فيما مضى مرافقا لأصحاب السوء، وكنت أدخل لموقع: الحديث عبر الإنترنت، فأبدأ في السباب بالكلام الفاحش، والآن تبت إلى الله.
فماذا علي أن أفعل مع العلم أنني أريد أن أستسمح هؤلاء الناس فلم أجدهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمؤمن لا يكون طعانا ولا سبابا ولا فاحشا، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 66522.
فالحمد لله الذي منَّ عليك بالتوبة، فإن العبد مكلف بالاستقامة على طاعة الله والبعد عن الذنوب، ومكلف كذلك بالتوبة والإنابة إلى ربه إذا حصل منه تقصير أو اقتراف للمعاصي، فقد ذكر الله من صفات المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وأنهم إذا وقعوا في الذنب تابوا واستغفروا، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135}
وقد وعد سبحانه وتعالى بالرحمة والغفران من تاب واستغفر بعد الذنب، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:54}
وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} .
فعليك ـ أخي الكريم ـ أن تنشغل بتحصيل شروط قبول التوبة النصوح، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا، مع رد المظالم إلى أهلها، فإن الذنوب التي تتعلق بحقوق الآدميين تحتاج في التوبة منها إلى التحلل من حق الآدمي، بجانب الإقلاع والندم والعزم على عدم العود.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري.
وقال الغزالي: وأما العرض فإن اغتبته أو شتمته أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده، وأن تستحل من صاحبك إذا أمكنك إذا لم تخش زيادة غيظ وتهييج فتنة في إظهار ذلك وتجديده، فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك. انتهى.
وعليك أيضا أن تذكر من اغتبته أو قذفته أو سببته، بما فيه من خير لا سيما في الموضع الذي سبق أن اغتبته أو قذفته أو سببته فيه، مع الدعاء والاستغفار له بظهر الغيب. وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4603، 111264، 46319، 18180.
ولتكن همتك بعد ذلك أن تقوي إيمانك ورغبتك في الاستقامة بكثرة المطالعة في كتب الترغيب والترهيب والرقائق، وتدبر القرآن وتتفكر من خلاله في أمور الآخرة ومصير الطائعين والعصاة، وما فيه من الحديث عن مراقبة الله وجبروته وانتقامه ممن عصاه، وعليك بالصحبة الصالحة التي تعينك على الثبات والاستقامة، فالمرء على دين خليله كما في الحديث، وعليك أن تستعين بالدعاء في الصلاة وأوقات الاستجابة.
وقد سبق بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي، وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 93700، 5450، 75958، 29785.
ولا بد -أخي الكريم- من اجتناب قرناء السوء فإنهم يفسدون عليك توبتك، وقد سبقت لنا فتوى برقم: 9163 فيها بيان الخطوات المعينة لتجنب رفقاء السوء.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 ربيع الأول 1430(9/4065)
شاهد أفلاما إباحية في مكان مخصص لبناء مسجد فما حكمه
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما كنت أعمل في مكتب يشرف على مشروع إنشاء مسجد، مع العلم أن هذا المكتب في محيط موقع المسجد، وشاهدت أفلاما إباحية فيها زنا، أنا الآن يأتي في ذهني عندما أصلي أو أعمل أي شيء أنني متعد لحدود الله وخارج عن الإسلام أي مرتد لأنني تعديت حرمة المكان فالمكان الذي أنا فيه كان مغلقا وليس ضمن أعمال البناء في وقتها والله أعلم هل سيكون ضمن المسجد في يوم من الأيام أم لا؟
أرجو أن تفيدونني يرحمكم الله، وهل علي كفارة أو أي شيء أقوم به؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمشاهدة مثل هذه الأفلام من الفواحش المحرمة التي يجب أن يتنزه عنها المسلم في أي مكان: مسجد أو غيره؛ لما فيها من الاطلاع على العورات، ومشاهدة الزنا، والعين تزني وزناها النظر، والنفس تزني وزناها التمني، كما قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ. رواه البخاري ومسلم.
ومشاهدة مثل هذه الأفلام من الذنوب والمعاصي التي تمرض القلب، ولكنها لا تبلغ بصاحبها مبلغ الردة وخروجه من الإسلام والعياذ بالله، فمنهج أهل السنة والجماعة أن الذنوب والكبائر التي دون الشرك لا يخرج فاعلها من الإسلام إلا إذا استحلها.
والواجب عليك هو التوبة والندم على ما فعلت والعزم على عدم العودة لمثل ذلك، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135} . والإكثار من الحسنات، فقد قال سبحانه: ِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ {هود: 114} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا. رواه أحمد والدارمي والترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألباني.
وعليك أيضا: اجتناب الأمور التي تدعوك للقيام بمثل هذا العمل كقرناء السوء، ونسأل الله أن يتوب على العصاة، وأن يتقبل توبة التائبين، وقد فصلنا أحكام التوبة وشروطها في الفتاوى التالية أرقامها فراجعها: 1106، 1275، 1732، 1749، 1863، 1909، 63962.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 ربيع الأول 1430(9/4066)
حصول البلاء من علامات محبة الله للعبد
[السُّؤَالُ]
ـ[لي صديقة كانت تفعل معصية من المعاصي، ثم لما نصحتها ووجهتها تابت منها، وبعد إقلاعها عن الذنب وتوبتها لسنوات علم أبوها بذنبها وعاقبها، وعلم أهلها بفعلها هذا الذنب، فأحدث هذا انتكاسا لديها في إيمانها ودينها، فكيف أنصحها الآن وأوجهها، أفيدونا مأجورين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس من حق أبي هذه الفتاة أن يعاقبها، ولا أن يعنفها هو ولا أهلها، وكيف يحق لهم ذلك، وقد تابت إلى الله تعالى: و (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) . كما في الحديث.
وعلى كل فينبغي أن تذكري صديقتك هذه أن من رحمة الله بالعبد أن يعجل له العقوبة في الدنيا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة. رواه الترمذي وصححه الألباني. وهذا يدل على أن حصول البلاء علامة من علامات محبة الله للعبد، وأنه أراد به خيرا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يصب منه. يعني بالبلاء. رواه البخاري. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني. فعلى المؤمن أن يبصر الرحمة من خلال البلاء، وقد قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {البقرة: 216} .
فكل ما يصيب المؤمن في الدنيا من أنواع البلاء يكفر الله عنه به من سيئاته ويرفع به درجاته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطت عنه بها خطيئة. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها. رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم، وحسنه الألباني.
وقد سبق في الفتوى رقم: 49062 بيان أن علاج الانتكاس يكون بمعرفة أسبابه، كما سبق لنا بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة والاستمرار في طريق التوبة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي، وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 76210، 12744، 93700، 5450، 75958، 29785.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ربيع الأول 1430(9/4067)
أقرب الطرق لتحقيق الصدق في سؤال الله الشهادة
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف أطلب الشهادة في سبيل الله بصدق؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه. رواه مسلم.
فالدعاء الصادق هو أقرب الطرق للوصول لهذه الغاية الشريفة والمنزلة المنيفة، وقد فعل ذلك الفاروق عمر رضي الله عنه فكان يدعو ويقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. فجمع الله له بين هاتين الفضيلتين.
والصدق هنا وصف للقلب، فهذا الدعاء مقترن بنية حازمة وعزيمة جازمة، قال الشيخ عبد المحسن العباد في شرح سنن أبي داود: يعني أن من سأل الله عز وجل الشهادة في سبيل الله عز وجل، وكان ذلك بصدق من قلبه وبنية خالصة ليس مجرد كلام يقال باللسان دون أن يكون القلب عاقداً عليه. اهـ.
ثم هذه النية الصادقة إن وجد صاحبها سبيلا شرعيا لتحقيقها كان ذلك هو محك امتحان صدقه، كما قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ {محمد:20، 21} فمن صدق الله في عزيمته، عزم الله له على الرشد ووفقه للخير، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، روى النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك. فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاته غنم النبي صلى الله عليه وسلم فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم. فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة. فقال: إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه. ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك. وصححه الألباني.
ومن أمارات الصدق إعداد العدة المناسبة والمتاحة أياً كانت، كما قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً {التوبة: 46} وقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ {الأنفال: 60} .
وهذه العدة أنواع، فمنها العدة الإيمانية، ومنها العدة العلمية، ومنها العدة العملية، ومنها العدة البدنية، والصادق لا يقصر في تحصيل ما تيسر له من هذه الأنواع بقدر طاقته ووسعه.
ثم ننبه السائل الكريم إلى أنه قد وردت آثار تدل على أن المؤمن بفعله للصالحات وتركه للمحرمات يكون شهيدا كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 17168.
كما أن تحصيل أجر الشهادة له أسباب متعددة بيناها في الفتوى رقم: 102618، والفتوى رقم: 34588.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 9751.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 ربيع الأول 1430(9/4068)
غض البصر والاستعلاء بالهمة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يسمح بالنظر إلى حذاء المرأة من دون القدم، أي فقط النظر إلى الحذاء وأيضاً هل يسمح بتقبيله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا السؤال لا معنى له، والذي ننصح به السائل بعد تقوى الله تعالى والمحافظة على أداء ما افترض عليه واجتناب ما نهي عنه أن يغض بصره ويبتعد عن النساء الأجنبيات، فقد قال الله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.. {النور:30} ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من فتنة النساء، فقال: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء. متفق عليه.
وقال: إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. رواه مسلم.
وقال: ألا لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له، فإن ثالثهما الشيطان إلا محرم. رواه أحمد.
كما ننصحه أن يستعلي بنفسه ويرتفع بهمته عن هذا التفكير الهابط ... فأي قيمة للحذاء أي حذاء حتى يرفع ويعظم ويعطى هذه القيمة وهذا الاهتمام.
وللمزيد من الفائدة نرجو أن تطلع على الفتاوى ذات الأرقام التالية: 35047، 36423، 62113.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 ربيع الأول 1430(9/4069)
الخوف من سكرات الموت وعذاب القبر وأهوال القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[أستمع كثيراإلى الدعاة، لكني أصبحت مرعوبا مما ينتظرني من: سكرات الموت التي لا تطاق، إلى السؤال بعد الموت، ثم عذاب القبر، ثم الصاعقة، ثم يوم البعث في يوم شديد وعظيم، ثم الصراط فإما: الجنة أو النار. هل هذا كله مؤكد أم فيه آراء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن أصول الإيمان وأركانه: الإيمانُ باليوم الآخر، وفي حديث جبريل المشهورالمتفقِ على صحته، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال له: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدرخيره وشره.
ومن أوائل الصفات التي مدح الله بها المؤمنين في القرآن أنهم يوقنون بالآخرة فقال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. {البقرة:3،4،5} ... ... ...
والقرآنُ مملوءٌ بأدلة إثبات البعث والثواب والعقاب، وهذا الأمرعند المسلمين أظهرُ من أن يُستدل عليه، بل قد أجمع أهل الأديان على إثباته، فمن أنكر البعثَ أو الجنة والنار، أو شك في شيءٍ من ذلك فهو مُكذبٌ للقرآن خارجٌ من ملة المسلمين.
وأما سكرات الموت فقد دل على ثبوتها الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات.
وعذاب القبر ونعيمه، والصراط والميزان، مما أجمع أهل السنة على إثباته، وتضافرت عليه الأدلة كتاباً وسنة، ولم ينكره إلا أهل البدع المنحرفون.
فحذارِ حذارِ أيها الأخ أن يُخالجك أدنى شك في صحة ما أخبر به القرآن، أو نطقت به نصوص السنة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية ما يجبُ على المسلم اعتقاده في الإيمان باليوم الآخر، ونحنُ نسوق إليك كلامه بطوله لعل الله ينفعكَ به، ويهديكَ إلى الصواب، قال -رحمه الله- في الواسطية: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه.
فأما الفتنة، فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
ثم بعد هذه الفتنة، إما نعيم، وإماعذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى. فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غُرْلاً، وتَدْنُو منهم الشمس، ويلجمهم العرق.
وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد، فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. {المؤمنون: 102، 103}
وتنشر الدواوين ـ وهي صحائف الأعمال ـ فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، كما قال سبحانه وتعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا {الإسراء: 13، 14} .
ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة.
وأما الكفار، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها.
وفي عرصة القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.
والصراط منصوب على متن جهنم ـ وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ـ يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشى مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، فإن الجسرعليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة. فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. انتهى.
وأما ما تجده من الخوف، فإن الخوفَ من عذاب الله من صفات المتقين، وقد أثنى الله عليهم بذلك في غير موضع من كتابه، فمن ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ {المعارج:27، 28} ؛ وقوله تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {النور: 37، 38} ، ولكن هذا الخوف لا يكون محموداً إلا إذا كان مصحوباً بالرجاء، فيحملُ على الاجتهاد في العمل، وبذل الوسع في الطاعة والعبادة ليحصل للمسلم ما يرجوه، ويأمن مما يخافه ويخشاه، وأما الخوف الذي يؤدي إلى القنوط واليأس من رحمة الله، فإنه مذموم وصاحبه على خطرٍ عظيم. قال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ {الحجر:56} .
واعلم أيها الأخ الكريم أن المؤمن يُخفف عليه الموت جداً فتخرجُ روحه من جسده كما تسيل القطرة من في السقاء، ثم يصيرُ بعدها إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، فينعم في قبره، ثم مآله إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، والمؤمن له الحياة الطيبة في دوره الثلاث: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97}
فعليكَ أخي أن تجتهد في طاعة الله، وتبذل وسعك في مرضاته، وتحسن الظن به، ترجو رحمته، وتخاف عذابه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... واعلم واعلم أن الآخرة لا تأتي المؤمن إلا بما يسره، فمهما فعلت ذلك وأصلحت قلبك وعملك أحببت لقاء الله عز وجل، وطمعت في رحمته، وانظر الفتوى رقم: 117814 نسأل الله أن يؤمننا وإياك مما نخاف، وأن يرحمنا وإياك برحمته التي وسعت كل شيء.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 ربيع الأول 1430(9/4070)
تجديد التوبة وصلاة ركعتين بنية التوبة من الذنب
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن المسلم لابد أن يجدد التوبة دائما، فهل يكون ذلك يوميا، وكيف تكون هل بالدعاء والبكاء والإقرار بالذنوب أم بالاستغفار 70 أو 100 مرة يوميا؟ وهل هناك ما يسمي بركعتين توبة؟ كأن أذنب ذنبا ثم أتوضأ وأصلي ركعتين توبة من هذا الذنب أومن كل الذنوب التي أذنبتها في حياتي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوبة واجبة من كل ذنب مرة واحدة فقد قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {الحجرات: 11} وإذا كان معها الدعاء والبكاء فذلك أفضل وليس بلازم كما لا يلزم ذكر الذنب؛ فإن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، يعلم السر وأخفى.
هذا، وبإمكانك أن تعرف المزيد عن التوبة وشروط قبولها في الفتوى: 5450.
ويستحب للمسلم أن يجدد التوبة دائماً؛ وأن يكثر منها في كل وقت من أوقات حياته، فذلك سبيل الفلاح ومحبة الله تعالى له والقرب منه كما قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {النور:31} وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة: 222}
وكيفيتها أن يقول العبد بلسانه وحضور قلبه: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، ففي الحديث: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة. رواه مسلم.
وأما صلاة التوبة وما ورد فيها فقد سبق بيانه في الفتوى: 40344، وما أحيل عليه فيها.
هذا، وبإمكانك أن تطلع على المزيد من الفائدة في الفتاوى: 43946، 73937، 109320.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 ربيع الأول 1430(9/4071)
سبيل التوبة من الذنوب المادية والمعنوية
[السُّؤَالُ]
ـ[علماءنا وناصحينا الأجلاء سؤالي هو: بعد توبتي فإني أستغفر الله عز وجل راجياً العفو والمغفرة، ولكن ما يثقل كاهلي الذنوب في حق العباد سواء المادية أو المعنوية.
المسألة الأولى المادية: ما يخص بعض المال كنت آخذه من أبي على أساس أنني أدرس به ولكن أنفقه في غير محله. وأيضا كنت قد سرقت من جدتي مبلغاً فأنا أصر على رد المال ولكنني ما زلت شابا ليس لدي دخل إلا مصروفي وما يعطى لي من طرف عائلتي، وفي سبيل رد الحقوق فقد تنازلت لأبي عن كل ما يريد أن يعطيني لكي أرد شيئاً ولو يسيراً، وأستغفر لهم في صلواتي، فما العمل أيضا؟
المسألة الثانية المعنوية: ما تعلمونه ولا يخفى، اللغو والغيبة التي تعم الشات والمجالس غير النافعة، فكثيراً ما اغتبت وهمزت وعبت عباد الله في غفلة من أمري، فمرادي أن أبرئ ذمتي من هذا فأكثر الاستغفار لهم في صلواتي وأفشي السلام وأتصالح مع الناس ولكن لا أقول لأحد أني قد اغتبته من قبل حفظا لكرامتي ولعدم قطع العلاقات والرحم.
أفيدوني رحمكم الله فو الله لقد أثقلت كاهلي هذه الذنوب وبكيني كلما تذكرتها. فأنا أحرص على حفظ لساني ويدي من حقوق الناس، ولا أريد أن أكون المفلس الذي يأتي بصلاة وصيام ونوافل ولكن يحشر في النار والعياذ بالله ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى يقبل توبة العبد مهما عظم ذنبه وجرمه ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها، وقد وعد سبحانه وتعالى التائبين بالمغفرة والرحمة، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:54} ، وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} حتى ولو أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} .
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
والتوبة النصوح من أي ذنب تكون بالإقلاع عنه خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والندم الصادق على فعله، والعزم الأكيد على عدم العودة إليه أبدا، مع رد المظالم والحقوق إلى أهلها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري.
فأما التوبة من الغيبة والهمز واللمز، فقال الغزالي: أما العرض فإن اغتبته أو شتمته أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده، وأن تستحل من صاحبك إذا أمكنك إذا لم تخش زيادة غيظ وتهييج فتنة في إظهار ذلك وتجديده، فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك. اهـ.
وعليك أيضا أن تذكر من اغتبته بما فيه من خير لا سيما في الموضع الذي سبق أن اغتبته، بقدر طاقتك. وراجع الفتوى رقم: 36984.
وأما التوبة من السرقة فمن لوازمها رد المسروقات إلى أصحابها، فإن عجزت عن ذلك، بقي دينا عليك حتى تؤديه، فإن مت وأنت تبذل وسعك في رده فنرجو ألا يكون عليك شيء طالما كانت توبتك نصوحا، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 40782، 59893، 109625.
وأنت والحمد لله تستغفر لهم وتتبع سيئاتك بحسنات، فلعل الله أن يتحمل عنك ذلك، إن مت قبل أن تستطيع أداءه.
وراجع لمزيد الفائدة عن التوبة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22378، 17308، 28748.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 ربيع الأول 1430(9/4072)
الخوف من البلاء والأدب عند رؤية أهل البلاء
[السُّؤَالُ]
ـ[يراودني وسواس كثير عندما أرى أي مبتلى أو صاحب مرض أشعر بأني سأكون مثله، حتى أني إذا رأيت واحدا قدمه متعبة أشعر بوجع في نفس القدم، إذا رأيت واحدا يشتكي من نظره أشعر بوجع في نظري، وكثيرا أبكي من قدرة الله، ووسواسي يكون نتيجة خوفي من أن يبتليني مالكي فدائما أدعو بأن يرفع عني البلاء، وأن يعافيني مما ابتلى به الناس، هذا الوسواس يطاردني حتى في النوم، ولا أعرف ماذا أفعل خصوصا وأني أشعر بأني أسيء الظن بالله.
أسألكم الدعاء لي بالزوجة الصالحة والولد الصالح والعمل الصالح وأن يغفر لي ربي وأن يرفع عني هذا البلاء.
أرجوكم لا تحولوني لسؤال سابق، أسألكم الدعاء عن ظهر غيب.؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يعافيك وأن يرزقك الزوجة الصالحة والذرية الصالحة.
ثم اعلم أخي الكريم أن حسن الظن بالله وصدق التوكل عليه وتحقق الرضا بقضائه، هو الكفيل برفع شكواك، فالله تعالى هو العليم الحكيم، وهو أرحم بك من نفسك ومن والدتك التي ولدتك، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. متفق عليه.
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. متفق عليه.
فأقبل على الله بطاعته، يقبل عليك بعافيته ورحمته، وكن لله كما يريد، يكن لك كما تريد، قال ابن القيم في (طريق الهجرتين) : إن الله سبحانه قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد اهـ.
ثم نبشر السائل الكريم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا. لم يصبه ذلك البلاء. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني. وفي حديث آخر: إلا عوفي من ذلك البلاء، كائنا ما كان ما عاش. رواه الترمذي، وحسنه الألباني. فواظب على هذا الدعاء، وأيقن بالجزاء، ودع عنك هذا العناء.
وإياك أن يستجريك الشيطان مع هذا الوسواس، فينغص عليك حياتك دون داع، فاستعذ بالله من شر نفسك ومن شر الشيطان وشركه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه. رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وأبو داود وأحمد وصححه الألباني.
وشَرَك الشيطان يروى بفتح الشين والراء: أي مصائده وحبائله التي يفتن بها الناس. قاله المباركفوري في تحفة الأحوذي.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 ربيع الأول 1430(9/4073)
التوكل على الله تعالى والأخذ بأسباب العيش
[السُّؤَالُ]
ـ[جزاكم الله خير الجزاء على ما تقومون به من نشر دين الله عز وجل وتبيينه للناس على طريقة أهل السلف.
كيف الجمع بين الخوف من مشاغل الدنيا وما يحدث فيها، وبين الثقة والتوكل على الله عز وجل؟
أرجو الإفادة. وجزاكم الله خيرًا، وأسألكم الدعاء لأني في طريقي إلى الزواج، وأرجو من الله أن يشرح قلبي لزوجتي وقلبها لي. إنه ولي ذلك والقادر عليه.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأخذ بأسباب العيش وترتيب الأمور في المستقبل لا ينافي التوكل الذي هو عمل القلب، فمع شغل الجوارح بعملها ينشغل القلب بالاعتماد على الله، حيث يعلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه وحده الذي بيده الخلق والأمر، والنفع والضر، والعطاء والمنع، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا حول ولا قوة إلا به.
فإن استقرت هذه المعاني في القلب لم يضر صاحبها أن يشغل جوارحه بأعمالها. وعندئذ تحصل الطمأنينة والسكينة ركونا إلى الله وثقة به وتوكلا عليه ورجاء فيه.
وفي الصحيحين عن عمر: أن أموال بني النضير كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدةً في سبيل الله.
قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية) : فيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال هذا من طول الأمل، لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعاً وعقلاً، وقد استأجر شعيب موسى عليهما السلام، وفي هذا رد على جهلة المتزهدين في إخراجهم من يفعل هذا عن التوكل. اهـ.
وقد سبق لنا بيان العلاقة بين تحقيق الإيمان وحصول آثاره من راحة القلب وطمأنينة الصدر وطيب النفس وصلاح البال، في الفتوى رقم: 117997. فراجعها للأهمية.
كما سبق أيضا بيان ماهية التوكل الحقيقي وأن الأخذ بالأسباب لا ينافيه، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18784، 23867، 44824، 114827.
وسبق كذلك ذكر نصائح فيما يعين على الخوف من الله وعدم خوف غيره، وبيان أن الخوف من المستقبل قدح في التوكل، في الفتويين رقم: 66109، 3508.
ونسأل الله تعالى أن يرزقك الزوجة الصالحة الناصحة، وأن يجمع بينكما في خير.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 ربيع الأول 1430(9/4074)
أحوال وحكم التحدث بالنعم
[السُّؤَالُ]
ـ[لي صديقة متدينة، وعلى خلق عال، حالتها المادية في السابق ومع زوجها ضعيفة، ولها مشاكل وخلافات مع والدتها القاسية عليها، وكذلك مع أهل زوجها، وفي عملها بسبب تدينها، وكذلك لأسباب أخرى، وأنا ولله الحمد بفضل الله على أعطاني الله والدة طيبة حنون، وأسرة متوادين ملتزمين دينيا وأخلاقيا، وحالتنا المادية والاجتماعية عالية ولله الحمد والمنة.
وسؤالي: تكون بيني وبين صديقتي أحاديث بصفه مستمرة، فهل يجوز لي التحدث عن أوضاعنا الاجتماعية الطيبة، وعن حنان والدتي وأسرتي علي، وأنا أخشى أن تجرحها هذه الأحاديث بالرغم من تفاعلها معي بشكل إيجابي ورغبتها في إكمال الحديث؟
جزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل أن يحدث الإنسان بنعمة الله عليه؛ لأن هذا من شكر النعمة، قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {الضحى: 11}
جاء في تفسير ابن كثير: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي: وكما كنت عائلا فقيرًا فأغناك الله، فحدث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا. انتهى، ثم ذكر قول ابن جرير بإسناده إلى أبي نضرة قال: كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدّث بها. انتهى
قال ابن العربي: إذا أصبت خيرا أو علمت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك على سبيل الشكر لا الفخر والتعالي، وفي المسند مرفوعا: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعمة شكر وتركها كفر ... اهـ
ولكن إذا كان التحدث بالنعمة على سبيل الفخر والاختيال والتعالي على الناس فإن ذلك لا يجوز، قال الله سبحانه: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {الحديد: 23} وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر. رواه ابن ماجة وغيره وصححه الألباني. والمعنى: أقول هذا تحدثا بنعمة الله علي ولا أفتخر به لأن هذه الفضيلة إنما نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي فليس لي أن أفتخر بها.
وكذا فإنه ينبغي كتمان النعمة وعدم التحدث بها إذا خشي الإنسان على نفسه الحسد والكيد من عدو حاقد أو صديق حاسد، ومن هذا الباب ما كان من يعقوب عليه السلام عندما أمر ابنه يوسف أن يكتم رؤياه عن إخوته لئلا يكيدوا له كيدا، قال سبحانه حكاية عنه: قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ {يوسف: 5}
وكذا فإنه ينبغي عدم التحدث بالنعمة عند المحروم من هذه النعمة، إذا خشي أن يحدث ذلك كسرا في قلبه، فقد نهى الشرع عن كل ما من شأنه أن يتسبب في إيذاء المسلمين أو جرح مشاعرهم وكسر قلوبهم.
وعلى هذا فأنت أيتها السائلة أعلم بصديقتك وأخبر بحالها، فإن خشيت أن يحدث هذا ضيقا في صدرها وكسراً في نفسها – كما ذكرت - فلا ينبغي لك أن تحدثيها به مراعاة لظروفها وحفاظا على مشاعرها، أما إن كانت ممن لا يأبه بهذا ولا يتأثر به، فلا حرج عليك إن أنت حدثتها بذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 ربيع الأول 1430(9/4075)
فقد حلاوة الإيمان.. كيف يستردها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندي مشكلة كبيرة جدا أرجو أن أجد حلها عندكم،،منذ فترة 4 سنوات عشت فترة من الراحة النفسية الرائعة المليئة بمحبة الله والتعبد والإيمان الصادق والثقة بالله تعالى وتحجبت خلال تلك الفترة، وقد كنت سعيدة لأبعد الحدود، وقد أنعم الله علي بأشياء كثيرة، فقد كنت أرى أحلاما رائعة كنت أرى نفسي دائما أجالس الأنبياء وأقضي على الشياطين، وأسمع القرآن أيضا في منامي بشكل مستمر،، كما أن الله تعالى رزقني بقدرة عجيبة إذ وضعت يدي على مكان ألم أحد ما خف عنه الألم،،،لكن منذ وفاة أمي فقدت هذه النعم مرة واحدة، ومنذ أن تعرفت إلى صديقة لي أيضا وأخبرتها بتلك النعم زالت ولم تعد موجودة،،،أنا حزينة جدا وتعيسة، فبعد أن ذقت حلاوة الإيمان، ورأيت الأنبياء في أحلامي فقدت كل شيء،،أعرف جيدا أن السبب يعود أيضا لإهمالي لأشياء كثيرة كنت أقوم بها سابقا، وأعلم أيضا أن التقصير بدأ من عندي لهذا عاقبني الله، وأمنيتي الوحيدة أن أعود إلى الله كما كنت فهو حبيبي ورفيقي أينما أكون، وهو كل شيء عندي والله،،،أرجوكم أعينوني كيف أعود إلى الله، وماذا أفعل لأستعيد تلك النعم التي عندما فارقتني أخذت روحي معها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين مزيدا من الخير والصلاح والاستقامة والثبات، ونفيدك أن من وسائل التوبة والانابة والاستقامة استحضار أهميتها وأنها هي السبيل الوحيدة للسعادة في الدنيا والآخرة، فقد قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} وقال جل وعلا: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {المائدة:39} وقال سبحانه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82} وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ {فصلت:32،31،30} وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأحقاف:14،13}
ومن وسائل تحصيلها الاستعانة بالله تعالى، والالتجاء إليه سبحانه، والعمل بمقتضى كتابه واتباع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ومصاحبة أهل الخير الذين يدلون على طاعة الله تعالى، ويرغبون فيها، ويحذرون من طاعة الهوى وإغواء الشيطان مع البعد عن قرناء السوء المنحرفين عن سبيل الهدى المتبعين للهوى فقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف:28} وقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة. متفق عليه.
وعليك بمراقبة الله في السر والعلانية، فقد قال الله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {الحديد:4}
واعلمي أن حلاوة الإيمان حقيقة معنوية يجعلها الله في قلوب المستقيمين من عباده، وأمارتها حب الاشتغال بالطاعات والصبر عليها.
قال الإمام النووي في شرحه لمسلم: قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ذلك على عرض الدنيا ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ
ومن المعلوم أن للإيمان لذة، ولها أسباب تحصل بها؛ كما في الحديث: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار. رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث: ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا رسولا. رواه مسلم.
فالذي يريد تذوق طعم الإيمان يحافظ على الفرائض، ثم يكثر من النوافل والطاعات؛ كما في الحديث: ما تقرب إلي عبدي بشيءأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ... الحديث.
ولهذا ننصحك بأن تنظري نفسك وتراجعي علاقتك مع ربك ومدى التزامك بالصلاة والمحافظة عليها والخشوع فيها، والإكثار من نوافلها فهي الصلة بينك وبين ربك، فأحسني صلتك به تجدي لذة المناجاة ولذة الاستقامة ولذة الطاعة، وجاهدي نفسك واصبري على الالتزام بالطاعت وستجدين اللذة إن شاء الله.
وأما الرؤى الحسنة وحصول بعض الشفاء على يدك فحصوله من المستقيمين كرامة، ولكن فقدها لا يضر إذا ظل العبد متمسكا بدينه، فالكرامة الكبرى هي الاستقامة واتباع السنة، والفرق بين الكرامة والاستدراج كما قال أهل العلم: أن صاحب الكرامة مستقيم على شرع الله تعالى متبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وراجعي الفتاوى التالية أرقامها: 10800، 25854، 29853، 71891، 65441، 7369.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 ربيع الأول 1430(9/4076)
الواقع في البلاء يستعين بالله ولا يعجز
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب في الأكاديمية الصيحة أول ترم أدرس ومنذ شهرين كنت مسافرا ونحمد الله على العافية لنا ولكم، أول ما وصلت البيت ونمت جاءتني رعشة دقات القلب سريعة، أحس أني سأموت، عرق غزير، ضيق في الصدر خوف، وقرأت القرآن ونمت الساعة3 صبحا، وذهبت لشيخ وقرأ علي، استخدمت علاج الشيخ وجلست أسبوعا أحس بضيق شديد في الصدر وكرهت الناس وكرهت الدنيا أحس أني سأموت في أي وقت، وبعد أسبوع تحسنت، مدة أسبوعين وبعده جاءتني مرة ثانية، وأحس أني أبقى أبكي بدون سبب وجلست أسبوعا وبعده تحسنت نفس السابق، والآن يأتينني تفكير سيئ وخوف من المستقبل ويأتيني تفكير أن الدراسة والوظيفة والزواج لا فائدة من الجميع، وأن الدنيا لا تساوي شيئا، يأتيني ذلك بعض الوقت وليس كله، هل هو مستمر مع الزمن أو له وقت محدد ساعدوني أنا أطلب من الله ثم منكم، والله ينزل العافية علينا وعلى جميع المسلمين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى الشفاء لك، وننصحك بمواصلة الرقية الشرعية والعلاجات الربانية حتى يكتمل العلاج، وأما ما ذكرت أنه يحصل لك فليس عندنا ما يجزم به في شأنه، ويمكن أن تراجع فيه بعض أصحاب الاختصاص والتجربة في الرقية الشرعية ممن يوثق بدينهم واتباعهم للسنة وابتعادهم عن الشرك والشعوذة، واستشرالاطباء ولا سيما الأطباء النفسيين.
واعلم أنه إذا أصاب العبد ما يكرهه أو خشي ما يصيبه فينبغي أن يدعو الله تعالى أن يرفع عنه البلاء ويصرف عنه شر ما يخشاه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يرد القدر إلا بالدعاء. رواه أحمد والترمذي بإسناد حسن.
وروى الحاكم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة. والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع.
ثم إنه لا ينبغي أن يحملك ما أصابك على ترك ما ينفعك من دراسة أو كسب أو زواج، بل ينبغي أن تستمر في بذل الأسباب في تحقيق ما ينفعك. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان.
وعليه.. فاحرص على مواصلة دراستك والسعي فيما ينفعك من كسب وزواج، واصرف ذهنك عن هذه المخاوف وواصل الرقية عند الرقاة الذين يرقون بالرقية الشرعية والتداوي بما يشرع التداوي به كالعسل والحبة السوداء وورق السدر وشراب زمزم، وأكثر من الدعاء ولا تستعجل ولا تمل وأحسن الظن بالله، ففي الحديث: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجب لي فيستحسر ويدع الدعاء. رواه مسلم.
وعليك بصحبة الصالحين ليعينوك على الخير ويبعدوك عن الشر، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 79707، 95550، 80694.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 ربيع الأول 1430(9/4077)
هل الحسنات تمحو الأذى وسوء المعاملة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من يسئ المعاملة ويؤذي أهل الزوج ويكذب ويفتن، وفي نفس الوقت يحفظ القرآن ويحضر المحاضرات الدينية.؟ فهل هذه الحسنات تمحي باقي الخطيئات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إيذاء الناس بغير حق من الأمور المحرمة التي تغضب الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {الأحزاب: 58} .
كما أن الكذب والإفساد بين الناس من أرذل الأخلاق ومن الأمور المحرمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً متفق عليه.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة نمام. متفق عليه.
والنميمة هي نقل كلام الغير على جهة الإفساد0
ولا شك أن الاشتغال بحفظ القرآن، وحضور مجالس العلم، من أفضل الأعمال التي تقرّب إلى الله، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده. رواه أبو داود وصححه الألباني.
وحريُّ بمن كان حريصاً على ذلك أن يكون بعيداً عن مساوئ الأخلاق، حريصاً على معاليها ومكارمها، فإن ذلك من أعظم ثمرات الإيمان والعبادة، ومن أسمى مقاصد رسالة الإسلام.
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أخبركم بأحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثاً. قال القوم: نعم يا رسول الله! قال: أحسنكم خلقاً.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ. رواه أحمد وصححه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. رواه أبو داود وصححه الألباني.
أما عن كون الحسنات تمحو هذه الخطايا، فالقرآن قد أخبر بذلك، قال تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات {هود:114} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأتبع السيئة الحسنة تمحها. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
لكن الجمهور على أن هذا في الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة، كما أن الذنوب المتعلقة بحقوق العباد لا بد فيها من استحلال أصحابها.
قال في دليل الفالحين: ثم هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرهاـ على الصحيح - إلا التوبة بشروطها، 00، وأما التبعات فلا يكفرها إلا إرضاء أصحابها.
ونرجو لمن كان يحافظ على مجالس العلم وتعلم القرآن أن يوفقه الله للتوبة ويهديه لأحسن الأخلاق.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 ربيع الأول 1430(9/4078)
من قام من مصلاه بعد الفجر لقضاء حاجته هل يفوته الأجر
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أحاول أن أجلس جلسة الشروق من بعد صلاة الفجر، لكن أحيانا يزاحمني الأخبثان فأضطر للنهوض من مكاني لقضاء حاجتي، ثم أرجع مرة أخرى بعد أن أتوضأ إلى مكاني، فهل بهذا النهوض يفوتني أجر الجلسة (أجر حجة وعمرة تامتين) ؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يزيدك حرصا على الخير ورغبة فيه، ثم اعلمي أن هذا الأجر المذكور في السؤال هو الوارد في حديثٍ عند الترمذي: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة.، والخلافُ في صحة هذا الحديث مشهور، وقد حسنه جمعٌ من العلماء، وعلى القول بأنه حسن، فإن الثواب الوارد فيه معلقٌ على أمور، فلا يحصلُ إلا بحصولها، فمن المعلوم أن ما عُلقَ على شرطٍ لا يحدثُ عند انتفاء ذلك الشرط.
فأول هذه الأمور: صلاة الصبح في جماعة، فمن صلى في غير جماعة لم يحصل له هذا الثواب على ظاهر الحديث.
وثاني هذه الأمور: القعود في المصلى حتى تطلع الشمس، فمن ترك المصلى ولو لعذر لم يحصل له هذا الثواب إلا بالنية إن كان معذوراً، والمصلى هو المكان الذي صلى فيه، واختلف هل يختصُ بالبقعة التي أوقع فيها الصلاة أو يعمُ جميع المسجد والثاني أرجح.
قال الحافظ العراقي رحمه الله: ما المراد بمصلاه؟ هل البقعة التي صلى فيها من المسجد، حتى لو انتقل إلى بقعة أخرى في المسجد لم يكن له هذا الثواب المترتب عليه، أو المراد بمصلاه جميع المسجد الذي صلى فيه؟ يحتمل كلا الأمرين والاحتمال الثاني أظهر وأرجح. انتهى
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (مصلاه) أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمراً على نية انتظار الصلاة كان كذلك. انتهى.
لكن من ترك مكان الصلاة بالمرة فالظاهرُ أنه لا يحصلُ له الأجر.
ثالثُ هذه الأمور: صلاة ركعتين بعد طلوع الشمس، وبه يظهر أن قيامكِ من المصلى لقضاء حاجتك يُفوّتُ عليكِ هذا الثواب، لكنكِ إن كنتِ معذورةً في القيام حصل لكِ الثواب بالنية، كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 24809. وبخاصة إذا كان هذا الجلوس عادة لكِ.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 ربيع الأول 1430(9/4079)
وقع في داء العشق فكيف يتخلص منه
[السُّؤَالُ]
ـ[أحب إحدى النساء حبا شديدا لا يوصف بل أعشقها، وهذا رغما عني، رغم إنها امرأة عادية ولا تتعرى، والمشكلة بدأت عندما كانت تتساهل في ستر بيتها بدون قصد منها، فكانت تعطي الأمان للناس، وبدأت أنظر إليها، والمشكلة أنها فتنة في الجمال، وأكرر رغم عدم التعري، فمجرد رؤية وجهها يثيرني رغما عن أنفي، المهم ظللت أكرر النظرات والنظرات حتى عشقتها، فصارت في أحلامي دوما وتخيلاتي لا تفارقني أبدا، ولو قلت إنها قد تثيرني أكثر من أجمل امرأة في العالم فما وفيتها حقها، واستمنيت كثيرا بسببها هي فقط، وهي متزوجة وهي دائما كانت سبب نكساتي، فهي ترجعني للوراء، فأنا والحمد لله لا أنظر للنساء أبدا، ولا حتى الأفلام والمسلسلات، ولا أصافح النساء، ولكن عندها هي كل شيء يتحطم، فكم من توبة أفسدت بسببها، وأستغفر الله العظيم، وأنا الحمد لله تبت الآن، وتركت الاستمناء، وسكنت في بلد أخرى للدراسة، وسبحان الله كدت أنساها هناك، ولكن أراها دوما تطاردني في الأحلام، وأنا أنظر إليها عارية، والمشكلة عندما أرجع أجد نفسي أكاد أجن، وأتمنى أن أنظر إليها، ولكن بفضل الله أحبس نفسي عن النظر إليها، ولكن ما يحزنني أن حبها "معشش" في قلبي، وأخشي أن أقابل ربي بهذا القلب المريض، وأتمنى أن ألقاه بقلب سليم، أتمنى أن أنزع حبها من قلبي، ولولا معرفتي بقدرة الله وحسن ظني بالله لقلت إني لن أنساها أبدا، فماذا أفعل لكي أنساها، فأتمنى أن يرجع قلبي كما كان سابقا، وصدق من قال: إن الصبر على النظرة أيسر من الصبر على ما يتبع النظرة. فلو تعود الأيام ما نظرت لها قط. فانصحوني بالله عليكم، وأرشدوني بالعلاج، وهل لي من توبة، وهل أنا ظلمتها، وهل هي ظلمتني؛ لأنها كانت تتساهل، لكن الآن فهي عرفت أني أنظر إليها والحمد لله سترت بيتها تماما، وهل سيزنى ببيتي حتى لو تبت.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعشق مرض يفسد القلب، ويحول دون استشعار لذة العبودية لله، وتذوق حلاوة الإيمان، ولا شك أنك قد فرطت وظلمت نفسك بتعاطيك أسبابه بمخالفة الشرع في إطلاق البصر، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ {النور: 30} . وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِىٍّ: يَا عَلِىُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ. رواه أبو داود وحسنه الألباني. وعَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ. رواه أبو داود وصححه الألباني.
ولمعرفة كيفية علاج العشق انظر الفتوى رقم: 9360.
أما عن التوبة فإنها إذا تمت بشروطها فهي مقبولة من أي ذنب كان، وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العود له.
وأما عن سؤالك هل يقتص ما فعلته من أهل بيتك ولو تبت، فاعلم أن التوبة تمحو ما قبلها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني.
وننصحك بتعجيل الزواج إذا لم تكن متزوجاً، وإذا لم تكن قادراً على الزواج فعليك بالصوم مع الحرص على غض البصر وسد أبواب الفتنة والبعد عن كل ما يثير الشهوة، والاعتصام بالله، والحرص على تقوية الصلة به، وصحبة الصالحين، وحضور مجالس العلم والذكر، وشغل الفراغ بالأعمال النافعة، وممارسة بعض الرياضة، ولمعرفة المزيد مما يعينك على التغلب على الشهوة وغض البصر نوصيك بمراجعة الفتاوى رقم: 36423، 23231، 20618.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 ربيع الأول 1430(9/4080)
حكم من ارتكب كبيرة في ظنه وهي صغيرة
[السُّؤَالُ]
ـ[أحببت فتاة إلى حد الجنون وكنت أغار عليها غيرة قاتلة وذات مرة رأيتها خارجة بسيارتها فخشيت أن تذهب لمقابلة أحد الشبان لأنني كنت كثير الشك والوسواس ففكرت أن ألاحقها ولكن قلت في نفسي أن هذا تجسس وهو حرام ومعصية وإيذاء لله ولرسوله والإيذاء كفر وخروج عن الملة ولكن لشدة غيرتي على البنت قمت بملاحقتها وقلت سأتوب فيما بعد من هذا الكفر، فماذا أفعل الآن؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي التنبه أولا إلى أن ما يعرف بعلاقة الحب بين الشباب والفتيات هو أمر لا يقره الشرع، ولا ترضاه أخلاق الإسلام، وإنما هو دخيل على المسلمين من عادات الكفار وثقافات الانحلال، وإنما المشروع في الإسلام أن الرجل إذا تعلق قلبه بامرأة، يخطبها من وليها الشرعي، ثم تظل أجنبية عنه حتى يعقد عليها.
والمبالغة في التعلق القلبي أمر مذموم قد يؤدي إلى مفاسد وأمراض قلبية كمرض العشق، وراجع الفتوى رقم: 27626.
كما أن سوء الظن وتتبع عورات المسلمين أمر منهي عنه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا {الحجرات:12} .
لكن ارتكاب ذلك من غير استحلال هو ذنب من الذنوب، وليس كفراً ولا خروجاً عن الملة كما زعمت.
ولكن فعلك ذلك مع ظنك أنه كفر، فيه جرأة على الله، واستخفاف بحرماته، وهل يقدم مسلم على معصية وهو يظنها كفراً ثم يقول سوف أتوب منها؟ ومن أدراك أنك تعيش إلى أن تتوب؟ ومن أدراك أنك ستوفق إلى التوبة المقبولة؟
إن هذه الجرأة تعظّم الإثم وتزيد الوزر، قال العز بن عبد السلام فيمن ارتكب كبيرة في ظنه وليست في الباطن كبيرة: والظاهر أن هذا لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة بل يعذب عذابا متوسطاً بين الكبيرة والصغيرة بجرأته على الله تعالى بما يعتقد أنه كبيرة. انتهى من قواعد الأحكام في مصالح الأنام.
فالذي يجب عليك فعله الآن هو التوبة الصادقة بالإقلاع عن هذا الذنب والندم على فعله والعزم على عدم العود له.
وعليك بقطع العلاقة بهذه الفتاة، والتزام حدود الله، والإكثار من الأعمال الصالحة والحسنات الماحية، وتعلم ما يلزمك من أمور دينك، والحرص على كل ما يقربك من الله ويعينك على طاعته.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 ربيع الأول 1430(9/4081)
تاب من شرب الخمر ويأتيه إبليس فيذكره بها
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله الرحمن الرحيم
أساتذتي الفضلاء / أتقدم لكم بكل احترام وتقدير، وأرسل لكم رسالتي وكلي أمل من بعد الله عز وجل أن أجد لديكم الجواب الوافي الشافي لتفسير حلمي. سوف أدخل بالموضوع دون مقدمات وموضوعي:
أني كنت في السابق مع مجموعة من الشباب اغووني وسحبوني إلى الرذيلة والفتن والمعاصي، ومن هذه المعاصي " شرب الخمر " لفترة تقارب السنة ولكني الآن والحمد الله قطعت تلك العلاقات نهائياً وبفضل من الله أقيم صلواتي جميعها بالمسجد حاضر مع الجماعة ومحافظ على السنن الرواتب وأذكار الصباح والمساء، وصلاة الضحى وصلاة الشفع والوتر، وأصوم 3 أيام من كل شهر وأصوم الاثنين والخميس، إذا وفقني الله، وأحفظ الآن كتاب الله وأنا مستمر بالحفظ حتى الخاتمة، وأتصدق على الفقراء ما أمكنني، وأتبع ما أمر الله وأجتنب ما نهى عنه، وهذا من فضل الله علي.
مشكلتي أن الشيطان يأتي لي بين الحين والآخر ويذكرني بشرب الخمر وما يفعل الخمر بالإنسان من دخول عالم آخر والعياذ بالله وهو بالحقيقة غير ذلك إطلاقا ولكن أشعر في بعض الأحيان أني أتذوق طعم هذه الخمر، ويخطر في بالي بين الحين والآخر، ولكن أتذكر أني قطعت مع الله عهداً بأن لا أعود لهذا الضلال ولا أشرب الخمر مهما كانت الظروف، والحمد الله أنا مواصل وصابر ومحصن بحفظ الله لي.
ولكن في الأيام الماضية أتت لي أحلام وهوأني جالس في مكان يتواجد فيه هذه المشروبات المحرمة وأشاهدها أمامي كما كنت أشاهدها في الواقع سابقاً ولكن على الفور أقول أنا وعدت الله فلا أشرب هذا المحرم ولو على قطع رقبتي وجميع ذلك بالحلم وتكرر هذا الحلم 3 مرات وبجميعها كنت أفوز برضوان الله، ولا أشرب وذلك لخوفي من الله.
• ولكن الأمر الذي شد انتباهي وأذهلني أنه في يوم من الأيام حلمت مرة رابعة بنفس الحلم وشاهدت زجاجة كحولية أمامي وبدون تردد شربت ربع هذه الزجاجة وأشعر وكأني بالواقع بل أشعر بطعمها وكأني بالواقع؟؟؟، البعض يقول لي إن الله سبحانه هو من سخر لك هذا الحلم وذلك لصبرك على بلاء الرغبة وعزيمتك الصادقة مع الله فأراد الله أن يعطيك إياها بحلمك ولا تكون بواقعك، هل هذا صحيح؟ أم أنها من أحلام الشيطان؟
أرجوكم أرغب بالإجابة الوافية في الأمر، فوالله إني أخشى على نفسي، وأسأل الله أن لا يزيغ قلبي بعد أن هداه.
وجزاكم الله خير، ونفع الله بكم الإسلام والمسلمين.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنهنئك بالتوبة ونسأل الله تعالى ألا يزيغ قلبك بعد إذ هداك إنه سميع مجيب، وننصحك بالعزم على المواصلة في طريق الخير والبعد عن رفاق السوء وأوكار الفساد..
وأما ما يذكرك به اللعين من الماضي فعلاجه صرف الذهن عن الموضوع وشغل الوقت وتوظيف الطاقات الفكرية، واصحب إخوة صالحين يدلوك على الخير ويحضوك ويعينوك عليه، واشغل وقتك وطاقتك بما يفيد من علم نافع أو عمل مثمر مفيد أو رياضة تقوي جسمك أو مطالعة هادفة.
وعليك بصدق التوبة والإكثار من سؤال الله التثبيت وكثرة المطالعة في النصوص المرهبة من الخمر فإن شرب الخمر من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وروى الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد في الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من نهر الخبال. قيل لعبد الله بن عمرو - وهو راوي الحديث -: وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرا، فقال صلى الله عليه وسلم: لعن الله الخمر ولعن شاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. رواه أبو داود والحاكم.
وأما الأحلام فليس من اختصاصنا تعبيرها وقد يكون ما رأيت هو ما كان يخيل لك الشيطان في يقظتك، وراجع الفتوى رقم: 72203.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 ربيع الأول 1430(9/4082)
توبة الله تعالى على من تاب ورحمته له مهما عظمت ذنوبه
[السُّؤَالُ]
ـ[فضيلة الشيخ الكريم بالله عليك أرشدني إلى الصواب فإني تائه في غرائز الدنيا الفانية وشهواتها اللعينة إني وقعت في ذنب من الكبائر مع أحد الأشخاص وكلما تبت رجعت ولكن نويت هذه المرة ألا أرجع فقد فكرت فيما فعلت وتبت إلى الله توبة أتمنى أن تكون هي الأصدق، وأنا الآن أكتب إليك وعيني تدمع فلم أكن أتصور أن أصل إلي هذه البشاعة وأفعل هذه الفاحشة.. إني نادم أشد الندم على فعلي هذه المعصية ولكن ماذا أفعل لكي يرضى الله عني هذه المرة؟؟
إني خجلت حتى من الخروج من المنزل من شده الأسف على حالي وأتمنى منك فضيلة الشيخ أن تدلني على الطريق الصحيح الذي لا أعثر فيه مرة أخرى؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى يقبل توبة العبد مهما عظم ذنبه وجرمه ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها، وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران: 135} .
ووعد الله التائبين بالمغفرة والرحمة فقال: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} .
وقال عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} .
ووعد الله تعالى من يقترف أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات، إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {الفرقان:68- 71} .
فهنيئا للتائب الصادق الذي يُتبِع سيئاته بحسنات ماحية، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} .
فأبشر أخي الكريم بتوبة الله عليك، واجتهد في النصح لهذه التوبة، بالإقلاع عن الذنوب خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والندم الصادق على فعلها، والعزم الأكيد على عدم العودة إليها أبدا، مع رد المظالم إلى أهلها إن كانت هناك مظالم. وانظر الفتوى رقم: 5450.
وإياك أن يؤيسك الشيطان فإن رحمة الله تسع كل شيء.
وننصحك أخي الكريم أن تشغل وقتك بطاعة الله وكثرة ذكره، وعليك بالإلحاح في الدعاء وصدق الالتجاء إلى الله تعالى، ونوصيك بصحبة الصالحين والتقرب منهم ومن مجالسهم، وأن تسد على نفسك أبواب المعاصي بغض البصر وهجر مواطن السوء والبعد عن الفساق. كما نوصيك بزيارة القبور وتذكر الموتى وأحوالهم وعاقبتهم.
ثم إننا نحيلك على فتاوى في موضوعات شتى تفيدك في ما تريد تحصيله، فقد سبق لنا بيان وسائل تقوية الإيمان والمحافظة عليه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 6342، 31768، 76210.
وكذلك سبق بيان وسائل الثبات على الدين وتحقيق الاستقامة والاستمرار في طريق التوبة، في الفتوى رقم: 1208، والفتوى رقم: 12744.
وسبق أيضا بيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان في الفتويين: 33860، 56356.
كما سبق التعرض لمسألة: هل تكرار الذنب وتكرار التوبة من الإصرار على المعصية، في الفتويين: 66163، 18661.
فراجع هذه الفتاوى ولخص منها ورقة عمل، واجعلها واقعا عمليا في حياتك، تنال ما تريد من الثبات على التوبة والاستقامة على الطاعة، فإنك ستجد فيها نصائح غالية، وتوجيهات ضرورية لمريد الفلاح.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 ربيع الأول 1430(9/4083)
اعتنق العلمانية ودعا إليها زمانا ثم تاب فهل تقبل توبته
[السُّؤَالُ]
ـ[يا شيخ كنت إنساناً ضالاً أضلنى بعض الناس مثل جمال البنا وغيرهم الذين يقولون إن العلمانية ليست ضد الإسلام، وإن الليبرالية شيء محمود، وإنه ليس ضد الإسلام فى شيء، وبالفعل أعجبت بتلك الآراء، ودافعت عنها، وقمت بإقامة موقع على الإنترنت صفحة للعلمانية، وقمت فيها بتعريف العلمانية، وتجميع العلمانيين فى الوطن العربي، وكنت أتناقش كثيراً مع المخالفين وأجادلهم، وكان هذا منذ أكثر من عام، إلى أن هداني الله برحمته وعرفت الحق وضلال تلك الأفكار، فأغلقت الصفحة وقام آخرون بإقامة صفحة مثلها بدلاً من صفحتي عن العلمانية، فأعلنت عليها توبتي وأني تبت من تلك الآراء، ولكن دائما يأتيني سؤال هل سوف يقبل الله توبتي.. فأنا كنت أدعو إلى الضلالة، فهل بتوبتي سقطت أوزار من أضللتهم، فأخاف أن يكون هناك شخص اقتنع بآرائي ولا يعرف أنني أعلنت توبتي، فتكون أوزار ضلالته علي.. فماذا أفعل، وهل توبتي صحيحة.. أفتوني فأنا خائف جداً من عذاب الله. وأحيانا تأتيني أفكار أنه ليس لي توبة، ولكن لا أريد أن أقنط من رحمة الله، ولكن أيضا أستحضر أنني كنت أدعو إلى الضلالة فأخاف؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعبد مكلف بالاستقامة على طاعة الله والبعد عن الذنوب، ومكلف كذلك بالتوبة والإنابة إلى ربه إذا حصل منه ما يخالف الشرع، فقد ذكر الله من صفات المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ {الأعراف:201} ، وقد وعد سبحانه وتعالى بالرحمة والغفران من تاب واستغفر بعد الذنب، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:54} ، وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} .
فباب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان، ما لم تطلع الشمس من مغربها أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} ، فهنيئاً لك أخي السائل بتوبة الله عليك وأبشر بما يسرك، واعمل بقول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} ، ومن هذه الحسنات الماحية ما قام به السائل الكريم من إغلاق الصفحة، وإعلانه توبته. وينبغي أن يزيد على ذلك الاجتهاد في الدعوة إلى الله، وبيان الحق الذي هداه الله إليه، جاء في الموسوعة الفقهية: التوبة من البدعة: بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 صفر 1430(9/4084)
حب النفس وأين يجب أن يكون موقعه من محبة الله ورسوله
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا الناس يحبون أنفسهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمحبة الإنسان لنفسه فطرة جبلية، لا تستنكر ولا تستغرب، بل عليها تقوم مصالح الدنيا، وبها يحافظ الإنسان على حياته، ومن المعلوم أن حفظ النفس من الضروريات الخمس التي اتفق العقلاء من سائر الملل عليها، قال الشاطبي في (الموافقات) : اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل وعلمها عند الأمة كالضروري. انتهى.
ولا يذم ذلك إلا أن تعلو هذه المحبة محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ {البقرة:165} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار. متفق عليه. وقال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر. رواه البخاري.
وعلو محبة الله ورسوله هي التي تضبط سلوك الإنسان وتخلصه من الأثرة والأنانية، وتحرره من تحكم شهوات الأرض في سلوكه، فإنه عندئذ سيعطي لله ويمنع لله، ويؤثر أخراه على دنياه، وأما إن غلبت محبة النفس -والعياذ بالله- فعندئذ يخالف الشرع ويضيع حقوق الخلق، ويؤثر دنياه على أخراه، قال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة:24} ، فالعبد متقلب بين هاتين المحبتين لا بد أن يغلب إحداهما على الأخرى، وبالتالي فإنه ينتظره أحد مصيرين، كما قال سبحانه: فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {النازعات} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 صفر 1430(9/4085)
التوبة الصحيحة يقبلها الله تعالى ويعفو عمن تاب
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا امرأة متزوجة ولدي طفلة للأسف كنت أرتكبت معاصي كبيرة قبل الزواج وتزوجت منه هو زوجي الآن، وكلي رجاء أن يغفر الله لي حتى إنني ذهبت لأداء العمرة قبل الزواج وحرمت من الإحساس بها وكنت قد شارفت على حفظ نصف القرآن ثم توقفت بدأ فعلا أن يتلاشى من ذاكرتي..
المشكلة:
1_هل يمكن أن يغفر لي الآن بعد الزواج؟
2_هل قدر الله لنا أن نتزوج عقابا لنا؟
3_هل يعاقب والدي على فعلتي وأنا أشهدكم والله أعلم بذلك أنهم لم يقصروا..
4_هل سيرد ما فعلت بنفسي وبوالدي في طفلتي وكيف أمنع ذلك وأحميها أنا لا أنام بسبب ذلك ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس من شك في أن الذنوب لها شؤم قد يحرم العبد بسببه من لذة العيش ولذة العبادة، ولكن يجب أن يعلم أنه مهما عظم ذنب العبد وكثرت ذنوبه، فإنه إذا تاب توبة صادقة مستوفية لشروطها، تاب الله عليه، بل إن الله يفرح بتوبة العبد، ويحب التوابين، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر 53} .
وشروط التوبة الصادقة تكون بالإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على عدم العود، وللمزيد عن شروط التوبة انظري الفتوى رقم: 5646.
- فإذا كنت قد تبت توبة صحيحة فأبشري بقبول التوبة وعفو الله عنك إن شاء الله، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] .
- وأما عن كون زواجكما عقوبة من الله، فالزواج نعمة من نعم الله وليس عقوبة، كما أن التوبة تمحو الذنوب الواقعة قبلها، ففي الحديث الشريف: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
- وأما عن والديك فإذا كانا لم يقصرا في تربيتك، ولم يقراك على معصيتك، فلا إثم عليهما، فإن الأصل في الشرع أن أحداً لا يحمل ذنب أحد، قال تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. {الأنعام 164}
وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده. رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
- وأما خوفك على طفلتك أن تقع فيما وقعت فيه عقوبة لك، فهو في غير محله لأنه لا يعاقب أحد بذنب أحد.
ولكن عليك أن تحسني تربيتها بأن تغرسي فيها حب الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وتعوديها الفضائل والأخلاق الحسنة وخاصة الصدق والحياء، وتكثري من الدعاء لها، مع الثقة بالله وحسن الظن به.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 صفر 1430(9/4086)
التوبة وعدم الاغترار بالعمل والرضا عن النفس
[السُّؤَالُ]
ـ[الحمد لله على نعمه علي عباده رغم تقصيرهم، فمنذ صغري وأنا أحفظ القرآن ومختلفة عن من هم حولي، ليس لي هم مثلهم، أذهب للمحاضرات مع أبي حتي وإن لم أفهم شيئا، أحب أصدقاء والدي الذين يأتون لحلقة القرآن، أجلس معهم أحب أهل الدين وتمنيت أن يرزقني الله زوجاً ذا خلق ودين حتي وإن لم يكن يملك شيئا كل هذه الأفكار من صغري، وبعد أن كبرت قليلاً وفهمت الحياة انجرفت قليلاً، وكنت أعود مرة أخرى، وقد مر علي وقت ارتكبت معصية وأقلعت بحمد الله، ولله الحمد ثبت الآن على الالتزام والحفظ وشارفت علي النهاية، ولكني أحس أن عملي كله رياء، وأن الناس يحبونني رغم تقصيري وعلمي بحقيقة نفسي.. وأفعل كثيراً من أمور الخير وأتمني أن أصل إلي مرحلة الرضا عن النفس وعدم الإحساس بالتقصير، فإلى الآن أصاحب الخيرين من الناس وأصحح أخطاء الآخرين، وأريد الخير للجميع وأساعدهم، وكلما أجد شيئاً من الوصايا أو الكتب التي تنفع الناس أوزعها وأطبع أوراق أجدها في مواقع إسلامية وأوزعها أيضاً ... فكيف أقنع نفسي بأنني قد قبلت توبتي ورضي الله عني، وكيف أنزع الرياء من قلبي وأعيش سعيدة بالإيمان وحلاوته في قلبي.. فادعو لي بالزوج الصالح حتي يعينني علي العبادة وحب الخير للناس وإصلاح بينهم، أجيبوني بشيء من التفصيل لأنني أعيش نزاعا داخليا والحياة لا طعم لها عندي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرزقك الهدى والتقوى والعفاف والغنى ... ثم اعلمي حفظك الله أن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان ما لم تطلع الشمس من مغربها أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} ، وقال سبحانه: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} ، فالمؤمن ليس بالمعصوم من الذنب ولكنه لا يصر عليه، بل يبادر بالتوبة والإنابة إلى الله ويتبع سيئاته بحسنات ماحية، فلا تيأسي من روح الله، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135} ، وقال أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ {الأعراف:201} ، وراجعي لزاماً لتمام هذا المعنى الفتوى رقم: 111852.
فعليك أختي الكريمة أن تنشغلي بتحصيل شروط التوبة النصوح، وأن تجددي إيمانك دائماً، وتستقيمي على طاعة الله، وقد سبق لنا بيان وسائل الثبات على الدين وتقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة وذكر نصائح لاجتناب المعاصي وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 5450، 29785، 76210، 12744، كما سبق بيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان في الفتوى رقم: 33860.
وكذلك سبق لنا بيان حقيقة الإخلاص وبواعثه وثمراته وحقيقة الرياء وآثاره وكيفية علاجه وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10396، 8523، 7515، 10992، 57643.
ثم ننبه السائلة على أن تمنيها الوصول إلى مرحلة الرضا عن النفس وعدم الإحساس بالتقصير هو أمر لا يحصل للعارف بالله العارف بنفسه وما يخيله الشيطان للإنسان من ذلك فهو وهم، قال ابن القيم في مدارج السالكين: العارف لا يرضى بشيء من عمله لربه، ولا يرضى نفسه لله طرفة عين ويستحيي من مقابلة الله بعمله ... وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ثم يقبض على لحيته ويهزها ويقول لنفسه: يا مأوى كل سوء وهل رضيتك لله طرفة عين. وقال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور. انتهى.
فلا أحد يضمن حصول رضا الله عنه، ولا يأمن سخطه ومكره، أو يتأكد من قبوله له، وقد وصف الله تعالى السابقين بالخيرات فقال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {المؤمنون:60-61} ، قالت عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
فعلامة صدق النية أن لا يعجب المرء بعمله ولا يغتر به ولا يُدِلَّ به على ربه، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 31449، فالمسلم يرجو رحمة الله ويخشى عذابه ويحسن الظن به ولا يأمن من مكره، وقد سبق تفصيل هذا المعنى في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22445، 47200، 75359، 30385.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 صفر 1430(9/4087)
التوبة من الكذب والسرقة والزنا والحلف الكاذب وشهادة الزور
[السُّؤَالُ]
ـ[أفيدوني عن كفارة الكذب والسرقة والزنا وحلفان ربي بالكذب في كتابه ألف مرة وشهادة الزور؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى يقبل توبة العبد مهما عظم ذنبه وجرمه ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها، وقد وعد سبحانه وتعالى التائبين بالمغفرة والرحمة، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:54} ، وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} ، حتى ولو أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} ، وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. رواه مسلم.
والتوبة النصوح من أي ذنب تكون بالإقلاع عنه خوفاً من الله تعالى وتعظيماً له وطلباً لمرضاته، والندم الصادق على فعله، والعزم الأكيد على عدم العودة إليه أبداً، مع رد المظالم إلى أهلها إن كان هناك مظالم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري.. فأيا كان الذنب كذباً أو سرقة أو زنا وحلفا كاذباً أو شهادة زور فالتوبة منه تكون بما سبق.. وراجعي في هذه الشروط الفتوى رقم: 5450، والفتوى رقم: 29785.
ومن هذا يتبين أن من لوازم التوبة من السرقة رد المسروقات إلى أصحابها، على تفصيل سبق بيانه في الفتوى رقم: 3051.
وكذلك التوبة من شهادة الزور لا تتم إلا بالتخلص من آثارها ورد الحقوق التي ضاعت على أهلها بسببها، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 72854، والفتوى رقم: 21337، وقد سبق بيان التوبة من الكذب في الفتوى رقم: 40305، ومن الزنا في الفتوى رقم: 1106، ومن الحلف الكاذب في الفتوى رقم: 21841، والفتوى رقم: 33899، وراجعي للمزيد من الفائدة عن التوبة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22378، 17308، 28748، 16907.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 صفر 1430(9/4088)
فعلت من الذنوب ماهو كفر ودون ذلك فهل لها من توبة
[السُّؤَالُ]
ـ[فعلت الكثير من المحرمات من الكذب إلى السرقة إلى فقدان الشرف والزنا وحلفت على كتاب الله أكثر من25مرة كذبا وقلت يا رب أتحداك وكنت في منتهى العصيان ودعوت على أهلي وشرف أهلي وصحتهم إذا كذبت مرة أخرى ولكني كذبت وأيضا شهادة الزور فعلتها وحلفت كثيرا وتكلمت على شرف البنات بالباطل وفعلت النميمة والغيبة، والآن أنا نادمة كثيرا وأريد التوبة وأجهل الطريق والكفارة أفيدوني بالعاجل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمه ويشرح صدرك لتوبة نصوح تجب ما قبلها.
ونبشرك برحمة الله الواسعة ومغفرته السابقة لمن أقبل عليه تائبا، هذا مع التنبيه إلى أنك عفا الله عنك قد جمعت أيتها الأخت في معاصيك أنواع الموبقات فمنها ما هو كفر وردة، كقولك لله تعالى أتحداك، ومنها ما هو كبائر كالزنا، ومنها ما فيه حق للعباد كالغيبة والقذف.
وعلى أية حال فالله تعالى يقبل توبة العبد مهما عظم ذنبه وجرمه ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها، وقد وعد سبحانه وتعالى التائبين بالمغفرة والرحمة، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:54} .
وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} .
ولو أسرف الإنسان على نفسه بالذنوب فإن الله يغفرها له بالتوبة، كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} .
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
أما التوبة من الكفر فقال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب: الاستهزاء بدين الله أو سب دين الله أو سب الله ورسوله أو الاستهزاء بهما كفر مخرج عن الملة، ومع ذلك فإن هناك مجالاً للتوبة منه؛ لقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
فإذا تاب الإنسان من أي ردة توبة نصوحاً استوفت شروط التوبة فإن الله تعالى يقبل توبته. اهـ.
وكذلك الحلف بالمصحف كاذبا كفارته التوبة النصوح، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 29633.
والذنوب التي تتعلق بحقوق الآدميين تحتاج في التوبة منها إلى التحلل من حق الآدمي، مع الإقلاع والندم والعزم على عدم العود، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. رواه البخاري.
وقال الغزالي: وأما العرض فإن اغتبته أو شتمته أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده وأن تستحل من صاحبك إذا أمكنك إذا لم تخش زيادة غيظ وتهييج فتنة في إظهار ذلك وتجديده، فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك. اهـ.
وينبغي أيضا أن تذكري من اغتبته أو قذفته بما فيه من خير لا سيما في الموضع الذي سبق أن اغتبته أو قذفته فيه، مع الدعاء والاستغفار له بظهر الغيب. وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 111563، 71974، 66209.
ومن لوازم التوبة من السرقة رد المسروقات إلى أصحابها، على تفصيل سبق بيانه في الفتوى رقم: 3051.
وكذلك التوبة من شهادة الزور فلا تتم إلا بالتخلص من آثارها ورد الحقوق التي ضاعت على أهلها بسببها، كما سبق بيانه في الفتويين: 72854، 21337.
وأما دعاؤك على أهلك فعليك أن تطلبي مسامحتهم وأن تكثري الدعاء لهم بضد ما دعوت عليهم به، وراجعي في ذلك الفتاوى ذات الأراقم التالية: 20051، 69968، 70611، 70831.
وراجعي لمزيد الفائدة عن التوبة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22378، 17308، 22378، 28748.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 صفر 1430(9/4089)
التوفيق بين الزهد في الدنيا وإظهار العبد نعم الله عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي هو كيف يمكن التوفيق بين الزهد في الدنيا وقول الرسول عليه الصلاة والسلام (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، في ما معناه حيث إن أبا بكر رضي الله عنه كان يلبس المرقع، وعمر وابنه ما استطاع أن يشتري ثوبا جديداً؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا أنعم الله على عبده فلم يُر أثرها عليه؛ فإنه يذم إن كان ذلك بخلاً وشحاً على نفسه أو كتمانا لنعمة الله، أما إن وقع منه ذلك على سبيل التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها والتفرغ للآخرة، والبعد عن الترف والتنعم، فإن هذا يمدح ولا يذم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعث به إلى اليمن: إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين. رواه أحمد وحسنه الألباني.
وذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني. وصححه الألباني، قال الخطابي: البذاذة سوء الهيئة والتجوز في الثياب. وقال ابن حجر: البذاذة رثاثة الهيئة. وقال ابن رجب في اختيار الأولى: في سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: البذاذة من الإيمان. يعني: التقشف. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك اللباس تواضعاً لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها. وإنما يذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلاً على نفسه، أو كتماناً لنعمة الله عز وجل، وفي هذا جاء الحديث المشهور: إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده. انتهى.
ومن العلماء من جمع بين الأمرين بأن المطلوب التوسط في الأمور، فقد ذكر الطحاوي في (مشكل الآثار) باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفيع اللباس وفي خسيسه، وأسند ما فيه من الآثار السابقة ثم قال: البذاذة التي لا تبلغ بصاحبها نهاية البذاذة التي يعود بها إلى ما يبين به ذو النعمة من غير ذي النعمة، وحديثا عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين على النعمة التي ترى على صاحبها ليس مما فيه الخيلاء ولا السرف ولا اللباس المذموم من لابسه، ويكون اللباس المحمود هو ما فوق البذاذة التي لا بذاذة أقل منها.. وما في الحديثين الآخرين على اللباس الذي لا يدخل به صاحبه في أعلى اللباس، فيكون فاعل ذلك يدخل في معنى قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا. ومثل ذلك ما قد كان أهل العلم عليه، وما يأمرون به الناس في اللباس كما قال سفيان الثوري: البس من الثياب ما لا يشهرك عند الفقهاء ولا يزري به السفهاء. انتهى.
ومنهم من جعل التواضع في اللباس مطلوباً في وقت الشدة والحاجة حتى لا تنكسر قلوب الفقراء، أو في بعض الأوقات دون بعض حتى لا تكون العادة هي التكلف في الثياب ونحوها، ففي مرقاة المفاتيح: إنما حث على البذاذة لئلا يعدل عنها عند الحاجة ولا يتكلف للثياب المتكلفة، كما هو مشاهد في عادة الناس. انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في فتاوى (نور على الدرب) نحو سؤال السائل الكريم فكان مما أجاب: أثر النعمة بحسب النعمة، فنعمة المال أثرها أن يكثر الإنسان من التصدق ومن نفع الخلق، وكذلك أن يلبس ما يليق به من الثياب، حتى أن بعض العلماء قال: إن الرجل الغني إذا لبس لباس الفقراء فإنه يعد من لباس الشهرة، ولكن قد تدعو الحاجة أو قد تكون المصلحة في أن يلبس الإنسان لباس الفقراء إذا كان عائشاً في وسط فقير وأحب أن يلبس مثلهم لئلا تنكسر قلوبهم، فإنه في هذه الحال قد يثاب على هذه النية ويعطي الأجر على حسب نيته ... وأما ما ذكر عن بعض الصحابة في تقشفهم فهذا على سبيل التواضع لئلا يكون من حولهم منكسر القلب يحسب أنه لا يستطيع أن يلبس مثل لباسهم أو أن يطعم مثل طعامهم، والإنسان في هذه الأمور يراعي المصالح. انتهى.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 103802 التعرض لمسألة المفاضلة بين الإعراض عن الطيبات والتمتع بها، وفيها ذكر علة تقلل بعض الصحابة كعمر بن الخطاب من الدنيا، وأن ذلك لعله بسبب ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في وصف فارس والروم: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أدرك جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم فقال: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين قرمنا -يعني اشتدت شهوتنا- إلى اللحم فاشتريت بدرهم لحماً، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا.
ثم ننبه السائل الكريم على أن حقيقة الزهد هي أن يخلو القلب مما لا ينفع في الآخرة، ويمكن أن يكون مداره على قوله تعالى: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {الحديد:23} ، وقد سبق تفصيل ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 20776، 50125، 59675.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 صفر 1430(9/4090)
جملة المعاصي تدخل في عموم الإيذاء لله ورسوله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعتبر المعصية التي يرتكبها المسلم من الإيذاء لله ورسوله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا {الأحزاب: 57} ، وهذا الإيذاء يكون بارتكاب ما يكرهانه من الكفر والمعاصي، كما نص عليه جماعة من المفسرين، كالبيضاوي وأبي السعود والشوكاني والألوسي. وقال الطبري: يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرم عليهم. اهـ.
وقال البغوي: معنى الأذى هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد. اهـ.
وقال ابن كثير: يقول تعالى متهددا ومتوعدا مَنْ آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك، وأذَى رسوله بعيب أو تنقص، عياذا بالله من ذلك اهـ.
وقال القشيري: يؤْذون اللَّهَ ورسولَه بعمل المعاصي التي يستحقون بها العقوبة، ويؤذون أولياءَه. اهـ.
وعليه؛ فجملة الذنوب والمعاصي تدخل في عموم الإيذاء المحرم لله ورسوله، وإن كان هذا الإيذاء جنس يدخل تحته أنواع كثيرة، بعضها أقبح من بعض.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 صفر 1430(9/4091)
ليس كل قتل أو موت جماعي يعتبر دليلا على غضب الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد استشهادا من القرآن الكريم والسنة أنه إذا اشتد غضب الله سبحانه وتعال على قوم يأمر بموتهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخبرنا الله في كتابه العزيز بسنة من سننه الماضية فقال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( {الإسراء:17،16}
أي أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا وخالفوا أمر الله وخرجوا عن طاعته، فوجب عليهم بمعصيتهم وفسوقهم، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله، من الهلاك بعد الإعذار والإنذار بالرسل والحجج، فخرّبناها عند ذلك تخريبا، وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا. كما قاله الطبري في تفسيره.
وقال تعالى أيضا: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {الأنعام: 6} وقال سبحانه: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا {الكهف: 59} .
وقد حكم القرآن بهذه السنة حكما عاما فقال تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا {الإسراء: 58}
قال السعدي: أي: ما من قرية من القرى المكذبة للرسل إلا لا بد أن يصيبهم هلاك قبل يوم القيامة أو عذاب شديد، كتاب كتبه الله وقضاء أبرمه، لا بد من وقوعه. انتهى.
وفي القرآن أمثلة كثيرة لهذه السنة الإلهية، سواء للأمم المكذبة للرسل أو من صدقهم ثم عصاهم وخالف أمرهم.
فمن النوع الأول قوم نوح وعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم فرعون، قال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ*وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ*وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ*فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {العنكبوت:40،39،38،37،36} .
وقال عز وجل: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ*كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ {الأنفال:54،53،52،51} .
ومن النوع الثاني ما حدث لبني إسرائيل، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {البقرة:55،54}
ولا يعني هذا أن كل قتل أو موت جماعي يكون بالضرورة عقوبة ودليلا على غضب الله تعالى على القتلى أو الموتى، ومثال ذلك ما كان في زمان الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي سنة 18 هـ التي تعرف بعام الرمادة حدث جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعا شديدا حتى كادوا يهلكون، واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر. وفي هذه السنة نفسها نزل بالمسلمين طاعون عمواس، فمات فيه خمسة وعشرون ألفا. وقيل: ثلاثون ألفا. منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنهم.
فليس هذا الموت الذريع بهذا الطاعون علامة غضب، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعون شهادة لكل مسلم. رواه البخاري ومسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد يكون فيه ويمكث فيه لا يخرج من البلد صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد. رواه البخاري.
فينبغي أن ينظر في حال الموتى فإن كانوا مؤمنين مستقيمين على طاعة الله، قلنا: فضل من الله ورفعة في الدرجات وتعجيل إلى الجنة، كمن قتلوا في قصة أصحاب الأخدود.
وإن كانوا مؤمنين مخلطين عندهم معاص ظاهرة وذنوب فاشية، قلنا: رحمة من الله وطهرة وكفارة وتمحيص ولعلهم يرجعون بالتوبة والإنابة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن السيف محاء للخطايا. قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني وابن حبان في صحيحه والبيهقي اهـ. وحسنه الألباني. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل. رواه أبو داود وأحمد. وصححه الألباني. قال العظيم آبادي: (عَذَابهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَن) : أَيْ الْحُرُوب الْوَاقِعَة بَيْنهمْ (وَالزَّلَازِل) أَيْ الشَّدَائِد وَالْأَهْوَال. انتهى.
وإما إن كانوا كافرين فنقول كما قال الله: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ {الرعد: 34}
وقال سبحانه: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ*حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ {المؤمنون:77،76،75}
وقال عز وجل: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ*فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {الزمر:26،25} .
هنا، وننبه إلى أن الله تعالى قد يمهل الظالمين ويستدرجهم ويملي لهم حتى يأخذهم سبحانه أخذ عزيز مقتدر، كما أخبر الله بذلك في أكثر من موضع في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 صفر 1430(9/4092)
الصبر على البلاء يجلب محبة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك حديث يقول: إن الله يحب عبده الفشّار بمعنى أن الله يحب العبد الذي يكون في بلاء شديد ولكن يقول للناس الحمد لله أنا بخير؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم نعثر على حديث بهذا اللفظ في جميع ما أتيح لنا الوقوف عليه من كتب السنة، مع العلم أنه ليس من شك في أن الصبر على البلاء والشدة والرضى بقدر الله وقضائه من أسباب محبة الله تعالى لعباده.
كما قال سبحانه وتعالى: وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {آل عمران:146} .
وقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10} .
وفي حمد الله تعالى وشكره والثناء عليه على كل حال أجر عظيم وخير كثير عند الله، لكن الكبائر أن يحدث المرء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يقله. وفي الأحاديث الصحيحة والآيات والقرانية ما يغني ويكفي.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 صفر 1430(9/4093)
النصيحة لمن ينام عن الفجر ويؤخر الصلاة عن وقتها
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما كنت في بلادي كنت أستيقظ لصلاة الفجر وأحارب الشيطان فيها والآن بعدما تغربت في بلاد أخرى أهملتها، فأحيانا أنام قبل الأذان بساعة كما أنني عندما أكون خارج المنزل ويحين وقت الصلوات لا أصليها في وقتها، علما بأني في بلد إسلامي فانصحوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنصيحتنا لك هي أن تتقي الله تبارك وتعالى وأن تعلم أنه مطلع عليك محيط بك رقيب على ما تفعله، وأن تستحضر أنك موقوف بين يديه غداً للسؤال، وأنك محاسب على القليل والكثير والكبير والصغير والفتيل والنقير والقطمير، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.. إن مشكلتك أيها الأخ الفاضل ليست مشكلة نقص في العلم حتى نبين لك الأدلة على قبح وشناعة ما تفعله، فالظاهر أنك تعلم خطر ما أنت مقيم عليه من التهاون في أمر الجماعة والتقصير في صلاة الفجر الذي هو من علامات المنافقين.
إن مشكلتك كما هي مشكلة الكثيرين من المسلمين أيها الأخ الفاضل هي ضعف وازع المراقبة في القلب وعدم الاستحضار التام لصفات الرب سبحانه وتعالى، وعلاج ذلك هو أن تديم التفكر في أسمائه تعالى وصفاته وثوابه وعقابه وما أعده لأهل طاعته وأهل معصيته، ونريدك أن تسأل نفسك سؤالاً: ماذا لو دهمني الموت في هذه اللحظة وبأي وجه ألقى الله تعالى، وكيف يكون حالي إذا افتضحت على رؤوس الخلائق حين تنصب الموازين وتتطاير الصحف ويمتاز الناس إلى متقين وأبرار وفجار وأهل يمين وأهل يسار، فأكثر يا أخي من ذكر الموت وما بعده فإنه يلين القلب ويرققه، واصحب الصالحين وابحث عنهم في أي مكان نزلت فيه فإن صحبتهم مجلبة للخير مدفعة للشر، وأدم التضرع والدعاء بأن يقيمك الله على الحق ويثبتك عليه، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وحذار حذار أن يراك الله حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.. ونسأل الله أن يهدينا وإياك سواء السبيل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 صفر 1430(9/4094)
أساءت الظن بالخادمة فكيف تتوب
[السُّؤَالُ]
ـ[لدينا امرأة تعمل في البيت، وفقدنا بعض الأشياء، وأسأت الظن أنها قد سرقت تلك الأشياء، وبعد فترة وجدنا تلك الأشياء، ماذا أفعل كي أكفر عن اتهامي لها مع العلم أننا لم نخبرها أننا اتهمناها، ولقد رأيتها في المنام وهي تحاول سرقة جهاز من المنزل وتم كشفها وتغير وجهها، وأرادت أن تضربني بمفك وأخذت أبكي. أفيدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل في المسلم البراءة من الذنوب والمخالفات حتى يتبين خلاف ذلك، فلا يجوز اتهامه بالسرقة لمجرد الشك أو غلبة الظن، بل لا بد من حصول العلم الذي يرتفع به الشك ويحصل به اليقين؛ وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {الحجرات:12}
قال ابن كثير: يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا. انتهى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا. رواه البخاري ومسلم.
ولذلك، فلا ريب أنك مخطئة في اتهامك لهذا الخادمة من غير بينة، ويجب عليك التوبة والاستغفار، ومن تمام توبتك أن تستسمحي هذه الخادمة وتتحلليها من هذه المظلمة؛ ولا يلزمك أن تصرحي لها بالمظلمة إن كان ستترتب عليه مفسدة أكثر، ولكن تحللي منها من الحقوق عامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه. رواه البخاري.
ولمزيد من الفائدة يمكن مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 78681، 65358، 108324.
وأما بالنسبة لرؤياكِ التي رأيت فقد لا يكون لها معنى أصلا، وقد تكون من أحاديث النفس، وقد يكون تأويلها ما وقع منك من ظلم لها، فيكون فيها حث على استحلالها من هذه المظلمة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 صفر 1430(9/4095)
الفرق بين المجاهرة بالمعصية واستحلالها
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف أحل حراماً أثناء فعل المعصية جهراً، وكيف لا أحلها؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسؤال غير واضح، لكن الظاهر أن السائل يستشكل كون المجاهر بالمعصية ليس بالضرورة مستحلاً لها وهذا صواب، فالفرق بين المجاهرة والاستحلال كالفرق بين اقتراف الكبائر والكفر، فإن المجاهرة كبيرة من الكبائر، وأما استحلال ما هو متفق على حرمته فكفر مخرج من الملة، وكم من مسلم يقترف المعصية ويستره الله ثم يصبح يحدث بها أصحابه، وهو في الوقت نفسه يعتقد حرمتها وحرمة مجاهرته بها، ويتأثم بذلك ولكن تغلب عليه شقوته وتغلبه شهوته ... وقد سبق بيان معنى المجاهرة بالمعصية في الفتوى رقم: 18932، وبيان الفرق بين المعصية والكفر في الفتوى رقم: 57727، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 117165.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 صفر 1430(9/4096)
الترغيب في إزالة الظلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد من فضيلتكم آية قرآنية أو حديثا شريفا يؤدي إلى معنى أن الله سبحانه وتعالى جعل في الأرض رجالا يردون الظلم والمظالم إلى أهلها ليساعدني في عمل معروض إلى المدير حتى يرد الظلم عني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لا نعلم حديثا ينص على هذا الأمر، ولكن يمكن أن تذكر له حديث الصحيحين في نصر المظلوم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما.
واذكر له كذلك ما تيسر من الحث على إعانة المسلم لأخيه، وإذا كان الظلم صادرا من الإدراة نفسها، فاذكر له خطر الظلم ووجوب التوبة منه والتحلل من صاحب المظلمة.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها للاطلاع على بعض الأدلة في ذلك: 76374، 67951، 48241، 47694، 53422.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 صفر 1430(9/4097)
أسباب البلاء وحكمته وضرورة الصبر عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[لي فترة أتعرض لخسائر في تجارتي غير طبيعية أعتقد أنه حسد كما قال لي البعض من أقربائي. ولدي إحساس أيضا أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى. فاللهم لك الحمد ولك الشكر على كل حال. الابتلاء ماهي أسبابه من الله سبحانه وتعالى؟ هل هي تقصير من العبد في علاقته مع ربه أم ما هي أسبابه؟ رجاء أجيبوني لأني في حيرة من أمري؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن للحسد والإصابة بالعين أثرا شديدا، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 16755، 17587 فمن الممكن أن يكون الحسد أو العين سبب المشكلة المذكورة في السؤال.
ثم لابد من العلم أن المصائب قد تكون عقوبة على بعض الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى: 30} .
وقال سبحانه: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا {النساء: 123}
وقال عز وجل: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ {النساء: 79}
فلا شك أن الذنوب من الأسباب المباشرة لنزول المصائب. وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 36842، 51394، 49228.
وعلى أية حال فالأمر سواء إذا حلت المصائب، سواء أكانت بسبب ذنوب العبد، أو كانت بأسباب بشرية كالحسد والعين ونحو ذلك، أو كانت دون هذه الأسباب. فلابد من التوجه إلى الله بالتوبة والدعاء والاستعانة والتوكل، ولابد من الصبر وعدم الجزع والتشكي. ولا مانع من التفكير في أسباب حصول ذلك للاستفادة في المستقبل.
وقد سبق بيان سبل استجلاب قوة الإيمان لمواجهة المصائب في الفتوى رقم: 39151، وبيان الفرق بين الابتلاء والمصيبة في الفتويين: 27585، 57255.
والإنسان لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {البقرة: 216}
وقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {هود: 7}
وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك: 2}
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء: 35}
وعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني.
وقد سبق ذكر بعض البشارات لأهل البلاء والمصائب وبيان الأمور المعينة على تجاوز المصائب في الفتويين: 18103، 5249.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 صفر 1430(9/4098)
هل يؤجر من تسبب في توبة غيره دون أن يدري
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان شخص سببا في التوبة والإقلاع عن معصية دون أن يدري , ف هل له أجر, وما هو أجره؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمما لا إشكال فيه أن الدال على الخير والداعي إليه له مثل أجر فاعله، كما سبق بيانه في الفتويين: 60180، 28202 لأنه باشر السبب وقصد حصول نتيجته، ويبقى النظر في من تسبب في وجود خير ما، كعمل صالح أو توبة عاص، دون قصد منه للنتيجة، غير أنه باشر السبب اتفاقا بغير نية ولا احتساب لأجر معين. ومن أمثلة ذلك أن يعمل رجل عملا صالحا فيراه غيره فيقتدي به، دون نصيحة منه أو حتى دون أن يعلم أنه رآه، فإن الرجل قد يعمل العمل الصالح ويُقتدى به فيه ويترتب عليه أنواع من الخيرات وهو لا يدري، فهذا إن شاء الله يكتب له الأجر؛ لأن ذلك أثر من آثاره، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {يس: 12} .
قال السعدي: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، {وَآثَارَهُمْ} وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر. ولهذا: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وهذا الموضع يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك. اهـ.
ومما يدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء. رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله
فقد كان سبب ذلك أن ناسا من الأعراب جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه، ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فذكر الحديث.
ولا يخفى أن ذلك الرجل الذي ابتدأ الصدقة ونال ثواب من اقتدى به، لم يكن بالضرورة يحتسب أجر الدلالة على الخير.
ومن ذلك قول ابن حجر في حق السيدة خديجة رضي الله عنها: وَمِمَّا اِخْتَصَّتْ بِهِ سَبْقهَا نِسَاء هَذِهِ الْأُمَّة إِلَى الْإِيمَان, فَسَنَّتْ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ آمَنَتْ بَعْدهَا, فَيَكُون لَهَا مِثْل أَجْرهنَّ, لِمَا ثَبَتَ أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسَنَة، وَقَدْ شَارَكَهَا فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَال, وَلَا يُعْرَف قَدْر مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الثَّوَاب بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. اهـ.
ويظهر هذا أيضا بالقياس العكسي، فكما أن من تسبب في الحرام وقع عليه شيء من وزره، فكذلك من تسبب في الطاعات والحسنات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا. رواه مسلم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 صفر 1430(9/4099)
اصبر على ما أصابك في سبيل توبتك
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي مشكلة متعددة الأطراف فلدي ذنوب عديدة دون القتل، والحمد لله، وكنت أحسب نفسي مؤمنا ولكنه يرتكب ذنوبا مثل باقي الناس، ولكني وجدت أني أخون الأمانة وصفات كثيرة من النظر للمحرمات والاقتراب منها والتحرش حتى وقعت في مشكلة من هذا النوع، وافتضح أمري كأن الشيطان كان يتربص بي ولا أعلم أو أعلم ولكني نسيت ذلك. المهم أنني تركت معظم الذنوب بفضل الله عز وجل وحججت واعتمرت، وأسأل الله أن يتقبل توبتي، ولكن مشكلتي تكمن في أنني مازلت مدمن رؤية صور محرمة، وكلما فعلت رجعت وندمت ولكن الندم والذنب مستمران معي!! والثانية أنني مازلت أشعر بغصة شديدة في نفسي كلما تذكرت ذنوبي -وتقريبا لا أنساها--وأندم عليها، والثالثة أنني بفضل الله تزوجت وأخشي أن يعاقبني الله على ذنوبي في أسرتي وثالثا أشعر بأنني غير موفق في حياتي. فهل الأعمال الصالحة مثل الصوم والصلاة والتبرع والحج والعمرة التي قمت بها أطمئن أنها كفرت ذنوبي وأبدأ صفحة جديدة مع الله--وأظنك ستقول لي هذا--ولكن الشيطان أو نفسي دائما ما تقول لي ذنوبك كبيرة ولن يغفر لك ولو حججت وفعلت كذا وكذا، وتقول لي الناس يعرفونك على حقيقتك ولن ينسوا ماضيك أبدا، وهذا الشيء يؤرقني جدا، الناس من حولي والله من فوقي حتى أن الناس لا يردون علي السلام في الطرقات. فهل هذه الطريقة المثلى لمعاملة التائبين؟ ألا يعينون الشيطان علي بمخاصمتي ومقاطعتي خصوصا وأني لست مصرا على الذنب؟ أسأل الله أن يعينك على إجابة هذا السؤال الذي أرد عليه بعقلي وقلبي يرفضه ويمزقني. وجزاك الله كل الخير واعلم أنه من فرج كربة --مثل كربتي--فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة وهي عظيمة، فلا تتوانى في توجيهي وسأعمل إن شاء الله بما تقول وأجري على الله وإن ظلمني من حولي والحمد لله رب العالمين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم أن يتوب عليك، وأن يعينك على الاستقامة، واعلم أخي السائل أن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، فدع عنك رأي الناس فيك، وهجرانهم وسوء معاملتهم لك، وأقبل على ربك إقبالا حسنا يتقبلك قبولا حسنا، فإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، واصبر على ما أصابك في سبيل توبتك ورجوعك إلى الله، فلا بد أن تمتحن ليرى الله صدقك في التوبة وعزيمتك على الثبات والاجتهاد في طاعته، وليكن تذكرك لذنوبك وخطاياك داعيا لك إلى إتباع السيئات بالحسنات والازدياد من الطاعات، وإياك أن يكون ذلك مدخلا للشيطان ليوقعك في اليأس من رحمة الله تعالى، فقد قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ {الزمر:53-55} فالتوبة والإنابة إلى الله واتباع شرعه والاستقامة على أمره، والصبر والثبات على ذلك وعدم التقهقر، هي الحل لما تعانيه. ولتجمع ـ أخي الكريم ـ بين الخوف من ذنوبك والرجاء في رحمة الله، كما بينا في الفتوى رقم: 25072.
وقد سبق لنا بيان شرط التوبة والحض عليها وما يتعلق بكلام السائل الكريم، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10747، 17160، 56129، 3184، 5450.
كما سبق أن بينا ما يتعلق بالنظر للصور المحرمة ومحاذيره وعواقبه، في كثير من الفتاوى، ومنها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 65677، 1256، 2862.
وقد يكون ما تشتكيه من الشعور بعدم التوفيق في حياتك أثرا من آثار هذه المعصية أو غيرها من المعاصي، فإن اقتراف الفواحش تضيق على المرء معيشته، كما سبق بيانه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4188، 101296، 63843.
وأما بالنسبة لخوفك من العقوبة على سالف ذنوبك في أسرتك، فهذا إنما يمحى بالتوبة الصادقة، فمن تاب تاب الله عليه، فلا يلزم من وقوع شخص في فاحشة أن يقع أهله في مثلها، فقد قال تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {الأنعام:164} . وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 62381، 62381، 63847.
وأما بالنسبة لسوء معاملة الناس لك وتذكرهم لماضيك فهذا مما يخالفون به أمر الشرع، فقد قال الله تعالى في حق التائب من الكفر: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {التوبة:11} فما بالك بالتائب من الذنوب والمعاصي!!
ثم إن جواز هجر أهل المعاصي الذين لم يتوبوا ليس على إطلاقه، بل له ضوابط لا بد من مراعاتها، كما سبق أن بينا في الفتاوى: 106008، 31974، 58252، 14139.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 صفر 1430(9/4100)
عصى الله تعالى ويريد العودة إلى عهد الطاعة
[السُّؤَالُ]
ـ[من كان قد عصى الله بدون نية أو إصرار لمدة أسبوع تقريبا، وأراد أن يتوب إلى الله من كل ما اقترف من كبائر وصغائر؛ لأنه كان متضايقا من الدراسة أو لم يقلها لأحد أو استصعب عليه أن يواجه الواقع أو غلبت عليه نفسه من وساوس الشياطين، أو اعترف بذنبه لأنه كان مسؤولا عن ما فعل ما دام أنه اقترفها في مدة قصيرة وأراد أن يتخلص منها بسرعة، أو بالأحرى أراد أن يعود إلى ما كان عليه من ذكر ربه وتطبيق أوامره على سنة الله ورسوله من إيمان متين ونية صالحة وعبادة آمنة ومعاملة حسنة وعمل متقن ... فسؤالي هو ماذا يجب فعله للخروج من هذا المأزق؟ أرجوك توجيه إجابتك للمراهقين والمسلمين أجمعين ... كما أنني أريد أن أتقي الله وأتوب إليه إن شاء الله تعالى من رحمته أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ويحصننا ويوحد كلمتنا وينصر أهلنا في غزة.اللهم صل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعبد مكلف بالاستقامة على طاعة الله والبعد عن الذنوب، ومكلف كذلك بالتوبة والإنابة إلى ربه لاسيما إذا حصل منه تقصير أو اقتراف للمعاصي، فقد ذكر الله من صفات المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، وأنهم إذا وقعوا في الذنب تابوا واستغفروا، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135} ، وقد وعد سبحانه وتعالى بالرحمة والغفران من تاب واستغفر بعد الذنب، فقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {الأنعام:54} ، وقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} .
فباب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
فعليك ـ أخي الكريم ـ أن تنشغل بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا، مع رد المظالم إلى أهلها إن كان هناك مظالم.
وعليك أخي الكريم أن تقوي إيمانك ورغبتك في الاستقامة بكثرة المطالعة في كتب الترغيب والترهيب والرقائق، وتدبر القرآن وتتفكر من خلاله في أمور الآخرة ومصير الطائعين والعصاة، وما فيه من الحديث عن مراقبة الله وجبروته وانتقامه ممن عصاه، وعليك بالصحبة الصالحة التي تعينك على الثبات والاستقامة، فالمرء على دين خليله كما في الحديث، وعليك أن تستعين بالدعاء في الصلاة وأوقات الاستجابة.
وقد سبق بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، وذكر نصائح لاجتناب المعاصي، وبيان شروط التوبة ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 93700، 5450، 75958، 29785.
وراجع في موضوع المراهقة وما يناسبها من توجيهات: الفتاوى ذات الأرقام التالية: 16541، 67272، 114548.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعز الإسلام وينصر المسلمين ويصلح حالهم أجمعين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 صفر 1430(9/4101)
قبول التوبة عند توفر الشروط اللازمة
[السُّؤَالُ]
ـ[إني أعيش في بلد سياحي، ولدي العديد من الأصدقاء يشتغلون في النزل، وتزوجوا من أجنبيات وهاجروا معهن. فأحدهم اشتغل منقذا في مسبح، والأخر منشطا سياحيا، وأظن أن كلتا الحالتين حرام. وإني أسأل في كلتا الحالتين إن أسلموا وحسن إسلامهم فهل تقبل توبتهم وأعمالهم عند الله تعالى أم أنهم نظرا لأنهم انتقلوا من مكان إلى آخر عن طريق المعصية فلا تقبل حسناتهم؟ إن كان الجواب نعم تقبل. فما هي شروط التوبة هنا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم لا يجوز له العمل في أماكن السياحة والمسابح والفنادق التي تقع فيها المخالفات الشرعية؛ إذا كان في عمله عون للعصاة على المعاصي ودعوة إلى الحرام وقد قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَان {المائدة:2} .
وأما عن توبة من تاب من هذه الآثام أو غيرها من المعاصي فلا شك أن الله تعالى يقبل توبته ويعفو عن سيئاته ويقبل حسناته؛ كما قال سبحانه وتعالى- وهو أصدق القائلين-: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى:25} . وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
فالتوبة مقبولة من جميع الذنوب إذا توفرت شروطها ما لم يغرغر صاحبها (تظهر عليه علامات الموت) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إ ن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. رواه أحمد وغيره.
وشروط التوبة هي الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، وعقد العزم الجازم على ألا يعود إليه فيما بقي من عمره.
وللمزيد من الفائدة نرجو أن تطلع على الفتويين: 5668، 26255.
ولذلك فإن عليك أن تدعو أصدقاءك إلى المبادرة بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى قبل فوات الأوان، ولك في ذلك الخير الكثير والثواب الجزيل عند الله تعالى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 صفر 1430(9/4102)
الالتزام بالدين سبب لحصول العافية والبركة في الرزق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أنه لا يجتمع الدين والعافية والمال في مؤمن؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الكلام ليس صحيحا فالدين سبب لتحقيق العافية وكسب المال وحصول البركة في الأرزاق وتحقيق فلاح الدنيا والآخرة.
فقد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {المؤمنون:1} .
وقال تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {البقرة:189} .
وقال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ {الروم:47} .
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {النور:55} .
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {الأعراف:96} .
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ {الحج:38} .
وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97} .
وقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. {آل عمران:120} .
وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على طلب اليقين والعافية فقال: سلوا الله اليقين والمعافاة فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة. رواه أحمد وصححه الألباني.
فدل هذا على إمكان اجتماعهما وذكر في حديث آخر ما يفيد إمكان اجتماع الدين والمال فقال: نعم المال الصالح للرجل الصالح رواه أحمد وصححه الأرناؤؤط والألباني.
وقال: إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل. رواه الترمذي وصححه الألباني.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 32949، 76268، 48719، 67992.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 صفر 1430(9/4103)
الخوف من الرياء متى يكون صحيا لا مرضيا
[السُّؤَالُ]
ـ[إنني حفظت القرآن كاملاً بفضل الله، ولكني دائماً أبكي وأشعر أنني حفظته رياء، وأقول لنفسي إنني ممن تسعر بهم النيران. فهل هذه الوسوسة من الشيطان؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي منّ عليك بحفظ كتابه، ونسأله تعالى أن يوفقك إلى مزيد من الخير.. ثم اعلمي أن بكاءك وخوفك من الرياء علامة خير إن شاء الله، وقد كان هذا حال السلف رحمهم الله، فقد كانوا يجتهدون في أعمال البر وهم يخشون أن ترد عليهم وتحبط وهم لا يشعرون، والآثار عنهم في هذا الباب كثيرة، وفي البخاري عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق، وما منهم أحد يزعم أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.
فإذا كان هذا حال الصحابة فنحن أولى بذلك منهم بلا شك، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو يخاف أن لا يتقبل منه. أخرجه الترمذي وابن ماجه.
ولكن ينبغي أن يكون هذا الخوف من الرياء ورد العمل وحبوطه خوفا صحياً إيجابياً لا مرضياً سلبياً، وذلك بأن يقود إلى المزيد من العمل والاجتهاد في فعل الخير مع مراقبة القلب وتعاهده، وإخراج بذور الشر منه، والتفطن لحيل الشيطان ودسائسه التي يكيد بها العبد. وهذا هو خوف السلف، وأما الخوف الذي يحطم ويهدم ويقعد عن الطاعة ويحمل على اليأس والقنوط فهو المذموم المرذول. فخوف العبد من حبوط عمله لا يكون نافعاً إلا إذا كان ممزوجاً بحسن الظن بالله مصحوباً بالرجاء ... في فضله وسعة رحمته من غير إفراط يصل به إلى الحد الممنوع شرعاً.. وزبدة القول ما لخصه العلامة ابن القيم في مدارج السالكين في عبارة رائقة حقيق للقراء الكرام أن يلتفتوا إليها ويعيروها الاهتمام اللائق بها، ونحن نختم بها هذه الفتوى رجاء أن ينفع الله بها، قال رحمه الله: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضه لكل صائد كاسر. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 صفر 1430(9/4104)
هل يؤم الناس من كان مسرفا في المعصية ثم تاب
[السُّؤَالُ]
ـ[بالله عليكم ساعدوني - كنت شاذا جنسيا وبفضل الله تبت توبة نصوحة إن شاء لله وهذا من فضل ربي علي، وأنا الآن مواظب على الصلاة في المسجد، وحياتي تغيرت إلى الأحسن بفضل الله عز وجل؛ لأنه هو الذي أراد لي هذه التوبة قبل الممات. المهم بدأت أقرأ عن الدين الحنيف، وأنصح الناس للصلاة وتعمقت في الإسلام لدرجة عرفت أشياء لم أكن أعرفها عندما كنت جاهلا بهذا الدين الحنيف؛ لأن جهلي كان سببا في استمرار الشذوذ لسنوات طويلة، وبدأت أستمع للمحاضرات الدينية لبعض الدعاة لدرجة أني حفظت بعضا منها. (سؤالي) هل باعتباري أني أصبحت من رواد المسجد، هل من حقي أن أصلي بالناس عندما لا يكون الإمام موجودا باعتباري استقمت وأحفظ بعضا من القرآن الكريم؟ وهل من حقي أن أستغل ما تعلمته في طريق استقامتي لكي أبين للناس أني لم أكن شاذا حفاظا على نفسي، وكي أستمر على طريق التوبة النصوح؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا نهنئك بما وفقك الله تعالى إليه من التوبة، واعلم أن التوبة النصوح تمحو الذنوب، وتهدم ما كان قبلها، وكما في الحديث: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجة.
وما عليك إلا الثبات على هذه التوبة، وينبغي لك الإكثار من الأعمال الصالحة، ومن ذلك الدعوة إلى الله عز وجل فإنها من أفضل الأعمال قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {فصلت:33} .
وعليك أن تخلص نيتك في دعوتك للناس وتعليمهم، وليكن همك رضا الله عز وجل، فإن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه وابتغي به رضاه، وتذكر دوما قول النبي صلى الله عليه وسلم: من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس. رواه الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها.
أما عن الصلاة بالناس فلا حرج في ذلك. وراجع الفتوى رقم: 24711.
كما أن عليك أن تستر نفسك ولا تذكر لأحد ما سلف منك من الذنوب، وفقنا الله وإياك لكل خير.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 صفر 1430(9/4105)
آثار المعاصي على القلوب والعقول والأبدان والأرزاق.
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا متزوجة وزوجي لا يداوم على الصلاة، يشاهد الأفلام الجنسية والنساء العاريات، وهذا يجرح مشاعري، ويهز ثقتي بنفسي، وحاولت معه بكل الطرق بالدين والاهتمام به، وبالغضب منه والخصام والدعاء له، ودائما يقول لي أنت غيرتك زيادة، وأنه عادي أتفرج وأن كل الرجال مثل هذا، وأنا أموت لما أراه يتطلع إلى غيري، وكارها وجودي بجانبه أتمنى أن أكون طالعة أو مسافرة، وشرحت له مشاعري كثيرا، لكن بدون فائدة. وأنا أقوم بكل ما على الزوجة وأكثر من اهتمام وتجمل ولم أقصر معه في شيء، ولكنه مصر على ذلك أنا يائسة الآن وأشعر بالتعاسة؟ هل يعتبر ممارسة العادة السرية عند مشاهدة الإباحية زنا وخيانة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق الحديث عن كيفية العلاقة بين المرأة وزوجها التارك للصلاة في الفتوى رقم: 1061 , وسبق الحديث عن موقف الزوجة من زوجها الذي يشاهد الأفلام الخليعة في الفتوى رقم: 8946.
والواجب عليك أن تقومي بواجب النصح لزوجك وأن تذكريه بحرمة ما يفعله, وتذكريه بخطورة المعاصي وأثرها في فساد الدنيا والآخرة, وننصحك أن تدفعي له كتاب الجواب الكافي لابن القيم , فقد أفاد وأجاد في بيان خطورة المعاصي وآثارها السيئة على القلوب والعقول والأبدان والأرزاق.
أما بخصوص العادة السرية فهي محرمة، ويزداد إثمها في حق المتزوج القادر على إعفاف نفسه بالحلال, فالمتزوج الذي يلجأ للعادة السرية ويرغب عن إتيان زوجته, إنسان مريض النفس فاسد الفطرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله, وقد سبق لنا بيان حكم العادة السرية بالتفصيل في الفتويين رقم: 100279، 101801، ولكن مع حرمتها فلا يعتبر فعلها من الزنا الموجب للحد.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 صفر 1430(9/4106)
أثر القلب في صلاح الجوارح وفسادها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما علاقة القلب بالصلاح والإفساد؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد دلت نصوص الشريعة على أمرين متلازمين، الأول: أن صلاح القلب أو فساده هو أصل صلاح بقية الجوارح أو فسادها. والثاني: أن القلب يتأثر باستقامة الجوارح واعوجاجها.
ومما يدل على الأمر الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. متفق عليه.
ولذلك علق القرآن النجاة في الآخرة على سلامة القلب، فقال تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {الشعراء: 88ـ 89} .
ويدل على الثاني قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {الصف: 5} .
وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {الأنفال: 24} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب. رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمرين في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. رواه مسلم. فالقلوب هي الباطن والأعمال للجوارح.
وقال ابن القيم: تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى وكلما ازداد منها ازداد هدى، وأعمال الفجور بالضد.
وقد فصل رحمه الله في ذلك، وكذلك فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة أمراض القلوب ص 39.
ولمزيد الفائدة في هذا الموضوع يمكن مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2846، 99797، 97227، 30478.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 صفر 1430(9/4107)
وعود الله الكريمة للمؤمنين تتحقق بطريقة تتفق مع الحكمة من الخلق
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤال أبحث عن جواب له منذ مدة ليست باليسيرة، وكلي أمل أن يسهل الله لي من يزودني برد ولا أقول إجابة، إذ أن العلم واسع، كيف أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن للمؤمن العامل الحياة الطيبة، وأن الله يدافع عن المؤمنين، وغير ذلك من مشابهات، كيف ذلك وبعض من أجلاء الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- عذبوا تعذيبا مرعبا!. كيف نجمع بين الموضوعين، ثم هل إن لزام الإرتقاء إيمانيا و"إحسانيا"، مرادف للمشقة والتنكيل، بكلام آخر، كيف نفهم أن الله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين -سبحانه- وأن الله يقدر للصالحين أو ربما الأصلحين أن يعذبوا، أضف لذلك ما نسمعه هذه الأيام من أمور يكاد يشيب لها الرضع، ختاما كيف لي أن أجاهد -وأنا في بلد محتل- ولا أخاف التنكيل والتعذيب!، فهل هو نقص في العلم والإيمان ما يدفعني لتلكم الأسئلة!. ردوا علي رداً علميا مفصلا محيطا شاملا، بارك الله في وقتكم وجهودكم، حتى يشفى غليلي ويكون لكم الأجر العظيم من الله بإذنه؟ جزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأصل الإشكال عند السائل في مفهوم السعادة والحياة الطيبة وحقيقة ذلك، فأكثر الناس يخطئون فيزنون ذلك بنعيم البدن وراحته وكثرة العرض ووفرته، والصواب أن آلة ذوق السعادة وطيب الحياة إنما هي القلب، وأن الغنى الحقيقي إنما هو غنى النفس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس. متفق عليه.
فأتعس الناس من شقي قلبه وإن تنعم بدنه بأنواع الشهوات، وأسعد الناس من طابت نفسه واطمأن قلبه وإن حرم بدنه من شهواته، وقد ضرب ابن القيم رحمه الله مثلاً على ذلك بشيخ الإسلام ابن تيمية فقال في الوابل الصيب: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ. وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحانه من أشهد عباده جنته قبل لقائه.. وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. أو نحو هذا. وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. انتهى.
فالحياة الطيبة لا تعني تحصيل نعيم البدن بالطعام والشراب واللذة والراحة، وإنما تعني في الأساس نعيم القلب وطيب النفس وانشراح الصدر، وهذا لا يكون في الدنيا إلا للمؤمن بمحبته لربه وكثرة ذكره واستقامته على شرعه واتباعه لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم في الجواب الكافي: قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. فالجنة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والفرح به والرضا عنه وبه مأوى روحه في هذه الدار، فمن كانت هذه الجنة مأواه ههنا كانت جنة الخلد مأواه يوم المعاد، ومن حرم هذه الجنة فهو لتلك الجنة أشد حرماناً، والأبرار في نعيم وإن اشتد بهم العيش وضاقت بهم الدنيا، والفجار في جحيم وإن اتسعت عليهم الدنيا، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. وطيب الحياة جنة الدنيا، قال تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا. فأي نعيم أطيب من شرح الصدر! وأي عذاب أضيق من ضيق الصدر! وقال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشاً وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدراً وأسرهم قلباً، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة. انتهى.
وكذلك كان حال الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ضيق عليهم وخوفوا مع ذلك كانت قلوبهم مطمئنة، كما قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {الأحزاب:22} . قال السعدي: إلا (إيماناً) في قلوبهم و (تسليماً) في جوارحهم. انتهى.
وهذا إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أحرج المواقف لصاحبه أبي بكر إذ هما في الغار: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا {التوبة:40} ، فوعود الله الكريمة للمؤمنين والتي أشار إليها السائل لا بد أن تحصل وتتحقق، ولكن بطريقة تتفق مع الحكمة من الخلق، التي هي ابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار، فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2} ، وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2-3} ، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179} ، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} ، ومن ذلك ابتلاء الله لخليله إبراهيم عليه السلام بأمره بذبح ولده بعدما بلغ معه السعي، فقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {الصافات:106} ، قال الطبري: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكر فيه أنه بلاء شديد ومحنة عظيمة. انتهى.
وقد ابتلاه الله أيضاً بالإلقاء في النار وبتسليط جبار من الجبابرة على امرأته سارة، وبوضع امرأته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع ولا ماء، وغير ذلك.. ولكن الله نجاه وحفظه وأهل بيته، وأجزل له المثوبة في الدنيا مع ما ينتظره من ثواب الآخرة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:120 ... 123} ، فصار إبراهيم عليه السلام مثلاُ يلزم الاقتداء به، ومثالاً ينبغي القياس عليه، فالجزاء من جنس العمل، فكل من أحسن في عبادة الله كان جزاؤه عند الله الإحسان، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان ُ {الرحمن:60} ، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10} ، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {النجم:31} ، فمن استجاب لأمر الله وصبر على امتحانه واستقام على أمره نال في الدنيا الحياة الطيبة، وفاز في الآخرة بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، كما حصل للصحابة الكرام رضي الله عنهم في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد وما كان فيها من البلاء المبين والقرح الشديد، قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {آل عمران:172-173-174} .
فللبلاء في حق المؤمنين طعم آخر، حتى إن خواصهم ليفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالعطاء، مع ما يدخر لهم في الآخرة من الأجر المضاعف، كما قال أبو سعيد الخدري: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر (قلت) : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء. رواه ابن ماجه. وصححه الحاكم والبوصيري والألباني.
فإذا كان هذا البلاء في ذات الله تعالى ونصرة لدين الله فهو أحب إليهم وأيسر عليهم، كما قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {الأحزاب:22} ، وقال أيضاً: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {آل عمران:146} .
وأما غير المؤمن القوي الموفق فإنه إذا امتحن فقد يخسر دينه ودنياه والعياذ بالله، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {الحج:11} .
وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {العنكبوت:10-11} .
وليعلم السائل الكريم أن كل ما يحدث في الكون إنما هو بقضاء الله وقدره، فليرض العبد وليسلم لحكمة الله التامة وحجته البالغة، فلا شك أن للإيمان بالقضاء والقدر ثمرات جليلة، ومنها: راحة البال وطمأنينة النفس وثبات القلب وزيادة الإيمان بالله والقناعة بما قسم، ومنها: الصبر والثبات عند الشدائد، وترك المعارضة والاعتراض.. وقد سبق ذكر ذلك مع مفهوم القضاء والقدر ومراتبه، وذلك في الفتوى رقم: 67357، كما سبق بيان آثار الإيمان عموماً في حياة المسلم ومنها تحقيق السعادة والطمأنينة، والأمن في الدنيا والآخرة والثبات أمام الفتن، وذلك في الفتوى رقم: 38814.
ثم اعلم أخي الكريم أن الإنسان لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216} ، فعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وحسنه الألباني..
وقد سبق لنا أن بينا أن تحصيل الحياة الطيبة يكون بالإيمان والعمل الصالح وذلك في الفتوى رقم: 48446، وأنه لا تنافي بين البلاء والحياة الطيبة وذلك في الفتوى رقم: 94560 وما أحيل عليه فيها..
كما سبق لنا بيان الحكمة من الابتلاء في الفتوى رقم: 13270، والفتوى رقم: 69389 والفرق بين الابتلاء والمصيبة، في الفتوى رقم: 27585، والفتوى رقم: 57255.
ويحسن هنا أن نورد معاني الآيات التي ذكرها السائل الكريم، فاما قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون َ {يونس:62} ، فقد نص الجلال المحلي على أن ذلك في الآخرة، وهذا مقتضى قول ابن كثير وغيره من أهل العلم، وقال السعدي: {لا خوف عليهم} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال {ولا هم يحزنون) على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال. انتهى.
وقال الشوكاني في تفسيره: المراد بنفي الخوف عنهم أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم، لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب، لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره، فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة. انتهى.
وأما قوله سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97} ، فقال ابن الجوزي في تفسيره: اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال:
* أحدها أنها في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال: أحدها: أنها القناعة، قاله علي وابن عباس في رواية والحسن في رواية ووهب بن منبه.
والثاني: أنها الرزق الحلال، رواه أبو مالك عن ابن عباس، وقال الضحاك: يأكل حلالاً ويلبس حلالاً.
والثالث: أنها السعادة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والرابع: أنها الطاعة قاله عكرمة.
والخامس: أنها رزق يوم بيوم، قاله قتادة.
والسادس: أنها الرزق الطيب والعمل الصالح، قاله إسماعيل بن أبي خالد.
والسابع: أنها حلاوة الطاعة قاله أبو بكر الوراق.
والثامن: العافية والكفاية.
والتاسع: الرضا بالقضاء ذكرهما الماوردي.
* والثاني: أنها في الآخرة قاله الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد وذلك إنما يكون في الجنة.
* والثالث: أنها في القبر رواه أبو غسان عن شريك. انتهى.
وأما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ {الحج:38} ، فقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ. وقال: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. انتهى.
وقال الطبري: إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله. انتهى. وكذا قال البغوي والواحدي والخازن والنسفي والجزائري وغيرهم.
وأما مسألة الجهاد في الأرض المحتلة والخوف من تعذيب وتنكيل الأعداء -كبتهم الله وأذلهم- فهذا أمر جبلي لا يُذم صاحبه شرعاً، ما دام ذلك لم يوقعه في حرام أو يحمله على ترك واجب، وقد قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {البقرة:155} .
وحكى الله عن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ {القصص:33} ، وقد سبق بيان أنواع الخوف وحكم كل نوع وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2649، 38060، 56896.
وهذا الخوف من الناس إنما يضعف ويقل بقوة الإيمان والخوف من الله، وحسن الظن به، وصدق التوكل عليه، وشدة اللجوء إليه، وقد سبق لنا بيان ما يعين على الخوف من الله وعدم خوف غيره في سؤال عن فلسطين المحتلة وذلك في الفتوى رقم: 66109.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 صفر 1430(9/4108)
ترك الاستغفار لمعاودة المعصية
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا امرأة 23 سنة متزوجة منذ 6 أشهر، وأعاني من ألم في الجماع يرجع إلى خوفي من العملية رغم أني أحب زوجي، ولم أكن أمكنه من نفسي، فأكذب عليه وأقول إني أدخلت ذكره في فرجي، ولكن لا أعمل سوى احتكاك بين فخذي لكني تعبت من الكذب، وأحسست عدم ارتياحه، ولجأت إلى الأفلام الجنسية لأتعلم وأخلص نفسي من الحيرة والشك في نفسي، فأنا كالعذراء لمدة 6 أشهر كثير.. وقد مرت مدة طويلة أتفرج على أفلام إباحية مرة كل شهر، وأندم على فعلتي وأعاود الخطأ إلا أني ذات يوم قضيت النهار كله في التفرج على تلك الأفلام لم أكن أحبها، ولكني كنت أود معرفة ما يحدث في العملية الجنسية رغم أني كنت أقرأ عدة مقالات في الموضوع، ولكن لا تقنعني الآن أحس بالذنب وعتاب ضميري وعدم إخلاصي لديني وزوجي ونفسي مع العلم أني متحجبة ومحتشمة جداً، والكل يحترمني إلا أني صرت أحتقر نفسي رغم أن مشاهدتي لتلك الأفلام أتت بنتيجة، وقد فرح زوجي، وأخبرني أنه لأول مرة يحس بنشوة وأني أعجبه، وأنا أيضا استمتعت معه، أريد أن أعرف هل عبادتي من صلاة وصدقة وخير غير مقبولة، وهل يغضب الله علي، وكيف لي أن أستغفر، مع العلم بأني لن أستطيع الاستغفار مرة أخرى خجلا من الله لأني أستغفره مراراً وتكراراً، وأعاود فعلتي، فهل بإمكاني عدم الاستغفار والعزم على عدم معاودة الفعل مرة أخرى حتى أتمكن من التغلب على الأمر؟ وشكراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن معصية الله تعالى لا تؤول إلا إلى شر وبلاء، ومن رحمة الله تعالى أنه ما جعل شفاءنا فيما حرم علينا، ومن حكمته تعالى أنه يجازي الإنسان من جنس عمله، كما قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {النجم:31} ، ولا شك أن من الإساءة ما ذكرته السائلة عن نفسها من مشاهدة مثل هذه الأفلام، فإن هذا لا يجوز بحال.. وعليها أن تقلع عن ذلك، فإن التوبة النصوح لا يكفي فيها مجرد الندم الذي ذكرته، حتى يحصل الإقلاع عن الذنب والعزيمة على عدم العودة، فعلى السائلة أن تبادر بالتوبة النصوح وقد سبق بيان شروطها، وكذلك الكلام على معاودة الذنب بعد التوبة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 29785، 1909، 97790، 60563.
كما سبق بيان حرمة مطالعة القصص والمواقع الإباحية لغرض تعلم أمور المعاشرة الزوجية، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 12653، 18636، 54109.
وقد كان يكفي السائلة حلاً لمشكلتها أن تتعلم الآداب الشرعية المتعلقة بأمور المعاشرة الزوجية، فهي كفيلة بتحقيق رغبة الزوجين إن التزماها، وقد سبق ذكر طرف منها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 3768، 65776.
وأما مسألة حسنات المسيء وطاعاته وهل تضيع عليه؟ فالجواب: أنها لا تضيع.. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها. رواه مسلم. فالطاعات وغيرها من أعمال البر إذا فعلها المؤمن العاصي فإنه يثاب عليها وتقبل منه، ولكنه قبول ناقص لا يرقى إلى الثواب والقبول بالنسبة للمؤمن المستقيم على شرع الله تعالى المتصف بالتقوى، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 51358.
وأما ما ذكرته السائلة من معاودة المعاصي، وهل يحول ذلك بينها وبين معاودة الاستغفار، فالجواب أن المعصية هي المذمومة، وهي التي ينبغي أن تهجر، وأما الاستغفار بعدها فلا يستغنى عنه، وهو من أقرب السبل لعلاج هذا الإشكال، وترك الاستغفار للسبب الذي ذكرته السائلة إنما هو من وسوسة الشيطان وإغوائه.. وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135} ، وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسَّاء، إذا ذُكر ذكر. رواه الطبراني وصححه الألباني. قال المناوي: (مفتنا) أي ممتحنا يمتحنه الله بالبلاء والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيراً (تواباً نسياً إذا ذكر ذكر) أي يتوب ثم ينسى فيعود ثم يتذكر فيتوب هكذا يقال فتنه يفتنه إذا امتحنه. انتهى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عز وجل، قال: أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. رواه البخاري ومسلم واللفظ له. قال النووي في باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة: لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه ولو تاب من الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته. انتهى.
فليس الإشكال في وقوع الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. رواه مسلم. ومما يجب عليك فعله إتباع السيئة بالحسنة حتى تمحوها، كما قال صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وأحمد، وحسنه الألباني. قال ابن تيمية: وأتبع السيئة الحسنة تمحها. فإن الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضراً أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. انتهى.
ومن أقرب الحسنات هنا الإكثار من الاستغفار، فالمصيبة أن يتابع العبد بين السيئات دون توبة واستغفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلوا قلبه، وهو الران الذي ذكر الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . رواه الترمذي وقال حسن صحيح.. وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.. وقال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. رواه الترمذي وصححه الألباني.
فنوصي الأخت السائلة بترك هذه الفعلة السيئة، وأن لا تترك الاستغفار على أية حال، وأن تستعين بالله وأن تستقيم على شرعه، وقد سبق الكلام على الاستقامة والحرص عليها والبعد عن أسباب الذنب في الفتوى رقم: 77724 وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 صفر 1430(9/4109)
التوبة من تعاطي أسباب الزنا ومقدماته
[السُّؤَالُ]
ـ[حضرة الأخ الكريم حفظه الله. لست أدري من أين أبدأ.. سأحاول الاختصار. أنا شخص عمري 39 سنة ومتزوج منذ حوالي 13 سنة ولي ولدان وبنت. مشكلتي أني أحب البنات ومحادثتهن ومجالستهن.. وأحاول دوما التعرف على بنات ولكن كثيرا ما أفشل وأشعر أن الله لا ييسر لي هذه الطريق. كأني أمر بفترة مراهقة حقيقية ومرة للغاية، ولا أذكر أن فترة المراهقة عندي توقفت إلا بضع سنوات ثم عادت بشكل أقوى وأصعب. مع العلم أني أصلي منذ نعومة أظافري ولا أقطع فرضا. ولكن أشعر بأن جنا كافرا أو شيطانا يركبني.. أستطيع إعطاء المحاضرات الدينية والمواعظ وأعرف السبيل للخروج ولكن أمشي به قليلا ثم أرجع.. ويشتد علي الوضع كل فترة.. نمت مع بنات عدة مرات ولكن لم أزن بمعنى لم أدخل ذكري ولكن فعلت أشياء أخرى كثيرة ... فانا أحب عمل ذلك وأثناء عمل الحرام أثناء نومي مع البنت أكون أستغفر الله داخليا وأطلب من الله المسامحة ... أريد حلا لهذا الشيء وهل فعلا أنه عندي جن أو أن أحدا قد عمل عملا لي؟ عندئذ سأقاومه.. مزيد من المعلومات عندما يصلني رد حضرتكم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يتوب عليك، وأن يقيك شر نفسك وشر الشيطان وشركه، واعلم أخي السائل، أن كل شهوة حرام لابد أن يتضرر بها صاحبها، كما قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا {النساء: 123} .
فلابد من جهاد النفس ومجاهدة الشيطان في صبر ومصابرة حتى تستقيم على أمر الله، فإن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، وكم من شهوة عاجلة حرمت الإنسان خير الدنيا والآخرة، وكم من صبر عن المعصية أورثت العبد سعادة الدنيا والآخرة.
ثم إن السائل وإن لم يكن قد وقع في الزنا الموجب للحد، فإنه قد تعاطى أسبابه ومقدماته، كالخلوة واللمس والاستمتاع وكشف ورؤية العورات، وهذه كلها أمور محرمة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه. متفق عليه.
وأما مسألة الاستغفار مع الإقامة بل مع المباشرة للذنب فقد يكون فيه نوع من الاستهزاء يدل على ضعف الإيمان وغلبة الشيطان. وتمني المغفرة أو طلبها مع مقارفة الذنوب والاجتراء على المحرمات والإصرار عليها، قد يكون ضره أقرب من نفعه، لا سيما والسائل على علم بسوء عمله حتى إنه يخبر عن قدرته على الوعظ والمحاضرة، وهذا بلا شك حجة عليه ونفي للعذر عن نفسه.
فبادر أخي الكريم بالتوبة واجتهد في العمل الصالح الذي يمحو عنك أثر هذه القاذورات ويغسل عنك رجسها. وقد سبق لنا بيان كيفية المحافظة على الهداية والاستقامة وبيان أسباب ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1208، 25897، 30035.
ولمزيد الفائدة عن فتنة النساء ووسائل تجنبها يمكنك الاطلاع على الفتاوى ذات الأرقام التالية: 24453، 30158، 113057، 28763.
وأما مسألة الجن والأعمال السحرية فإننا وإن كنا لا نستطيع نفي ذلك أو إثباته، إلا أننا نقطع أن هذا لا يعني أن يترك السائل نفسه للشيطان ويستمرئ المعاصي ويعذر نفسه، بل إن هذا لو صح لكانت أولى خطوات العلاج هي التوبة إلى الله والاستقامة على شرعه، والإكثار من الاستغفار والأعمال الصالحة، والمحافظة على ذكر الله وقراءة القرآن، وحسن الظن بالله وصدق التوكل عليه.
وقد سبقت بعض الفتاوى عن معنى السحر وعلاجه وهي بأرقام: 5252، 5856، 5433.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 صفر 1430(9/4110)
الحل في اللجوء إلى الله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[حياتي مضطربة على ما أشد ما تكون. قاربت على الأربعين وأحس أننى شيخ كبير. عانيت من اعتداءات وأنا صغير (كثيرة) . امتنعت عن أي ممارسة منذ ما يقرب من عشرين عاما أو يزيد. التزمت ظاهريا منذ سبعة عشر أو ثمانية عشر عاما أو يزيد، ولكن أحس فى بعض الأحيان أن الإيمان منزوع مني. تزوجت وعندي من الأولاد 3. ظننت أن الزواج الحل السحرى لمشكلتي. كان يؤرقني النظر للرجال بشهوة كثيرا. أذهب الآن إلى طبيب نفسي. ولكن المواقع إياها أدخل عليها بين الفترة والفترة. عندما أبتعد عنها أحس براحة ولكن شهوتي تغلبني فى النهاية. أحس أنني أحترق داخليا. أعلم أن الحل اللجوء إلى الله ولكن قلبي قاس لدرجة.....أرجو النصح.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أخي السائل أنك قد هديت إلى الصواب والسداد وألهمت الهدى والرشاد في قولك " أعلم أن الحل في اللجوء إلى الله" وجوابنا لن يخرج عن هذا بل حولها سندندن بشيء من التفصيل, لنعلمك أخي أن اللجوء إلى الله تعالى ليس محصورا كما يظن كثير من الناس في الدعاء فقط, كلا فالدعاء صورة من صور اللجوء إلى الله سبحانه وباب من أبوابه, أما اللجوء إلى الله سبحانه بمعناه الشامل الكامل هو القيام بأوامره سبحانه جميعا, وذلك من أسباب استجابة الدعاء. قال سبحانه: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ {الشورى:26} .
قال ابن كثير:" قال السدي: يعني يستجيب لهم. وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب الدعاء لهم [لأنفسهم] ولأصحابهم وإخوانهم" انتهى.
فعليك أخي السائل بالاجتهاد في طاعة الله والقيام بأوامره سبحانه, فإن التفريط في الأوامر يثمر ضمن ثمراته النكدة تسليط المعاصي على العبد بحيث تلازمه فلا يقدر على الفكاك منها, قال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف:36}
وقال سبحانه: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة:14} قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: إ ن ترك الواجب سبب لفعل المحرم قال تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى اخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة. فهذا نص فى أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سببا لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين، وكان هذا دليلا على أن ترك الواجب يكون سببا لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء. انتهى.
فسارع أخي بالبحث عما فاتك من الواجبات والطاعات من أعمال الجوارح، كالصلاة بخشوع، وأداء الزكاة، والصيام بشروطه وآدابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك, وكذا أعمال القلوب من خشية لله وتوكل عليه وأنس به وشوق إليه وحده ورضا بقضائه وغير ذلك, فإنك إن قمت بهذا صرف الله عنك بفضله ورحمته هذا البلاء , ثم نوصيك بكثرة ذكر الله والصلاة فإنهما حرز للمرء أيما حرز من مقارفة الفواحش والمنكرات. قال سبحانه: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر {العنكبوت:45}
جاء في تفسير البغوي: وقال عطاء في قوله: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر. قال: ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. انتهى.
وجاء في الحديث أن يحيى بن زكريا قال لبني اسرائيل: وآمركم بذكر الله كثيرا، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 179، 2879، 6872، 7413، 7123، 7549، 8254، 21233.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 صفر 1430(9/4111)
علاج الفتور في طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد كنت طالب علم ولازلت أحاول أن أكون، ولكن لقد انتكست انتكاسة شديدة. فأرجو إفادتي رحمكم الله.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم توضح لنا أيها السائل ما هو نوع الانتكاسة التي أصبت بها – عفا الله عنا وعنك – هل هي إيمانية أم في طلب العلم، نعني ما قد يعتري طلاب العلم من فتور في الهمة وضعف في العزيمة وانصراف عن الطلب، فإن كانت الأولى فإنا نحيلك على الفتويين رقم: 10800، 17666، ففيهما أسباب ظاهرة ضعف الإيمان وكيفية النهوض منها والعلاج.
أما إن كنت تقصد أن ما أصابك هو نوع من الفتور عن طلب العلم، فإنا حينئذ نوصيك بمطالعة فضل العلم والعلماء، وما أروع ما كتبه ابن القيم رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة" لعل هذا أن يكون محفزا لك على مواصلة الطلب والصبر على مشقاته.
وننبه على أنه يجب على المسلم عموما سواء كان من طلاب العلم أو غيرهم أن يستقيم على أمر الله، وأن يداوم على ذلك مدة حياته حتى يوافيه أجله وهو قائم بأمر ربه، وأعظم الأسباب التي تعين على الثبات على الهدى والحق القيام بأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قال سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ {إبراهيم: 27} ، قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح. انتهى.
وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {النساء: 66 – 68}
يقول السعدي رحمه الله: فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر، وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات. انتهى.
وننصحك في النهاية بالصحبة الصالحة التي تعينك على طاعة الله ومرضاته، فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ {التوبة: 119}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 صفر 1430(9/4112)
الاقتصاص من الظالم والدعاء عليه والعفو عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أعمل في مؤسسة في جدة، ومقيما مع زميل لي في العمل في غرفة واحدة، وبعد فترة تبين لي أن زميلي يؤذيني ويكيد لي ويفتري علي أمام مديري، وذلك من غير علمي، والله يشهد أنني كنت بريئا من كل ما اتهمني به. فما كان من المدير إلا أن طردني من العمل، ووجه لي خروجا نهائيا خارج المملكة. ولكنني عدت بعد سنة بحمد الله إلى مؤسسة ثانية. واكتشفت ان ذلك الشخص ما زال يعمل في مكانه.
السؤال: هل يجوز لي أن أؤذيه بغير علمه، كما عمل بي من قبل؟ وكيف لي أن آخذ بثأري منه؟ مع العلم أنه سبب لي الكثير من المشاكل بعد طردي من العمل؟ أفيدوني.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان هذا الزميل قد فعل ما ذكرت من الافتراء عليك حتى سبب لك الأذى، فهو سيء الخلق ومريض النفس، وقد ارتكب ذنباً عظيماً. قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {الأحزاب:58} .
وظلمه لك لا يجوز أن تقابله بمثله ما دام ما فعله كان معصية، إذ إنما يجوز للإنسان أن يقتص من ظالمه بمثل فعله ما لم يكن معصية، فالمعصية لا تقابل بالمعصية.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:.. فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم: ... وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية. اهـ
ويجوز للمظلوم أن يدعو على الظالم بقدر مظلمته دون تعد، لكن لا شك أن الأفضل هو العفو والصفح، فذلك أنفع في الآخرة، وأحب إلى الله من القصاص، ومما يزيد المسلم عزاً وكرامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا. كما أنه سبيل لنيل عفو الله ومغفرته،
قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {النور:22}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 صفر 1430(9/4113)
طريق الهداية والثبات على الحق
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب في السابعة عشر من عمري وقد هداني الله للإيمان ولكني لا أعرف أمور ديني، وأهلي كلهم لا أحد منهم يصلي وكلما أقول لهم توبوا إلى الله يسخرون مني، أنا أخاف أن أقع بالفتن ولا أحد يهديني للطريق الصحيح، أخبروني ماذا أفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله لك تمام الهداية ودوامها والسداد والثبات، وأن يصرف عنك بفضله كيد الشيطان ووساوسه.
واعلم أيها السائل أن الهداية كالرزق ينالها من يسعى لها ويطلبها بإذن الله تعالى، قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. {العنكبوت: 69} .
فإذا أردت الهداية ودوامها فاسلك سبيلها، واترك ما ينافيها، وجاهد نفسك والشيطان وخالفهما، وستجد الهداية إن شاء الله، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى*فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {الليل:5-7} . ولمعرفة سبل مواجهة الشيطان وكيده راجع لزاماً الفتوى رقم: 12928، ففيها إن شاء الله ما يكفيك في هذا الأمر.
وأما بخصوص أهلك وإيذائهم لك بالسخرية ونحو ذلك, فنوصيك بالصبر عليهم وعلى أذاهم , والدعاء لهم بالهداية والسداد ثم حاول معهم بكل وسيلة أن تأخذهم إلى صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض, وأن تدعوهم إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, واعلم أن من أعظم أسباب استمالة قلوبهم هو أخلاقك الحسنة ولطفك في معاملتهم فهذا له أثر كبير في تأليف القلوب وأسرها, وهكذا كان الصادق الأمين صوات الله وسلامه عليه؛ حتى فتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا, قال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمر {آل عمران: 159} .
واعلم أن من أعظم أسباب الثبات على الهدى والحق هو القيام بأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – قال سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ {إبراهيم: 27} .
قال السعدي - رحمه الله –: يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين، أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها , وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح. اهـ
وقال سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {النساء: 66 – 68} .
يقول السعدي – رحمه الله –: فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر.
وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات. اهـ.
وننصحك في النهاية بالصحبة الصالحة التي تعينك على طاعة الله ومرضاته, فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. {التوبة: 119} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
30 محرم 1430(9/4114)
خيانة الزوجة أو الصديق هل يعد من الابتلاء
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف ما هو الابتلاء، هل عندما يعلم الرجل بخيانة زوجته مثلاً أو أحد من أصدقائه له يعتبر هذا ابتلاء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق بيان تعريف الابتلاء لغة وشرعاً وذلك في الفتوى رقم: 33359.
وقد أوضحنا هنالك أن الله تعالى يبتلي عباده بالخير أو بالشر، ولا شك أنه إذا اكتشف الرجل أن زوجته تخونه، أو أن صديقه يخونه فإن هذا نوع من الابتلاء، ينبغي أن يقابله بالصبر، ففي ذلك رفعة لدرجاته وتكفير لسيئاته.
ولا يجوز للزوج أن يرضى الخبث في أهله، بل يجب عليه العمل على صيانة زوجته، وحملها على ما يمنعها من الوقوع في مثل هذه الخيانة، وأن يلزمها بالستر، ويمنعها من مخالطة الرجال الأجانب أو دخولهم عليها أو دخولها عليهم إلى غير ذلك، فإن لم يفعل كان ديوثاً، فإن الديوث هو من يرضى الخبث في أهله، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 56678، والفتوى رقم: 80563، والفتوى رقم: 48310.
وعليه أيضاً أن ينصح صديقه هذا، ويذكره بالله تعالى إن تبين له فعلاً أنه قد خانه، وينبغي أن يتخذ من الاحتياطات ما يحول بين صديقه وبين وقوعه في خيانته مرة أخرى، وخاصة إن كانت هذه الخيانة تتعلق بالعرض، والتساهل في دخول الأصدقاء على النساء من أكبر ما يدعو إلى الوقوع في الفاحشة وانتهاك الأعراض.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
30 محرم 1430(9/4115)
تشترك مع أقاربها في جهاز يستخدمونه في المنكر فماذا عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أسألك يا شيخنا الفاضل عن مسألة مهمة لي وأرجو الاهتمام ...
سؤالي: أنا لدي مودم جهاز دي سي ال ويشترك معي أقاربي وهن فتيات ويدخلن الدردشة الكتابية وأصبحن يدمنها بشدة وهذا بسببي لكني كنت أقصد لهم التسلية في المنتديات النافعة، وأيضا عند زيارة أخي لي يحمل من الانترنت أفلاما وأغاني، هل علي إثم وأنا أعلم ما يفعلون؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كنت تعلمين أو يغلب على ظنك أن البنات أو الأخ أو غيرهم يستخدمون الخدمة المذكورة فيما حرم الله فإنه يجب عليك منعهم من ذلك لما في تركهم من الإقرار على فعل المنكر والإعانة عليه.
وقد قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2} .
وللأهمية يرجى مراجعة الفتوى رقم: 15432، والفتوى رقم: 39662.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
30 محرم 1430(9/4116)
وجوب اجتناب المعاصي وعدم التعلل بضعف الإرادة
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك أمور يستمر بفعلها الإنسان وعندما نسأله ألا يمكنك تركها فيقول ضعيف الإرادة، السؤال أيهما ذنبه أعظم الإنسان الذي يشرب السيكارة (يدخن) أم الإنسان الذي يشاهد أفلاما جنسية بوحده؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم بإيمانه واستعانته وتوكله على الله ثم بقوة عزيمته وتمسكه بدينه يمكنه أن يستقيم على الخير ويجتنب الشر كله، وحسبنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. رواه مسلم.
قال النووي: المراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة. ومعناه احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة. اهـ.
وقال السعدي في التفسير: فلا يصح أن يقترف المرء ذنبا أو يرتكب معصية أو يتعدى حدا من حدود الله ثم يعلق ذلك بضعف الإرادة ولا يبالي وكأن الأمر هين، أما يخشى هذا أن يكون له نصيب من قول أهل النار: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ، أي غلبت علينا الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق والإقبال على ما يضر، وترك ما ينفع، وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ في عملهم وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون أي فعلنا في الدنيا فعل التائه الضال السفيه كما قالوا في الآية الأخرى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
وقال أيضا: ثم إنه يجب على المسلم أن يتمثل أمر الله القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي في جميع شرائع الدين ولا يتركوا منها شيئا وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه إن وافق الأمر المشروع هواه فعله وإن خالفه تركه بل الواجب أن يكون الهوى تبعا للدين وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير.
ويمتثل أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. متفق عليه.
أما مسألة التدخين ومشاهدة الأفلام الخليعة وأيهما أعظم جرما وأكبر ذنبا فكلاهما مما حرمه الله، أما التدخين فقد سبق بيان أدلة حرمته في الفتويين: 1671، 1819، وبيان كيفية الإقلاع عنه في الفتوى رقم: 30122.
وأما الأفلام المسؤول عنها فلا تخفى حرمتها وأنها من أعظم أسباب الفساد ومن أقوى معاول هدم الأخلاق ونشر الرذيلة وقتل الفضيلة ومن الأسباب المباشرة للوقوع في الفواحش كما سبق بيانه في الفتويين: 3605، 30945.
وأما المقارنة بين حرمة التدخين وحرمة مشاهدة تلك الأفلام فهما أمران أحلاهما مر، وعلى أية حال فإثم هذه الأفلام أشد وأثرها أقبح وخطرها أعظم، ومما يبين ذلك ما سبق أن ذكرناه في الفتوى رقم: 27224، من أن مشاهدتها تعد من الكبائر، وأما التدخين فالأصل فيه أنه من الصغائر والإصرار على ذلك يجعله كبيرة كما ذكرناه في الفتوى رقم: 25998.
ولا يخفى أيضا أن التدخين يتعلق إفساده أصالة بالمال والبدن، وأما تلك الأفلام فإفسادها يباشر القلب ويظلم الصدر، والقلب إن فسد فسد الجسد كله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. متفق عليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 صفر 1430(9/4117)
ثواب المريض ومن يقوم على خدمته
[السُّؤَالُ]
ـ[زوجي يعمل ببنك عادي، واشتراه أحد البنوك الإسلامية، وسوف تتغير المعاملات إلى إسلامية. هل بعد ذلك من حرمانية أم هو حلال؟ وثانيا: زوجي مريض بالصرع، هل صبري عليه فيه جزاء وثواب؟ وهل هو إن شاء الله مأجور على هذا المرض؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العمل في البنوك الربوية لا يجوز لما فيه من مباشرة المعاملات الربوية من إجرائها وتوثيقها والشهادة عليها، وراجعي الفتوى رقم: 59030. وعليه فيجب على زوجك أن يتوب من العمل في ذلك البنك الربوي، وأن يتخلص مما بقي من الأموال التي اكتسبها من العمل فيه، إلا ما لا بد له منه، وذلك بصرفها لجهات البر كما في الفتوى رقم: 32019.
وأما عمله فيه بعد أن يتحول إلى بنك إسلامي لا علاقة له بالربا، فلا حرج فيه؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. وراجعي الفتوى رقم: 102718.
وأما ما سألت عنه من شأن صرع زوجك – نسأل الله أن يشفيه – ومن جزائك على الصبر عليه وثبوت الأجر له هو على المعاناة من هذا المرض؟ فالجواب أن الأجر ثابت لكليكما إن شاء الله، ثابت لك على صبرك وما تتحملين من تمريضه، وثابت له هو أيضا على البلاء الذي ابتلي به، فقد قال صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك إلاّ للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلاّ كفر الله بها من خطاياه. رواه البخاري.
وللأهمية راجعي الفتويين: 1009، 59030.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 محرم 1430(9/4118)
قل إيمانه بعد عمله الجديد ذي الدخل الكبير
[السُّؤَالُ]
ـ[والله تعجز كلماتي عن شكركم على تعاونكم.. أسأل الله عز وجل أن تكون في ميزان حسناتكم..
مشايخي الفضلاء.. في الحقيقة تواجهني مشكلة.. وهي أني الحمد لله رب العالمين كنت ملتزما.. وكنت أصوم الإثنين والخميس والأيام البيض.. ولكني بنفس الوقت كنت أعمل في وظيفة لا تدر لي الدخل المطلوب.. ولكن بفضل الله عز وجل أكرمني الله بوظيفة ذات راتب عال ووظيفة محترمة.. ولكن مشكلتها أن ساعات عملها كثيرة.. وهناك ضغط عمل كبير.. مشكلتي تكمن هنا.. بسبب الضغط الهائل.. خف إيماني بسبب ضغط العمل أصبحت صلاتي من غير خشوع.. خفت صلاتي بالمسجد وذلك بسبب أن طبيعة عملي ميداني.. كنت دائم القراءة للقرآن والآن لا أقرأ.. هل هذا العمل الجديد هو ابتلاء من الله وفشلت في الاختبار، والله إني في حيرة من أمري، فأرشدوني؟ وجزاكم الله كل خير وآسف على الإطالة.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإحساسك بهذا التقصير علامة خير فيك، فنسأل الله أن يجزيك خيراً ويزيدك حرصاً على الخير، وينبغي للمسلم أن يكون متوازناً في حياته فيعرف لربه حقه ويعطي جسده حقه، ويعطي كل ذي حق حقه، ولا يجوز للمسلم أن يلتحق بعمل يؤدي به إلى تفويت واجب من الواجبات، ولا ينبغي له أن يلتحق بعمل يشغله عن الله وعما يزيد به إيمانه من طاعة الرحمن وتلاوة القرآن ونحو ذلك، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 59229، والفتوى رقم: 53711.
وصلاة الجماعة واجبة على الراجح من أقوال العلماء، ولكن أهل العلم قد ذكروا أعذاراً تبيح التخلف عنها ومن ذلك كون الرجل في عمل قد يتضرر هذا العمل إن تركه كالعمل في الحراسة مثلاً، وكذا إن كان هذا العمل يحتاج إليه في معيشته إلى غير ذلك من الأعذار، ويمكنك مراجعة الفتوى رقم: 60743.
ولا شك أنه إذا أمكنك الاستمرار في هذا العمل الثاني وتلافي تلك المحاذير كان هذا أمراً حسناً تجمع به بين مصالح الدين والدنيا معاً، وإذا لم يكن تلافيها وكنت مكفياً بالعمل الأول في نفقتك ونفقة عيالك فنرى أن ترجع إليه فلعل الله تعالى يجعله أكثر خيراً وبركة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 محرم 1430(9/4119)
حكم التواجد في مكان المعصية ليختبر نفسه أيعصي أم لا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من دخل دار فسق-ملهى ليلي- لغرض تحدي شهوته الجنسية ولم يمارس الفاحشة ولم يشرب الخمر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففعله هذا لا يجوز وهو من تسويل الشيطان له حتى يوقعه في المعصية, فإن الله جلت حكمته إذا حرم الشيء حرم أسبابه والذرائع الموصلة إليه والداعية لفعله.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها؛ كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها. انتهى.
فعلم بهذا أن مجرد وجود الشخص في أماكن الفجور معصية لما فيه من تعريض النفس للفتنة وتكثير سواد الفجار العاصين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ووضع النفس في مواضع التهم والريب والشبهات, وقد قال رسول الله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر. رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني.
جاء في فيض القدير: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر وإن لم يشرب معهم لأنه تقرير على المنكر. انتهى.
وقد قال سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {النساء: 140} .
قال القرطبي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ: فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر؛ قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي أن الرضا بالمعصية معصية؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 محرم 1430(9/4120)
الكف عن الذنب وعدم الاستهانة به مهما كان صغيرا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم المصافحة في الشرع وأيهما أعظم ذنب المصافحة أو الونسة مع خطيبتي ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق الكلام عن حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية بالتفصيل والدليل في الفتوى رقم: 1025.
وسبق الكلام عن حدود العلاقة بين الخاطب ومخطوبته في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1151، 32171، 18101.
ومن الفتاوى السابقة يتبين لنا أن العلاقة المفتوحة مع المخطوبة ومصافحة الأجنبية كلاهما غير جائز شرعا وهما ذريعة قوية للمفاسد والشرور.
ومع أن المعاصي تنقسم إلى كبائر وصغائر على الراجح من أقوال أهل العلم إلا أن المسلم لا يجوز له أن يتخير بين القبائح والمعاصي بل عليه أن يترك الجميع فإنه لا يدري فرُبّ صغيرة كان فيها هلاكه وعطبه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكره الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه كرجل كان بأرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل يجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا من ذلك سوادا وأججوا نارا فأنضجوا ما فيها. رواه أحمد وغيره وحسنه الألباني.
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
وكان هلال بن سعد رحمه الله يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
وقال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.
فالواجب عليك أيها السائل هو أن تكف عن جميع المعاصي.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 محرم 1430(9/4121)
التوبة من أذى الجار
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف لي فضيلتكم التكفير عن ذنب اقترفته بحق جاري، وهو أني تحدثت مع زوجته عبر الهاتف بكلام لا يليق بمسلم، وهي بالطبع لا تدري من المتحدث حيث قامت بإغلاق الخط لأنها امرأة صالحة ومستقيمة.
أنا الآن نادم، ولقد تبت واستغفرت، لكني أخشى أن أفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فكيف أرد حق جاري إليه بعد الندم والتوبة والاستغفار.
بارك الله فيكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أذية الجار من الكبائر، وهي دليل على ضعف الإيمان، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 60282، 60224.
وينبغي أيضا أن يكثر من الدعاء والاستغفار لجيرانه، لأنه لا يحسن أن يخبرهم بحقيقة ما فعل، وبالتالي فلن يستطيع استحلالهم من مظلمتهم عنده.
وكذلك ينبغي أن يبدل سيئاته بحسنات، فيجتهد في حفظ حرمة جاره ونفعه ودفع الشر عنه، كما فرط في حقه وتعدى على حرمته. فقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وحسنه الألباني.
قال ابن تيمية: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا مضرا أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات اهـ. مجموع الفتاوى.
ونبشر السائل الكريم - إن هو فعل ذلك، وحقق شروط التوبة النصوح - بقول الله سبحانه: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان: 70} وقوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53} .
ويمكن لمزيد من الفائدة الاطلاع على الفتوى رقم: 70674.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 محرم 1430(9/4122)
توبة من استحل الكبائر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة
[السُّؤَالُ]
ـ[مشكلتي أني أعتقد أني أعرف متى تقوم الساعة، وقد عشت مرحلة من حياتي حللت فيها الزنى ولم أحلل شرب الخمر ... وذلك لأني كنت أتمنى العيش في الخارج والدراسة هناك، وما يستلزم ذلك من خلل في عقيدتي التي أصبحت معدومة أو شبه معدومة ... فقد ضعف إيماني ضعفاً شديداً ... وأريد أن أسترجعه ... وأسترجع قوتي التي فقدتها ... فماذا تنصحوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعلم بوقت قيام الساعة مما اختص الله تعالى علمه، قال عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {الأعراف:187} ، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {لقمان:34} ، وقال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا {الأحزاب:63} ، فالمسلم لا ينبغي أن يشغل نفسه بوقت قيام الساعة، ويتعين عليه تذكر الآخرة، والإعداد لها بالاستقامة على الطاعات والإكثار من الأعمال الصالحة والتوبة والإنابة إلى الله دائماً، ومن ادعى أنه يعلم وقت قيام الساعة فلا شك في كذب دعواه، وقد كذب صريح القرآن، وتكذيب آيات من القرآن مخرج من الملة والعياذ بالله، فيجب عليك المبادرة إلى التوبة من ذلك.
أما تحليل الزنى فمن استحل الكبائر المتفق عليها أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فإنه يكفر، واستحلال الكبائر يكون بمجرد اعتقاد حلها وإن لم يفعلها المستحل لها، قال الإمام ابن قدامة في المغني: من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير والزنى وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر، لما ذكرنا في تارك الصلاة، وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك. انتهى. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 55851.
فننصحك أن تبادر بالتوبة إلى الله تعالى قبل حلول الأجل، وأن تكثر من ذكر الله تعالى وقراءة القرآن والاستغفار والاستعاذة والدعاء، والتفكر في آيات الله الكونية، كما ننصحك بالمواظبة على الطاعات، والحرص على طلب العلم الشرعي ومصاحبة الصالحين، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، نسأل الله عز وجل أن يوفقك للتوبة الصادقة وأن يعفو عنك. وللمزيد من الفائدة يمكنك مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 6342، 10894، 21750، 31314، 33780.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 محرم 1430(9/4123)
جماع أمراض القلب.. ودواؤها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم شخص قتل ضميره الآمر له بالخير والناهي له عن الشر والزاجر له عن الشرك والكفر والداعي له للإيمان والتوحيد وفعل الخير، فأصبح على ورقة ظلماء لا يعرف شيئا، يعمل العمل يجهل حكمه، أو يعمل الأعمال وهو ناس لحكمها، فكيف حكمه؟ هل يحاسب على أعماله أم يعفو الله عنه؟ وكيف يفعل لكي يعيد ضميره الذي مات موتا فعلياً، ونرجو منكم الدعاء له بظهر الغيب بالفرج وعودة الضمير له. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننبهك أولاً إلى أن كلمة الضمير من الألفاظ التي شاع استعمالها في عصرنا في المدح والذم، وترتب على هذا الاستعمال الحادث غياب الكلمات الشرعية التي ينبغي أن تستعمل في مثل هذا، مثل (التقوى - والخشية - والخوف من الله..) لذلك من الخطأ أن تستعمل تلك الكلمة هذا الاستعمال الحادث، وينبغي أن تستبدل بالكلمات الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 28804.
أما بخصوص ما تسأل عنه، فإن العبد مسؤول عن أعماله ما دام مكلفاً، وإنما يعفى عن غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم، أما المكلف فإنه يؤاخذ بأعماله حتى لو كان يعمل العمل ولا يبالي بحرمته، فلا أثر لما تسميه موت الضمير -أو موت القلب كما هو التعبير الصحيح- في رفع التكليف عنه، ثم إن موت القلب يكون بتفريط من العبد، فإن العبد إذا تهاون في الطاعات، وأكثر من المعاصي، وغفل عن ذكر الله تعالى، وأعرض عن العلم الشرعي أدى ذلك إلى موت قلبه، وأيضاً فعلى العبد أن يسعى في إصلاح قلبه، وذلك بالإكثار من الطاعات، وخصوصاً قراءة القرآن وذكر الله تعالى والبعد عن المعاصي والتوبة إلى الله عز وجل وكثرة الاستغفار..
وقد ذكر ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان ما ملخصه: أن القلوب تنقسم إلى صحيح وسقيم وميت، فالقلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له. والقلب الميت القاسي لا يقبله ولا ينقاد له. والقلب المريض إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي، وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.
والقلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضي ربه أم سخط ... فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده، والجهل سائقه والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه.. قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلب على قلبين؛ قلب أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض.
ثم قال: فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته وهو الإيمان وأوراد الطاعات، وإلى حمية عن المؤذي الضار وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع المخالفات، وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له وذلك بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات. انتهى.
وقال أيضاً: جماع أمراض القلب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه ... وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره فيصير القلب محباً للرشد مبغضاً للغي. انتهى.
وإذا أردت معرفة أحوال القلوب وكيفية علاجها بمزيد من التفصيل فعليك مراجعة هذا الكتاب النافع، ونسأل الله عز وجل أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح قلب هذا الرجل المسؤول عن حاله.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 محرم 1430(9/4124)
مسألة المفاضلة بين العبادة في الرخاء والشد
[السُّؤَالُ]
ـ[هل العبادة في الرخاء أفضل منها عند الابتلاء؟ وهل أهل فلسطين يكونون أعلى درجة في الجنة لجهادهم أم ماذا؟ وكيف نعلم أننا نجاهد مثلهم وليس عندنا مثلهم من الابتلاءات؟ أم أن الخير ابتلاء؟ وما التصرف حينّئذ لنيل الرضا، عندما أسمع ابتلاءهم يوميا وتسد نفسي عن العمل وأحبط فماذا أفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره؛ تمييزا بين الخبيث والطيب، والصالح والطالح، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {هود:7} ، وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَل ا ً {الملك:2} وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2-3} ، وقال عز وجل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179} .
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} ، ولذلك جعل نبي الله سليمان -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ما أوتيه من ملك وسلطان ونفاذ للأمر، اختبارا من الله فقال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ {النمل:40} ، قال السعدي في تفسيره: أي ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة. اهـ
فلا يقتصر الامتحان على الضراء فقط، بل قد يكون امتحان السراء أشد من الضراء، كما قال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر. رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني. قال ابن الأثير في النهاية: يريد إنا اختُبِرنا بالفقر والشِّدة والعذاب فصبرنا عليه، فلمَّا جاءتنا السراء وهي الدنيا والسِّعه والراحه بطِرنا ولم نصبر. اهـ
فالمؤمن ممتحن سواء بالضراء أو السراء، وعليه في كل حال فرض لله تعالى، فحاله يدور بين الشكر والصبر، وفي كلٍ خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. رواه مسلم. فمن كان كذلك فهو مأجور محبوب لله على كل حال، حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر. رواه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وصححه الألباني.
قال ابن بطال: هذا من تفضل الله على عباده أن جعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر. وقال الطيبي: ربما توهم متوهم أن ثواب الشكر يقصر عن ثواب الصبر فأزيل توهمه، أو وجه الشبه اشتراكهما في حبس النفس فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم، والشاكر يحبس نفسه على محبته. اهـ من فتح الباري.
وأما مسألة المفاضلة بين العبادة في الرخاء والشدة، فهي فرع لمسألة المفاضلة بين الصبر والشكر، كما أن من فروعها المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، وقد تناول الإمام ابن القيم هذه المسائل باستفاضة وتفصيل لأدلة كل قول في كتاب عدة الصابرين.. ثم قال: التحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله تعالى، فإن فرض استواؤهما في التقوى استويا في الفضل؛ فإن الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى. اهـ
وأما السؤال عن أهل فلسطين ومكانتهم، فلا شك أنهم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، وأن الصابر المحتسب منهم له ـ إن شاء الله - أجر الرباط في سبيل الله، ومن قتل في سبيل الله منهم جهاداً في سبيل الله فحسبه أجر الشهادة، وقد سبق لنا بيان أنهم مرابطون وبيان فضل الرباط، في الفتوى رقم: 70677، والفتوى رقم: 7463، كما سبق أيضا ذكر طرف من فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 32629، 32415، 31791.
ولا يسع المرء إن لم يكن معهم ببدنه، وحيل بينه وبين ذلك، إلا أن يصدق النية، ويعد العدة، ويمدهم ويعينهم بكل ما يستطيع ماديا ومعنويا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا. متفق عليه. قال النووي: معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة، ولكن حصلوه بالجهاد والنية الصالحة، وفي هذا: الحث على نية الخير مطلقاً وأنه يثاب على النية. انتهى. وقد سبق لنا بيان أن المرء ينال ثواب المجاهد والشهيد بالنية، في الفتوى رقم: 21144.
كما سبق لنا بيان واجب المسلمين تجاه إخوانه المضطهدين، في الفتوى رقم: 47694.
فمن بذل ما يستطيع، وأدى هذه الواجبات، وصدق في نيته، فمثل هذا إن شاء الله يكون من الصادقين، ويرجى له أن يكون له مثل أجرهم، وأنه إن تيسر له لكان من المبادرين للدفع عنهم وجهاد عدوهم.
وأما قول السائل الكريم (عندما أسمع ابتلاءهم تسد نفسي عن العمل وأحبط) ، فهذا من عمل الشيطان الذي يريد أن يَحزُن الذين آمنوا، وأن يخوِّف أولياءه، ويكفي المؤمن أن يتدبر الآيات التي نزلت تربي المسلمين بعد غزوة أحد، ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ* هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ* وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ* وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ* وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ* وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ* فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {آل عمران} .
فالعاقل فضلا عن المسلم لا تزيده الشدة إلا صلابة، والمؤمن يثق في موعود الله تعالى بإحدى الحسنيين، وليكن لنا قدوة حسنة في الصحابة الكرام الذين رمتهم العرب عن قوس واحدة يوم الخندق، فكانوا، كما وصف الله: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا* مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا {الأحزاب:22-23} ، ثم لتعلم أخي الكريم أن العاقبة للتقوى، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا، وأن المستقبل لهذا الدين رغم أنف الكافرين، وقد سبق لنا بيان البشائر الحتمية لانتصار الأمة الإسلامية، في الفتوى رقم: 32949.
كما سبق لنا أيضا بيان حكمة الابتلاء وثواب وعاقبة الصابر عليه، وثوابه أن الله يجبر مصيبة العبد لو احتسب، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 101007، 72118، 18721.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 محرم 1430(9/4125)
سرق أموالا من والديه وبعض عائلته ويريد أن يتوب
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا في سن 23 من عمري وكانت السنوات الماضية من عمري للأسف معصية لله، فقد سرقت أبي وأمي وبعضا من عائلتي بمبالغ كبيرة ومن ذهب أيضا، ولكن طلبت المغفرة من أمي وغفرت لي عن ما فعلت بها ولكن من باقي أهلي الذين لا يعرفون لا أقدر أن أصارحهم. فماذا أعمل في ذلك؟ وما كفارتي إن وجدت مع العلم إني طلبت المغفرة من الله وذهبت للعمرة ولا أترك صلاتي ولكن قلبي يتألم أرجو الإفادة.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب عليك هو التوبة من هذه الكبائرالتي قمت باقترافها، وشروط التوبة هي: أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، والندم على الذنب، والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة، ورد المظالم إلى أهلها.
فيجب عليك رد المال والأشياء التي قمت بسرقتها، أو ترد مثلها أو قيمتها إن كانت مقومة، أو لم تكن المسروقات موجودة - وإن كنت لا تملك مالاً فيلزمك الرد متى أمكنك ذلك.
وإذا كان هناك ضرر أو خشيت مفسدة عند إعادة المسروقات فيمكنك الرد بطريقة غير مباشرة، فعليك أن تتلطف لإعادتها بالطريقة المناسبة.
ونوصيك بكثرة الاستغفار والإكثار من الحسنات، ونسأل الله عز وجل أن يتقبل توبتك ويوفقك إلى الخير والصلاح.
ولمزيد الفائدة يمكنك مراجعة الفتاوى الآتية أرقامها: 3051، 6022، 23322، 28499، 29785، 40782، 73131، 113474.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 محرم 1430(9/4126)
التوبة من شهادة الزور والحلف على كتاب الله كذبا
[السُّؤَالُ]
ـ[من شهد زورا وحلف على كتاب الله كذبا ما هو جزاؤه وهل التوبة تنفعه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب وصاحبها معرض لغضب الله تعالى وعقابه، ويكون إثمها أعظم وعقوبتها أشد إذا حلف عليها صاحبها، وهذه اليمين هي المعروفة بيمين الغموس، وسميت كذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار والعياذ بالله، وإذا غلظ الحالف حلفه بالاعتماد على المصحف كان الإثم أكبر.
وعلى من صدر منه ذلك أن يبادر بالتوبة النصوح إلى الله تعالى، ومن تمام توبته أن يغرم ما تلف بسبب شهادته.
قال ابن عاصم المالكي في التحفة:
وشاهد الزور اتفاقا يغرمه في كل حال والعقاب يلزمه.
وليس ليمين الغموس كفارة عند جمهور أهل العلم، وذهب الشافعية إلى وجوب كفارة يمين فيها وهذا أحوط.
وعلى كل حال فإن التوبة النصوح تمحو ما قبلها كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى. {طه:82} .
وقال صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفي رواية: الندم توبة..... رواه ابن ماجة وغيره وحسنه الألباني.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 محرم 1430(9/4127)
الصدقة بعد المصائب مطلوبة، ولكن....
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز إذا الله نجى شخصا من مصيبة أن يتصدق لأن الله نجاه من هذه المصيبة، أم أن هذا من باب المعاملة غير الصحيحة مع الله، وأنه يجب أن تكون الصدقة غير معتمدة على النجاة من الحوادث، وأن هذا من البخل، وليس فيه دليل من السنة أن الرجل إذا نجا من محنة يتصدق؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه يستحب لمن نجاه الله عز وجل من مكروه أن يشكر الله تعالى، فإن النجاة من المصائب نعمة من نعم الله تعالى، والشكر يكون باللسان والجوارح، فيشكر العبدُ اللهَ عز وجل بلسانه، ويستعمل لسانه وجوارحه في طاعة الله تعالى، ومن ذلك الصدقة على الفقراء والمساكين، قال الله عز وجل: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ {يونس:21}
قال ابن عطية في تفسيره المسمى بالمحرر الوجيز: المراد بالناس في هذه الآية الكفار، وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير، والرحمة هنا بعد الضراء كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر، والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة. انتهى.
ولكن لا ينبغي أن يكون حال المسلم هو الاقتصار على شكر الله تعالى إذا نجاه الله تعالى من مصيبة، بل يشكر الله تعالى على نعمه التي لا تحصى من جعله مسلماً ومعافاته في بدنه وغير ذلك.
قال الشوكاني في فتح القدير: وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجاب لك يوم ضرائك، وأقول أنا: أكثر من شكر الله على السراء يدفع عنك الضراء، فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة. انتهى.
كما أن الصدقة من فضائل الأعمال التي ورد الحث عليها في الكتاب والسنة، وينبغي للمسلم أن يكثر من التصدق في جميع الأحوال، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، قال الله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {البقرة:261}
وروى البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: من تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ من كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يَقْبَلُ الله إلا الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لصاحبها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّهُ حتى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ.
ولمزيد التفصيل في بيان الشكر وكيفيته يمكنك مراجعة الفتاوى الآتية أرقامها: 73736، 98415، 104738، 108293، 95127.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 محرم 1430(9/4128)
وسائل نافعة للثبات على الطاعة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا اسمي غزلان كنت متبرجة وتعرفت على شاب اسمه نبيل علمني أصول الدين وأحبني في الإسلام وتحجبت والحمدلله وبعد فترة رحل نبيل إلى بلاد الغربة وتركني وحيدة لأنني كنت أعاشر الفتيات الفاسدات وأبعدني عنهم والآن أنا محتاجة أحدا يساعدني لكي أكمل طريقي في الإسلام ساعدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتعارف بين الشباب والفتيات أمر لا يقره الشرع، لما يؤدي إليه من فتن وما يجره من بلايا.
أما عن سؤالك، فمن فضل الله عليك أن يسّر لك سبيل الهداية، وعصمك من طريق الغواية والضلال، وتلك من أعظم نعم الله عليك، فيجب أن تقابليها بالشكر، وذلك بالثبات على الطاعة واجتناب المعاصي، ومما يعينك على ذلك:
- الاستعانة بالله والتوكل عليه وكثرة الذكر والدعاء، والتبرؤ من الحول والقوة، واستشعار شدة الافتقار إلى الله مع استشعار قربه وسعة رحمته وكرمه.
- الحذر من رفيقات السوء، والبعد عن مجالس الغفلة ومجتمعات المعاصي، والحرص على مصاحبة الصالحات.
- الصدق مع الله بمجاهدة النفس والصبر ومخالفة الهوى ابتغاء رضا الله.
- الحرص على تعلم أمور الدين اللازمة، وسماع المواعظ النافعة، وقراءة الكتب المفيدة، ومطالعة المواقع الإسلامية الموثوقة، والبرامج الهادفة، وشغل الفراغ بالأعمال المفيدة.
- الحرص على الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على قدر علمك وحسب استطاعتك.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والرشاد.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 محرم 1430(9/4129)
نوى أفعالا من الخير فعجز عنها لخسارة ألمت به
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد شخص مقتدر كان يقوم بأعمال خيرية وكان ينوي أعمالا كثيرة وبدأ في التنفيذ وكل ذلك براً بوالديه ولكسب الحسنات له ولأولاده وزوجته، ولكن انقلب الحال لتعرضه لخسارة قاسية جدا جعلته يبحث عن ما يكفيه هو وأبناءه بدون أي كماليات، سؤالي هو: هل سيجزى هذا الشخص بحسب ما كان ينوي عمله من فعل الخير إن كان صادقاً؟ وما الحكم في تقشفه مستقبلاً حتى لو عاد كما كان مقتدرا ومقللاً للأعمال الخيرية التي نوى بها سابقا تحسباً لأي ظرف مشابه لا سمح الله؟ وهل هناك نسبة معينة من مبالغ فاعل الخير تخرج لأعمال الخير مثلا بحيث أن لا تتجاوز نسبة معينة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد دلت الأدلة الشرعية على أن لنية العمل الصالح والعزم عليه شأناً وفضلاً عظيماً، وأن من نوى عمل الخير وعزم عليه فإنه يؤجر بحسب نيته، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عن رَبِّهِ عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلك، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله له عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هو هَمَّ بها وعملها كَتَبَهَا الله له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سبعمائة ضِعْفٍ إلى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله له عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله له سَيِّئَةً وَاحِدَةً. فدل الحديث على أن من عزم على فعل طاعة وعقد قلبه على ذلك كتبها الله تعالى حسنة كاملة.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال الطوفي: إنما كتبت الحسنة لمجرد الإرادة، لأن إرادة الخير سبب إلى العمل، وإرادة الخير خير، لأن إرادة الخير من عمل القلب. انتهى.
والمقصود بالهم هنا: العزم المؤكد والحرص على الفعل.
ومن ذلك ما رواه الترمذي عن أبي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ. قال: ما نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ من صَدَقَةٍ، ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عليها إلا زَادَهُ الله عِزًّا، ولا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إلا فَتَحَ الله عليه بَابَ فَقْرٍ أو كَلِمَةً نَحْوَهَا، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قال: إنما الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فيه رَبَّهُ، وَيَصِلُ فيه رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله عِلْمًا ولم يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يقول: لو أَنَّ لي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بنيته، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالًا ولم يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فيه رَبَّهُ، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَهُ، ولا يَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِل. ِ وَعَبْدٍ لم يَرْزُقْهُ الله مَالًا ولا عِلْمًا، فَهُوَ يقول لو أَنَّ لي مَالًا لَعَمِلْتُ فيه بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بنيته، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. قال الترمذي: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (فهو بنيته) أي يؤجر على حسبها. (فأجرهما سواء) أي فأجر من عقد عزمه على أنه لو كان له مال أنفق منه في الخير وأجر من له مال ينفق منه سواء. انتهى.
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غَزَاةٍ فقال: إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا ما سَلَكْنَا شِعْبًا ولا وَادِيًا إلا وَهُمْ مَعَنَا فيه حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: وفى هذا الحديث فضيلة النية فى الخير، وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات، فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح البارى: وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل. انتهى.
أما الإنفاق على الزوجة والأولاد فهو واجب على الرجل، لقول الله تعالى: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ {البقرة:233}
وقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا {الطلاق:7}
والنفقة على الأهل أعظم أجرا من جميع الصدقات فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ على مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ على أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الذي أَنْفَقْتَهُ على أَهْلِكَ. رواه مسلم. وراجع في ذلك في فتوانا رقم: 54907.
وإذا أيسر هذا الرجل فالأولى له ألا يتوقف عن عمل الخير، فإن الصدقة وعمل الخير من أساب البركة في المال، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أنه ما نقص مال من صدقة، كما أن الأولى أن يعتدل في نفقته على نفسه وأسرته بلا بخلٍ ولا سرف، وله أن يحتفظ بجزء من المال خشية التعرض للخسائر ويتصدق بجزء، كما أن عمل الخير ليس فيه نسبة معينة لإخراج المال، والأولى في ذلك أن يتوسط المسلم فيه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 محرم 1430(9/4130)
من فوائد قيام الليل الدنيوية والأخروية
[السُّؤَالُ]
ـ[ماهي فوائد قيام الليل في الدنيا والآخرة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقيامُ الليل قُربةٌ من أجل القربات وطاعةٌ من أنفس الطاعات، لا يحافظُ عليها إلا الموفقون, ولا ينافسُ فيها إلا السابقون، وقد بينا طرفاً من فضائله في فتاوى كثيرة وانظر منها الفتوى رقم: 2115، والفتوى رقم: 53582.
وأما فوائده وثمراته التي تعود على العبد في الدنيا والآخرة فكثيرةٌ تستعصي على الحصر، ولكننا نسوقُ إليك طرفاً منها لعل الله أن ينفعكَ بها وإخواننا القراء.
1- أنه سببٌ لنيلِ الجنة، وناهيكَ بها من فائدة، قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ. {آل عمران: 15-17} .
وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {السجدة:16-17} ، وقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. رواه الترمذي، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
2- أنه سبيلٌ إلى القيام بشكر نعمة الله على العبد، والشاكرون قد وعدهم الله بالزيادة كما قال تعالى: وإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ {إبراهيم:7} .
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله علية وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ .متفق عليه.
3- أنه يقربُ إلى الله عز وجل، وهو سببٌ في تكفير سيئات العبد ومغفرةِ ذنوبه، فعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن. رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال حديث حسن صحيح، والحاكم على شرط مسلم.
4- أنه ينهى صاحبه عن الإثم قال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. {العنكبوت:45} .
5- أنه مطردة للداء عن الجسد فهو سبب لذهاب الأسقام وإبعاد الآلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم, وقربة إلى الله تعالى, ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد. أخرجه الترمذي.
6- أنه يكسو وجه صاحبه نورا فإن الجزاء من جنس العمل فإنهم لما احتملوا ظلمة الليل وهانت عليهم مكابدتها جازاهم الله بأن نور وجوههم، فقد قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجهه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحبُ هذا الرجل.
وقيل للحسن البصري رحمه الله: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
7- أنه سبب فى زيادة الرزق قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى. {طه: 132} .
8- أنه يعرض صاحبه للنفحات الإلهيه ويكون سببا لإجابة دعائه وإعطائه سؤله وقت نزول الرب عز وجل إلى سماء الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له. رواه البخاري ومالك ومسلم والترمذي وغيرهم.
9- أنه يُحصّل لصاحبه الثواب المضاعف فقليله يُزيلُ عنه اسم الغفلة، ومتوسطه يكسوه اسمَ القنوت، وكثيره يجلبُ له قناطير الأجر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين. رواه أبو داود.
ولو طفقنا نتتبعُ الفوائد والثمرات المترتبة على قيام الليل لطالَ بنا المقامُ جدا، ولكننا نكتفي من القلادةِ بما أحاط بالعنق، فأصبعٌ تشير خيرٌ من باعٍ يعجزُ عن الإحاطة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 محرم 1430(9/4131)
التوبة من بعض الذنوب دون بعض
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعمل والحمد لله بشركة مرموقة, وقد سافرت إلى دولة بأمريكا اللاتينية لأخذ دورة, لكنى وقعت في الزنا هناك, وأنا نادم على ما فعلت فكيف أتوب من الذنب, علما بأني أعيش في دولة عربية لا تقيم الحدود, أنا أعلم أن الله غفور رحيم, ولكني أعلم أن المعصية كبيرة, وأنا أعلم أن الحدود كفارات, فهل أسافر إلى دولة تقيم حد الله, ولو أن الجواب لا, فكيف لي أن أعلم أن الله تاب علي, أعلم أن الحسنات يذهبن السيئات, ولكن لا أحتمل أن لا يقبل الله توبتي, وأعذب يوم القيامة بما اقترفت, وهل يجب أن أقلع عن كل المعاصي حتى أتوب, أعني أني لا أحافظ على الصلاة في المساجد, وأحيانا أسمع الأغاني, فهل يعني هذا أنه لن تقبل توبتي ما دمت على معصية أخرى، وهل صحيح أن من زنى يعيش طيلة عمره في فقر، فأرجو الإفادة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الزنا من كبائر الذنوب، ولكن من سعة رحمة الله وعظيم كرمه أنه من تاب توبة صادقة فإن الله يقبل توبته ويعفو عنه، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا* وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا. {الفرقان: 71} .
وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
والتوبة تكون بالإقلاع عن الذنب، والندم والعزم على عدم العود إلى الذنب، مع الإكثار من الأعمال الصالحة، ولا يلزم لصحة التوبة إقامة الحد، بل ينبغي على الإنسان إذا وقع في شيء من الفواحش أن يستر على نفسه ولا يفضحها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:.. أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله. رواه مالك في الموطأ.
وأما عن قبول التوبة من الزنا مع الإصرار على غيره من الذنوب، فالجمهور على صحة التوبة من الذنب إذا تحققت شروطها ولو مع الإصرار على غيره.
جاء في الموسوعة الفقهية: تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره عند جمهور الفقهاء..
وذهب بعض المحققين إلى التفريق بين كون الذنبين من نفس الجنس أم لا، قال ابن القيم في مدارج السالكين: والذي عندي في هذه المسألة: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه: فتصح. .
لكن على كل الأقوال ينبغي أن تعلم أن التوبة مع الإصرار على بعض الذنوب، لا تكون كالتوبة من جميع الذنوب.
قال ابن عثيمين في مجموع الفتاوى والرسائل: لكن لا يستحق الوصف المطلق للتوبة وما يستحقه التائبون على الإطلاق من الأوصاف الحميدة والمنازل العالية حتى يتوب إلى الله من جميع الذنوب.
ولا شك أن استماع الأغاني المحرمة، مما يغضب الله ويفسد القلب، كما أن الصلاة بالمساجد من سنن الهدى، ومما يقوي صلة العبد بربه ومما يمحو الله به الخطايا، فينبغي أن تحرص على أداء الصلاة في المسجد وتربط قلبك به، وتترك استماع الأغاني المحرمة، وتحرص على صحبة الصالحين، وحضور مجالس العلم والذكر.. وأما عن كون الزاني يعيش طيلة عمره في الفقر، فغير صحيح.
واعلم أن التوبة الصادقة تمحو ما قبلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع..
ونوصيك بالمبادرة إلى الزواج إذا كنت لم تتزوج.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 محرم 1430(9/4132)
حكم ذكر المرء معاصيه لأجل العبرة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من يجاهر بالمعاصي ثم يتوب, ويذكر ما كان من ذنوبه ومعاصيه من أجل العبرة, وما حكم من يخبر بأحواله من الوعاظ بعلمه أو بدون علمه في المجالس؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي للمسلم أن لا يذكر ذنوبه التي قارفها وسترها الله عليه، سواء كان ذكرها على سبيل الافتخار أو على سبيل الاتعاظ، ما لم تدع إلى ذلك حاجة أو مصلحة راجحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه. متفق عليه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله عز وجل، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله. رواه البيهقي والحاكم وصححه ولم يتعقبه الذهبي. وصححه الألباني.
والمجاهرون قال النووي: هُمْ الَّذِينَ جَاهَرُوا بِمَعَاصِيهِمْ وَأَظْهَرُوهَا وَكَشَفُوا مَا سَتَرَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ , فَيَتَحَدَّثُونَ بِهَا لِغَيْرِ ضَرُورَة وَلَا حَاجَة. انتهى.
والذي نراه أن التماس العبرة متيسر دون فضيحة النفس، بأن يذكر موضع العبرة والعظة دون أن يسمي نفسه، فيجمع بذلك بين المصلحتين.
جاء في الموسوعة الفقهية: يندب للمسلم إذا وقعت منه هفوة أو زلة أن يستر على نفسه ويتوب بينه وبين الله عز وجل وأن لا يرفع أمره إلى السلطان، ولا يكشفه لأحد كائنا ما كان؛ لأن هذا من إشاعة الفاحشة التي توعد فاعلها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النور: 19} . ولأنه هتك لستر الله سبحانه وتعالى، ومجاهرة بالمعصية.
ولمزيد من الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18932، 7518، 109352.
وكذلك ينبغي لمن يتولى الوعظ والإرشاد ألا يسمي مسلما باسمه ويخبر بما كان عنده من معاصٍ وأخطاء، ولو كان ذلك للعظة والعبرة، إلا إذا كانت هناك مصلحة راجحة في تسمية الشخص. وذلك أن الستر مطلوب شرعا، جاء في الموسوعة الفقهية: أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب أو فجور لمؤمن من ذوي الهيئات أو نحوهم ممن لم يعرف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعيا إليه، كأن يشرب مسكرا أو يزني أو يفجر متخوفا متخفيا غير متهتك ولا مجاهر يندب له أن يستره، ولا يكشفه للعامة أو الخاصة، ولا للحاكم أو غير الحاكم، للأحاديث الكثيرة التي وردت في الحث على ستر عورة المسلم والحذر من تتبع زلاته.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 محرم 1430(9/4133)
عوائق الاستقامة وسبيل الرجوع
[السُّؤَالُ]
ـ[أواجه مصيبة في حياتي, فاتت علي أكثر من صلاة جمعة لا أدري كيف؟ لم أجد سببا شرعيا في نفسي يمنعني من أدائها في وقتها, أيضا تهاونت في الآونة الأخيرة في الصلاة, أي في تأخيرها وعدم أدائها في وقتها، ينتابني شعور بضيق شديد لفعلي المشين ولا أدري ما العمل بحثت في جميع الكتب وسألت من فتح الله عليه عن الأسباب فلم أجد منقذا , ساءت بي الظروف وضاقت السبل فلم أستطع , أحاول قراءة ما تيسر من القرآن لم أستطع الدوام على القراءة لأكثر من خمس دقائق, لماذا؟ لا أعلم. هل ختم على قلبي أم ماذا؟ اسود وجهي وعافت نفسي كل جميل, أسألكم بمن فطر السموات والأرض أريد النجاة من سوء فعلي وشنيع عملي أبحث عن سبيل لأرجع إلى طريق الهدى والصلاح, سألت بالله, وأعلم لا يسأل بالله إلا الجنة لكن لقد وصلت إلى طريق مسدود, ماذا أفعل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لنرثي لحالك أخانا الكريم، فإن المصيبة في الدين أكبرُ مصيبة فنسألُ الله أن يجبرَ مصابك, وليسَ من شكٍ في أن الشيطان قد استغواك أو استدرجك حتى أوقعكَ في هذه الهاوية وصار يصور لك أنكَ عاجزٌ عن الطاعة، وأنك مهما اقتربت من الله فإن الله لا يقربك، ألا فاعلم أنه ليسَ أصدق من الله قيلا ولا أصدقُ منه حديثا، وقد وعد تعالى -وهو الصادق وعده- أن من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعا، ومن تقرب إليه ذراعا تقرب الله إليه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه الله عز وجل هرولة، قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت: 69} .
وإنما قيدكَ عن الاستقامة ذنوبٌ أقعدتك تستوجب التوبة إلى الله عز وجل منها، فإن من علامة السيئة السيئة بعدها.
أخانا الفاضل من الآن فتب وعلى الله فأقبل، واقطع العلائق وأزل العوائق، وانفض عنك غبار الكسل ومزق حُجب الغفلة، واقفز على أسوار البطالة، وليكن لسانُ حالك وعجلتُ إليكَ ربي لترضى، لا تفكر كثيراً في سبب ما حصل من تهاون فإنه إما شيطانٌ مارد أو نفسٌ أمارة بالسوء، أو هوىً متبع، واجعل همك التخلص من رق الذنوب والمعاصي بتوبةٍ صادقةٍ نصوح، تستجمع شروطها وأركانها، ولا تيأس من رحمة الله فإن الشيطان ود لو ظفر منك بهذه، قال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87} .
أقبل على ربك واجزم بأنه سيقبلك ولن يردك مهما عظم ذنبك وكبر إثمك، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
ونحنُ واثقون بأنك ستسلكُ الطريق، وتبلغ غايتك من مرضاة ربك بإذن الله فإن الله لا يرد ساعيا ولا يُخيبُ راجيا، وكيف وهو ذو الرحمة الواسعة، ومن أدمن قرع الباب ولج، ومما يعينكَ على هذا أن تستحضر الوعيد الشديد الذي ينتظر تارك الصلاة والمتهاون فيها، حتى لقد ذهبَ بعضُ أهل العلم إلى تكفير تارك الصلاة.
وأما ما تركته من صلوات فمذهبُ الجمهور أنه يلزمك قضاؤها إبراءً لذمتك خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعةٍ من أهل العلم، وانظر الفتوى رقم: 114394.
وعليكَ أن تقضيَ ما فاتك من جمعاتٍ ظهراً مع التوبة النصوح، وعدم الاستسلام لوساوس الشيطان فإنه هو الذي يصور لك أنك لا تستطيع الاستمرار في العبادة ولا المضي فيها، وللمزيد انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1208، 1195، 8372، 71116.
وما ذكرته من أنه لا يُسأل بالله إلا الجنة لم يرد بهذا اللفظ، وإنما ورد: لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة. رواه أبو داود.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 محرم 1430(9/4134)
توبة المرأة من ذنوبها ودعاؤها ربها أن يرزقها زوجا صالحا
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجوكم أفيدوني فإني في حالة مزرية ولا أعرف لمن ألجأ سواكم.. أنا فتاة 34 من العمر تعرفت على شاب منذ كان عمري20 عاما وارتبطنا بعلاقة حب لكن يشهد الله حب عذري لا تشوبه أي شائبة ظروفه المادية منعته من التقدم لخطبتي وكان عليه الانتظار فهو كان طالبا في كلية الطب وقد رفضت كثيرا من الخطاب من أجله وبعد أن أصبح عمري 30 عاما جاء ابن عمي من أمريكا فخطبت له وتركت الشاب وسافر ابن عمي على أمل الرجوع لإتمام الزفاف وبعد 6 أشهر اكتشفت أنه متزوج هناك ولا يستطيع الخلاص من زوجته وطلب مني الانتظار انتظرت مدة سنتين بعدها قال لا أستطيع طلاقها ولا أستطيع زواجك فانفصلنا ثم تقدم إلي الشاب الذي أحبه وأحبني منذ زمن لكن الشيطان والعياذ بالله وسوس في قلبي ورفضته وتقدم لي لأكثر من مرة وأرفضة طمعا في السفر والدراسة والمستقبل فخطبت لشاب أجنبي مسلم وقررت السفر إلى أمريكا أتممنا عقد الزواج لكن لم نتزوج فعلياً إلى أن أكمل إجراءات الفيزا وألحق به لكن تأخرت الإجراءات لمدة 3 سنوات ذقت خلالها أنواع العذاب فهذا الرجل يشتمني عبر الهاتف لأقل الأسباب واكتشفت أن شيئا ما في هذا الرجل أنه غير طبيعي المهم سافرت إلى أمريكا ولم أدعه يلمسني لأني أشك في تصرفاته فهو يتكلم لمدة 30 دقيقة بدون توقف وعصبي جداً لأتفه الأمور ودائما أحس أنه يراقبني ويتهمني بأني يوما ما سوف أخونه لأنه متزوج من اثنتين قبلي وطلقهما ويقول كلتاهما خانته، أنا لست متأكدة من كونه مجنونا أو يعاني شيئا ما فتصرفاته غريبة تركته ورجعت وندمت كامل الندم على تركي للشاب والتطلع إلى المال والأمور الدنيوية رجعت إلى الشاب ووجدته متزوجا وله ابنة توسلت إليه وقلت أقبل أن أكون الزوجة الثانية وأنا نادمة من كل قلبي واستغفرت الله كثيراً واكتشفت أنه لا يزال يحبني صارح زوجته بالأمر وأخبرها بكامل القصة رفضت رفضا قاطعا وهددته بالطلاق إذا تزوج بأخرى ورضخ لإرادتها لأنها أخبرته بأنها ستأخذ الطفلة ولن ترجع له أبداً، ماذا تقولون بحق هذه الزوجة أنا أعرف أن الإسلام أحل للزوج الزواج من أربعة فهل تعترض على حكم الله، فأرجوكم أفيدوني وانصحوني إني يائسة ونادمة كثيراً لأني ارتكبت أخطاء ولا أستطيع إصلاحه وفي بعض الأحيان أفكر بالانتحار وأعلم أني سوف أدخل النار إن فعلت لكني أحب هذا الشاب فحبه يمزق قلبي ولا أستطيع نسيانه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما يعرف بعلاقة الحب بين الشباب والفتيات هو أمر لا يقره الشرع، ولا ترضاه أخلاق الإسلام، وإنما المشروع في الإسلام أن الرجل إذا تعلق قلبه بامرأة يخطبها من وليها الشرعي، ثم تظل أجنبية عنه حتى يعقد عليها، كما أن معيار اختيار الزوج هو الدين والخلق، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض. رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه الألباني.
وذلك لأن في صلاح الدين والخلق سعادة الآخرة والدنيا، وقد جنيت ثمار خطئك، وأضعت سنوات من عمرك في إقامة علاقة غير مشروعة، واختيار الزوج على غير أساس الدين والخلق، حتى وصلت إلى حال تفكرين معها في الانتحار وهو كبيرة من أكبر الكبائر، ومما لا يقدم عليه مؤمن، فالمؤمن لا ييأس من رحمة الله أبداً، ومن رحمة الله أنه يقبل التوبة ويحب التوابين ويفرح بتوبتهم.. فالذي نوصيك به هو التوبة الصادقة والإقبال على الله وتقوية الصلة به والحرص على تعلم أمور الدين واختيار الرفقة الصالحة التي تعين على الخير، وشغل أوقات فراغك بالأعمال النافعة، والدعاء بأن يرزقك الله بزوج صالح، وإذا لم يتيسر لك الزواج من هذا الشاب فعليك أن تزيلي التعلق القلبي به وتجتنبي كل ما من شأنه أن يزيد هذا التعلق، وتقطعي كل صلة به، واعلمي أنك إن صدقت مع الله فسوف يعوضك الله خيراً، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق:2-3} .
وليس من شك في أن المرأة المذكورة تعتبر مخطئة في منعها زوجها من التزوج بثانية إذا لم تكن قد اشترطت عليه ذلك، وأما إذا كانت اشترطته عليه فإن ما فعلته يعتبر حقاً لها على الراجح من أقوال أهل العلم، كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 1357.
وعلى أية حال فإن أياً من ذلك لا يبيح لك أنت تجاوزي حدود الله.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 محرم 1430(9/4135)
استمتع بأخته في صباه دون الزنا فماذا عليه بعد ما بلغ وندم
[السُّؤَالُ]
ـ[أحد الأشخاص يقول إنه عندما كان صغيراً يعتقد أنه كان يبلغ من العمر 12 عاما تقريبا وكان جاهلاً فمارس جميع مقدمات الجماع "الزنا" مع أخت له تكبره بسبع سنوات تقريباً استمر على هذا الحال لثلاث أو أربع مرات ثم تعاهد الاثنان أن لا يعود أحد منهم لمثل هذا الفعل ومرت الآن عشرة أعوام تقريباً على هذه الحادثة
مع العلم بأنه لم يتم إيلاج الذكر أبداً مجرد تلامس الأعضاء، فهذا الشخص الآن يشعر بالخوف من عقاب الله وهو يؤكد أنه لم يفعل أي شيء مشابه لما حدث بعد أن تعاهدا الاثنان واستغفرا الله من هذا الذنب، يذكر أيضا أنه كان جاهلاً بأن ما يفعله حرام وأنه لم يكن بالغا لأنه لم ينزل المني في جميع المرات، ولكن كان الذكر يستقيم ثم تحصل رجفة دون إنزال شيء، الآن هو يشعر بالذنب والخوف من عقاب الآخرة، يريد أن يعرف ماذا يفعل وهل عليه شيء، وبما تنصح هذا الشخص؟ ونفع الله بكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الطفل قبل بلوغه الحلم غير مكلف بفعل الواجبات، ولا بترك المحرمات، ولا يكتب عليه ما ارتكبه من المحرمات الشرعية كالزنا والسرقة وغيرهما، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل. رواه أبو داود والترمذي.
ويكتب له ثواب ما فعله من الطاعات والصالحات.. ولكن لا يعني ذلك أن يترك أولياء الصغير الحبل له على غاربه، بل يجب عليهم منعه من المحرمات، والأخذ على يده في تركها، وأن يعودوه على فعل الطاعات ويرغبوه فيها، وأن يكونوا دائماً مراقبين لأفعاله وتصرفاته حتى لا يخرج عن الجادة، ولا يشذ عن الصراط السوي.. وينبغي لهذا الشخص بعد بلوغه أن ينظر فإن كان يجد في نفسه تجاه أخته ما لا ينبغي من شهوة ونحو ذلك، فعليه أن يبتعد عنها، وعليها أن تحتجب منه بالقدر الذي يأمنان به من الوقوع فيما حدث مرة أخرى.
ثم ننصحه بالزواج ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يستطع الزواج فعليه بالإكثار من الصوم امتثالاً لأمر الصادق المصدوق الذي قال: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. متفق عليه. ثم ننصحه بتقوى الله والإكثار من الأعمال الصالحة خصوصاً الصلاة وذكر الله فإنهما حرز للمرء من مقارفة الفواحش والمنكرات، قال سبحانه: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ {العنكبوت:45} ، جاء في تفسير البغوي: وقال عطاء في قوله: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر. قال: ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. انتهى.
وجاء في الحديث: أن يحيى بن زكريا قال لبني إسرائيل: وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني. وللفائدة في الأمر تراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 23392، 12330، 27395.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 محرم 1430(9/4136)
مات ولداه الصغيران حرقا فهل هما في حكم الشهداء
[السُّؤَالُ]
ـ[أولادي إسلام ومحمد تركتهم مع أمهم في دولة أعمل بها وذهبت لكي أستخرج عقد عمل لهذه الدولة من بلدي وقبل أن أرجع إلى أولادي وزوجتي اتصلوا بى وقالوا إنه صار حريق بالمنزل واحترق أولادي محمد 100*100 نسبة الحريق وإسلام 94*100 حجزت طائرة وذهبت إليهم ولكن كان قضاء الله نفذ في محمد ولم أره قبل موته بشهر وكان يريد مقابلتي قبل الوفاة وأيضا وهو في الاحتضار أما سلام كان بالمصلحة فى قسم العناية القصوى كان يسمعنا ولا يتكلم لحالته وكنا نراه عن طريق شاشة تلفزيونية فقط كنت أذهب له في الزيارة وقبل موته بيوم كنت عنده وكان واضحا أنه كان يريد أن يقول شيئا ولكني لم أفهمه منه لأني كنت أقول له هل تقصد كذا أو كذا فكان (يمطوح جسده) بشدة على أنه ليس هذا المقصود، في اليوم الذي توفي فيه إسلام لم أزره في هذا اليوم بسب بعد المسافة بيننا وهي 200 كيلو متر اتصلوا بى هاتفيا وأبلغوني بالوفاة بالمصلحة، فماذا عن ابني محمد الذي كان يريد أن يراني وهو في احتضاره وعمره 8 سنوات وإسلام الذي كان يريد أن يبلغني بشيء ومات ومعه سره، أسألكم بالله أن تجيبوني على هذا، وهل هما فعلا في حكم الشهداء أم لا وماذا عني في وفاتهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأحسن الله عزاءكم في ولديكما، وأخلفكم خيرا، وألهمكم الصبر، وأعظم لكم الأجر.. وأبشروا بما يسركم في الدنيا والآخرة إن أنتم رضيتم بقضاء الله وقدره، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وحسنه الألباني.
وقد سبق لنا بشيء من التفصيل بيان ثواب وفضل من مات له أولاد صغار، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 59259، 3499، 14321، 49874.
وأما ما كان من ولديك فلا نفع في الانشغال بالتفكر فيه، وإحزان النفس والأهل بسبب ذلك، ولكن عليك بالانشغال بما يعود عليك نفعه في دينك ودنياك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
وأما الحكم بكون ابنيك من الشهداء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الْحَرَقُ شَهَادَةٌ. وفي رواية: صَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وصححه الألباني. وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 8223.
على أن أبناءك توفاهم الله ولم يبلغوا الحنث بعد، فهم في الجنة حتى ولو ماتوا على فرشهم، قال الإمام النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة. انتهى.
وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2740، 20175، 51768.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
04 محرم 1430(9/4137)
العزم على عدم العودة للمعصية كيف يكون
[السُّؤَالُ]
ـ[في الحقيقة أنا في غاية الندم على ذنوب ارتكبتها فترة خطوبتي وأشهد الله أني كنت أخطط لفترة خطوبة على نهج الإسلام ولكن زللت في بعض الأمور وبفضل الله كل مرة كنت أتوب إلى الله ولأني الآن تزوجت بفضل الله ولكني عندما أجدد توبتي إلى الله بعد زواجي وأتذكر ذنوبي فترة خطوبتي أتذكر أن من شروط التوبة عدم العودة وكيف يتحقق ذلك الشرط حتى أثبت لله أني والله لو وضعت مرة أخرى في نفس الموقف سأطيعه فذلك الشرط لم يتحقق في توبتي لأني تزوجت ومضت فترة الخطوبة أفيدوني وطمأنوا قلبي بالله عليكم لأني في غاية الحزن بسبب ذلك وأحيانا أكره زوجتي وتتكدر حياتي بسبب ذلك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن شروط التوبة: العزم على عدم العود إلى الذنب، والعزم عملٌ قلبيٌّ، وهو ما عقد عليه قلبك. اهـ بتصرف من لسان العرب، وقال ابن حجر في فتح الباري: العزم هو الميل إلى الشيء والتصميم عليه. اهـ بتصرف يسير.
ولهذا فالسائل الكريم يكفيه أن يكون في قلبه اختيار وإيثار لترك المعصية لو قُدِّر أن الزمان عاد به، أو عرض له في المستقبل شيء من ذلك. فيكفيه أن يعزم على ترك المنهي عنه في حال القدرة عليه.
والتوبة قد عرَّفها بعض المحققين ـ كما قال القرطبي في المفهم ـ فقال: هي اختيار ترك ذنب سبق حقيقة أو تقديرا لأجل الله. فهذا التعريف يدخل فيه من زنى مثلا ثم جُبَّ ذَكَرُه، فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى، وأما العزم على عدم العود فلا يتصور منه.
فاستقم أخي الكريم وأبشر برحمة الله الواسعة، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء:110} ، وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} . وقال صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم.
ثم نوصيك ـ أيها السائل الكريم ـ بكثرة الاستغفار والاجتهاد في الطاعات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} .
ويمكنك لمزيد الفائدة مراجعة الفتوى رقم: 6796.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 محرم 1430(9/4138)
هل من تبعات الذنب أن يقع من أهل المذنب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل التوبة تمنع وقوع الذنب لأهل المذنب فيما بعد استناداً إلى "كما تدين تدان" فأرجو الإفادة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم من حديث: ... كما تدين تدان.. لا يصح، قال الطرابلسي في اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع: في سنده متهم بالوضع، وضعفه المناوي في الفتح السماوي والألباني في السلسلة الضعيفة..
وهناك أحاديث أخرى ضعيفة في هذا المعنى المذكور في السؤال، وقد سبق بيان ضعفها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 63847، 80078، 35693.
والله عز وجل قد قال: وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى {الأنعام:164} ، وقال تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {الإسراء:15} .
وقال سبحانه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى {فاطر:18} .
فهذه النصوص تدل على أن الذنب إنما يتحمل تبعاته المذنب، ولم نطلع على دليل صحيح ما يفيد أن من تبعات الذنب على المذنب أن يقع ذلك الذنب من أهله، وانظر لذلك الفتوى رقم: 76513، والفتوى رقم: 25250.
وعلى كل حال فإن التائب المنيب إلى الله تعالى إن صدق في توبته وأخلص ونصح فيها فيرجى له ألا يؤاخذ بذنبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد سبق بيان ذلك وبيان ضعف الحديث السابق، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 27012، 75710، 19031.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 محرم 1430(9/4139)
الله تعالى يعفو ويغفر للتائبين الصادقين
[السُّؤَالُ]
ـ[لم أجد حلاً لمعاناتي فقررت أن أحدثكم وأكتب إليكم أنا فتاة أبلغ من العمر 24 سنة، مشكلتي أو بالأحرى مصيبتي لأنها كبيرة من الكبائر اقترفتها عندما كان عمري 14 أو 13 سنة، عندما كنا نبقى بالبيت أنا وأخي الأصغر مني بسنة نشاهد قنوات الخلاعة وأتذكر أننا قمنا بأفعال قبيحة جداً، لا ألوم أحداً على ذلك سوى نفسي فوالدي الحمد لله يعرفون الله ويخافونه، سبب كتابتي لهذه الرسالة هو أنني تبت عن هذا العمل في حينه، ولكني لا أستطيع أن أسامح نفسي والأكثر من ذلك هل الله سيغفر لي هذا الفعل الشنيع أتمنى أن تجيبوني لأنني فعلا فقدت الأمل في الحياة وحتى في الحياة الأخرى؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالزنا كبيرة من الكبائر، ومقدماته من القبائح المحرمة، ولهذا لم ينه الله تعالى عنه فحسب بل نهى عن قربه، فقال سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً {الإسراء:32} ، أما إن كان ذلك مع المحارم فالجرم أعظم والذنب أكبر، ولذلك شدد فيه القرآن فزاد المقت، فقال عز وجل: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً {النساء:22} ، قال الذهبي في الكبائر: أعظم الزنا الزنا بالأم والأخت وامرأة الأب وبالمحارم. . وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر: وأعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم. .
أما إذ تبت -أختي الكريمة- فأبشري بفضل الله ورحمته، وعفوه، ومغفرته، فقد قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:110} ، وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} ، وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. رواه مسلم.
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
وأكثري من الاستغفار والاجتهاد في الطاعات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} ، وراجعي للفائدة في ذلك الفتوى رقم: 100461.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 محرم 1430(9/4140)
التوبة الصادقة تؤتي أكلها
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا متزوج وأبلغ من العمر 29 لا أصلي وأكفر كثيراً أنا ذهبت إلى العمرة مرتين ولم أحصل على نتيجة فما هو العمل أرجو الإجابة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ترك الصلاة من أعظم الذنوب والخطايا، حتى أن كثيراً من أهل العلم ذهب إلى أن من تركها كسلاً خرج عن ملة الإسلام، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 1145، فالواجب عليك المبادرة إلى إقام الصلاة والمحافظة عليها.
وقولك "أكفر كثيراً" إن كنت تعني أنك تأتي بأمور مكفرة فيجب عليك أيضاً المبادرة إلى التوبة من ذلك، واحمد ربك أنك لم تمت وأنت على هذا الحال، فلا يخفى عليك أن الكافر مصيره نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا {النساء:168-169} .
وأما ما ذكرت من عدم حصول نتيجة رغم أداء العمرة فإن كنت تعني عدم حصول تغير في حالك من الغواية إلى الهداية ومن الردى إلى الرشاد والهدى، فإن مجرد أداء العمرة لا يلزم منه أن يحصل مثل هذا التغير، وإنك إن بادرت إلى التوبة وصدقت مع الله تعالى فيها فربما رأيت من نفسك من الاستقامة على الهدى ما تقر به عينك، قال تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {الليل:5-6-7} ، ونود في ختام هذا الجواب أن نرشدك إلى بعض الوسائل المعينة على الهداية والثبات على الحق، فنرجو مراجعتها في الفتوى رقم: 10800، والفتوى رقم: 76210.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 محرم 1430(9/4141)
مسائل في الابتلاء
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم. وأيضاً: قال صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: أي الناس أشد ابتلاءً؟ فقال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرًا يُصب منه) أي يبتليه. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.
أريد معرفة هل البلاء هو للمؤمنين الشاكرين حتى عندما لا يذنبون: طبعا ذنوب كبيرة أو مستمرة، أم يخطب ود الله سبحانه وتعالى ويطلب منه عدم الابتلاء بالابتعاد عن الذنوب؟
فأنا موقنة أن لا تعارض بين قول الله سبحانه وتعالى وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أطلب تفسير المعادلة إن جاز التعبير، وأريد أن أعرف هل تأخر الزواج هو ابتلاء أم هو قضاء وقدر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال أهل التفسير: إن الاستفهام في الآية الكريمة هو بمعنى التقرير للمنافقين الذين وردت الآية في سياق الحديث عنهم من قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرً ا {النساء:145}
والمعنى: أيّ منفعة لله تعالى في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فنبه تعالى على أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه.
ثم إن الابتلاء يكون للناس كلهم بما فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون والطالحون.. ويكون بالخير تارة وبالشر أخرى، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}
والابتلاء المذكور في الحديث يكون في الدنيا بخلاف العذاب المذكور في الآية، فالمراد به عذاب الآخرة، وبهذا يتضح لك معنى الآية ومعنى الأحاديث التي أشرت إليها وهي صحيحة، وأنه لا تعارض بينها، وأن البلاء يكون اختبارا للمؤمنين الشاكرين الصابرين زيادة في أجورهم ورفعا لدرجاتهم.
كما يوضحه قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له. رواه مسلم.
وأما تأخير الزواج وتقدمه وكل ما يقع في هذه الحياة من خير وشر فهو بقضاء الله تعالى وقدره، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}
وهو من الابتلاء والاختبار.. وكما أشرنا فإن الابتلاء في هذه الحياة يكون بالخير وبالشر.
وللمزيد من الفائدة نرجو أن تطلعي على الفتويين: 108364، 96427.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 ذو الحجة 1429(9/4142)
حرمة النظر إلى الحرام وفوائد غض البصر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كلما شاهدت مشاهد جنس أو مشاهد مثيرة يجب أن أقوم بالغسل أم يكفي الوضوء وكيف أفعل لأتخلص من شهواتي ومن الرغبة في التفرج على مشاهد الجنس0 ساعدوني أرجوكم لأن حالتي أتعبتني كثيرا وأنا لا أريد أن يغضب علي الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالنظرُ إلى المشاهد الجنسية محرم، وفاعله متعرضٌ لسخط الله، فقد قال الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا {النور30-31} .
ومن أعظم الحبائل التي يستدرجُ الشيطان بها بني آدم أن يفتح عليهم أبواب النظر إلى ما حرم الله، وقد رويَ عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال: النظرة سهمٌ مسموم من سهام إبليس.
ونحنُ نسوقُ لكِ كلاماً نافعاً للعلامة ابن القيم رحمه الله إذا أعطيته حقه من التأمل سَهُل عليكِ بإذن الله مجاهدة نفسك في ترك الشهوات، وتحصيل مرضاة رب الأرض والسموات.
يقول في الداء والدواء: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن أطلق لحظاته دامت حسراته، وفي غض البصر عدة منافع منها:
1- أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده. قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.
2- أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
3- أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعية عليه، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته وبيعده عن الله..
4- أنه يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعف القلب ويحزنه.
5- أنه يكسب القلب نوراً، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. ثم قال إثر ذلك: الله نور السماوات والأرض.
6- أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، فالله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس العمل، فإن غض بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة.
7- أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة..
8- أنه يسد على الشيطان مدخله الى القلب فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها الى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي.
9- أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها.
10- أن بين العين والقلب منفذاً وطريقاً يوجب انفصال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده فإذا فسد القلب فسد النظر وإذا فسد النظر فسد القلب، وكذلك في جانب الصلاح. انتهى.
وانظري أيضاً الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2862، 17070، 26620، 27402.
وعليكِ بالاجتهاد في الدعاء فإنه جالبٌ لكل خير ودافعٌ لكل شر، وأما بالنسبة للغسل فهو لا يجبُ إلا إذا خرج المني كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 23260.
وإذا لم يخرج المني وخرج المذيُ فالوضوءُ واجبٌ اتفاقاً، وإذا لم يخرج شيء فإن الوضوء مستحب، وقد بينا استحباب الوضوء عقب الذنب في الفتوى رقم: 113820.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ذو الحجة 1429(9/4143)
الذنوب والمعاصي لها أثر في ذهاب خشوع القلب
[السُّؤَالُ]
ـ[فضيلة الشيخ لدي مشكلة وأريدك أن تساعدني وهى أن قلبي لا يخشع بمعنى أني عندما أقوم بأعمال صالحة تكون نيتي صادقة ولكن لا أشعر بفرحة مثلا أو أشعر بالارتياح أنا أصلي في المسجد ولكن صلاتي غالبا لا تكون صحيحة لأني أعانى من كثرة خروج الأصوات والشك، المهم أني حتى لو صليت صلاه صحيحة فأنا لا أشعر بحلاوة الصلاة أو الإيمان أشعر بان الله ختم على قلبي أنه لا ينفتح إلا في أوقات معينة بمعنى لو أنا مثلا تأخرت عن الصلاة فإني أسرع للحاق بها أشعر بعد الانتهاء وبعد أن أؤكد من نفسي أنه لم يخرج مني صوت أو خروج سائل أشعر بالارتياح ولكن دائما لا أشعر بأن قلبي غير خاشع قد يكون بسبب العادة السرية التي أفعلها ولكن عندما أفعلها ويأتي مثلا وقت الصلاة أصلي في المسجد لأن الصلاة تغفر الذنوب قبل الصلاة وبعد الصلاة وكان قصة رجل سرق وأنه صلى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر ذنبك ولكن أنا لا اشعر بذلك حتى أني أقول لن يغفر الله لي لأن الله يغفر لمن يشاء أرجو منك المساعدة.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الذنوب والمعاصي لها أثر بالغ في ذهاب خشوع القلب وعدم تلذذه بالطاعة، وكلما ازدادت الذنوب كلما أظلم القلب، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكته سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ... رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
والذي نوصي به السائل الكريم هو تحقيق التوبة النصوح واللجوء إلى الله تعالى والإلحاح في الدعاء بأن يصلح الله قلبه وأعماله، وليحذر أشد الحذر من اليأس من مغفرة الله وعفوه فإنه لا ييأس من مغفرة الله ورحمته إلا جاهل بربه، وليحرص أن يظن بالله تعالى الظن الحسن أنه سيغفر له ويقبل توبته، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني.
وأما الحديث الذي ذكره السائل من أن رجلا سرق وأنه صلى فقال صلى الله عليه وسلم: قد غفر الله لك ... هذا لم نجده في كتب السنة ودواوينها، ومعلوم أن السرقة ذنب يستوجب التوبة ورد المسروق إلى أهله، وإذا رفع السارق إلى حاكم أقام عليه الحد فلا نرى أن الحديث صحيح، ولعلك تقصد ما رواه مسلم وغيره أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ... إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم مذكرا بقول الله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات.. فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة، قال: بل للناس كافة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 ذو الحجة 1429(9/4144)
الشعور بنقص الإيمان والتألم لذلك علامة خير
[السُّؤَالُ]
ـ[فضيلة الشيخ: كيف لي أن أعرف فيما إذا كان الله يحبني أولا؟ فمنذ مدة وأنا أشعر بأن الله لا يحبني خاصة أن التزامي نقص بعد زواجي مع أني كنت أدعو الله قبل الزواج أن يكون زواجي طريقا لازدياد التزامي, وكنت أدعو وأنا واثقة أن الله سيستجيب لي ولكن لا أعرف لماذا نقص التزامي بعد زواجي. هل هذا يدل على عدم حب الله لي أم أنه ابتلاء أم أنه عقاب؟ أرجو من فضيلتكم الدعاء لي بالهداية والثبات.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي أنك ما دمت تستشعرين نقص إيمانك وتتألمين لذلك فهذه علامة خير فيك، فالذي لا يحس هو صاحب القلب الميت، فما لجرح بميت إيلام، وأما علامات حب الله للعبد فقد بيناها بالفتوى رقم: 17279.
ثم إنك قد تكونين أدرى بما كان سببا في نقصان إيمانك، فالتمسي هذه الأسباب، واحرصي على إزالتها، فقد يكون السبب فعل شيء من المعاصي أو التقصير في الطاعات، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والانشغال بأمور الدنيا والأهل والأموال له أثر كبير على الإيمان، كما دل على ذلك حديث حنظلة الأسيدي وهو في صحيح مسلم. وقد ذكرناه بالفتويين: 14440، 99934. فراجعيها للفائدة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ذو الحجة 1429(9/4145)
هل يستوي التائب من الذنب مع من يجاهد نفسه عن الذنوب
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو إجابتي على هذا السؤال لأنه شيء يحيرني كثيرا: وهو الحديث أو المقولة المشهورة: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والذي يدل على رحمة الله الواسعة ومغفرته، ولكن ما لا أستطيع فهمه هو أنه هل هذا يعني أن الذي ارتكب ذنبا ثم تاب عنه يتساوى بمن جاهد نفسه ورفض معصية الله؟ فهل يستوي مثلا من زنا ثم تاب بمن حفظ نفسه وجاهدها؟ أرجو توضيح المقصود؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه العبارة لفظ حديث رواه ابن ماجة في سننه عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ومعناها أنه تمحى عنه ذنوبه فيكون كمن لم يفعل الذنب أصلا، وليس المراد بها أنه في الفضل بمنزلة من لم يفعل الذنب أصلا، وإن كان فاعل الذنب بعد التوبة قد يرجع إلى حال يكون فيه أفصل من حاله قبل التوبة، فقد يُحدِث له هذا الذنب من التوبة والندم والإكثار من الطاعة والاستغفار ما ينال به الزلفى عند الله تعالى.
قال المناوي في فيض القدير: وهو يشرح هذا الحديث: التائب من الذنب توبة مخلصة صحيحة كمن لا ذنب له لأن العبد إذا استقام ضعفت نفسه وانكسر هواه وتغيرت أحواله وساوى الذي قبله ممن لا صبوة له. قال الطيبي: هذا من قبيل إلحاق الناقص بالكامل مبالغة كما نقول زيد كالأسد، ولا يكون المشرك التائب معادلا بالنبي المعصوم. انتهى.
وقد بحث ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين مسألة مهمة وهي أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه هل يعود إلى مثل ما كان أو لا يعود بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته أو يعود خيرا مما كان؟ ثم ذكر أقوال أهل العلم في ذلك، وهو مبحث نفيس من أراد مزيد الفائدة فيمكنه أن يرجع إليه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ذو الحجة 1429(9/4146)
ما يفعل الشاب حتى يستظل بظل الله يوم لا ظل إلا ظله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب فوق العشرين عاما ببضعة أعوام ودائماً كنت أمني نفسي بأنني إذا نشأت في طاعة الله سوف يظلني الله يوم القيامة ولكني وللأسف أشعر بأني لم أكن في طاعة الله كما يجب أن أكون، فكان لي ذنوب كثيرة وعظيمة مع أني لم أفعل أيا من السبع الموبقات والحمد لله، ولكن لي ذنوب كثيرة أخرى، فهل فات أوان أن يظلني الله إن بدأت طاعة الله أم قد فات أوان ذلك، وماذا أفعل لكي يظلني الله يوم القيامة ولا أتعرض لأهوال وحر هذا اليوم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجزاك الله خيراً على هذه الهمة العالية، فإن المسلم يطلب معالي الأمور، ونسأل الله تعالى أن يحقق لك ذلك.. واعلم أنك ما زلت في سن مبكرة يمكنك معها إدراك هذا الفضل، فعليك بالتوبة والاستقامة والحرص على العلم النافع والعمل الصالح والرفقة الحسنة، وعليك بالحذر من رفقة السوء.. وانظر لذلك الفتوى رقم: 76210، والفتوى رقم: 106840.
وهذا على فرض كونك قد فاتك هذا الفضل فيما مضى، ولكن إن كنت فيما سبق محافظاً على الفرائض مجتنباً للكبائر وتقع أحياناً في فعل بعض الصغائر فنرجو أن لا يخرجك ذلك من هذا الصنف من الناس شاب نشأ في عبادة الله..
وينبغي أن يعلم أنه إذا فات المرء إدراك هذا الفضل نعني أن يكون المرء في ظل عرش الرحمن يوم القيامة فيمكنه أن يدركه بتحقيق واحدة أو أكثر من بقية الخصال، كأن يكون المسلم من عمار المسجد، أو يتآخى مع أحد في الله عز وجل ونحو ذلك.
وللمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم: 100793، والفتوى رقم: 74396.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 ذو الحجة 1429(9/4147)
كتب رسالة لامرأة نالت بها الماجستير فهل يخبر المسؤولين
[السُّؤَالُ]
ـ[صديق لي قام بعمل رسالة ماجستير كاملة لمعيدة بالجامعة في مقابل هدايا مادية وعينية ومن خلال إغوائها له بجمالها الفتان، وبالطبع من خلال حصولها علي الماجستير أصبحت في درجة وظيفية أعلي هي درجة مدرس مساعد، وتحصل بالطبع علي مرتب من الدولة لا تستحقه، وقد تاب إلى الله عن فعلته وعزم علي عدم القيام بهذا الفعل مرة أخري، والسؤال هنا له شقان: الشق الأول وهو هل هناك شيء آخر يفعله بعد التوبة إلى الله للتكفير عن خطئه، والشق الثاني هو هل يقدم ما يمتلكه من مستندات تثبت عدم قيامها بكتابة رسالة الماجستير للجهات الرقابية أم يترك الأمر لله سبحانه وتعالي من مبدأ "دع الملك للمالك" خاصة أنها ستحصل علي درجة الدكتوراه من خلال نفس الطريقة، ولكن من خلال شخص آخر بعد أن رفض هو أن يستمر في القيام بنفس الدور مما سيترتب عليه حصولها على مال لا تستحقه، ودرجة علمية لا تستحقها؟ وجزاكم الله كل خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أحسن صديقك في توبته مما قام به من الفعل المحرم، فإن القيام بإعداد رسالة الماجستير للمعيدة المذكورة من الغش المحرم ومن الخيانة، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: من غشنا فليس منا. وأغلب الظن أن هؤلاء الذين يأخذون رسائلهم بهذه الطريقة يأخذونها لينالوا بها وظائف دنيوية ومآرب مالية، وليتخذوا أماكن في المجتمع ليست لهم لأنهم ليسوا لها بأهل، وأخذ المال مقابل ذلك سواء كان نقوداً أو هدايا أو غير ذلك من الحرام والسحت لأنه مكتسب عن طريق غير مباح، كما يحرم على الرجل المسلم إقامة علاقة مع امرأة إلا في ظل زواج شرعي، ولا ينبغي أن يخاطب أو يكاتب أو يحادث رجل امرأة أو امرأة رجلاً إلا لحاجة، وإذا وجدت الحاجة فيجب أن يكون كل ذلك وفق ضوابط الشرع وحدود الأخلاق والأدب حتى لا تحصل فتنة، وقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء.
وأما عن شروط التوبة فهي: وجوب الإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ما فات، والعزم على عدم العود إليه أبداً، وإذا تعلق الذنب بحقوق الآدمي فلا بد فيه من التخلص من حقوق أصحاب المظالم باستسماحهم والتحلل منهم أو إعطائهم حقوقهم، والذي نراه أن يقوم صديقك بإخبار المسؤولين عن حقيقة الأمر وتقديم المستندات إليهم، إذا كان ذلك يزيل الضرر الحاصل بحصول هذه المعيدة على ما لا تستحقه، كما أنه داخل في عموم النصيحة الواجبة، لما رواه مسلم عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة.. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
أما قولك: دع الملك للمالك. فليس له أصل في الشرع، بل إن النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم فرائض الإسلام، وننصح صديقك بالإكثار من أعمال البر والنوافل، فإن ذلك يزيل أثر الذنوب ويطهر العبد من أدرانها ويبدلها حسنات، لقول الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ {هود:114} ، وللمزيد من الفائدة يمكنك مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 871، 4662، 5450، 112769، 113925.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ذو الحجة 1429(9/4148)
التوبة الصادقة هل يمكن ألا يقبلها الله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك توبة صادقة ولا تقبل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله عز وجل يحب التوبة ويقبلها من عبده إذا تاب إليه، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى:25} ، وقال سبحانه: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ {البقرة:222} ، بل ويفرح سبحانه بعبده إذا تاب، ففي الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح.
فكيف يقال إن الله عز وجل مع حبه للتوبة وفرحه بها لا يقبلها، هذا غير صحيح، وإنما لا يقبل الله التوبة إذا اختل شرط من شروطها التي سبق بيانها، وانظر الفتوى رقم: 5450.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 ذو الحجة 1429(9/4149)
التوبة تمحو ما سبق من الإثم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا قد ارتكبت بعض المعاصي مثل الكذب والسرقة وترك الصلاة أحياناً، أريد أن أعرف كيف أكفر عن سيئاتي وذنوبي، هل الاستغفار والتسبيح وقراءة القران يكفر عنها؟ هل الاستغفار والتسبيح وقراءة القران تمحو الآثام أم تكتب في ميزان الحسنات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوبة تجبُ ما قبلها، وتمحو ما سبق من إثم، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} . بشرط أن تكون التوبة صادقة مستوفيةً لشروطها وهي الإقلاعُ عن الذنب والعزم على عدم الرجوع إليه والندمُ على فعله، وإذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي كالسرقة أو الكذب الذي تسببت به إلى أخذ ما ليس لك، فيجبُ رد الحق إلى صاحبه ولا تكمل التوبة إلا بذلك، فإن تعذر رده إليه تُصُدّق به عنه، وبالنسبة لترك الصلاة فعليك أن تتحري ما ضيعته من صلوات فتقضيه ليحصل لكِ اليقين ببراءة ذمتك، وهذا قول الأئمة الأربعة خلافاً لشيخ الإسلام وجماعة، والتوبة والاستغفار والإكثار من الذكر وقراءة القرآن كلُ ذلك من الأعمال الصالحة التي تُمحى بها السيئات وتُرفع بها الدرجات، ولزومها والحفاظُ عليها من علامات صحة التوبة، قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 ذو الحجة 1429(9/4150)
الأعمال الصالحة من أسباب طيب العيش
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسلم والحمد لله أحاول جاهداً أن ألتزم بشرع الله لكن تمر بي حالات أقول كما قال أحد السلف إن كان أهل الجنة فى مثل ما أنا فيه لهم فى خير كثير ففي تلك الحالة أحسن الظن بنفسي وأقول أنا من أهل الجنة إن شاء الله ولكن تمر بي حالات أخرى أقول إن كان أهل النار فى مثل ما أنا فيه لهم في عذاب شديد، أناشدكم الله أفيدوني ما سبب أحزاني هل هي من النفس والشيطان أم بسبب المعاصي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمعاصي هي سبب الهموم والغموم والأحزان، ولكن أصل المعاصي من النفس والشيطان، أما النفس فلأنها تأمر صاحبها بالسوء ومعصية الله سبحانه، قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.. {يوسف:53} ، والشيطان أيضاً يأمر بالسوء والفحشاء، قال سبحانه: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء {البقرة:268} ، فإذا أردت -أيها السائل- أن تهنأ بحياة طيبة كريمة هانئة فابتعد عن المعاصي والذنوب، وعليك بالأعمال الصالحة فهي سبب طيب العيش وسكون النفس، قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون َ {النحل:97} .
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي: والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً كما قال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسنى يوم القيامة فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين، ونظير هذا قوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ. ونظيرها قوله تعالى: وإن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله. ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة هو النعيم على الحقيقة ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد قال بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها إن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. وقال الآخر: إن في الدنيا جنة هي في الدنيا كالجنة في الآخرة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة، قال: حلق الذكر. وقال: وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. ولا تظن أن قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) ، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) ، يختص بيوم المعاد فقط بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم ... فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد. انتهى.
وقال رحمه الله في موطن آخر: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم. فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشاً وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدراً وأسرهم قلباً وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 ذو الحجة 1429(9/4151)
رد شبهة حول حديث: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم.....الحديث
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو إجابتي على هذا السؤال عن الحديث التالي إن الله يحب أن نتقرب إليه بالمعاصي وأننا لو لم نكن نخطئ لذهب الله بنا وأتى بأناس يخطئون ويتوبون وهناك من الناس من يعتد بهذا الحديث ويبرر لنفسه الخطأ
أرجو إفادتي ولكم جزيل الشكر..
فداء الرفاعي]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلعلك تقصدين الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
فإذا كان الأمر كذلك فهذا الحديث كما ترين ليس فيه أن الله تعالى يحب أن يتقرب إليه بالمعاصي، وكيف يكون الأمر كذلك وهو سبحانه القائل: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ {الحجرات: 7} ، وكيف يحب الله تعالى التقرب إليه بالمعاصي وهو قد نهى عن فعلها، وتوعد فاعلها بالعذاب، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وهذا الحديث فيه بيان سعة رحمة الله ومغفرته لذنوب عباده، وهذا المعنى باعث للمسلم على عدم القنوط من رحمة الله تعالى، فإذا أذنب تاب وأناب، ولكن لا يجوز للمسلم أن يغتر بذلك فيتجرأ بسببه على المعصية، فما يدريه أن يعيش بعد الذنب حتى يتوب، فمن الناس من قد تقبض روحه حال فعله الذنب أو بعده قبل التوبة، ولو تاب فما يدريه أن تكون توبته قد قبلت، وعلى هذا فإنه لا ييأس من رحمة الله ولكنه في المقابل لا يأمن مكر الله، ولهذا قال العلماء إنه ينبغي للمسلم في هذه الحياة أن يكون بين الخوف والرجاء، وبذلك يستقيم أمره، ولمزيد الفائدة نرجو الاطلاع على الفتويين: 114548، 35806.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 ذو الحجة 1429(9/4152)
الإخبار بتكاليف الحج هل يعد من الرياء
[السُّؤَالُ]
ـ[سألني أحد معارفي عن تكاليف الحج التي سوف أقوم بدفعها، للحج هذا العام وأخبرته لأنني خشيت أن أكذب،
فهل إخباري له بتكاليف حجي يجعلني من الذين يرائون بأعمالهم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا حرج في الإخبار بما أنفقته في الحج، لاسيما إذا سئلت عنه، وأما هل يدخل ذلك في الرياء والسمعة؟ فهذا راجع إلى النية، إذ النية عمل قلبي وهو مشتق من الرؤية وهو: أن يعمل ليراه الناس، والسمعة مشتقة من السمع وهو: أن يعمل العمل ليسمعه الناس، فيحصل له من ذلك منفعة، أو تعظيم أو إجلال من الناس أو ثناء، أو نحو ذلك.
وبناء على ذلك فإذا لم يكن في نيتك شيء من ذلك فليس هذا من الرياء، عافانا الله وإياك منه.
وانظر لمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 10992، والفتوى رقم: 62883.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 ذو الحجة 1429(9/4153)
الإسلام يكفر ما كان قبله من آثام
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل زنت زوجته مع شخص ملحد، وهي كانت ملحدة ثم أصبحت حديثة عهد بالإسلام، ولا تؤدي شعائره بشكل منتظم، وقالت أنها كانت مجبرة معنويا وأنها لم ترد ذلك وإنما وقعت تحت ضغط معنوي من صديقها، ولكن في النهاية لم يكن هناك عنف وزنت ست مرات فما حكم الشرع؟ وهل تتوب ويغفر لها الزوج دون ذنب عليه بعد عزمها التوبة؟ فهو في حيرة من الوقوع في الذنب، علماً بأنه اكتشف الحدث دون اعترافها الذي تبع ذلك، وعاشرها بعد علمه به.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسؤال فيه شيء من الغموض فلا ندري هل كان الزنا قبل إسلامها أم بعده.. فإن كان قبل إسلامها فإن الإسلام يجب ما قبله أي يمحو ما كان قبله من معاص وآثام بشرط الإحسان في الإسلام والقيام بأحكامه وشرائعه دون تفريط، فقد جاء في صحيح البخاري: إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.
جاء في فتح الباري لابن رجب فإن المراد بإحسانه في الإسلام: فعل واجباته والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية, وفي حديث ابن مسعود هذا دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها. انتهى بتصرف يسير.
أما إن كان الزنا بعد إسلامها, فعلى الرغم من حرمة جريمة الزنا وبشاعتها وعظم ذنبها، إلا أن وقوعه من الزوجين أو أحدهما لا يؤثر في صحة النكاح بينهما، لكن إذا حصل ذلك من المرأة حرم على زوجها أن يقربها حتى تستبرئ رحمها بالحيض ممن زنت منه إذا لم تكن حاملاً وقت الزنا.
وأما بالنسبة لإمساكها أو فراقها فهذا مرجعه إلى حالها بعد وقوع الفاحشة, فإن تابت وحسنت توبتها فالأفضل إمساكها وسترها, وإن لم تتب أو غلب على ظن الزوج إمكان عودتها للفاحشة تارة أخرى, ففي هذه الحالة ينبغي طلاقها, لأن إمساكها في هذه الحالة دياثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث. الحديث رواه أحمد وصححه الألباني.
وللفائدة تراجع الفتوى رقم: 96680.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 ذو الحجة 1429(9/4154)
حكم التقصير والتهاون بالدين
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حكم المقصر أو المتهاون في دينه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمقصر والمتهاون في دينه إن كان تقصيره وتهاونه في أمر واجب فهو عاص لربه وآثم بتقصيره، وإن كان تقصيره في أمر مستحب وليس في واجب فقد ارتكب مكروها ولا يعد عاصيا آثما.
والمقصر في الواجبات والفرائض يختلف حكمه باختلاف ما هو مقصر فيه ونوع تقصيره فالمقصر في الصلاة التارك لها بالكلية كافر في قول كثير من أهل العلم، والمقصر فيها غير التارك لها بالكلية مسلم عاص وهو على خطر عظيم، فقد يختم بخاتمة سوء ويموت على غير الإسلام، وكذا المقصر في أداء الحج الواجب مع استطاعته، والمقصر في أداء الزكاة أو غير ذلك من الواجبات كبر الوالدين وصلة الأرحام وكلما قصر في واجبات كثيرة كلما ازداد إثما وبعدا من الله تعالى وقربا من الشيطان وحزبه.
وانظر الفتوى رقم: 79848.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 ذو الحجة 1429(9/4155)
ضوابط شرعية في حب الأولاد
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تنطبق الفتوى رقم 114909على حب الأبناء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ينطبق ما ورد في الفتوى المذكورة على حب الأولاد, ولكن يحذر في شأن محبة الأولاد من أمرين:
الأول: الإفراط الزائد في محبتهم بحيث يقود إلى معصية الله ويقعد عن طاعته فإذا وصل إلى هذا الحد فهو مذموم، وقد قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ {التغابن:14} .
جاء في تفسير ابن كثير عند تفسير هذه الآية: يقول تعالى مخبرًا عن الأزواج والأولاد: إن منهم من هو عدو الزوج والوالد، بمعنى: أنه يلتهى به عن العمل الصالح، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، ولهذا قال هاهنا: فاحذروهم قال ابن زيد: يعني على دينكم.
وقال مجاهد: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ قال: يحملُ الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه. انتهى.
وجاء في تفسير الألوسي وقال غير واحد: إن عداوتهم من حيث إنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما روي عنه صلى الله عليه وسلم: يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك.
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سبباً لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك، وسبب النزول أوفق بهذا القول. انتهى.
وأيضا فقد قال سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {التوبة:24} .
الثاني: أن يتحول هذا الحب الفطري الجبلي للأولاد إلى حب شهوة والعياذ بالله حينئذ يخرج الأمر من باب المشروع إلى الممنوع ومن الطاعة إلى الفسوق والعصيان.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
08 ذو الحجة 1429(9/4156)
هل تجب كفارة على من ترك التدخين
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تجب كفارة عند ترك تدخين السجائر؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ترك التدخين نعمة من نعم الله على العبد، وليس عليه عند تركه كفارة معينة؛ وإنما عليه أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه مما مضى، فإن الحسنات يذهبن السيئات، ولو عمل صدقة أو شيئا من أعمال الخير لكان أفضل.
وسبق أن بينا حكم التدخين والأدلة على حرمته، وبإمكانك أن تطلع عليه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 96261، 1671، 9302.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 ذو الحجة 1429(9/4157)
أهمية استشعار خطر الذنوب على العبد في الدارين
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شابة وعمري 23 عاما. أحس بأن إيماني بالله بإتباع أوامره واجتناب معاصيه مرتبط بخوفي من عقابه عزوجل في الدنيا وليس مخافة عذاب الآخرة. كأن أرسب في الامتحان إذا قمت بمعصية مثلا. فكيف أغير هذه النظرة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المعصية لها أثر سلبي وشؤم خطير على حياة العبد في الدنيا والآخرة، واستشعار خطر الذنوب في الدارين مهم جدا، فالعصاة يبتلون في الدنيا بالمعيشة الضنك والحرمان وغير ذلك من أنواع الابتلاءات كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. {طه:124} .
وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الروم:41} .
وذكر الله تعلى قصة أهل الجنة في سورة القلم أنهم حرموا منها بسبب عزمهم على حرمان الفقراء منها، ولكن الخطر الأخروي أدهى وأعظم وأطول وأكبر وأبقى وأشد، فقد قال الله تعالى بعد آية طه السابقة: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى {طه:127} .
وقال تعالى في ختام قصة أصحاب الجنة في سورة القلم: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون {القلم:33} .
وقال تعالى في شأن المكذبين السابقين: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {الزمر:26} .
فعليك باستشعار مخاطر الدارين وتذكري حال المعذبين في النار أنهم تلفح وجوههم النار وأنهم يسحبون في الجحيم ثم في النار يسجرون، ومما يعين على تذكر الأمرين كثرة مطالعة كتب الرقائق ونصوص الترغيب والترهيب والتأمل في أهوال القيامة وأحوال أهلها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 ذو الحجة 1429(9/4158)
القنوط من رحمة الله عز وجل لا يجوز
[السُّؤَالُ]
ـ[فعلت الكثير من الكبائر المتنوعة وآخرها القرض من بنك ربوى ومن وقتها وأنا أعاني كوابيس ولا أنام إلا قليلاً وأشعر بأني سأموت وأعيش فى وسواس وعذاب.. فقد تبت إلى الله وأتمنى أن يقبل الله توبتي أدعو لي وسوف أنهي العقد والقرض بأقصى سرعة أسأل الله أن يتقبل مني.. فأفيدوني بالله كيف أتخلص من الوسواس بأني منافق ولن يغفر الله لي والإحساس بأن الله سوف يعذبني بذنوبي من الكبائر وأنا أعلم جيداً أن الله له فضل عظيم علي فى تذكرتي وأن السيئات كانت من نفسي أعيش معذبا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقرض الربوي ومثله سائر الكبائر تستوجب التوبة النصوح ومن شروطها الندم والإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العود، وإذا حصل هذا فقد تمت التوبة وقبلت إن شاء الله تعالى، والقنوط من رحمة الله عز وجل لا يجوز لأن رحمته وسعت كل شيء وأحرى أن تتسع التائب المنيب وهو إذا صدق حبيب الله تعالى، كما قال عز وجل: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة:222} .
وأما الإحساس الذي ينتاب السائل بأن الله لن يغفر له وأنه لا محاله معذبه.. إلخ، فهذه من وساوس الشيطان يريد بها أن يقنط التائب من رحمة الله، وأنه لا فائدة من توبته، ويرغبه بالارتكاس في المعاصي مرة ثانية ... فالحاصل أن الندم توبه، وإذا اقترض بالربا وأمكن رد رأس المال بدون فوائد فهذا هو المطلوب وإن لم يكن ذلك ممكناً فليس على التائب غير التوبة النصوح.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو الحجة 1429(9/4159)
الشفقة على المبتلين والبكاء عند رؤيتهم
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله الرحمن الرحيم
من فضلك أرجو الإجابة الوافية على سؤالي هذا, أنا سيدة ولله الفضل ملتزمة وأمتلك قلباً طيباً ورقيقاً وبشهادة الآخرين.. أحيانا وعلى سبيل المثال, أرى أناسا معاقين أكان ذلك من خلال الواقع الحي أم من خلال التلفاز, عندما أراهم لا أتحمل مداومة النظر إليهم من شدة شفقتي عليهم حتى أنه قد يصل الأمر بي أن تذرف دموعي في مكان عام فيما لو رأيت ما يثير شفقتي في ذاك المكان, وآخر مرة كنت في عيادة العيون ورأيت فتاة معاقة فوجدت دموعي تذرف تلقائياُ, ومنذ فترة حاولت أن أخفف من شفقتي هذه باستحضار، أن الله عز وجل خلقهم وهو أرحم بهم مني وأقول في نفسي هل شفقتي هذه تساوي شيئا أمام رحمة الله, وأبداً فلذلك بدأت أشعر أن قلبي لحظتها لم يعد كالسابق لدى رؤيتي لما يثير الشفقة, طبعا شفقتي هذه ليست فقط للمعاقين إنما أشفق, على الطير الطاير, هذا مثل عندنا كما يقولون.. فاشفق على العاصي وعن البعيد عن ربه ...
المهم في سؤالي حضرة الشيخ الفاضل, هل هذا قسوة قلب أن أصبحت لا أشفق كثيراً عليهم, ما دام الله عز وجل أرحم بهم مني, وأخاف أن أصبح مع الزمن قاسية القلب لا سمح الله, وهذا ما لا أتمناه أبداً أبداً، أخي أود أن أفهم أيضا.. كيف يتوافق هذا المنطق أننا كمؤمنين المفروض أن نتملك قلوبا رقيقة وشفافة ورحيمة وبين أن الله عز وجل أرحم بنا من أمهاتنا علينا, عندما أفكر في هذا المنطق حقيقة لا أستطيع أن أفهم.. لأنه عندما أحاول أن أفهمه, أخرج بنتيجة (حقاُ أرحم بنا من أمهاتنا علينا فلم هذه الشفقة) صدقني يا أخي أحيانا أقول في نفسي ربما الله عز وجل لا يرضى أن أبكي من أجل هؤلاء المعاقين أو غيرهم مما يثير الشفقة لأن هذا اعتراض على الله عز وجل وبصراحة أفكر لحظتها في نفسي وأقول, لم هذه الدموع؟ الله عز وجل يراهم وهو أعلم بهم مني هل أنا أشفق من الله عليهم, يا أخي أرجو ثم أرجو من الله تعالى أن توسع صدرك وتوضح لي مباشرة من عير إحالة لسؤال آخر؟ أسأل الله تعالى لكم التوفيق والسداد وإخلاص العمل لوجهه الكريم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو عندما يحكم ويقضي إنما يفعل ذلك عن علم وحكمة قد نعلمها وقد نجهلها، وما على المؤمن إلا أن يرضى ويسلم، والله جلت قدرته يبتلي عباده بما شاء من أنواع البلاء، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35} ، وعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، فإن كان العبد قائماً بأمر الله، متمسكاً بشرعه مستقيماً على دينه فيرجى أن يكون ما أصابه من مصائب رفعة له في الدرجات، ومثقلاً لموازين حسناته، ففي الحديث الشريف: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل ... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. رواه البخاري.
وإن كان العبد مقيماً على معصية الله مفرطاً في دينه لاهياً عابثاً، فقد تكون المصائب والآفات التي يبتلى بها تنبيها له من الله ليتوب ويرجع قبل فوات الأوان، وقد تكون عقوبة له في الدنيا نظير ظلمه لنفسه.. وعلى المسلم أن يعلم أن الابتلاء سنة الحياة، وكم من الناس لما ابتلي بالمرض رجع إلى الله وتضرع بين يديه، ولما رزقه الله الصحة تنكر لمولاه العظيم رب السموات والأرض وأقبل على المعاصي والسيئات.
ولا شك أن رحمتك وشفقتك على المبتلين أمر محمود فالرحمة من محاسن الأخلاق التي فطر الله عباده عليها، كما أن من علامات حياة القلب التفكير في الآخرين، والاهتمام بأمورهم، روى أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وروى أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
ولا حرج في بكائك عند رؤية من ابتلاه الله تعالى، ولكن يجب أن تحذري أن يكون في ذلك اعتراض على قدر الله عز وجل أو إيذاء للمبتلين.
وراجعي الفتاوى ذات الأرقام التالية: 35559، 13270، 13849، 69389، 93720، 103286.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
30 ذو القعدة 1429(9/4160)
علامات رضى العبد عن ربه وبما قسم الله له
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي علامات رضا العبد بما قسمه له الله - صبر العبد - حب الله للعبد؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من علامات رضى العبد بما قسم الله له شكره لله تعالى على ما هو فيه، واستشعاره لنعم الله عليه التي حرم منها غيره.
وأعظم نعمة ينبغي للعبد أن يشعر بها ويشكر الله عليها هي نعمة الهداية إلى هذا الدين العظيم الذي يسعد به صاحبه في الدارين.
ومنها صبر العبد على طاعة الله تعالى، وعن معصيته، وعلى ما يلاقيه من الأقدار المؤلمة في حياته اليومية.
ومنها حب الله تعالى وحب دينه ورسله وأوليائه والاستقامة على دينه.
فكل ذلك وما أشبهه علامات لرضى العبد عن ربه وبما قسم له.
وليس من الرضى بما قسم الله للعبد أن يخنع ولا يأخذ بالأسباب لتحسين حاله والسعي إلى الرفع من مستواه في مجالات الحياة.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
وللمزيد من الفائدة انظر الفتاوى: 20634، 32180، 9466.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو الحجة 1429(9/4161)
أثر الإيمان في حياة المؤمن
[السُّؤَالُ]
ـ[ما أثر الإيمان بالله تعالى في (حياتي- في الاستقرار النفسي- في القناعة بما قسم لي- في تقبل المصائب واحتساب أجرها عند الله- في الحرص على ما يرضي الله تعالى) ، أريد آية قرآنية على كل نقطة من النقاط السابقة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإيمان له أثر عظيم على المؤمن في حياته حيث يجد الحياة الطيبة لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97} ، ويجد الاستقرار النفسي وطمأنينة القلب، لقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {الرعد:28} .
كما يجد القناعة لعلمه أنه لا يصيبه إلا ما قدر الله له ويصبر ويحتسب عند المصيبة، كما قال الله تعالى: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا {التوبة:51} ، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ {التغابن:11} ، قال قتادة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وبالإيمان كذلك ينشط للطاعات ويحرص على محاب الله ومراضيه وذلك لإيمانه بما أعد الله للطائعين وما توعد به العصاة في الدنيا والآخرة، فقد ذكر الله تعالى أن المؤمن لا يستأذن في التخلف عن الجهاد وإنما يستأذن المنافق المرتاب، قال الله تعالى: لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ* إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ {التوبة:45} ..
وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18103، 19686، 6618.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ذو القعدة 1429(9/4162)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل تقبل مطلقا
[السُّؤَالُ]
ـ[شيخنا الفاضل كال الأعمال بين القبول وردها إلا الصلاة على النبي محمد هذه الجملة ينشد بها في الحفلات؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا لا نعلم دليلاً من نصوص الوحي يفيد ما ذكر في السؤال، وإنما المعلوم عندنا في الأدلة الشرعية أن جميع الأعمال لا تقبل إلا إذا توفر فيها شرطان وهما الإخلاص والمتابعة، ففي الحديث: إ ن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجهه. رواه النسائي وصححه الألباني.
وفي الحديث: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد. رواه مسلم.
فهذان الدليلان عامان في جميع الأعمال.. ويدخل فيهما عمل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ذو القعدة 1429(9/4163)
علاج داء الخوف من الحسد
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب عمري 31 سنة ومتزوج من فتاة من أسرة متوسطة ورزقني الله بطفل، مشكلتي هي تربية أبي وأمي على الخوف الشديد من الحسد لدرجة أن كل مكروه يصيبني، أرجع سببه إلى الحسد لدرجة خوفي الشديد من زوجتي أن تحسدني وأنا لا أجعلها على أي علم بأي من أموالي وأشعر بخوف شديد من زوجتي وأبيها وأمها؟ فما هو الحل، أرجو الرد على نفس البريد الالكتروني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه عقدة ينبغي أن تسعى في معالجتها، وأساسها من الشيطان يقذف الخوف بلا مسوغ في قلب المؤمن ليثبطه، ويبقى في هم وقلق واضطراب، فاستعذ بالله من نزغاته، واعتصم من غوايته ووساوسه بذكر الله وقراءة القران والتوكل على الله عز وجل.
واعلم أن المؤمن لا يصيبه إلا ما كتب له، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا {الحديد:22}
وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كبته الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
فإذا استحضرت ذلك ذهب عنك ما تجده من الخوف، لأنه لا يقدم ولا يؤخر، فتوكل على الله وداوم على أذكار الصباح والمساء وقراءة سورة البقرة وآية الكرسي والمعوذات، وأعرض عن تلك الوساوس والأوهام لئلا تؤدي بك إلى ما لا تحمد عاقبته، ولا حرج أن تذهب إلى طبيب نفسي تعرض عليه مشكلتك، فهي داء وما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتوى رقم: 55047، والفتوى رقم: 112069.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 ذو القعدة 1429(9/4164)
وجوب تبرئة ساحة المظلوم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة قد كنت أتكلم مع ولد معين وقد كنت مع علاقة به على الهاتف وعلى الانترنت وقد عرف والدي بهذا الأمر 3 مرات تقريبا وقد كنت أكلمه بهاتف الخادمة وهذه الخادمة هي بمثابة أختي العزيزة جداً جداً كانت معي من أول ما ولدت وأنا أحبها كثيرا ولكنها مسكينة لا تفهم في هذه الأشياء ولقد سببت مشاكل لها مع أهلي ومن الممكن أن يسفروها وأنا عشت طيلة حياتي وهي التي بجانبي ففكرت أنه اختبار وابتلاء من ربي الذي كنت أغضب والدي مني بسببه وأغضب ربي مني وعلمت أنني قد كنت مقصرة جداً مع الله وأنا ندمانة اشد الندم أنني كنت ظالمه نفسي باتباع أهواء الدنيا وقد تحدثت مع والدي لأخبرهم كل شي لأني أريد الله يرضى عني وصرت اعمل الطاعات دائما وأدعو أن تظل أختي في الله إلى جانبي دائماً أنصحها وتنصحني في طاعه الله عز وجل لكنني ضائعة فقد كنت بعيدة عن ربي كثيرا وأنا في حاجة ماسة لأن يرضى الله عني.
أريد أن أعرف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكربات وقضاء الحاجات وكيف أقرب نفسي من الله..
وشكرا. وجزاك الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أحسنت بالتوبة إلى الله وسلوك طريق الاستقامة، ونسأل الله تعالى أن يرضى عنك ويوفقك إلى كل خير. ونوصيك بالحرص على بر والديك والإحسان إليهما، واعلمي أن رحمة الله واسعة ومغفرته لا يتعاظمها ذنب، فثقي بالله تعالى وأحسني الظن به فهو القائل سبحانه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82} وإذا كنت قصرت في حق هذه الخادمة فيجب عليك استسماحها، وإذا كان تصرفك هو السبب في عزم والدك على فصلها من العمل، ولم يكن لها دخل مباشر فيما كان يحدث منك فالواجب عليك أن تخبري أباك بذلك، وأن تبرئي ساحة هذه الخادمة، ولا تخبريهما بتفاصيل ما كان يحصل بينك وبين هذا الشاب، فإن المذنب عليه أن يستر على نفسه ولا يفضحها بما كان يرتكب من معاص.
وقد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأدعية بخصوص المكروب، فراجعيها بالفتوى رقم: 9347، وذكرنا أيضا مجموعة من الادعية لمن أراد قضاء الحاجات فراجعيها بالفتوى رقم: 3570.
وعلى وجه العموم فإن القرب من الله تعالى ينال بالحرص على الطاعة والبعد عن المعاصي.
ولمعرفة شيء من التفاصيل بهذا الخصوص راجعي الفتاوى رقم: 27513، 20879، 10800.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ذو الحجة 1429(9/4165)
توبة من أقدم على الانتحار
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم توبة المنتحر إذا كانت بعد تناوله للسم مثلاً وقبل وفاته, هل تكون مقبولة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتوبة من أشرف على الموت ويئس من الحياة قطعا لا تقبل، وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 74868.
وجاء في الموسوعة الفقهية: إذا أخر المذنب التوبة إلى آخر حياته، فإن ظل آملا في الحياة غير يائس بحيث لا يعلم قطعا أن الموت يدركه لا محالة فتوبته مقبولة عند جمهور الفقهاء ...
وإن قطع الأمل من الحياة وكان في حالة اليأس -مشاهدة دلائل الموت- فاختلفوا فيه، فقال المالكية، وهو قول بعض الحنفية، ووجه عند الحنابلة، ورأي عند الشافعية، ونسب إلى مذهب الأشاعرة: إنه لا تقبل توبة اليائس الذي يشاهد دلائل الموت، بدليل قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ {النساء:18} ... ولقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل التوبة ما لم يغرغر. وهذا يدل على أنه يشترط لصحة التوبة صدورها قبل الغرغرة، وهي حالة اليأس وبلوغ الروح الحلقوم، وقد سبق بيان المقصود بالغرغرة في الفتوى رقم: 36241.
وعليه، فمن تناول سما وأيقن بالموت فلا تقبل توبته إن تاب في هذه الحال، بخلاف من أدركوه وأسعفوه فأمَّل الحياة ولم يتيقن الموت وتاب، فهذا إن حقق شروط التوبة التي سلف ذكرها في الفتوى رقم: 29785، قبلت توبته.
ونود التنبيه على أن المنتحر رغم اقترافه هذه الكبيرة الشنيعة، فإنه ليس بكافر، بل يموت موحدا وتجرى عليه أحكام المسلمين، فيصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويشرع الدعاء له والاستغفار، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 12658، 5671.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 ذو القعدة 1429(9/4166)
تبرج المرأة لا يسوغ تعمد النظر إليها
[السُّؤَالُ]
ـ[كان عندنا جارة تخرج أمام دارها بلباس منتشر هذه الأيام من النوع الذي يكشف أكتافها وأعلى ظهرها وصدرها وكانت مائلة للبياض وكنت أنظر إليها عندما تخرج ثم قررت الإقلاع عن ذلك ثم أتتني أفكار إن كانت هي لا تبالي فلماذا أحترمها أنا وعدت قليلا ثم قررت أن أتبع الآية (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى)
أظن أن الآية تنطبق علي بحذافيرها (لا تمدن عينيك) وأنا كنت أنظر إليها (زهرة الحياة الدنيا) معنى شامل يشمل المرأة (لنفتنهم فيه) ما دام زوجها رضي بها فهو مفتون وبعيد عن الله.
هل هذا التفكير صحيح؟ هل أستبشر ببقية الآية حول رزق من الله خير وأبقى؟ هل في الدنيا والآخرة أم الآخرة فقط؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {النور:30} وقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً {الإسراء:32} ، وعدم قربانه إنما يكون بترك ما يفضي إليه وقطع أسبابه من النظر المحرم والخلوة والخضوع بالقول وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: العينان تزينان وزناهما النظر ... فكان الواجب عليك أن تغض بصرك عن تلك المرآة المتبرجة فإن سفورها وعدم التزامها بما يجب عليها شرعا لا يبيح لك تعمد النظر إليها، فتب إلى الله عز وجل مما وقعت فيه، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق:2ـ3} .
وتنزيل الآية المذكورة على حالتك صحيح فالمرأة من زهرة الدنيا ومتاعها، وقد يكون زوجها رزقها فتنة له، فلا ينبغي التطلع إليها أو إلى غيرها مما رزقه الله لبعض عباده من متاع الحياة الدنيا؛ لأن ذلك مؤد إلى ازدراء نعمة الله على العبد وتسخطه من القضاء والقدر؛ ولذا قال أهل العلم: انظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا لتشكر نعم الله عليك، وانظر إلى من هو فوقك في العبادة لئلا يصيبك العجب بعبادتك، ولكي تزيد من الطاعات والقربات، وأصل ذلك من الأثر قوله صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم. في المسند والسنن.
وذكر الطبري في تفسيره أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره وذكر هذه الآية: ولا تمدن عينيك....الآية.
وقال الشوكاني في تفسيره لتلك الآية: إن الله تعالى لما بين لرسوله صلى الله عليه سلم ما أنعم به عليه من هذه النعم الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة وأمره أن لا يطمح ببصره إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمن لها، وقول الله تعالى: ورزق ربك خير وأبقى. يشمل نعم الدنيا والآخرة؛ ولذا فسرها المفسرون بذلك، وبذلك قال بعضهم المقصود كتاب الله عز وجل الذي آتاه الله لنبيه والأولى حمل الآية على شمولها وعمومها لما رزقه عبده وينعم به عليه من نعم في الدنيا والآخرة.
فعلى العبد أن يبتغي ما عنده، ويشكر ما آتاه، ويسأله من فضله المزيد، ولا يتطلع إلى ما عند غيره تطلع تمن أو حسد. وللمزيد انظر الفتاوى رقم: 19676، 30630، 38409
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 ذو القعدة 1429(9/4167)
تلمس أسباب الفتور والعمل على تداركها
[السُّؤَالُ]
ـ[أتمنى منكم أن تفيدوني بأسرع وقت لأني لم أعد أحتمل.. أنا فتاة ملتزمة والحمد لله منذ سنتين تقريبا وفي أول سنة من الالتزام كنت كما يقال أطير فوق السحاب من شدة الفرح وتغيرت معاملتي للناس وأصبحت أحاول جاهدة أن أتبع أخلاق الرسول في التعامل وحرصت على النوافل وبدأت أحفظ القرآن ولكنني الآن في حالة متدهورة أكاد أبكي بدأت الوساوس تنتابني حتى عند مناجاتي لحبيب قلبي وخالقي وأنا أحاول جاهدة أن أتغلب عليها أصبحت عندما أرتكب ذنبا أقول في نفسي أنه ليس ذنبا وأن الله سيغفر لي وأنني أحسن من أناس كثيرين وأصبحت عصبية، أصبحت أتفه كل ذنب أعمله وأحسه صغيراً مقارنة بالآخرين وأقول في نفسي أن رحمة الله واسعة وأنه سيغفر لي لم أعد أحفظ القرآن ولا أصلي النوافل بل حتى الفرائض أصبحت لا أخشع فيها، ولكني أقاوم كل هذا أقاوم لأني أحب الله ولا أريد أن أخسر محبته أحبه جداً وأنا أكتب هذه الكلمات عيناي تدمع ويكاد قلبي يتفطر أرجوكم أن تساعدوني ماذا أفعل لكي أحس بلذة وحلاوة مناجاة الله مرة أخرى لأنه من يشعر بها مرة لا يستطيع أن ينساها، فأرجوكم أدعو الله لي وأفيدوني أفادكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي أنك على خير ما دام قلبك يحس بوجود شيء من التقصير ويؤنبك على ذلك، فإن القلب الميت لا يحس بألم التقصير، وقد صدق من قال: وما لجرح بميت إيلام ...
وننصحك أولاً بالتماس الأسباب التي دعت إلى تغير الحال، فقد تكون معصية وقعت فيها فتحت أبواباً من الشر على نفسك فضعفت همتك وأقعدتك عن طلب المعالي، أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن وضيقاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق. انتهى.
وقد تكونين قد شددت على نفسك ولم توازني بين حاجة الروح وحاجة الجسد فحصل لك شيء من الملل، وقد يوجد غير ذلك من الأسباب وأنت أدرى بحالك، فالمقصود أن تلتمسي هذه الأسباب فتعملي على تداركها وإزالتها، وهذا من باب التخلية قبل التحلية.. ثم عليك بعد ذلك بالإقبال على نفسك واستكمال فضائلها، وستجدين نفسك قد عدت إلى سيرتك الأولى نشاطاً في الطاعة وحرصاً على العبادة.
وللمزيد من الفائدة راجعي الفتاوى ذات الأرقام التالية: 17666، 2783، 111852، 10800.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 ذو القعدة 1429(9/4168)
العفو أبلغ أم المغفرة
[السُّؤَالُ]
ـ[أعرف أن العفو أشمل من المغفرة، فالعفو هو محو الذنب أصلاً من صحيفة الإنسان، فهل من الممكن معرفة العمل والقول المطلوبان لرجاء عفو الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الفرق الذي ذكره السائل قال به بعض أهل العلم، منهم الغزالي ولفظه في المقصد الأسنى.: الغفران ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر.
وقال محمد منير الدمشقي في الإتحافات السنية: العفو في حق الله تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم، لئلا يخجلوا عند تذكيرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، والعفو أبلغ من المغفرة، لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو، والمحو أبلغ من الستر.
وقد عكس هذا التفريق بعض أهل العلم فجعلوا المغفرة أبلغ من العفو، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري حيث فرق بينهما بأن العفو: ترك العقاب على الذنب، والمغفرة: تغطية الذنب بإيجاب المثوبة. ولذلك كثرت المغفرة من صفات الله تعالى دون صفات العباد، فلا يقال: أستغفر السلطان، كما يقال: أستغفر الله. الفروق اللغوية ... وكذلك الكفوي حيث قال في الكليات: الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثواب، ولا يستحقه إلا المؤمن، ولا يستعمل إلا في الباري تعالى، والعفو يقتضي إسقاط اللوم والذم ولا يقتضي نيل الثواب، ويستعمل في العبد أيضاً كالتكفير، حيث يقال: كفر عن يمينه. .
وقال ابن جزي في قوله تعالى: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا: ألفاظ متقاربة المعنى، وبينها من الفرق أن العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام. التسهيل لعلوم التنزيل..
وفرق الرازي بينهما عند هذه الآية: بأن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو، وإذا عفوت عني فاستره علي، فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، والأول هو العذاب الجسماني، والثاني هو العذاب الروحاني. تفسير الرازي ... تبعه على ذلك جماعة من المفسرين كالنيسابوري والخازن وابن عادل.
وعلى أية حال فالظاهر أن مراد السائل معرفة ما يترتب عليه محو الذنوب من صحيفة الأعمال أصلاً، وهذا محل نظر.. فإن عمومات الأدلة تقضي بأن كل أعمال الإنسان سيجدها في صحيفته يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ {آل عمران:30} .
وقال سبحانه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا {الإسراء:13-14} .
وقال عز وجل: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {الزلزلة:7-8} ، قال مقاتل: يره يوم القيامة في كتابه. تفسير مقاتل.
وقال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيئاته. تفسير البغوي.
وقال السعدي: هذا شامل عام للخير والشر كله، لأنه إذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء، وجوزي عليها، فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ. وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) . تفسير السعدي.
على أننا إذا قلنا إن سيئات المؤمن لا تمحى من صحيفته وأنها تعرض عليه كلها أو بعضها يوم القيامة، فإن ذلك لا يضره، وهذا هو الحساب اليسير، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك. متفق عليه.
وهذ العرض لا يترتب عليه فضيحة بين الخلائق يوم القيامة، بل هو لإظهار فضل الله على عبده بالستر في الدنيا والمغفرة في الآخرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته. متفق عليه.
وبهذا يتبين لنا أن الأعمال كلها تعرض يوم القيامة، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 16989.
وقد يؤول هذا العرض إلى تبديل السيئات حسنات، كما في حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم: لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. رواه مسلم.
قال ابن مفلح: تبديل السيئات حسنات بالتوبة، هل ذلك في الدنيا فقط بالطاعات أم في الدنيا والآخرة؟ للمفسرين قولان، والثاني اختاره الشيخ تقي الدين لظاهر آية الفرقان، ولحديث أبي ذر في الرجل الذي تعرض عليه صغار ذنوبه وتبدل ... وهذا الرجل المراد بخروجه من النار الورود العام. الآداب الشرعية.
وقد تعرض ابن القيم لهذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابيه (طريق الهجرتين ومدارج السالكين) ... وإن كان شيء يترتب عليه محو السيئات من صحائف الأعمال فهو التوبة الصادقة والأعمال الصالحة.
أما التوبة فقد سبق بيان أن العبد إذا تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً مستوفية لشروطها تاب الله تعالى عليه ومحا سيئاته وبدلها حسنات، وذلك في الفتوى رقم: 54018.
ومما يؤيد ذلك أن قوله تعالى: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء {الرعد:39} ، قد قيل في تفسيره: يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها، ذكره البيضاوي وأبو السعود وهذا نسبه ابن الجوزي لعكرمة بلفظ: يمحو ما يشاء بالتوبة ويثبت مكانها حسنات. زاد المسير.
وأما الأعمال الصالحة فيدل لها قوله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجا ... إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. رواه مسلم.
قال القاضي عياض: محو الخطايا كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ويكون دليلاً على غفرانها. شرح النووي على مسلم.
وتبعه على ذلك الطيبي في مرقاة المفاتيح، والباجي، وقد جمع الله عز وجل بين التوبة والعمل الصالح في قوله تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الفرقان:70} ، فقيل في تفسيره: يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات. ذكره الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود والنسفي. كما سبق بيان عظيم فضل الله وسعة رحمته وأنها تسع كل شيء، وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 33975، 17343، 104184.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 ذو القعدة 1429(9/4169)
التوبة والاجتهاد في العبادة وطلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[الإخوة الكرام..... جزاكم الله خيراً أريد من حضراتكم برنامجا عمليا للتوبة، وتنظيم الوقت لأداء العبادات أريد من حضراتكم برنامجا لطلب العلم فى فروع -العقيدة- الفقه- التربية والرقائق؟ جزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن التوبة إلى الله تعالى فرض على العبد.. والواجب عليه المبادرة إليها، وقد وعد الله تعالى عباده المسرفين على أنفسهم إذا عادوا إليه وتابوا من ذنوبهم بمغفرة جميعها، فقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُون {الزمر:53-54} ، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة:222} ، وقد بينا شروط التوبة وما يتعلق بها في الفتوى رقم: 5450، فنرجو أن تطلع عليها.
وأما أوقات العبادة (المفروض منها والتطوع) فقد حددها الله تعالى ونظمها في محكم كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فبين أوقات الصلاة والزكاة والصوم ... مع أن حياة المسلم كلها ينبغي أن تكون عبادة لله التي من أجلها خلق، كما وصف تعالى أولي الألباب بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران:191} ، وكما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {الأنعام:162} ، وللمزيد من الفائدة انظر الفتوى رقم: 5549.
وفيما يخص برنامج طلب العلم فالأفضل أن تبدأ بالمختصرات والمبادئ الأولية لكل فن تريد أن تدرسه، ففي مجال العقيدة مثلاً تبدأ بكتاب الإيمان للدكتور محمد نعيم ياسين أو ما أشبهه، وفي الفقه تبدأ بكتاب منار السبيل في فروع المذهب الحنبلي أو ما يماثله من كتب الفقه في المذاهب الأخرى، وفي مجال التربية والرقائق تبدأ بكتاب مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي وهو مختصر لكتاب ابن الجوزي الذي اختصر به كتاب الإحياء للغزالي، وللمزيد من الفائدة والتفصيل انظر الفتوى رقم: 57232.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 ذو القعدة 1429(9/4170)
تذكر الموت والخوف منه
[السُّؤَالُ]
ـ[الخوف من الموت لدرجة اليأس من الحياة وعدم الجلوس في البيت لوحدي حيث إني لاحظت أنه مس من الشيطان لكونه يحاول أن يبعدني عن الصلاة وقراءة القرآن. وعلاجه عن طريق أنهم قالوا لي إن سورة الملك إذا قرأتها لم أمت في يومي مع علمي التام أنه عندما يشاء الله قبض روحي سوف ينسيني إياها.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الخوف من الموت ينبغي أن يكون حافزا للاستعداد للآخرة والإكثار من الطاعات، والبدار بالتوبة، والزهد في الدنيا.
وأما أنه يبعد عن الصلاة وتلاوة القرآن فهذا يدل على أن هناك شيئا آخر غير ذكر الموت يثبط عن الطاعة.
وأما العلاج بقراءة سورة الملك فلا نعلم دليلا يدل عليه، وقد ورد فضل سورة الملك في عدة أحاديث وليس فيها ما ذكر.
وننصحك بالاستعاذة من وساوس الشيطان، ومصاحبة الأخوات المستقيمات، وكثرة المطالعة في كتب الترغيب والترهيب والرقائق وسير السلف، وأيقني أن الموت إذا جاء لا يتأخر. واحرصي على تذكر الموت، فتذكره مهم جدا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات - الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه. رواه الب يهقي وحسنه الألباني.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 29469، 11500، 46471، 57104، 104070.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 ذو القعدة 1429(9/4171)
تاب وهو يظن أن الله لا يقبل توبته
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب ضحكت على فتاة فهمتها أني أحبها وهى أحبتني وعلى هذا الأساس مكنتني من لمسها لكن لم يحدث زنا. أنا استغفرت ربنا ولكن حاسس إن ربنا غير قابل استغفاري وهي كل ما ترانى تقولى حسبى الله ونعم الوكيل فيك.
ماذا أفعل كي يغفر الله لي ويقبل توبتي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أسأت وظلمت نفسك وغيرك بهذا الفعل، واتبعت خطوات الشيطان الذي كاد أن يهلكك بالوقوع في الزنا، لولا أن تداركتك رحمة الله، وما فعلته هو من مقدمات الزنا، وقد جاء في الحديث تسميته زنا، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما السماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه.
وكفارة ذلك جميعاً بالتوبة النصوح إلى الله تعالى والإكثار من الأعمال الصالحة، والاستغفار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار {التحريم:8} . والتوبة النصوح هي التوبة الصادقة التي تحققت فيها شروط التوبة النصوح.
وأولها: الإقلاع عن الذنب، وترك المعصية حالا إن كان الشخص متلبسا بها، ثم أن يندم على ما صدر منه، وأن يعزم عزما صادقا وينوي نية خالصة ألا يعود إلى الذنب فيما بقي من عمره.
ويشترط لقبول التوبة أن تكون قبل الغرغرة.. أي قبل ظهور علامات الموت، وأن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها.
قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات {هود:114} . وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً {الفرقان:68} . وقال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً {الفرقان:70} ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.
هذه هي كفارة جميع الذنوب مع الإكثار من أعمال البر والنوافل.
ثم بعد التوبة والاستغفار ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بمولاه فيظن أن الله قد تقبل توبته، لأن من تاب وهو يظن أن الله رد توبته فقد أساء الظن بربه، وسوء الظن بالله من كبائر الذنوب المهلكة، قال تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {البقرة: 195} جاء في تفسير ابن كثير: عن النعمان بن بشير في قوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر لي، فأنزل الله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ رواه ابن مَرْدويه.اهـ
وجاء فيه أيضا عن جماعة من السلف: إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي: يستكثر من الذنوب فيهلك. انتهى.
فإن أمكنك الزواج من هذه الفتاة بعد أن تتوبا الى الله توبة صادقة فلا بأس بذلك، خصوصا وأنت قد وعدتها بذلك، وأما إذا لم يمكنك الزواج بها فاقطع علاقتك بها بكل طريق.
وننصحك في النهاية بالمسارعة إلى الزواج، وصحبة أهل الخير. وللفائدة تراجع الفتاوى رقم: 5779، 58166، 111728.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 ذو القعدة 1429(9/4172)
الخير في اتباع السنة والاستقامة على الطاعة
[السُّؤَالُ]
ـ[عند شربي فنجان القهوة والانتهاء منه تظهر كلمة الله بالفنجان فما تفسير ذلك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه ليس عندنا ما يمكن الجزم به في هذا الأمر إلا أنا ننصحك بالحرص على ذكر الله وتلاوة القرآن بالتدبر وكثرة التأمل في آيات الله الكونية والحرص على الاستقامة على الطاعة واتباع السنة، ونرجو أن يكون ما يظهر لك إن كان ثابتا علامة خير، ولكن الخير كل الخير يكمن في الاستقامة على طاعة الله وتعلم وتعليم دينه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 ذو القعدة 1429(9/4173)
تقوم الليل وعند الفجر تشم المسك الذي غسل به زوجها
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو الإجابة على هذه الحالة والتي سألت عنها: أم تصلي قيام الليل، وزوجها متوفى، ولما تصلي صلاة الفجر تشم رائحة المسك كالذي كان يغطي زوجها لما غسل قبل الدفن وقد لاحظ هذا الشيء حتى أولادها، فما قولكم بارك الله بكم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يرحم الوالد، ويحسن عزاءكم فيه، ويتقبل من الأم صالح عملها. وأما الرائحة التي تشم عند الفجر فليس عندنا شيء في معرفة سببها، ونرجو أن يكون علامة خير للأم ولزوجها، وننصحكم بالمواظبة على الطاعات والتمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن التوفيق للطاعة هو أعظم كرامة يحصل عليها العبد بل إن ذلك كان الكرامة المميزة للصحابة فلم تكن همتهم منصرفة إلى تحصيل الكرامات الخارقة.
كما قال الناظم: وصحب المصطفي لا يتشوفون للكرامة بل قصدهم لنيل الاستقامة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
14 ذو القعدة 1429(9/4174)
الصابر ينال من الله تعالى خيرا كثيرا
[السُّؤَالُ]
ـ[والله المشكلة عندي أنه أي شيء أقدم عليه يتيسر وعندما آتي للمباشرة به يتعسر.يعني بالمثل....تصل اللقمة للفم وتروح ... ما الحل وهل هناك من شيء أقدم عليه لكي تثبت هذه اللقمة والله أنا جدا يئست من الذي يحصل معي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري إن كان هذا الأمر على حقيقته نعني ما ذكرت من عدم دخول اللقمة في فمك عندما تريد وضعها فيه، أم أنك ذكرته على سبيل المبالغة على تعسر بعض الأمور عندك. فإن كان الأمر على حقيقته فلا شك أن هذا شيء غير عادي، وليس من المستبعد أن يكون هنالك شيء من العين أو السحر ونحوهما، فإذا غلب على ظنك وجود شيء من ذلك فعليك بالرقية الشرعية، وإن احتجت إلى أن يرقيك غيرك من أهل الاستقامة فلا بأس، ويجب الحذر من إتيان الكهنة والعرافين. وانظر الفتوى رقم: 25308، 1858.
وأما إن قصدت أنك قد لا تتيسر لك بعض الأمور فننصحك أولا بالصبر وعدم الجزع، وأن تتذكر أن كل شيء كائن بقضاء الله وقدره، فإن هذا مما يعينك على الصبر والتعلق بالله تعالى والتضرع إليه، وعليك أن تتذكر ما يسر الله لك من أمور، فقد تكون أحيانا أضعاف ما فاتك، ثم إنه ما يدريك فقد يعلم الله تعالى أن الخير لك في حرمانك من هذا الشيء الذي تتمناه وأنه لو أعطاكه ربما كان سببا في هلاكك أو هلاك بعض أهلك.
وحاصل الأمر أننا ننصحك بالصبر فإذا صبرت نلت من الله تعالى خيرا كثيرا. وعليك بالإكثار من دعاء الله تعالى، ولا سيما بالأدعية التي تناسب الحال وهي أدعية تيسير الأمور وتجاوز الصعاب، وقد ذكرنا جملة منها بالفتوى رقم: 27048.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 ذو القعدة 1429(9/4175)
من أقبل على ربه أقبل الله عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أحس براحة وإيمان قوي سرعان ما تبدل فبدأت وساوس الشيطان تجري في جسدي وبدا ذلك حين دخلت لكي أستحم أحسست بحرارة تصعد في جسدي قبل رمضان مند ذلك بدأت أحس بخوف وصداع في رأسي وبرجفة في ركبتي لا أعرف ما السبب هل هو كثرة الذنوب أم هي عين ضربتني أقسم أنني ابتعدت الآن عن كل ما أحسه سيغضب ربي لكن لا زلت أحس بقلة الإيمان وبوساوس تحاول ما أمكن إبعادي، ادع لي بالتوبة النصوح؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك في أن قلة الإيمان والبعد عن الله عز وجل أثر من آثار الذنوب والمعاصي بل هو من أخطر آثارها كما بين ابن القيم في الداء والدواء.
وقد قال بعض السلف: إن من علامة الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها. وشاهد ذلك في القرآن فإن الله تعالى قال: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلوبَهُم {الصف:5} . وانظري الفتويين: 41620 , 41594.
ولذا فالواجب على كل من شعر بقسوة في قلبه أو قلة في إيمانه أن يتدارك ذلك بتوبة عاجلة واستكثار من الحسنات الماحية، وليثق بأنه متى أقبل على ربه فإن الله سيقربه إليه ويبدله بالقسوة لينا وبالبعد قربا.
وفي الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري في صحيحه: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذ بي لأعيذنه.
وفي البخاري أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي يرويه عن ربه: إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا, وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا, وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة.
وقد قال تعالى محذراً من الغفلة وداعياً عباده إلى الإقبال عليه والإنابة إليه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {الحديد: 16} .
ولا تطلب الراحة والسعادة إلا في مرضاة الله تعالى, فعلى العبد أن يثق بموعود الله وأن يعلق قلبه به، وأما الوساوس فسبيل علاجها هو مدافعتها والإعراض عنها وألا يلتفت العبد إليها لكي لا تفسد عليه دنياه وآخرته, وإذا أصاب العبد مرض عضوي كصداع أو نحوه فالذي ينبغي له أن يتداوى بالأدوية المشروعة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتداوي وحث عليه. وذلك بالذهاب إلى الأطباء الثقات واستعمال الرقى النافعة مما ثبت في الكتاب والسنة.
ونحب أن ننوه هنا على أن الحسد ثابت قطعاً بدلالة الكتاب والسنة التي لا ريب فيها, وليس معنى هذا أن يعلق الإنسان كل ما يحصل له من مكروه على العين بل لا بد من وضع الأشياء في إطارها الشرعي دون غلوٍ أو جفاء ودون إفراطٍ أو تفريط.
ونسأل الله أن يرزقنا وإياك توبة نصوحا وأن يهدينا وإياك سواء السبيل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
13 ذو القعدة 1429(9/4176)
الفرق بين الإخلاص والرياء وعاقبة كل منهما
[السُّؤَالُ]
ـ[ما أوجه الاختلاف بين الإخلاص والرياء؟
وما نتيجة الإخلاص والرياء؟
جزاكم الله ألف خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالفرق بين الإخلاص والرياء كالفرق بين النهار والليل، والنور والظلمة، فالاختلاف بينهما ظاهر، وهو يرجع للاختلاف في مقاصد العمل ودوافعه.
فالإخلاص هو تجريد القصد من وراء العمل لإرادة وجه الله تعالى والدار الآخرة، فإن خالط هذا القصد شيء من شوائب الدنيا كأن يعمل العمل ليراه الناس فيحمدوه أو يعظموه أو ينفعوه فهو الرياء، وهو نوع من الشرك الأصغر.
وعلى هذا الخلاف في أصل العمل إخلاصاً ورياءً، يكون اختلاف النتائج والآثار قبولاً ورداً، فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه.
وقد ضرب الله مثلا رائعا لبيان الفرق بين آثار الإخلاص والرياء وعاقبة كل منهما، فقال تعالى في مثل المرائي: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِ ينَ {البقرة: 264} قال السعدي: كذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا {لا يقدرون على شيء} من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية. اهـ.
ثم ذكرت الآية بعدها مثل المخلص فقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. {البقرة: 265} .
وقد سبق لنا بيان حقيقة الإخلاص وبواعثه وثمراته، وحقيقة الرياء وآثاره وكيفية علاجه، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10396، 8523، 7515، 10992.
وكذلك سبق بيان خلاصة ما ذكره العلماء في أثر الرياء على العمل الصالح في الفتويين: 13997، 49482.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 ذو القعدة 1429(9/4177)
مدى أثر قراءة آيات السكينة على اطمئنان القلب وسكونه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مدى صحة قول إن آيات السكينة الست أو السبع تجلب لقارئها السكينة، وأين مواقع هذه الآيات في سور القرآن الكريم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لم يثبت نص من نصوص الوحي في هذا الوعد المذكور، وإنما يحكى عن بعض العلماء تجربة في ذلك، قال ابن القيم في المدارج: وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:
الأول: قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ.
الثاني: قوله تعالى: ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
الثالث: قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا.
الرابع: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
الخامس: قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا.
السادس: قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها -من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة- قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة، وقد جربت أنا أيضاً قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته.
ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رؤوسهم، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار، لا يلوي أحد منهم على أحد. وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس، وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها -وهو عمر- حتى ثبته الله بالصديق رضي الله عنه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 ذو القعدة 1429(9/4178)
النصيحة لمن يعصي الله إذا كان خاليا
[السُّؤَالُ]
ـ[الرجاء مساعدتي يا أمل الأمة، أنا شاب عمري 18 سنة فى الجامعة والحمد لله أنا شاب ملتزم بفضل الله، ولكن أحيانا كثيرة حينما ينصرف الناس وأبقى وحدي فى الشقة وأكون عندي إجازة من الدراسة هذا اليوم يوسوس لي الشيطان بأن أقوم بأفعال منكرة ويشتد الوسواس فأتلو كتاب الله وأجاهد هذا المنكر ولكن سرعان ما أكون طعما لهذا الشيطان اللعين وأبكي بكاء مريراً من فعلى لهذه الأفعال وأحفظ والحمد لله 10 أجزاء، ولكن هذا لا يكفي وأريد أن أستمر فى التلاوة والحفظ فكيف السبيل في الثبات على الطريق القويم طريق الله المستقيم، والدي مسافر وأمي معه خارج مصر، فكيف أشغل وقت فراغي كي أنتهي من هذا العذاب لأن هذا الموقف يتكرر كثيراً معي.. أدعوا لي بالثبات أنار الله طريقكم ووفقككم لما فيه خير للأمه الإسلامية وسعادة لها باتباع نبيها ورسولها صلى الله عليه وسلم وبارك الله فيكم ونفع الله تعالى بكم فلا أجد سوى الله ونصائحكم الطيبه ودعائكم لي جزاكم الله خيراً؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نسأل الله أن يشرح صدرك وأن يثبتك على ما يحب ويرضى، وأن يجنبك الزلل ومظلات الفتن، واعلم أخي الكريم أن مخافة الله ومراقبته والاستحياء منه هي التي تعصم العبد من الزلل، وهي التي تفوز بها برضوان الله وجنته، وهذا هو مقام الإحسان الذي سئُل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ... أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. متفق عليه.
فاحذر أخي الكريم أن تتبدل عن هذا المقام الرفيع السامي، بمقام من يتحقق فيهم قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا {النساء:108} ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
وأما ما ذكرت من المعاصي في الخلوة فهذه من نزغات الشيطان وفعل النفس الأمارة بالسوء، فبادر بالتوبة والاستغفار، ولا تيأس من روح الله، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
قال النووي: (اعمل ما شئت فقد غفرت لك) معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك، وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها. انتهى.
فليس الإشكال في وقوع الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. رواه مسلم. فالمهم أن يبادر العاصي إلى التوبة وأن تسوءه سيئته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من عمل حسنة فسر بها وعمل سيئة فساءته فهو مؤمن. رواه أحمد وصححه الألباني.
ومما يتأكد عليك فعله أن تتبع السيئة الحسنة حتى تمحوها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، وأحمد وحسنه الألباني.
قال ابن تيمية: وأتبع السيئة الحسنة تمحها فإن الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضراً أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. انتهى.
فالمصيبة أن يتابع العبد بين السيئات دون توبة واستغفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ. رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وابن ماجه وأحمد وحسنه الألباني.
وقد سبق ذلك في الفتوى رقم: 111852، كما سبق بيان وسائل تقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة وذكر نصائح لاجتناب المعاصي وبيان شروط التوبة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 1208، 93700، 5450.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 ذو القعدة 1429(9/4179)
أمور تعين على ترك المعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعيش عيشة فيها قلب حي يحس بطعم الحياة مللت وزهقت وتمنيت الموت كثيرا-مع علمي بحرمة ذلك ولكن ... - السبب حياتي بصورتين كنت في الماضي غلاما يحب المسجد وحياته في المسجد مع القرآن والقيام والحفظ. المعاصي كانت قليلة الفعل عندي لقوة قلبي وإحساسي بالخوف من الله حتى أصابني فعل العادة السرية ومتابعة الأفلام الإباحية مع علمي بحرمتها حتى أصبحت عندي مثل شربة الماء أصلي الصلاة وبعدها أفعل المعصية لا فرق بين أن أصلي وأفعل المعصية وكنت تأتيني نوبات الرجوع إلى الله ولكنها لا تدوم طويلا أتابع التلفاز وأرى النساء وأفعل، الآن أنا متزوج ولكني ما زلت أفعل ذلك ولكن بشكل قليل ولكني أريد الخلاص حياتي ملل الناس تنظر لي جيراني واهلي واحبابي أني الشيخ فلان صاحب الصوت الجميل والقراءة العذبة المتقنة ولا يعرفون من سوء حالي شيئا لا أستطيع قيام الليل ولا قراءة القرآن ولا الذكر أحس بإحساس غريب عندما أذكر الله كأن قلبي يعتصر من شيء ما فلا أرتاح حتى أترك الذكر هكذا أحس قد يكون شعورا كاذبا لا أدري ومع ذلك تمر علي أوقات أتذكر فيها الأيام الحلوة بذكر الله ولكن لا تدوم طويلا.
والله مللت أقسم بالله أن الموت عندي أفضل من الحياة لأني لن أتغير. أرجو حل مشكلتي بارك الله فيكم؟ للعلم عمري بحدود 30 سنة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإننا ندعو الله لك بكل صدق وإخلاص أن يعمر قلبك بالإيمان، وأن يرزقك توبة صادقة تتوب بها إلى ربك الرحمن. ونبشرك بأنك ما دمت صاحب قلب حي يحس بألم المعصية ويستشعر خطرها فأنت على خير، وننصحك ببعض الأمور:
أولا: كثرة الدعاء، فإذا أعانك الله تعالى سهل عليك ترك هذه المعاصي.
ثانيا: صدق العزيمة، فإذا صدقت الله تعالى صدقك.
ثالثا: حسن الظن بالله تعالى وعدم اليأس من التوفيق إلى التوبة.
رابعا: أن تتذكر خطر وشؤم المعصية، وأنها قد تؤدي إلى كثير من العواقب السيئة في دين المرء ودنياه.
خامسا: أن تستحضر اطلاع الله تعالى عليك، وكتابة كل صغيرة وكبيرة عملتها، وأن تتذكرالموت والوقوف بين يدي الله تعالى للحساب.
سادسا: مصاحبة أهل الخير، وشغل وقتك بما ينفعك في دينك ودنياك.
سابعا: أن تشكر الله تعالى على ما أنعم به عليك من نعمة الستر، وأن تخشى أن يسخط الله عليك فيفضحك بين خلقه في الدنيا قبل الآخرة.
وليس هنالك ما يدعوك إلى تمني الموت، بل ولا يجوز لك أن تفعل ذلك، وكيف تفعل ما تعلم حرمته، فالمصيبة حينئذ أعظم، وقد صدق من قال:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وأما شعورك بهذا الإحساس الغريب عند الذكر فقد يكون مدخلا من الشيطان ليصدك عن ذكر الله، فلا شك أنه يغيظه أن يراك على هذا الخير، فلا ينبغي أن تستجيب له، بل عليك الاستمرار في الذكر.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 ذو القعدة 1429(9/4180)
التوبة وفعل الصالحات وترك القنوط من رحمة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[ذنوبى كثيرة كما أنني تربيت من حرام وأنا الآن حالتي لا تسر لا عدوا ولا حبيبا والحمد لله على كل حال، فلا علم حصلت عليه ولا عمل يعينني على الدنيا ولا حتى صحة وأدعو الله العلي القدير أن يمن علي بزوج صالح يصلح به أحوالي، فهل أمنع الزوج الصالح بسوء ما عندي وأهلي؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجب على من عظمت ذنوبه وكثرة أوزاره أولاً أن يبادر بالتوبة إلى مولاه، فالله سبحانه واسع المغفرة يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وقد وعد سبحانه من تاب وآمن وعمل صالحاً بقبول توبته والتجاوز عن سيئاته، بل وتبديل سيئاته إلى حسنات، قال الله تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الفرقان:70} ، وقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني: قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة.
فعليك أن تلزمي التوبة، وأن تكثري من الأعمال الصالحة، وأن لا تقنطي من رحمة الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، والذي كتب على نفسه الرحمة، والذي سبقت رحمته غضبه، واعلمي أن القنوط واليأس من رحمة الله من الكبائر، وهو أشد وأعظم من الذنب نفسه، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87} ، وقال تعالى: قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ {الحجر:56} .
أما بالنسبة للزوج الصالح فأكثري من الدعاء أن يرزقك الله به فالله سبحانه غني كريم يجيب دعوة السائلين، قال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {غافر:60} ، وخزائن السماوات والأرض بيده سبحانه، وهو على كل شيء قدير، لكن عليك أن تعلمي أيتها السائلة أن الاستقامة على أمر الله سبحانه من أعظم أسباب إجابة الدعاء، ولذا قال سبحانه: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ {الشورى:26} ، قال ابن كثير: قال السدي: يعني يستجيب لهم، وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب الدعاء لهم (لأنفسهم) ولأصحابهم وإخوانهم. انتهى، وللفائدة في الموضوع تراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 104520، 104444، 94029.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
09 ذو القعدة 1429(9/4181)
الرحمة في أطواء البلاء
[السُّؤَالُ]
ـ[حكم وفاة 3 إخوة وأخت بحوادث مفجعة بفترة قصيرة والكل في مقتبل العمر أنا في حيرة كبيرة صحيح الأمر لله تعالى لا ريب فيه ولكن خلقت أعجوبة كبيرة لدى الناس؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإنسان لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216}
وقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {هود:7}
وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2}
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد أو ما نحب كالأموال والأولاد. كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}
وعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وحسنه الألباني.
وقد سبق ذكر بعض البشارات لأهل البلاء والمصائب في الفتوى رقم: 18103، والفتوى رقم: 5249.
ثم لا بد من العلم أن المصائب قد تكون عقوبة على بعض الذنوب والمعاصي؛ كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ {الشورى:30} فلا شك أن الذنوب من الأسباب المباشرة لنزول المصائب، وقد سبق بيان في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 36842، 51394، 49228.
وقد تحصل المصائب بسبب ظلم بني آدم وبغي بعضهم على بعض، ومن ذلك أن الموت قد يكون بسبب العين والحسد، وقد سبق بيان ذلك في عدة فتاوى منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 19475، 30851، 16755، 17587.
وعلى أية حال فالأمر إذا حلت المصائب سواء أكانت بأسباب بشرية كالحسد والعين ونحو ذلك، أو كانت دون هذه الأسباب فلا بد من الصبر وعدم الجزع والتشكي، ولا مانع من التفكر في أسباب حصول ذلك للاستفادة في المستقبل، وقد سبق بيان سبل استجلاب قوة الإيمان لمواجهة المصائب في الفتوى رقم: 39151.
وبيان الفرق بين الابتلاء والمصيبة في الفتويين: 27585، 57255.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 ذو القعدة 1429(9/4182)
للسارق توبة وإن عجز عن الأداء
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا كنت مسرفا جدا في المعاصي, لدي مسروقات كثيرة من المسلمين وغير المسلمين وعلي ديون ربوية أيضا. معظم المسروقات كانت من غير المسلمين عبر بطاقات الائتمان المسروقة. قررت التوبة تماما وتزكية نفسي برد حقوق الآخرين والتخلص من الديون الربوية حتى لا يكون بيني وبين الخلق شيء. كل المسروقات لا أعلم أصحابها لأنها تمت عبر الشبكة العنكبوتية بالاختراقات وغيرها.
أنا شاب لست متوسط الحال, حالي كحال الآخرين ولا أستطيع رد المسروقات مرة واحدة عن طريق صرفها لأوجه الخير واحتساب الأجر لأصحابها سواء كان مسلما أو كافرا. الأمر سيتطلب سنين فالأموال تزيد عن عشرة آلاف دولار هذا دون الديون الربوية التي علي. الآن أنا محتار, وكلما أريد أن أتوب أتذكر الحقوق التي بيني وبين الخلق فأصاب بإحباط شديد, سؤالي هو:
ما الفائدة من التوبة الصادقة ويوجد خلفي كبيرة الربا؟ أنا أقول لنفسي أولا: تخلص من الربا وحقوق الآخرين حتى تطهر نفسك من الذنوب المتعلقة بحقوق الناس, ثم تتوب توبة تامة كاملة لله حيث ما يتبقى على رقبتك شيء إلا الذي بينك وبين الله وعندها أشد وأجد في العبادة وأزهد عن الدنيا. أنا ودي أتوب حاليا, لكن كلما أحاول أجد وأطيع الله كما ينبغي, أشعر بإحباط لما أرى من حقوق علي وبما سيقتصه الناس مني يوم القيامة, فأشعر بالحزن الشديد فعندها أحافظ على الفروض فقط أما النوافل والسنن لا أفعلها لأني أشعر كأني أبني بنيانا بتعب وهناك من الجهة الأخرى ما هو يهدمها ألا وهو الربا وغيره. فقلت لنفسي, أحافظ على الفروض وتبت عن السرقة, وأجد وأكد لأرد الديون والحقوق لأهلها عن طريق صرفها لأوجه الخير لله والله يتولاها. عندها سيهدأ بالي وسأبدأ بالجد الحقيقي تجاه الله وأتوب توبة صادقة لا رجعة بعدها أبدا وأكرس نفسي وكل حياتي لله, حتى عندما أتوفى ويأتي يوم الحساب, أكون على الأقل رددت الحقوق إلى أهلها ويكون الله أعطاهم الأجر فما يقتصون مني بإذن الله ... ثم أنا أحب أن أكون عند الله على درجة الصديقين والشهداء, والذي يريد أن يصل لهذه المنزلة عليه أن يرد كل الحقوق إلى أهلها, ولا يكون عليه ديون ربوية, وأن يكون ماله حلالا, الخ....فمن المستحيل المسلم أن يصل لدرجة الصديقين والشهداء وهو عليه ديون, وعليه مسروقات مالية لازم يردها, وحقوق - الذي يريد أن يصل لهذه المرتبة العالية لازم يكون مطيعا لله ومكرسا حياته لله تماما بالإضافة أن لا يكون بينه وبين الخلق شي أبدا.....
أمامي على الأقل 3 سنوات لأرد المسروقات والديون الربوية التي علي, حتى يهدأ بالي وأعبد الله بطمأنينة ورجاء حيث بنفس الوقت يكون ليس لدي بيني وبين الخلق شيء أبدا ...
فبالله عليكم, دلوني وأرشدوني, ليس لي إلا الله ثم أنتم بأن تبينوا لي على ميزان الشرع.
إني منتظر ردكم بفارغ الصبر ومترقب, أرجو الرد لو تكرمتم.
بارك الله فيكم وسدد خطاكم إلى الصواب دوما.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يتم عليك نعمة التوبة والاستقامة، وأن يجنبك كيد الشيطان ووسوسته. فإن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه.
وقد وعد الله تعالى من يقترف أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات، إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [الفرقان: 68-71] .
وكذلك الحال في السرقة، فقد قال الله تعالى بعد ذكر السرقة وبيان حدها: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {سورة المائدة: 39} قال ابن كثير: أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور اهـ.
فالتوبة من السرقة لابد فيها من رد الحقوق لأصحابها، وقد سبق بيان ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 3519، 3739، 3051.
ولكن ليس معنى ذلك أن العاجز عن الأداء ليس له توبة، بل يبقى ذلك في حكم الدَّين في ذمته، فإن استطاع أن يستحل أصحاب الحقوق فعل وبرئت ذمته، وإن لم يحلوه فهو في حكم الغارم، يأخذ من الزكاة ما يقضي به ديونه. فإن لم يجد بقيت في ذمته دينا حتى يؤديه، ولو على دفعات وفترات من الزمان، طال أو قصر، بحسب استطاعته، وقد سبق بيان ذلك في الفتويين: 6420، 40782.
فإن مات قبل أدائها وكان صادقا في نية ردها لأصحابها ـ أدى الله عنه كالمدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه. رواه البخاري. وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 7576.
ومعلوم أن حال السارق أهون بكثير من حال القاتل، فليس إتلاف الأموال كإزهاق النفوس، وإن كان كلاهما من حقوق الآدميين، ولكن قد قال صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس بالدماء. متفق عليه. فإن كانت التوبة من القتل مقبولة فتوبة السارق أولى بالقبول.
واعلم أخي الكريم أنه لا يمكن أن يحول بين التائب وبين التوبة حائل مقبول شرعا ولا عقلا، فإن الله يغفر الذنوب جميعا، ولا يكلف نفسا إلا وسعها، فمَن حقَّق شروط التوبة في ما بينه وبين الله من حقوق، من الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فرط منه، والعزم على عدم العودة، وحقق ما يستطيعه من شرط التوبة من الذنوب التي تتعلق بحقوق الآدميين، وهو أداؤها أو الاستحلال منها، قبلت توبته، وبرئت ذمته، بفضل الله تعالى.
ومن يضمن لك أخي أن تعيش ثلاث سنوات أو ثلاث لحظات حتى ترد الحقوق إلى أصحابها ثم تتوب إلى الله، ثم من يضمن لك أنك تستطيع لا محالة رد تلك الحقوق في تلك الفترة، وأيهما أفضل أن تلقى الله تعالى وقد فعلت ما بمقدورك من تحقيق شروط التوبة والسعي للوفاء بما بقي عليك منها، أم تلقى الله تعالى مكبلا بالحقين حق الله تعالى وحق العباد؟ لعلك إذا تأملت هذا علمت علم اليقين أن المسألة لا تعدو أن تكون حيلة شيطانية.
فاستعذ بالله وتب إليه توبة نصوحا، وادع الله تعالى أن ييسر لك قضاء تلك الديون.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 ذو القعدة 1429(9/4183)
كوني دائما عونا لزوجك على طاعة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[زوجي كان يفعل كبيرة من الكبائر واعترف لي بها وأنا أحاول إبعاده عنها وهو يستجيب لذلك وهو أيضا بعيد عن الصلاة هل في ذلك ما يستوجب انفصالي عنه، وهل الله يغفر له وذلك كان يفعله قبل وبعد الزواج وعندي منه أطفال وهو أيضا نفسيته مريضة بسبب قهر والده له.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق الحديث عن كيفية العلاقة بين المرأة وزوجها التارك للصلاة في الفتوى رقم: 1061، أما ما ذكرت عن حال زوجك في فعل بعض الكبائر, فإن عليك أن تقومي له بواجب النصح, فإن هو استجاب لذلك كما ذكرت فالحمد لله على توفيقه, وكوني دائما عونا له على طاعة الله سبحانه.
أما بالنسبة لمغفرة الله للذنب, فاعلمي أن الله سبحانه غفور رحيم وقد وعد سبحانه بقبول التوبة عن عباده وبالعفو عن سيئاتهم فقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. {لشورى:25} .
ولكن على العبد أن يجتهد أن تكون توبته صادقة نصوحا فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. {التحريم:8} , وقد سبق الحديث عن صفة التوبة النصوح وشروطها في الفتوى رقم: 5450.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
07 ذو القعدة 1429(9/4184)
الدليل على زوال النعمة بكفرانها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الدليل من القرآن والسنة على القول الفقهي"الكفر بالنعمة موجب لزوالها"؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من الأدلة على ذلك قول الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ {إبراهيم:7} .
قال ابن كثير في التفسير: لئن شكرتم لأزيدنكم أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ولئن كفرتم أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها إن عذابي لشديد، وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها.
وللمزيد انظري الفتوى رقم: 110479.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 ذو القعدة 1429(9/4185)
زنا يورث الإثم ولا يوجب الحد
[السُّؤَالُ]
ـ[أقيم علاقة مع فتاة لكن دون دخول القضيب في المهبل.. ما هي العقوبة في الدنيا وما هي العقوبة في الآخرة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد حرص الإسلام على تطهير المجتمع من الفواحش، فلم يجعل الله طريقاً للاستمتاع بالمرأة الحرة إلا الزواج، وحرم كل طريق غيره، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا {الإسراء: 32} .
والزنا هو إيلاج فرج الرجل في فرج المرأة التي لا تحل له، ولكن ذلك لا يعني أن ما دون ذلك من الاستمتاع المحرم أمر هين، وإنما هو إثم كبير، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. رواه البخاري ومسلم.
فما فعلته ليس من الزنا الذي يوجب الحد في الدنيا، وإنما هو إثم كبير وفعل قبيح، واعتداء على حرمات الله، وهتك لأعراض المسلمين، وذلك يوجب التعزير في الدنيا والعذاب في الآخرة، إلا أن تتوب، وننبه السائل إلى أن الذنب وإن كان صغيراً فإنه يكبر عند الله إذا استصغره العبد، كما أن الذنب الكبير يصغر إذا استعظمه العبد، لأن ذلك من علامات الإيمان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا. رواه البخاري.
ونحن ننصح السائل بالتوبة إلى الله مما يقترف، وذلك بالإقلاع عن هذا الذنب، واستشعار الندم على الوقوع فيه، والإحساس بالحياء من الله الذي سترك بحلمه فلم يفضحك في الدنيا وأتاح لك فرصة التوبة قبل أن يفجأك الموت، ثم بالعزم الصادق على عدم العودة لهذا الذنب، وذلك بالبعد التام عن مقدماته ودواعيه وعدم مجاراة الشيطان في خطواته، وعليك بتعجيل الزواج إن لم تكن متزوجاً، فإن لم تسطع فعليك بالصوم، مع الحرص على غض البصر، وتجنب مشاهدة ما يغضب الله سواء في التلفاز أو الصحف والمجلات، وتجنب رفقة السوء، مع الاستعانة بالله والتوكل عليه، والإكثار من الأعمال الصالحة، والحرص على تعلم أمور الدين اللازمة، وتقوية الصلة بالله، مع سترك على نفسك، فلا ينبغي أن تذكر هذا الذنب لأحد أبداً.
ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه. رواه البخاري.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 ذو القعدة 1429(9/4186)
وسائل تقوية الإيمان والمحافظة عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[الحمد لله خلال شهر رمضان الله هداني والتزمت بالعبادات المفروضة ,وبدأت أقرأ القرآن الكريم بتمعن وتدبر وقررت أن ألتزم بإذن الله.
والحمد لله بعد رمضان استمررت وتركت أمورا كثيرة لله (مع العلم أني كنت أقطع في الصلاة وأسمع الموسيقى وغيره.) وبدأت قراءة كتب في السنة وغيرها وأسمع الدروس عبر النت والتلفاز وأشعر أني متعطشة لتعلم كل ما هو جديد بالنسبة لي. ولكن أشعر ببعض الخوف من الفتور وفتن الدنيا وخاصة أني أديت الحج قبل سنتين وكنت تقريبا كما أنا الآن ولكن وللأسف تراجعت!!!
سؤالي: كيف أقوي إيماني؟ وأحافظ عليه. وبما تنصحونني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتك على الحق، وأن يشرح صدرك وأن يهديك لأرشد أمرك. وأن يقوي إيمانك ويرزقك الاستقامة.
ثم إننا نحيلك على فتاوى تصلين من خلالها إلى ما تريدين إن شاء الله، فقد سبق بيان وسائل تقوية الإيمان والمحافظة عليه، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10800، 5904، 10894، 6342، 31768، 76210، 69905.
وكذلك سبق بيان وسائل الثبات على الدين وتحقيق الاستقامة في عدة فتاوى منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1208، 76210، 21743، 12744.
وسبق أيضا بيان الأسباب المعينة على التخلص من غواية الشيطان في عدة فتاوى، منها الفتويين: 33860، 56356.
كما سبق التعرض لمسألة: تكرار الذنب وتكرار التوبة من الإصرار على المعصية، في الفتويين: 66163، 18611.
فراجعي هذه الفتاوى ولخصي منها بيدك ورقة عمل، واجعليها واقعا عمليا في حياتك، تنالي ما تريدين من الاستقامة وتقوية الإيمان إن شاء الله تعالى، واعلمي أن هذا من طلب العلم النافع الذي يرجى من ورائه العمل الصالح، فإنك ستجدين فيها نصائح غالية، وتوجيهات ضرورية لمريد الفلاح. والله المستعان.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 ذو القعدة 1429(9/4187)
التخيير بين ترك إحدى معصيتين.. رؤية شرعية
[السُّؤَالُ]
ـ[لو كان إنسان يرتكب وزرين العادة السرية والاختلاط، ويريد أن يترك أحدهما أي يمتنع عن أكثرهم ضررا فعن أيهما يمتنع؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلسنا بحاجة أيها السائل أن نعلمك بحرمة العادة السرية والاختلاط فقد كفيتنا أنت ذلك بحكمك عليهما أنهما من الأوزار.
ولكن الذي نعلمك به أنه لا يجوز للإنسان أن يخير نفسه بين منكرين أيهما يترك، لأن الواجب عليه أن يتركهما معا، وأن يفارقهما جملة واحدة، قال الله تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ {الأنعام:120} .
جاء في تفسير البغوي: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ، يعني: الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين. انتهى.
وجاء في تفسير الطبري: عن قتادة: وذروا ظاهر الإثم وباطنه، أي: قليله وكثيره، وسرّه وعلانيته. انتهى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه. رواه مسلم وغيره.
فقيد صلى الله عليه وسلم جانب الأمر بالاستطاعة، وأطلق في جانب النهي، فيجب ترك المنهي عنه جملة واحدة بلا قيد، قال النووي في شرحه لهذا الحديث: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه فهو على إطلاقه. انتهى.
ولذا فقد اختلف الأصوليون في الأمر هل يدل على الفور أو التراخي، لكنهم لم يختلفوا في أن النهي على الفور، فينبغي المبادرة إلى ترك المنهي عنه فوراً.
جاء في إرشاد الفحول: الفور في النهي ضروري لأن المطلوب الترك مستمرا. انتهى.
وللفائدة تراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 7170، 28829، 38195.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 ذو القعدة 1429(9/4188)
نصائح لإصلاح الزوج
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا عمري 20عاما متزوجة ولم أنجب أولادا، أنا كنت إنسانة عادية أصلي وأصوم وأحفظ القرآن ولكن بعد ما تزوجت وافقت على زوجي إلا أن عائلته طيبة، وملتزمون ولكنه ليس ملتزما عن النت والكلام مع البنات والتلفزيون ومشاهدة الأفلام وأنا وافقت عليه كي أحثه أكثر على الطاعة ولكن هو عرفته بعد الزواج وأنا لا أعرف ماذا أعمل؟ أنا غيورة جدا، هل يجوز لي الطلاق؟ وأريد بعض النصائح للتوبة النصوح وماذا أفعل مع زوجي أفتوني، ملحوظة زوجي لا يصلي إلا عندما أقول له.
وشكرا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه أن يهدي زوجك وأن يأخذ بناصيته إلى الصراط المستقيم, وأن يقر عينك برجوعه إلى طاعة مولاه.
وننصحك أيتها السائلة بما يلي:
1- أكثري من الدعاء لزوجك بظهر الغيب أن يصلح الله له الحال والبال وأن يصرف عنه كيد الشيطان.
2- استديمي النصح له وذكريه دائما بحق الله عليه, وحذريه من بأس الله وشدة أخذه وعقابه, مع مراعاة أن يكون ذلك بأسلوب لين رفيق.
3- فإن لم يستجب مع ذلك فيمكنك أن تستعيني عليه ببعض أهل الخير والتقوى الذين قد يكون لهم دور في التأثير عليه.
فإن لم يستجب مع ذلك ولم يلازم طريق الاستقامة خصوصا في المحافظة على الصلاة التي هي عماد الدين, فعند ذلك يمكنك طلب الطلاق منه لأن بقاءك مع هذا الشخص مع تهاونه في أوامر الله مظنة الفتنة والتأثر به وبأخلاقه, لأن الرجل شديد التأثير على زوجته لقوته وضعف المرأة, وقد نص العلماء على أن الولي إذا زوج المرأة من فاسق فإن لها أن تمتنع من النكاح وترفع أمرها للحاكم ليفرق بينهما.
فقد جاء في بداية المجتهد لابن رشد: ولم يختلف المذهب أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسق أن لها أن تمنع نفسها من النكاح وينظر الحاكم في ذلك فيفرق بينهما وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق. انتهى.
أما شروط التوبة النصوح فقد سبق الحديث عنها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5450 , 26255 , 5091.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ذو القعدة 1429(9/4189)
حكم الندم والرياء بعد العمل
[السُّؤَالُ]
ـ[العلماء الكرام لكم تحياتي واحترامي ومحبتي وسؤالي:
هل من الضرورة أن تستمر نية الإنسان في العمل إلى ما بعد انقضاء العمل، أم يكفي أن تكون النية فقط خالصة لله قبل العمل وأثناءه. ومثال ذلك: أعطى الإنسان مالا صدقة لله خالصة، ولكن بعد مضي فترة طويلة تحدثه نفسه أنه لو كان أمسك هذا المال لكان أفضل. وكأنه يتحسر على ماله الذي أنفقه.
مثال آخر: تصدق على فقير شفقة على حالة وابتغاء رضا الله، ولكن بعد فترة يتكلم هذا المتصدق عن عمله لا بقصد الاقتداء به، ولكن بما يغلب عليه من طبيعة الإنسان أنه يتحدث ويظهر عمله.. فالسؤال: هل يجب أن تستمر النية الخالصة وإخفاء العمل عن أعين الناس إلى ما لا نهاية، حتى يكتب من المخلصين، أم يكفي النية الخالصة الصادقة في أول العمل وأثنائه. بارك الله في جهدكم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن رفض النية والندم على العمل الصالح بعد نهايته لا أثر له، قال ابن القيم في بدائع الفوائد: رفض الأعمال بعد الفراغ منها باطل.. ولا يمكن طرده.. وأصول الشرع تقتضي أنه لا يصح رفض شيء من الأعمال بعد الفراغ منه، وأن نية رفضه وإبطاله لا تؤثر شيئا، فإن الشارع لم يجعل ذلك إليه، ولو صح ذلك لتمكن المكلف من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي، فيقصد إبطال ما مضى من حجه وجهاده وهجرته وزكاته وسائر أعماله الحسنة والقبيحة. . انتهى.
ولذلك؛ فإن ما يجده المسلم من الندم على فعل الخير.. يعتبر من وساوس الشيطان التي يريد بها أن يحزن المؤمن فيندم على ما قدم وحتى لا يتمادى في فعل الخير وكسب الأجر.. فالواجب عليه مدافعة هذه الخواطر، وحينئذ فإنها لا تضره.
وقد قيل: إن الكريم يجود بفعل الخير وربما ندم، وإن البخيل يمتنع من فعل الخير ثم يندم.
وأما إخلاص النية فإنه لا يلزم منه إخفاء العمل؛ فيمكن أن تكون النية خالصة والعمل ظاهر، وإن كان الإخفاء أفضل كما قال تعالى: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. {البقرة: 271} .
وإذا طرأ الرياء على العمل بعد الإخلاص فيه فقيل يبطله وقيل لا يبطله.
قال ابن القيم في البدائع: وف ي الرياء اللاحق بعد العمل خلاف.
وقال الغزالي:.. يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلا لثواب العمل بل الأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها.
والتحدث عن الطاعة بقصد إعلام الناس بها هو من السمعة وهي شقيقة الرياء وقد ذمها الشرع، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به.
وعرف بعض أهل العلم السمعة وذكر إفسادها للعمل فقال: والسمعة الإخبار بالطاعات بعد خلوصها من الآفات لبعض أغراض الرياء والعمل تفسده ولكن إن ثبت اندمل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
04 ذو القعدة 1429(9/4190)
العبرة ليست في الكثرة بل بالاستقامة
[السُّؤَالُ]
ـ[كلما تبت إلى الله وعزمت الالتزام بقراءة القرآن والصلاة في وقتها وصلة الرحم ومقاطعه الأغاني والأفلام الإباحية المنتشرة الآن أجد ما يصدني عن الاستمرار وأحس بخيبة أمل وأنه لا أمل في أن تتحسن أخلاق الناس فكيف أتحول لملاك في زمن أصبحت فيه البراءة هبالة وحب الله دروشه وكيف أقدم على الخير وأنا أرى كل البشر مستغلين ويعتبرون الاستغلال والسرقة فهلوه.
أرجوكم ردوا علي واقترحوا علي أي مجموعه لأنضم إليها تشدني نحو الله، أو اقترحوا لي برنامجا يوميا للطاعة يقوي نفسي ويقربها لله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله أوصى بالصبر في آيات لا تحصى كثرة، وما ذلك إلا لما يصيب الإنسان مما ذكرت من الغربة أو الملل، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء في الناس فقال: سيعود الدين غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء.
فلا تغتر أخي بكثرة السالكين في طريق آخره جهنم، ولا تحجم عن طريق قل سالكها إلا أن آخرها جنة عرضها السموات والأرض.
فالعبرة ليست في الكثرة إذ يقول الله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {يوسف:103}
وذكر عن إبليس أنه أقسم: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً {الإسراء:62} .
وقال تعالى حاكيا ذلك: وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {الأعراف:17} .
وقال تعالى: وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ {سبأ:13} .
فهذه الآيات تبين قلة السالكين والمسارعين في الخيرات، وتبين كثرة الهالكين فلا يغرنك ذلك، والله يوفقك ويعينك، كما نوصيك بالثبات على التوبة والاستمرار على الطاعة ودعاء الله بذلك.
أما ما قلت من الدلالة على جماعة فننصحك بالذهاب إلى حلقات العلم وسؤال العلماء ومجالسهم وطلبة العلم والدعاة إلى الله في بلدك فهم خير جليس.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
04 ذو القعدة 1429(9/4191)
حكم الشرع فيمن يعمل الصالحات لكن لا يغض بصره
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الشرع في من يصلي ويصوم ويبر والديه ويتصدق ومع ذلك لا يغض بصره مع أنه يحاول وفي كل مرة يفشل. وهل كل الأعمال الأخرى تبطل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن غض البصر عن المحرمات واجب شرعي، فيتعين على العبد أن يجاهد نفسه في تحصيله والالتزام به، وأن يبتعد عن ارتياد الأماكن التي توجد بها المناظر المحرمة.
وعليه أن يواصل المسيرة حتى ينجح في مهمته، وإذا حصل انتكاس يوما ما فليتب بصدق وليجدد العزم على مواصلة مسيرته، فإن الله يغفر له كلما تاب كما في الحديث المتفق عليه: أذنب عبد ذنبا فقال أي رب أذنبت ذنبا فاغفرلي فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر فقال أي رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء. أي ما دام يذنب ثم يستغفر. كذا قال النووي.
وأما ما عمله العبد من الفرائض والأعمال الصالحة مخلصا فيه لله تعالى فنرجو الله أن يتقبله منه وألا يحبط بسبب غلبة النفس على الوقوع في المعاصي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بياض فيجعلها الله هباء منثورا قال ثوبان: صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم أخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
رواه ابن ماجه وصححه الألباني: وهذا الحديث حمله الهيثمي في الكبائر على من يظهر زي الصالحين في الملأ وينتهك المحارم في الخلوة.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 57184، 49259، 93857.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 ذو القعدة 1429(9/4192)
فتنة النساء هل هي أعظم من فتنة المال
[السُّؤَالُ]
ـ[أيهما أعظم فتنة المال أم فتنة النساء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففتنة النساء أشد وأعظم من فتنة المال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء. متفق عليه. وهو صريح في ذلك، قال المناوي في فيض القدير: وقال في الحديث بعدي لأن كونهن فتنة صار بعده أظهر وأشهر وأضر. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو القعدة 1429(9/4193)
الصبر على فراق الأهل وعدم اليأس والتشاؤم
[السُّؤَالُ]
ـ[جزاكم الله عنا خيرا أريد أن تنصحوني لأني أعيش في متاهة منذ أن توفي أخي منذ 3 شهور حيث إنه شاب لكن الحمد لله كان ملتزما ومطيعا لوالديه وكان يحافظ على بيته وأبنائه وعبادته سؤالي إنه منذ وفاته وأنا متشائمة جدا حيث إني طالبة جامعية في آخر سنة أصبحت أفكر في ترك الجامعة وأصبحت أكره هذه الحياة وأفكر ما هي فائدة الإنسان لماذا نعمل ولماذا نتزوج ونربي وننجب وفي الآخر نهايتنا الموت والدفن في هذه الحفرة أصبحت أخاف من زيارته في المقبرة وامتنعت عنها حيث إنني عندما أذهب أتأمل أيعقل أن تكون نهايتي في هذه الأرض مع الديدان على الرغم من أني ملتزمة وأحافظ على صلاتي وأقرأ سورة الملك يوميا ولكنني يائسة ومتشائمة جدا. أرجوكم أفيدوني وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يعظم أجرك ويغفر لأخيك.
والذي ننصحك به هو تقوى الله تعالى والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، فاصبري وأبشري بما بشر الله به عباده المؤمنين حيث يقول تعالى في محكم كتابه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {البقرة: 155-157} .
وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التغابن: 11} قال أهل التفسير: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيراً منه.
ولتعلمي أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان واختبار كما قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك: 1-2}
وعلى العبد أن يصبر لقضاء لله تعالى وقدره، ويفوض أمره كله إليه، وينبغي أن يعلم أن كل ما يجري له في هذه الحياة خير له في عاجله أو آجله علم ذلك أو لم يعلمه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. رواه مسلم.
والرضى بقضاء الله وقدره يورث طمأنينة القلب ويبعد وساوس الشيطان؛ فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط.
وأما ما تفكرين به من التشاوم وكره الحياة وترك الزواج ... فهذا من وساوس الشيطان وعليك أن تبتعدي عنها وتتابعي في حياتك العادية؛ فهذه الدنيا مزرعة الآخرة، ولا دار بعدها إلا الجنة أو النار، والموت ليس هو النهاية، ولو كان الأمر كذلك لكانت الحياة عبثا.. فاحذري من اليأس والتشاؤم ووساوس الشيطان فإن ذلك أخطر ما يكون على العبد.
وما دمت ملتزمة بأداء الصلاة وتلاوة القرآن فإنك على خير كثير والحمد لله، فعليك بصحبة الأخوات الصالحات لتستعيني بهن على تجديد إيمانك وتقويته وإصلاح أمورك العادية.
نسأل الله تعالى أن يحفظك ويثبتك على طريق الخير.
وللمزيد انظري الفتويين: 2795، 8601.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو القعدة 1429(9/4194)
التوبة من وضع الشهوة في غير ما أحل الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا اسمي الحاج من الجزائر منذ كان عمري 19 سنة وأنا أفعل هذه الفعلة والآن أبلغ من العمر 33 سنة كرهت كل شيء عندما أرى النساء لاتهيج نفسي ولا أبالي بامرأة ولو كانت أمامي قال لي والدي هل أزوجك قلت له لا تزوجني لدي مشكل جنسي والآن الله غاضب علي قل لماذا لأني أحفظ كتاب الله وأمارس هذه العملية البشعة ماذا أفعل وأنا أصلي. أريد حلا أنتظر الجواب الكافي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كنت تقصد بتلك الفعلة: العادة السرية فلا شك أنها، عادة خبيثة منكرة لها آثارها السيئة على فاعلها، في دينه ونفسيته وصحته، لكن التوبة منها أمر يسير على من صدق مع الله، فالمؤمن لا يعرف اليأس أبداً، فهو يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فيستعين بالله ويعتصم به، ويأخذ بأسباب التوبة، فيجد التيسير والعون من الله عز وجل، وستجد هذه الأسباب في الفتوى رقم: 7170.
وأما إن كنت تقصد بها: اللواط فإنه من كبائر الذنوب ومن أفظع الفواحش، ومن انتكاس الفطرة، وفاعله يستحق العذاب والخزي في الدنيا والآخرة، فعليك بالاستعانة بالله والمبادرة بالتوبة بشروطها المعلومة، بالإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ما وقعت فيه، والعزم الصادق على عدم العود له، وذلك بترك اتباع خطوات الشيطان، والبعد عن كل طريق يؤدي إلى تلك الفاحشة، ومما يعينك على ذلك: الاستعانة بالله عز وجل والتوكل عليه والتعرف على أسمائه وصفاته، والتفكر في نعمه، وتذكر الموت وما بعده من أمور الآخرة، وتجنب صحبة العصاة والغافلين، والحرص على صحبة الصالحين، وكثرة الذكر والدعاء، وشغل الفراغ بالأعمال النافعة.
أما ما يتعلق بالزواج فإن كان ما أصابك لم يصل بك إلى العجز جنسي فالأولى أن تتزوج، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن قدامة: "النكاح من سنن المرسلين وهو أفضل من التخلي منه لنفل العبادة.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 56002، 60129، 101582، 6872.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو القعدة 1429(9/4195)
التحول من العصيان إلى الطاعة والإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[تزوجت بامرأة (ليست عذراء) وقد صارحتني بذلك وأنا أخذت بجمالها الخارق وأسلوبها الرائع والحق يقال إنها أعانتني كثيرا في بداية حياتنا ولم ألحظ عليها إلا التوبة والرجوع إلى الله ولم تقصر معي ماديا أو معنويا ولا مع أهلي وصبرت على مشاكلي المادية وغيرها بل لاحظت كثرة استغفارها وتقربها لله والدعاء لي بظهر الغيب.
بعد فترة من الله علينا بالذرية وكانت أما صالحة وابنتي الآن رغم أن عمرها 5 ونصف إلا أنها تحفظ الآيات القرآنية وأفاجأ أن ابنتي وأمها تحاولان حفظ سورة الملك مما أسعدني ومن الله علي بالرزق الطيب والعمل الذي يدر دخلا طيبا جدا فاعتمرنا وتحجبت زوجتي والتزمت ولم تعد تنمص أو تسمع الموسيقى وكل همها البيت وراحتنا والتقرب لله ولا أخفي عليكم رغم ما كانت عليه إلا أنها كريمة الخلق وقصيرة اللسان ولا تتدخل إذا ساعدت أهلي ماديا يعني أنا مرتاح جدا معها والفضل لله.
سؤالي هو هل يمكن أن يحدث هذا التغير للمسلم بعد أن كان لا يعتني بالدين ويتحول إلى مسلم مثابر صالح وهل يجزيني الله أني سترت مسلمة؟ وأكرر أني سعيد بحياتي ولا ينقصني إلا الزيادة في الدين والتقوى، أنا وزوجتي.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا التغير قد يحدث للمسلم فيكون مفرطا في جنب الله مسرفا على نفسه فترة من الزمن ثم يرزقه الله التوبة والإنابة ويصلحه فيتبدل حاله من إساءة إلى إحسان، ومن بعد عن الله إلى قرب منه وإقبال على طاعته وهجر لمعصيته كما قد يحدث ذلك للكافر، فقد أخبر الصادق المصدوق أن الإنسان قد يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. والحديث متفق عليه.
فلا غرابة في ذلك فاحمد الله عز وجل أن رزقك زوجة صالحة واشكره على نعمه يزدك من فضله واستر عليها ما أخبرتك به، وما كان لها أن تخبرك فتكشف ستر الله عليها، أما وقد فعلت فيجب عليك سترها بحق أخوة الإيمان ولكونها زوجة لك وقد تابت إلى الله عز وجل، والتوبة تمحو ما قبلها، نسأل الله تعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا للإيمان، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضيه عنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ويرزقنا التقوى والخشية منه ظاهرا وباطنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5646، 59890، 11620.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 شوال 1429(9/4196)
من كان محسنا أو مسيئا فليترك تمني الموت
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد مارست اللواط كفاعل عدة وأدخلت أصبعي في دبري مرتين تلذذا وندمت ندما شديدا. ومؤخرا كنت أذهب عند العاهرات علما بأنهم يمصصن قضبان الرجال وبدون وعي كنت ألمس لساني بلسانهم فهل هذا لواط أيضا؟
لقد ندمت على ما فعلت بحياتي ندما كبيرا. أتمنى من الله أن يميت ني.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففعل اللواط كبيرة من الكبائر التي حرمها الله تعالى، وبين قبحها في القرآن، وذم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلها، وأجمعت الأمة على تحريمها كذلك، وقد سبق بيان ذلك مع عقوبة فاعله وكيفية التخلص منه في الفتاوى التالية: 1869، 24298، 3867، 22005.
وفضلاً عن حرمتها فهي أمر مناف للفطرة، معاكس للطبيعة، ولذلك قال تعالى منكراً على فاعلها: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ {الشعراء:166} .
ولكن من فضل الله ورحمته، أن جعل لكل ذنب يذنبه العبد باباً يتوب إلى الله منه، ولو عظم جرمه وكبر إثمه، وما ذلك إلا لسعة رحمة الله تعالى، ومزيد إحسانه، فسبحانه وتعالى على حلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، قال عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً {النساء:110} . وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
وقال صلى الله عليه وسلم: الندم توبة. رواه أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على أن من أذنب وجب عليه أن يتوب، وقد وعد الله تعالى بقبول توبة التائبين؛ فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {التوبة:104} .
وللتوبة شروط لا تتم إلا بها راجعها في الفتاوى رقم: 5450، 26255، 5091.
وأما إدخال الإصبع في الدبر على سبيل التلذذ فهو حرام أيضا، لأنه وإن لم يكن من اللواط فهو من مقدماته، وهو لا شك ذريعة قوية إليه، بل قد نص العلماء على حرمة إدخال الإصبع في الدبر ولو بغير لذة، فقد جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه عند الحديث عن الاستنجاء: وليس عليه غسل ما بطن من المخرج (الدبر) بل يحرم لشبه ذلك باللواط. انتهى.
وذهابك إلى العاهرات في حد ذاته من المعاصي العظيمة، وكشف عورتك أمامهن وملامستك لهن سواء بالتقبيل أو غيره كل ذلك من كبائر الذنوب التي توجب التوبة إلى علام الغيوب، نسأل الله سبحانه أن يتوب عليك.
أما ما تفعله من تمن للموت فهو غير جائز خصوصا مع ما أنت عليه من تفريط وتقصير في حق مولاك، فليت شعري كيف ستلقى ربك بعد الموت بأعمالك هذه وأنت لم تحدث لها توبة؟! وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ولا يتمنى أحدكم الموت، إما محسن فلعله يزداد خيرا، وإما مسيء فلعله أن يستعتب. متفق عليه. جاء في فتح الباري: وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارة إلى تغبيط المحسن بإحسانه وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول: من كان محسنا فليترك تمني الموت وليستمر على إحسانه والازدياد منه، ومن كان مسيئا فليترك تمني الموت وليقلع عن الإساءة لئلا يموت على إساءته فيكون على خطر. انتهى.
فاترك أيها السائل ما أنت فيه من اليأس والقنوط، واشتغل بالتوبة إلى مولاك والإكثار من الأعمال الصالحة المكفرة فإن الحسنات يذهبن السيئات، ثم عليك بمقاطعة أصدقاء السوء الذين يعينونك على معاصي الله، ونحذرك من الإقامة في بلاد الكفر فإنها لا تجوز إلا بشروط سبق الحديث عنها في الفتاوى رقم: 20969، 10971، 108308
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 شوال 1429(9/4197)
حكم كفالة الصبي وإرضاعه حتى يصبح محرما
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا امرأة مسلمة تكفلت ببنت لها الآن خمس سنوات وقد سمعت في إحدى القنوات الإسلامية أنه يمكن ربط صلة قرابة بها عن طريق الرضاع وقد تم ذلك بمساعدة إحدى أخواتي التي كانت ترضع حينها وقد رضعت منها ابنتي بالكفالة وعمرها خمس سنوات فهل يصح هذا شرعا؟
والآن لي رغبة في التكفل بابن ذكر وأريد أن ألم بما يوجبه الشرع في التعامل مع الابن الذكر بالكفالة من حجاب وتواجد في مكان واحد وما إلى غير ذلك سواء بالنسبة لي أو بالنسبة إلى ابنتي بالكفالة. وإن توفر لي أن ترضعه أختي التي أرضعت في المرة الأولى ابنتي بالكفالة هل يوجد ذلك صلة أخوة بينهما بالرضاع وهل أصبح في هده الحالة خالته بالرضاع وبالتالي يصير محرما لي ولابنتي بالكفالة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا حرج فيما فعلت ونرجو لك الأجر والمثوبة من الله تعالى على كفالة تلك البنت وغيرها، وأما الرضاع فإن كان في الحولين فإنه ينشر الحرمة والرحم ولكن لا يجلب القرابة، فالبنت التي أرضعتها أختك تصير ابنت أخت لك من الرضاعة، وإذا أرضعت الابن الذي تودين كفالته فإنه يصير ابنا لها من الرضاعة، وابن أختك، أي أنك تصيرين خالة له من الرضاعة، فيكون محرما لك وأخا للبنت من الرضاعة، وهذا هو الأولى إن أردت كفالته كي تصبحين محرما له، وكذا البنت التي تحت كفالتك، فلا يكون هنالك حرج فيما لو بلغ في دخوله عليك أو على البنت، والخلوة معه وغير ذلك مما يجوز للمرأة مع محارمها.
لكن ننبه إلى أنه لا بد أن يكون الرضاع في الحولين، وأما رضاع الكبير فلا تأثير له.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 3901، 4360، 16816.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 ذو القعدة 1429(9/4198)
أثر الإيمان بنعيم الجنة وعذاب النار في حياة المسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما أثر إيمان المسلم بالجنة ونعيمها والنار وعذابها في حياته.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن للإيمان بصفة عامة أثره العظيم في حياة المسلم وقد بينا شيئا من ذلك في الفتوى رقم: 38814.
والإيمان بالجنة والنار بصفة خاصة له أثره البالغ في اعتقاد الشخص وتصوره وفي تصرفاته وأخلاقه ومعاملاته، فالذي يوقن جازما أن الله تعالى مجازيه على طاعته وحسن عبادته بجنة فيها من النعيم المقيم الأبدي ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. وأنه مجازيه على المعصية والإساءة.. بعذاب جهنم لا شك أن ذلك ينعكس على عبادته فيعتني بها حتى يتقنها على أكمل وجه وعلى أخلاقه فيحسنها ويبعد بها عن كل مانهى الله عنه، وعلى معاملته لكل من حوله وما حوله وبالتالي فهو يعمل لكل ما يقربه من الجنة ويبعده من النار، وإذا صدر منه خطأ أو تقصير بادر إلى تصحيحه وتكميله.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 شوال 1429(9/4199)
أجر الصبر على الابتلاء بمرض نفسي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل المريض النفسي يعتبر شهيدا؟ جزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد يبتلي الله بعض عباده بالآلام الجسدية كالأمراض والأسقام، أو بالآلام النفسية كالأحزان والهموم ونحوهما، وعلى المسلم الذي يثق بحكمة ربه وعدله ويرجو ثوابه أن يصبر، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. رواه مسلم.
ويصبر أيضاً على الابتلاء لأنه تكفير لسيئاته، وإعلاء لدرجاته، فعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة. متفق عليه.
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب التي وضعها الله تعالى لدفع هذا البلاء أو رفعه، كالدواء والدعاء والوقاية، ولا شك أن المريض مرضاً نفسياً داخل فيما ذكرنا، فليصبر وليحتسب، أما كونه من الشهداء فهذا مما لم نقف له على دليل ومثل هذا لا يثبت إلا بتوقيف، وقد ذكرنا تفصيلاً في الشهداء في فتاوى سابقة، يمكنك أن تراجع منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26390، 27708، 34588.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
29 شوال 1429(9/4200)
شروط قبول التوبة من السرقة والزنا
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة عمري 18 عاماً، ومنذ أن كنت في أيام الطفولة كنت ألعب مع أبناء خالي الذكور، وعندما أصبحت في 14 أو 15 بدأ أولاد خالي تعليمي على الفساد فكانوا يذهبون إلى المحل المجاور ويسرقون بعض الحلوى وكنت أفعل ذلك معهم، علما بأنهم أول من طرح الفكرة واستمر الوضع هكذا إلى أنا أدركت بنفسي أن هذا حرام ولم أعد هذا الأمر ثانياً، أريد أن أعرف ما يجب علي فعله الآن ... لن أخبر والدي عن هذا الأمر لأنهما كانا يتركان لنا الحرية في تصرف ما نريد ولم يشكا يوما في تصرفاتنا ... كما أننا كنا نمارس الجنس في هذا السن ولا أعرف أنه محرم فقد اقتنعت بأنه جائز بسبب محاولات ابنا خالي بإقناعي، فماذا أفعل لم أذق يوما طعم الراحة إني أفكر في هذا الأمر مراراً إلى أن توصلت إلى هذا الموقع لعلي أجد الجواب الشافي الذي طالما كنت أبحث عنه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمهما عظم ذنب العبد وكثرت ذنوبه فإنه إذا تاب توبة صادقة مستوفية لشروطها تاب الله عليه، بل إن الله يفرح بتوبة العبد ويحب التوابين، قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
أما عن التوبة من السرقة فلا بد من رد قيمة المسروق إلى أصحابه، أو ورثتهم إن كانوا قد ماتوا، ولا يلزمك إخبارهم بالسرقة، وإنما يمكنك التماس أي حيلة لتعطيهم ما يغلب على ظنك أنه قيمة ما سرقت، فأما إن تعذر الوصول إلى أصحاب المسروق أو ورثتهم بكل وسيلة فعليك أن تتصدقي عنهم بقيمة المسروق..
وأما عن التوبة من الزنا فذلك بالإقلاع عنه والندم على فعله، والعزم الصادق على عدم العود مع الإكثار من الأعمال الصالحة، والتزام ما أمر الله به من الحجاب واجتناب الاختلاط المحرم بالرجال والبعد عن مداخل الشيطان وأبواب الفتنة، وعليك بالستر على نفسك فلا تخبري أحداً بذلك، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:.. أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله. رواه مالك في الموطأ.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 شوال 1429(9/4201)
هل يقاس التدين بنور الوجه
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو توجيه كلمة لبعض الناس الذين يقيسون تدين الأشخاص بقولهم انظر إلى نور وجهه وقد صارت كلمة يتداولها الكثيرون، وهل هذا مقياس حقيقي، علما أنه يوجد أشخاص ليس في وجوههم نور وملتزمون، أرجو توجيه كلمة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن آثار الإيمان والطاعة قد تبدو على محيا الإنسان فيظهر عليه الخشوع وبهاء الوجه وحسن السمت ونحو ذلك، قال ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ {الفتح: 29} . الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس. اهـ.
وأورد في هذا مجموعة آثار عن السلف، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته.
وقول بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقول ابن عمر رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه ونورا في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق.
ومع هذا فلا يلزم أن يكون هذا الخشوع دليلا قاطعا على إيمان صاحبه وصدقه مع الله، فقد يتصنع ذلك من يتصنعه، وقد أخبر الله عن بعض الوجوه بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً {الغاشية: 2-4} ، وفي المقابل عدم ظهور ذلك على الوجه ليس معتبرا في الدلالة على عدم إيمان صاحبه.
ولا ينبغي للمسلم أن يشغل نفسه بأمر الحكم على الناس بمجرد هذه الظواهر، ولكن من أظهر خيرا يظن به خيرا ما لم يتبين خلاف ذلك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 شوال 1429(9/4202)
تعلم اليقين وتقويته
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أحد الناس يتكلم عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعلموا اليقين على الله فإني أتعلمه، فكيف تعلم رسول الله اليقين على الله وكيف أتعلمه أنا؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى أبو نعيم في الحلية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه. وهذا الحديث ضعيف السند، قال فيه العراقي في تخريج أحاديث الأحياء: أخرجه أبو نعيم من رواية ثور بن يزيد مرسلاً وهو معضل. انتهى.
وقد روى الحديث ابن هبة الله في تاريخ مدينة دمشق بسنده عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان موقوفاً، وقد ذكر الغزالي في الإحياء كيفية تعلم اليقين في بيان معناه للحديث المذكور فقال: جالسوا الموقنين واستمعوا منهم علم اليقين، وواظبوا على الاقتداء بهم ليقوى يقينكم كما قوي يقينهم. اهـ
وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية للاطلاع على المزيد في الموضوع: 70657، 99547، 113384، 111062، 97841.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 شوال 1429(9/4203)
من وسائل تقوية الإيمان وتثبيت القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[بحمد الله ملتزمة في حياتي وقد قاربت أن أختم كتاب الله، ولكن مشكلتي هي عدم التركيز والنسيان لأنني أحيانا أنسي ما حفظته وأقول في نفسي هذا من ذنوبي السابقة، فأريد أن تنصحوني بشيء يقوي إيماني كثيراً، ويعينني على متابعة الحفظ وأن يكون كل تركيزي، وأن أجعل لساني يردد القرآن دائماً لأني أحس بالضيق الشديد عندما أنشغل عن القرآن، فأفيدوني جزيتم خيراً؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمما يقوي الإيمان ويثبته:
1- الدعاء فإن من دعا أجيب.
2- كثرة القرب (ومنها الصيام والصدقة والصلة) .
3- السماع لدروس العلماء إما حضوراً أو استماعاً إن لم يتيسر الأول.
4- الرفقة الصالحة، فإنها معينة على الخير والذكر، وقد قال الله عن موسى لما طلب منه أن يؤيده بأخيه: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي*...... كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا {طه} .
5- صبر النفس مع أهل التقوى والبعد عن أهل الغي: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف:28} .
وأما نسيان ما حفظته فاعلمي أن القرآن شديد التفلت، وهذا أمر لحكمة جعلها الله تعالى وهي على ما يظهر ليظل الإنسان مرتبطاً بالقرآن على وجه الدوام.. فعلاج النسيان هو كثرة القراءة والمراجعة المنتظمة بورد يومي كجزء أو نصف جزء أو أكثر من ذلك حسب الطاقة، على وجه الدوام، وكذلك الصلاة به في النوافل واتخاذ صحبة صالحة تراجعين معها القرآن، وهذا في الحقيقة أمر معين على مواصلة الحفظ.
أما إحساسك بالضيق عند انشغالك عن القرآن فهذه محمدة من نعمة الله على العبد، ونسأل الله لك الثبات والعون على طاعته، وراجعي للفائدة في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 61282، 17167، 10800، 3913، 56121.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 شوال 1429(9/4204)
شروط التوبة هل تختلف من ذنب لآخر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل طرق وشروط التوبة تختلف من ذنب لآخر فمثلاً هل طرق وشروط التوبة من الربا تختلف عن طرق وشروط التوبة من الزنا، فأرجو رداً سريعاً من سيادتكم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد
فإن طرق التوبة وشروطها تتفق في ثلاثة أمور وهي: وجوب الإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ما فات، والعزم على عدم العود إليه أبداً، وتختلف فيما يتعلق بحق الله فقط، وفيما يتعلق بحق الله وحق الآدمي، فإن ما يتعلق بحقوق الآدمي لا بد فيه من التخلص من حقوق أصحاب المظالم باستسماحهم والتحلل منهم أو إعطائهم حقوقهم، ويزاد الأمر بالنسبة لآكل الربا أنه لا بد من التخلص من الفوائد الربوية بصرفها في مصالح المسلمين.
وأما إذا كان موكلاً للربا أو كاتباً له أو شاهداً عليه ولم يكن آكلاً له فإن الشروط الثلاثة للتوبة هي الواجبة في حقه لا غيرها، وأما الزاني فيجب عليه أن يتحلل ممن اعتدى على عرضهم فيتحلل من زوج المتزوجة ومن أبيها وذويها، لأن إفساد أخلاق الزانية وانتهاك عرضها فيه ظلم لهم جميعاً، وقد ذكر أهل العلم استسماحهم ليس بأن يذكر لهم الاعتداء على بنتهم، بل يتعين ستر ذلك لئلا يترتب على الأمر فضحهما وإغضابهم ووقوع شر محتمل، فينبغي أن يستميل قلوبهم بالإحسان إليهم حتى إذا حصلت المودة طالبهم المسامحة في جميع الحقوق.
قال صاحب مطهرة القلوب في شروط التوبة:
وشرطها استحلاله للآدمي من حقه الظاهر غير الحرمى
ونحوه أن تستطع تحلله منه ولا بد من أن تفصله
وقال في الشرح: المحارم التي فيهن حق الآدمي خمسة: دينية كتكفير وقذف، وعرضية كغيبة، ومالية كغصب فيجب أن تستحل مظلومك في الثلاث أي تطلبه أن يبرئك مما ظلمته به ويجب أن تكذب نفسك عند من شهدت عنده عليه بزور، وهل شرطها لقاذف تكذيب نفسه قولان للشافعي ومالك.. وذكر بعضهم سقوط الإثم بالتوبة من غيبة لم تبلغه.
وأما الحرمية فيحرم فيها لإثارته الغيظ فلا تستحله إلا مبهماً، وأما البدنية كضرب وقتل فيجب وهل على القاتل تسليم نفسه قولان لابن رشد قال زروق الثاني هو ظاهر الأحاديث ... انتهى..
وراجع للمزيد من الفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5450، 19812، 34041، 72962، 97460.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 شوال 1429(9/4205)
ماذا تفعل من أذنبت في حق ربها وزوجها
[السُّؤَالُ]
ـ[أخطأت في حق زوجي وديني كيف أكفر عن خطئي، علماً بأني أقوم بواجباتي الدينية ولم أتخط الحدود الدينية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن المرأة المتزوجة مؤتمنة على بيتها، قال تعالى:.... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ.. {النساء:34} ، قال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. تفسير ابن كثير.
فإذا لم تحفظ المرأة غيبة زوجها فقد خانت الأمانة، وخالفت أمر ربها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {الأنفال:27} ، لكن سعة رحمه الله وعظيم كرمه لا يعظم عليه ذنب، فهو سبحانه يغفر الذنوب جميعاً، ويقبل التوبة ويحب التوابين ويفرح بتوبتهم، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى:25} .
ولكن التوبة لها شروط لا بد من تحقيقها حتى تقبل، وهي: الإقلاع عن الذنب والندم والعزم على عدم العود، وإذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي فلا بد من إبراء الذمة منه إما بإرجاع الحق له، إن كان فيما يتعلق بالمال، أو باستحلاله منه إن كان في العرض إلا أن يترتب على ذلك مفسدة فيكتفى بالدعاء له، فعليك بالمسارعة بالتوبة إلى الله والإكثار من الأعمال الصالحة والحسنات الماحية، كالصلاة والصوم والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن عليك بالستر على نفسك فلا تخبري زوجك ولا غيره بذنبك، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله. رواه مالك في الموطأ.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 شوال 1429(9/4206)
الصبر خير ما يتسلى به المرء عند المصيبة
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن من العراق تعرضت أنا وزوجي وابن أخيه وهو طفل عمره 5 سنوات عندما كنا ذاهبين بنية التسوق وشراء الملابس لزوجي وابن أخيه اليتيم لأن والده متوفى إثر حادث حرق علما أن زوجي يتيم الأم لأن والدته توفيت عند والدته ونحن من سكنة بغداد وفي يوم الخميس المصادف 6-3-2008 بعد المغرب وعند نزولنا من السيارة انفجرت في السوق عبوة ناسفة ثم بعدها انتحاري بحزام ناسف مما أدى إلى استشهاد وجرح المئات ومنهم أنا والطفل عبد الله وزوجي الذي فارق الحياة نتيجة أصابته الشديدة في رأسه وقد أجريت لي 5 عمليات جراحية كبرى في بغداد وإلى حد الآن أعاني من إصابتي والآن في عمان بصحبة أهلي جئت لغرض العلاج والطفل إلى حد الآن هو مقعد لأن الضربة جاءت في ظهره قرب الحبل الشوكي في بداية الأمر لم يبلغني أحد بأن زوجي قد مات لأن حالتي كانت حرجة جدا وقالوا لي بأنه مصاب وهو في غيبوبة ولكني أتذكر عند حصول الانفجار أني قلت الشهادة وصحت الله أكبر وبعدها فقدت الوعي وانقطع اتصالي بالعالم الخارجي حتى استيقظت في اليوم الثاني علما أن الدكتورة التي أشرفت على متابعة حالتي كانت تقول أني كنت أقول وأنا تحت تأثير البنج ولسوف يعطيك ربك فترضى عذرا لأن أطلت عليكم ولكني أردت أن تكونوا معي بالصورة زوجي إنسان أحسبه ولا أزكيه على الله أنه طيب وحنون ويحترم الصغير قبل الكبير والكل يشهد له بذلك وقبل وفاته بستة أشهر التزم بالصلاة لأنه حلم ولم يخبرني بما حلم ولكنه التزم بعده بالصلاة بشكل كبير وأنا عندما أخبروني بأن زوجي مات والله احتسبت في الحال ولم أجزع وما كان قولي إلا إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها وحتى الآن أنا لا أستطيع القيام في الصلاة ولكني أصلي وأنا جالسة وقد صمت رمضان علما بأني قد أجريت لي عمليتان في بطني وتم قطع جزء من الأمعاء والقولون التي أصيبت بالشظايا ولكني صبرت وقاومت المرض والله لقد ابتلاني الله في أعز شيئين علي وهما زوجي الغالي وصحتي ولكني صبرت وقلت إذا كان حظي في الدنيا قليلا فسوف أصبر ليكون حظي في الآخرة كبيرا وهذا ظني بالله سؤالي هو هل يعتبر زوجي شهيدا وهل نيته بشراء ملابس للطفل اليتيم تعتبر حسن خاتمة وهل موته بعد المغرب من يوم الخميس ودفنه يوم الجمعة من علامات حسن الخاتمة وهل صبري وعدم جزعي على ما أصابني سوف آخذ الأجر عليه برحمة وعدل الله سبحانه أمنيتي الوحيدة أن يرزقني الله وأهلي ومن أحب حسن الخاتمة وأن يجمعني بزوجي بالجنة علما أن عمري وزوجي لم يتجاوز ال 28 سنة والحمد لله على كل حال؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرحم زوجك، وأن يغفر له، وأن يرزقه منازل الشهداء، ونسأله سبحانه أن يشفيك ويشفي الطفل عبد الله، وأن يرزقنا وإياك ويرزق جميع المسلمين حسن الخاتمة، وأن يجمعك وزوجك في الجنة.
ونوصيك بالصبر على هذا البلاء، فإن الصبر من خير ما يتسلى به المرء عند حلول المصائب، وبالصبر ينال المسلم كثيرا من خير الدنيا والآخرة، وراجعي في فضل الصبر الفتوى رقم: 56472.
وإن تذكرت فقدك زوجك فتسلي بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الطبراني عن عبد الرحمن بن سابط عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب عنده. وقد حسن الحافظ ابن حجر إسناده، وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه.
ونرجو أن يكون زوجك قد مات على خير وبخاتمة حسنة، خاصة وقد ذكرت أنه كان في تلك اللحظة ساعيا في حاجة هذا اليتيم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار، هذا بالإضافة إلى موته ليلة الجمعة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 شوال 1429(9/4207)
جواب شبهة حول إخفاء الذنب والاستتار بستر الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد التحدث عن جريمة الزنا والتوبة منها لأنها ليست كبقية الذنوب والخطايا وقد قرأت في موقعكم عن الكثير من الفتيات والزوجات اللواتي وقعن فيها وأنكم كنتم ترشدونهن الى التوبة والستر على أنفسهن وعدم الإفصاح إن كان هذا للخاطب أو للزوج أليس هذا نوعا من أنواع الخداع والغش وخاصة للزوج (يا غافل لك الله) أليس من حق الزوج على زوجته أن يعرف كل شيء عنها وله بعد ذلك الخيرة في أن يطلقها أو يبقيها وذلك بعد توبتها وكيف ترضى هي لنفسها أن تنام مع رجل غشته وخدعته ولوثت شرفه وعرضت سمعته لأقوال الذين زنت معهم فكم هذا الأمر صعب وكم هو أليم وكذلك بالنسبة للخاطب الذي سيكتشف أمرها بعد الزواج فلو أنها أخبرته بقصتها قبل ذلك، وعلى كل حال سيكتشف أمرها فلماذا لا تخبره عن جريمتها وهو بعد ذلك يختار وما يدرينا أن تلك النسوة سيثبتن على توبتهن وخاصة بعد أن تعودت نفسهن الأمارة بالسوء على المتعة الجنسية وكما نعلم أن الإقلاع عن الذنب في غاية الصعوبة وخاصة فيما يتعلق بمتعة الجسد ولماذا لا نطبق عليها الحد الذي وضعه لنا الله سبحانه وتعالى لتكون عبرة لغيرها من النساء، وأريد منكم معرفة أن التائب من هذا الذنب الذي استمتع لفترات من حياته بالحرام هل يتساوى مع الذي لم يزن وجاهد نفسه عن التمتع بالحرام بالأجر والثواب وأمضى حياته في مرضاة الله سبحانه وتعالى، وعذراً لإطالتي وجزاكم الله كل الخير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما بيناه في الفتاوى المشار إليها من حث العصاة على التوبة والستر هو ما جاء به الشرع المطهر المنزل من عند الحكيم الخبير، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، وليس في ستر الزوجة على نفسها إذا وقعت في الخطأ غش وخداع للزوج لأن إعلام الزوج بالخطأ لا يغير من واقعه، فإما أن يمسكها ويبقى معذب الضمير شاكا فيها ما بقي من حياته أو يطلقها ويهدم أسرته ويشتت عياله في خطأ ربما تابت هي منه وحسنت توبتها، وكذلك الزوج لو وقع في الخطأ، يقول صلى الله عليه وسلم: من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستغفر الله جل وعلا. رواه الحاكم وصححه السيوطي.
فالأولى لمن وقع في الخطأ زوجا كان أو زوجة أو غيرهما أن يتوب إلى الله تعالى ويستتر بستره ولا يفضح نفسه.
كما أنه لو أعلن كل إنسان خطأه فإن ذلك يهدم الفضيلة وينشر الرذيلة ويهونها على الناس.
وأي امرأة أذاعت خطيئتها فإن ذلك يدنس عرضها وعرض زوجها وأهلها ويعرض أبناءها للشك والتهمة في نسبهم فهل يكون ذلك أولى أم تستر نفسها من لحظة أغواها الشيطان فيها ثم عادت إلى رشدها وندمت على خطئها فينمحي ذنبها بالتوبة ولو أعلنته ما انمحت معرته ولطارت سبته في الآفاق.
والتوبة من الزنا أو غيره ليست صعبة على من وفقه الله إليها، واستتر بستر الله عليه، بل ستر الذنب أدعى للتوبة منه من المجاهرة به، وحسبنا في حكمه الاستتار بستر الله وفضيلته حث الشارع الحكيم عليه، وراجع للمزيد من الفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1095، 112794، 33669.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 شوال 1429(9/4208)
هل يؤاخذ العبد بما يدور في خواطره
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا ومن غير قصد تنتابني أفكار لست راضية عنها كما أنني أعاني من إفرازات وأنا أتمنى الموت لذلك لا أدري ما حكم صيامي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن رحمةِ الله عز وجل بعباده أنه لم يؤاخذهم بما يدورُ في أنفسهم من خواطر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم. رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
فهوني على نفسك أيتها الأخت الفاضلة، واعلمي أنكِ لا تُحاسبين على هذه الأفكار التي ليست باختيارك ولا أثرَ لهذه الأفكار ولا للإفرازات إن كانت ناتجة عنها، لا أثر لذك كله على صحة الصوم بإجماعِ العلماء، فإن الله تعالى يقول: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا {البقرة 286} .
وليسَ معنى هذا الاستسلامُ لتلكَ الأفكار والانسياقُ وراء تلكَ الخواطر، بل الذي ينبغي هو محاربتها وإبدالها بالخواطر النافعة للعبدِ في دينه ودنياه، ومراقبة الخواطر من عبودية الخواص.
وأما عن تمنيكِ الموت فهذا أمرٌ منهيٌ عنه، فعن أنسٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي. رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
وأما الإفرازات التي تجدينها فما يجبُ عليكِ معها قد فصلنا القول فيه في الفتوى رقم: 110928.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4209)
ما يلزم التائب تجاه من زنى بهن
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام علي نبينا محمد رسول الله وعلى صحبه أجمعين.. الحمد لله الذي هداني للحق إذ كنت أعصي الله.. وكنت أتبع الفاحشة والآن وقد تبت لله عز وجل، بقي عندي حيرة، وسؤالي هو: كنت أزني مع أكثر من فتاة وكنت أعد بعضهن بالزواج لأجل أن يزنين معي، والآن وبعد أن تبت لله توبة نصوحا طلبت منهن أن يسامحنني لأنني ظلمتهن، ولكن اثنتان منهن رفضتا أن يسامحنني إلا بشروط، واحدة طلبت الزواج وأخرى طلبت مبلغا ماليا كبيرا جداً لا أقدر عليه، مع العلم بأن التي طلبت الزواج قد زنت وفقدت عذريتها من قبل أن أعرفها ولا أستطيع الزواج بها لأني متزوج، فهل ظلمي لهن حق علي يجب أن أسدده يوم الحساب ويأخذن من حسناتي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة ورزقك الرجوع والإنابة إلى طريقه، ونسأله سبحانه أن يرزقك الثبات على طريق العفة والطهارة إنه سبحانه كريم، أما بالنسبة لهؤلاء النسوة اللاتي زنيت بهن فلا يجب لهن عليك شيء طالما وقع الزنا بمطاوعتهن، فقد نص العلماء على أن الزانية المطاوعة لا شيء لها، جاء في زاد المعاد لابن القيم: وإنما لم يجب (المهر) للمختارة (للزنا) ، لأنها باذلة للمنفعة التي عوضها لها، فلم يجب لها شيء، كما لو أذنت في إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه. انتهى بتصرف يسير.
وجاء في كتاب الكافي في فقه الإمام أحمد: ولا يجب المهر للمطاوعة على الزنا، لأنها باذلة لما يوجب البدل لها، فلم يجب لها شيء -كما لو أذنت في قطع يدها. انتهى.
وعليه فلا يلزمك الزواج بمن طلبت الزواج ولا يلزمك دفع المال لمن طلبته.. لكن إن كنت قد أغريتهن أو بعضهن بالزنا فهذا ذنب يجب عليك التوبة منه إلى الله جل وعلا، ويجب عليك أن تشتغل بمداومة التوبة والإكثار من الأعمال الصالحة المكفرة وقطع علاقتك تماماً بهؤلاء النسوة لأن الشيطان قد يزين لك الأمر فتتحدث إليهن بدافع طلب السماح والعفو فلا يزال بك حتى يوقعك في الخطيئة مرة أخرى، فكن حذراً من عدوك بصيراً بحيله ومكره، وقانا الله جميعاً شره ومكره, وراجع للفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26384، 27314، 44344.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4210)
كره الظالم هل يمنع قبول الصيام
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة لم أعرف الحقد على أحد يوما والمعروف عني طيبة القلب والعفو عن كل الناس حتى لو قاموا بأذيتي لكن منذ حوالي سنة قمت بمساعدة شخص كان غريبا عن بلدي وقدمت له مبلغا من المال فقد كان بحاجة إليه. وكان كل ما أملك والمبلغ كان سلفةعلى مرتبي أخذته لأقوم بعملية لعيوني لكن تركته مدة بسبب امتحاناتي والمفروض أن أقوم بالعملية بعد الامتحان لذلك ساعدت هذا الشخص وقد كان مصدر ثقة بالنسبة لنا فقلت لنفسي أساعده ليحل أزمته المالية وقد أخد المبلغ على أساس أن يعيده بعد أسبوع وبعد ذلك اتمم موضوع العملية لكنه غدر بي وذهب وكان مصرا قبل السفر بأن لا يعيد المبلغ.
وخلاصة الموضوع أن هذا الشخص سبب لي أزمة كبيرة في حياتي ومصيبة كبيرة وألما كبيرا لن أنساه أبدا ولا أعرف حتى الآن كيف أخرج من هذه الورطة, والمشكلة الآن أني أحقد على هذا الشخص وهو أول إنسان في حياتي لم ولن أسامحه لما سببه لي من أسى ومصائب فكيف سيأتي رمضان وهناك شخص لم ولن أسامحه فهل سيتقبل الله صيامي وأنا مصرة على حقدي على هذا الشخص؟ وأنا قد فوضت أمري لله بما فعله هذا الشخص بي بعد أن حاولت كثيرا لاستعادة النقود مع العلم بأنني من أسرة متوسطة وأنا وأخي الأصغر مني نحن اللذين نؤمن مصروف البيت أي أهلي يعتمدون علينا في المصروف لأن والدي مريض ولا يعمل فهل هذه عدالة بحق الله بان أغفر لشخص سبب لي شرخا في حياتي لن أنساه عمري لأني كنت طيبة معه والله وحده يعلم نيتي بأن أساعده حينها.
فأرجوكم قولوا لي هل فعلا لن يغفر لي لأنني لم أسامح هذا الإنسان وهل عبادتي وصيامي مقبول في رمضان؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته عن نفسك من عدم حمل الغل والحقد على الناس صفة محمودة شرعا، وكانت سببا لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الصحابة أنه من أهل الجنة. والحديث في مسند أحمد وغيره بسند صحيح.
وأما ما فعله الرجل بك بعد هذا الإحسان وذهابه بلا وفاء فليس من أخلاق أهل الإيمان، إذ الإسلام أمر بأداء الحقوق والأمانات إلى أهلها، وما فعله ظلم إلا أن يكون معسرا فنظرة إلى ميسرة كما قال تعالى.
أو يكون قد ذهب فعرض له عارض حبسه عن الرجوع والعودة فيمهل إن لم يتمكن من إيصال الحق الذي عليه بوسيلة أخرى.
وأما ما حملته على هذا الرجل من بغضاء بسبب ظلمه لك فإنك لا تأثمين به ولا يمنع من قبول عملك، فلا علاقة له بصحة الصيام وقبوله، أو قبول الأعمال، فالله يقول عن أهل الإيمان: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ* وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {الشورى:39، 40}
ويقول عن أهل التقوى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ {الأعراف:43} . مما يدل على أن وجود الغل والحقد على من ظلمك أمر جبلي يوجد حتى في أهل التقوى فضلا من غيرهم، والشريعة تكليفها فيما يطيقه العبد لا مالا يستطيع مدافعته كهذا، وإن كان المستحب للمسلم أن يعفو عمن ظلمه وفي ذلك أجر كبير.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة وفيه: تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا. وفي رواية: إلا المتهاجرين.
فهذا محمول على الخصومة في الباطل والمشاحنة في الباطل لا إذا كانت على حق، كما أن الهجر الممنوع فوق ثلاث يزول بالسلام كما قال أهل العلم، هذا وننبه الأخت السائلة أن علاقة المرأة بالأجنبي عنها يجب أن تكون منضبطة بضوابط الشرع لذلك، فلا تتكلم معه إلا لحاجة مع اجتناب الكلام المثير، وأن تحتجب أمامه ولا تختلي به، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 رمضان 1429(9/4211)
كيف تكتسب مرتبة الصديقين
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف من هو الصديق وكيف يكون الإنسان صديقا، وكيف يبلغ الإنسان درجة الصديق؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالجواب هو ما ورد في الحديث الصحيح عند ابن حبان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
ومن حديث عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله؛ أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمت فمن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء. أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وفي رواية ابن خزيمة: من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء، وراجع فتوانا رقم: 111149.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 رمضان 1429(9/4212)
المحافظة على النوافل باب يوصل إلى محبة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أم لولدين، الصغير عمره سنة وكنت قبل أن ألد ابني الصغير أحافظ على السنن وحتى التراويح في رمضان، أما الآن لا أستطيع دائما أن أصلي السنن، والآن التراويح لا أستطيع صلاتها، وإن من علامات محبة الله للعبد صلاة النوافل فهل معنى هذا أن الله لا يحبني؟ أرجو من حضراتكم الإجابة حتى يرتاح بالي ... جزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمحافظة على السنن والنوافل من القربات إلى الله، وهي باب الوصول إلى محبة الله لقوله سبحانه في الحديث القدسي: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. كما في صحيح البخاري
وتوفيق الله للعبد في هذا الأمر دلالة على محبة الله له ورضاه عنه وتوفيقه له، وترك الإنسان لما كان يعمل من خير من غير عذر مذموم في الجملة ولو كان نافلة، إلا أنه لا يأثم إلا بترك الواجبات، لكن ترك النوافل مؤد إلى الإهمال والتهاون بالفرائض كما نبه على ذلك الشاطبي وغيره.
فننصحك أيتها الأخت بالمجاهدة للنفس والمحافظة على ما كنت عليه من عمل وقربة، وفقك الله لما يحب ويرضى، وإن بذلت جهدك وحبسك عذر فنرجو أن يكتب لك أجر ما كنت تعملين قبل ذلك العذر.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4213)
لا راحة للقلب إلا في ظل طاعة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا خجولة من كتابة السؤال، فقط أريد أن أتوب وأصلح من نفسي....
أنا فتاة ابلغ من العمر 19 عاما لدى ولي يجفو علي أحيانا وفي طفولتي كان كثير الضرب والإهانة لي وأخي يكبرني ب6سنوات وبعيد عني مما دفعني للبحث عن الحنان بالخارج تعرفت على شباب كثير ولكن كلها نت وتليفونات فقط لم أر أحدا منهم ولكن كنت أشعر أني أستمد قوتي من حواراتي معهم، وفي الفترة الأخيرة دخلت في ممارسة الجنس عن طريق النت أو التليفون علما بأني أشعر بالندم بعد كل مرة ولكن أعود مرة أخرى وجهي بدأ يرتسم عليه الخبث والحقارة، فبداية دخولي على النت بدأت أتعرف على شخص محترم ليكون عونا لي على ترك المعصية ولكنه كان من نفس بلدتي فخفت من الكلام والفضايح تركته تقدم لي شخصان ظروفهم جيدة ولكن أبي رفض بحجة إكمال تعليمي وأنا أريد طوق نجاة، لا أعرف ماذا أعمل؟ علما بأني بدءا من عمر 12 إلى 15 أو 16 كنت أحب الصلاة والقرآن وأداوم حضور جلسات الدين، أنا لا أعرف ماذا أعمل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد أخطأت حين ظننت أنك تستطيعين أن تعوضي ما فاتك من حنان الوالد ومودة الأخوة بسلوك طرق تغضب الله، فإنه لا راحة للقلب ولا طمأنينة إلا في ظل طاعة الله، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. {النحل: 97} .
وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى. {طه:124} .
ولا شك أن التعارف بين النساء والرجال الأجانب غير جائز سواء كان عبر التليفون أو الانترنت أو غير ذلك، لما يجر ذلك من بلاء وفتن، والطريق المشروع للعلاقة بين الرجال والنساء هو الزواج الشرعي، فيجب عليك أن تتوبي مما سبق وتقطعي كل علاقة بالرجال الأجانب، ويجب على والدك تعجيل زواجك إذا تقدم إليك زوج صالح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ. رواه ابن ماجة، الترمذي، وحسنه الألباني في الإرواء برقم 1868.
والتعلل بالانتظار لإكمال التعليم ليس مبرراً لتأخير الزواج، فلا تترددي أن تعلني لوالدك رغبتك في تعجيل الزواج إذا أتاك صاحب دين وخلق، ولتوسطي من أقاربك من يبين له وجوب تعجيل زواجك، وحرمة تأخيره بحجة التعليم، وأن ذلك من العضل الذي نهى الله الأولياء عنه، والذي يؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض.
وإلى أن يتيسر لك الزواج، فإن عليك أن تعتصمي بالله، وتتوكلي عليه، وتجتهدي في كل ما يقربك إليه، وتتجنبي كل ما يثير الفتنة، ونوصيك بالحرص على تعلم أمور دينك واختيار الرفقة الصالحة التي تعين على الخير، مع الإلحاح في دعاء الله عز وجل، فهو قريب مجيب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4214)
التوبة من العلاقات المحرمة مع النساء
[السُّؤَالُ]
ـ[هو ليس بسؤال ولكن استفسار فأنا رجل كنت قبل ذلك خاطبا ولم يتم الزواج وكثيراً ما كانت خطوبات تنعكس
حيث إنها كانت على علم بها وأخبرني شخص متدين أن ذلك لربما ناتج عن عمل أو سحر وعملت لي رقية وكان هناك عمل فعلاً والحمد لله شفيت وتزوجت الآن دون علمها، ولكنها عرفت ذلك بعد الزواج ولكن منذ زواجي وأنا دائماً فى مشاكل مع زوجتي بسبب علاقات مع نساء أخريات وأعلم تماما أن هذا حرام، ولكني أجد نفسي فى موقف يربطني بإحداهن والآن أريد أن أعرف هل من الممكن أن يكون هذا عمل للتفرقة بيني وبين زوجتي أم إنه عقاب من رب العالمين لمعصيتي، ولكني أتعجب أني أفعل هذا وأنا منكر له ودوماً زوجتي تكتشف شئياً يعكر صفو حياتنا وقد وصل كثيراً لحد طلب الطلاق، ولكني أستغفر الله وأتوب إليه وأثناء حدة الحوار أرى زوجتي وكأني لا أعرفها، فبالله عليكم أجيبوني لأني فعلاً فى حيرة، هل يمكن أن يكون كل هذا عمل أم أنه عقاب من رب العالمين ولا يمكن أن يرتبط بعمل أو سحر وماذ أفعل.. وفقكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله أن منّ الله عليك بالعافية والشفاء ويسر لك أمر الزواج، وكان عليك أيها السائل أن تقابل نعمة الله هذه بالشكر، فتكف نفسك عما حرم الله وتغض بصرك عما يسخط الله، فغير خاف عليك أن العلاقات المحرمة مع النساء سبب في ضياع الإيمان وذهابه والعياذ بالله، ولا شك أن الذنوب والمعاصي سبب في كدر العيش وتنغيص الحياة وضيق الصدر وكثرة الهموم والغموم وتعقد الأمور، وعموماً فهي سبب كل بلاء وضيق وحرمان، قال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124} ، كما أن الطاعة سبب كل يسر وسعة وعطاء، قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97} .
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الداء والدواء: وتجترئ عليه (أي المعاصي) شياطين الإنس بما تقدر عليه من الأذى في غيبته وحضوره وتجترئ أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
فتنبه أخي لهذا، ولا تلق باللائمة على السحر والسحرة، فأنت أنت الذي ظلمت نفسك، وأنت أنت الذي أوردتها موارد التهلكة، فبادر بالتوبة قبل أن يحال بينك وبينها، قال ابن الجوزي رحمه الله: وربما بغت العاصي بأجله ولم يبلغ بعض أمله، وكم خير فاته بآفاته، وكم بلية في طي جناياته، قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة. اهـ
فاشتغل بالرجوع إلى الله سبحانه يبدل حالك من الضيق إلى السعة، ومن الحزن إلى الفرح، ومن الخوف والقلق إلى الأمن والسكينة، وللفائدة في الموضوع راجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 49997، 28390، 102152.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 رمضان 1429(9/4215)
محاسبة النفس والحذر من الوقوع في الوسوسة
[السُّؤَالُ]
ـ[خرَّج مسلم من حديث أبي هريرة -رضى الله عنه-: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأُتىَ به فعَرَّفَهُ نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتَّى استُشهدتُ؟ قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يُقال جريءٌ فقد قيل, ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقى فى النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتىَ به فعرَّفه نِعَمَهُ فعرفها قال: فما عملتَ فيها؟ قال تعلمتُ العلم وعلّمته, وقرأتُ فيكَ القرآن؟ قال: كذبت، ولكنّك تعلمتَ العلمَ ليُقال عالمٌ, وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه; حتى ألقى فى النار, ورجلٌ وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلَّه فأُتىَ به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها, قال فما عملت بها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك؟ قال: كذبت ولكنك فعلتَ ليقال هو جوَّادٌ فقد قيل, ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه ثم أُلقى فى النار. منذ أن سمعت هذا الحديث حتى صرت أشك في نفسي، فما عدت أدعو بصوت عال وصرت أناقش كل شيء مع نفسي قبل القيام به، فهل هي وسوسة أم أنا حقا أصلح نفسي؟ شكراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمحاسبة النفس أمر حسن مطلوب، وطلب الورع والتقوى والبعد عن الرياء أمر شرعي هام جاءت النصوص منبهة عليه وآمرة وطالبت به، فما أنت عليه من ذلك خير كثير، إلا أنه يتعين الحذر من أن يخرج الأمر إلى الوسوسة والشك المفضي إلى التردد والقلق والشك في صحة الأعمال، فإن هذا من أعمال الشيطان الموصلة إلى الترك والقنوط من رحمة الله، فننصح بعدم المبالغة فيما ذكرت بل الدعاء أن يصلح الله العمل ويتقبله كاف والحرص على إخلاص العمل وحده، بدون حب قاصد لثناء الناس على العبادة التي تؤديها من صدقة أو دعاء أو صلاة. أما ما ذكرته من خفض الصوت بالدعاء فهذا المشروع إذ رفع الصوت به قد ورد النهي عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا. قال ذلك لما سمع البعض يرفع صوته بالذكر والدعاء.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رمضان 1429(9/4216)
الحرص على تعلم العلم النافع ومعرفة الدين الصحيح
[السُّؤَالُ]
ـ[أود كثيرا معرفة الدين الصحيح والاقتداء به لكن ليس لدي ثقافة دينية ولا يوجد من يساعدني مع العلم أنني حاولت ذلك قدر مستطاعي ولكن دون جدوى فأنا أشعر أنني ابتعدت كثيرا عن الله فما العمل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحسن أن تكون لديك رغبة في تعلم العلم النافع ومعرفة الدين الصحيح الذي يلزمك التعبد لله عز وجل، وشعورك بالبعد عن الله تعالى علامة خير فيك ودليل على صدق الرغبة، وهذا مما يرجى معه أن ييسر الله تعالى لك ما تصبو إليه. ولا يخفى عليك أن الله تعالى قد يسر للناس في هذا الزمان سبل الحصول على العلم النافع ومن ذلك شبكة المعلومات الإنترنت. وإننا نقول لك على الخبير سقطت. فهذا الموقع الشبكة الإسلامية من المواقع التي تتبنى المنهج الصحيح وتسلك سبل الوسط والاعتدال في الدعوة إلى الله تعالى، وتسير على منهج أهل السنة والجماعة في فهم الدين. فاشدد يديك عليه واحرص على الانتفاع مما فيه في مختلف العلوم وبادر بالسؤال عما قد يشكل عليك وراجع الفتوى رقم: 51115.
وننصحك بالحرص على مصاحبة الأخيار والبعد عن أهل الفسق والفجور، فالمرء على دين خليله. ولمزيد الفائدة راجع الفتويين: 12928، 15219.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رمضان 1429(9/4217)
أصاب ذنبا ثم مرض فاسودت الدنيا في عينه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا حديث التخرج من الثانوية وأنا أخطأت بأنني قبلت الخادمة من فمها وبعد فترة جاءتني سخونة وصداع خفت وعملت تحليلا للخادمة ظهرت نتيجة التحليل ممتازة وأنا خائف، إلى الآن تأتيني تشاؤمات أني قد انتهيت، أشعر أن الدنيا سوداء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب عليك أولاً التوبة مما أقدمت عليه من تقبيل هذه المرأة التي هي أجنبية عنك، والواجب عليك الحذر من كل ما قد يؤدي بك إلى الوقوع في مثل ذلك مستقبلاً كالخلوة بها ونحو ذلك..
وأما ما أصبت به من سخونة وصداع فلا يلزم أن يكون ذلك بسبب هذا الذنب، ولكن لا يبعد أن يكون هذا الذنب هو السبب، فقد قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير ٍ {الشورى:30} ، وخوفك من هذا الذنب أمر طيب.
ولكن عليك بالحذر من أن يؤدي بك التفكير فيه إلى الوقوع في شيء من الوساوس، فرحمة الله واسعة وقد جعل سبحانه كثيراً من المكفرات التي يمكن أن تمحي بها مثل هذه الذنوب، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 51247.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رمضان 1429(9/4218)
يريد أن يتحلل من المظالم لأناس يعرفهم وآخرين يجهلهم
[السُّؤَالُ]
ـ[عرفت والحمد لله أن من شروط التوبة التحلل من المظالم لكني ارتكبت معصية شنيعة في حق كثير من الناس أظن أنه من الصعب أن أتحلل من كل تلك المظالم وهي أني كنت أستخدم المسنجر وكنت أستعمل عدة أسماء وأدخل عندي أناسا كثيرين لا يعرفونني ولا أعرفهم وأتكلم معهم بكلام سيئ مع أني لا أعرفهم ولا يعرفونني وارتكبت الحرام في حقهم وكنت أعمل هذا الفعل عبر عدة أسماء من المسنجر مع عدد كبير من الناس المجاهيل الذين لا يعرفونني إلا اثنين أو ثلاث أو ربما أكثر يعرفونني فقط، أما الباقي فكلهم لا يعرفونني وحصل هذا الذي ذكرت لكم قبل سنتين أو ربما أقل، والآن والحمد لله تبت إلى الله عز وجل وأردت أن أتحلل من تلك المظالم لكني نسيت كثيرا من الأسماء التي كنت أستعملها ونسيت كثيرا من كلمات المرور أيضا هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هناك بعض الناس الذين كنت تكلمت معهم لكني نسيت ايميلاتهم ولا أتذكرها وهناك من أشك هل تحدثت معه أم لا ولا أعرف هل أسأت إليه أم لا، وذلك بسبب العدد الكبير الذين كنت أكلمهم علما أن هذا حصل منذ سنتين أو ربما أقل فو الله أنا ندمت كثيرا على ما فعلت ولا أدري كيف سأتحلل من كل هذه المظالم ولا أعرف كيف وماذا يجب علي أن افعله؟ والله أنا خائف جدا خوفا لا يعلمه إلا الله ووالله لن أعود أبدا إلى ما كنت أفعل لأني تبت إلى ربي عز وجل لكني لا أعرف كيف سأتحلل من هذه المظالم الكثيرة، ولا أدري كيف وماذا يجب علي أن أفعل، والله أنا نادم ندما شديدا وحائر جدا لا أدري كيف أتحلل من هذه المظالم ولا أعرف ماذا يجب علي أن أفعل هل أكتفي بأنني لن أعود أبدا إلى هذا الفعل إن شاء الله فقط ولا أزيد على ذلك لأن هذا حصل منذ سنتين أو أقل ولا أفعل غيره ولا أزيد عليه لأنه صعب وشاق علي أن أتحلل من كل تلك المظالم بسبب ما ذكرت لكم؟ أم يجب علي أن افعل شيئا آخر بالإضافة إلى عدم عودتي إلى ذلك الفعل؟ والله أنا خائف من الله خوفا شديدا وحائر كثيرا لا أدري ماذا يجب علي أن أفعل، فأرجوكم ساعدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
اعلم أيها الأخ أن المظالم المتعلقة بالخلق يشترط للتوبة منها:
أولا: الإقلاع عنها.
ثانيا: الندم على فعلها والعزم على عدو المعاودة لها.
ثالثا: التحلل ممن ظلمته.
ولما كان الأمر كما قلت فعليك التحلل ممن تستطيع الوصول إليهم فإن الميسور لا يسقط بالمعسور، ومن تعذر عليك الوصول إليه لجهلك به أو بعنوانه فاستغفر لهم ولنفسك تجد الله غفورا رحيما.
وباب التوبة مفتوح على مصراعيه فبادر قبل الممات فإنه سبحانه وتعالى يتوب على من تاب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 رمضان 1429(9/4219)
التوبة من إتيان الزوجة في الدبر
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت آتي زوجتي من الدبر ما يقارب 4 سنوات تقريبا، فهل صلاتي وصدقاتي خلال هذه السنوات كانت مقبولة مني أم لا؟، وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإتيان الزوجة من الدبر محرم شرعاً، وسبق في الفتوى رقم: 4340، ولم يرد حسب علمنا ما يدل على عدم قبول صلاة فاعله وصدقاته، وعلى كل حال فما دمت قد تبت فإن الله يقبل التوبة عن عباده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ {الشورى: 25} . بل إن الله تعالى من سعة فضله ومن رحمته بعباده يبدل السيئات التي قد تاب منها العبد إلى حسنات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {68-70} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 رمضان 1429(9/4220)
ركن التوبة الأعظم وسبل استجلابه
[السُّؤَالُ]
ـ[كنا مجموعة من الشباب غير متزوجين وغير ملتزمين وكان الواحد منا إذا ارتكب جريمة الزنا أخبر باقي المجموعة بتفاخر إلى أن تاب الله علي ولم أقرب هذه الجريمة منذ تزوجت كان ذلك منذ أكثر من 8 سنوات وقد أديت فريضة الحج بعد الزواج، فهل يتقبل الله توبة المجاهر بالزنا.. أيضا أعلم أن شروط التوبة هي التوقف عن الذنب والندم ثم الاستغفار غير أنني لا أشعر بالندم حيث أحيانا ما أتذكر هذه الآثام بشيء من الفرح والسرور وليس بندم وأسى على ما اقترفت وتجرأت على حرمات الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمجاهرة بالذنب ذنب آخر، يجب التوبة منه كما تجب من الذنب نفسه، وقد سبق بيان معنى المجاهرة بالمعاصي وقبحها، وبيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كل أمتي معافى إلا المجاهرين. في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18932، 1863، 28218، 29331.
وأما اشتراط الندم لصحة التوبة فهو صحيح، بل هو الركن الأعظم للتوبة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني. والندم في الحقيقة انفعال لا فعل، قال الشنقيطي في أضواء البيان: أعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصحّ توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب، والإقلاع عنه إن كان متلبسًا به كما قدّمنا أنهما من أركان التوبة، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف، وإيضاحه في الأوّل الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلاً وإنما هو انفعال، ولا خلاف بين أهل العلم في أن اللَّه لا يكلف أحدًا إلا بفعل يقع باختيار المكلف، ولا يكلف أحدًا بشيء إلا شيئًا هو في طاقته؛ كما قال تعالى: لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا. وقال تعالى: فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وإذا علمت ذلك فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلاً تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلاً، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق ... فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلف، ولا مقدور عليه.
والجواب عن هذا الإشكال: هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة، ولم يحابها في معصية اللَّه لعلم أن لذّة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السمّ القاتل، والشراب الذي فيه السمّ القاتل لا يستلذّه عاقل لما يتبع لذّته من عظيم الضرر، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشدّ من السمّ القاتل، وهو ما تستلزمه معصية اللَّه جلّ وعلا من سخطه على العاصي وتعذيبه له أشدّ العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه، وينغّص عليه لذّة الحياة، ولا شكّ أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، أنه يتوصّل إلى حصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها، فالحاصل أنه مكلّف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلّفًا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤديّة إلى الندم على المعصية، قول الشاعر ـ وهو الحسين بن مطير:
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه * حلاوته تفنى ويبقى مريرها.
ونقل عن سفيان الثوري رحمه اللَّه أنه كان كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها * من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبّتها * لا خير في لذّة من بعدها النار. اهـ
وأعلم أخي السائل أن صلاح القلب برسوخ الأعمال القلبية فيه ـ وأصولها: المحبة والخوف والرجاء ـ هو الذي يحمل المذنب على الندم، فمن يحب ربه محبة صادقة إذا بدر منه ذنب تألم لمخالفة محبوبه، ومن يرجو رحمة ربه يتألم بذنبه لخوفه من فوات مطلوبه، ومن يخاف ربه ويرهب من عقابه يتألم بذنبه لخوفه من حصول مرهوبه، فتحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر هو السبيل لحصول الندم على المعاصي. وللفائدة راجع في ذلك الفتوى رقم: 10800.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 رمضان 1429(9/4221)
التوبة من اللواط وسؤال الله تعالى العافية
[السُّؤَالُ]
ـ[لي صديق عمره 27 عاما متزوج وله ابن معروف عنه الهدوء والتدين لكنه منذ أيام وقع في فاحشة اللواط مع شخص يصغره ببضع سنوات وكان هو الفاعل والشخص الآخر المفعول به، كما روى لي وهو يكاد يهلك ندما على ما فعل، وقال لي إنه أخبر زوجته بما حصل لأنه أحس بأنه قد خانها وأنه أخطأ في حقها فسامحته زوجته العاقلة الطيبة كما وصف لي وأخبرني أنه فعل ذلك الفعل الشنيع دون قصد منه أو تعمد لكنه كان من باب الممنوع مرغوب وأنه لم يكن يتصور أن يقع بالفعل في الفاحشة لكنه كما قال لي وبدا لي أيضا أنه قطع اتصاله تماما بما هو له علاقة بأي فحش من صور وأفلام وهو الآن نادم أشد الندم على ما فعل وأنه عازم على عدم العودة نهائيا لأي فعل يقرب حتى من أي فاحشة. فهل له من كفارة؟ وهل يقبل الله توبته؟ كما أنه قلق من إصابته بأي مرض فهل من الممكن أن يصاب وقد أخبرني أنه مارس دون أي واق وكان الفاعل فقط لكنه قام بالإنزال خارجا كما أنها كانت أول مرة حدث فيها ذلك له لكن الشخص المفعول به أخبره أنه وقع في ذلك عدة مرات من قبل. أرجو الرد سريعا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أحسن صديقك هذا بمبادرته إلى التوبة من هذا الفعل الشنيع ومما يزيده هذا الفعل قبحا صدوره ممن من الله عليه بالزواج، فيكفر هذه النعمة فيلجأ إلى الحرام، ومن تاب تاب الله عليه، فرحمة الله واسعة ومغفرته لا يتعاظمها ذنب وراجع الفتوى رقم: 26148.
ولا يلزمه كفارة مخصوصة، ولكن عليه أن يكثر من عمل الصالحات، وأن يجتنب كل وسيلة قد تقوده إلى الوقوع في هذه الفاحشة مرة أخرى، ولا يمكن الجزم بأنه سيصاب بمرض بسبب ذلك أو لن يصاب، وما يمكنه أن يفعله هنا أن يكثر من سؤال الله تعالى العافية، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا هو أن صديقك هذا قد أخطأ بإخباره إياك وكذا إخباره زوجته بما وقع منه، وقد كان الواجب عليه أن يستر على نفسه، فالواجب عليه التوبة من ذلك وعدم العود لمثله مستقبلا.
وانظر الفتوى رقم: 20880.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 رمضان 1429(9/4222)
التوبة والحذر من خطوات الشيطان
[السُّؤَالُ]
ـ[موضوعي هام وخطير بدأت في ممارسة العادة السرية عندما كنت في الثالثة عشر من عمري ولازمتني إلى وقتي هذا طبعا أنا لست متزوجا وعمري 28سنة كنت أمارس العادة عبر سماع صوت امرأة في الهاتف أو صوت ولد واستمرت وأصبحت أريد سماع صوت أختي لكي أقذف المني، كنت أجلس أتخيل أني أمارس الجنس مع أختي أتخيل أن صديقا لي جميلا يمارس الجنس مع أختي وأصبحت أتمنى من أصدقاء لي ممارسة الجنس معي وكان لي صديق في نظري أنه جميل طلبت منه ممارسة الجنس معي فوافق وانتهى مني وكنت مسرورا
واستمررت على هذا الحال ولكن عندما أقذف المني أرجع إلى وعيي وأغتسل وأصلي وأجلس وأسأل نفسي لماذا فعلت هذا الشيء لا أجد جوابا أتركها أياما ومن ثم أرجع إليها حتى وصلت وتعديت حدود الله صرت وقت الممارسة أطلب من أن أصبح مسيحيا أو يهوديا، أنظر إلى التلفاز وأشاهد النساء العاريات ويوجد صليب على جسمها أعرف أن هذه العارية مسيحية فاكلمها مثل المجنون وأقول: أريد أن أصير مسيحيا من أجلك أو إذا شاهدت يهودية نفس الشيء واستمررت، ولكن هنا أصبح الشيء الخطير والمهم هنا لب الموضوع كنت أمارس العادة وأنظر إلى الأفلام الوسخة الحقيرة مثلي فشاهدت مقطع ولد عاري فوصفته بالله ومن ثم كفرت بالرب ومن ثم قلت إلى هذا الولد أنت ربي أنت الذي خلقتني أنت وأنت وقلت أنا أحب الشيطان وكان يراودني الوسواس أن أسجد للشيطان ولكن لم أفعل وراودني الوسواس أن أبول على القرآن ولكن لم أفعل أنا حقير وتافه ولكن أنا مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ربي ومحمد نبيي والكعبة قبلتي والقرآن إمامي الله ربي لا إله ألا هو خلقني وأنا عبده وأنا على وعده ما استطعت وأبوء بنعمته علي، يارب أغفر لي ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب ألا أنت إن رمضان أتى وأنا أعاهد الله بأني لن أعود إلى فعل هذا ماحييت وأتوب إلى الله ربي ورب العرش العظيم.
يا رب من هنا من مجلسي هذا أدعوك يا رب أن تغفر ذنبي هذا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يا رب أنا عبدك وأنت ربي أنت خلقتني لا أله ألا أنت.
كما شاهدتم اسمي من أجمل الأسماء: أحمد، فكيف حصل هذا والله إني أحبك يا رسول الله والله إني أحبك يا رب يا رب يا رب يا رب أستغفرك يا رب أستغفرك.
أرجوكم يا سيادة المفتي إن رمضان أتى وأنا تائب والله إني تائب ومعترف بهذا الذنب الكبير الحقير ولكن أنا ضعيف أمام الشيطان ووسوسات الشيطان، والله أنا ضعيف ولكن بإذن الله عهدٌ علي لن ولن تكون مرة ثانية
بإذن الواحد الأحد الذي له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شئ قدير.
أشهد أن لاأله ألا الله وأن محمدا رسول الله أقولها إيمانا واحتسابا، حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل.
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم أن يتوب عليك، وأن يشرح صدرك للإيمان، وأن يعيذك من شر نفسك وشر الشيطان وشركه. وما ذكرتَ ـ أخي السائل ـ أمور يقشعر الجلد من هولها وفظاعتها، وهكذا دائما خطوات الشيطان، يبدأ بالمعاصي صغيرها ثم كبيرها، حتى يوقع الإنسان في الكفر الأكبر إن استطاع، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. {الحشر: 16} .
ولذلك نهانا الله سبحانه عن اتباع خطوات الشيطان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. {النور: 21} .
فعليك أخي الكريم أن تعتبر بما حصل لك، وتقطع الطريق على الشيطان بالتزام طاعة الله واجتناب محارمه، ولا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمته تعالى، فإن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر: 53} .
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
وقد وعد الله تعالى من يقترف أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات، إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا. {الفرقان:71،70،69،68} .
فهنيئا للتائب الصادق الذي يُتبِع سيئاته بحسنات ماحية، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. {هود: 114} .
ويكفي التائب أن يعلم محبة الله للتوبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ. متفق عليه.
فينبغي لك أن تنشغل بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا.
ولا شك ـ إن شاء الله ـ أنك إن استقمت على توبتك وبدلت سيئاتك بحسنات أن الله الكريم سيقبلك ويرحمك، قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأعراف: 153} فأقبل على الله يقبل الله عليك، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. متفق عليه.
وقد سبق بيان حقيقة التوبة وشروطها ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5450، 75958، 29785، 7471، 42052.
ثم إننا ننصحك بالمبادرة إلى الزواج فإنه وسيلة لتحصين فرجك وقد يكون واجبا في حقك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 رمضان 1429(9/4223)
الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي هو ما فضل العمل في العشر الأواخر من رمضان!! وهل يوجد دليل في السنة على ذلك!!؟ جزاكم الله كل خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الاجتهاد في العشر الأواخر بالعبادة فضله عظيم لأن فيها ليلة القدر التي من فضلها أنها خير من ألف شهر، وقد دلت السنة على مشروعية الاجتهاد بالعبادة فيها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.. وقد بوب البخاري على هذا الحديث بابا سماه: باب العمل في العشر الأواخر من رمضان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ...
وأمر بتحري ليلة القدر في العشر الأواخر، فقال: ... التمسوها في العشر الأواخر - يعني ليلة القدر- فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي.. رواه البخاري ومسلم واللفظ له..
والاجتهاد في هذه العشر بالعبادة أمر متفق على استحبابه، جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على استحباب مضاعفة الجهد في الطاعات في العشر الأواخر من رمضان، بالقيام في لياليها، والإكثار من الصدقات وتلاوة القرآن الكريم ومدارسته، بأن يقرأ عليه أو يقرأ هو على غيره، وزيادة فعل المعروف وعمل الخير، وذلك تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 رمضان 1429(9/4224)
الاستفامة على الطاعة وتجنب المعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[ألاحظ أنه كلما قمت بقراءة القرآن في جوف الليل أو قيام أو قرب من الله سبحانه أجدني واقعة في معصية كبيرة وأخاف أن يكون هذا الأمر علامة عدم قبول الطاعة أو أنني منافقة وبعد المعصية أقوم بعمل صالح عسى ربي أن يغفر لي وأدعو وأستغفر ثم أعود للمعصية من جديد وهكذا تعبت من هذه الحالة كيف أطلق هذه المعاصي طلاقا بالثلاثة؟ أفيدوني أرجوكم فأنا ممن يعيش عاقبة معاصيه في الدنيا قبل الآخرة وأنا جد خائفة من تعسر أموري ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر لك أولا حرصك على الخير وقيام الليل وتلاوة الكتاب العزيز، ونسأل الله تعالى أن يجزيك على ذلك خيرا، ونوصيك بالاستمرار في عمل هذه الطاعات وغيرها، والمبادرة إلى التوبة النصوح كلما أذنبت، فإننا نخشى أن الشيطان بمثل هذه الخواطر يريد أن يوقعك في القعود عن الطاعات، وفي المقابل يحفزك على الجرأة على معصية الله تعالى، فلا يلزم من وقوع المسلم في الذنب عقب فعل الطاعات أن يكون ذلك علامة على عدم قبول عمله، ولكن ينبغي أن تحرصي على تدبر كتاب الله عند تلاوته واستحضار عظمة الله عند قيامك من الليل ليورث ذلك في قلبك خوفا وانكسارا وذلا وافتقارا وإيمانا تجدين حلاوته في قلبك، وإذا حل الإيمان في القلب لم يجد الشيطان إليه سبيلا، فكان في ذلك عون لك على اجتناب المعاصي، ولمزيد الفائدة راجعي الفتويين: 24031، 29464.
وأما تعسر الأمور بسبب الذنوب فهو أمر وارد ولكن ليس بلازم أن يحدث ذلك، ثم إن مثل هذا الشعور مما ينبغي أن يكون حافزا على اجتناب المعاصي.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 رمضان 1429(9/4225)
مصير المؤمن العامل للصالحات المرتكب للمعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل إذا كان الشخص يرتكب ذنباً عقوبته اللعنة وعملاً جزاؤه الجنة فهل يدخل الجنة أو النار؟ مثلاً امرأة نامصة وقد مات لها أولاد صغار أو كافلة ليتيم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشخص المؤمن الذي يرتكب الذنوب والمعاصي الموجبة للعقاب ويعمل أعمال الخير والطاعات التي توجب الثواب هو من الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تكتب عليه سيئاته كما تكتب حسناته، فإن تاب من سيئاته أو غفر الله له ذنوبه دخل الجنة، وإذا لم يتب من سيئاته فهو في مشيئة الله تعالى، فإما أن يتفضل الله تعالى عليه بالعفو والمغفرة، وإما أن يعذب في النار بحسب ذنوبه ومعاصيه ثم يخرج منها إلى الجنة.
وسبق بيان ذلك بتفصيل أكثر وأقوال بعض أهل العلم في عدة فتاوى منها: 108411، 40781، 108453، 109382.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 رمضان 1429(9/4226)
سماع الأشرطة النافعة والهجرة مع القدرة عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعيش في بلد تغلق فيه المساجد ويمنع فيه العلم ويمنع بيع الكتب الإسلامية وتمنع اللحية والحجاب وأشياء أخرى كثيرة لا تخفى على أحد، وأريد أن أتعلم العلم الشرعي وطبعا هذا مستحيل في بلدي لأنه لا يوجد علماء فهم إما في السجون أو هاجروا، فكيف أتمكن من ذلك مع العلم بأنني لا أستطيع الهجرة لأنهم من أمسكوه مرة يصلي الصبح أو ملتحيا فإنهم يجردونه من حقوقه المدنية بما فيها حق الوظيفة العمومية وحق السفر وغيرها، وهل يوجد حل لأتعلم القرآن ونطقه صحيحاً مع العلم بأنه يستحيل أن أفعل ذلك عند شيخ؟ جزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يفرج همك ويكشف كربك. واعلم أنه يمكنك تحصيل العلم وتصحيح قراءتك للقرآن عن طريق سماع الأشرطة النافعة للعلماء والدعاة وقراء القرآن، وهذه الأشرطة بحمد الله متوفرة في كثير من المواقع، وإذا كان حال هذه البلد ما ذكرت فإنه يجب عليك الهجرة منها مع القدرة، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:97} ، قال الألوسي في روح المعاني: اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وعن إدخالهم الخلل فيه وعن العجز عن القيام بواجبات الدين بأنهم كانوا مقهورين تحت أيدي المشركين، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، فلم تقبل الملائكة عذرهم لأنهم كانوا متمكنين من الهجرة، فاستحقوا عذاب جهنم لتركهم الفريضة المحتومة. انتهى.
ومقتضاه أن من كان مقهوراً لا يقدر على الهجرة حقيقة لضعفه أو لصغر سنه، وسواء أكان رجلاً أم امرأة بحيث يخشى التلف، فلو خرج مهاجراً فذلك عذر في الإقامة وترك الهجرة، وقد صرحت بهذا المعنى الآيتان التاليتان للآية السابقة وهما: إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {النساء:98} ، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 8614.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 رمضان 1429(9/4227)
أسباب زيادة الرزق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل قراءة سورة طه بعد صلاة الصبح تكفي لرزق اليوم وسورة الذاريات إذا قرئت كل يوم تنفع للرزق، أرجو أن تعطيني أيضا بعض الفوائد للرزق....
وهل سورة الاسراء اذا كتبت بالزعفران ثم محيت بالماء وشرب ماؤها تنفع للولد الذي يتعذر عليه الكلام؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكلُ ما ذكرته بخصوصِ سورة طه والذاريات والإسراء مما لا أصل له، ولا يثبتُ شيء منه عن النبي صلي الله عليه وسلم.
وأما عن سبيل سعة الرزق فقد بينه الله عز وجل بما يكفي ويشفي ويغني عن قول كل قائل، فقال تعالي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. {الطلاق 3,2} .
فعليكِ بتقوى الله في السر والعلن فإنها سبب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، وربما حرم الإنسان رزقا بسبب ذنوبه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سنن ابن ماجه وحسنه الألباني قال صلى الله عليه وسلم: وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وعليك يا أختي أن تكوني بما في يدِ الله أوثق منك بما في يدك، وأن تتوكلي عليه وأن تعلمَي أن رزقكَ لن يأخذه غيرُك وأن ما أصابك ما كان ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ومن أسباب زيادة الرزق الصلاة قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى. {طه:132} .
ومنها الاستغفار كما قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا. {نوح:12،11،10} .
ومنها صلة الرحم فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه. متفق عليه من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.
ومنها كثرة الصدقة فقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {سبأ: 39} .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما نقص مالٌ من صدقة. رواه مسلم.
ومنها الإكثارُ من الحجِ والعمرة والمتابعةُ بينهما فقد قال صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة. رواه الترمذي وقال حسن صحيحٌ غريب.
ومن أهمها الدعاء فإنه يجمعُ للعبدِ خير الدنيا والآخرة، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يسأل الله الرزق الطيب فعن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا. حسنه الحافظ في نتائج الأفكار.
وبالجملة فالطاعات كلها سببٌ لزيادة الأرزاق والبركة فيها، نسأل الله أن يرزقنا وإياكَ علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً متقبلا ...
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 رمضان 1429(9/4228)
الظلم من أسباب الحرمان ومحق البركة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يبارك الله للظالم حتى يتمادى في ظلمه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن البركة تنال بالتقوى والعمل الصالح كما قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {الأعراف:96} .
وأما الظلم وغيره من المعاصي فهو من أسباب الحرمان وانعدام البركة، فقد ذكر الله تعالى في سورة القلم أن أصحاب الجنة حرموا منها بسبب عزمهم على حرمان الفقراء منها، فبسبب عزمهم على هذا الظلم حرموا من الجنة كلها.
وفي حديث الصحيحين: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما.
ثم إنه قد يستدرج الله تعالى بعض العصاة والكفار فيفتح لهم الأرزاق ابتلاء لهم ثم يهلكهم بعد ذلك كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. {الأنعام:44} .
فقد يرى الظالم في فتح أبواب الرزق ما يظنه بركة، وما هو إلا استدراج له، فالواجب عليه أن يتوب ويتحلل من المظالم ويتقي الله ليحقق الله له جميع رغباته.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 47005، 54062، 60327.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 رمضان 1429(9/4229)
الإشكال في الإصرار على واستمرائه؛ لا في حصوله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا رجل مسلم ولله الحمد وملتزم بالجماعات والعبادات وزوجتي متوفاة ولدي طفلة، منذ فترة تعودت على فتح المواقع الإباحية للفضول والتعرف على هذا الجانب ومرات أقوم بعملية الاستمناء وأعرف أنني مذنب وأندم بعدها مباشرة وأستغفر وأتوب وأطلب من الله أن ييسر لي أمر الزواج، وأنا أعترف بأن ليس لي مشكلة مع ديني وأخلاقي إلا هذا فأرجو أن توضحوا لي النقاط التالية:
1-هل هذا يأتي من (نحن غير معصومين) .
2- أو يأتي من قبيل اللمم أي من غير الكبائر.
3- أو لا بد للإنسان أن يذنب ويتوب حتى يغفر له.
4- او يمحي الله من خلال الوضوء والصلوات والجمع ورمضان.
5- أو كتب الله على كل بني آدم حظه من الزنى والعينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذب.
وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يتوب عليك، وأن يطهر قلبك، ويحصن فرجك، وأن يرزقك العفة والعفاف.
وأما ما ذكرت أخي الكريم من حالك، فإنما هو من نزغات الشيطان وفعل النفس الأمارة بالسوء، والواجب عليك أن تبادر بالتوبة والاستغفار، ولا يستجرينك الشيطان.
ومع ذلك لا تيأس من روح الله، فقد وصف الله تعالى المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران: 135} .
ووصف المحسنين فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ {النجم: 32} قال السعدي: أي يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا وشرب الخمر وأكل الربا والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة {إِلا اللَّمَمَ} وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر. اهـ.
وقال الله عز وجل أيضا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {الأعراف: 201} قال السعدي: لما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه. اهـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مُفْتنَّا توابا نساء، إذا ذُكِّر ذَكَرَ. رواه الطبراني، وصححه الألباني. قال المناوي: مفتنَّا أي ممتحنا يمتحنه الله بالبلاء والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيرا، توابا نسيا إذا ذكر ذكر أي يتوب ثم ينسى فيعود ثم يتذكر فيتوب هكذا يقال فتنه يفتنه إذا امتحنه اهـ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. رواه البخاري ومسلم واللفظ له. قال النووي: معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك اهـ.
وقال أيضا في باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة: هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة، قبلت توبته، وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته اهـ.
فليس الإشكال إذن في حصول الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
فالمهم أن يبادر العاصي إلى التوبة وأن تسوءه سيئته فيكرهها ويتألم بسببها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَسُرَّ بِهَا وَعَمِلَ سَيِّئَةً فَسَاءَتْهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. رواه أحمد، وصححه الألباني.
وعليه، فما ذكرت أنه يقع لك من الندم على الذنب ومن المبادرة إلى التوبة والاستغفار فإنه أمر حسن، ولكننا ننصحك بالابتعاد عن إطلاق العنان لنفسك في تبرير ما أنت فيه بأنه مجرد لمم، وأنك غير معصوم، وأن الحسنات تكفر السيئات، وأن المرء لا بد له من الوقوع في الخطايا ونحو ذلك، فإن هذه التبريرات وإن كانت صحيحة إلا أن الاستمرار فيها مفض إلى الاستمرار على الذنب، فبادر أخانا الكريم إلى التوبة، وأحسن حتى يحسن الله إليك، واجتنب ما حرم الله حتى ييسر الله لك الحلال.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 رمضان 1429(9/4230)
علاقة المسلم بربه هل أساسها المصلحة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل العلاقة بين المسلم وربه هي علاقة مصلحة. فالمسلم يصلي ويصوم ويفعل الخير ويتجنب المعاصي خوفاً من غضب ربه ولدخول الجنة. وبالتالي هل الله تعالى خلق البشر في الدنيا لتكون العلاقات بينهما علاقات مصلحة. فأنت إن لم تعد مريضاً في المستشفى هو لا يعودك وإن لم تأتِ بهدية لفلان لا يأتيك بهدية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلاقة المسلم بربه هي علاقة بين عبد تجب عليه طاعة سيده، وبين سيد خلق ذلك العبد ويرزقه وينعم عليه ويرحمه ويملكه وله الحق في أمره ونهيه، وللرب الحق في أن يغضب إن عصاه عبده، وطاعة ذلك العبد لربه هي في صالح العبد وليست مصلحة للرب الغني عن جميع العباد كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ {إبراهيم: 8} وكما قال تعالى في الحديث القدسي: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. رواه مسلم.
وأما وعد الرب للعبد بدخول الجنة إن أطاعه فذلك فضل من الله تعالى ورحمة منه وترغيب لذلك العبد الذي لولا الترغيب والترهيب لما استقام حاله، فالعبد يعمل حسنة واحدة ويتفضل الله عليه بعشر حسنات عنها.
وما ذكره السائل من أنك إن لم تأت بهدية فلا يهدي الرب إليك وإن لم تعد مريضا لا يعودك لا نعلم لهذا الكلام ما يدل عليه من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة.
وإن كان يعني الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه.. إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.. الخ فهذا ليس فيه أن من لم يعد مريضا فإن الله لا يعوده.
ولو وجد نص بالمعنى الذي يقصده السائل فإنه يكون من باب أن الجزاء من جنس العمل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 رمضان 1429(9/4231)
تعذيب الله تعالى المسيء لا ينافي العدل
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يعذب الله الناس في النار وهو غني عن عذابهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى شرع تشريعه الحكيم، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرف الناس ما خلقوا له من عبادة الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى غني عن عبادتهم وعن عذابهم، وقد شرع لهم الشرائع ليكسبوا بها الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، وتوعدهم بالعذاب إن عاندوا وخالفوا أمره، فإن عذبهم سبحانه لعصيانهم فليس بظالم لهم، ومن العدل والحكمة الإلهية ألا يساوي الله تعالى بين الطائعين والمجرمين، بل يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
فقد قال الله تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ {الجاثية:21}
وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ {ص:28}
وقال تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا. {الفتح: 5،6}
وليس من الأدب مع الله تعالى الاعتراض على شيء من فعله، فقد قال جل من قائل: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 رمضان 1429(9/4232)
كره المعصية والحزن عند رؤية الناس يرقصون ويلهون
[السُّؤَالُ]
ـ[كلما وجدت إنسانا يرتكب معصية كرهته وأتخيل صورته وهو يدفن بالقبر، وعلى الجانب الآخر كلما ذهبت لحضور عرس ووجدت الناس يلهون ويرقصون ضاق صدرى لدرجة أني أكاد أبكي من الحزن فأرجو من سيادتكم مساعدتي في تفسير ذلك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكونك تكره من يرتكب معصية فهذا أمر جيد، وتخيلك صورته وهو يدفن في القبر إن كان تذكرا للحساب فأمر حسن، وكذا حزنك بسبب ما ترى من لهو الناس ورقصهم، ولكن ههنا أمر مهم وهو أنه ينبغي أن يكون ذلك دافعاً للشفقة عليهم والدعاء لهم بالصلاح والهداية والحرص على توجيههم إلى الخير لأن هذا من حق المسلم على أخيه المسلم.
وههنا أمر آخر وهو أنه ينبغي عدم تجاوز الحد فيما ذكرت من الكراهية والحزن، لئلا يترتب على ذلك نوع من المرض النفسي، واعلم أن المسلم لا يبغض بالكلية وإنما يبغض من وجه ويحب من وجه، فيبغض بقدر ما فيه من المعصية لله، ويحب بقدر ما فيه من الطاعة، كما هو مبين في الفتوى رقم: 24845.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 رمضان 1429(9/4233)
التوبة من أذى الجيران وانتهاك خصوصياتهم
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي هو: عندما كنت صغيراً (في عمر الـ 15 سنة تقريبا) كان لدينا جيران يسكنون في البيت المقابل لنا، وكان هؤلاء الجيران يتركون مفتاح بيتهم لدينا عندما يسافرون في فترة الإجازة الصيفية وذلك لاستخدامه للضرورة في حال حدوث أي طاريء حال غيابهم ... وكنت أنا آخذ مفتاح بيتهم في خلسة عن أهلي، وأدخل إلى بيت جيراننا وأبدأ في العبث في غرفة بناتهم والنظر إلى ملابسهم الداخلية، وبعض الأحيان آخذ قطعة من هذه الملابس معي وأحتفظ بها في غرفتي وذلك لكي أقوم بتخيل بنت الجيران وهي تلبسها، وأيضا كنت أقوم بالبحث عن ألبوم صورهم الخاصة والعامة ومشاهدة هذه الصور، وقد بقيت على هذا الحال لعدة سنوات، وأخذت العديد من قطع الملابس (التي لا يشعرون بفقدها) وأيضا العديد من الصور!!!! وقد تركت هذا الفعل منذ فترة طويلة (ما يقارب عشرة سنوات) وذلك بعد زواجي واستقراري، ومنذ فترة ليست بعيدة (تقريبا سنتين) بدأت تحدث معي أشياء غريبة إلى حد ما، مثلا ترقيتي في العمل تتوقف بدون أي سبب وجيه، كل أموري لا تتيسر بسهولة وأعاني فيها كثيراً، مع أنها تتم وبكل بساطة مع غيري ... فبدأت البحث عن أي ذنب ارتكبته في حياتي، وبعد بحث طويل، وجدت هذا الذنب (الذي تم ذكره سابقا) .. ومن المعلوم أنه يستحيل علي إخبار الجيران عما فعلته بحق بنتهم، فكيف لي أن أكفر عن هذا الذنب بطريقة لا يكون فيها إخبارهم مباشرة بما أذنبته بحقهم؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمصائب والبلايا والمنغصات قد تكون دليلا على غضب الله سبحانه وسخطه على العبد، وقد تكون أيضا علامة رضا وإرادة الخير به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يصب منه. رواه البخاري وأحمد.
فإن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه حتى يلقاه نقياً من ذنوبه، فيدخله جنته ودار كرامته حيث لا نصب ولا وصب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة. رواه الترمذي وأحمد بإسناد حسن.
إذا فالمعيار في محبة الله ورضاه هو التوفيق لطاعته والعمل بمرضاته، ومع هذا فينبغي على الإنسان إذا وجد ضيقا في حياته وقلة توفيق أن يفتش عن أعماله لأن الذنوب سبب كبير من أسباب الفشل والخذلان والحرمان, قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. {النساء:160} , وقال سبحانه عن قوم نوح: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا {نوح:25} , وقد قال بعض العلماء: إن الصالحين إذا فقدوا آمالهم تفقدوا أعمالهم.
وما فعلته أيها السائل مع جيرانك إثم كبير بل هو جملة آثام وذنوب أعظمها خيانة الأمانة وأذى الجيران, فإذا كان هؤلاء الجيران قد ائتمنوكم على خصوصياتهم فما كان لك أن تقابل هذا بالخيانة والعبث بأغراضهم وأسرارهم, ومعلوم في الشريعة أن حق الجار عظيم, والإساءة إلى الجار ليست كالإساءة إلى غيره من الناس، وإيذاؤه من الكبائر، لقوله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول لله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه. رواه البخاري.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفي هذا الحديث تأكيد حق الجار، لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل, وفي حديث ابن عمر: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.متفق عليه.
فالواجب عليك المسارعة إلى التوبة إلى الله جل وعلا من ذنبك والإكثار من فعل الصالحات لعلها تكون مكفرة لفعلك, ثم عليك بعد ذلك أن تحتال لإرجاع هذه الملابس لجيرانك بطريقة ما بحيث لا يرتابون في الأمر هذا إذا كانت الملابس ما زالت قائمة, أما إذا هلكت أو ضاعت فعليك بدفع قيمتها لهم بطريق أو بآخر بحيث لا يؤدي الأمر إلى شك أو ريبة فتحدث مفاسد كبيرة، وللفائدة في ذلك تراجع الفتوى رقم: 46583، والفتوى رقم: 36627.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 رمضان 1429(9/4234)
هل يؤاخذ العبد بما يدور في خواطره
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا ومن غير قصد تنتابني أفكار لست راضية عنها كما أنني أعاني من إفرازات وأنا أتمنى الموت لذلك لا أدري ما حكم صيامي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن رحمةِ الله عز وجل بعباده أنه لم يؤاخذهم بما يدورُ في أنفسهم من خواطر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم. رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
فهوني على نفسك أيتها الأخت الفاضلة، واعلمي أنكِ لا تُحاسبين على هذه الأفكار التي ليست باختيارك ولا أثرَ لهذه الأفكار ولا للإفرازات إن كانت ناتجة عنها، لا أثر لذك كله على صحة الصوم بإجماعِ العلماء، فإن الله تعالى يقول: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا {البقرة 286} .
وليسَ معنى هذا الاستسلامُ لتلكَ الأفكار والانسياقُ وراء تلكَ الخواطر، بل الذي ينبغي هو محاربتها وإبدالها بالخواطر النافعة للعبدِ في دينه ودنياه، ومراقبة الخواطر من عبودية الخواص.
وأما عن تمنيكِ الموت فهذا أمرٌ منهيٌ عنه، فعن أنسٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي. رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
وأما الإفرازات التي تجدينها فما يجبُ عليكِ معها قد فصلنا القول فيه في الفتوى رقم: 110928.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4235)
ما يلزم التائب تجاه من زنى بهن
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام علي نبينا محمد رسول الله وعلى صحبه أجمعين.. الحمد لله الذي هداني للحق إذ كنت أعصي الله.. وكنت أتبع الفاحشة والآن وقد تبت لله عز وجل، بقي عندي حيرة، وسؤالي هو: كنت أزني مع أكثر من فتاة وكنت أعد بعضهن بالزواج لأجل أن يزنين معي، والآن وبعد أن تبت لله توبة نصوحا طلبت منهن أن يسامحنني لأنني ظلمتهن، ولكن اثنتان منهن رفضتا أن يسامحنني إلا بشروط، واحدة طلبت الزواج وأخرى طلبت مبلغا ماليا كبيرا جداً لا أقدر عليه، مع العلم بأن التي طلبت الزواج قد زنت وفقدت عذريتها من قبل أن أعرفها ولا أستطيع الزواج بها لأني متزوج، فهل ظلمي لهن حق علي يجب أن أسدده يوم الحساب ويأخذن من حسناتي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة ورزقك الرجوع والإنابة إلى طريقه، ونسأله سبحانه أن يرزقك الثبات على طريق العفة والطهارة إنه سبحانه كريم، أما بالنسبة لهؤلاء النسوة اللاتي زنيت بهن فلا يجب لهن عليك شيء طالما وقع الزنا بمطاوعتهن، فقد نص العلماء على أن الزانية المطاوعة لا شيء لها، جاء في زاد المعاد لابن القيم: وإنما لم يجب (المهر) للمختارة (للزنا) ، لأنها باذلة للمنفعة التي عوضها لها، فلم يجب لها شيء، كما لو أذنت في إتلاف عضو من أعضائها لمن أتلفه. انتهى بتصرف يسير.
وجاء في كتاب الكافي في فقه الإمام أحمد: ولا يجب المهر للمطاوعة على الزنا، لأنها باذلة لما يوجب البدل لها، فلم يجب لها شيء -كما لو أذنت في قطع يدها. انتهى.
وعليه فلا يلزمك الزواج بمن طلبت الزواج ولا يلزمك دفع المال لمن طلبته.. لكن إن كنت قد أغريتهن أو بعضهن بالزنا فهذا ذنب يجب عليك التوبة منه إلى الله جل وعلا، ويجب عليك أن تشتغل بمداومة التوبة والإكثار من الأعمال الصالحة المكفرة وقطع علاقتك تماماً بهؤلاء النسوة لأن الشيطان قد يزين لك الأمر فتتحدث إليهن بدافع طلب السماح والعفو فلا يزال بك حتى يوقعك في الخطيئة مرة أخرى، فكن حذراً من عدوك بصيراً بحيله ومكره، وقانا الله جميعاً شره ومكره, وراجع للفائدة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26384، 27314، 44344.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4236)
كره الظالم هل يمنع قبول الصيام
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة لم أعرف الحقد على أحد يوما والمعروف عني طيبة القلب والعفو عن كل الناس حتى لو قاموا بأذيتي لكن منذ حوالي سنة قمت بمساعدة شخص كان غريبا عن بلدي وقدمت له مبلغا من المال فقد كان بحاجة إليه. وكان كل ما أملك والمبلغ كان سلفةعلى مرتبي أخذته لأقوم بعملية لعيوني لكن تركته مدة بسبب امتحاناتي والمفروض أن أقوم بالعملية بعد الامتحان لذلك ساعدت هذا الشخص وقد كان مصدر ثقة بالنسبة لنا فقلت لنفسي أساعده ليحل أزمته المالية وقد أخد المبلغ على أساس أن يعيده بعد أسبوع وبعد ذلك اتمم موضوع العملية لكنه غدر بي وذهب وكان مصرا قبل السفر بأن لا يعيد المبلغ.
وخلاصة الموضوع أن هذا الشخص سبب لي أزمة كبيرة في حياتي ومصيبة كبيرة وألما كبيرا لن أنساه أبدا ولا أعرف حتى الآن كيف أخرج من هذه الورطة, والمشكلة الآن أني أحقد على هذا الشخص وهو أول إنسان في حياتي لم ولن أسامحه لما سببه لي من أسى ومصائب فكيف سيأتي رمضان وهناك شخص لم ولن أسامحه فهل سيتقبل الله صيامي وأنا مصرة على حقدي على هذا الشخص؟ وأنا قد فوضت أمري لله بما فعله هذا الشخص بي بعد أن حاولت كثيرا لاستعادة النقود مع العلم بأنني من أسرة متوسطة وأنا وأخي الأصغر مني نحن اللذين نؤمن مصروف البيت أي أهلي يعتمدون علينا في المصروف لأن والدي مريض ولا يعمل فهل هذه عدالة بحق الله بان أغفر لشخص سبب لي شرخا في حياتي لن أنساه عمري لأني كنت طيبة معه والله وحده يعلم نيتي بأن أساعده حينها.
فأرجوكم قولوا لي هل فعلا لن يغفر لي لأنني لم أسامح هذا الإنسان وهل عبادتي وصيامي مقبول في رمضان؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته عن نفسك من عدم حمل الغل والحقد على الناس صفة محمودة شرعا، وكانت سببا لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الصحابة أنه من أهل الجنة. والحديث في مسند أحمد وغيره بسند صحيح.
وأما ما فعله الرجل بك بعد هذا الإحسان وذهابه بلا وفاء فليس من أخلاق أهل الإيمان، إذ الإسلام أمر بأداء الحقوق والأمانات إلى أهلها، وما فعله ظلم إلا أن يكون معسرا فنظرة إلى ميسرة كما قال تعالى.
أو يكون قد ذهب فعرض له عارض حبسه عن الرجوع والعودة فيمهل إن لم يتمكن من إيصال الحق الذي عليه بوسيلة أخرى.
وأما ما حملته على هذا الرجل من بغضاء بسبب ظلمه لك فإنك لا تأثمين به ولا يمنع من قبول عملك، فلا علاقة له بصحة الصيام وقبوله، أو قبول الأعمال، فالله يقول عن أهل الإيمان: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ* وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. {الشورى:39، 40}
ويقول عن أهل التقوى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ {الأعراف:43} . مما يدل على أن وجود الغل والحقد على من ظلمك أمر جبلي يوجد حتى في أهل التقوى فضلا من غيرهم، والشريعة تكليفها فيما يطيقه العبد لا مالا يستطيع مدافعته كهذا، وإن كان المستحب للمسلم أن يعفو عمن ظلمه وفي ذلك أجر كبير.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة وفيه: تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا. وفي رواية: إلا المتهاجرين.
فهذا محمول على الخصومة في الباطل والمشاحنة في الباطل لا إذا كانت على حق، كما أن الهجر الممنوع فوق ثلاث يزول بالسلام كما قال أهل العلم، هذا وننبه الأخت السائلة أن علاقة المرأة بالأجنبي عنها يجب أن تكون منضبطة بضوابط الشرع لذلك، فلا تتكلم معه إلا لحاجة مع اجتناب الكلام المثير، وأن تحتجب أمامه ولا تختلي به، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 رمضان 1429(9/4237)
كيف تكتسب مرتبة الصديقين
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف من هو الصديق وكيف يكون الإنسان صديقا، وكيف يبلغ الإنسان درجة الصديق؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالجواب هو ما ورد في الحديث الصحيح عند ابن حبان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
ومن حديث عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله؛ أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمت فمن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء. أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وفي رواية ابن خزيمة: من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء، وراجع فتوانا رقم: 111149.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 رمضان 1429(9/4238)
المحافظة على النوافل باب يوصل إلى محبة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أم لولدين، الصغير عمره سنة وكنت قبل أن ألد ابني الصغير أحافظ على السنن وحتى التراويح في رمضان، أما الآن لا أستطيع دائما أن أصلي السنن، والآن التراويح لا أستطيع صلاتها، وإن من علامات محبة الله للعبد صلاة النوافل فهل معنى هذا أن الله لا يحبني؟ أرجو من حضراتكم الإجابة حتى يرتاح بالي ... جزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمحافظة على السنن والنوافل من القربات إلى الله، وهي باب الوصول إلى محبة الله لقوله سبحانه في الحديث القدسي: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. كما في صحيح البخاري
وتوفيق الله للعبد في هذا الأمر دلالة على محبة الله له ورضاه عنه وتوفيقه له، وترك الإنسان لما كان يعمل من خير من غير عذر مذموم في الجملة ولو كان نافلة، إلا أنه لا يأثم إلا بترك الواجبات، لكن ترك النوافل مؤد إلى الإهمال والتهاون بالفرائض كما نبه على ذلك الشاطبي وغيره.
فننصحك أيتها الأخت بالمجاهدة للنفس والمحافظة على ما كنت عليه من عمل وقربة، وفقك الله لما يحب ويرضى، وإن بذلت جهدك وحبسك عذر فنرجو أن يكتب لك أجر ما كنت تعملين قبل ذلك العذر.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4239)
لا راحة للقلب إلا في ظل طاعة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا خجولة من كتابة السؤال، فقط أريد أن أتوب وأصلح من نفسي....
أنا فتاة ابلغ من العمر 19 عاما لدى ولي يجفو علي أحيانا وفي طفولتي كان كثير الضرب والإهانة لي وأخي يكبرني ب6سنوات وبعيد عني مما دفعني للبحث عن الحنان بالخارج تعرفت على شباب كثير ولكن كلها نت وتليفونات فقط لم أر أحدا منهم ولكن كنت أشعر أني أستمد قوتي من حواراتي معهم، وفي الفترة الأخيرة دخلت في ممارسة الجنس عن طريق النت أو التليفون علما بأني أشعر بالندم بعد كل مرة ولكن أعود مرة أخرى وجهي بدأ يرتسم عليه الخبث والحقارة، فبداية دخولي على النت بدأت أتعرف على شخص محترم ليكون عونا لي على ترك المعصية ولكنه كان من نفس بلدتي فخفت من الكلام والفضايح تركته تقدم لي شخصان ظروفهم جيدة ولكن أبي رفض بحجة إكمال تعليمي وأنا أريد طوق نجاة، لا أعرف ماذا أعمل؟ علما بأني بدءا من عمر 12 إلى 15 أو 16 كنت أحب الصلاة والقرآن وأداوم حضور جلسات الدين، أنا لا أعرف ماذا أعمل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد أخطأت حين ظننت أنك تستطيعين أن تعوضي ما فاتك من حنان الوالد ومودة الأخوة بسلوك طرق تغضب الله، فإنه لا راحة للقلب ولا طمأنينة إلا في ظل طاعة الله، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. {النحل: 97} .
وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى. {طه:124} .
ولا شك أن التعارف بين النساء والرجال الأجانب غير جائز سواء كان عبر التليفون أو الانترنت أو غير ذلك، لما يجر ذلك من بلاء وفتن، والطريق المشروع للعلاقة بين الرجال والنساء هو الزواج الشرعي، فيجب عليك أن تتوبي مما سبق وتقطعي كل علاقة بالرجال الأجانب، ويجب على والدك تعجيل زواجك إذا تقدم إليك زوج صالح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ. رواه ابن ماجة، الترمذي، وحسنه الألباني في الإرواء برقم 1868.
والتعلل بالانتظار لإكمال التعليم ليس مبرراً لتأخير الزواج، فلا تترددي أن تعلني لوالدك رغبتك في تعجيل الزواج إذا أتاك صاحب دين وخلق، ولتوسطي من أقاربك من يبين له وجوب تعجيل زواجك، وحرمة تأخيره بحجة التعليم، وأن ذلك من العضل الذي نهى الله الأولياء عنه، والذي يؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض.
وإلى أن يتيسر لك الزواج، فإن عليك أن تعتصمي بالله، وتتوكلي عليه، وتجتهدي في كل ما يقربك إليه، وتتجنبي كل ما يثير الفتنة، ونوصيك بالحرص على تعلم أمور دينك واختيار الرفقة الصالحة التي تعين على الخير، مع الإلحاح في دعاء الله عز وجل، فهو قريب مجيب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رمضان 1429(9/4240)
التوبة من العلاقات المحرمة مع النساء
[السُّؤَالُ]
ـ[هو ليس بسؤال ولكن استفسار فأنا رجل كنت قبل ذلك خاطبا ولم يتم الزواج وكثيراً ما كانت خطوبات تنعكس
حيث إنها كانت على علم بها وأخبرني شخص متدين أن ذلك لربما ناتج عن عمل أو سحر وعملت لي رقية وكان هناك عمل فعلاً والحمد لله شفيت وتزوجت الآن دون علمها، ولكنها عرفت ذلك بعد الزواج ولكن منذ زواجي وأنا دائماً فى مشاكل مع زوجتي بسبب علاقات مع نساء أخريات وأعلم تماما أن هذا حرام، ولكني أجد نفسي فى موقف يربطني بإحداهن والآن أريد أن أعرف هل من الممكن أن يكون هذا عمل للتفرقة بيني وبين زوجتي أم إنه عقاب من رب العالمين لمعصيتي، ولكني أتعجب أني أفعل هذا وأنا منكر له ودوماً زوجتي تكتشف شئياً يعكر صفو حياتنا وقد وصل كثيراً لحد طلب الطلاق، ولكني أستغفر الله وأتوب إليه وأثناء حدة الحوار أرى زوجتي وكأني لا أعرفها، فبالله عليكم أجيبوني لأني فعلاً فى حيرة، هل يمكن أن يكون كل هذا عمل أم أنه عقاب من رب العالمين ولا يمكن أن يرتبط بعمل أو سحر وماذ أفعل.. وفقكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله أن منّ الله عليك بالعافية والشفاء ويسر لك أمر الزواج، وكان عليك أيها السائل أن تقابل نعمة الله هذه بالشكر، فتكف نفسك عما حرم الله وتغض بصرك عما يسخط الله، فغير خاف عليك أن العلاقات المحرمة مع النساء سبب في ضياع الإيمان وذهابه والعياذ بالله، ولا شك أن الذنوب والمعاصي سبب في كدر العيش وتنغيص الحياة وضيق الصدر وكثرة الهموم والغموم وتعقد الأمور، وعموماً فهي سبب كل بلاء وضيق وحرمان، قال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124} ، كما أن الطاعة سبب كل يسر وسعة وعطاء، قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {النحل:97} .
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الداء والدواء: وتجترئ عليه (أي المعاصي) شياطين الإنس بما تقدر عليه من الأذى في غيبته وحضوره وتجترئ أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
فتنبه أخي لهذا، ولا تلق باللائمة على السحر والسحرة، فأنت أنت الذي ظلمت نفسك، وأنت أنت الذي أوردتها موارد التهلكة، فبادر بالتوبة قبل أن يحال بينك وبينها، قال ابن الجوزي رحمه الله: وربما بغت العاصي بأجله ولم يبلغ بعض أمله، وكم خير فاته بآفاته، وكم بلية في طي جناياته، قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة. اهـ
فاشتغل بالرجوع إلى الله سبحانه يبدل حالك من الضيق إلى السعة، ومن الحزن إلى الفرح، ومن الخوف والقلق إلى الأمن والسكينة، وللفائدة في الموضوع راجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 49997، 28390، 102152.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 رمضان 1429(9/4241)
محاسبة النفس والحذر من الوقوع في الوسوسة
[السُّؤَالُ]
ـ[خرَّج مسلم من حديث أبي هريرة -رضى الله عنه-: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأُتىَ به فعَرَّفَهُ نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتَّى استُشهدتُ؟ قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يُقال جريءٌ فقد قيل, ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقى فى النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتىَ به فعرَّفه نِعَمَهُ فعرفها قال: فما عملتَ فيها؟ قال تعلمتُ العلم وعلّمته, وقرأتُ فيكَ القرآن؟ قال: كذبت، ولكنّك تعلمتَ العلمَ ليُقال عالمٌ, وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه; حتى ألقى فى النار, ورجلٌ وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلَّه فأُتىَ به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها, قال فما عملت بها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك؟ قال: كذبت ولكنك فعلتَ ليقال هو جوَّادٌ فقد قيل, ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه ثم أُلقى فى النار. منذ أن سمعت هذا الحديث حتى صرت أشك في نفسي، فما عدت أدعو بصوت عال وصرت أناقش كل شيء مع نفسي قبل القيام به، فهل هي وسوسة أم أنا حقا أصلح نفسي؟ شكراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمحاسبة النفس أمر حسن مطلوب، وطلب الورع والتقوى والبعد عن الرياء أمر شرعي هام جاءت النصوص منبهة عليه وآمرة وطالبت به، فما أنت عليه من ذلك خير كثير، إلا أنه يتعين الحذر من أن يخرج الأمر إلى الوسوسة والشك المفضي إلى التردد والقلق والشك في صحة الأعمال، فإن هذا من أعمال الشيطان الموصلة إلى الترك والقنوط من رحمة الله، فننصح بعدم المبالغة فيما ذكرت بل الدعاء أن يصلح الله العمل ويتقبله كاف والحرص على إخلاص العمل وحده، بدون حب قاصد لثناء الناس على العبادة التي تؤديها من صدقة أو دعاء أو صلاة. أما ما ذكرته من خفض الصوت بالدعاء فهذا المشروع إذ رفع الصوت به قد ورد النهي عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا. قال ذلك لما سمع البعض يرفع صوته بالذكر والدعاء.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رمضان 1429(9/4242)
الحرص على تعلم العلم النافع ومعرفة الدين الصحيح
[السُّؤَالُ]
ـ[أود كثيرا معرفة الدين الصحيح والاقتداء به لكن ليس لدي ثقافة دينية ولا يوجد من يساعدني مع العلم أنني حاولت ذلك قدر مستطاعي ولكن دون جدوى فأنا أشعر أنني ابتعدت كثيرا عن الله فما العمل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحسن أن تكون لديك رغبة في تعلم العلم النافع ومعرفة الدين الصحيح الذي يلزمك التعبد لله عز وجل، وشعورك بالبعد عن الله تعالى علامة خير فيك ودليل على صدق الرغبة، وهذا مما يرجى معه أن ييسر الله تعالى لك ما تصبو إليه. ولا يخفى عليك أن الله تعالى قد يسر للناس في هذا الزمان سبل الحصول على العلم النافع ومن ذلك شبكة المعلومات الإنترنت. وإننا نقول لك على الخبير سقطت. فهذا الموقع الشبكة الإسلامية من المواقع التي تتبنى المنهج الصحيح وتسلك سبل الوسط والاعتدال في الدعوة إلى الله تعالى، وتسير على منهج أهل السنة والجماعة في فهم الدين. فاشدد يديك عليه واحرص على الانتفاع مما فيه في مختلف العلوم وبادر بالسؤال عما قد يشكل عليك وراجع الفتوى رقم: 51115.
وننصحك بالحرص على مصاحبة الأخيار والبعد عن أهل الفسق والفجور، فالمرء على دين خليله. ولمزيد الفائدة راجع الفتويين: 12928، 15219.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رمضان 1429(9/4243)
أصاب ذنبا ثم مرض فاسودت الدنيا في عينه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا حديث التخرج من الثانوية وأنا أخطأت بأنني قبلت الخادمة من فمها وبعد فترة جاءتني سخونة وصداع خفت وعملت تحليلا للخادمة ظهرت نتيجة التحليل ممتازة وأنا خائف، إلى الآن تأتيني تشاؤمات أني قد انتهيت، أشعر أن الدنيا سوداء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب عليك أولاً التوبة مما أقدمت عليه من تقبيل هذه المرأة التي هي أجنبية عنك، والواجب عليك الحذر من كل ما قد يؤدي بك إلى الوقوع في مثل ذلك مستقبلاً كالخلوة بها ونحو ذلك..
وأما ما أصبت به من سخونة وصداع فلا يلزم أن يكون ذلك بسبب هذا الذنب، ولكن لا يبعد أن يكون هذا الذنب هو السبب، فقد قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير ٍ {الشورى:30} ، وخوفك من هذا الذنب أمر طيب.
ولكن عليك بالحذر من أن يؤدي بك التفكير فيه إلى الوقوع في شيء من الوساوس، فرحمة الله واسعة وقد جعل سبحانه كثيراً من المكفرات التي يمكن أن تمحي بها مثل هذه الذنوب، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 51247.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 رمضان 1429(9/4244)
يريد أن يتحلل من المظالم لأناس يعرفهم وآخرين يجهلهم
[السُّؤَالُ]
ـ[عرفت والحمد لله أن من شروط التوبة التحلل من المظالم لكني ارتكبت معصية شنيعة في حق كثير من الناس أظن أنه من الصعب أن أتحلل من كل تلك المظالم وهي أني كنت أستخدم المسنجر وكنت أستعمل عدة أسماء وأدخل عندي أناسا كثيرين لا يعرفونني ولا أعرفهم وأتكلم معهم بكلام سيئ مع أني لا أعرفهم ولا يعرفونني وارتكبت الحرام في حقهم وكنت أعمل هذا الفعل عبر عدة أسماء من المسنجر مع عدد كبير من الناس المجاهيل الذين لا يعرفونني إلا اثنين أو ثلاث أو ربما أكثر يعرفونني فقط، أما الباقي فكلهم لا يعرفونني وحصل هذا الذي ذكرت لكم قبل سنتين أو ربما أقل، والآن والحمد لله تبت إلى الله عز وجل وأردت أن أتحلل من تلك المظالم لكني نسيت كثيرا من الأسماء التي كنت أستعملها ونسيت كثيرا من كلمات المرور أيضا هذا من ناحية ومن ناحية أخرى هناك بعض الناس الذين كنت تكلمت معهم لكني نسيت ايميلاتهم ولا أتذكرها وهناك من أشك هل تحدثت معه أم لا ولا أعرف هل أسأت إليه أم لا، وذلك بسبب العدد الكبير الذين كنت أكلمهم علما أن هذا حصل منذ سنتين أو ربما أقل فو الله أنا ندمت كثيرا على ما فعلت ولا أدري كيف سأتحلل من كل هذه المظالم ولا أعرف كيف وماذا يجب علي أن افعله؟ والله أنا خائف جدا خوفا لا يعلمه إلا الله ووالله لن أعود أبدا إلى ما كنت أفعل لأني تبت إلى ربي عز وجل لكني لا أعرف كيف سأتحلل من هذه المظالم الكثيرة، ولا أدري كيف وماذا يجب علي أن أفعل، والله أنا نادم ندما شديدا وحائر جدا لا أدري كيف أتحلل من هذه المظالم ولا أعرف ماذا يجب علي أن أفعل هل أكتفي بأنني لن أعود أبدا إلى هذا الفعل إن شاء الله فقط ولا أزيد على ذلك لأن هذا حصل منذ سنتين أو أقل ولا أفعل غيره ولا أزيد عليه لأنه صعب وشاق علي أن أتحلل من كل تلك المظالم بسبب ما ذكرت لكم؟ أم يجب علي أن افعل شيئا آخر بالإضافة إلى عدم عودتي إلى ذلك الفعل؟ والله أنا خائف من الله خوفا شديدا وحائر كثيرا لا أدري ماذا يجب علي أن أفعل، فأرجوكم ساعدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
اعلم أيها الأخ أن المظالم المتعلقة بالخلق يشترط للتوبة منها:
أولا: الإقلاع عنها.
ثانيا: الندم على فعلها والعزم على عدو المعاودة لها.
ثالثا: التحلل ممن ظلمته.
ولما كان الأمر كما قلت فعليك التحلل ممن تستطيع الوصول إليهم فإن الميسور لا يسقط بالمعسور، ومن تعذر عليك الوصول إليه لجهلك به أو بعنوانه فاستغفر لهم ولنفسك تجد الله غفورا رحيما.
وباب التوبة مفتوح على مصراعيه فبادر قبل الممات فإنه سبحانه وتعالى يتوب على من تاب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 رمضان 1429(9/4245)
التوبة من إتيان الزوجة في الدبر
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت آتي زوجتي من الدبر ما يقارب 4 سنوات تقريبا، فهل صلاتي وصدقاتي خلال هذه السنوات كانت مقبولة مني أم لا؟، وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإتيان الزوجة من الدبر محرم شرعاً، وسبق في الفتوى رقم: 4340، ولم يرد حسب علمنا ما يدل على عدم قبول صلاة فاعله وصدقاته، وعلى كل حال فما دمت قد تبت فإن الله يقبل التوبة عن عباده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ {الشورى: 25} . بل إن الله تعالى من سعة فضله ومن رحمته بعباده يبدل السيئات التي قد تاب منها العبد إلى حسنات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {68-70} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
22 رمضان 1429(9/4246)
ركن التوبة الأعظم وسبل استجلابه
[السُّؤَالُ]
ـ[كنا مجموعة من الشباب غير متزوجين وغير ملتزمين وكان الواحد منا إذا ارتكب جريمة الزنا أخبر باقي المجموعة بتفاخر إلى أن تاب الله علي ولم أقرب هذه الجريمة منذ تزوجت كان ذلك منذ أكثر من 8 سنوات وقد أديت فريضة الحج بعد الزواج، فهل يتقبل الله توبة المجاهر بالزنا.. أيضا أعلم أن شروط التوبة هي التوقف عن الذنب والندم ثم الاستغفار غير أنني لا أشعر بالندم حيث أحيانا ما أتذكر هذه الآثام بشيء من الفرح والسرور وليس بندم وأسى على ما اقترفت وتجرأت على حرمات الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمجاهرة بالذنب ذنب آخر، يجب التوبة منه كما تجب من الذنب نفسه، وقد سبق بيان معنى المجاهرة بالمعاصي وقبحها، وبيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كل أمتي معافى إلا المجاهرين. في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 18932، 1863، 28218، 29331.
وأما اشتراط الندم لصحة التوبة فهو صحيح، بل هو الركن الأعظم للتوبة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة. رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني. والندم في الحقيقة انفعال لا فعل، قال الشنقيطي في أضواء البيان: أعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصحّ توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب، والإقلاع عنه إن كان متلبسًا به كما قدّمنا أنهما من أركان التوبة، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف، وإيضاحه في الأوّل الذي هو الندم، أن الندم ليس فعلاً وإنما هو انفعال، ولا خلاف بين أهل العلم في أن اللَّه لا يكلف أحدًا إلا بفعل يقع باختيار المكلف، ولا يكلف أحدًا بشيء إلا شيئًا هو في طاقته؛ كما قال تعالى: لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا. وقال تعالى: فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وإذا علمت ذلك فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلاً تحت قدرة العبد، فليس بفعل أصلاً، وليس في وسع المكلف فعله، والتكليف لا يقع بغير الفعل، ولا بما لا يطاق ... فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلف، ولا مقدور عليه.
والجواب عن هذا الإشكال: هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة، ولم يحابها في معصية اللَّه لعلم أن لذّة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السمّ القاتل، والشراب الذي فيه السمّ القاتل لا يستلذّه عاقل لما يتبع لذّته من عظيم الضرر، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشدّ من السمّ القاتل، وهو ما تستلزمه معصية اللَّه جلّ وعلا من سخطه على العاصي وتعذيبه له أشدّ العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه، وينغّص عليه لذّة الحياة، ولا شكّ أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، أنه يتوصّل إلى حصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها، فالحاصل أنه مكلّف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلّفًا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤديّة إلى الندم على المعصية، قول الشاعر ـ وهو الحسين بن مطير:
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه * حلاوته تفنى ويبقى مريرها.
ونقل عن سفيان الثوري رحمه اللَّه أنه كان كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها * من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبّتها * لا خير في لذّة من بعدها النار. اهـ
وأعلم أخي السائل أن صلاح القلب برسوخ الأعمال القلبية فيه ـ وأصولها: المحبة والخوف والرجاء ـ هو الذي يحمل المذنب على الندم، فمن يحب ربه محبة صادقة إذا بدر منه ذنب تألم لمخالفة محبوبه، ومن يرجو رحمة ربه يتألم بذنبه لخوفه من فوات مطلوبه، ومن يخاف ربه ويرهب من عقابه يتألم بذنبه لخوفه من حصول مرهوبه، فتحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر هو السبيل لحصول الندم على المعاصي. وللفائدة راجع في ذلك الفتوى رقم: 10800.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 رمضان 1429(9/4247)
التوبة من اللواط وسؤال الله تعالى العافية
[السُّؤَالُ]
ـ[لي صديق عمره 27 عاما متزوج وله ابن معروف عنه الهدوء والتدين لكنه منذ أيام وقع في فاحشة اللواط مع شخص يصغره ببضع سنوات وكان هو الفاعل والشخص الآخر المفعول به، كما روى لي وهو يكاد يهلك ندما على ما فعل، وقال لي إنه أخبر زوجته بما حصل لأنه أحس بأنه قد خانها وأنه أخطأ في حقها فسامحته زوجته العاقلة الطيبة كما وصف لي وأخبرني أنه فعل ذلك الفعل الشنيع دون قصد منه أو تعمد لكنه كان من باب الممنوع مرغوب وأنه لم يكن يتصور أن يقع بالفعل في الفاحشة لكنه كما قال لي وبدا لي أيضا أنه قطع اتصاله تماما بما هو له علاقة بأي فحش من صور وأفلام وهو الآن نادم أشد الندم على ما فعل وأنه عازم على عدم العودة نهائيا لأي فعل يقرب حتى من أي فاحشة. فهل له من كفارة؟ وهل يقبل الله توبته؟ كما أنه قلق من إصابته بأي مرض فهل من الممكن أن يصاب وقد أخبرني أنه مارس دون أي واق وكان الفاعل فقط لكنه قام بالإنزال خارجا كما أنها كانت أول مرة حدث فيها ذلك له لكن الشخص المفعول به أخبره أنه وقع في ذلك عدة مرات من قبل. أرجو الرد سريعا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أحسن صديقك هذا بمبادرته إلى التوبة من هذا الفعل الشنيع ومما يزيده هذا الفعل قبحا صدوره ممن من الله عليه بالزواج، فيكفر هذه النعمة فيلجأ إلى الحرام، ومن تاب تاب الله عليه، فرحمة الله واسعة ومغفرته لا يتعاظمها ذنب وراجع الفتوى رقم: 26148.
ولا يلزمه كفارة مخصوصة، ولكن عليه أن يكثر من عمل الصالحات، وأن يجتنب كل وسيلة قد تقوده إلى الوقوع في هذه الفاحشة مرة أخرى، ولا يمكن الجزم بأنه سيصاب بمرض بسبب ذلك أو لن يصاب، وما يمكنه أن يفعله هنا أن يكثر من سؤال الله تعالى العافية، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا هو أن صديقك هذا قد أخطأ بإخباره إياك وكذا إخباره زوجته بما وقع منه، وقد كان الواجب عليه أن يستر على نفسه، فالواجب عليه التوبة من ذلك وعدم العود لمثله مستقبلا.
وانظر الفتوى رقم: 20880.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 رمضان 1429(9/4248)
التوبة والحذر من خطوات الشيطان
[السُّؤَالُ]
ـ[موضوعي هام وخطير بدأت في ممارسة العادة السرية عندما كنت في الثالثة عشر من عمري ولازمتني إلى وقتي هذا طبعا أنا لست متزوجا وعمري 28سنة كنت أمارس العادة عبر سماع صوت امرأة في الهاتف أو صوت ولد واستمرت وأصبحت أريد سماع صوت أختي لكي أقذف المني، كنت أجلس أتخيل أني أمارس الجنس مع أختي أتخيل أن صديقا لي جميلا يمارس الجنس مع أختي وأصبحت أتمنى من أصدقاء لي ممارسة الجنس معي وكان لي صديق في نظري أنه جميل طلبت منه ممارسة الجنس معي فوافق وانتهى مني وكنت مسرورا
واستمررت على هذا الحال ولكن عندما أقذف المني أرجع إلى وعيي وأغتسل وأصلي وأجلس وأسأل نفسي لماذا فعلت هذا الشيء لا أجد جوابا أتركها أياما ومن ثم أرجع إليها حتى وصلت وتعديت حدود الله صرت وقت الممارسة أطلب من أن أصبح مسيحيا أو يهوديا، أنظر إلى التلفاز وأشاهد النساء العاريات ويوجد صليب على جسمها أعرف أن هذه العارية مسيحية فاكلمها مثل المجنون وأقول: أريد أن أصير مسيحيا من أجلك أو إذا شاهدت يهودية نفس الشيء واستمررت، ولكن هنا أصبح الشيء الخطير والمهم هنا لب الموضوع كنت أمارس العادة وأنظر إلى الأفلام الوسخة الحقيرة مثلي فشاهدت مقطع ولد عاري فوصفته بالله ومن ثم كفرت بالرب ومن ثم قلت إلى هذا الولد أنت ربي أنت الذي خلقتني أنت وأنت وقلت أنا أحب الشيطان وكان يراودني الوسواس أن أسجد للشيطان ولكن لم أفعل وراودني الوسواس أن أبول على القرآن ولكن لم أفعل أنا حقير وتافه ولكن أنا مسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ربي ومحمد نبيي والكعبة قبلتي والقرآن إمامي الله ربي لا إله ألا هو خلقني وأنا عبده وأنا على وعده ما استطعت وأبوء بنعمته علي، يارب أغفر لي ذنبي فإنه لا يغفر الذنوب ألا أنت إن رمضان أتى وأنا أعاهد الله بأني لن أعود إلى فعل هذا ماحييت وأتوب إلى الله ربي ورب العرش العظيم.
يا رب من هنا من مجلسي هذا أدعوك يا رب أن تغفر ذنبي هذا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يا رب أنا عبدك وأنت ربي أنت خلقتني لا أله ألا أنت.
كما شاهدتم اسمي من أجمل الأسماء: أحمد، فكيف حصل هذا والله إني أحبك يا رسول الله والله إني أحبك يا رب يا رب يا رب يا رب أستغفرك يا رب أستغفرك.
أرجوكم يا سيادة المفتي إن رمضان أتى وأنا تائب والله إني تائب ومعترف بهذا الذنب الكبير الحقير ولكن أنا ضعيف أمام الشيطان ووسوسات الشيطان، والله أنا ضعيف ولكن بإذن الله عهدٌ علي لن ولن تكون مرة ثانية
بإذن الواحد الأحد الذي له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وهو على كل شئ قدير.
أشهد أن لاأله ألا الله وأن محمدا رسول الله أقولها إيمانا واحتسابا، حسبي الله ونعم الوكيل حسبي الله ونعم الوكيل.
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم أن يتوب عليك، وأن يشرح صدرك للإيمان، وأن يعيذك من شر نفسك وشر الشيطان وشركه. وما ذكرتَ ـ أخي السائل ـ أمور يقشعر الجلد من هولها وفظاعتها، وهكذا دائما خطوات الشيطان، يبدأ بالمعاصي صغيرها ثم كبيرها، حتى يوقع الإنسان في الكفر الأكبر إن استطاع، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. {الحشر: 16} .
ولذلك نهانا الله سبحانه عن اتباع خطوات الشيطان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. {النور: 21} .
فعليك أخي الكريم أن تعتبر بما حصل لك، وتقطع الطريق على الشيطان بالتزام طاعة الله واجتناب محارمه، ولا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمته تعالى، فإن باب التوبة مفتوح بفضل الله تعالى لكل إنسان مهما بلغت ذنوبه، ما لم تطلع الشمس من مغربها، أو يعاين الموت ويتيقنه، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر: 53} .
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
وقد وعد الله تعالى من يقترف أكبر الكبائر كالشرك والقتل والزنا، بأن يبدل سيئاتهم حسنات، إن هم تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا. {الفرقان:71،70،69،68} .
فهنيئا للتائب الصادق الذي يُتبِع سيئاته بحسنات ماحية، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. {هود: 114} .
ويكفي التائب أن يعلم محبة الله للتوبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ. متفق عليه.
فينبغي لك أن تنشغل بتحصيل توبة نصوح جامعة لشروط قبولها، من الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفا من الله تعالى وتعظيما له وطلبا لمرضاته، والعزم الصادق على عدم العودة إليها أبدا.
ولا شك ـ إن شاء الله ـ أنك إن استقمت على توبتك وبدلت سيئاتك بحسنات أن الله الكريم سيقبلك ويرحمك، قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {الأعراف: 153} فأقبل على الله يقبل الله عليك، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. متفق عليه.
وقد سبق بيان حقيقة التوبة وشروطها ودلائل قبولها وما ينبغي فعله عندها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5450، 75958، 29785، 7471، 42052.
ثم إننا ننصحك بالمبادرة إلى الزواج فإنه وسيلة لتحصين فرجك وقد يكون واجبا في حقك.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 رمضان 1429(9/4249)
الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي هو ما فضل العمل في العشر الأواخر من رمضان!! وهل يوجد دليل في السنة على ذلك!!؟ جزاكم الله كل خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الاجتهاد في العشر الأواخر بالعبادة فضله عظيم لأن فيها ليلة القدر التي من فضلها أنها خير من ألف شهر، وقد دلت السنة على مشروعية الاجتهاد بالعبادة فيها، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.. وقد بوب البخاري على هذا الحديث بابا سماه: باب العمل في العشر الأواخر من رمضان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ...
وأمر بتحري ليلة القدر في العشر الأواخر، فقال: ... التمسوها في العشر الأواخر - يعني ليلة القدر- فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي.. رواه البخاري ومسلم واللفظ له..
والاجتهاد في هذه العشر بالعبادة أمر متفق على استحبابه، جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على استحباب مضاعفة الجهد في الطاعات في العشر الأواخر من رمضان، بالقيام في لياليها، والإكثار من الصدقات وتلاوة القرآن الكريم ومدارسته، بأن يقرأ عليه أو يقرأ هو على غيره، وزيادة فعل المعروف وعمل الخير، وذلك تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 رمضان 1429(9/4250)
الاستفامة على الطاعة وتجنب المعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[ألاحظ أنه كلما قمت بقراءة القرآن في جوف الليل أو قيام أو قرب من الله سبحانه أجدني واقعة في معصية كبيرة وأخاف أن يكون هذا الأمر علامة عدم قبول الطاعة أو أنني منافقة وبعد المعصية أقوم بعمل صالح عسى ربي أن يغفر لي وأدعو وأستغفر ثم أعود للمعصية من جديد وهكذا تعبت من هذه الحالة كيف أطلق هذه المعاصي طلاقا بالثلاثة؟ أفيدوني أرجوكم فأنا ممن يعيش عاقبة معاصيه في الدنيا قبل الآخرة وأنا جد خائفة من تعسر أموري ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر لك أولا حرصك على الخير وقيام الليل وتلاوة الكتاب العزيز، ونسأل الله تعالى أن يجزيك على ذلك خيرا، ونوصيك بالاستمرار في عمل هذه الطاعات وغيرها، والمبادرة إلى التوبة النصوح كلما أذنبت، فإننا نخشى أن الشيطان بمثل هذه الخواطر يريد أن يوقعك في القعود عن الطاعات، وفي المقابل يحفزك على الجرأة على معصية الله تعالى، فلا يلزم من وقوع المسلم في الذنب عقب فعل الطاعات أن يكون ذلك علامة على عدم قبول عمله، ولكن ينبغي أن تحرصي على تدبر كتاب الله عند تلاوته واستحضار عظمة الله عند قيامك من الليل ليورث ذلك في قلبك خوفا وانكسارا وذلا وافتقارا وإيمانا تجدين حلاوته في قلبك، وإذا حل الإيمان في القلب لم يجد الشيطان إليه سبيلا، فكان في ذلك عون لك على اجتناب المعاصي، ولمزيد الفائدة راجعي الفتويين: 24031، 29464.
وأما تعسر الأمور بسبب الذنوب فهو أمر وارد ولكن ليس بلازم أن يحدث ذلك، ثم إن مثل هذا الشعور مما ينبغي أن يكون حافزا على اجتناب المعاصي.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 رمضان 1429(9/4251)
مصير المؤمن العامل للصالحات المرتكب للمعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل إذا كان الشخص يرتكب ذنباً عقوبته اللعنة وعملاً جزاؤه الجنة فهل يدخل الجنة أو النار؟ مثلاً امرأة نامصة وقد مات لها أولاد صغار أو كافلة ليتيم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشخص المؤمن الذي يرتكب الذنوب والمعاصي الموجبة للعقاب ويعمل أعمال الخير والطاعات التي توجب الثواب هو من الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تكتب عليه سيئاته كما تكتب حسناته، فإن تاب من سيئاته أو غفر الله له ذنوبه دخل الجنة، وإذا لم يتب من سيئاته فهو في مشيئة الله تعالى، فإما أن يتفضل الله تعالى عليه بالعفو والمغفرة، وإما أن يعذب في النار بحسب ذنوبه ومعاصيه ثم يخرج منها إلى الجنة.
وسبق بيان ذلك بتفصيل أكثر وأقوال بعض أهل العلم في عدة فتاوى منها: 108411، 40781، 108453، 109382.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 رمضان 1429(9/4252)
سماع الأشرطة النافعة والهجرة مع القدرة عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعيش في بلد تغلق فيه المساجد ويمنع فيه العلم ويمنع بيع الكتب الإسلامية وتمنع اللحية والحجاب وأشياء أخرى كثيرة لا تخفى على أحد، وأريد أن أتعلم العلم الشرعي وطبعا هذا مستحيل في بلدي لأنه لا يوجد علماء فهم إما في السجون أو هاجروا، فكيف أتمكن من ذلك مع العلم بأنني لا أستطيع الهجرة لأنهم من أمسكوه مرة يصلي الصبح أو ملتحيا فإنهم يجردونه من حقوقه المدنية بما فيها حق الوظيفة العمومية وحق السفر وغيرها، وهل يوجد حل لأتعلم القرآن ونطقه صحيحاً مع العلم بأنه يستحيل أن أفعل ذلك عند شيخ؟ جزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يفرج همك ويكشف كربك. واعلم أنه يمكنك تحصيل العلم وتصحيح قراءتك للقرآن عن طريق سماع الأشرطة النافعة للعلماء والدعاة وقراء القرآن، وهذه الأشرطة بحمد الله متوفرة في كثير من المواقع، وإذا كان حال هذه البلد ما ذكرت فإنه يجب عليك الهجرة منها مع القدرة، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:97} ، قال الألوسي في روح المعاني: اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وعن إدخالهم الخلل فيه وعن العجز عن القيام بواجبات الدين بأنهم كانوا مقهورين تحت أيدي المشركين، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، فلم تقبل الملائكة عذرهم لأنهم كانوا متمكنين من الهجرة، فاستحقوا عذاب جهنم لتركهم الفريضة المحتومة. انتهى.
ومقتضاه أن من كان مقهوراً لا يقدر على الهجرة حقيقة لضعفه أو لصغر سنه، وسواء أكان رجلاً أم امرأة بحيث يخشى التلف، فلو خرج مهاجراً فذلك عذر في الإقامة وترك الهجرة، وقد صرحت بهذا المعنى الآيتان التاليتان للآية السابقة وهما: إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {النساء:98} ، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 8614.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
12 رمضان 1429(9/4253)
أسباب زيادة الرزق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل قراءة سورة طه بعد صلاة الصبح تكفي لرزق اليوم وسورة الذاريات إذا قرئت كل يوم تنفع للرزق، أرجو أن تعطيني أيضا بعض الفوائد للرزق....
وهل سورة الاسراء اذا كتبت بالزعفران ثم محيت بالماء وشرب ماؤها تنفع للولد الذي يتعذر عليه الكلام؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكلُ ما ذكرته بخصوصِ سورة طه والذاريات والإسراء مما لا أصل له، ولا يثبتُ شيء منه عن النبي صلي الله عليه وسلم.
وأما عن سبيل سعة الرزق فقد بينه الله عز وجل بما يكفي ويشفي ويغني عن قول كل قائل، فقال تعالي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. {الطلاق 3,2} .
فعليكِ بتقوى الله في السر والعلن فإنها سبب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، وربما حرم الإنسان رزقا بسبب ذنوبه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سنن ابن ماجه وحسنه الألباني قال صلى الله عليه وسلم: وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وعليك يا أختي أن تكوني بما في يدِ الله أوثق منك بما في يدك، وأن تتوكلي عليه وأن تعلمَي أن رزقكَ لن يأخذه غيرُك وأن ما أصابك ما كان ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ومن أسباب زيادة الرزق الصلاة قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى. {طه:132} .
ومنها الاستغفار كما قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا. {نوح:12،11،10} .
ومنها صلة الرحم فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه. متفق عليه من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.
ومنها كثرة الصدقة فقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {سبأ: 39} .
وقال صلى الله عليه وسلم: ما نقص مالٌ من صدقة. رواه مسلم.
ومنها الإكثارُ من الحجِ والعمرة والمتابعةُ بينهما فقد قال صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة. رواه الترمذي وقال حسن صحيحٌ غريب.
ومن أهمها الدعاء فإنه يجمعُ للعبدِ خير الدنيا والآخرة، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يسأل الله الرزق الطيب فعن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا. حسنه الحافظ في نتائج الأفكار.
وبالجملة فالطاعات كلها سببٌ لزيادة الأرزاق والبركة فيها، نسأل الله أن يرزقنا وإياكَ علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً متقبلا ...
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 رمضان 1429(9/4254)
الظلم من أسباب الحرمان ومحق البركة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يبارك الله للظالم حتى يتمادى في ظلمه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن البركة تنال بالتقوى والعمل الصالح كما قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {الأعراف:96} .
وأما الظلم وغيره من المعاصي فهو من أسباب الحرمان وانعدام البركة، فقد ذكر الله تعالى في سورة القلم أن أصحاب الجنة حرموا منها بسبب عزمهم على حرمان الفقراء منها، فبسبب عزمهم على هذا الظلم حرموا من الجنة كلها.
وفي حديث الصحيحين: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما.
ثم إنه قد يستدرج الله تعالى بعض العصاة والكفار فيفتح لهم الأرزاق ابتلاء لهم ثم يهلكهم بعد ذلك كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. {الأنعام:44} .
فقد يرى الظالم في فتح أبواب الرزق ما يظنه بركة، وما هو إلا استدراج له، فالواجب عليه أن يتوب ويتحلل من المظالم ويتقي الله ليحقق الله له جميع رغباته.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 47005، 54062، 60327.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 رمضان 1429(9/4255)
الإشكال في الإصرار على واستمرائه؛ لا في حصوله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا رجل مسلم ولله الحمد وملتزم بالجماعات والعبادات وزوجتي متوفاة ولدي طفلة، منذ فترة تعودت على فتح المواقع الإباحية للفضول والتعرف على هذا الجانب ومرات أقوم بعملية الاستمناء وأعرف أنني مذنب وأندم بعدها مباشرة وأستغفر وأتوب وأطلب من الله أن ييسر لي أمر الزواج، وأنا أعترف بأن ليس لي مشكلة مع ديني وأخلاقي إلا هذا فأرجو أن توضحوا لي النقاط التالية:
1-هل هذا يأتي من (نحن غير معصومين) .
2- أو يأتي من قبيل اللمم أي من غير الكبائر.
3- أو لا بد للإنسان أن يذنب ويتوب حتى يغفر له.
4- او يمحي الله من خلال الوضوء والصلوات والجمع ورمضان.
5- أو كتب الله على كل بني آدم حظه من الزنى والعينان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذب.
وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يتوب عليك، وأن يطهر قلبك، ويحصن فرجك، وأن يرزقك العفة والعفاف.
وأما ما ذكرت أخي الكريم من حالك، فإنما هو من نزغات الشيطان وفعل النفس الأمارة بالسوء، والواجب عليك أن تبادر بالتوبة والاستغفار، ولا يستجرينك الشيطان.
ومع ذلك لا تيأس من روح الله، فقد وصف الله تعالى المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران: 135} .
ووصف المحسنين فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ {النجم: 32} قال السعدي: أي يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا وشرب الخمر وأكل الربا والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة {إِلا اللَّمَمَ} وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر. اهـ.
وقال الله عز وجل أيضا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {الأعراف: 201} قال السعدي: لما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه. اهـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مُفْتنَّا توابا نساء، إذا ذُكِّر ذَكَرَ. رواه الطبراني، وصححه الألباني. قال المناوي: مفتنَّا أي ممتحنا يمتحنه الله بالبلاء والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيرا، توابا نسيا إذا ذكر ذكر أي يتوب ثم ينسى فيعود ثم يتذكر فيتوب هكذا يقال فتنه يفتنه إذا امتحنه اهـ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. رواه البخاري ومسلم واللفظ له. قال النووي: معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك اهـ.
وقال أيضا في باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة: هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة، قبلت توبته، وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته اهـ.
فليس الإشكال إذن في حصول الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
فالمهم أن يبادر العاصي إلى التوبة وأن تسوءه سيئته فيكرهها ويتألم بسببها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَسُرَّ بِهَا وَعَمِلَ سَيِّئَةً فَسَاءَتْهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. رواه أحمد، وصححه الألباني.
وعليه، فما ذكرت أنه يقع لك من الندم على الذنب ومن المبادرة إلى التوبة والاستغفار فإنه أمر حسن، ولكننا ننصحك بالابتعاد عن إطلاق العنان لنفسك في تبرير ما أنت فيه بأنه مجرد لمم، وأنك غير معصوم، وأن الحسنات تكفر السيئات، وأن المرء لا بد له من الوقوع في الخطايا ونحو ذلك، فإن هذه التبريرات وإن كانت صحيحة إلا أن الاستمرار فيها مفض إلى الاستمرار على الذنب، فبادر أخانا الكريم إلى التوبة، وأحسن حتى يحسن الله إليك، واجتنب ما حرم الله حتى ييسر الله لك الحلال.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 رمضان 1429(9/4256)
علاقة المسلم بربه هل أساسها المصلحة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل العلاقة بين المسلم وربه هي علاقة مصلحة. فالمسلم يصلي ويصوم ويفعل الخير ويتجنب المعاصي خوفاً من غضب ربه ولدخول الجنة. وبالتالي هل الله تعالى خلق البشر في الدنيا لتكون العلاقات بينهما علاقات مصلحة. فأنت إن لم تعد مريضاً في المستشفى هو لا يعودك وإن لم تأتِ بهدية لفلان لا يأتيك بهدية؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلاقة المسلم بربه هي علاقة بين عبد تجب عليه طاعة سيده، وبين سيد خلق ذلك العبد ويرزقه وينعم عليه ويرحمه ويملكه وله الحق في أمره ونهيه، وللرب الحق في أن يغضب إن عصاه عبده، وطاعة ذلك العبد لربه هي في صالح العبد وليست مصلحة للرب الغني عن جميع العباد كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ {إبراهيم: 8} وكما قال تعالى في الحديث القدسي: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. رواه مسلم.
وأما وعد الرب للعبد بدخول الجنة إن أطاعه فذلك فضل من الله تعالى ورحمة منه وترغيب لذلك العبد الذي لولا الترغيب والترهيب لما استقام حاله، فالعبد يعمل حسنة واحدة ويتفضل الله عليه بعشر حسنات عنها.
وما ذكره السائل من أنك إن لم تأت بهدية فلا يهدي الرب إليك وإن لم تعد مريضا لا يعودك لا نعلم لهذا الكلام ما يدل عليه من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة.
وإن كان يعني الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه.. إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.. الخ فهذا ليس فيه أن من لم يعد مريضا فإن الله لا يعوده.
ولو وجد نص بالمعنى الذي يقصده السائل فإنه يكون من باب أن الجزاء من جنس العمل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
06 رمضان 1429(9/4257)
تعذيب الله تعالى المسيء لا ينافي العدل
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يعذب الله الناس في النار وهو غني عن عذابهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى شرع تشريعه الحكيم، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرف الناس ما خلقوا له من عبادة الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى غني عن عبادتهم وعن عذابهم، وقد شرع لهم الشرائع ليكسبوا بها الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، وتوعدهم بالعذاب إن عاندوا وخالفوا أمره، فإن عذبهم سبحانه لعصيانهم فليس بظالم لهم، ومن العدل والحكمة الإلهية ألا يساوي الله تعالى بين الطائعين والمجرمين، بل يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
فقد قال الله تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ {الجاثية:21}
وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ {ص:28}
وقال تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا. {الفتح: 5،6}
وليس من الأدب مع الله تعالى الاعتراض على شيء من فعله، فقد قال جل من قائل: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 رمضان 1429(9/4258)
كره المعصية والحزن عند رؤية الناس يرقصون ويلهون
[السُّؤَالُ]
ـ[كلما وجدت إنسانا يرتكب معصية كرهته وأتخيل صورته وهو يدفن بالقبر، وعلى الجانب الآخر كلما ذهبت لحضور عرس ووجدت الناس يلهون ويرقصون ضاق صدرى لدرجة أني أكاد أبكي من الحزن فأرجو من سيادتكم مساعدتي في تفسير ذلك؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكونك تكره من يرتكب معصية فهذا أمر جيد، وتخيلك صورته وهو يدفن في القبر إن كان تذكرا للحساب فأمر حسن، وكذا حزنك بسبب ما ترى من لهو الناس ورقصهم، ولكن ههنا أمر مهم وهو أنه ينبغي أن يكون ذلك دافعاً للشفقة عليهم والدعاء لهم بالصلاح والهداية والحرص على توجيههم إلى الخير لأن هذا من حق المسلم على أخيه المسلم.
وههنا أمر آخر وهو أنه ينبغي عدم تجاوز الحد فيما ذكرت من الكراهية والحزن، لئلا يترتب على ذلك نوع من المرض النفسي، واعلم أن المسلم لا يبغض بالكلية وإنما يبغض من وجه ويحب من وجه، فيبغض بقدر ما فيه من المعصية لله، ويحب بقدر ما فيه من الطاعة، كما هو مبين في الفتوى رقم: 24845.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 رمضان 1429(9/4259)
إخبار الوالدين بالطاعات والشعور بالسعادة عند فعلها
[السُّؤَالُ]
ـ[الأول: أنا عندما أفعل أي شيء جيد من أجل الله وحده بعيدا ًعن الرياء أو السمعة أحب أن أقوله لأبي وأمي لأنهم يشعرون بالسعادة عندما يجدونني أفعل الأشياء التي يحبها الله ويشعرون أنهم أفلحوا في تربيتي وهذا يجعلهم سعداء لذلك أقوله لهم أريد به سعادتهم فقط، فهل هذا يعتبر صرفا للعمل لوجه الناس بعيدا ً عن وجه الله؟ مع العلم أني والله لا أفعله لهم وإنما لله ولكني دائما ً أخاف أن يضيع العمل بسبب هذا مع أني فقط أردت إسعاد أهلي.
الثاني: أنا أشعر دائما ً بالسعادة عندما أفعل أي طاعة مع العلم الكامل أيضاً أن الله هو الذي لا حول ولا قوة إلا به ولولا هدايته لي ولغيري ما فعل أحد من خير إلا بإذن الله، فهل هذه السعادة تعتبر من التفضل على الله مع أني لا أقصد هذا أبداً وإنما أسعد لأني تقربت إلى الله بأي عمل؟ فهل هناك شيء في هذا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنرجو أن لا يكون إخبار الوالدين بما ذكر صرفا للعمل لغير وجه الله ما دامت النية في الأصل هي مرضاة الله ولم يقصد السائل طلب ثنائهم وحمدهم، ومع ذلك نحث السائل الكريم على إسرار عمله إذا لم تدع مصلحة شرعية لإعلانه، لأن الإخلاص عزيز وربما انحرفت نيته فيصير همه من العمل إرضاء والديه وطلب محمدتهما لما يرى من سرورهما وينسى أن المقصود إرضاء الله تعالى، ولما جهر ابن حذافة بالقراءة في الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا ابن حذافة لا تسمعني وأسمع ربك عز وجل. . أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة وقال الحافظ سنده حسن.
وأما الشعور بالسعادة عند فعل الطاعة فهذا لا حرج فيه إن كانت السعادة لإدراك الطاعة وعدم فوتها وتوفيق الله ولما يرجوه العامل من الأجر قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {يونس:58} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن. رواه الترمذي.
وأما إن كانت السعادة عن عجب بالنفس فهذه طامة، وانظر للفائدة الفتوى رقم: 75758، والفتوى رقم: 10992.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 رمضان 1429(9/4260)
الضيق والقلق عند المعصية هل يخفف من عقابها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يعتبر الضيق والقلق الذي يصيب مرتكب الذنب أو المعصية أثناء قيامه بالمعصية والذنب تخفيفا لها من العقاب في الآخرة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ما يصاحب المعصية من قلق وضيق وكدر ووحشة ... هو من شؤم المعصية، ومن أبواب الشر التي تفتحها على صاحبها نسأل الله السلامة والعافية..
وأما تخفيفها للعقاب فلم نقف عليه، ولكن قد دلت السنة الصحيحة على أن المصائب التي تصيب المؤمن تكون تكفيرا لخطاياه، روى الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال البلاء في المؤمن أو المؤمنة في نفسه وما له وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه من خطيئة.
وقد سبق أن بينا آثار المعاصي وشؤمها على صاحبها وما حوله وسبل اجتنابها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 27524، 99766، 97814، 4188 فنرجو أن تطلعي عليها وعلى ما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 رمضان 1429(9/4261)
علامة محبة الله ورسوله وثمرتها
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد أكرمني الله بالتوبة فقد أصبحت أصلي جميع الصلوات في وقتها وأغلبها في المساجد، وغضضت بصري وأمسكت لساني عن المنكرات لكن السؤال هو: هل هذا هو حب الله ورسوله لكني لا أحس بالحب كما يصفه الناس، فأنا لم أعرف الحب في حياتي أبدا لا من قريب ولا من بعيد. أو أنه مع مرور الزمن سيتغير قلبي نحو الأفضل وحب الله ورسوله لأني أخشى أن أكون من المنافقين وأن أعبد الله خوفا منه ومن عذابه. ويعلم الله أني لا أرائي بعبادتي....]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئا لك التوبة والإنابة إلى الله تعالى، ونسأل الله تعالى أن يجزيك خيرا على حرصك على الطاعة ولاسيما الصلاة، واجتناب المنكر ولاسيما غض البصر وعفة اللسان، زادك الله هدى وتقى وصلاحا.
وإذا كنت على هذا الحال فنرجو أن تكون ممن يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن حقيقة محبة الله تعالى تتمثل في عبادته وطاعته، وحقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم تتمثل في اتباعه والاقتداء به والتمسك بسنته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وهي تسمى آية المحبة. قال أبو سليمان الداراني: لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.
قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ.
وقال: يحببكم الله إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة، ومحبته لكم منتفية. اهـ كلام ابن القيم.
ويمكن تحصيل محبة الله في القلب وزيادتها بتدبر أسمائه وصفاته ومشاهدة آلائه ونعمه وعظيم رحمته بعباده وتحصل محبة النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة سيرته وشمائله الطيبة وشفقته على أمته.
فعليك بمزيد من الاجتهاد والحرص على الجمع بين الخوف والرجاء في سيرك إلى الله تعالى، وننصحك بعدم الالتفات إلى أي وساوس قد يقعدك الشيطان بها عن طلب المعالي، ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم: 21032.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
01 رمضان 1429(9/4262)
أثر الذنوب على العبد في دنياه
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي: هل يحاسب الله الناس في الدنيا على أعمالهم السيئة التي فعلوها في الدنيا، وأنا محتار بين شيئين:
الشيء الأول: قوله عزوجل: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.
الشيء الثاني: قول أحد التابعين: إني أجد اثر ذنبي على دابتي في الطريق.
وسؤالي: هل بسبب الذنب الذي اقترفناه في الدنيا أن نحاسب عليه في الدنيا مثلا كعدم استجابة دعوة أو مرض ولد أو خلافه أو بعكس ذلك وتؤجل إلى الآخرة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن للذنوب أثرا فيما يصيب العبد من نكبات ومصائب، في هذه الحياة، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ {الشورى:30}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد.
وأما قول الله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس.... الآية فقال عنه أهل التفسير: لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق، والذي يصيب الناس في هذه الدنيا بسبب أعمالهم إنما هو لتذكير الغافلين حتى ينتبهوا وتكفير لذنوب المؤمنين، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {السجدة:21}
قال بعض المفسرين: مصائب الدنيا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة. رواه أحمد والترمذي وغيرهما. وقال الترمذي: حسن صحيح، وبهذا نرجو أن تفهم ما أشكل عليك.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 46551، 51247، 65709.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 شعبان 1429(9/4263)
من وسائل تفريج الكرب عن المظلوم
[السُّؤَالُ]
ـ[طول لي صديقة هذه قصتها وطلبت العون من الله أولا ثم مني.
هذه الفتاه تزوجت وهي صغيرة (16 سنة) وكان الزواج مفروضا عليها من قبل والدها ضمن صفقة تجارية!! وباختصار كان زوجها مثالا للسوء حيث كان لا يأتيها إلا بعد أن يضربها أو يجعلها تشرب!! وكثير السفر ولا يخرجها من البيت وقطع عنها جميع وسائل الاتصال، استطاعت أن تصل إلى أهلها في إحدى سفراته وأخبرتهم بالذي يحدث لها فقالوا لها إن هذا أمر طبيعي وهذا هو الذي يحدث بين الزوجين أصلا!!! وأعادوها للبيت قبل أن يعود, لهم أهداف تجارية. حملت منه وأنجبت فتاة.
وفي يوم من الأيام وكان الزوج مسافرا جاء والد الفتاة إلى بيتها وضربها وأخذها إلى البيت، وبعد فترة من الضرب والحبس في البيت أيضا جاء الوالد لها بورقة الطلاق (الحمد لله تخلصت من الزوج) ولكن المصيبة هي أن ذلك الزوج كان قد أخبر والد الفتاة المسكينة أن ابنته غير سوية ولها الكثير من العلاقات المشبوهة واتصالات مع رجال آخرين والأدهى والأمر أنه قال إن الطفلة الصغيرة ليست منه!
صديقتي هذه صابرة عمرها الآن 21 سنة ولها 3 سنوات في بيت والدها كلما دخل عليها ضربها أو هزرها أو نظر إليها بتقزز هي وابنتها, وكان يقول (كثر الله خيري خليتك في بيتي وأكلتك أحسن أكل وشربتك أحسن شرب ولا ناقصك شيء!!!)
حاولت بالكثير من الطرق أن توضح الأمر لأهلها, لكن الأب يرفض التصديق نهائيا والأم غير مكترثة، والإخوة الذكور (2) لا يهمهم سوى المال وتجارة والدهم، أختها الوحيدة هي العون الوحيد لها بعد الله ولكن لا صوت لها ولم تستطع فعل شيء.
أخبرتها بأن تذهب إلى الشرطة أو هيئة الأمر بالمعروف ولكنها ترفض وتخاف وتقول إنه لا يوجد من يعينها لا من قريب ولا من بعيد.
أين عطف الوالد أين حنان الأم أين عون الإخوة أي حياة هذه؟ أين الصدق؟ أين الحق؟ أين الإنصاف؟
ما الحل أيها العقلاء؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الواجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وأن يراعي خصال الزوج، فلا يزوجها ممن ساء خلقه، أو ضعف دينه، أو قصر عن القيام بحقها، ومن قصر في اختيار الزوج لابنته فإن الله سائله؛ لما ثبت في الحديث: إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيع. ولا شك أن تزويج المرأة ممن ساء دينه ضياع لهذه المرأة، كما هو الحال في رسالتك المليئة بالأسى والحزن، أسأل الله أن يفرج همها وأن يكشف كربها.
ونقول لهذه الأخت: اصبري واحتسبي، فسيجعل الله لك مخرجاًً، فإن هذه الدنيا مليئة بالأحزان والآلام، ولكن المؤمن يثق دائماًً بالله وأن العاقبة للمتقين، قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ {البقرة: 216}
وفيما يلي إليها بعض هذه النصائح لعل الله أن يجعل فيها فرجاًً:
(1) عليها بكثرة الدعاء، في صلواتها وخاصة في جوف الليل. قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ {النمل:62}
(2) عليها أن تكلم أمها وتقترب منها معنوياًً وتقنعها بظلم هذا الزوج وإساءته لها وبراءتها مما اتهمها به حتى تقوم هي بدورها في إعلام الأب بذلك.
(3) فإن لم تفلح هذه المحاولة، فلتحاول مع أعمامها إذا كان بينهم وبين أبيها ود حتى يمتنع عن هذه الإساءة.
(4) لتحاول بوساطة الأخوات الصالحات أن يبحثن لها عن زوج صالح تقر به عينها.
ونسأل الله أن يفرج همها وأن يزيل كربها.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 شعبان 1429(9/4264)
العودة للذنب بعد التوبة هل تعني عدم التزام
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب بالجامعة من الله علي بالتعرف على الإخوة الملتزمين والسير معهم على نهج السلف.
والكل في البيت والشارع يعرف ذلك ويعدونني ملتزما ويستشيرونني.
كما أنني ألقى بعض الخواطر وأخطب وأشارك في عدد من الأنشطة الدعوية.
لكن هناك مشكلة:
1- أنني إذا خلوت مع نفسي أفتح المواقع الإباحية خاصة أن ذلك ميسر.
2- وربما أفعل العادة السرية.
3- ليس عندي مراقبة.
4- وأشك أن كل عملي رياء.
كما أنني احترت مع نفسي إذا خلوت مع ربي أبكي وأتضرع وأقوم الليل وأطيل فهل هذا كذب على الله ونفاق أم ماذا.
وأعاهد ربي مليون مرة ألا أعود ثم أعود للذنب.
الرجاء الرد علي بسرعة حيث إن موضوعي حساس. .. فما الحل أرجوكم خاصة أن هناك كثيرا من الإخوة سألوني نفس السؤال بالنسبة لهم وهذه مشكلتنا نحن الذين نريد الالتزام.
كما أننا نستحي أن نسأل أحدا في ذلك للحرج الشديد جدا........ الرجاء الانتباه للخمس نقاط التي بالأعلى.
وجزاكم الله عنا خيرا وجزاكم الله عن كل مستفيد خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نسأل الله أن يتوب عليك، وأن يطهر قبلك وأن يحصن فرجك، وأن يقبل منك صالح عملك.
ثم اعلم أخي الكريم أن مخافة الله ومراقبته والاستحياء منه هو الذي يعصم العبد من الزلل، وهو الذي يفوز به برضوان الله وجنته، كما قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ {الرحمن: 46} وقال سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {40-41} وهذا هو مقام الإحسان الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. متفق عليه.
فاحذر أخي الكريم أن تتبدل عن هذا المقام الرفيع السامي، بمقام من يتحقق فيهم قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا {النساء: 108} .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
واعلم أخي الفاضل أن في غض البصر عن المحرمات قطعا لسبيل الشيطان إلى كثير من المحاذير والمحرمات، وفيه ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ ثلاث فوائد جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
وأما الفائدة الثانية من غض البصر: فهو يورث نور القلب والفراسة.. وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة.
والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة.
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن الرجل الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه. اهـ بتصرف من كتاب حجاب المرأة المسلمة.
ولا يمكن أن يسوِّيَ عاقل بين شهوة عاجلة منغصة، مع ما يعقبها من ألم البعد عن الله في الدنيا، وما يترتب عليها من حساب في الآخرة، وبين نعيم الجنة وعافية الدنيا وسعادتها.
وأما ما ذكرت من المعاصي في الخلوة، فهذه من نزغات الشيطان وفعل النفس الأمارة بالسوء، فبادر بالتوبة والاستغفار، ولا تيأس من روح الله، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقد وصف الله المتقين فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران: 135} وقال أيضا: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {الأعراف: 201} قال السعدي: لما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب - تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه. اهـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا تواب نساء، إذا ذُكِّر ذَكَرَ رواه الطبراني، وصححه الألباني.
قال المناوي: (مفتَّنا) أي ممتحنا يمتحنه الله بالبلاء والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيرا (توابا نسيا إذا ذكر ذكر) أي يتوب ثم ينسى فيعود ثم يتذكر فيتوب هكذا يقال فتنه يفتنه إذا امتحنه. اهـ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
قال النووي: (اعمل ما شئت فقد غفرت لك) معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك، وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها. اهـ.
وقال أيضا في باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة: هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر، وتاب في كل مرة، قبلت توبته، وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته. اهـ.
فليس الإشكال في وقوع الذنب، وإنما الإشكال في الإصرار عليه واستمرائه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
فالمهم أن يبادر العاصي إلى التوبة وأن تسوءه سيئته؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَسُرَّ بِهَا وَعَمِلَ سَيِّئَةً فَسَاءَتْهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. رواه أحمد، وصححه الألباني.
ومما يجب عليك فعله أن تتبع السيئة بالحسنة حتى تمحوها، كما قال صلى الله عليه وسلم: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وأحمد، وحسنه الألباني.
قال ابن تيمية: وأتبع السيئة الحسنة تمحها فإن الطبيب متى تناول المريض شيئا هو الذي مضرا أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات اهـ.
فالمصيبة أن يتابع العبد بين السيئات دون توبة واستغفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَه ُ. وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. رواه الترمذي وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وابن ماجه وأحمد. وحسنه الألباني.
وإياك أن تكون ذنوبك حائلا بينك وبين ما تقوم به من المشاركة في الأنشطة الدعوية بحجة قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {البقرة: 44} وأمثاله، فقد قال ابن كثير: ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. اهـ.
وتذكر في دعوتك إلى الله قوله صلى الله عليه وسلم: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. رواه مسلم. فمهما أعنت غيرك على طاعة الله كان ذلك أدعى لمعونة الله لك على طاعته.
وأما ما ذكرت من خوف الرياء فهذا الخوف مما يحمد، فجاهد نفسك على الإخلاص وتجريد النية لله تعالى، وأكثر من الاستعاذة به سبحانه، فعن أبي علي رجل من بني كاهل قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقال: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون فقال: بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.
قال المنذري: رواه أحمد والطبراني ورواته إلى أبي علي محتج بهم في الصحيح، وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدا جرحه اهـ. وحسنه الألباني لغيره. وراجع للفائدة عن الرياء وحكمه وأنواعه، الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10992، 13997، 59313، 49482.
وننبه السائل إلى أنه قد سبق الكلام على حكم الاستمناء وما فيه من أضرار بدنية ونفسية في الفتوى رقم: 7170.
ونوصيك أخي الكريم أن تكثر القراءة في الكتب المتعلقة بالتزكية ككتاب مختصر منهاج القاصدين للمقدسي. والكتب المتعلقة بأحوال الآخرة ككتاب حادي الأرواح لابن القيم، وكتاب التخويف من النار لابن رجب، وكتاب التذكرة للقرطبي. فإن هذه من أنفع العلوم لصلاح الباطن وحصول الاستقامة. كما نوصي بكثرة تلاوة القرآن وذكر الله، فإن في ذلك عصمة من الشيطان.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 شعبان 1429(9/4265)
ما فعلته كافيا لتوبتك
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أشارك من قبل في منتدى من منتديات الشرك والضلال التي تدعو إلى دعاء غير الله وغيرها من العقائد الفاسدة والعياذ بالله وبعد أسابيع تبت إلى الله من هذه العقائد وذهبت إلى ذلك المنتدى الذي كنت أشارك فيه فأعلنت لهم توبتي وبينت لهم ضلالهم وعقائدهم الفاسدة ورددت عليها وقدمت لهم أدلة على بطلانها وبينت لهم العقيدة الصحيحة وأمرتهم باتباعها وكتبت لهم في المنتدى رسالة طويلة في هذه المواضيع في جميع أقسام المنتدى وفي جميع مشاركاتي السابقة وكتبتها وكررتها معلنا توبتي وبراءتي منهم ومبينا لهم ضلالهم كما حذفت كثيرا من مشاركاتي السابقة وكررت الرد في كثير من المشاركات حسب ما رأيت فما كان منهم إلا أن طردوني من منتداهم الضال ثم دخلت باسم جديد وفعلت نفس الشيء ثم طردوني مجددا ثم دخلت باسم ثالث وفعلت نفس الشيء ثم طردوني مرة أخرى فأنا أصلحت ما كنت أفسدته لكني أخاف أن يكون في عملي هذا تقصيرا لأني أخاف أن تكون هناك مشاركات لم احذفها لأني لم أرها لأني حذفت ما رأيت فقط وأخاف أن تكون مشركات لم أرد عليها لأني رددت على ما رأيت فقط وأخاف أيضا لأنني لم أرد رد مفصلا على مشاركاتي السابقة فقط تبرأت منهم ورددت على عقائدهم الفاسدة بشكل إجمالي مع الأدلة لم أرد على ما كنت كتبت ردا مفصلا فقط رددت على نفسي بشكل إجمالي مع الأدلة وتبرأت منهم ومما كنت قد كتبت وبينت لهم الصواب لكن لم أرد على تفاصيل مشاركاتي السابقة رددت فقط بشكل إجمالي وتبرأت منهم ومما كنت أكتب وبينت لهم العقيدة الصحيحة، فسؤالي هو هل أكتفي بما كنت فعلت في المنتدى بأسمائي الثلاثة حيث رددت على نفسي إجمالا مع الأدلة وتبرأت من مشاركاتي السابقة في المنتدى هل أكتفي بهذا ولا أدخل مرة أخرى هذا المنتدى الضال وأهجره بالمرة لأنه منتدى ضال مضل خاصة وأن الدخول إليه له عواقب وخيمة جدا وكنت حلفت أكثر من مرة أن أهجره وأن أكتفي بما كنت فعلت وأن أقاطعه لأنه منتدى سيئ، هل أكتفي بما ذكرت لكم وأقاطعه بالمرة لأن عواقب الدخول إليه وخيمة وحلفت كثيرا أن أقاطعه هل أفعل هكذا أم أدخله مجددا ولو طردوني ولو حذفوا كلامي لأرد عليهم مجددا وأرى هل تركت مشاركة لم أحذفها فأحذفها أو أرد عليها، ثم أرد ردا مفصلا على كل شيء في المنتدى سواء كان من مشاركاتي أم لا، أرد عليه نقطة؟ فماذا أفعل، الطريقة الأولى التي ذكرت لكم أم الثانية؟ علما بأني وإن كنت تبرأت منهم ورددت عليهم إلا أني لا زلت أشعر بالتقصير وأخاف كثيرا أن أتحمل ذنوب العباد إذا كنت أضللت أحدا وأخاف أن يعذبني ربي بسبب ما كنت فعلت مسبقا.. فماذا أفعل والله أنا حائر وخائف أفيدوني؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية نسأل الله أن يتقبل منك توبتك ويجزيك على سعيك في إزالة هذا الباطل خيرا.
ثم الظاهر من حال السائل أن ما فعله كافيا لتوبته إن شاء الله تعالى فلا ينبغي له أن يحاول دخول هذا المنتدى مجددا حيث إنه يقول: الدخول إليه له عواقب وخيمة جدا، وقد حلف على عدم الدخول فيه، ومن المعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، والسلامة لا يعدلها شيء.
والبديل عن ذلك أن يجتهد السائل الكريم في الدعوة إلى الله وبيان الحق للناس في غير هذا المنتدى فيكون ذلك من الحسنات الماحيات. فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أتبع السيئة الحسنة تمحها. رواه أحمد وا لترمذي وقال: حسن صحيح وحسنه الألباني.
ونبشر السائل الكريم بقول الله سبحانه: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الفرقان:70} .
وقوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 شعبان 1429(9/4266)
مدى أثر وجود النمل على جسم الميت قبل موته على خاتمته
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل في الثمانين من عمره تقريبا تجمع على جسده كمية من النمل غير عادية وذلك قبل وفاته بساعة تقريبا والرجل نحسبه على خير وسمعته طيبة وكان مواظبا على الفرائض بالمسجد؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فوجود النمل على جسم الميت قبل أو بعد موته لا يدل على صلاح أو فساد فيما نعلم، وقد ذكر العلماء علامات حسن وسوء الخاتمة ولم يعرضوا لشيء يتعلق بالنمل المذكور، فلا يضره هذا إن شاء الله تعالى، وما دام هذا الرجل كان مواظبا على الفرائض بالمسجد، ويثني عليه أهله وجيرانه والمسلمون خيرا، فهذه من العلامات التي تدل على صلاح العبد، ففي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ. قَالَ عُمَرُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ".
وقد فصلنا علامات حسن الخاتمة وسوء الخاتمة في فتوى سابقة هذه أرقامها: 4001، 29018، 74341 فلتراجع.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 شعبان 1429(9/4267)
كيف تتوب توبة مستوفية لأركانها
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة أبلغ من العمر 25 سنة موظفة في شركة وقد أرتبط بزميل، هذا الزميل تقدم لخطبتي في يوم ما ولكن لم يتم الزواج بسبب اعتراض والده على شيء ما، شيء تافه جداً (أبوه كان يريد أن يشرب سيجارة عندنا في البيت وأبي كان متعب ومعترض وهو مصمم وماما عامله عملية قلب مفتوح فوالدي قال له ممكن على باب الشقه وخصوصا أن العمارة التي نحن بها ملك فوالده اعتبر هذا طرد من البيت وأن أحنا ناس ليس عندنا ذوق) ، علما بأن والد الشاب الذي ارتبط بي هو معترض لابنه على كل شيء وابنه يعلم ذلك وقد كان سببا في فشل زواج ابنه من قبل من فتاة أخرى، المهم أن الموضوع رجع مرة ثانية، وبعد فترة طلب مني الشاب أن نتزوج في السر على يد مأذون، أنا رفضت وقلت له حرام لابد أن يفرح أبوك بك، وأنا لا بد أن يكون أهلي موافقين، فهم لم يعلملوا شيئا حتى أعمل معهم مثل هذا الفعل، ودعوت ربنا أنه يأتي بموافقه أبيه، وبالفعل تمت، وفي يوم كتب كتابي أبوه وأنا عند الكوافير وبعد حجز المأذون اعترض على القائمة وأخذ ابنه ومشى من عندنا ورجع بعدها ابنه وقال لي إنه آت لوحده من غير أبيه، قلت له موافقة ولكنه قال إن أباه حلف على أمه بالطلاق لو تقدم لي ثانيا (هيطلق أمه) ، وبعدها قال لي أنا سأنتظر لما أبي يهدأ، ساعتها أنا كنت محبطة لأني قلعت فستان فرحي، وأكثر من مرة انكسرت فرحتي، المهم أني قبلت منه، وفي يوم كنا لوحدنا في الشركة وضعفت معه وقبلني وحضنني، وأنا جريت وتركته واستغفرت ربنا، وقدمت الاستقاله من الشركة وكنت أدعو ربنا أني أمشي وأن ربنا يرزقني بشركة ثانية، وبعد ما ذهبت بالفعل في شركة ثانية لقيت نفسي في يوم وليلة أرجع لشركتي القديمة، مع العلم بأني والله العظيم لم أكن أريد أن أرجع هناك، وكذلك رجعت له هو كذلك، وفي أول يوم للرجوع أنا حسيت أني واحدة ثانية، الشركة لم يكن فيها أحد وقبلني وحضنني، وأنا كنت واعية للذي يحصل بيننا وانتهي الأمر على أني أخطأت معه في الشركه، لكن الجزء الأسفل لم ينكشف عليه، ولكن عورته اكتشفت علي وعورتي من أعلى، وبعد أن انتهى الأمر فقت لنفسي جداً وندمت وأنا حالياً لا أعرف ماذا أعمل كي أرجع مثل ما كنت إنسانة نظيفة، أنا كنت أقوم الليل وكنت متدينة جداً وكنت أعتكف في رمضان، والله طول عمري الناس معجبون بأخلاقي وبتديني وبقربي إلى الله، وعمري ما دعوت على السجادة غير (بيا رب معملش الزنا ولا أعمل الحرام) والله كان حلمي أني أكون زوجة محترمة، فكيف لي أن أسترجع ما كنت عليه لأني نادمة وأحس بأني أغضبت الله وأخطأت في حق أهلي، وخسرته هو لأنه من المؤكد اني نزلت من نظره.
وجزاكم الله كل خير.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي فهمناه من السؤال هو أن الكتاب لم يكتب بينك وبين خطيبك، وإذا كان الحال كذلك فاعلمي -رحمك الله- أن ما حدث منك هو بسبب الاختلاط بين الرجال والنساء، وهذا من الفتن التي كثرت وفشت في زماننا، فلا يحل هذا الاختلاط سواء في العمل أو في المواصلات أو بين الأقارب من غير المحارم، فإن الاختلاط لا يجني الناس من ورائه إلا الهلاك، وأقل هذه المفاسد أنه يذهب بحياء المرأة، ثم الوقوع في المحرمات، فكم كان الاختلاط سبباً لفساد البيوت، ولانتشار الفواحش، وهذا يسخط الله ويوجب عقابه بأنواع العقوبات، وانظري لذلك الفتوى رقم: 19010.
والواجب عليك الآن أن تتوبي إلى الله عز وجل، وأن تبتعدي عن مواضع الشبهات، ومواضع الفتن حتى لا يجرك الشيطان إلى مخالفة أوامر الله، واعلمي أن الله غفور رحيم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون َ {النور:31} ، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} ، فتوبي إلى الله توبة مستوفية لأركانها وذلك بالندم على فعل الذنب، والإقلاع عنه فوراً والابتعاد عن أسبابه التي أوقعتك فيه، والعزم الأكيد ألا تفعلي ذلك مرة أخرى، فإن تحقق ذلك، فقد قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82} ، وعليك أن تتجنبي الخلوة بالأجنبي، أو وضع الحجاب أمام الرجال الأجانب.
أسأل الله لي ولك ولجميع المسلمين التوبة والهداية والثبات على الحق حتى نلقاه.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 شعبان 1429(9/4268)
المسلم لا يتنازل عن ثوابته لأجل متاع زائل
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعمل في مستشفى جامعي وأجتهد بجد بيد أنني أجد أن من لا يجتهد ولا يكترث بعمله وكذلك من ينافق الرؤساء يسبقوننا بكثير ويحصدون أموالا أكثر منا ونحن سيؤو الحظ ودائما ندخل أو ندخل في المشاكل وهم ناجحون في عيادتهم بل نحن لا نستطيع أن نستأذن لفتح عيادة. لما ينصرهم الله ويزيدهم مالا وفخرا ونحن نزداد بؤسا ولا نجد شيئا يفرحنا في الدنيا دائما مضطهدين ولا أتجنى. بل أحيانا أفكر أن أنافق حتى أحصل على حقوقي ولكن يا حسرة لا أعرف حتى أن أفعل.
هل لا بد أن ينصر الله عباده في الآخرة فقط ولا ينصرهم ويثبت قلوبهم في الدنيا. أنا تائه ونفسيتي تعبانة جدا. أفيدونا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمسلم منصور في الدنيا والآخرة بشهادة الكتاب العزيز، ولا يلزم من نصر المؤمن أن يعطى شيئا من حطام هذه الدنيا، بل قد يكون حرمانه من ذلك من توفيق الله له لما يعلم الله تعالى أن في إعطائها إياه مضرة له، قال أبو حازم: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته علي فيما أعطاني منها، لإني رأيته أعطاها قوما فهلكوا. ولا يلزم من إعطاء الكافر أو المنافق أو الفاجر شيئا من حطام الدنيا أن يكون فيه شيء من التوفيق له، بل قد يكون الأمر عكس ذلك. وراجع الفتويين: 77082، 56202.
ثم إن من أعظم النصر والتأييد أن يوفق المسلم على الثبات على مبادئ دينه فلا يتنازل عنها لأجل متاع زائل، وما يحدث من المسلم من إخلاص وإتقان لعمله سيجد عاقبته الحسنى بإذن الله تعالى، سواء في الدنيا أم في الآخرة، ثم أن الأمر أهون من أن يحمل المسلم لأجله هماً فيهلك به نفسه ويحزنها فنوصيك أن تهون على نفسك، وأن تبذل من الأسباب المشروعة ما تحصل به حقك، وكن متيقا أنه ما قدره الله لك سيصلك، وما لم يكن الله قد قدره لك فلن تبلغه، وإن سلكت إليه كل سبيل. وانظر الفتوى رقم: 95625.
واعلم أنه لا يلزم لتحصيل المسلم حقه أن ينافق ونحو ذلك، فهنالك المداراة بأن يستعمل المرء اللين في القول والأسلوب الحسن من غير أن يقع في شيء من الكذب ونحو ذلك، فهذا سبيل مشروع. ولمزيد الفائدة بهذا الخصوص راجع الفتوى رقم: 33125.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 شعبان 1429(9/4269)
عملك طيب تثاب عليه لكن لا يدخل في الصدقة الجارية
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مصري عندي 23 سنة محاسب بالكويت والحمد لله, ربنا أكرمني أنني يمكن أن أعمل صدقة جارية, أي يمكن أن أساعد شبابا في جهازهم مثلا أعطي لواحد ثلاجة والثاني بوتاجازا وهكذا، هل هذه صدقة جارية أم لا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنهنئك على محبة الخير والحرص على نفع إخوانك من المسلمين وإعانتهم، ونرجو الله تعالى أن يوفقك لفعل الخير ويديم عليك نعمته ظاهرا وباطنا، ومساعدتك لبعض الشباب بشراء ثلاجة أو آلة غاز عمل طيب تثاب عليه إن شاء الله تعالى، لكنه لا يدخل في تعريف الصدقة الجارية عند الفقهاء، فالمقصود بها عندهم الوقف الذي ينتفع بغلته ومنفعته مع بقاء أصله كحفر بئر أو بناء مسكن ونحو ذلك، وراجع الفتوى رقم: 43607، والفتوى رقم: 10668.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
10 شعبان 1429(9/4270)
كيف تحقق الصدق مع الله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[كيفه أكون صادقا مع ربي العظيم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الصدق مع الله تعالى لا يتحقق إلا بلزوم تقواه، والاستقامة على ما يحبه ويرضاه، بحيث تكون همة العبد متعلقة بربه ومولاه، فقد ذكر الله تعالى آية مشتملة ـ كما يقول ابن كثير ـ على جمَل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، وهي قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ثم قال سبحانه بعد هذه الأوصاف كلها: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {البقرة: 177} .
قال السعدي: أي: المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم {الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم، لأن أعمالهم صدقت إيمانهم اهـ.
والمقصود أن الصدق مع الله مرتبة عالية لا يصل إليها الإنسان إلا ببذل نفسه لله، يحث يكون أمره تبعا لأمر الله، يحب ما يحب، ويكره ما يكره، ويفعل ما يأمر، ولذلك اشتُق من هذه الصفة الجليلة أعلى مراتب العبودية على الإطلاق بعد مرتبة النبوة، وهي مرتبة الصديقية.
فلا بد لمن أراد الصدق مع الله أن ينظر في هذه الآية وما فيها من شرائع وشعائر، فيتمثلها واقعا عمليا في حياته.
ولابد من توطين النفس على الالتزام والطاعة المطلقة لأمر الله، وإن كلفه ذلك الغالي والنفيس، ابتغاء مرضاته تعالى، بحيث يدخل العبد في السلم كافة ولا يتبع خطوات الشيطان، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {البقرة: 207-208} . فإن الله عز وجل إنما وصف بالصدق من وفَّى العبودية حقها، كما قال سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {الحجرات: 15} وقال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {الحشر: 8} .
فإذا فعل العبد ذلك فليبشر بكل خير، كما قال تعالى: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ {محمد: 21} فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك. رواه النسائي والطحاوي والطبراني والحاكم والبيهقي، وصححه الألباني.
ثم نذكر السائل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يعلم ما له عند الله جل ذكره فلينظر ما لله عز وجل عنده. رواه أبو نعيم والحاكم وغيرهما، وحسنه الألباني.
قال المناوي: زاد الحاكم في روايته: فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه، فمنزلة الله عند العبد في قلبه على قدر معرفته إياه وعلمه به وإجلاله وتعظيمه والحياء والخوف منه، وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، والوقوف عند أحكامه، بقلب سليم ونفس مطمئنة، والتسليم له بدنا وروحا وقلبا، ومراقبة تدبيره في أموره، ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه ومننه، وترك مشيئته لمشيئته، وحسن الظن به، والناس في ذلك درجات، وحظوظهم بقدر حظوظهم من هذه الأشياء، فأوفرهم حظا منها أعظمهم درجة عنده، وعكسه بعكسه اهـ.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
03 شعبان 1429(9/4271)
كيف تحمل نفسك على طاعة الله، واجتناب معاصيه
[السُّؤَالُ]
ـ[لا أعرف من أين أبدأ. لكن سأحاول أختصر: أنا متزوجة ولدي طفلان تحدث في أوقات كثيرة مشاكل بيني وبين زوجي بسبب صوتي العالي وصلاتي، أنا أوقات كثيرة أصلي وأداوم على الصلاة والقرآن وأوقات ما أصلي ولا أقرأ القرآن نهائيا وأنا على طوال تعبانة نفسيا وأحس أن بداخلي بركانا وطبعا على أي سبب أتخانق مع زوجي أنا نفسي أكون طبيعية غير عصبية وأسمع الكلام وأصلي وأقرأ القرآن باستمرار وطبعا أنا نسيت أقول لحضرتك أني أنا على طول أسمع أغاني عربية أجنبية وكليبات طبعا نفسي كل هذا أمنعه لكني غير قادرة أفيدوني بشيء يمنعني من ارتكاب المعاصي لأنني تعبانة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يتوب عليك وأن يهديك لما يحب ويرضى.. ثم اعلمي ـ أختي الكريمة ـ أن الإيمان باليوم الآخر، والاستعداد للقاء الله، وكثرة التأمل والدارسة في الترغيب والترهيب والرقائق، هو الذي يحمل الإنسان على طاعة الله تعالى، واجتناب معاصيه، ولذلك علل أهل الجنة اجتهادهم في الصالحات بقولهم: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرً ا {الإنسان: 10}
وإذا ذكروا حالهم في الدنيا بعد دخولهم الجنة قالوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ {الطور: 26} أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
فامتثلي أختي الكريمة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم القائل: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ". يَعْنِي الْمَوْتَ. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، والنسائي وابن ماجه وأح م د وصححه الألباني.
فإن من فعل ذلك أقبل على إصلاح نفسه وعمارة أوقاته بما ينجيه عند لقاء الله تعالى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا*إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. {النبأ:40،39} .
وبذلك أمر الله سبحانه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ*وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {الحشر:19،18} . ففي هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان من لزوم تقواه في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به، وينظروا ماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق. وإذا علموا أيضا أن الله خبير بما يعملون، أوجب لهم الجد والاجتهاد.
قال السعدي: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.
والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوما نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم، فلم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، فصار أمرهم فرطا، فرجعوا بخسارة الدارين.
ثم اعلمي أختي الكريمة أن ما تشتكيه من علو الصوت وسرعة الانفعال، والتعب النفسي والبركان الداخلي. هذا كله من فعل الشيطان، الذي يقارن من غفل عن ذكر الله العظيم، وابتعد عن القرآن الكريم، واستبدل بذلك الأغاني المسموعة والمرئية، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف:36} وفي المقابل يقول الله تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {الرعد: 28} .
فذكر الله هو الحصن الحصين من الشيطان الرجيم، كما في الحديث الشريف: وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني صحيح الجامع.
وعليك أختي الكريمة أن تستمعي لكلام الله بدلا من سماع مزمار الشيطان - الأغاني - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. رواه مسلم.
فابدئي من الآن وأعلنيها توبة صادقة مع الله تعالى، وأكثري من الاستغفار، واستعيني بالله وتوكلي عليه والجئي إليه، وأكثري من الدعاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ. رواه الترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجه وصححه الألباني.
ونحذر السائلة من التهاون في شأن الصلاة على وجه الخصوص، فإن الله تعالى يقول: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {مريم: 59}
وقد تقدم حكم ترك الصلاة والتهاون بها في الفتاوى ذات الأرقام: 6061، 1195، 3830 كما تقدم حكم استماع الغناء في الفتوى رقم: 9776.
كما نحذرها من تضييع حق زوجها وإساءة عشرته، ونقول لها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ. رواه أحمد وصححه الألباني.
قال أيضا صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْحَقِّ. رواه أبو داود وصححه الألباني.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
30 رجب 1429(9/4272)
ثواب من ترك عملا يشغله عن الصلاة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب اشتغلت منذ فترة في محل لكني تركته لأني لم أستطع أن أوفق بين الشغل وبين الصلاة حتى أني بحكم التعب والدوام المتأخر بالليل لم أصل صلاة الفجر الا مرتين فهل لي أجر لتركي العمل؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان عملك يتعذر معه إقامة الصلاة بكل حال أو إقامتها في وقتها وتركته من أجل ذلك فلك أجر إن شاء الله تعالى على تركه، لأن ترك ما يلهي عن الصلاة أمر واجب، ومن فعل الواجب ابتغاء مرضات الله فله أجره؛ لقول الله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ {الأنبياء:94} . وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا {الكهف:30} .
وليبحث الأخ السائل عن عمل لا يتعارض مع أداء الصلاة وسيجد العون والتوفيق من الله تعالى، فقد وعد ربنا تعالى من اتقاه أن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأن يجعل له من أمره يسرا.
وانظر للأهمية الفتوى رقم: 9812، والفتوى رقم: 21838.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رجب 1429(9/4273)
الوصايا العشر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي وصايا النبي عليه الصلاة والسلام العشر التي من ضمنها بر الوالدين؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد روى الترمذي وحسنه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد فليقرأ هذه الآيات: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ..... إلى قوله تعالى: لعلكم تتقون.
وهذه الآيات هي ثلاث آيات من سورة الأنعام قال تعالى فيهن: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. {الأنعام:153،152،151}
وقد اشتهر عند أهل العلم تسمية هذه الوصايا بالوصايا العشر، ووصفها ابن مسعود رضي الله عنه بأنها عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بذلك أنها آيات محكمة غير منسوخة.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رجب 1429(9/4274)
علاج الفشل
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب عمري 33 عاما وأحمد الله على قدر من الالتزام ومراعاة الله فى جميع تصرفاتي إلا أني حاولت أكثر من مرة الزواج ولكن سبحان الله يفشل قبل تمامه لأسباب غير معلومة، مع العلم بأني فى إحدى الأيام كنت قد رأيت رؤيا أني أتزوج من فتاة وأني فى حديقه جميلة وكنت في ذلك اليوم أدعو الله بإخلاص أن يرزقني الشهادة في سبيل الله، ولكني أشعر هذه الفترة بغربه كبيرة عن الصلاة وعن الإيمان لا أدري هل لأني في ظروف صعبه جداً لا أدري، ولكن قلبي ليس كما كان يشعر بحلاوة الإيمان، فهل هذه الظروف هي اختبار من الله أم غضب من الله لشيء ما أو لأن موضوع الزواج سبب لذلك فأرجو أن تفيدوني فى هذه الرؤيا حيث أي فى ذلك اليوم أدعو بإخلاص من كل قلبي أن يرزقني الله الشهادة فى سبيله حيث أني لا أعلم لماذا تعلقت بهذه الرؤيا مع أنها منذ فترة وأشعر أن الله يخفي لي شيئا من فضله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي للمؤمن أن ينشغل بما يريده الله منه، وهو طاعته وبذل الجهد في مرضاته، ولا ينشغل بما يريده الله له، وهو قضاؤه سبحانه وقدره، فبذلك تتعلق الهمة بطاعة الوقت وينشغل العبد بما ينفعه في دينه ودنياه، وبهذا تعلم أن سؤالك عن الظروف التي تمر بك أهي اختبار أم غضب من الله؟ ليس في محله، فقد تكون لبعض ذلك أو لجميع ذلك، كما يمكن أن تكون زيادة لك في الدرجات أو تمحيصاً للذنوب..
وعلى أية حال فالذي ينبغي لك هو أن تتوجه بكليتك إلى ما أمرك الله به، فإن علاج الفشل أياً كان نوعه يكون بمراجعة الحال مع الله بالتوبة والاستغفار، ثم الاستعانة بالله وحسن الظن به وصدق التوكل عليه ثم لزوم تقواه سبحانه والاستقامة على شريعته، ثم الأخذ بالأسباب وعدم العجز مع لزوم الاستخارة واستشارة ذوي النصح والخبرة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
وأذكرك أخي الكريم بهذه القاعدة التي أرساها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. رواه مسلم.
كما أذكرك بقول الله تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وحسنه الألباني.
ولا تنس أخي الكريم أن سلاح المؤمن الذي لا ينبغي أن يفارقه هو الدعاء واللجوء إلى الله تعالى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر. رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني. وقال أيضاً صلوات الله وسلامه عليه: ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم. رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
وأما مسألة الرؤيا التي رأيتها فقد تكون بشرى عاجلة لك بالزواج، أو بما هو خير لك من الزواج وهو استجابة الله لك في حصول الشهادة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات، قال: الرؤيا الصالحة. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. رواه البخاري ومسلم..
وعلى أية حال فإن موقعنا ليس من اختصاصه تعبير الرؤى علماً بأنها لا تنبني عليها أحكام.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رجب 1429(9/4275)
نظرات في سعة الرزق وضيقه
[السُّؤَالُ]
ـ[السيخ الفاضل, أثابك الله وبعد:
نحن عائلة ملتزمة ولله الحمد وبالنسبة لي أعمل جهدي لكي أرضي وجه الله الكريم, نعاني من عدم البركة في الرزق, عندما تضيق بنا المادة جدا وتزيد المعاناة، اذكر أهل البيت بأن يحاسبوا أنفسهم وأؤكد لهم أن الأمر عير طبيعي لا بد وأن منكم من يقوم بمعاصي بالسر وكل يعرف نفسه وأنا من طبيعتي ولله الحمد إنني دائمة التذكير لزوجي ولأولادي بالله ...
لا أعرف أشعر شعورا قويا أن عسر الرزق وعدم البركة فيه بسبب عدم غض زوجي عن الحرام , يشهد الله كم أذكره بذلك وعندئذ أشعر أنه لا زال حقا على إطلاق بصره بدليل طلب الدعاء مني له بذلك، وأتعجب في نفسي وأقول رجل وصل لسن فوق الخمسين ولا زال على هذا الذنب ماذا ينتظر لو قلنا إنه مراهق أو شاب لقلنا ربما الفتنة تزيد على هذه الفئة العمرية, من ناحية حقوقه كلها كزوج فهي موفرة له, وهو دائما يشهد لذلك وبجمالي بالنسبة له، أخي هل حقا عدم غض بصره سبب في عدم البركة في الرزق، وماذا عن الكثيرين الذين يطلقون أبصارهم ويفعلون الكثير من المعاصي ورزقهم في ازدياد ...
زوجي سوف يقرأ إجابتكم وأحب أن تكون له مباشرة حتى يقتنع وربما خشي ربه سبحانه وتعالى ...
وأسأل الله لكم التوفيق....]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يبسط رزقه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء، وليس ذلك علامة على أن ذلك محبوب عنده، ولا أن هذا ممقوت عنده، وإنما العبرة بالأعمال الصالحة وقبولها، قال سبحانه: فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {الفجر:15-17}
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ.
وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله: {كَلا} أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر. ولذلك فإنك تجد بعض أهل المعاصي قد فتح الله لهم أبواب الرزق على مصراعيها ولكن ليس هذا دليل كرامة، كلا بل هذا زيادة فتنة لهم. وتجد من أهل الإيمان والعمل الصالح من ضيق عليه في رزقه وليس هذا دليل إهانة، وقد كان سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم تمر عليه أياما لا يجد فيها القليل من الطعام وهو أكرم الخلق على الله.
ومع ذلك نقول: لا يخفى أن للمعاصي آثارا عظيمة في حدوث المصائب، وإزالة النعم والسرور، وجلب النقم والشرور، وتضييق الرزق. وكلما كثرت الذنوب اشتدت الخطوب، وضاق العيش، وأظلم القلب، وفرح الشيطان، وغضب الرحمن..
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الداء والدواء: ومن عقوبات الذنوب أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا لسبب ذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة، وقد قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ. انتهى كلامه.
ولا مانع من أن يكون ضيق الحال الذي أصابكم من شؤم المعصية، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الداء والدواء: قال: ومن شؤم المعصية أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم، فإن من عقوبتها أنها تزيل النعم الحاضرة وتقطع النعم الواصلة. انتهى كلامه.
وأما بالنسبة لنظر الرجال إلى النساء الأجنبيات فهو حرام, وهو بريد الزنا وسبب الفجور والآثام. ومفسد القلب ومثير للشهوة ومخالفة صريحة لأمر الله – جل وعلا - فإن الله جل وعلا أمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {النور:30} ، فمن لم يغض بصره فقد خالف أمر الله وعرض نفسه لسخط الله ومقته، ومن سخط الله عليه فقد هلك.
والنظر إلى الحرام من زنا العين، الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر ... .
وغض البصر له فوائد عديدة ذكر بعضها العلامة ابن القيم في كتابه الداء والدواء , وننقل بعضها بتصرف واختصار، فمن فوائده: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، ومن فوائده أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعية عليه، كما أن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله، وغض البصر يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعف القلب ويحزنه، ويكسب القلب نوراً، ويورث صاحبه فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، ويسد على الشيطان مدخله إلى القلب، ويفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها.
فيجب عليك أيها الزوج أن تبادر بالتوبة إلى الله تعالى واحذر أن تديم المعاصي فتفتح عليك أبواب الشرور, فتصيب أهل بيتك معك فتكون سببا في بلائهم وحرمانهم، مع أن الواجب عليك أن تكون سببا في سعادتهم وقربهم من مولاهم.
وللفائدة تراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 46846، 4188، 27048، 36909.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
26 رجب 1429(9/4276)
لا تيأس من رحمة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب عمري 25 سنة من 10 سنوات وأنا أحاول الحصول على مال حلال وكنت أظن أني من عباد الله الذي لو أقسم على الله لأبره لأني سمعت حديثا فيما معناه رب عبد أشعث أغبر، الناس يطردونه لو أقسم على الله لأبره، أو كما قال. أنا في نيتي باختصار أن أعيش في سبيل الله وأموت في سبيل الله لكن لم تتيسر لي الأسباب، مثلا الحصول على صحبة صالحة حتى ولو صديقا واحدا أو الحصول على أموال حلال أو النجاح في الحياة..... لم يتيسر بل إلى الآن أشتغل في تجارة محرمة حتى قريب إني يئست خصوصا بعد ما سمعت من أحد المشايخ أنه قال إذا عرفت أن تعرف عند الله مقامك فانظر أين أقامك، أعترف بأني مقصر جدا ولكن كثير من الأشياء ضدي ولم أجد من يعينني على الخير وخصوصا الناس ينفرون من حولي ولا يتحدثون معي والله وحده يعلم بالنية وخصوصا أن أموالي حرام ماذا أفعل بصراحة كنت معتمدا على الله أن يستجيب دعائي ويفرج عني لكن الوضع ازداد سواء والله طيب لا يقبل إلا طيبا ويجب أن يكون طعامي وشرابي ولباسي حلالا كي يستجيب الله دعائي، بصراحة أنا شبه يائس تقريبا إلا من رحمة الله التي وسعت كل شيء. أرجو التوجيه والإرشاد ولا تنسوني من صالح دعائكم بأن يستجيب الله دعائي وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أولاً أخي الكريم عليك أن تتوب إلى الله عز وجل من العمل الحرام، وتقلع عن هذه التجارة المحرمة، وتعزم على ألا تعود لها، وتتخلص من هذا المال المحرم، وطريق التخلص منه يكون بصرفه في المصالح العامة للمسلمين كرصف الطرق أو بناء المدارس والمساجد أو الفقراء والمساكين، ونحو ذلك وراجع الفتوى رقم: 3519.
ــ وينبغي عليك أن لا تتردد لحظة في التخلص من هذا المال المحرم، فيكفي هذا المال أنه يحول بين المرء وبين أن يستجيب الله دعواته كما تعلم أنت.
ـــ وثق تماما في الله عز وجل فقد قال الله: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. {الطلاق: 2} .
وقال صلى الله عليه وسلم: إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك به ما هو خير لك منه. رواه أحمد وصححه الألباني، فثق تماماً أن الله سيبدلك ما هو خير من هذا المال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس نفث في روعي، أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته. رواه الحاكم وصححه الألباني.
ـــ وأما كونك لا تجد أحدا من أصدقائك يعينك، فاستعن بالله أولاً ولا تعجز، وعليك بالدعاء بأن ييسر لك الله عز وجل الصديق الذي يكون سببا في العمل الحلال، وعليك بالصدق مع الله فاصدق الله يصدقك. وخذ بما تيسر لك من الأسباب فحاول البحث عن عمل. واحذر كل الحذر من القنوط من رحمة الله.
ـــ ونسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وعليك وعلى جميع المسلمين ويرزقك الرزق الحلال ويبارك لك فيه، اللهم آمين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 رجب 1429(9/4277)
مكفرات صغار الذنوب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي كفارة القبلة، وهل تكفرها أعمال اليوم من صلوات وطاعات لمن اقترفها وهو محصن؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد
فالقبلة لمن لا تجوز قبلته من اللمم المحرم وصغائر الذنوب، ويكفرها اجتناب الكبائر والصلوات المفروضة وأنواع القربات والطاعات، قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره للمم: هي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، وقد اختلف في معناها، فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: اللمم كل ما دون الزنا.. وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. انتهى.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وأخرج أحمد وغيره في المسند: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إني لقيت امرأة في البستان فضممتها إلي وباشرتها وقبلتها وفعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قال: فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. قال: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال عمر: يا رسول الله؛ أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال: بل للناس كافة. وأخرج مسلم نحوه.
وننبهك إلى أن وقوع المعصية من المحصن أقبح من غيره إذ رزقه الله تعالى ما يتعفف به عن الحرام فهو يتبدل الخبيث بالطيب، ولذا كان حد الزاني المحصن الرجم حتى الموت وغير المحصن الجلد والتغريب، كما أن الإصرار على الصغائر أو التهاون بها واستحسانها قد يصيرها كبائر.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
16 رجب 1429(9/4278)
الآثار المترتبة على كفران النعم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما النتائج المتربة عند عدم شكر الله عز وجل عن النعم؟]ـ
[الفَتْوَى]
خلاصة الفتوى:
من النتائج المترتبة على عدم شكر الله تعالى على نعمه: سلبها وزوالها عن العبد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من نتائج عدم شكر الله تعالى على نعمه زوالها وسلبها.. فقد قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ {إبراهيم:7} .
قال ابن كثير في التفسير: لئن شكرتم لأزيدنكم أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ولئن كفرتم أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها إن عذابي لشديد، وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها.
وقد جاء في الحديث: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد وابن حبان والحاكم.
وفي المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به سائل فأعطاه تمرة، فسخطها ولم يقبلها، ثم مر به آخر فأعطاه إياها، فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بأربعين درهماً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من زوال النعمة كما في صحيح مسلم وغيره قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.
ومن أسباب زوال النعم المعاصي كما قال بعض الحكماء:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم.
ويقابل عدم الشكر؛ مقام الشكر الذي هو من المقامات الرفيعة التي ينبغي للعبد السعي في الوصول إليها. وسبق بيان الشكر في الفتوى رقم: 73736، والفتوى رقم: 70399.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
18 رجب 1429(9/4279)
لا إثم عليك ما دمت قد حذرته من ارتياد هذا المكان
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب ذهبت للعمل بمدينة شرم الشيخ 15 يوما وشعرت أني ارتكبت محرما في العمل في هذه الفنادق فقد كنت أعمل في قسم الاستقبال فعدت مسرعا وقدمت استقالتي وتركت العمل في السياحة مع ندمي على العمل في هذا المجال المحرم، ولكن المشكلة أن صديقي المقرب سيتزوج وكان قد سألني أي الفنادق أفضل في شرم الشيخ فقلت له على اسم فندق، وهو سوف يتزوج ويأتي بزوجته لقضاء شهر العسل في شرم الشيخ، وأنا خائف أني قد أكون ارتكبت محرما في ذلك فصديقي لا أعرف هل سيرتكب محرما هناك أم لا رغم وجود زوجته معه فهو ليس ملتزم بتاتا.. أنا خائف أن تكون هذه سيئة جارية بأني ربما أحمل ذنبا لأني دللته على اسم فندق في شرم الشيخ، وأنا تبت الآن وابتعدت عن هذا المجال وأقول له كلما يكلمني لا تذهب إلى شرم الشيخ لأنه حرام، وهو يقول لي سأذهب فهل هذه سيئة جارية، وهل أتحمل ذنبا رغم أني تبت إلى الله............. وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنحمد الله على أنك تبت مما ارتكبته من الآثام، وقد قال الله تعالى في شأن التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ {التَّحريم:8} فمن تاب وصدقت توبته تاب الله عليه، وكانت التوبة ماحية للذنوب التي تاب منها؛ لما ثبت في الحديث الشريف: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه.
وفيما يخص صديقك الذي أشرت عليه بالذهاب إلى الفندق المذكور فإنك إذا كنت قد حذرته من ذلك الفندق قبل ذهابه إليه فإنه لا يكون عليك ذنب فيما يرتكبه هو إذا ذهب إليه، وعليك أن تواصل نصحه بعدم الذهاب إلى هناك، فإن استجاب فالحمد لله، وإن لم يتسجب فقد أديت ما عليك من النصيحة والبلاغ، ولا تيأس من دعوته بترك الذهاب إلى هذا ليأجرك الله على ذلك ...
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
15 رجب 1429(9/4280)
شروط قبول العبادة والعمل الصالح
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أتحدث مع أحد الأشخاص في أحد المواضيع المحرمة تحريم تاما وهو موضوع قراءة الفنجان وأنه محرم وقلت له الأحاديث التي حرمته وهو أن من يحضر منجما لا تقبل له صلاة أربعين يوما مهما كانت نيته فقال لي أنا أعلم نفسي وأعلم أن هذا الحديث لم يوجه لشخص مثلي، وأنا مليء بالحكمة وأعرف أن الحساب عند الله أهم شيء نيتي وأنا أعرفها وما إلى ذلك، وهذا هو رد هذا الشخص كل مرة نتحدث في أمر ديني ويكون أيضا رده في النهاية ليس طفل مثلكم سيعلمني؟
فما نصحيتكم لهذا الشخص أرشدوني وفقكم الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته من تحريم الذهاب إلى العرافين والمنجمين صحيح وهو من الكبائر، وقد سبق تفصيل ذلك في فتاوى سابقة. وأما قول صديقك: إن أهم شيء نيته، فهذا ليس بصحيح، فالنية الحسنة لا تجعل المعاصي مباحة، كما أنها لا تكفي وحدها لإبراء الذمة من فعل الواجبات وترك المحرمات، والغاية التي خلقنا من أجلها جميعا هي عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذريات:56} .
وليست عبادته سبحانه على هوى كل إنسان أو نيته، بل هي وفق ما شرعه سبحانه، وما دام المسلم قد اختار الإسلام دينا، فلا يجوز له أن يسير وفق هواه ولا أن يختار من شرع الله ويزعم أنه فوق ما شرعه الله من تحليل شيء أو تحريمه. قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً. {الأحزاب: 36} .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عمل لا يوافق الشرع مردود على صاحبه،فقَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. رواه مسلم.
فالحساب عند الله ليس على النية وحدها، فلا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا لله، موافقا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المراد من قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {الملك: من الآية2} .
قال الفضيل بن عياض في تفسير العمل الحسن: أخلصه وأصوبه، فقيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة. انظر تفسير البغوي 4/369.
فمن أراد الوصول إلى مرضاة الله، فليلزم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل الطرق إلى الله تعالى مسدودة، إلا هذا الطريق، طريق نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النور: 63} وقال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً {الكهف: من الآية110} .
فلم يكتف بالنية فقط وإن كانت حسنة، فكيف إذا كانت النية في الأعمال المحرمة؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. رواه مسلم.
فالنظر إلى القلوب والأعمال، والحق يقبل ممن جاء به صغيرا كان أو كبيرا، ونسأل الله أن يهدي صاحبك إلى الالتزام بشرع الله وترك تحكيم عقله وهواه فيما فرض الله أو حرم.
وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 20976، 7515، 58734 14005، 32568.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
17 رجب 1429(9/4281)
العفو عن الناس يستجلب عفو الله
[السُّؤَالُ]
ـ[قريبه لي تكلمت في عرضي ظلما. وتأثرت نفسيا بذلك، ودعوت عليها وتعرضت لحادث أليم. وأثناء زيارتها لاحظت أنها لم تكف عن ذلك بل زادت.، سؤالي ما سبب إصرارها على هذا الفعل وعدم اتعاظها بما حصل لها.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننصحك أيتها الأخت بالصبر ومحاولة مجاهدة النفس بالدفع بالتي هي أحسن عمن أساء إليك، ومنهم هذه المرأة التي دلنا عليها شرعنا الحنيف، فقد قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {فصلت:34} . والنتيجة المنتظرة منها هي ما أخبرنا بها رب العزة قائلا: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34} . ثم أخبرنا أنه لا يفعل ذلك كل أحد وإنما يفعله طائفة معينة من خلقه وعباده المخلصين، فقد قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {فصلت:35} .
فلتكوني من عباده الصابرين المحتسبين، وعاملي الخلق دائما ليس بما يستحقون؛ ولكن كما تحبين أن يعاملك الله به، قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى:40} .
وللمظلوم أن يدعو على من ظلمه بقدر المظلمة؛ كما دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وهذا عدل والأول فضل، وينبغي للمسلم أن يسعى ليكون من أهل الفضل، وهذه المرأة ينبغي أن تنصح بالأسلوب الحسن لتجتنب الوقوع في أعراض الناس، فحاولي أن تفعلي ذلك بنفسك أو بالاستعانة بمن له تأثير عليها وبذلك تكونين قد أحسنت إليها وإلى نفسك، وأما عن خصوص السؤال فإنا لا ندري ما سبب إصرارها على ذنبها مع أنه ينبغي كما ذكرت الاتعاظ بما يحصل للمسيء من المصائب.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 رجب 1429(9/4282)
دلالة الإصابة بالقمل
[السُّؤَالُ]
ـ[من أصيب بالقمل هل الله غير راض عنه؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم نصا شرعيا صحيحا يفيد بأن إصابة الإنسان بالقمل دليل على أن الله غير راضٍ عنه، والإصابة بالقمل أو غيره من الآفات قد تكون لها أسباب كعدم النظافة أو مخالطة المصابين بها أو طبيعة عند بعض الناس، ونحو ذلك، وقد تكون نوعا من الابتلاء، كالأمراض وغيرها التي تصيب الإنسان، وليس الابتلاء دائما دليلا على كره الله للعبد؛ بل هو في أحيان كثيرة دليلا على محبته له إذا قوبل بالصبر، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الترمذي والألباني.
وهذا القمل قد أصاب خير الناس قبلنا، فأصاب بعض الأنبياء وكان شديدا عليه، ولم يكن ذلك دليلا على عدم رضا الله عنه، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى يَأْخُذَ الْعَبَاءَةَ فَيَخُونَهَا، وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ، رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الحافظ العراقي ثم الشيخ الألباني رحمهما الله.
وإذا ابتلي الإنسان ببلاء فلينظر في أحواله وليراجع علاقته بربه، فما كان من خير زاد فيه، وما كان من تقصير أو معصية بادر وأصلح ذلك، مع الأخذ بالأسباب المشروعة لعلاج هذا البلاء ما أمكن، ويمكن مراجعة مختص بالأمراض الجلدية ونحوها مما يتعلق بموضوع القمل، ونسأل الله أن يعافي كل مبتلى من المسلمين،
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتوى رقم: 25165 عن الحكمة من الابتلاء، والفتوى رقم: 25111 عن منزلة الصبر والصابرين، والفتوى رقم: 13270 عن الحكمة من الابتلاء، وما يشرع فعله عند نزول البلاء، والفتوى رقم: 12222 عن الحكمة من خلق الإنسان، والفتوى رقم: 10454 عن الابتلاء تكفير للسيئات ورفع للدرجات.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 رجب 1429(9/4283)
ليس من شروط التوبة عدم الوقوع في الذنوب
[السُّؤَالُ]
ـ[قبل عدد من السنوات كانت لي علاقة مع امرأة وتطورت هذه العلاقة حتى وقعت معها في فاحشة الزنا وبعد هذه الحادثة أحسست بذنب عظيم وأنني ارتكبت أمرا محرما فقررت أن أترك هذه المرأة وعملت على ذلك حتى أنهيت علاقتي بها وكلي حزن وألم على ما فعلت.
وبعد مرور عدد من السنوات تيسر لي أداء فريضة الحج وكنت متلهفا جدا لذلك لعلني أمحو عن نفسي ما أثقلها من الهم ورغبة في العودة لله، وتحقق لي ذلك والحمد لله، ولكن بعد الحج بفترة من الزمن رجعت مرة أخرى لأتعرف على فتيات وأتكلم معهن في الهاتف ولكنني في كل مرة أحس بالذنب وأقرر عدم العودة لما أنا عليه، ولكنني أرجع مرة أخرى ولكن في حالتين التقيت بهن ولكني بكلا الحالتين لم أصل فيها إلى مرحلة الزنا لأنني أتذكر ما حدث وأرجع لنفسي وأقرر بعدم إكمال هذه العلاقة أو إبقائها بعيدا عن اللقاءات حتى لا أقع مرة أخرى في هذه الفاحشة وعملت على قطع العلاقة ولكني أعود للتعرف من خلال الهاتف وأصبح حالي كذلك حتى قررت الزواج رغبة مني بأن أبتعد عن كل ذلك وحتى أفتح صفحة جديدة في حياتي وتيسر لي الأمر، وتزوجت ولله الحمد وبعد فتره من زواجي بدأت أفكر بعمق بما عملت وخاصة عندما أقرأ قوله وتعالى: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. فبدأت الشكوك تساورني في حكم عقد زواجي وهل هو صحيح وعندما تعمقت وبحثت عن معنى الآية علمت أنها لا تنطبق على من تاب وارتحت بذلك فترة من الزمن ولكن الشكوك عاودتني مرة أخرى وأصبحت تدور حول هل فعلا أنني تبت قبل عقد النكاح وأبدأ بمناقشة نفسي على النحو التالي: يا نفسي إن شروط التوبة هي: أولها الندم على ما حدث من ذنب ندما حقيقيا ومن علاماته ألم في القلب كلما تذكرت ذنبك فهل تحسين يا نفسي بذلك؟
فأجاوب بنعم إنني نادم كلما تذكرت وأتمنى أن تعود بي الأيام للخلف لأغير كل ذلك.
ثانيها التوقف والكف عن ممارسة الذنب فلا تعود له بعد ذلك وهل هذا ما حدث؟
فأجوب بأنني لم أقع في هذه الفاحشة بعد يومي ذاك ولم تحدث هذه الحادثة إلا مرة واحدة.
ثالثها العزم على عدم العود إلى الذنب مرة أخرى عزما أكيدا حقيقيا وهنا تبدأ المشكلة وتبدأ نفسي تسألني هل فعلا عزمت على عدم العودة؟ فأذكر نفسي بأنني تركت المرأة التي وقعت معها في الفاحشة وقررت الحج ردعا لنفسي وترد نفسي مرة أخرى ولكنك بعد الحج عدت لتتعرف على أخريات؟ وأرد عليها بأنني لم أصل مع أي منهن إلى فاحشة الزنا وفي كل مرة أعمل على إنهاء العلاقة وهكذا حتى أنني بدأت أشك في مدى صحة توبتي وبدأت أسأل نفسي هل حقا أنني لم أتب لأنني لم أعزم ولكنني قررت الزواج فهل هذا يعتبر عزيمة مني لأترك هذا الطريق، أرجو منكم المساعدة وأن تبينوا لي هل عقد زواجي صحيح؟ وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فزواجك صحيح وتوبتك نحسبها صادقة لما ذكرت من إقلاعك عن المعصية وندمك عليها، ووقوعك بعد ذلك في اللمم لا يحبط توبتك الأولى من الزنا، فليس من شروط التوبة عدم الوقوع في الذنب ثانية، وإنما العزم على ألا يعود عليه فقط، فإن غلبته نفسه الأمارة بالسوء وعاد إلى الذنب ثانية ولو لما هو أشد منه فإنه يتوب توبة أخرى صادقة وهكذا، ونرى أن ما يختلج في نفسك هو من وساوس الشيطان ومداخله فأعرض عنها صفحا، وأقبل على الله عز وجل بفعل الطاعات والبعد عن المعاصي والسيئات، وتعفف بما رزقك من الحلال الطيب واحمده سبحانه أن وفقك للتوبة وتداركك بلطفه ورحمته قبل أن تموت على تلك المعاصي، فتمسك بسبيل التائبين وعض بنواجذك على أصل منهج النبيين الصادقين، واعلم أن الله تواب رحيم.
وللفائدة انظر الفتاوى التالية أرقامها: 1909، 1095، 5450، 39223.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
11 رجب 1429(9/4284)
نزول المصائب ليس بالضرورة بسبب الذنوب
[السُّؤَالُ]
ـ[قبل وصولي إلى سن البلوغ قمت بفعل قبيح وهو قيامي بشبه لواط مع أختي دون إنزال مني أو استمتاع وهو إدخالي للقضيب في شرجها، ولكن عند البلوغ قمت بشيء آخر مع أخت أخرى وهو الاستمتاع بها بشهوة وإنزال مني في مؤخرتها دون إصابة فرجها أو شرجها وهي نائمة ولم تبلغ بعد ولعدة مرات، ولقد تبت من هذا الفعل قبل عدة سنوات، وأنا الآن في حيرة من أمري بحيث كلما وقع لي أمر سيئ أقول إنه بسبب فعلتي تلك، فما الحكم الشرعي وماذا أفعل ليغفر الله لي، مع العلم بأنني أصلي وأقيم حدود الله قدر المستطاع، سني الآن فوق 20 وسني عند قيامي بفعلتي الأخيرة 17؟ وبارك الله فيكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا جرم شنيع وفاحشة عظيمة لكن التوبة الصادقة يمحو الله بها الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن صدقت في التوبة إلى الله عز وجل واستغفرت من ذنبك وندمت عليه وعزمت ألا تعود إليه غفره الله لك، إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم.
وللمعصية شؤم وقد يطهر الله عبده المؤمن ببعض المصائب من ذنوبه، لكن ما دمت قد تبت إليه واستقمت على طاعته فأحسن الظن به واستتر بستره وارج أن يكون قد تاب عليك وغفر لك، وما تصاب به من السوء قد لا يكون بسبب تلك المعصية وإنما هي ابتلاءات من الله لك، وكل ما يصيب المؤمن من سراء أو ضراء هو خير له كما قال صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له. رواه مسلم..
فاصبر على ما يصيبك من الضراء واشكر لما يصيبك من السراء واحتسب الأجر عند الباري سبحانه.
وللمزيد من الفائدة انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 57108، 100461، 5091، 19812.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 رجب 1429(9/4285)
الترهيب من إفساد العلاقة بين الأب وأبنائه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم المرأة التي تفسد شعور أولادها نحو والدهم وتقنعهم بأن تعثرهم بالحياة سببه والدهم ليستأسد الجميع عليه، والتجرؤ عليه بالسب والشتائم وتحطيم الممتلكات، وتسعى دائما أن تقرب أولادها منها وتنفرهم من والدهم؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمرأة التي تفعل ذلك خائنة للأمانة التي استرعاها الله تعالى وأمر بأدائها وحفظها، فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {التحريم:6} ، وهي بفعلها هذا تعرض أولادها ليقعوا في سخط الله تعالى بما هم عليه من الفسوق والعصيان، ففعلها هذا محرم شرعاً، ويجب نصحها ووعظها لتكف عن إفسادها لأولادها وما تحرضهم عليه من العقوق والعصيان، فإن لم يجد ذلك فينبغي أن يحال بينها وبين تلك الأفعال بما يستطاع، وللمزيد من الفائدة انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 96988، 66856، 9904.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 رجب 1429(9/4286)
السعي في منع الحقوق عن مستحقيها ظلم كبير
[السُّؤَالُ]
ـ[زوجي يعمل بالتجارة, شريكا مع أخويه الكبيرين، توفي والده منذ مدة بسبب مرض، وقبل وفاته بفترة قصيرة دخل السجن وأبعد عن بيته لمده شهرين ونصف, أثناء إبعاده ذهب إليه ولديا الكبيران وأرغماه على التوقيع على ورقه تقول بأن زوجي ليس له الحق في حصة من التجارة مثلهم, وأن له أقل منهم, وبسبب وضع والد زوجي الصحي وغطرسة ولديه, وقع على الورقة.
وبعد أن عاد الوالد إلى بيته وتحسن قليلا أدرك أنه أخطأ حينما وقع على الورقة, وكتب وصية جديدة قبل وفاته بأسبوعين تماما تقول بأنه يحق لزوجي كما يحق لهم، بعدما ظهرت الوصية عند المحامي، وعندما علم الأخوان بذلك أرادا بطلان الوصية وعدم القيام بها, وإنما ما وقعا وأرغما والدهم عليه, وليس هذا فقط, قاموا بانتهاز فرصة وجود والدهم في السجن وقاموا بتوزيع الأراضي كما شاءا, وزوجي حصته أقل بكثير منهما, علما أن ثلاثتهم شركاء في كل شيء, مع كل هذا زوجي لا يريد مقاضاتهم وصنع المشاكل بسبب أنهم إخوته ولا يريد المشاكل معهم ولا الفضائح. وعلما أن لهم أبناء يتعلمون في المعاهد ويبنون لهم البيوت على حساب الشركاء الإخوة (الأخوين وزوجي) ,ولنا أنا وزوجي فقط ابن واحد عمره أقل من سنة ونصف.
ما رأيكم بهذا أليس ظلما؟ ما جزاء هذين الأخوين عند الله؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عمل هؤلاء الإخوة مع والدهم في التجارة لا يخرج عن ثلاث احتمالات: فإما أن يكونوا شركاء، أو أجراء عنده، أو يتبرعون بالعمل لديه، والذي يقرر هذا هو العقد، فإن لم يكن عقد فالعرف والعادة.
فإن اعتبروا شركاء فلهم حقوق الشريك في مال الشركة، ولا يجوز للوالد أن يأخذ مال ولده ليعطيه لآخر، ولا يجوز لبقية الشركاء أن يعتدوا على مال شريكهم.
وإن كانوا أجراء فلهم أجرتهم، وإن كانوا متبرعين فليس لهم شيء، وقد سبق أن فصلنا هذه المسألة في الفتوى رقم: 32659. فتراجع، وإذا لم يتفق المتنازعون ترافعوا إلى الحاكم الشرعي.
وأما بخصوص سؤال السائلة: هل ما قام به الأخوان مع زوجها يعد ظلما، فهذا إن ثبت أنهما سعيا في منع أو حرمان أخيهما من حقه في الشركة أو الأجرة أو التركة فلا ريب في أنهما ظالمان، وظلمهما عظيم لأنه واقع على ذي رحم منهما، وظلم ذي الرحم أعظم من ظلم غيره.
وفي الحديث: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
والواجب عليهما التوبة إلى الله تعالى ورد الحقوق إلى أهلها، وراجعي للمزيد الفتوى رقم: 22360.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
05 رجب 1429(9/4287)
علامات حب الله تعالى لعباده
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن أقول "إن الله يحبني" أو "إن الله يحب فلانا" ... مع معرفتي لعلامات حب الله للعبد كما ورد في القرآن والسنة.
وجزاكم الله خيرا.......]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أهل العلم قد ذكروا في صفات الله تعالى أنه يحب ويرضى، واحتجوا لذلك بما في القرآن من كونه يحب التوابين والمتطهرين والمحسنين والمتقين والصابرين، وقد بوب النووي في رياض الصالحين على علامات حب الله تعالى لعباده، وذكر في ذلك عدة آيات وأحاديث، ولكن الجزم بكونه تعالى يحب شخصا معينا لا يسوغ دون استناد لنص من المعصوم صلى الله عليه وسلم، أو وحي من الله تعالى، وهذا لا يوجد في هذا العصر، فلا يمكن الجزم بحب الله لشخص معين حتى ولو عمل ظاهرا بالأعمال التي يحب الله تعالى أهلها لأنه لا يمكن الجزم بقبول تلك الأعمال منه، ولكن نرجو له الخير، وعلينا أن نسعى في التخلق بتلك الأعمال ونتواصى بها.
وراجع في الأعمال التي يحب الله أهلها ويرضى عنهم الفتوى رقم: 47241، والفتوى رقم: 74127.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
04 رجب 1429(9/4288)
التوبة من ادعاء العلم بالسحر
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت سابقاً أدعي أني أعرف السحر وأنا غير ذلك والله، فكنت أقوله من باب التسلية ليس إلا، فكنت أقول إني أستطيع أن أعمل هكذا وهكذا " طبعا أشياء خدعية بمعنى أنها أي إنسان يستطيع عملها لكن تسمى خدعات "
وقد قلت إن هناك من الجن من يمشي خلف أوامري وسميتهم.. طبعاً أنا أقول ذلك للتسلية فقط..
وكنت إذ ذاك صغير السن قد لا أفقه شيئا، والآن أسأل عن الحكم، وما يترتب عليّ , علما أني تبت ولله الحمد.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعليك التوبة إلى الله والاستغفار والإقلاع، ومن تاب تاب الله عليه، ولا يدخل عملك هذا في السحر، إنما هو في الكذب المحرم شرعا، فإن كنت جنيت مالا من هذا الخداع فهو حرام وعليك التصدق به أو إنفاقه في مصالح المسلمين.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
28 جمادي الثانية 1429(9/4289)
توبة المرء مما اقترف في حق غيره في الخفاء
[السُّؤَالُ]
ـ[بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا رسول, أما بعد ... إخوانى فى الله الموضوع باختصار: لقد نشأت فى بيت ملتزم ومتدين, ولكني للأسف انحرفت انحرافاً شديداً وكان ذلك من قبل أن أصل إلى سن البلوغ, وأنا إلى الآن أي بعد قرابة 14 سنة من بلوغي وأنا مازلت على نفس الحال من التخبط والضياع, وسؤالي الآن هو خاص بجزئية معينة وهي أكثر الأمور التي تشغلني ولا أعرف ماذا أفعل, وهى: أنني فى فترة من الفترات كنت عندما أبيت خارج البيت مع بعض الأصحاب والأصدقاء كنت أقوم بأفعال مخجلة ليلاً وهم نائمون, فكنت أستمتع بهم وهم نائمون, فكنت أفعل أفعالا شاذة وقبيحة مع أني كنت أحبهم وهم يحبونني، ولكن لا أعرف لماذا كنت أفعل ذلك معهم, وقد فعلت ذلك كثيراً وعلى طول أوقات العام المختلفة, وسؤالي هنا: ما واجبى نحو هؤلاء الأصحاب، يعني ماذا عليّ أن أفعل لأكفر عن خطئي معهم، مع العلم بأنني من كثرتهم لا أتذكرهم كلهم وحتى لو تذكرتهم لن أجرؤ أن أحدثهم بذلك أو حتى ألمح لهم لأنهم كانوا يعتقدون أني رجل صالح!!! وإنا لله وإنا إليه راجعون ... معذرة للإطالة وأرجو منكم أن تدلوني على الخير وأن تخلصوا لي فى الدعاء فإني والله كالغريق ولا أجد نفسى وأتمنى أن يتوب الله علي قبل موتي وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.. والحمد لله رب العالمين.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتجب عليك التوبة النصوح والاستغفار، ومنها العزم على ترك العودة إلى ذلك، وينبغي أن تكثر من الطاعات والقربات، ومجالسة أهل الصلاح والخير، ويتوب الله على من تاب، وليس عليك أن تفضح نفسك بالإخبار بما كنت تفعل، بل احمد الله تعالى على ستره، وتب واستغفر لهم ولنفسك.
وراجع الفتوى رقم: 52956، والفتوى رقم: 96174.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
27 جمادي الثانية 1429(9/4290)
المسلم يوازن بين أمور آخرته ودنياه
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف أوفق بين حياة الالتزام والتمتع بالحياة كالسفر والتنزه, وكيف أوفق بين التوفير بالمال, والإنفاق في سبيل الله, وهل يجب علي أن أوفر مالا كثيرا أو الأفضل الإنفاق حتى لا أترك المال للورثة ولم أتمتع به, فيصبح خسارة علي, وجزاكم الله خيرا..]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي للمسلم التوسط والاعتدال في حياته من جهة، ويوازن بين حاجة الروح وحاجة الجسد من جهة أخرى، فليست الاستقامة على طاعة الله تعالى بمانع شرعا من الترفيه بما هو مباح شرعا كما بينا في الفتويين: 18941، 6496، بل يمكن للمسلم أن يجعل العادة بالنية الصالحة عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، وراجع الفتوى رقم: 24782.
ومن جهة الإنفاق فينفق المسلم ويتصدق من ماله في سبيل الله، ويترك من ماله ما يغني به ورثته عن سؤال الناس، ولا يجب على الشخص أن يوفر مالا كثيرا، وليس الأفضل له أن ينفق ماله حتى لا يترك للورثة شيئا بل عليه أن يتوسط في ذلك، وما تركه للورثة لا يعد خاسرا فيه ما دام يقوم بواجباته الشرعية فيه من صدقة وغيرها، ولا يجوز للمسلم أن ينفق ماله كله بقصد حرمان جميع الورثة، ولمزيد الفائدة يمكن مطالعة الفتويين: 76456، 67131، وبخصوص حكم التصدق بجميع المال راجع الفتويين: 78881، 109052.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 جمادي الثانية 1429(9/4291)
التوبة من الذنب الذي له تعلق بحقوق الآدميين
[السُّؤَالُ]
ـ[بعد الصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.. أنا رجل مغربي متزوج وأبلغ من العمر40 سنة، سافرت إلى أوروبا وسني 24 سنة، كنت أدرس بالخارج في فرنسا وألمانيا ابتداء من سنة 1992م حتى سنة 2000م، لم أكن متزوجا في هذه الفترة وكنت أصلي وأصوم ولكن كنت أعمل الفواحش، لا أطيل عليكم فسوف أختصر وأبدأ سرد قصتي ... في يوم من الأيام استسلمت للشيطان وبدأت أسرق من المحلات التجارية الغربية، في البداية كنت أسرق مواد غذائية ثم بعد ذلك بدأت أسرق الملابس الغالية قصد ارتدائها أو بيعها، كما أنني كان لي بطاقات بنكية ائتمان كنت أشتري بها ملابس وأشياء أخرى كالذهاب إلى المطاعم أو من أجل قضاء أغراض أخرى، وقد قمت بهذه الأعمال الخسيسة من أجل المتعة ولم أكن حينها أدرك خطورتها، ربما كنت حينها أعاني من مرض الكليبتمانيا، وقد كنت منذ مدة طويلة تزيد عن 20 سنة آخذ بعض العقاقير لعلاج مرض الاكتئاب ومازلت إلى الآن، كما أنني كنت أزني بفتيات من أوروبا وقمت بهذا العمل حتى سنة 2000 تاريخ العودة إلى المغرب، وقد اشتريت العديد من لوازم المنزل بشيكات وبطاقات فرنسية وألمانية بدون رصيد، وللأسف لا زلت أحتفظ ببعض المسروقات وأريد التخلص منها بتوزيعها على أي أحد، ولكن مازلت أستعملها، وقد ندمت كل الندم على ما فعلت وتبت إلى الله عز وجل، لكن الشيء الذي ينغص علي حياتي هو تلك الأموال والأشياء التي سرقت، فأنا لا أستطيع رد الحقوق إلى أصحابها لأن دخلي محدود، كما أنني أخاف إن اتصلت بالمحلات التجارية والبنوك التي أقرضتني أموالا من أجل طلب العفو فربما قبضوا علي، فأنا رب أسرة وأعيل أبناء، فهل الصدقة كفيلة بأن تكفر عن ثمن السرقات التي لا أستطيع ردها، كما أنني فكرت في أخذ قرض من البنك لكنني سأزيد الطين بلة وخاصة أنه عندنا بنوك ربوية في المغرب، فماذا أفعل فأرجوكم أفيدوني أنا أشعر بقهر شديد من هذا الموضوع ولا أريد أن أفضح نفسي، والله لقد تبت ولا أعرف كيف كنت أقوم بهذا العمل المشين، ولكن هذا ما حدث وأريد أن يمحى هذا الذنب عني وأتخلص من توابعه للأبد، دائما أدعو الله أن يقبل توبتي ويعينني على التخلص من توابع ذنب السرقة فو الله أنا قد تغيرت وأسعى دائما للتقرب إلى الله وطلب المغفرة منه، فأرجوكم أرشدوني لا أعرف كيف أتصرف؟ وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أحسنت بتوبتك وندمك على ما صنعت، واعلم أن الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويفرح بتوبة عبده فرحاً شديداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده ... متفق عليه.. وهذا لفظ البخاري..
ثم اعلم أن التوبة النصوح من جميع الذنوب تكون بترك الذنوب والندم على فعلها والعزم على عدم العودة إليها مع الاستغفار والدعاء بالمغفرة، وإذا كان الذنب له تعلق بحقوق الآدميين وجب رد الحق إلى أصحابه إن أمكن، أو ورثتهم إن كانوا هم قد ماتوا ولو بطريقة غير مباشرة بأن يرده بواسطة، كأن يرسله بحوالة بريدية أو مع شخص آخر، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {النساء:58} ، وقال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ {البقرة:188} .
والواجب رد المال جميعه إن علم مقداره، وإن لم يعلم فعليه أن يتحرى فما غلب على ظنه أنه المأخوذ رده، وإذا كانت الأشياء التي سرقها مثلية فيجب عليك أن تؤدي لأصحابها مثلها، وإن كانت قيميه لا مثل لها، فيجب عليك أن ترد لهم قيمتها، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 6420، والفتوى رقم: 26395.
فإن لم يتمكن من أن يرجعها إليهم لفقره فعليه أن يتحلل منهم، فإن أحلوه منها فهو كمن أرجعها وإن لم يحلوه فله أن يأخذ من الزكاة ما يقضي به ديونه لكونه في حكم الغارم، فإن كان المانع غير الفقر كأن يكون عدم إمكان الوصول إليهم أو عدم العلم بهم تحديداً أو غير ذلك فعليه أن يتصدق بما في يده من أموالهم عنهم، مع صدق التوبة والإكثار من فعل الحسنات ... فإذا حضروا وطالبوا بها بعد ذلك أو تمكن هو من الوصول إليهم خيرهم بين إمضاء الصدقة ونيل أجرها، أو أن يرد إليهم قيمتها أو مثلها، ويكون ثواب الصدقة له.
وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 32031، 23562، 26143، 6420، 8315، 28748، 21859، 43407، 36270، 6420.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
25 جمادي الثانية 1429(9/4292)
كيف تحسن عبادة ربك
[السُّؤَالُ]
ـ[1- كيف أحسن عبادة الله..
2- أريد أن أستقيم {بالله عليكم ساعدوني} ..
ليس لدي بيئة إسلامية تماما تفهمني، أنا أحتاج لمخالطة مسلمين صادقين في إسلامهم أرى من حولي تائهين بعدم تطبيقهم الإسلام في كل شيء ...
جزاكم الله خيرا ... ]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعبادة الله هي الحكمة التي خلق الله تعالى البشرية من أجلها، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات:56} ، فجدير بالمسلم والمسلمة البحث عما يؤدي إلى إحسان عبادة الله تعالى وإتقانها، وأول خطوة في طريق ذلك هو تحقيق توحيد الله تعالى، والبعد عن صرف أي نوع من العبادة لغيره جل وعلا وغير ذلك من أنواع الشرك، ثم المحافظة على أركان الإسلام الأربعة الباقية وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولا تتم المحافظة عليها إلا بتعلم أحكامها، ويمكن ذلك عن طريق اقتناء بعض الكتب المختصرة المتصفة بسهولة العبارة والبعد عن التعقيد أو اقتناء بعض الأشرطة النافعة في هذا المجال، مع الحرص على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله ورضوانه والفوز بمحبته وثوابه مع الشعور بمراقبة الله تعالى أثناء العبادة حيث يكون المسلم أثناءها يشعر أن الله تعالى يراه، فإن لم يستطع هذه المرتبة فليلاحظ أنه يرى الله تعالى، فهذا مما يجعله أكثر إتقانا للعبادات التي يقوم بها، وإحسان عبادة الله تعالى من أهم عوامل الاستقامة، فإذا أحسن المسلم عبادة الله تعالى وامتثل أوامره واجتنب نواهيه فقد أحرز غاية الاستقامة، ومما يعين عليها اتخاذ الصحبة الصالحة، فلأجل ذلك ننصح السائلة بالبحث عن بعض النسوة الصالحات للتعلم منهن وللتعاون معهن على الخير، وراجعي بقية أسباب الاستقامة في الفتاوى التالية أرقامها: 15219، 1208، 76210.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 جمادي الثانية 1429(9/4293)
حسن الظن بالله تعالى وترك اليأس والقنوط
[السُّؤَالُ]
ـ[توبة عبد يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه وعذاب القبر.. لقد ارتكبت عدة ذنوب وهي أعتبرها عظيمة وهي الملامسة من فوق الملابس مع عدة أشخاص وتعلمت العادة القبيحة وكنت أتوب وأرجع، أما الآن فقد أقلعت نهائياً والتزمت شرع الله وبدأت حفظ القرآن وحفظت جزءا كبير منه، ولكن الشعور بالذنب يلاحقني وأن الله لن يقبل توبتي وأنني لا أستحق قبول أي دعاء وأعيش في حالة خوف من عذاب القبر وأن ذنوبي ستلاحقني وتدخلني النار ولن أنجو منها، فأفيدوني يرحمكم الله وأثابكم وأدعو لي أن يوفقني الله في الحفظ ويرزقني زوجاً يكفيني بالحلال عن الحرام وهذا ما أتمناه من الله ويمتلئ قلبي بالإيمان والسرور ويبعد عني هذه الأفكار ويثبتني على توبتي؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنهنئك أولاً على نعمة التوبة ونسأل الله تعالى أن يحفظك ويحفظ لك دينك وأن يوفقك إلى حفظ القرآن وأن ييسر لك زوجاً صالحاً، ثم إننا نوصيك بالحرص على حضور مجالس العلم ومصاحبة الخيرات والحذر من كل وسيلة قد تقودك إلى هذه المعاصي مرة أخرى.
ولا يخفى عليك أن رحمة الله واسعة وأنه سبحانه قد فتح باب التوبة للعاصين مهما عظمت ذنوبهم، فنوصيك بحسن الظن بربك وعدم الالتفات إلى خطرات الشيطان فإنه يريد أن يوقعك بذلك في اليأس من روح الله والقنوط من رحمته ليسهل عليه إيقاعك في حباله مرة أخرى، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وللمزيد من الفائدة راجعي الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1882، 2969، 8065.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 جمادي الثانية 1429(9/4294)
المراتب التي يتبعها المظلوم حين يتعرض للظلم
[السُّؤَالُ]
ـ[فضيلة الشيخ حدث اليوم حادث سيارة وكان أحد الطرفين فيها صديق وقريب وجار لي عاشرته منذ حوالي 10 سنوات وكان هذا الصديق هو الذي عليه الحق.. فنزل قائد السيارة الأخرى وكان في الأربعينيات من عمره سب وشتم وكان يهم أن يضرب صديقي رغم أنه على خطأ فقام صديقي بدفعه ثم هم الرجل أن يخرج عصى من سيارته ليضربه بها فقمت أنا بمسك الرجل ليهدأ وما إلى ذلك ... فقام أحد الرجال الذي كان يرى المشهد وأنا أعجب كل العجب أن رجلا شعر رأسه أبيض قال لي اتركه ليضرب هذا الولد فلم أسمع لكلامه لكن شعرت بالحقارة التامة اتجاهة حيث إنه أراد رؤية عراك بدل من أن يصلح بينهم.... المهم انقضى الأمر وهدأ الطرفان وعندما هم صديقي بالرحيل قام ذلك الرجل الذي كان يريد أن يرى العراك بسب صديقي وأبيه فغضبت جداً ورفعت صوتي في وجهه وقلت له فيما معناه كيف تسب شخصه وأبوه وأنت لا تعرفه احترم ألفاظك وهكذا لكن يشهد الله على أني لم أقل أي لفظ خارج لذلك الرجل وإنما رفعت صوتي فقط مدافعا عن صديقي وأبيه الذي بهته ذلك الرجل بقوله.... قام الناس الحضور بإبعادي عن الرجل وقضي الأمر هكذا.. وأنا ضميري يؤنبني لأني أريد أن أعرف هل ما فعلت صحيح أم خطأ وإن كان خطأ فكيف يمكن لي التصرف في موقف فيه من هو أكبر مني وقد ظلمني أو ظلم غيري أو بهتني وما إلى ذلك، مع أني هادئ تماما إلا عندما أحس بالظلم أو أن الذي أمامي يريد أن يكون هو من عليه الحق لمجرد أنه أكبر سنا حينها أشعر بالغضب الشديد وأقول ما في قلبي دون التجاوز أو السب؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
إذا كان الأمر كما قلت فلا شيء عليك إن شاء الله تعالى لأنك أمرت بمعروف وزجرت عن منكر، وقد غيرت المنكر السابق باليد وغيرت هذا باللسان، مع عدم القول الفاحش أو البذاء، أما كيف عليك التصرف أمام من ظلمك ويكبرك سناً فلك أن تنتصف منه بقدر مظلمته والأولى أن تعفو، فقد قال الله تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى:43} ، وقال تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ {الشورى:41-42} ، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34} .
فهذه الآيات أشارت إلى ثلاث مراتب:
الأولى: الانتصار من الظالم وقد بين الله تعالى أنه لا سبيل على من فعل ذلك ...
ويكون الانتصار من الظلم بحكمة وأقل السبل ضرراً وأحكمها بدون تعدٍ أو بغي. .
الثانية: آمرة بمقابلة السيئة بالحسنة وهي أعلى من التي قبلها.
والثالثة: آمرة بالصبر والعفو والمغفرة وهي أعلى مرتبة
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
23 جمادي الثانية 1429(9/4295)
التوبة وعدم تمني الموت والحذر من اليأس
[السُّؤَالُ]
ـ[إخواني أنا محمد من فلسطين وأقول لكم وكلي خجل من نفسي ومن الله عز وجل لأن الله يحب الستر, ولكني والله تعبت من نفسي , فأنا شاب في العشرينيات من عمري وقد أقمت علاقة مع امرأة متزوجة وأنا والله مشهود لي بالإيمان والصلاح والله إني أخاف الله أكثر من أي واحد ودائم الذكر للموت والتفكر ولكني زللت وأوقعني الشيطان بشباكه, وتبت من هذا العمل وندمت ندما شديدا ولكني عاودت إليه وفي كل مرة أندم ندما شديدا وأبكي بكاء الدنيا كلها على نفسي الخاطئة والآثمة وكما قلت لكم والله إني شاب من شباب المساجد ولكني وقعت ولا أدري ما أفعل بنفسي الشريرة وأتمنى الموت في كل لحظة والمصيبة أني خطبت من فترة قريبة وأشعر بندم شديد لأني لا أستحق هذه الفتاة لكوني أقدمت على هذا الفعل الشنيع. أرجوكم إخواني أن ترشدوني فأنا متعب جدا وأريد حلا لهذه المشكلة. فرج الله همومكم وأحسن خواتيمكم وهداكم لما يحب ويرضى؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ارتكاب الذنوب والتفريط في جنب الله مما يقسي القلب ويبعد المرء من ربه فالحذر الحذر لئلا يدركك الموت وأنت على حين غفلة، فسارع إلى التوبة النصوح وخذ بأسباب الاستقامة عليها وجانب مسالك الوقوع في المعصية، واحذر خطوات الشيطان، وأكثر من الاستغفار والأعمال الصالحة، ولازم صحبة الأخيار فإنك إن فعلت ذلك مع المداومة على الالتجاء إلى الله تعالى والتضرع إليه فلن تغلبك نفسك ولن يكون للشيطان عليك سبيل بإذن الله تعالى، ثم لا تقنط من رحمة الله تعالى، بل إن الله يقبل توبة عبده ويغفر خطيئته وزلته.
وقد قال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} .
فمن تاب تاب الله عليه وإن استزله الشيطان في غفلة فإنه يجب عليه أن يتوب ويعزم عزما جازما ألا يعود ولا يضره ذلك الاستزلال ما دام يحسن التوبة الصادقة النصوح بشروطها المعروفة، فكل ابن ادم خطاء وخير الخطائين التوابون كما في الحديث، فاستتر بستر الله عليك، وأبشر بتوبته ومغفرته
فإنه يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. {النساء:17}
وقال: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ {التوبة:118}
فأحمده سبحانه أن وفقك للتوبة وهداك للإنابة إليه، واعلم أن تلك نعمة عظيمة ومنة جليلة فاحمده عليها واشكره يزدك من فضله ويشملك بلطفه وإنعامه.
ولا تتمنى الموت فقد جاء النهي عن ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي. رواه البخاري.
واحذر من اليأس والقنوط فإن ذلك من مداخل الشيطان، وأما الفتاة التي خطبتها فننصحك بالحرص عليها والزواج بها ما دامت ذات خلق ودين ولا تحتقر نفسك بسبب ما وقعت فيه من الخطأ فإنه قد زال بالتوبة وأنت رجل صالح نحسبك كذلك لما ذكرت من انكسارك عند الذنب وتحسرك على الخطيئة، وتلك سيما الصالحين، فانس ما فات لأن التوبة قد محته وأحسن فيما يستقبل.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
24 جمادي الثانية 1429(9/4296)
تهذيب النفس إذا أرادت الرجوع إلى المعاصي
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أرتكب ذنبا ثم ابتعدت عن طريقه وتبت إلى الله. وبعد 8 أعوام أجدني أوشك على الرجوع إليه، وآلمني ذلك كثيرا ... لا أقول إنني وقعت فيه حقا لكنني كنت قد عزمت على بعضه وسعيت له وكنت سأفعله لولا أن سترني الله ولم يرض لي السقوط ثانية. هل تقبل توبتي من جديد؟
هل أدعو الله أن يعافيني ويبعد عني الذنب؟
وهل كون الله جنبنيه هذه المرة هل يعني ذلك أنه تاب علي؟
لا تتركوني أرجوكم.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يوفقك للتوبة الصادقة وأن يرزقك الاستقامة على طريق الحق، ويبعدك عن كل المعاصي والآثام، وقد فصلنا شروط قبول التوبة في الفتوى رقم: 5450.
وعليك أن تجتهدي في دعاء الله تعالى والتضرع إليه في سبيل أن يجنبك المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وأن يمن عليك بالتوبة الصادقة ويوفقك للاستقامة، واغتنمي الأوقات التي تظن فيها استجابة الدعاء كثلث الليل الأخير وأثناء السجود وبعد الصلوات المكتوبات.
واعلمي أن العزم على فعل المعصية والسعي لذلك يعتبر معصية، فعليك بالسيطرة على النفس إذا دعت إلى الرجوع إلى المعصية وأن تبتعدي عن كل ما يؤدي إلى الوقوع فيها مستشعرة عقوبة المعصية وما يترتب عليها من سخط الله تعالى ومقته مع احتمال أن يفاجئك نزول الموت وأنت مقيمة عليها فتندمي حين لا ينفع الندم، وراجعي الفتوى رقم: 32048. والفتوى رقم: 71920.
ومن علامات قبول التوبة أن يكون العاصي أحسن حالا منه قبل فعلها، وبالتالي فلا مانع من أن تكون عصمتك من الذنب المذكور وسلامتك من الوقوع فيه دليلا على قبول توبتك السابقة، وراجعى الفتوى رقم: 5646.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
21 جمادي الثانية 1429(9/4297)
الاعتدال في الخوف وعدم القنوط من رحمة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[كثيرا ما أتفكر في آلاء الله وخلقه وإعجازه ورحمته وقدرته والجنة والنار والصراط وذكر الموت يلازمني كثيرا كثيرا إلا أنني في الآونة الأخيرة كلما قرأت القرآن وجاء ذكر الموت أو العذاب أو النار أو الآخرة أو كلما فكرت في الموت أو يوم القيامة وشدته أو عذاب النار ينهار جسدي ويبدأ ضغط الدم عندي بالنزول وأعراض قلبية أخرى كثيرة وأحس برهبة كبيرة مما بدأ يؤثر على صحتي إلى أن أمنع نفسي من التفكير بهذه الأمور أو أشغل نفسي بفكرة أخرى، أفتوني يرحمكم الله، أمرنا الله بالتفكير في هذه الأمور وجعل الموت نصب العين والخشية من عذابه ولكني أعلم أنني عندما أفكر بهذه الأمور وبآلاء الله تتملكني رهبة شديدة فأفقد الوعي وفي بعض الأحيان أسقط أرضا أثناء الصلاة عند مرور آية فيها الوعيد أو عندما أدعو الله، أريد آن أتقرب من الله فماذا أفعل؟.]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أخي السائل أولا أنك على خير إن شاء الله ونسأل الله أن يزيدك توفيقا وأن يملأ قلبك علما وحكمة، ثم اعلم أن الخوف من الله تعالى وخشيته والتأثر بكتابه من أجل العبادات وأعلى المقامات، فمن حازها فقد حاز الخير كله، وينبغي له أن يحرص عليها ويحذر تضييعها بالذنوب والمعاصي، ولكن لا ينبغي لمن غلبه الخوف والخشية أن يؤدي به ذلك إلى القعود عن العمل بحجة أنه لن يغفر له فيهمل جانب رجاء عفو الله تعالى ورجاء مغفرته ويقع في القنوط من رحمة الله تعالى، وهذا من أكبر الكبائر، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله. . رواه عبد الرزاق.
فعلى العبد أن يكون معتدلا في جميع أموره فيجعل الموت نصب عينيه لينشط للطاعات ويكثر التوبة والإنابة إلى الله ويبتعد عن الذنوب والمعاصي، ثم يحسن الظن بربه تعالى أنه سيغفر له.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 جمادي الثانية 1429(9/4298)
حكم عمل شريط فيديو عن الإنسان من القبر إلى يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[لو قام أحد الأشخاص العاملين في الدعوة إلى الله تعالى بإصدار شريط فيديو أو سي دي يحكي عن رحلة الخلود وهي الرحلة التي تبدأ من وضع الإنسان في القبر إلى يوم القيامة؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نرى مانعا مما ذكر إذا خلا الإصدار من المحظور كالموسيقى وتبرج النساء ونحو ذلك، وتصوير حال الآخرة وتقريبها إلى الناس بما يشاهدونه في الحياة الدنيا أمر دلت عليه السنة فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الكلاليب التي على جهنم وتخطف الناس بأعمالهم شبهها بحسك السعدان فقال كما في البخاري: وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله..
كما شبه الجهنميين الذي يخرجون من النار ويلقون في نهر الحياء أنهم: ينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر وما كان منها إلى الظل كان أبيض فيخرجون كأنهم اللؤلؤ ... والحديث في البخاري أيضا وهذا كله تقريب لبعض ما في الآخرة بما يشاهده الناس في الدنيا.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 جمادي الثانية 1429(9/4299)
ماهية المصيبة، وما يشرع قوله عند وقوعها
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أطرح عليكم سؤالا وهو ... فى قوله سبحانه وتعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا أنا لله وأنا إليه راجعون) ، فما معنى المصيبة وما هى هذه المصائب هل هي فقط الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات هل المرض من المصائب هل الطلاق من المصائب هل الحب والعشق من المصائب فما هي هذه المصائب هل كل ما يبتلى به الإنسان مصيبة، وقول إنا لله وأنا إليه راجعون متى يكون هل عند حدوث المصيبة أو سماع خبر المصيبة وهل قول الإنسان لا إله إلا الله أو لا حول ولا قوة إلا بالله تكفى عن قول إنا لله وإنا إليه راجعون، اعذروني على كثرة الاسئلة والإطالة بارك الله فيكم وسدد خطاكم وجعل ما تقومون به من خدمة للناس وتعليم وتنوير جعلها الله فى ميزان حسناتكم يوم القيامة؟]ـ
[الفَتْوَى]
خلاصة الفتوى:
كل ما يبتلى به المؤمن مما يؤذيه يعتبر مصيبة ولو كان شوكة أو هما أو غما أو غيرهما، والاسترجاع يكون عند حدوث المصيبة أو السماع بها؛ بل يشرع عند تذكرها ولو مضى عليها زمن طويل.. ثم إن الذكر الذي يستحب عند المصيبة بصفة خاصة هو الاسترجاع، فقد جعله الله ملجأ لأهل المصائب وعصمة لهم لما اشتمل عليه من التوحيد والإقرار بالعبودية لله تعالى والإيمان بالبعث بعد الموت، ولا يكفي عنه غيره.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كل ما يبتلى به المؤمن مما يؤذيه يعتبر مصيبة بما في ذلك المرض والطلاق والابتلاء بالعشق بل ولو كان شوكة أو هما أو غما أو غيرهما، والاسترجاع يكون عند حدوث المصيبة أو السماع بها؛ بل يشرع عند تذكرها ولو مضى عليها زمن طويل، قال القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير الآية المشار إليها: المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصاباً، والمصيبة واحدة المصائب.. والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة: أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنطفأ ذات ليلة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: نعم. كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة.
قلت: هذا ثابت معناه في الصحيح، أخرج البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته.
أخرج ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب. انتهى.
ثم إن الذكر الذي يستحب عند المصيبة بصفة خاصة هو الاسترجاع، فقد جعله الله ملجأ لأهل المصائب وعصمة لهم لما اشتمل عليه من التوحيد والإقرار بالعبودية لله تعالى والإيمان بالبعث بعد الموت، ولا يكفي عنه غيره. قال القرطبي أيضاً: قوله تعالى: قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: إنا لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: وإنا إليه راجعون إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفى على يوسف ... إلى أن قال: أي القرطبي، وروى مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها ... قال: وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. أراد بالعدلين الصلاة والرحمة.. وبالعلاوة الاهتداء، قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن. انتهى.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
20 جمادي الثانية 1429(9/4300)
هل تقبل توبة من تاب إثر إصابته بمرض مميت
[السُّؤَالُ]
ـ[قريب توفي بالسرطان منذ فترة وكان قبل مرضه عاصيا لله عزوجل بل إنه كان مثقلا بالذنوب والكبائر ولم يكن يصلي.ولكن بعد أن اكتشف أنه مصاب بالسرطان وبعد أن علم من الأطباء بأنه سيعيش بحد أقصاه 3 سنوات عندها تاب إلى الله توبة نصوحا وترك كل المحرمات وبذل جهده بإعادة المظالم، الخلاصة أنه تاب إلى الله وكان يقوم الليل كل ليلة ويبكي من الندم.توفي هذا الشخص بعد 6 أشهر, السؤال هل تقبل توبته؟ بعد أن علم بأنه مصاب بمرض مميت لا يرجى شفاؤه؟ وهل حالته تشبه حاله فرعون عندما حضره الموت؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن وجود المرض وإن كان مميتا فليس مانعا من قبول التوبة ما لم يصل المريض إلى حد الغرغرة- وهي من مراحل سكرات الموت -لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. رواه الترمذي.
وسواء أخبره الأطباء أنه سوف يموت أم لا علما بأن إخبارهم ليس قطعيا، ولا تشبه حالة هذا الشخص حالة فرعون لأنه تاب إلى الله تعالى وحسنت حالته قبل حضور أجله، والله سبحانه وتعالى يتوب على من تاب وآب وعمل صالحا، وهذا ما ذكرت أن قريبك ختم به عمره نسأل الله له المغفرة ولسائر المسلمين الأحياء والأموات.
ولمزيد من الفائدة يرجى مراجعة الفتوى رقم: 74868، والفتوى رقم: 5450.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
19 جمادي الثانية 1429(9/4301)