(38) مراعاة ما هو مركوز في الطبيعة والجبلّة البشرية
ومن ذلك غيرة النساء وخصوصا بين الضرائر فإن بعضهن قد تخطئ خطأ لو أخطأه إنسان في الأحوال العادية لكان التعامل معه بطريقة مختلفة تماما. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي مسألة الغيرة بين نسائه وما ينتج عنها من أخطاء مراعاة خاصة يظهر منها الصبر والحلم مع العدل والإنصاف ومن أمثلة ذلك: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ (إناء واسع) فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ فتح 5225
وفي رواية النسائي كتاب عشرة النساء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا يَعْنِي أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ (أي حجر) فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ فِلْقَتَيِ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ
وفي رواية الدارمي كتاب البيوع باب من كسر شيئا فعليه مثله عن أنس قالَ أَهْدَى بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ وَهُوَ فِي بَيْتِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَضَرَبَتِ الْقَصْعَةَ فَانْكَسَرَتْ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ الثَّرِيدَ فَيَرُدُّهُ فِي الصَّحْفَةِ وَهُوَ يَقُولُ كُلُوا غَارَتْ أُمُّكُمْ..
وغيرة المرأة أمر مركوز فيها يحملها على أمور شديدة ويحول بينها وبين التبصّر بعواقب الأمور
حتى قيل: إن المرأة إذا غارت لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه.(13/174)
الخاتمة
وبعد هذه الجولة في رياض السنّة العطرة والاطّلاع على شيء من الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس يحسن قبل مغادرة الموضوع التذكير بالنقاط التالية:
- تصحيح الأخطاء واجب ومهم وهو من النصيحة في الدين ومن النهي عن المنكر ولكنه ليس كل الواجب فإن الدين ليس نهيا عن المنكر فحسب وإنما هو أمر بالمعروف أيضا.
- ليست التربية هي تصحيح الأخطاء فقط وإنما هي تلقين وتعليم وعرض لمبادئ الدين وأحكام الشريعة أيضا واستعمال الوسائل المختلفة لتأسيس التصورات وتثبيتها في النفوس من التربية بالقدوة والموعظة والقصة والحدث وغيرها، ومن هنا يتبين قصور بعض الآباء والأمهات والمدرسين والمربين بتوجيه جلّ اهتمامهم إلى معالجة الأخطاء ومتابعة الانحرافات دون ترجيح الاهتمام بتعليم المبادئ والأسس والمبادرة بالتحصين الذي يمنع وقوع الانحرافات والأخطاء ويبادرها فبل حدوثها أو يقلّل منها.
- يتضح مما سبق ذكره من المواقف والأحداث تنوع الأساليب النبوية في التعامل مع الأخطاء وأن ذلك قد اختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ومن كان لديه فقه وأراد الاقتداء قاس النظير على النظير والشبيه على الشبيه فيما يمرّ به من مواقف وأحداث ليتوصّل إلى الأسلوب المناسب للحالة المعيّنة.
هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شرّ أنفسنا ويجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشرّ وأن يهدينا ويهدي بنا إنه سميع قريب مجيب وهو نعم المولى ونعم النصير والهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله على النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(13/175)
ماذا تفعل في الحالات التالية(13/176)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن المسلم يتعرض في حياته لعدد من الحالات الطارئة، التي يحتاج فيها لوجود جواب فوري يعمل بمقتضاه عند حصول الحالة المعينة، وكثيراً ما يصعب أو يتعذر وقتها البحث عن الحكم الشرعي أو السؤال عنه.
وهذا يؤكد أهمية التفقه في الدين ومعرفة أحكام الشريعة حتى إذا ما احتاج المسلم للحكم وجده عنده فأنقذ نفسه أو غيره من إخوانه المسلمين من الوقوع في المحرمات أو الأخطاء، وكثيراً ما يؤدي الجهل إلى فساد العبادة أو الوقوع في الحرج، ومن المؤسف أن يقوم إمام إلى الخامسة سهواً في صلاته بالجماعة فلا تجد في المسجد واحداً يعرف الحكم الشرعي في هذه المسألة، أو يأتي مسافر وقت إقلاع الطائرة وهو ينوي العمرة ويكتشف فجأة أنه قد نسي لباس الإحرام، وليس هناك وقت لتوفيره ثم لا يوجد في المطار من المسلمين من يخبره بماذا يفعل في هذه الحالة الطارئة، ويدخل شخص المسجد وقد جمعوا للمطر وهم في صلاة العشاء وهو لم يصل المغرب فيقع في حيرة من أمره، وقل مثل ذلك من الحالات التي يختلف المصلون فيها ويتناقشون بجهلهم، فيقع الاضطراب والتشويش في مساجد المسلمين وجماعتهم، وفي كثير من الأمور الشخصية والفردية، فإن الجهل يوقع في الحرج وربما الإثم وخصوصاً إذا كان المرء في موقف يجب عليه فيه أن يتخذ قراراً وليس عنده علم يبني عليه قراراه.
وإذا كان أهل الدنيا يضعون الإجابات المسبقة للتصرف السليم في الحالات الطارئة؛ كحصول الحريق، وانتشال الغريق، ولدغة العقرب، وحوادث الاصطدام، والنزيف والكسور، وسائر إجراءاتهم في الإسعافات الأولية وغيرها، يعلمون ذلك للناس ويقيمون الدورات لأجل ذلك، فأهل الآخرة أولى أن يتعلموا ويعلموا أحكام هذا الدين.
ومما ينبغي الانتباه له هنا التفريق بين المسائل الافتراضية التي لا تقع أو نادرة الوقوع وبين المسائل الواقعة فعلاً، التي علم من التجربة وحال الناس أنها تحدث ويقع السؤال عنها.
فأما القسم الأول: فالبحث فيه من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً وقد حذرنا من هذا النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم …) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم برقم 1337 ج: 2 ص: 975.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه.. وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث والاستهزاء) جامع العلوم والحكم ابن رجب 1/240 ت: الأرناؤوط.
وعلى هذا المعنى يحمل كلام جماعة من السلف كما جاء عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول كان هذا؟ فإن قالوا لا قال: دعوه حتى يكون. أورده ابن رجب المرجع السابق 1/245 وانظر آثاراً مشابهة في سنن الدارمي 1/49، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/174.
أما القسم الثاني: وهي المسائل التي تقع فالسؤال عنها محمود (وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها لكن للعمل بها عند وقوعها كما قالوا له: إنّا لاقو العدو غداً وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها) جامع العلوم والحكم 1/243 فهذا يدل على جواز السؤال عما هو متوقع حصوله.
وهذا عرض لبعض المسائل الشرعية التي يتعرض لها الناس في حياتهم، وهي من المسائل الواقعية التي حصلت وتحصل لبعض الناس مع كل مسألة جوابها مقروناً بذكر المصدر من أهل العلم الثقات، وقد يكون في المسألة أقوال لكن جرى الاقتصار في الغالب على قول واحد معتبر بدليله مع الإيجاز طلباً للتسهيل والاختصار خشية التطويل والله أسأل أن ينفعني بهذا وإخواني المسلمين في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد وأن يجزي بالخير من ساهم في هذا إنه جواد كريم والله أعلم وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/177)
أولاً: الطهارة
إذا وجد في أصابعه طلاء أثناء الوضوء فهل الاشتغال بحكه وإزالته يقطع الموالاة ويلزمه إعادة الوضوء؟.
الجواب: لا تنقطع الموالاة بذلك - على الراجح - ولو جفت أعضاؤه لأنه تأخر بعمل يتعلق بطهارته، وكذلك لو انتقل من صنبور إلى صنبور لتحصيل الماء ونحو ذلك.
أما إذا فاتت الموالاة بأمر لا يتعلق بوضوئه، كإزالة نجاسة من ثوب، أو أكل أو شرب ونحوه، ونشفت الأعضاء فحينئذ ينبغي عليه أن يعيد الوضوء. فتاوى ابن عثيمين 4/145-146.
إذا كان الإنسان مجروحاً في أحد أعضاء الوضوء ولا يستطيع وضع لاصق فليتوضأ ثم يتيمم للعضو المجروح المغني مع الشرح الكبير 1/282، ولا يجب عليه غسل مكان الجرح مادام يتضرر بالماء.
إذا رأى في ثوبه أثر جنابة وقد صلّى عدة صلوات ولم يكن يدري فإن عليه أن يغتسل ويعيد الصلاة من أحدث نومة نامها في هذا الثوب إلا إذا عرف أن الجنابة من نومة قبلها فيعيد الصلاة من آخر نومة يظن أن الجنابة حصلت فيها، المغني مع الشرح الكبير 1/199. والأدلة على وجوب الاغتسال من الجنابة لأجل الصلاة كثيرة منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) سورة النساء /43. وحديث علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذاء فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا فضحت الماء فاغتسل) فضخت أي صببت والمقصود خروج المني، رواه أبو داود رقم 206 وصححه الألباني في إرواء الغليل رقم 125. فدل ذلك على أن المني يجب منه الغسل والمذي يكفي فيه غسل الفرج والوضوء.
إذا كان مسافراً بالطائرة في رحلة من الرحلات الطويلة فأصابته جنابة، ولا يستطيع الاغتسال، وليس في الطائرة شيء يجوز التيمم عليه، ولو انتظر حتى يصل إلى البلد الآخر لخرج وقت الصلاة التي لا تجمع كالفجر أو وقت جمع الصلاتين كالظهر والعصر، لأنه قد يسافر قبل الفجر ولا يصل إلا بعد طلوع الشمس أو يسافر قبل الظهر فلا يصل إلا بعد المغرب فماذا يفعل؟.
الجواب: إذا سلمنا انه لا يستطيع الاغتسال في الطائرة فإن هذه المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة فاقد الطهورين، وقد تباينت أقوالهم فيه ورأي الإمام أحمد وجمهور المحدثين أنه يصلي على حاله وهذه قدرته واستطاعته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والدليل الخاص في هذه المسألة ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناساً لطلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء (لعدم وجود الماء) فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم صحيح مسلم 367. ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا أمرهم بإعادة، فدل على أنها واجبة ولأن الطهارة شرط فلم تؤخر الصلاة عند عدمها. المغني مع الشرح الكبير 1/251. ومثل هذه الحالة قد تقع لبعض المرضى الذين لا يستطيعون تحريك أعضائهم مطلقاً أو السجناء في بعض الأوضاع كالمقيد والمعلّق.
والمقصود أن يؤدي الصلاة ولا يخرجها عن وقتها بحسب حاله ولا إعادة عليه على الصحيح وما جعل الله علينا في الدين من حرج.(13/178)
إذا أسقطت المرأة ونزل عليها الدم فهل تصلي أم لا؟.
هذه المسألة مبنية على نوع الدم هل هو نفاس أو استحاضة وقد ذكر العلماء الضابط في ذلك فقالوا: " إذا رأت الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان فهو نفاس.. وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس " المغني مع الشرح الكبير 1/361.
وفي هذه الحالة تكون مستحاضة تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها وتصلي، أما إذا كان الذي سقط جنيناً متخلقاً أو فيه آثار لتخطيط أحد الأعضاء كيد أو رجل أو رأس فإنه نفاس، وإن قالت إنهم أخذوه في المستشفى فرموه ولم أره فقد ذكر أهل العلم أن أقل زمن يتبين فيه التخطيط واحد وثمانون يوماً من الحمل. مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 4/292. بناء على ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - فقال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً يؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد..) هذا السياق في البخاري فتح 6/303.
فمثل هذه تجتهد وتستعين بتقديرات الأطباء حتى يتبين لها حالها.
وأما الدم النازل قبيل الولادة إن كان مصحوباً بآلام الطلق فهو نفاس وإلا فلا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس ". مجموع فتاوى ابن عثيمين 4/327.(13/179)
ثانياً: الصلاة
إذا تعرض المصلي لوسوسة الشيطان في صلاته يلبس عليه القراءة ويأتي له بالخواطر السيئة ويشككه في عدد الركعات فماذا يفعل؟.
لقد حصل هذا لأحد الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، فجاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ؟ {أي يخلطها ويشككني فيها} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً) ، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. صحيح مسلم رقم 2203.
فتضمن هذا الحديث أمرين لدفع شيطان الصلاة، الأول: الاستعاذة بالله من شره فيتلفظ بها المصلي ولا حرج، والثاني: التفل عن الشمال ثلاثاً وهو نفخ الهواء مع شيء من الريق بشرط أن لا يؤذي من بجانبه ولا يقذر المسجد.
إذا نابه شيء في صلاته، فإذا كان رجلاً فليسبح، وإن كان امرأة فلتصفق، والدليل على ذلك ما جاء عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نابكم في صلاتكم شيء فليسبح الرجال وليصفح النساء) رواه أبو داود، ولفظ الصحيحين: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) . التصفيح هو التصفيق، سنن أبي داود 941، وفي صحيح البخاري ط. البغا 1145، وفي صحيح مسلم 106.
إذا أقيمت الصلاة وحضرت حاجة الإنسان، فليذهب إلى الخلاء، ويقضي حاجته ولو فاتت الجماعة.
الدليل: عن عبد الله بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء) رواه أبو داود رقم 88 وهو في صحيح الجامع 373.
إذا شك المصلي هل احدث أم لا؟ أو أحس بحركة في بطنه فهل ينصرف أم يواصل؟.
إذا تيقن من الحدث يخرج من الصلاة، أما إذا شك ولم يتيقن فلا يخرج إلا بيقين، وهو سماع الصوت أو وجود الريح، فإن وجد ذلك فلينصرف، وإلا فلا يلتفت.
والدليل: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أم لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه أبو داود 177 وهو في صحيح الجامع 750.(13/180)
وهذا من التشريعات الإسلامية العظيمة في علاج الوسوسة.
إذا كان يصلي الوتر وأثناء صلاته أذن المؤذن لصلاة الفجر فهل يكمل وتره؟.
نعم إذا أذن وهو أثناء الوتر فإنه يتم الصلاة ولا حرج عليه. ابن عثيمين فتاوى إسلامية 1/346 والمسالة داخلة في قضية وقت الوتر هل هو إلى طلوع الفجر أم إلى انتهاء صلاة الصبح وقول الجمهور إلى طلوع الفجر. إسعاف أهل العصر بما ورد في أحكام صلاة الوتر فيحان المطيري ص: 33.
إذا فاتته صلاة العصر مثلاً فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت فماذا يفعل؟.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يصلي المغرب مع الإمام ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، لكن هل يعيد المغرب فيه قولان:
أحدهما: يعيد وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه.
الثاني: لا يعيد وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر من مذهب أحمد.
والثاني أصح فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله أعلم. مجموع فتاوى ابن تيمة 22/106.
إذا أتى مسافر على جماعة يصلون لكنه لا يدري هل الإمام مسافر فيدخل معه بنية القصر أم مقيم فيتم وراءه، فالأظهر أنه يعمل بما ترجح لديه من القرائن كرؤية حلية المسافر وآثار السفر على الإمام، فإن رجح أنه مقيم، فيتم.
الدليل: ما رواه الإمام أحمد بسند عن ابن عباس أنه سئل: " ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة " وفي رواية أخرى " تلك سنة أبي القاسم " الحديث سكت عنه الحافظ في التلخيص 2/50، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند 3/260. وإن رجح أنه مسافر فصلى معه بنية القصر ركعتين، وبعدما سلم مع الإمام تبين له أن الإمام مقيم وأن الركعتين اللتين صلاهما هما الثالثة والرابعة للإمام، فيقوم ويأتي بركعتين ليتم بهما الصلاة، ويسجد للسهو. المجموع للنووي 4/356. ولا يضره ما حصل من الكلام والسؤال لمصلحة صلاته.
إذا عجز المصلي عن القيام فجأة أثناء الصلاة أو كان عاجزاً عن القيام فصلى قاعداً ثم استطاع القيام أثناء الصلاة فماذا يفعل؟.
قال ابن قدامة رحمه الله: " متى قدر المريض أثناء الصلاة على ما كان عاجزاً عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته، وهكذا لو كان قادراً فعجز في أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحاً فيبني عليه كما لو لم يتغير حاله ". المغني مع الشرح الكبير 1/782 وكذلك المجموع للنووي 4/318. والدليل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: (صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري فتح 2/587.
إذا طرق على المصلي الباب أثناء الصلاة وهو يصلي أو رأت الأم ولدها يعبث بمصدر الكهرباء ونحو ذلك مما يطرأ فما العمل؟.
الجواب: إذا احتاج المصلي لعمل يسير أثناء الصلاة مثل فتح باب ونحوه، فلا بأس بشرط أن لا يغير اتجاهه عن القبلة.
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي ثم رجع إلى مصلاه - وذكر أن الباب كان في القبلة. سنن ابي داود رقم 922 وصحيح سنن أبي داود 815.
وكذلك لو احتاجت الأم وهي تصلي أن تبعد ولدها عن خطر أو إيذاء ونحو ذلك فالحركة اليسيرة يميناً أو شمالاً، أماماً أو وراءً لا تضر بالصلاة وكذلك لو سقط الرداء فللمصلي أن يرفعه وإذا انحل الإزار فله أن يشده، وقد أباحت الشريعة للمصلي في بعض الحالات الحركة الكثيرة ولو كان يتغير اتجاهه عن القبلة كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) سنن ابي داود رقم 921 وفي صحيح سنن أبي داود 814.
إذا ألقي السلام على المصلي في صلاته، فإنه يرد السلام بالإشارة كما جاء عن صهيب رضي الله عنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد إشارة. سنن أبي داود 925 وصحيح سنن ابي داود 818. وقد وردت صفة الإشارة في أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي قال فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي، قال: يقول هكذا وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون (أحد الرواة) كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق. سنن ابي داود 927 وصحيح سنن أبي داود 820.
إذا دخل الرجل المسجد والإمام يصلي فهل يدخل مع الإمام مباشرة أو ينتظر حتى يرى الإمام هل سيقوم أو سيجلس؟ الصحيح الذي يدل عله الدليل أنه يدخل مع الإمام في أي حال يكون فيه الإمام ساجداً أو قائماً أو راكعاً أو قاعداً، والدليل هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) سنن أبي داود 893 وصحيح سنن أبي داود 792. وعن معاذ قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) سنن الترمذي 591 وهو في صحيح سنن الترمذي 484. ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا) .
إذا أقيمت الصلاة والإنسان في طريقه إلى المسجد فلا يسرع في مشيته، بل يمشي بسكينة ووقار لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) رواه البخاري فتح 2/390.
إذا أحدث الرجل في صلاة الجماعة فماذا يفعل في هذا الموقف المحرج؟.
الجواب: عليه أن يأخذ بأنفه فيضع يده عليه ثم يخرج.
والدليل: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) سنن أبي داود 1114 وهو في صحيح سنن أبي داود 985. قال الطيبي: أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف وليس هذا من الكذب بل من المعاريض بالفعل ورخص له في ذلك لئلا يسول له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس أ. هـ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/18.
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه، فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه، وكذلك من فوائد هذا التوجيه النبوي قطع وساوس الشيطان بأن يبقى في الصف مع الحدث أو يواصل مع الجماعة وهو محدث وهذا لا يرضي الله، وكيف يبقى وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالانصراف، هذا ويجوز له اختراق الصفوف أو أن يمشي إلى الجدار ثم يخرج فيتوضأ ويعود للصلاة.
وإذا صلّى إنسان في مسجد ثم أتى مسجداً آخر لدرس أو حاجة فوجدهم يصلون فإنه يدخل معهم في الصلاة ويحتسبها نافلة حتى لو كان في وقت من أوقات النهي لأنها صلاة ذات سبب، والدليل ما رواه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في سننه في باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة من حديث يزيد بن الأسود رضي الله عنه، قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: عليَّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما {أي يرجفان ويضطربان خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم والفريصة: هي اللحمة التي بين الجنب والكتف تهتز عند الفزع} فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا) ، فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: (فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة) رواه الترمذي رقم 219 وهو في صحيح الجامع 667.
وفي الحديث انهما أتيا بعد صلاة الفجر وهو وقت النهي. وأخرج مالك في الموطأ في باب ما جاء في إعادة الصلاة مع الإمام بعد صلاة الرجل لنفسه عن محجن رضي الله عنه أنه كان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ورجع ومحجن في مجلسه لم يصل معهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم؟) قال: بلى يا رسول الله! ولكني قد كنت صليت في أهلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت) موطأ مالك 1/130، وهو في السلسلة الصحيحة رقم 1337.
إذا دخل الرجل المسجد فصلى السنة فأقيمت الصلاة فأحسن ما يقال في ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة والرجل في الركعة الثانية فإنه يتمها خفيفة وإذا كان في الركعة الأولى فيقطعها ويدخل مع الإمام. فتاوى ابن عثيمين 1/345. والأصل في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) مسلم 1/394. فإذا أنهى ركوع الركعة الثانية فيتمها وإن كان قبل ذلك يقطع الصلاة لأن ما بقي من السجود والتشهد لا يسمى صلاة، وقطع الصلاة يكون بغير سلام بل بمجرد النية خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس.
إذا كان جماعة يصلون وأثناء الصلاة تبين لهم أن القبلة إلى جهة أخرى فعند ذلك يتحولون جميعاً إلى جهة القبلة، وكذلك المنفرد وما مضى من صلاتهم صحيح، ودليل ذلك: ما رواه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام) سورة البقرة، الآية 144. فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة. رواه مسلم رقم 527.
أما إن تبين لبعضهم ولم يتبين للآخرين فإن الذي تبين له يستدير إلى الجهة التي يعتقدها جهة القبلة، فإن كان المختلفون في جهة واحدة فمال بعضهم يميناً وبعضهم شمالاً فيصح اقتداء بعضهم ببعض وإن اختلفت الجهة بالكلية فقد اختلف العلماء في صحة اقتداء بعضهم ببعض، وإن كان فيهم من لم يتبين له شيء فإنه يختار أوثقهم معرفة جهة القبلة ويقلده. المغني مع الشرح الكبير 1/473. ومن خفيت عليه جهة القبلة فيلزمه السؤال إن استطاع وإلا اجتهد إن كان يستطيع الاجتهاد، فإن لم يستطع فإنه يقلد غيره ممن يصح تقليده، فإن لم يجد فليتق الله ما استطاع وليصل وصلاته صحيحة، وهذا يحدث كثيراً لمن يُبتلى بالسفر إلى بلاد الكفار وليس حوله أحد من المسلمين ولا عنده أحد يخبره ولا وسيلة تمكنه من معرفة اتجاه القبلة. فأما إن كان بإمكانه أن يعرف جهة القبلة، ولكنه أهمل ولم يبذل ما يستطيعه وصلى، فعليه الإعادة لأنه مفرط. المغني مع الشرح الكبير 1/490.
إذا كان يصلي في جماعة فانقطع مكبر الصوت أو نعس وهو يصلي وسبقه الإمام بركن أو أكثر ثم تنبه أو رجع الصوت فالعمل أن يأتي بما فاته من الأركان ثم يلحق بالإمام وهذه المسالة لها عدة صور منها: أن يقرأ الإمام آية فيها لفظة سجود ويتوهم بعض المأمومين أنها سجدة وليست كذلك فيكبر الإمام للركوع بعد انتهاء الآية ويركع ويظن بعض المأمومين خصوصاً ممن هم في أطراف الصفوف أنه كبر لسجدة التلاوة فيسجدون ثم يقول الإمام سمع الله لمن حمده فيقوم هؤلاء من السجود فاتهم مع الإمام الركوع والرفع منه فعلى هؤلاء أن يأتوا بما فاتهم ويلحقوا بالإمام لأنهم ليسوا بمتعمدين، فأما من تعمد التخلف عن الإمام كمن يطيل في السجود بحجة الدعاء حتى يفوت الركن الذي بعد السجود، فقول الجمهور فيمن فاته ركنان متواليان بغير عذر: إن صلاته باطلة ويأثم. كشاف القناع 1/467 والموسوعة الفقهية 6/29. والأصل في وجوب متابعة الإمام قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإن ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون) صحيح البخاري رقم 689.
إذا أحدث الإمام وهو يصلي بالناس أو تذكر أثناء الصلاة أنه ليس على طهارة فإنه يخرج من الصلاة وله أن يستخلف من يتم بالناس الصلاة كما ورد عن عمر وعلي وعلقمة وعطاء. وإن لم يستخلف وصلوا فرادى جاز ذلك وهو اختيار الشافعي أي صلاتهم فرادى. وإن قدموا رجلاً منهم ليتم بهم الصلاة جاز ذلك.
والدليل ما ورد عن عمر رضي الله عنه لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة. رواه البخاري فتح 7/60. ووجه الاستدلال أن عمر فعل ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم ولم ينكر منكر فكان إجماعاً. أحكام الإمامة. المنيف ص: 234. وإن تذكر أنه ليس على طهارة فأشار إليهم أن يبقوا كما هم فذهب فتطهر ثم عاد فكبر وصلى بهم صح ذلك، والدليل ما رواه أبو داود عن أبي بكرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم) سنن أبي داود رقم 233، وهو في صحيح سنن أبي داود 1/45. وعنون عليه أبو داود باب: في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس، وقال الخطابي في شرح الحديث: في هذا الحديث دلالة على أنه إذا صلّى بالقوم وهو جنب وهم لا يعلمون بجنابته أن صلاتهم ماضية ولا إعادة عليهم وعلى الإمام الإعادة. سنن أبي داود ومعه معالم السنن للخطابي ت: الدعاس 1/159.
إذا كان في صلاة الجماعة وراء الإمام فرأى عورة الإمام غير مستورة لشق في ثوبه أو كان الثوب رقيقاً شفافاً فإن أمكنه أن يتقدم فيسترها أو يغطيها بشيء فليفعل وإلا فعليه أن ينصرف من صلاته ويخرج فينبه الإمام كأن يقول له غط العورة أو احفظ ما تكشف منها ولا يجوز له السكوت ومواصلة الصلاة لأنه علم أن صلاة الإمام غير صحيحة وائتمامه به غير صحيح. من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة.
إذا كان يصلي (إماماً أو مأموماً أو منفرداً) فتذكر أثناء الصلاة أنه مسح على الخفين بعد انتهاء مدة المسح فعليه أن يخرج من الصلاة لأن طهارته غير صحيحة وقد نص عليه الإمامان أحمد والشافعي. المغني 2/505.
إذا قرأ الإمام في الصلاة ما تيسر من القرآن ثم نسي تكملة الآية ولم يفتح عليه أحد من المصلين فهو مخير إن شاء كبر وأنهى القراءة وإن شاء قرأ آية أو آيات من سور أخرى إذا كان ذلك في غير الفاتحة أما الفاتحة فلا بد من قراءتها جميعها لأن قراءتها ركن من أركان الصلاة. ابن باز فتاوى إسلامية 396.
إذا خرج الناس إلى صلاة الاستسقاء أو أرادوا الخروج فنزل المطر فهذه المسألة على حالتين:
إن تأهبوا للخروج فسقوا قبل أن يخرجوا شكروا الله تعالى على نعمه ولم يخرجوا.
وإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلوا شكراً لله تعالى. المغني مع الشرح الكبير 2/296.
إذا نعس الإنسان وهو يستمع إلى خطبة الجمعة فيستحب له أن يتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه ولا يتكلم بل يشير إليه إشارة. والدليل: حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مقعد صاحبه ويتحول صاحبه إلى مقعده) . رواه البيهقي 3/238 وهو في صحيح الجامع 812. وكذلك حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) رواه أبو داود 1119 وهو في صحيح الجامع 809.(13/181)
ثالثاً: أحكام السهو
إذا شك الإنسان في صلاته هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً فالعمل على ما ترجح لديه فإن لم يترجح لديه شيء فليبن على اليقين وهو الأقل ثم يسجد للسهو. والدليل: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى؟ ثلاثاً أو أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلّى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان. صحيح مسلم رقم 571.
إذا تذكر الإمام في التشهد الأخير أنه قد قرأ التحيات في القيام في الركعة السرية بدلاً من الفاتحة فإنه يقوم ليأتي بركعة صحيحة بدلاً من الركعة غير الصحيحة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) رواه البخاري رقم 723. وينبغي على المأمومين أن يتابعوه ولو كانت الخامسة لهم فإن لم يتفطنوا ولم يقوموا وجعلوا يسبحون أشار إليهم بيديه يميناً وشمالاً أن قوموا ليعلمهم أنه جازم في قيامه غير ناس ولا ساه.
وإذا وقع مثل ذلك للمأموم خلف إمامه فصلاته صحيحة ما دام خلف إمامه. والدليل: حديث أبي بكرة لما دخل راكعاً ولم يقرأ الفاتحة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) رواه البخاري رقم 750. فالمأموم إذا نسي قراءة الفاتحة أو جهل وجوبها عليه أو أدرك الإمام راكعاً فإنه في هذه الأحوال تجزئه الركعة وتصح صلاته ولا يلزمه قضاء الركعة لكونه معذوراً بالجهل والنسيان وعدم إدراك القيام وهو قول أكثر أهل العلم. ابن باز فتاوى إسلامية 1/263. وهذا مما يتحمله الإمام عن المأموم كما قال الناظم:
ويحمل الإمام عن مأموم
ثمانية تعد في المنظوم
فاتحة كذا سجود السهو
وسترة مع القنوت المروي
وسمع الله مع السجود في
تلاوة الإمام سراً فاكتفي
وهكذا تلاوة المأموم
خلف الإمام فافهمن منظومي
تشهد أول عمن سبق
بركعة من أربع فكن محق
إذا ركع ثم رفع رأسه فتذكر أنه لم يقل سبحان ربي العظيم في ركوعه فإنه لا يعود إلى الركوع لأن التسبيح قد سقط برفعه من الركوع فلو عاد إلى الركوع عمداً أبطل صلاته لأنه يكون قد زاد ركنا وهو هذا الركوع الثاني وإن عاد جاهلاً أو ناسياً لم تبطل الصلاة وعليه في مثل ذلك أن يسجد للسهو إن كان منفرداً أو إماماً لأن التسبيح واجب يجبره بسجود السهو، أما إن كان مأموماً فيسقط عنه الواجب بسهوه عنه. المغني مع الشرح الكبير 1/679.
إذا نسي التشهد الأول وقام للثالثة وابتدأ الفاتحة فقول أكثر أهل العلم أنه لا يرجع وإن رجع عالماً أن نزوله لا يجوز تبطل صلاته لشروعه في ركن آخر وأما الواجب الذي فاته فإنه يجبره بسجود السهو، والدليل ما روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قام الإمام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن استوى قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو) رواه أبو داود رقم 1036 وهو في السلسلة الصحيحة 321.
فالخلاصة: أن من قام إلى الثالثة ناسياً التشهد فله ثلاث حالات:
أن يذكره قبل اعتداله قائماً فيلزمه الرجوع إلى التشهد.
أن يذكره بعد اعتداله قائماً وقبل شروعه في قراءة الفاتحة فالأولى له أن لا يجلس وإن جلس فصلاته صحيحة.
أن يذكره بعد الشروع في الفاتحة فلا يجوز له الرجوع. المغني مع الشرح الكبير 1/677. وهذه الحالات مستنبطة من الحديث السابق.
إذا سلم الإمام فقام المأموم ليتم ما فاته فإذا بالإمام يسجد للسهو بعد السلام فإن كان المأموم لم ينتصب قائماً فإنه يرجع ويسجد للسهو مع إمامه وإن انتصب قائماً فإنه لا يرجع فإذا أتم صلاته سجد للسهو الذي فاته. ودليل هذه المسألة هو دليل المسألة السابقة. المغني مع الشرح الكبير 1/697.
إذا سها الإمام في الصلاة وترك ركناً وجعل المأمومون يسبحون وهو لا يفهم مقصودهم ولا يدري أين الخطأ وينتقل إلى أركان ليس بينها الركن المتروك فلأهل العلم عدة أقوال في إفهامه، من أمثلها أن يجهروا بالذكر الخاص بالركن المفقود فإن كان ركوعاً قالوا: سبحان ربي العظيم، وإن كان سجوداً قالوا: سبحان ربي الأعلى، وإن كان الجلسة بين السجدتين قالوا: رب اغفر لي وهكذا. المغني مع الشرح الكبير 1/707.(13/182)
أحكام متفرقة(13/183)
[الْجَوَابُ]
[الْجَوَابُ]
[الْجَوَابُ]
(13/184)
إذا نسي ملابس الإحرام وأقلعت به الطائرة فإن استطاع أن يتدبر أمره بإزار ورداء من أي لون أو صنف من الشراشف أو المناشف ونحوها فعل ذلك وإن لم يجد أزال من المخيط وغطاء الرأس وأحرم في ثيابه إذا حاذى الميقات من الجو ولا يجاوز الميقات بغير إحرام فإذا وصل إلى مكان يستطيع فيه استبدال ملابسه بإزار ورداء فعل ذلك وعليه فدية ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين وهو مخير في فعل أي واحدة منها وإحرامه صحيح. من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة.
إذا كان الرجل في الطواف أو السعي فعرضت له حاجة كأن عطش وأراد أن يشرب أو فقد أحد من أهله فتوقف للبحث عنه أو تعب واحتاج أن يستريح فإن كان التوقف يسيراً عرفاً فإنه يتابع الطواف ويبني على ما سبق. أما إذا أقيمت الصلاة فقطع الطواف وصلّى فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة والأحوط عند إكماله الأشواط الباقية أن لا يعتد بالشوط الأخير الذي لم يكمله وقطعه لأداء الصلاة. ابن باز فتاوى الحج والعمرة ص: 80، والمجموع للنووي 8/49.
أما مسألة الاستراحة في الطواف والسعي فهي مبنية على مسألة اشتراط الموالاة في الطواف والسعي.
فأما السعي فلا تشترط فيه الموالاة على القول الراجح. المغني مع الشرح الكبير 3/414. فعليه لو سعى الإنسان عدة أشواط ثم توقف ليستريح ثم عاد ليكمل جاز ذلك. وأما الموالاة في الطواف فقد اختلف فيها أهل العلم على قولين:
القول الأول: وجوب الموالاة فيبطل الطواف بالتفريق الكثير بغير عذر.
القول الثاني: أن الموالاة سنة فلا يبطل الطواف وإن طالت المدة. اختاره النووي في المجموع 8/47. والعمل بالقول الأول أحوط.
إذا توفي رجل في سفينة في البحر فيقول الإمام أحمد: ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعاً (كجزيرة في البحر أو شاطيء) يدفنونه به حبسوه يوماً أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد، فإن لم يجدوا غسل وكفن وحنط وصلى عليه ويُثقل بشيء ويلقى في الماء. المغني مع الشرح الكبير 2/381.
إذا كان لدى رجل ورقة من فئة الـ 50 ريالاً مثلاً واحتاج إلى صرفها عشرات فذهب إلى آخر ليصرفها فلم يكن لدى صاحبه إلا ثلاث عشرات مثلاً فهل يجوز أن يعطيه الخمسين ويأخذ منه ثلاث العشرات والعشرين الباقية تبقى ديناً له على صاحبه يستوفيها منه بعد ذلك؟ رغم شيوع مثل هذه الصورة وانتشارها في الواقع إلا أن كثيراً من الناس يتعجبون إذا قيل لهم هذا ربا والعلة أن التفاوت موجود فيما قبضه كل منهما وشرط التبايع والصرف في الأوراق النقدية إذا كانت من جنس واحد أن تكون مثلاً بمثل يداً بيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تُشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري رقم 2068. {تشفوا من الاشفاف وهو التفضيل والزيادة - الورق: أي الفضة - غائباً: أي مؤجلاً - بناجز: أي بحاضر} والحديث فيه النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة.
فإن قيل فما هو المخرج والبديل والناس دائماً يحتاجون إلى صرف الأوراق النقدية:
فالجواب: إن الحل في ذلك أن يضع الخمسين رهناً عند صاحبه ويأخذ منه الثلاثين ديناً وسلفاً ثم يسدد الدين بعد ذلك ويفك الخمسين المرهونة ويأخذها. من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة.
إذا أمر الرجل في وظيفته بأمر فعليه أن ينظر فإن كان الأمر ليس فيه معصية لله فإنه يفعل ما أمر به، أما إن كان في الأمر معصية فلا يطع حينئذ وإلا كان مشاركاً في الإثم والوزر، قال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لبشر في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) الحديث في البخاري الفتح 13/121، وأحمد 1/94 والسياق من السلسلة الصحيحة رقم 181. وقال الله تعالى: (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) .(13/185)
سنن وآداب
إذا تجددت للمسلم نعمة أو اندفعت عنه نقمة فيستحب له أن يسجد سجود الشكر. المغني مع الشرح الكبير 1/654، فعن أبي بكرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجداً شاكراً لله تعالى) رواه أبو داود 2774 وهو صحيح: تخريج المشكاة 1494. ولا تشترط الطهارة واستقبال القبلة ولكن إذا توضأ واستقبل القبلة فهو أفضل. مجموع فتاوى ابن عثيمين 4/216.
إذا أتاك مال حلال من شخص أو من جهة دون طلب منك ولا مد يد ولا إذلال ولا تطلع فخذه والدليل: عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) رواه البخاري 1404.
إذا وضع للمسلم طعام في بيت أخيه المسلم فتحيَّر في أمر اللحم هل هو حلال أم لا؟ فيجوز له الأكل دون السؤال لأن الأصل في المسلم السلامة. والدليل: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاماً فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه فإن سقاه شراباً من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه) رواه أحمد 2/399 وهو في السلسة الصحيحة 627. وكذلك فإن في السؤال إيذاء للمسلم وجعله في مجال الشك والريبة.
إذا كان يمشي في نعليه وانقطع أحدهما فلا يمش في نعل واحدة والأخرى حافية فإما أن يصلحها ويمشي بهما أو يخلعهما ويحتفي والاحتفاء أحياناً سنة. والدليل: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمشي أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعاً أو ليخلعهما جميعاً) رواه البخاري 5518، وأما العلة في ذلك فقد ذكر العلماء أقوالاً أصحها دليلاً ما ذكره ابن العربي وغيره أن (العلة أنها مشية الشيطان) فتح الباري 10/310. ودليل ذلك: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة) السلسلة الصحيحة 348.
إذا رأى المسلم رؤيا حسنة أو صالحة يستحب فعل ما يلي:
أن يحمد الله عز وجل.
يعبرها لنفسه أو يخبر عالماً يعبرها له.
لا يخبر بها إلا ناصحاً أو لبيباً أو حبيباً ولا يخبر حاسداً. والدليل: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها) رواه البخاري 6584، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقصوا الرؤيا إلا على عالم أو ناصح) رواه الترمذي 2280 وهو في السلسلة الصحيحة 119. لأنهما يختاران أحسن المعاني في تأويلها بخلاف الحاسد والجاهل.
إذا رأى المسلم حلماً سيئاً فإنه يفعل ما يلي:
يبصق عن يساره ثلاثاً.
يستعيذ بالله من الشيطان ثلاثاً.
يستعيذ بالله من شرها.
أن يقوم فيصلي.
يغير الجنب الذي كان نائماً عليه إذا أراد مواصلة النوم ولو كان تحوله إلى الشمال لظاهر الحديث.
لا يخبر بها أحداً من الناس.
لا يفسرها لنفسه ولا يطلب تفسيرها. والدليل: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) رواه مسلم 2262. وفي رواية (وليعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره) فقال - أي الراوي - إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها. رواه مسلم 2261. وعن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك) رواه مسلم 2268. وفي رواية (فمن رأى ما يكره فليقم فليصل) رواه الترمذي 2280 وهو في صحيح الجامع 3533.
إذا وقع بصر المسلم على امرأة أجنبية وبقي أثر ذلك في نفسه فإن كان له زوجة فليذهب إلى بيته وليأت أهله ليرد ما وجد في نفسه. والدليل: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه) رواه مسلم 1403.
إذا صار مجلسه بين الشمس والظل فليتحول عن مجلسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الفيء فقلص عنه الظل وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم) رواه أبو داود 4821 وهو في صحيح الجامع 748. والعلة في ذلك أنه مجلس الشيطان، والدليل: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس بين الضح والظل وقال: (مجلس الشيطان) . رواه أحمد 3/413 وهو في صحيح الجامع 6823.
إذا أصاب أهل الرجل الوعك فيستحب له أن يفعل كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم فعل (كان إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا منه وكان يقول إنه ليرتق فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسر إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها) . {يرتق أي يشد القلب لأن الحزن يرخيه، ويسروا أي: يكشف ويجلو - رواه الترمذي 2039 وهو في صحيح الجامع 4646} .
إذا كذب أحد أبناء الرجل أو أحد أفراد أهله فإنه يعالج هذا الموقف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة) السلسلة الصحيحة 2052 وصحيح الجامع 4675.
إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه أو ينقذ معصوماً أو يخرج من حرج عظيم أو يتخلص من موقف عصيب فهل من طريقة غير الكذب ينجو فيها من الحرج ولا يقع في الإثم؟.
الجواب: نعم توجد طريقة شرعية ومخرج مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو التورية أو المعاريض وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه (باب المعاريض مندوحة عن الكذب) صحيح البخاري كتاب الأدب باب 116.
والتورية هي الإتيان بكلام له معنى قريب يفهمه السامع ومعنى آخر بعيد يقصده المتكلم تحتمله اللغة العربية ويشترط أن لا يكون فيها إبطال حق ولا إحقاق لباطل وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
ذكر عن حماد رحمه الله أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه قال متوجعاً: ضرسي، ضرسي، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير.
وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له أنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله.
وكان الإمام أحمد في داره ومعه بعض طلابه منهم المروذي فأتى سائل من خارج الدار يسأل عن المروذي والإمام أحمد يكره خروجه فقال الإمام أحمد: ليس المروذي هنا وما يصنع المروذي ها هنا وهو يضع إصبعه في كفه ويتحدث لأن السائل لا يراه.
ومن أمثلة التورية أيضاً:
لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً: فقلت: والله لن أكلمه، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح. وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي. يعني اللاعب. إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/381 وما بعدها 2/106-107، وانظر بحثاً في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/14. هذا مع التنبيه هنا أن لا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ ولذلك لأمور منها:
أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب.
فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا؟.
أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم يكون الموري عنده كذاباً وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً
أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين.
وفي خاتمة هذه الرسالة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا ويعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/186)
33 سبباً للخشوع في الصلاة(13/187)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الذي قال في كتابه المبين: {وقوموا لله قانتين} ، وقال عن الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد الخاشعين محمد رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد
فإن الصلاة أعظم أركان الدين العملية، والخشوع فيها من المطالب الشرعية، ولما كان عدو الله إبليس قد أخذ العهد على نفسه بإضلال بني آدم وفتنتهم، وقال: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} صار من أعظم كيده صرف الناس عن الصلاة بشتى الوسائل، والوسوسة لهم فيها لحرمانهم لذة هذه العبادة وإضاعة أجرهم وثوابهم، ولما كان الخشوع أول ما يرفع من الأرض ونحن في آخر الزمان، انطبق فينا قول حذيفة رضي الله عنه: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورُبّ مصلٍّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعا. المدارج 1/521 ومما يلمسه المرء من نفسه ويسمعه من كثرة المشتكين من حوله بشأن قضية الوساوس في الصلاة وفقدان الخشوع؛ تتبين الحاجة إلى الحديث عن هذا الموضوع، وفيما يلي تذكرة لنفسي ولإخواني المسلمين أسأل الله أن ينفع بها:
فقد قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}
أي خائفون ساكنون و" الخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته. " تفسير ابن كثير ط. دار الشعب 6/414 والخشوع هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل المدارج 1/520
ويروى عن مجاهد قال: (قوموا لله قانتين) : فمن القنوت: الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل تعظيم قدر الصلاة 1/188
ومحل الخشوع في القلب وثمرته على الجوارح.
والأعضاء تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فإن القلب كالملك والأعضاء كالجنود له فبه يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عُزل الملك وتعطّل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرعية وهي الجوارح.(13/188)
وأما التظاهر بالخشوع ممقوت، ومن علامات الإخلاص:(13/189)
إخفاء الخشوع(13/190)
كان حذيفة رضي الله عنه يقول: إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع. وقال الفضيل بن عياض: كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه. ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يافلان، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه. المدارج 1/521
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيّناً الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق: " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء وشهود نعم الله وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح. وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر وأشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حشي به وخمدت الجوارح وتوقر القلب واطمأن إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له، والمخبت المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له وذلا وانكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه. فهذا خشوع الإيمان، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره وربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء.
وأما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا ومراءاة ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات وإرادات فهو يتخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة. كتاب الروح ص:314 ط. دار الفكر - الأردن.
" والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحيئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (.. جعلت قرة عيني في الصلاة) " تفسير ابن كثير 5/456 والحديث في مسند أحمد 3/128 وهو في صحيح الجامع 3124
وقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار وأخبر أنه أعد لهم مغفرة وأجرا عظيما سورة الأحزاب 35
ومن فوائد الخشوع أنه يخفف أمر الصلاة على العبد قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) والمعنى: أي مشقة الصلاة ثقيلة إلا على الخاشعين. تفسير ابن كثير 1/ 125
والخشوع أمر عظيم شأنه، سريع فقده، نادر وجوده خصوصا في زماننا وهو من آخر الزمان قال النبي صلى الله عليه وسلم (أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعا.) قال الهيثمي في المجمع 2/136: رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن وهو في صحيح الترغيب رقم 543 وقال: صحيح
" قال بعض السلف الصلاة كجارية تُهدى إلى ملك الملوك فما الظن بمن يُهدي إليه جارية شلاّء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرّجل أو مريضة أو دميمة أو قبيحة، حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح.. فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيبا وليس من العمل الطيب: صلاة لا روح فيها. كما أنّه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه." المدارج 1/526(13/191)
حكم الخشوع(13/192)
والراجح في حكم الخشوع أنه واجب. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: قال الله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين.. والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرّم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع.. ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون.. - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم.. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو المتضمن للسكون والخشوع (هكذا في الأصل ولعلها الخضوع) فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا.. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع.. مجموع الفتاوى 22/553-558(13/193)
وفي فضل الخشوع ووعيد من تركه يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل، فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه.) رواه أبو داود رقم 425 وهو في صحيح الجامع 3242
وقال عليه الصلاة والسلام في فضل الخشوع أيضا: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يُقبل عليهما بقلبه ووجهه [وفي رواية: لا يحدّث فيهما نفسه] غفر له ما تقدّم من ذنبه [وفي رواية إلا وجبت له الجنة] ) البخاري ط. البغا رقم 158 والنسائي 1/95 وهو في صحيح الجامع 6166
وعند البحث في أسباب الخشوع في الصلاة يتبين أنها تنقسم إلى قسمين، الأول: جلب ما يوجد الخشوع ويقويه. والثاني دفع ما يزيل الخشوع ويضعفه. وهو ما عبّر عنه شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في بيانه لما يعين على الخشوع فقال:
- والذي يعين على ذلك شيئان: قوة المقتضى وضعف الشاغل.
أما الأول: قوة المقتضى:
فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله وما يفعله، ويتدبر القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناجٍ لله تعالى كأنه يراه. فإن المصلي إذا كان قائما فإنما يناجي ربه.
والإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان.
والأسباب المقوية للإيمان كثيرة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حبب إليَّ من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة) وفي حديث آخر قال: (أرحنا بالصلاة يا بلال) ولم يقل: أرحنا منها.
أما الثاني: زوال العارض:
فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه، فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها. مجموع الفتاوى 22/606-607(13/194)
وبناء على هذا التقسيم نستعرض فيما يلي طائفة من أسباب الخشوع في الصلاة:(13/195)
أولا: الحرص على ما يجلب الخشوع ويقويه(13/196)
وهذا يكون بأمور منها:
(1) الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها
ويحصل ذلك بأمور منها الترديد مع المؤذن والإتيان بالدعاء المشروع بعده " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته "، والدعاء بين الأذان والإقامة، وإحسان الوضوء والتسمية قبله والذكر والدعاء بعده (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) . (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) . والاعتناء بالسواك وهو تنظيف وتطييب للفم الذي سيكون طريقا للقرآن بعد قليل لحديث: (طهروا أفواهكم للقرآن) رواه البزار وقال: لا نعلمه عن علي بأحسن من هذا الإسناد كشف الأستار 1/242 وقال الهيثمي: رجاله ثقات 2/99 وقال الألباني إسناده جيد: الصحيحة 1213. وأخذ الزينة باللباس الحسن النظيف، قال الله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) والله عز وجل أحقّ من تُزيِّن له، كما أن الثوب الحسن الطيب الرائحة يعطي صاحبه راحة نفسية بخلاف ثوب النوم والمهنة. وكذلك الاستعداد بستر العورة وطهارة البقعة والتبكير وانتظار الصلاة، وكذلك تسوية الصفوف والتراص فيها لأن الشياطين تتخلل الفُرَج بين الصفوف.
(2) الطمأنينة في الصلاة
(كان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه) صحح إسناده في صفة الصلاة ص: 134 ط.11 وعند ابن خزيمة نحوه كما ذكر الحافظ في الفتح 2/308 وأمر بذلك المسيء صلاته وقال له: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك.) رواه أبو داود 1/ 536 رقم 858
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قال يا رسول الله: كيف يسرق صلاته، قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها) . رواه أحمد والحاكم 1/ 229 وهو في صحيح الجامع 997
وعن أبي عبد الله الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي لا يتمّ ركوعه، وينقر في سجوده، مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين، لا يغنيان عنه شيئا) رواه الطبراني في الكبير 4/115 وقال في صحيح الجامع: حسن
والذي لا يطمئن في صلاته لا يمكن أن يخشع لأن السرعة تذهب بالخشوع ونقر الغراب يذهب بالثواب.
(3) تذكر الموت في الصلاة
لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحريّ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها) السلسلة الصحيحة للألباني 1421ونقل عن السيوطي تحسين الحافظ ابن حجر رحمه الله لهذا الحديث
وفي هذا المعنى أيضا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب رضي الله عنه لما قال له: (إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع) رواه أحمد 5/412 وهو في صحيح الجامع رقم 742، يعني صلاة من يظن أنه لن يصلي غيرها وإذا كان المصلي سيموت ولابد، فإن هناك صلاة مّا هي آخر صلاة له فليخشع في الصلاة التي هو فيها فإنه لا يدري لعلها تكون هذه هي.
(4) تدبر الآيات المقروءة وبقية أذكار الصلاة والتفاعل معها
القرآن نزل للتدبر {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليذكّر أولوا الألباب} ولا يحصل التدبر إلا بالعلم بمعنى ما يقرأ فيستطيع التفكّر فينتج الدمع والتأثر قال الله تعالى: (والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا) وهنا يتبين أهمية الاعتناء بالتفسير قال ابن جرير رحمه الله: " إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله (أي: تفسيره) كيف يلتذ بقراءته " مقدمة تفسير الطبري لمحمود شاكر 1/10 ولذلك فمن المهم لقارئ القرآن أن ينظر في تفسير ولو مختصر مع التلاوة مثل كتاب زبدة التفسير للأشقر المختصر من تفسير الشوكاني وتفسير العلامة ابن سعدي المسمى " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " وإن لم يكن فكتاب في شرح الكلمات الغريبة مثل " المعجم الجامع لغريب مفردات القرآن " لعبد العزيز السيروان فإنه جمع فيه أربعة كتب من كتب غريب القرآن. ومما يُعين على التدّبر كثيرا ترديد الآيات لأنه يعين على التفكّر ومعاودة النظر في المعنى وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم " قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح وهي: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ". رواه ابن خزيمة 1/271 وأحمد 5/149 وهو في صفة الصلاة ص: 102
وكذلك فإن مما يعين على التدبر التفاعل مع الآيات كما روى (حذيفة قال: صليت مع رسول الله ذات ليلة.. يقرأ مسترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ) رواه مسلم رقم 772 وفي رواية (صليت مع رسول الله ليلة، فكان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ، وإذا مر بآية فيها تنزيه لله سبح) . تعظيم قدر الصلاة 1/327 وقد جاء هذا في قيام الليل.
وقام أحد الصحابة ــ وهو قتادة بن النعمان رضي الله عنه ــ الليل لايقرأ إلا (قل هو الله أحد) يرددها لا يزيد عليها البخاري: الفتح 9/59 وأحمد 3/43
وقال سعيد بن عبيد الطائي: سمعت سعيد بن جبير يؤمهم في شهر رمضان وهو يردّد هذه الآية (فسوف يعلمون. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون. في الحميم ثم في النار يُسجرون.) . وقال القاسم رأيت سعيد بن جبير قام ليلة يصلي فقرأ (واتقوا يوما تُرجعون فيه إلى الله ثم تُوفى كل نفس ما كسبت) فرددها بضعا وعشرين مرة. وقال رجل من قيس يُكنى أبا عبد الله: بتنا ذات ليلة عند الحسن فقام من الليل فصلى فلم يزل يردد هذه الآية حتى السّحر: وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها) فلما أصبح قلنا: يا أبا سعيد لم تكد تجاوز هذه الآية سائر الليل، قال: أرى فيها معتبرا، ما أرفع طرفا ولا أردّه إلا وقد وقع على نعمة وما لا يُعلم من نعم الله أكثر. التذكار للقرطبي ص: 125
وكان هارون بن رباب الأسيدي يقوم من الليل للتهجد فربما ردد هذه الآية حتى يُصبح: (قالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) ويبكي حتى يُصبح.
ومما يعين على التدبر أيضا حفظ القرآن والأذكار المتنوعة في الأركان المختلفة ليتلوها ويذكرها ليتفكّر فيها.
ولا شك أن هذا العمل ـ من التدبر والتفكر والترديد والتفاعل ـ من أعظم ما يزيد الخشوع كما قال الله تعالى: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)
وفيما يلي قصة مؤثرة يتبين فيها تدبره وخشوعه صلى الله عليه وسلم مع بيان وجوب التفكر في الآيات: عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمير: حدّثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة ذريني أتعبّد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحبّ قربك، وأحب ما يسرّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكّر ما فيها: (إن في خلق السموات والأرض ... الآية) رواه ابن حبّان وقال في السلسلة الصحيحة رقم 68: وهذا إسناد جيد.
ومن التجاوب مع الآيات التأمين بعد الفاتحة وفيه أجر عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمَّنَ الإمام فأمِّنُوا فإنه مَن وافق تأمِينُهُ تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري رقم 747 وهكذا التجاوب مع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده فيقول المأموم ربنا ولك الحمد وفيه أجر عظيم فعن رفاعة ابن رافع الزرقي قال: كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم، قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولُ. رواه البخاري الفتح 2/284
(5) أن يقطّع قراءته آيةً آية
وذلك أدعى للفهم والتدبر وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرت أم سلمة رضي الله عنها قراءة رسول الله عليه وسلم (بسم الله الرحمن الرحيم، وفي رواية: ثم يقف ثم يقول، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وفي رواية: ثم يقف ثم يقول: ملك يوم الدين) يقطّع قراءته آيةً آية رواه أبو داود رقم 4001 وصححه الألباني في الإرواء وذكر طرقه 2/60
والوقوف عند رؤوس الآي سنّة وإن تعلّقت في المعنى بما بعدها.
(6) ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها:
كما قال الله عز وجل: (ورتل القرآن ترتيلا) وكانت قراءته صلى الله عليه وسلم (مفسرة حرفاً حرفا.) مسند أحمد 6/294 بسند صحيح صفة الصلاة: ص: 105 (وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها) رواه مسلم رقم 733
وهذا الترتيل والترسل أدعى للتفكر والخشوع بخلاف الإسراع والعجلة.
ومما يعين على الخشوع أيضا تحسين الصوت بالتلاوة وفي ذلك وصايا نبوية منها قوله صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا) أخرجه الحاكم 1/575 وهو في صحيح الجامع رقم 3581
وليس المقصود بتحسين الصوت: التمطيط والقراءة على ألحان أهل الفسق وإنما جمال الصوت مع القراءة بحزن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله) رواه إبن ماجه 1/1339 وهو في صحيح الجامع رقم 2202
(7) أن يعلم أن الله يُجيبه في صلاته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.) صحيح مسلم كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
وهذا حديث عظيم جليل لو استحضره كل مصلٍّ لحصل له خشوع بالغ ولوجد للفاتحة أثرا عظيما كيف لا وهو يستشعر أن ربّه يخاطبه ثم يعطيه سؤله.
وينبغي إجلال هذه المخاطبة وقدرها حقّ قدرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه) مستدرك الحاكم 1/236 وهو في صحيح الجامع رقم 1538
(8) الصلاة إلى سترة والدنو منها
من الأمور المفيدة لتحصيل الخشوع في الصلاة الاهتمام بالسترة والصلاة إليها فإن ذلك أقصر لنظر المصلي وأحفظ له من الشيطان وأبعد له عن مرور الناس بين يديه فإنه يشوّش ويُنقص أجر المصلي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها) رواه أبو داود رقم 695 1/446 وهو في صحيح الجامع رقم 651
وللدنو من السترة فائدة عظيمة، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) رواه أبو داود رقم 695 1/446 وهو في صحيح الجامع رقم 650 والسنّة في الدنوّ من السترة أن يكون بينه وبين السترة ثلاثة أذرع وبينها وبين موضع سجوده ممرّ شاة كما ورد في الأحاديث الصحيحة. البخاري أنظر الفتح 1/574، 579
وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم المصلي بأن لا يسمح لأحد أن يمرّ بينه وبين سترته فقال: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين) رواه مسلم 1/260 وهو في صحيح الجامع رقم 755
قال النووي رحمه الله تعالى: " والحكمة في السترة كف ّ البصر عما وراءه ومنع من يجتاز بقربه.. وتمنع الشيطان المرور والتعرض لإفساد صلاته " شرح صحيح مسلم 4/216
(9) وضع اليمنى على اليسرى على الصّدر
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة (وضع يده اليمنى على اليسرى) مسلم رقم 401 و (كان يضعهما على الصدر) أبوداود رقم 759 وانظر إرواء الغليل 2/71 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء أمرنا.. أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) رواه الطبراني في المعجم الكبير رقم 11485 قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح؛ المجمع 3/155
وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن المراد بوضع اليدين إحداهما على الأخرى حال القيام فقال: هو ذلّ بين يدي العزيز الخشوع في الصلاة ابن رجب ص:21
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. فتح الباري 2/224
(10) النظر إلى موضع السجود:
لما ورد عن عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض) رواه الحاكم ا/479 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الألباني صفة الصلاة ص 89
(ولما دخل الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج عنها) . رواه الحاكم في المستدرك 1 /479 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، قال الألباني وهو كما قالا؛ إرواء الغليل 2/73
أما إذا جلس للتشهد فإنه ينظر إلى أصبعه المشيرة وهو يحركها لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جلس للتشهد (يشير بأصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة ويرمي ببصره إليها) رواه ابن خزيمة 1/355 رقم 719 وقال المحقق: إسناده صحيح وانظر صفة الصلاة ص: 139 وفي رواية (وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته) رواه أحمد 4/3 وأبو داود رقم 990.
مسألة
وهنا سؤال يدور في أذهان بعض المصلين وهو: ما حكم إغماض العينين في الصلاة خصوصا وأن المرء قد يحس بمزيد من الخشوع إذا فعل ذلك؟
والجواب: أن ذلك مخالف للسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدّم قبل قليل كما أن الإغماض يفوّت سنة النظر إلى موضع السجود وإلى الأصبع. ولكن هناك شيء من التفصيل في المسألة فلندع الميدان للفارس ولنفسح المكان للعلامة أبي عبد الله ابن القيم يبين الأمر ويجلّيه، قال رحمه الله تعالى: " ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه في الصلاة، وقد تقدّم أنه كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ولا يُجاوز بصره إشارته ...
وقد يدلّ على ذلك مدّ يده في صلاة الكسوف ليتناول العنقود لما رأى الجنة، وكذلك رؤيته النار وصاحبة الهرة فيها وصاحب المحجن، وكذلك حديث مدافعته للبهيمة التي أرادت أن تمرّ بين يديه وردّه الغلام والجارية وحجزه بين الجاريتين، وكذلك أحاديث ردّ السلام بالإشارة على من سلّم عليه وهو في الصلاة، فإنه إنما كان يشير إلى من يراه، وكذلك حديث تعرّض الشيطان له فأخذه فخنقه وكان ذلك رؤية عين. فهذه الأحاديث وغيرها يُستفاد من مجموعها العلم بأنه لم يكن يغمض عينيه في الصلاة.
وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرهه الإمام أحمد وغيره وقالوا: هو فعل اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه ... والصواب أن يُقال إن كان تفتيح العين لا يُخلّ بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوّش عليه قلبه فهنالك لا يُكره التغميض قطعا، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، والله أعلم " زاد المعاد 1/293 ط. دار الرسالة
وبهذا يتبين أن السنة عدم الإغماض إلا إذا دعت الحاجة لتلافي أمر يضرّ بالخشوع.
(11) تحريك السبابة:
وهذا أمر أهمله كثير من المصلين فضلا عن جهلهم بفائدته العظيمة وأثره في الخشوع
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهي أشد على الشيطان من الحديد.) رواه الإمام أحمد 2/119 بسند حسن كما في صفة الصلاة ص: 159 " أي أن الإشارة بالسبابة عند التشهد في الصلاة أشد على الشيطان من الضرب بالحديد لأنها تذكّر العبد بوحدانية الله تعالى والإخلاص في العبادة وهذا أعظم شيء يكرهه الشيطان نعوذ بالله منه." الفتح الرباني للساعاتي 4/15.
ولأجل هذه الفائدة العظيمة كان الصحابة رضوان الله عليهم يتواصون بذلك ويحرصون عليه ويتعاهدون أنفسهم في هذا الأمر الذي يقابله كثير من الناس في هذا الزمان بالاستخفاف والإهمال، فقد جاء في الأثر ما يلي: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بعضهم على بعض. يعني: الإشارة بالأصبع في الدعاء) رواه إبن أبي شيبة بسند حسن كما في صفة الصلاة ص: 141 وفي المطبوع من أبي شيبة [بأصبع] أنظر المصنف رقم 9732 ج10 ص: 381 ط. الدار السلفية - الهند
والسنة في الإشارة بالسبابة أن تبقى مرفوعة متحرّكة مشيرة إلى القبلة طيلة التشهد.
(12) التنويع في السور والآيات والأذكار والأدعية في الصلاة
وهذا يُشعر المصلي بتجدد المعاني والانتقال بين المضامين المتعددة للآيات والأذكار وهذا ما يفتقده الذي لا يحفظ إلا عددا محدودا من السور (وخصوصا قصارها) والأذكار، فالتنويع من السنّة وأكمل في الخشوع.
وإذا تأملنا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوه ويذكره في صلاته فإننا نجد هذا التنوع
ففي أدعية الاستفتاح مثلا نجد نصوصا مثل:
(اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدّنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد.)
(وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمِرتُ وأنا أول المسلمين.)
(سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك.)
وغير ذلك من الأدعية والأذكار والمصلي يأتي بهذا مرة وبهذا مرة وهكذا.
وفي السور التي كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها في صلاة الفجر نجد عددا كثيرا مباركا مثل:
(طوال المفصّل كالواقعة والطور وق، وقصار المفصّل مثل: إذا الشمس كورت والزلزلة والمعوذتين وورد أنه قرأ الروم ويس والصافات وكان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة والإنسان)
وفي صلاة الظهر ورد أنه كان يقرأ في كلّ من الركعتين قدر ثلاثين آية وقرأ بالطارق والبروج والليل إذا يغشى.
وفي صلاة العصر يقرأ في كل من الركعتين قدر خمس عشرة آية ويقرأ بالسور التي سبقت في صلاة الظهر.
وفي صلاة المغرب يقرأ بقصار المفصّل كالتين والزيتون وقرأ بسورة محمد والطور والمرسلات وغيرها.
وفي العشاء كان يقرأ من وسط المفصّل كـ (الشمس وضحاها) و (إذا السماء انشقت) وأمر معاذا أن يقرأ بـ الأعلى والقلم والليل إذا يغشى.
وفي قيام الليل كان يقرأ بطوال السور وورد في سنته صلى الله عليه وسلم قراءة مائتي ومائة وخمسين آية وكان أحيانا يقصّر القراءة.
وأذكار ركوعه صلى الله عليه وسلم متنوعة فبالإضافة إلى (سبحان ربي العظيم) و (سبحان ربي العظيم وبحمده) يقول: (سُبّوح قُدّوس رب الملائكة والروح) ويقول: (اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي، خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين) .
وفي الرفع من الركوع يقول بعد (سمع الله لمن حمده) : (ربنا ولك الحمد) وأحيانا (ربنا لك الحمد) وأحيانا (اللهم ربنا (و) لك الحمد) وكان يضيف أحيانا (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ويضيف تارة (أهل الثناء والمجد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ)
وفي السجود بالإضافة إلى (سبحان ربي الأعلى) و (سبحان ربي الأعلى وبحمده) يقول أيضا: (سُبّوح قدوس رب الملائكة والروح) و (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) و (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) وغير ذلك.
وفي الجلسة بين السجدتين بالإضافة إلى (رب اغفر لي رب اغفر لي) يقول (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني) .
وفي التشهد عدد من الصيغ الواردة مثل (التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ... الخ) وكذلك ورد (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ... الخ) وورد (التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ... الخ) .
فيأتي المصلي مرة بهذا ومرة بهذا.
وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم عدّة صيغ منها: (اللهم صلّ عل محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعل آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) .
وورد أيضا (اللهم صلّ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) .
وورد (اللهم صلّ على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) .
ووردت صيغ أخرى كذلك والسنة أن ينوّع بينها كما تقدّم ولا يمنع أن يواظب على بعضها أكثر من بعض لقوة ثبوتها أو اشتهارها في كتب الحديث الصحيحة أو لأن النبي صلى الله عيه وسلم علّمها أصحابه لمّا سألوه عن الكيفية بخلاف غيرها وهكذا. جميع ما تقدّم من النصوص والصيغ من كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي اجتهد في جمعها من كتب الحديث.
(13) أن يأتي بسجود التلاوة إذا مرّ بموضعه
من آداب التلاوة السجود عند المرور بالسجدة وقد وصف الله في كتابه الكريم النبيين والصالحين بأنهم (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجّدا وبكيا) قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم " تفسير القرآن العظيم 5/238 ط. دار الشعب.
وسجود التلاوة في الصلاة عظيم وهو مما يزيد الخشوع قال الله عز وجل: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد بسورة النجم في صلاته وروى البخاري رحمه الله في صحيحه (عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة رضي الله عنه العتمة [أي: العشاء] فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فقلت له، قال: سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.) صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب الجهر بالعشاء. فينبغي المحافظة على سجود التلاوة في الصلاة خصوصا وأن سجود التلاوة فيه ترغيم للشيطان وتبكيت له وذلك مما يضعف كيده للمصلي. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت، فلي النار) . رواه الإمام مسلم في صحيحه رقم 133
(14) الاستعاذة بالله من الشيطان
الشيطان عدو لنا ومن عداوته قيامه بالوسوسة للمصلي كي يذهب خشوعه ويلبِّس عليه صلاته.
" والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو بغيره، لا بد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) .
وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسوسة أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد السير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه، ولهذا قيل لبعض السلف: " إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس قال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب ". (مجموع الفتاوى 22 / 608) .
" وقد مثل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره وليس جواهر الملك وذخائره، وبيت خال صفر لا شيء فيه، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟ (الوابل الصيب ص: 43)
" والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه بل لا يزال به يعده ويمنّيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها. فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تُخفَفْ عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه." الوابل الصيب ص: 36
ولمواجهة كيد الشيطان وإذهاب وسوسته أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج التالي:
عن أبي العاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبِّسها عليّ، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: (ذاك شيطان يُقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوّذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا) . قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. رواه مسلم رقم: 2203
ومن كيد الشيطان للمصلي ما أخبرنا عنه صلى الله عليه وسلم وعن علاجه فقال: (إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه - يعني خلط عليه صلاته وشككه فيها - حتى لا يدري كم صلى. فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس) رواه البخاري، كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع.
ومن كيده كذلك ما أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث، فأشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) . رواه مسلم رقم 389.
بل إن كيده ليبلغ مبلغا عجيبا كما يوضحه هذا الحديث: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يخيّل إليه في صلاته أنه أحدث ولم يُحدِث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته حتى يفتح مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ولم يُحدث، فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرفن حتى يسمع صوت ذلك بأذنه أو يجد ريح ذلك بأنفه) رواه الطبراني في الكبير رقم 11556 ج:11 ص: 222 وقال في مجمع الزوائد 1/242 رجاله رجال الصحيح.(13/197)
مسألة(13/198)
وهناك خدعة شيطانية يأتي بها " خنزب " إلى بعض الخيِّرين من المصلين وهي محاولة إشغالهم بالتفكير في أبواب أخرى من الطاعات عن الصلاة التي هم بشأنها وذلك كإشغال أذهانهم ببعض أمور الدعوة أو المسائل العلمية فيستغرقون فيها فلا يعقلون أجزاء من صلاتهم وربما لبَّس عل بعضهم بأن عمر كان يجهِّز الجيش في الصلاة، ولندع المجال لشيخ الإسلام ابن تيمية يجلي الأمر ويجييب عن هذه الشبهة.
قال رحمه الله تعالى: " وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب من قوله: (وإني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة) فذاك لأن عمر كان مأمورا بالجهاد وهو أمير المؤمنين، فهو أمير الجهاد، فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو، إما حال القتال وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة، ومأمور بالجهاد، فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) ، ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينتة حال الأمن، فإذا قُدِّر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته.
ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن، ولما ذكر الله سبحانه صلاة الخوف قال: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف.
ومع هذا: فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة، مع تدبره للأمور بها، وعمر قد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المحدَّث المُلهم فلا ينكر لمثله أن يكون مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره، لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى، ولا ريب أن صلاة رسول الله حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة فكيف بالباطنة.
وبالجملة فتفكر المصلي في الصلاة [في] أمر يجب عليه، قد يضيق وقته، ليس كتفكره فيما ليس بواجب أو فيما لم يضق وقته. وقد يكون عمر لم يمكن [لعلها: يمكنه] التفكر في تدبير جيشه إلا في تلك الحال، وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة، ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائما يذكر في الصلاة ما لا يذكره خارج الصلاة، ومن ذلك ما يكون من الشيطان، كما أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسي موضعه، فقال: قم فصل، فقام فصلى فذكره، فقيل له، من أين علمت ذلك؟ قال: علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن، لكن العبد الكيِّس يجتهد كمال الحضور مع كمال فعل بقية المأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. مجموع الفتاوى 22 / 610.
(15) التأمل في حال السلف في صلاتهم
وهذا يزيد الخشوع ويدفع إلى الاقتداء فـ " لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله " الخشوع في الصلاة ابن رجب ص: 22
قال مجاهد رحمه الله: " كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيا ما دام في صلاته." تعظيم قدر الصلاة 1/188
كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه، وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر، ولقد بلغنا أن بعضهم كان كالثوب الملقى، وبعضهم ينفتل من صلاته متغير اللون لقيامه بين يدي الله عز وجل. وبعضهم إذا كان في الصلاة لا يعرف من على يمينه وشماله. وبعضهم يصفر وجهه إذا توضأ للصلاة، فقيل له إنا نراك إذا توضأت للصلاة تغيرت أحوالك، قال: إني أعرف بين يدي من سأقوم، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فيقول: جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتُها. وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته. وبلغنا عن بعض التابعين أنه كان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه، وكان يقول: أتدرون بين يدي من أقف ومن أناجي. فمن منكم لله في قلبه مثل هذه الهيبة؟ سلاح اليقظان لطرد الشيطان: عبد العزيز السلمان ص: 209
وقالوا لعامر بن عبد القيس: أتحدّث نفسك في الصلاة فقال: أوَ شيء أحبُّ إليّ من الصلاة أحدّث به نفسي! قالوا: إنا لنحدّث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟ قالوا لا، ولكن بأهلينا وأموالنا. فقال: لأن تختلف الأسنّة فيّ أحبُّ إليّ [أي لأن يكثر طعن الرماح في جسدي أحبّ إلي من أن أحدّث نفسي في الصلاة بأمور الدنيا]
وقال سعد بن معاذ: فيّ ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن، لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله حديثا لا يقع في قلبي ريب أنه الحقّ، وإذا كنت في جنازة لم أحدّث نفسي بغير ما تقول ويقال لها الفتاوى لابن تيمية 22/605
قال حاتم رحمه الله: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبّر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكير، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلّم بالنية، وأختمها بالإخلاص لله عز وجل، وأرجع على نفسي بالخوف أخاف أن لا يقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت الخشوع في الصلاة 27 - 28
قال أبو بكر الصبغي: أدركت إمامين لم أُرزق السّماع منهما: أبو حاتم الرازي ومحمد بن نصر المروزي، فأما ابن نصر فما رأيت أحسن صلاة منه، لقد بلغني أن زنبورا قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك. وقال محمد بن يعقوب الأخرم: ما رأيت أحسن صلاة من محمد بن نصر، كان الذباب يقع على أذنه.. فلا يذبّه على نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيبته للصلاة كان يضع ذقنه على صدره كأنه خشبة منصوبة. تعظيم قدر الصلاة 1/58 وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة. الكواكب الدريّة في مناقب المجتهد ابن تيمية لمرعي الكرمي ص: 83 دار الغرب الإسلامي.
قارن بين هذا وبين ما يفعله بعضنا اليوم هذا ينظر في ساعته وآخر يصلح هندامه وثالث يعبث بأنفه ومنهم من يبيع ويشتري في الصلاة وربما عدّ نقوده وبعضهم يتابع الزخارف في السجاد والسقوف أو يحاول التعرّف على من بجانبيه.
تُرى لو وقف واحد من هؤلاء بين يدي عظيم من عظماء الدنيا هل يجرؤ على فعل شيء من ذلك.
(16) معرفة مزايا الخشوع في الصلاة
ومنها
- قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) . رواه مسلم 1/206 رقم 2/4/7
- أن الأجر المكتوب بحسب الخشوع كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة ما يُكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) رواه الإمام أحمد 4/321 وهو في صحيح الجامع 1626
- أنه ليس له من صلاته إلا ما عقل منها كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها) .
- أن الأوزار والآثام تنحط عنه إذا صلّى بتمام وخشوع كما قال النبي صلى عليه وسلم: (إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه) (رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/10 وهو في صحيح الجامع) . قال المناوي: " المراد أنه كلما أتم ركناً سقط عنه ركن من الذنوب حتى إذا أتمها تكامل السقوط وهذا في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذن به لفظ " العبد " و" القيام " إذ هو إشارة إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك مقام عبد ذليل ". رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/10 وهو في صحيح الجامع.
- أن الخاشع في صلاته " إذا انصرف منها وجد خفّة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطا وراحة وروحا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرّة عينه ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أرحنا بالصلاة) ولم يقل أرحنا منها.
وقال صلى الله عليه وسلم: (جعلت قرة عيني بالصلاة) فمن جُعلت قرّة عينه في الصلاة، كيف تقرّ عينه بدونها وكيف يطيق الصبر عنها؟ " الوابل الصيّب 37.
(17) الاجتهاد بالدعاء في مواضعه في الصلاة وخصوصا في السجود
لاشك أن مناجاة الله تعالى والتذلل إليه والطلب منه والإلحاح عليه مما يزيد العبد صلة بربّه فيعظم خشوعه، والدعاء هو العبادة والعبد مأمور به قال تعالى: (أدعو ربكم تضرعا وخفية) و (من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه الترمذي كتاب الدعوات 1/426 وحسنه في صحيح الترمذي 2686 وقد ثبت الدعاء في الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع معينة هي السجود وبين السجدتين وبعد التشهد وأعظم هذه المواضع السجود لقوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم كتاب الصلاة باب مايقال في الركوع والسجود رقم 215 وقال: ( ... أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمَن - أي حريّ وجدير - أن يُستجاب لكم) رواه مسلم كتاب الصلاة باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود رقم 207
ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم في سجوده: (اللهم اغفر لي ذنبي دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره) رواه مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود رقم 216 وكذلك (اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت) أخرجه النسائي: المجتبى 2/569 وهو في صحيح النسائي1067 وقد تقدّم بعض ماكان يدعو به بين السجدتين أنظر السبب رقم 11.
ومما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم بعد التشهد ماعلمناه بقوله: " (إذا فرغ أحدكم من التشهد فليستعذ بالله من أربع؛ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال.) وكان يقول (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل.) (اللهم حاسبني حسابا يسيرا) وعلّم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) وسمع رجلا يقول في تشهده: (اللهم إني أسألك يا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم فقال صلى الله عليه وسلم: قد غُفر له، قد غُفر له.) وسمع آخر يقول في تشهده: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بما دعا؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى.) وكان من آخر ما يقوله صلى الله عليه وسلم بين التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت.) " هذه الأدعية وغيرها وتخريجها في صفة الصلاة للعلامة الألباني ص: 163 ط.11 وحفظ مثل هذه الأدعية يعالج مشكلة صمت بعض الناس وراء الإمام إذا فرغوا من التشهد لأنهم لا يدرون ماذا يقولون.
(18) الأذكار الواردة بعد الصلاة
فإنه مما يعين على تثبيت أثر الخشوع في القلب وما حصل من بركة الصلاة وفائدتها
ولاشك أن من حفظ الطاعة الأولى وصيانتها إتباعها بطاعة ثانية، وكذلك فإن المتأمل لأذكار ما بعد الصلاة يجد أنها تبدأ بالاستغفار ثلاثا فكأن المصلي يستغفر ربه عما حصل من الخلل في صلاته وعما حصل من التقصير في خشوعها فيها، ومن المهم كذلك الاهتمام بالنوافل فإنها تجبر النقص في الفرائض ومنه الإخلال بالخشوع.
وبعد الكلام عن تحصيل الأسباب الجالبة للخشوع يأتي الحديث عن
ثانيا: دفع الموانع والشواغل التي تصرف عن الخشوع وتكدِّر صفوه
(19) إزالة ما يشغل المصلي من المكان
عن أنس رضي الله عنه قال: كان قِرام (ستر فيه نقش وقيل ثوب ملوّن) لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي - أزيلي - عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) رواه البخاري: فتح الباري 10/391.
وعن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة (بيت صغير منحدر في الأرض قليلا شبيه بالمخدع أو الخزانة) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: (أخّريه عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) فأخرته فجعلته وسائد. رواه مسلم رحمه الله في صحيحه 3/1668
ويدل على هذا المعنى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ليصلي فيها رأى قرني كبش فلما صلى قال لعثمان الحجبي (إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي.) أخرجه أبو داود 2030 وهو في صحيح الجامع 2504
ويدخل في هذا؛ الاحتراز من الصلاة في أماكن مرور الناس وأماكن الضوضاء والأصوات المزعجة وبجانب المتحدثين وفي مجالس اللغو واللغط وكل ما يشغل البصر.
وكذلك تجنب الصلاة في أماكن الحرّ الشديد والبرد الشديد إذا أمكن ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإبراد في صلاة الظهر بالصيف لأجل هذا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " إن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكرّه وتضجّر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحرّ، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى. " الوابل الصيّب ط. دار البيان ص: 22
(20) أن لا يصلي في ثوب فيه نقوش أو كتابات أو ألوان أو تصاوير تشغل المصلي
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام النبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي في خميصة ذات أعلام - أي: كساء مخطط ومربّع - فنظر إلى علمها فلما قضى صلاته قال: (اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة وأتوني بأنبجانيّه - كساء ليس فيه تخطيط ولا تطريز ولا أعلام -، فإنها ألهتني آنفا في صلاتي " وفي رواية: " شغلتني أعلام هذه " وفي رواية: " كانت له خميصة لها علم، فكان يتشاغل بها في الصلاة " الروايات في صحيح مسلم رقم 556 ج: 1/391.
ومن باب أولى أن لا يصلي في ثياب فيها صور وخصوصا ذوات الأرواح كما شاع وانتشر في هذا الزمان.
(21) أن لا يصلي وبحضرته طعام يشتهيه
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام) رواه مسلم رقم 560
فإذا وُضع الطعام وحضر بين يديه أو قُدِّم له، بدأ بالطعام لأنه لا يخشع إذا تركه وقام يصلي ونفسه متعلِّقة به. بل إن عليه أن لا يعجل حتى تنقضي حاجته منه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرِّب العَشاء وحضرت الصلاة، فابدؤا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب. ولا تعجلوا عن عشائكم.) وفي رواية: (إذا وُضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء ولا يعجلنّ حتى يفرغ منه) متفق عليه، البخاري كتاب الآذن، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، وفي مسلم رقم 557-559.
(22) أن لا يصلي وهو حاقن أو حاقب
لاشكّ أن مما ينافي الخشوع أن يصلي الشخص وقد حصره البول أو الغائط ولذلك (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو حاقن) والحاقن أي الحابس البول. رواه إبن ماجه في سننه رقم 617 وهو في صحيح الجامع رقم 6832. والحاقب هو حابس الغائط.
ومن حصل له ذلك فعليه أن يذهب إلى الخلاء لقضاء حاجته ولو فاته ما فاته من صلاة الجماعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء) . رواه أبو داود رقم 88 وهو في صحيح الجامع رقم 299
بل إنه إذا حصل له ذلك أثناء الصلاة فإنه يقطع صلاته لقضاء حاجته ثم يتطهر ويصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان.) صحيح مسلم رقم 560 وهذه المدافعة بلا ريب تذهب بالخشوع. ويشمل هذا الحكم أيضا مدافعة الريح.
(23) أن لا يصلي وقد غلبه النّعاس
عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقول) أي فليرقد حتى يذهب عنه النوم. رواه البخاري رقم 210
وقد جاء ذكر السبب في ذلك: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد، حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه) . رواه البخاري رقم 209
وقد يحصل هذا في قيام الليل وقد يصادف ساعة إجابة فيدعو على نفسه وهو لا يدري، ويشمل هذا الحديث الفرائض أيضا إذا أمِن بقاء الوقت. فتح الباري: شرح كتاب الوضوء: باب الوضوء من النوم
(24) أن لا يصلي خلف المتحدث أو (النائم) :
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: (لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث) رواه أبو داود رقم 694 وهو في صحيح الجامع رقم 375 وقال حديث حسن.
لأن المتحدث يلهي بحديثه والنائم قد يبدو منه ما يلهي.
قال الخطابي رحمه الله: " أما الصلاة إلى المتحدثين فقد كرهها الشافعي وأحمد بن حنبل وذلك من أجل أن كلامهم يُشغل المصلي عن صلاته. " عون المعبود 2/388
أما أدلة النهي عن الصلاة خلف النائم فقد ضعّفها عدد من أهل العلم منهم أبو داود في سننه كتاب الصلاة: تفريع أبواب الوتر: باب الدعاء، وابن حجر في فتح الباري شرح باب الصلاة خلف النائم: كتاب الصلاة
وقال البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه: باب الصلاة خلف النائم، وساق حديث عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه.. صحيح البخاري: كتاب الصلاة
" وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته.." فتح الباري الموضع السابق.
فإذا أُمن ذلك فلا تُكره الصلاة خلف النائم والله أعلم.
(25) عدم الانشغال بتسوية الحصى:
روى البخاري رحمه الله تعالى عن معيقيب رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال: إن كنت فاعلا فواحدة) فتح الباري 3/79
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمسَح وأنت تصلي فإن كنتَ لا بدَّ فاعِلا فواحدة) يعني تسوية الحصى. رواه أبو داود رقم 946 وهو في صحيح الجامع رقم 7452
والعلة في هذا النهي؛ المحافظة على الخشوع ولئلا يكثر العمل في الصلاة. والأَولى إذا كان موضع سجوده يحتاج إلى تسوية فليسوه قبل الدخول في الصلاة.
ويدخل في الكراهية مسح الجبهة والأنف وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في ماء وطين وبقي أثر ذلك في جبهته ولم يكن ينشغل في كل رفع من السجود بإزالة ما علق فالاستغراق في الصلاة والخشوع فيها ينسي ذلك ويشغل عنه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة شغلا) رواه البخاري فتح الباري 3/ 72، وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء قال: ما أحب أن لي حمر النعم وأني مسحت مكان جبيني من الحصى. وقال عياض: كره السلف مسح الجبهة في الصلاة قبل الانصراف. الفتح 3/ 79. يعني الانصراف من الصلاة.
وكما أن المصلي ينبغي أن يحترز مما يشغله عن صلاته كما مرّ في النقاط السابقة فكذلك عليه أن يلتزم بعدم التشويش على المصلين الآخرين ومن ذلك:
(26) عدم التشويش بالقراءة على الآخرين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة) أو قال (في الصلاة) رواه أبو داود 2 /83 وهو في صحيح الجامع رقم 752 وفي رواية (لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه الإمام أحمد 2/36 وهو في صحيح الجامع 1951.
(27) ترك الالتفات في الصلاة:
لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه) رواه أبو داود رقم 909 وهو في صحيح أبي داود.
والالتفات في الصلاة قسمان:
الأول: التفات القلب إلى غير الله عز وجل.
الثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه وينقص من أجر الصلاة، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) رواه البخاري: كتاب الأذان باب: الالتفات في الصلاة.
" ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو قلبه مثل رجل استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينا وشمالا، وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به لأن قلبه ليس حاضرا معه فما ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟.
أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتا مبعدا قد سقط من عينيه، فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت عنقه له، واستحيى من ربه أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل والآخر ساه غافل." الوابل الصيب لابن القيم. دار البيان ص: 36.
وأما الالتفات " لحاجة فلا بأس به، روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال: (ثوب بالصلاة - صلاة الصبح - فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب) . قال أبو داود: (وكان أرسل فارسا من الليل إلى الشعب يحرس) . وهذا كحمله أمامة بنت أبي العاص،.. وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم، وتأخره في صلاة الكسوف، وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته، وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة، وأمره بردّ المار بين يدي المصلي ومقاتلته، وأمره النساء بالتصفيق وإشارته في الصلاة وغير ذلك من الأفعال التي تُفعل لحاجة، ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث - المنافي للخشوع - المنهي عنه في الصلاة ". مجموع الفتاوى 22/559.
(28) عدم رفع البصر إلى السماء:
وقد ورد النهي عن ذلك والوعيد على فعله في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يرفع بصره إلى السماء، أن يلتمع بصره) رواه أحمد 5/ 294 وهو في صحيح الجامع رقم 762 وفي رواية: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم [وفي رواية: عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة رواه مسلم رقم 429. فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهنّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم) رواه الإمام أحمد 5/ 258 وهو في صحيح الجامع 5574.
(29) أن لا يبصق أمامه في الصلاة:
لأنه مما ينافي الخشوع في الصلاة والأدب مع الله لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه فإن الله قِبَل وجهه إذا صلى) . رواه البخاري في صحيحه رقم 397
وقال: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله - تبارك وتعالى - ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها) رواه البخاري: الفتح رقم 416 1/512
وقال: (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين قبلته، فلا يبزقن أحدكم في قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) رواه البخاري الفتح الباري رقم 417 1/513
وإذا كان المسجد مفروشا بالسجاد ونحوه كما هو الغالب في هذا الزمان فيمكنه إذا احتاج أن يُخرج منديلا ونحوه فيبصق فيه ويردّه.
(30) مجاهدة التثاؤب في الصلاة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاءَب أحدُكم في الصلاة فليكظِم ما استطاع فإن الشيطان يدخل) . رواه مسلم 4/2293. وإذا دخل الشيطان يكون أقدر على التشويش على خشوع المصلي بالإضافة إلى أنه يضحك من المصلي إذا تثاءب.
(31) عدم الاختصار في الصلاة:
عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة) رواه أبو داود رقم 947 وهو في صحيح البخاري كتاب العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة. والاختصار هو أن يضع يديه على خصره.
فعن زياد بن صبيح الحنفي قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فضرب يدي فلما صلى قال هذا الصّلب في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه رواه الإمام أحمد 2/ 106 وغيره وصححه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أنظر الإرواء 2/94
وقد جاء في حديث مرفوع أن التخصّر راحة أهل النار والعياذ بالله رواه البيهقي عن أبي هريرة مرفوعا. قال العراقي: ظاهر إسناده الصحة
(32) ترك السدل في الصلاة:
لما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه) . رواه أبو داود رقم 643 وهو في صحيح الجامع رقم 6883 وقال حديث حسن في عون المعبود 2/347 قال الخطّابي: السدل؛ إرسال الثوب حتى يصيب الأرض. ونقل في مرقاة المفاتيح 2/236: السدل منهي عنه مطلقا لأنه من الخيلاء وهو في الصلاة أشنع وأقبح. وقال صاحب النهاية: أي يلتحف بثوبيه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد. وقيل إن كانت اليهود تفعله. وقيل السدل: أن يضع الثوب على رأسه أو كتفه ويرسل أطرافه أمامه أو على عضديه فيبقى منشغلا بمعالجته فيخلّ بالخشوع بخلاف ما لو كان مربوطا أو مزررا لا يُخشى من وقوعه فلا يُشغل المصلي حينئذ ولا ينافي الخشوع. ويوجد في بعض ألبسة الناس اليوم من بعض الأفارقة وغيرهم وفي طريقة لبس بعض المشالح والأردية ما يبقي المصلي مشغولا في أحيان من صلاته برفع ما وقع أو ضم ما انفلت وهكذا فينبغي التنبه لذلك.
أما النهي عن تغطية الفم فمن العلل التي ذكرها العلماء في النهي عنه أنه يمنع حسن إتمام القراءة وكمال السجود مرقاة المفاتيح 2/236
(33) ترك التشبه بالبهائم:
لمّا أن الله كرّم ابن آدم وخلقه في أحسن تقويم، كان من المعيب أن يتشبه الآدمي بالبهائم وقد نهينا عن مشابهة عدد من هيئات البهائم وحركاتها في الصلاة لما في ذلك من منافاة الخشوع أو قبح الهيئة التي لا تليق بالمصلي فمما ورد في ذلك: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عن ثلاث: عن نقر الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير) رواه أحمد 3/428 قيل معناه أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به يصلي فيه كالبعير لا يُغير مناخه فيوطنه الفتح الرباني 4/91 وفي رواية: (نهاني عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب.) رواه الإمام أحمد 2/311 وهو في صحيح الترغيب رقم 556
هذا ما تيسر ذكره من الأسباب الجالبة للخشوع لتحصيلها والأسباب المشغلة عنه لتلافيها
وإن من عِظم مسالة الخشوع وعلوّ قدرها عند العلماء أنهم ناقشوا القضية التالية(13/199)
مسألة: فيمن كثرت الوساوس في صلاته، هل تصح أم عليه الإعادة(13/200)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فإن قيل ما تقولون في صلاة من عدِم الخشوع، هل يعتد بها أم لا؟
قيل: أما الاعتداد بها في الثواب: فلا يعتد بها، إلا بما عقل فيه منها، وخشع فيه لربه.
قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
وفي المسند مرفوعا: إن العبد ليصلي الصلاة، ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها أو ربعها حتى بلغ عشرها.
فقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح، ولو اعْتُدَّ له بها ثوابا لكان من المفلحين. وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا وسقوط القضاء فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعا، وكانت من السنن والأذكار عقيبها (بعدها) جوابر ومكملات لنقصها.
وإن غلب عليها عدم الخشوع فيها وعدم تعقلها فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها، فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد. ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة وفيه قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القولين: اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته، فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد ولم يوجبها أكثر الفقهاء.
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله: (إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول: أذكر كذا، أذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يُضل الرجل أن يدري كم صلى) .
ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا ثواب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، حتى بلغ عشرها)
وقال ابن عباس: (ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها) فليست صحيحة باعتبار ترقب كمال مقصودها عليها وإن سميت صحيحة باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة. مدارج السالكين 1/112
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (إذا أذن المؤذن بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس) . قالوا: فأمره النبي في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها، حتى لم يدر كم صلى بأن يسجد سجدتي السهو، ولم يأمره بإعادتها، ولو كانت باطلة - كما زعمتم - لأمره بإعادتها.
قالوا: وهذا هو السر في سجدتي السهو، ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد، وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة، ولهذا سماها النبي المرغمتين. مدارج السالكين 1/528-530
فإن أردتم وجوب الإعادة: لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك كله إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن يفوتها على نفسه.
وإن أردتم بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة فلا.
وهذا هو أرجح القولين. والله أعلم.(13/201)
خاتمة(13/202)
أمر الخشوع كبير، وشأنه خطير، ولا يتأتى إلا لمن وفقه الله لذلك، وحرمان الخشوع مصيبة كبيرة وخطب جلل ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع..) رواه الترمذي 5/ 485 رقم 3482 وهو في صحيح سنن الترمذي 2769
والخاشعون درجات، والخشوع من عمل القلب يزيد وينقص فمنهم من يبلغ خشوعه عنان السماء ومن يخرج من صلاته لم يعقل شيئا، " والناس في الصلاة على مراتب خمسة:
أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها. الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكنه قد ضيّع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجهادة عدوه لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيئا منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظرا بقلبه إليه، مراقبا له، ممتلئا من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل قرير العين به.
فالقسم الأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفّر عنه، والرابع مثاب، والخامس مقرّب من ربّه، لأن له نصيبا ممن جُعلت قرّة عينه في الصلاة، فمن قرّت عينه بصلاته في الدنيا، قرّت عينه بقربه من ربّه عز وجل في الآخرة، وقرّت عينه أيضا به في الدنيا، ومن قرت عينه بالله قرّت به كل عين، ومن لم تقرّ عينه بالله تعالى تقطعّت نفسه على الدنيا حسرات " الوابل الصيب ص: 40
وختاما أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الخاشعين وأن يتوب علينا أجمعين وأن يجزي بالخير من ساهم في هذه الرسالة وأن ينفع من قرأ فيها آمين، والحمد لله رب العالمين.(13/203)
شكاوى وحلول(13/204)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران /102. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء /1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} الأحزاب /70، 71. أما بعد: فقد وردت إليّ أسئلة من بعض الإخوان في بعض الدروس والمحاضرات تتضمن أموراً مما يُعانون ومشكلات مما يواجهون من أمراض قلبية ومصاعب نفسية وعقبات واقعية. وكانت الإجابات عن تلك الأسئلة المكتوبة والمشكلات المعروضة في سلسلة دروس بعنوان شكاوى وحلول. وقد أعدت النظر فيها بعد إعدادها للكتابة وأقدمها اليوم إلى إخواني رجاء الدخول في حديثه صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) صحيح مسلم والله أسأل أن يوفقني وإخواني المسلمين لفعل الخيرات واجتناب السيئات والنجاة يوم الحسرات إنه خير مسؤول وهو كل شيء قدير.(13/205)
النوم عن صلاة الفجر
أخ يشتكي ويقول: إن صلاة الفجر تفوتني في كثير من الأيام، فلا أصليها في وقتها إلا نادراً، والغالب ألا أستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، أو بعد فوات صلاة الجماعة في أحسن الأحوال، وقد حاولت الاستيقاظ بدون جدوى، فما حل هذه المشكلة؟.
الجواب: الحمد لله حمداً كثيراً وبعد: فإن حل هذه المشكلة - كغيرها - له جانبان: جانب علمي، وجانب عملي. أما الجانب العلمي فيأتي من ناحيتين: الناحية الأولى: أن يعلم المسلم عظمة مكانة صلاة الفجر عند الله عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله) مسلم ص 454 رقم 656، الترمذي 221. وقال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) رواه الإمام أحمد المسند 2/424، وهو في صحيح الجامع 133، وقال: (من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته) ومعنى في ذمة الله: أي في حفظه وكلاءته سبحانه، " من كتاب النهاية 2/168" والحديث رواه الطبراني 7/267، وهو في صحيح الجامع رقم 6344. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) رواه البخاري الفتح 2/33. وفي الحديث الآخر: (أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة، في جماعة) رواه أبو نعيم في الحلية 7/207، وفي السلسلة الصحيحة 1566. وفي الحديث الصحيح: (من صلّى البردين دخل الجنة) رواه البخاري الفتح 2/52. والبردان الفجر والعصر. الناحية الثانية: أن يعلم المسلم خطورة تفويت صلاة الفجر ومما يبين هذه الخطورة الحديث المتقدم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/271، قال الهيثمي رجال الطبراني موثقون المجمع 2/40. وإنما تكون إساءة الظن بذلك المتخلف عن هاتين الصلاتين لأن المحافظة عليهما معيار صدق الرجل وإيمانه، ومعيار يقاس به إخلاصه، ذلك أن سواهما من الصلوات قد يستطيعها المرء لمناسبتها لظروف العمل ووقت الاستيقاظ، في حين لا يستطيع المحافظة على الفجر والعشاء مع الجماعة إلا الحازم الصادق الذي يُرجى له الخير. ومن الأحاديث الدالة على خطورة فوات صلاة الفجر قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلّى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإن من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم ص 454، ومعنى من يطلبه من ذمته بشيء يدركه أي من يطلبه الله للمؤاخذة بما فرط في حقه والقيام بعهده يدركه الله إذ لا يفوت منه هارب، حاشية صحيح مسلم ترتيب عبد الباقي 455. هاتان الناحيتان كفيلتان بإلهاب قلب المسلم غيرة، أن تضيع منه صلاة الفجر فالأولى منهما تدفع للمسارعة في الحصول على ثواب صلاة الفجر، والثانية هي واعظ وزاجر يمنعه من إيقاع نفسه في إثم التهاون بها. وأما الجانب العملي في علاج هذه الشكاية فإن هناك عدة خطوات يمكن للمسلم إذا اتبعها أن يزداد اعتياداً ومواظبة على صلاة الفجر مع الجماعة، فمن ذلك:
1-التبكير في النوم: ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، فلا ينبغي للمسلم أن ينام قبل صلاة العشاء والمُشاهد أن غالب الذين ينامون قبل العشاء يمضون بقية ليلتهم في خمول وكدر وحال تشبه المرضى. ولا ينبغي كذلك أن يتحدث بعد صلاة العشاء، وقد بين أهل العلم سبب كراهية الحديث بعدها فقالوا: لأنه يؤدي إلى السهر، ويُخاف من غلبة النوم عن قيام الليل، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو المختار أو الفاضل. والمكروه من الحديث بعد صلاة العشاء كما قال الشراح: هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة راجحة فيها، أما ما كان فيه مصلحة وخير فلا يكره، كمدارسة العلم، ومعرفة سير الصالحين وحكايتهم، ومحادثة الضيف، ومؤانسة الزوجة والأولاد وملاطفتهم، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم وأنفسهم، إلى آخر ذلك من الأسباب المباحة. فما الحال إذا تفكرنا فيما يسهر من أجله كثير من الناس اليوم من المعاصي والآثام إذن فعلى المسلم أن ينام مبكراً، ليستيقظ نشيطاً لصلاة الفجر، وأن يحذر السهر الذي يكون سبباً في تثاقله عن صلاة الفجر مع الجماعة. حقاً إن الناس يتفاوتون في الحاجة إلى النوم، وفي المقدار الذي يكفيهم منه، فلا يمكن تحديد ساعات معينة يُفرض على الناس أن يناموا فيها، لكن على كل واحد أن يلتزم بالوقت الكافي لنوم يستيقظ بعده لصلاة الفجر نشيطاً، فلو علم بالتجربة والعادة أنه لو نام بعد الحادية عشر ليلاً مثلاً لم يستيقظ للصلاة، فإنه لا يجوز له شرعاً أن ينام بعد هذه الساعة.. وهكذا.
2- الحرص على الطهارة وقراءة الأذكار التي قبل النوم، فإنها تعين على القيام لصلاة الفجر.
3- صدق النية والعزيمة عند النوم على القيام لصلاة الفجر، أما الذي ينام وهو يتمنى ألا تدق الساعة المنبهة، ويرجو ألا يأتي أحد لإيقاظه، فإنه لن يستطيع بهذه النية الفاسدة أن يصلي الفجر، ولن يفلح في الاستيقاظ لصلاة الفجر وهو على هذه الحال من فساد القلب وسوء الطوية.
4- ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ مباشرة، فإن بعض الناس قد يستيقظ في أول الأمر، ثم يعاود النوم مرة أخرى، أما إذا بادر بذكر الله أول استيقاظه انحلت عقدة من عُقد الشيطان، وصار ذلك دافعاً له للقيام، فإذا توضأ اكتملت العزيمة وتباعد الشيطان، فإذا صلّى أخزى شيطانه وثقل ميزانه وأصبح طيب النفس نشيطاً.
5- لا بد من الاستعانة على القيام للصلاة بالأهل والصالحين، والتواصي في ذلك، وهذا داخل بلا ريب في قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وفي قوله (والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فعلى المسلم: أن يوصي زوجته مثلاً بأن توقظه لصلاة الفجر، وأن تشدد عليه في ذلك، مهما كان متعباً أو مُرهقاً، وعلى الأولاد أن يستعينوا بأبيهم مثلاً في الاستيقاظ، فينبههم من نومهم للصلاة في وقتها، ولا يقولن أب إن عندهم اختبارات، وهم متعبون، فلأدعهم في نومهم، إنهم مساكين، لا يصح أن يقول ذلك ولا أن يعتبره من رحمة الأب وشفقته، فإن الرحمة بهم والحدَبَ عليهم هو في إيقاظهم لطاعة الله: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) وكما يكون التواصي والتعاون على صلاة الفجر بين الأهل، كذلك يجب أن يكون بين الإخوان في الله، فيعين بعضهم بعضاً، مثل طلبة الجامعات الذين يعيشون في سكن متقارب ومثل الجيران في الأحياء، يطرق الجار باب جاره ليوقظه للصلاة، ويعينه على طاعة الله.
6- أن يدعو العبد ربه أن يوفقه للاستيقاظ لأداء صلاة الفجر مع الجماعة؛ فإن الدعاء من أكبر وأعظم أسباب النجاح والتوفيق في كل شيء.
7- استخدام وسائل التنبيه، ومنها الساعة المنبهة، ووضعها في موضع مناسب، فبعض الناس يضعها قريباً من رأسه فإذا دقت أسكتها فوراً وواصل النوم، فمثل هذا يجب عليه أن يضعها في مكان بعيد عنه قليلاً، لكي يشعر بها فيستيقظ. ومن المنبهات ما يكون عن طريق الهاتف، ولا ينبغي للمسلم أن يستكثر ما يدفعه مقابل هذا التنبيه، فإن هذه نفقة في سبيل الله، وأن الاستيقاظ لإجابة أمر الله لا تعدله أموال الدنيا.
8- نضح الماء في وجه النائم، كما جاء في الحديث من مدح الرجل الذي يقوم من الليل ليصلي، ويوقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ومدح المرأة التي تقوم من الليل وتوقظ زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء رواه الإمام أحمد في المسند 2/250 وهو في صحيح الجامع 3494. فنضح الماء من الوسائل الشرعية للإيقاظ، وهو في الواقع منشط، وبعض الناس قد يثور ويغضب عندما يوقظ بهذه الطريقة، وربما يشتم ويسب ويتهدد ويتوعد، ولهذا فلا بد أن يكون الموقظ متحلياً بالحكمة والصبر، وأن يتذكر أن القلم مرفوع عن النائم، فليتحمل منه الإساءة، ولا يكن ذلك سبباً في توانيه عن إيقاظ النائمين للصلاة.
9- عدم الانفراد في النوم، فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت الرجل وحده رواه الإمام أحمد في المسند 2/91 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 60. ولعل من حِكم هذا النهي أنه قد يغلبه النوم فلا يكون عنده من يوقظه للصلاة.
10- عدم النوم في الأماكن البعيدة التي لا يخطر على بال الناس أن فلاناً نائماً فيها، كمن ينام في سطح المنزل دون أن يخبر أهله أنه هناك، وكمن ينام في غرفة نائية في المنزل أو الإسكان الجماعي فلا يعلم به أحد ليوقظه للصلاة، بل يظن أهله وأصحابه أنه في المسجد، وهو في الحقيقة يغّط في نومه. فعلى من احتاج للنوم في مكان بعيد أن يخبر من حوله بمكانه ليوقظوه.
11- الهمة عند الاستيقاظ، بحيث يهب من أول مرة، ولا يجعل القيام على مراحل، كما يفعل بعض الناس الذين قد يتردد الموقظ على أحدهم مرات عديدة، وهو في كل مرة يقوم فإذا ذهب صاحبه عاد إلى الفراش، وهذا الاستيقاظ المرحلي فاشل في الغالب، فلا مناص من القفزة التي تحجب عن معاودة النوم.
12- ألا يضبط المنبه على وقت متقدم عن وقت الصلاة كثيراً، إذا علم من نفسه أنه إذا قام في هذا الوقت قال لنفسه: لا يزال معي وقت طويل، فلأرقد قليلاً، وكل أعلم بسياسة نفسه.
13- إيقاد السراج عند الاستيقاظ، وفي عصرنا الحاضر إضاءة المصابيح الكهربائية، فإن لها تأثيراً في طرد النعاس بنورها.
14- عدم إطالة السهر ولو في قيام الليل، فإن بعض الناس قد يطيل قيام الليل، ثم ينام قبيل الفجر بلحظات، فيعسر عليه الاستيقاظ لصلاة الفجر، وهذا يحدث كثيراً في رمضان، حيث يتسحرون وينامون قُبيل الفجر بقليل، فيضيعون صلاة الفجر، ولا ريب أن ذلك خطأ كبير؛ فإن صلاة الفريضة مقدمة على النافلة، فضلاً عمن يسهر الليل في غير القيام من المعاصي والآثام، أو المباحات على أحسن الأحوال، وقد يزين الشيطان لبعض الدعاة السهر لمناقشة أمورهم ثم ينامون قبل الفجر فيكون ما أضاعوا من الأجر أكثر بكثير مما حصلوا.
15- عدم إكثار الأكل قبل النوم فإن الأكل الكثير من أسباب النوم الثقيل، ومن أكل كثيراً، تعب كثيراً، ونام كثيراً، فخسر كثيراً، فليحرص الإنسان على التخفيف من العشاء.
16- الحذر من الخطأ في تطبيق سنة الاضطجاع بعد راتبة الفجر، فربما سمع بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلّى أحدكم فليضطجع على يمينه) رواه الترمذي رقم 420 وهو في صحيح الجامع 642. وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى سنة الفجر يضطجع، ثم يُؤذنه بلال للصلاة، فيقوم للصلاة، وربما سمعوا هذه الأحاديث، فعمدوا إلى تطبيق هذه السنة الثابتة، فلا يحسنون التطبيق، بحيث يصلي أحدهم سنة الفجر، ثم يضطجع على جنبه الأيمن، ويغط في سبات عميق حتى تطلع الشمس، وهذا من قلة الفقه في هذه النصوص، فليست هذه الاضطجاعة للنوم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بلال للصلاة وهو مضطجع، وكان أيضاً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وابن حبان إذا عرس (قبل) الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده رواه أحمد في المسند 5/298 وهو في صحيح الجامع رقم 4752، وهذه الكيفية في النوم تمنع من الاستغراق؛ لأن رأس النائم في هذه الحالة يكون مرفوعاً على كفه وساعده، فإذا غفا سقط رأسه، فاستيقظ، زد على ذلك أن بلالاً كان موكلاً بإيقاظه صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر.
17- جعل قيام الليل في آخره قبيل الفجر، بحيث إذا فرغ من الوتر أذن للفجر، فتكون العبادات متصلة، وتكون صلاة الليل قد وقعت في الثلث الأخير - وهو زمان فاضل - فيمضي لصلاة الفجر مباشرة وهو مبكر ونشيط.
18- اتباع الهدي النبوي في كيفية الاضطجاع عند النوم، بحيث ينام على جنبه الأيمن، ويضع خده الأيمن على كفه اليمنى، فإن هذه الطريقة تيسر الاستيقاظ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف النوم بكيفيات أخرى، فإنها تؤثر في صعوبة القيام.
19- أن يستعين بالقيلولة في النهار، فإنها تعينه، وتجعل نومه في الليل معتدلاً ومتوازناً.
20- ألا ينام بعد العصر، ولا بعد المغرب، لأن هاتين النومتين تسببان التأخر في النوم، من تأخر نومه تعسر استيقاظه.
21- وأخيراً فإن الإخلاص لله تعالى هو خير دافع للإنسان للاستيقاظ للصلاة، وهو أمير الأسباب والوسائل المعينة كلها، فإذا وجد الإخلاص الذي يلهب القلب ويوقظ الوجدان، فهو كفيل بإذن بإيقاظ صاحبه لصلاة الصبح مع الجماعة، ولو نام قبل الفجر بدقائق معدوادات. ولقد حمل الإخلاص والصدق بعض الحريصين على الطاعة على استعمال وسائل عجيبة تعينهم على الاستيقاظ تدل على اجتهادهم وحرصهم وتفانيهم، فمن ذلك أن أحدهم كان يضع عنده عدة ساعات منبهة إذا نام، ويجعل بين موعد تنبيه كل واحدة والأخرى بضع دقائق، حتى إذا أطفأ التي دقت أولاً دقت الثانية بعدها بقليل وهكذا، وكان أحدهم يربط في يده عند النوم خيطاً، ويدليه من نافذة غرفته، فإذا مر أحد أصحابه ذاهباً إلى المسجد جذب هذا الخيط فيستيقظ لصلاة الفجر. فانظر يا رعاك الله ماذا يفعل الإخلاص والتصميم، ولكن الحقيقة المرة هي أن ضعف الإيمان، وقلة الإخلاص تكاد تكون ظاهرة متفشية في الناس اليوم، والشاهد على ذلك ما نراه من قلة المصلين ونقص الصفوف في صلاة الفجر، بالرغم من كثرة الساكنين حول المسجد في كثير من الأحياء. على أننا لا ننكر أن هناك أفراداً يكون ثقل النوم عندهم أمراً مرضياً قد يُعذرون به، لأنه أمر خارج عن الإرادة فمثل هذا عليه أن يلجأ إلى الله بالتضرع، ويستفيد ما استطاع من الوسائل الممكنة، وأن يراجع الطبيب لمحاولة إيجاد علاج. وأخيراً هذا تنبيه على أمر مشتهر بين الناس وهو زعمهم بأن هناك حديثاً مفاده أنّ من أراد الاستيقاظ لصلاة الفجر فعليه أن يقرأ قبل النوم آخر سورة الكهف، وينوي بقلبه القيام في ساعة معينة، فيقوم، ويزعمون أن ذلك مجرب، ونقول لهم: إنه لم يثبت بذلك حديث، فلا عبرة به، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.(13/206)
كثرة الضحك
وهذه شكوى من ظاهرة كثرة الضحك بين الناس، وبخاصة الشباب يقول السائل: مجالسنا التي نجلس فيها مع الإخوان والزملاء يكثر فيها الضحك كثرة مفرطة، وهذه الظاهرة تتفشى وتنتشر فما هو العلاج؟.
الجواب: إن علاج هذه الشكوى يأتي من جانبين: جانب علمي، وجانب عملي. أما الجانب العلمي: فيضمن أمرين: أولها: أن نعلم كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك، فهو خير قدوة في ذلك وفي كل شيء. فقد ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يضحك إلا تبسماً رواه أحمد في المسند 5/97 وهو في صحيح الجامع 4861. في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت قليل الضحك. رواه أحمد في المسند 5/86 وهو في صحيح الجامع 4822. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى منه لهواته وإنما كان يتبسم. رواه أبو داود رقم 5098 ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجه رقم 4193 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 506. وفي رواية: (فإن كثرة الضحك فساد القلب) وإن من التفريط بعد ذلك أن يركب المسلم ثبجاً يعلم أن فيه العطب. هذا هو الجانب العملي في الحل بإيجاز. وقبل الدخول في الجانب العملي لا بد أن نعلم أن الضحك ليس أمراً محرماً أو أن المسلم لا بد أن يكون عبوساً خشناً مكفهر الوجه؛ فإن الضحك أمر جبلي طبعي: (وأنه هو أضحك وأبكى) ولكن المشكلة التي نحن بصدد علاجها والتحذير من آثارها. - هي أن تكون المجالس مدوية بالقهقهات المتجاوبة. - هي أن يُفسد المؤمن قلبه بكثرة الضحك وفغر الفم، بدلاً من أن يكون جاداً سليماً. - هي أن يجعل الداعية كثرة إضحاك الناس وسيلة كما يزعم لكسب الناس، من أجل التأثير عليهم وإفادتهم، وما علم أنهم يلتفون حوله ليضحكوا فقط، وما أقل استفادتهم منه. إن المشكلة هي أن يجعل بعض الناس كثرة الضحك متنفساً له من همومه وكروبه، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير، أذكر أن شاباً كان يعاني يوماً من هموم تخلفه في دراسته، ومشكلاته مع أهله، وغير ذلك، فخرج من بيته، فصادفه في الطريق أخ له، فقال: أين أنت ذاهب؟ فقال: أنا مهموم مغموم، وسأذهب إلى فلان الفلاني، لكي يضحكني وينسيني أحزاني.. هكذا قال، وما شعر أن إضحاك هذا الشخص له إنما هو بمثابة المخدر، يُنسي المرء أتراحه ما دام تحت تأثيره، فإذا انتهى عادت إليه كما كانت. وكان خليقاً ألا يغفل عن العلاج النبوي للهم والحزن والكرب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى صحيح الجامع 4703 وكان إذا كربه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) صحيح الجامع 4777 وفي الحديث الصحيح الآخر: كان إذا نزل به هم أو غم قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، الله ربي ولا أشرك به شيئاً) صحيح الجامع 4791. وفي دعاء الهم والغم المشهور: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك.. الخ الحديث) وهذه وطاءة لابد من الإلمام بها قبل الخوض في الجانب العملي في مداواة ظاهرة الإفراط في الضحك، ذلك الجانب الذي يمكن تحقيقه بوسائل منها:
1- تذكر الموت، والقبر، واليوم الآخر، وما فيه من الحساب، الصراط والنار، وسائر الأهوال، وتربية هذا التذكر بتدبر النصوص التي تصور هذه المشاهد، وبالقراءة في شرح تفاصيلها، وبمجالسة أهل الزهد والقلوب اللينة.
2- التأمل في واقع المسلمين، وما يعانون منه من ابتعاد عن الدين، وتخلف في جميع المجالات، وما يتعرضون له من قهر وإيذاء وإبادة شرسة، وما يحاك حولهم من تآمر عالمي، فإذا تأمل المسلم هذه الأحوال تأملاً عميقاً صادقاً، فلا بد أن يكون له أثر في ضحكه وبكائه.
3- أن يستشعر ثقل الأمانة الملقاة على عاتقه تجاه أمته، فإن أمته تتطلب جهوداً ضخمة لإنقاذهما من أوهاق التردّي والسقوط، فإذا جعل هذا الأمر همه فإنه سيمضي شُعلة من النشاط لإصلاح أهله وأصدقائه وأحبابه ومجتمعه بقدر المستطاع، ولن يجد وقتا للتهريج المقيت، والضحك الكثير والاهتمامات التافهة.
4- تجنب مخالطة الشخصيات الهزلية المعروفة بكثرة الإضحاك والتهريج، والابتعاد عن المجالس التي تكون فيها، مع محاولة النصح لهم ولمجالسيهم. ومرت قبل قليل إشارة إلى أن بعض الدعاة قد يجعل الإضحاك وسيلة لكسب الناس، حتى قال بعض العامة أين الشيخ الذي يضحك؟ نريد الشيخ الذي يضحك وهذه دركة نربأ بالأمة أن تهوي فيها، فإن دين الله عظيم متين: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) (خذوا ما آتيناكم بقوة) وفي الحديث: (لو تعلمون ما أعلم؟ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) لو أننا أدركنا حق الإدراك ماذا يراد منا، وماذا أمامنا، لما اكتحلت أجفاننا بنوم هنيء.
5- أن يجتهد في رد الضحك ما استطاع عن نفسه وعن غيره فقد يجتمع المجلس مع القوم تعودوا أن يكون غالب وقتهم ضحكاً وقهقهة، فعليه أولاً أن يكظم الضحك عن نفسه كما يرد التثاؤب، وثانياً أن يرشد الحاضرين ويُعينهم على أنفسهم، وهذا يحتاج إلى رجل جاد حازم لبق، والناس ولله الحمد فيهم خير كثير، واستعداداً للاستجابة لداعي الإصلاح والتقويم، وهذا الإرشاد يمكن أن تُسلك إليه سبل مختلفة: كأن تذكر لهم مساوئ الضحك والإضحاك، مثل أنه يقود إلى الكذب والاختلاق، حيث يضطر "المهرج" إذا لم يجد قصة أو حادثة حقيقة إلى صناعة قصص من نسج الخيال، ليجعلها مادة للإضحاك، وهذا الشخص قد توعده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم.. ويل له، ويل له) صحيح الجامع 7136. كما أن من مساوئه أنه يؤدي إلى اهتزاز الشخصية وسقوطها من الأعين، فإن مُضحك القوم وإن ظهر له أنه ذو مكانة بينهم ليس إلا محتقراً لديهم، ولا يقدرونه ولا يوقرونه، وقل مثل ذلك في الذي لا تراه إلا مغرقاً من الضحك.
6- تغيير الموضوع الذي قاد إلى الضحك إلى موضوع آخر مفيد، فإذا رأيت أن الحاضرين قد تجاوزوا حدّ الاعتدال في الضحك، وأسلموا قيادهم لدواعيه، فتسلل إلى قلوبهم بالأسلوب المناسب، لنقلهم إلى عالم الجد واستثمار الوقت؛ بقراءة في كتاب نافع، أو بطرح موضوع مهم للنقاش وإبداء الآراء، أو دعوة للاتفاق على عمل إصلاحي خيري، أو غير هذا أو ذاك من الأمور التي يحبها الله ويرضاها.
7- فإذا بلغ السيل الزبى، وجاوز الأمر حده، بأن أبى الجالسون إلا الإغراق في الضحك، والمضي في طريق الغفلة، فإن آخر العلاج الكي، قم من المجلس وفارقه، حماية لنفسك، ووقاية لقلبك من الفساد، بعد أن أديت ما عليك من واجب التوجيه والنصح، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(13/207)
الوساوس الشيطانية
وهذا سائل يقول: إنني أشكو من كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله عز وجل، تطوف بخاطري أفكار لا أستطيع أن أذكرها، لأنها لا تليق بالله سبحانه ولكني أعاني من ترددها على ذهني كثيراً، في الصلاة وخارج الصلاة، حتى شككت في إيماني، وارتبت هل أنا مسلم أو لا، فما علاج هذه المصيبة؟.
الجواب: الحمد لله حمداً كثيراً وبعد: فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة أحاديث فيها حل هذه المشكلة، وعلاج هذه الشكوى ولله الحمد: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول فمن خلق الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه) صحيح الجامع 1657. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله) صحيح الجامع 1656. وقال صلى الله عليه وسلم: (من وجد من هذا الوسواس، فليقل: آمنت بالله ورسوله ثلاثاً فإن ذلك يذهب عنه) صحيح الجامع 6587. وقال عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) صحيح الجامع 7993. وقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الناس يتساءلون، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك؛ فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ من الشيطان) صحيح الجامع 8182. وقال صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله) صحيح الجامع 2975. وقال صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله) صحيح الجامع 2976. من هذه النصوص نستطيع أن نستخلص ست وسائل للتغلب على هذه الوساوس والأفكار:
1- أن يقول المرء إذا انتابته هذه الخواطر: آمنت بالله ورسوله.
2- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فيقول مثلاً: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً.
4- أن ينتهي عما هو فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ولينته "، وهذه وسيلة مهمة؛ فإن الاستطراد مع الشيطان في هذه الوساوس يزيد نارها اشتعالاً وضراماً، والواجب أن يقطع المسلم هذه الخواطر بقدر المستطاع، وأن يشغل ذهنه بالمفيد النافع.
5- أن يقرأ سورة الإخلاص (قل هو الله أحد) فإن فيها ذكر صفات الرحمن، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، وقراءة هذه السورة العظيمة وتدبرها كفيل بقطع هذه الوساوس.
6- أن يتفكر الإنسان في خلق الله، وفي نعم الله، ولا يتفكر في ذات الله، لأنه لن يصل بعقله القاصر إلى تصور ذات الله، قال تعالى: (ولا يحيطون به علماً)(13/208)
السهر
وهذه شكوى من مشكلة السهر، وعدة أسئلة تدعو إلى حل هذه المشكلة، فإن كثيراً من الناس يضيعون أوقاتاً طويلة جداً في السهر.
والجواب: إن السهر ليس نوعاً واحداً، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: السهر في طاعة الله تعالى وهو سهر محمود، ومنه السهر في مصالح المسلمين العامة، كالجهاد والرباط في الثغور، ومنه السهر في إحياء الليل بالقيام وتلاوة القرآن: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون) ولا ننسى في هذا المقام الصحابي الجليل الذي كان يحرس المسلمين ليلاً، ويقضي وقت الحراسة في الصلاة، فرُمي بسهم من المشركين، فأصابه السهم، فأخذ دمه يسيل، وهو مع ذلك ماض في صلاته يتلذذ بمناجاة ربه الكريم. وورد عن بعض أهل العلم أنهم تذاكروا الحديث حتى طلع الفجر ولقد كان الدعاة المخلصون ولا زالوا يسهرون الليل في مناقشة الأمور التي تؤرق الغيورين على الأمة، وتقض مضاجعهم، وتطرد الوسن عن عيونهم، ومن ذلك مثلاً ما كان يجري بين الشيخين: عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، فقد كانا في فترة وجودهما في المدينة يسهران الليل كله إلى الفجر، يناقشان أوضاع الأمة الإسلامية، وما تردت إليه من البدع والخرافات والتخلف، ويخططان لانتشال المجتمع الجزائري من هذا التردي. هذا النوع من السهر سهر محمود كله، إذا لم يؤد إلى تضييع مصلحة راجحة أو واجب شرعي أعلى منه، فإن بعض الناس قد يسهرون في أمر شرعي، ثم تفوتهم صلاة الفجر، وهذا خطأ وخلل. القسم الثاني: السهر المباح: وهو ما كان على أمر مباح، شريطة ألا يؤدي إلى تضيع واجب، فمن ذلك مثلاً محادثة المسافرين لبعضهم لتهوين مشقة السفر على أنفسهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم مع بعض نسائه، يؤانسها وهو في طريق سفر. ومنه مسامرة الضيف ومؤانسته بالحديث. ومنه سهر كثير من الناس اليوم في أعمالهم الليلة، في هذه النوبات التي أوجدتها الأحوال المادية ولا ريب أن بعض مصالح المسلمين تقتضي أن يكون هناك من يعمل ليلاً، كالعمل في الأمن، والمستشفيات، والمطارات، والكهرباء، وغير ذلك. القسم الثالث: السهر في معصية الله عز وجل كالسهر في مشاهدة الأفلام، والألعاب المحرمة كلعب الورق، أو في أكل لحوم الناس بالغيبة والشتائم والبهتان وما شابه ذلك من أنواع المعاصي. وهذا السهر محرم، يأثم أصحابه ويستحقون العقوبة من الله، وقد كثروا في هذا الزمان؛ لأسباب بعضها مذكور في قول الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدَه مفسدة للمرء أيّ مفسده هذه هي أقسام السهر الثلاثة، فيجب أن نفرق بين كل قسم والآخر. وفي زماننا هذا انتشر السهر لأسباب منها: 1- السهر للمصالح الدنيوية، مثل سهر بعض التجار في تدبير أمور تجارتهم، وسهر بعض الطلاب في مذاكرة المقررات الدراسية، وينبغي لهؤلاء ومن شاكلهم أن يجتهدوا في ترتيب أوقاتهم ترتيباً يُغنيهم عن السهر المؤدي إلى المفاسد.
2- طبيعة العصر الحاضر التي غيرت الأوضاع الاجتماعية، فلئن كان القدماء يشرعون في الهدوء والهجعة منذ حلول الظلام، فإن وجود الكهرباء في عصرنا يحمل الناس على أن يمارسوا كثيراً من الأنشطة والأعمال والعلاقات التي لم يكونوا ليمارسوها في الظلام، حتى لقد أصبح ليل بعض الناس كنهارهم.
3- انصراف كثير من الناس إلى ما يبث من برامج وفنون في وسائل الإعلام المختلفة: من إذاعة وتلفاز، وما يسمى الفيديو وغيره.
4- جعل أكثر الناس زياراتهم وبرامجهم وعلاقاتهم العائلية وغير العائلية في الليل بسبب طبيعة الأعمال والدراسة، فأصبحت تجد من النادر أن يزورك أحد في النهار، إلا في عطلة الأسبوع، وحتى مجالس العلم صار كثير منها يقام بعد صلاة العشاء.
5- انهماك بعض الناس في الثرثرة والأحاديث المتداعية الطويلة، وربما أزعجوا الآخرين بثرثرتهم وضحكاتهم، ولعل انتشار هذه الظاهرة في أوساط الطلاب في الإسكانات الجامعية أكثر وضوحاً، حيث يقوم بعض الضيوف الثقلاء بزيارتهم في سكنهم، ويمضون معهم الليل في القيل والقال، ويلحقون الضرر بأنفسهم وبغيرهم، ثم يضيعون كثيراً من الواجبات.
6- الأرق: والأرق يسببه في كثير من الأحيان مقارفة المعاصي والبعد عن الله تعالى، فإن البعيد عن ربه لا يمكن أن يذوق الطمأنينة والأنس، وإنما هو في قلق دائم ووحشة واضطراب. كما أن للمشكلات العائلية والمادية والدراسية والعملية وغيرها أثراً بارزاً في إحداث القلق والأرق لدى الشخص حتى تنجلي أسبابها. على أننا لا ننكر أن هناك من يحرمه الأرق من لذيذ الكرى بسبب خوفه من الله، وحرصه على صلاح أمته الأسيرة.
وبعد استعراض أقسام السهر وأبرز أسبابه، نتجه لبيان الأسباب المعينة على علاج هذه الشكوى التي أصبحت وباء فاشياً. وعلاجها من الناحية العلمية التأملية: أن يتفكر المرء في ما يترتب على السهر من الأضرار الجسمية، وتفويت المصالح العظيمة، فمن ذلك:
1- تضييع الواجبات الشرعية، مثل تضييع صلاة الفجر كما أسلفنا إما بالتخلف عن الجماعة، أو بقضائها في غير وقتها، أو بأدائها مع الجماعة لكن دون خشوع وإحساس بسبب الإعياء الشديد الذي يجعله يصارع النعاس ولا يفقه من صلاته شيئاً، فلا يدري ما قرأ الإمام، ولا في أي ركعة هو، ولا يتدبر ما يقوله في سجوده وركوعه وقيامه وقعوده، ولذلك نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد صلاة العشاء.
2- الأضرار الجسدية: ذلك أن جعل الليل للحركة والنهار للسكون مصادم للطبيعة التي خلقها الله في الأرض والنفوس: (وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً) (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء) (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه …) ولهذا فإننا نجد القوم الذين تنكبوا الصراط، وخالفوا الفطرة، في حالة صحية سيئة مضطربة، وإن نوم ساعة من الليل قد يعدل نوم ضعفها في غيره، كما هو مجرب ومشاهد.
3- تقصير كثير من الموظفين في أعمالهم، بحيث يأتي الموظف إلى عمله منهكاً متأخراً، فيكون أداؤه ضعيفاً، وتعامله مع المراجعين سيئاً، وربما كان في بعض راتبه شبهة بسبب تقصيره في عمله. وقل مثل ذلك في شأن الطلاب الذين يسهرون، ثم يأتون للمدرسة أو الجامعة متأخرين، وقد ضربوا بالمحاضرات الأولى عرض الحائط، ثم يجلس أحدهم كرسياً على كرسي، لا يستوعب معلومة، ولا ينتبه لشرح.
4- أنه يؤدي إلى النوم في غير وقت النوم، فينام السهران مثلاً بعد العصر، والنوم بعد العصر لغير الحاجة كرهه السلف، أما الحاجة فلا بأس به. ثم إن هذا يسبب صداعاً وتفويتاً لوقت حيوي من اليوم.
5- أنه يعيق عن بعض العبادات التطوعية، فإحياء الثلث الآخر من الليل مثلاً، كيف يستطيعه السهران؟! والتسحر لصيام التطوع، كيف يطيق الاستيقاظ له؟! ولا شك أن الإعياء والإجهاد سيثنيه عن النهوض، فيفوت على نفسه خيراً كثيراً.
6- فوات بركة البكور في أول النهار، فإن الذين يسهرون ينامون بعد صلاة الفجر، فيحرمون أنفسهم من الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) صحيح الجامع 2841. ولا يقدرون على المكث في المسجد إلى طلوع الشمس لذكر الله، ولا يخرجون إلى أرزاقهم مبكرين في وقت البركة والفضيلة، وقد عم ذلك فينا، حتى أصبحنا نرى من النادر أن يفتح تاجر متجره في وقت مبكر مثلاً. إذا علم العاقل بهذه الأضرار الناجمة عن السهر، وبفداحة الخسارة التي يمنى بها من جرائه، فلا ريب أنه سيسعى سعياً حثيثاً لتصحيح وضعه، واستدراك ما فاته، وبذلك يكون قد وضع رجله في أول طريق العلاج. وهذه إشارات إلى جوانب عملية في حل المشكلة يسترشد بها من يريد الوصول إلى ذلك العلاج:
1- بذل الوسع في تعويد النفس على النوم المبكر، فإن السهر في الأصل عادة، فإذا انبرى المرء لجهاد نفسه بحزم وبتصميم فإنه ينتصر عليها بإذن الله في بضعة أيام ويسير في ركاب المبكرين في النوم.
2- الزواج فإن كثيراً من الشباب العزاب غير منضبطين في حياتهم، بل يسهرون معاً، ويشجع بعضهم بعضاً على السهر، إذ ليس وراءهم أولاد ولا زوجات، أما المتزوج فإنه يشعر أن في عنقه مسؤولية زوجته وأولاده، فيحرص على العودة إليهم مبكراً لئلا يقلقوا، أو يخافوا أو يحتاجوا إليه في هجعة الليل، وهو ليس في البيت، ومن جرب عرف.
3- تنمية الإحساس بالمسؤولية في شتى المجالات التي تعينه؛ فإن المرء يحس أن على كاهله حملاً لابد أن يؤديه، لا يمكن أن يهدر وقته ويفرط فيه، في حين نجد غير المبالي يبدد كنوز الأوقات في سفاسف الأمور، ولا يقدرها قدرها.
4- تعويض الحاجة إلى النوم بالقيلولة، بدلاً من النوم في غير أوقات النوم، فإن النوم بعد العصر أو قبل العشاء مضر كما أسلفنا وقد أوصى عليه الصلاة أمته بقوله: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) صحيح الجامع 4431 هذه بعض الوسائل العملية لعلاج مشكلة السهر، والله الهادي إلى سواء السبيل.(13/209)
سرعة الغضب
وهذه شكوى من شخص يقول: إنني شديد الانفعال، سريع الغضب، وإذا حصل لي استفزاز، فسرعان ما أثور فأكسر وأشتم وألعن وأرمي بالطلاق وقد سببت لي هذه المشكلة حرجاً كبيراً، وكرهني أكثر الناس، حتى زوجتي وأولادي وأعز أصدقائي، فماذا أفعل للتخلص من هذا الداء الوبيل وإطفاء هذه النار الشيطانية؟.
الجواب: الغضب نزعة من نزعات الشيطان، يقع بسببه من السيئات والمصائب ما لا يعلمه إلا الله، ولذلك جاء في الشريعة ذكر واسع لهذا الخلق الذميم، وورد في السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحد من آثاره، فمن ذلك:
1- الاستعاذة بالله من الشيطان: عن سليمان بن صرد قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه (عروق من العنق) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد) . رواه البخاري، الفتح 6/377. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله، سكن غضبه) صحيح الجامع الصغير رقم 695.
2- السكوت: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم فليسكت) رواه الإمام أحمد المسند 1/239، وفي صحيح الجامع 693، 4027. وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين، وبالجملة فالسكوت هو الحل لتلافي كل ذلك.
3- السكون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) . وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه، حدثت له في ذلك قصة: فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه " أي كسره أو حطمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء في هدم الحوض " وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت؟ قال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وذكر الحديث " الحديث بقصته في مسند أحمد 5/152 وانظر صحيح الجامع رقم 694 ". وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوض فأغضبه رجل فقعد.. فيض القدير المناوي 1/408. ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل كما سيرد بعد قليل وربما أتلف مالاً ونحوه، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية، قال العلامة الخطابي رحمه الله في شرحه على أبي داود: (القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد) . والله أعلم سنن أبي داود، ومعه معالم السنن 5/141.
4- حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال: لا تغضب، فردد ذلك مراراً، قال: لا تغضب رواه البخاري فتح الباري 10/465. وفي رواية قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. مسند أحمد 5/373
5- لا تغضب ولك الجنة حديث صحيح: صحيح الجامع 7374، وعزاه ابن حجر إلى الطبراني، انظر الفتح 4/465 إن تذكر ما أعد الله للمتقين الذين يتجنبون أسباب الغضب ويجاهدون أنفسهم في كبته ورده لهو من أعظم ما يعين على إطفاء نار الغضب، ومما ورد الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) رواه الطبراني 12/453 وهو في صحيح الجامع 176. وأجر عظيم آخر في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء) رواه أبو داود 4777 وغيره، وحسنه في صحيح الجامع 6518.
6- معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه أحمد 2/236 والحديث متفق عليه وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة، قال عليه الصلاة والسلام: (الصرُّعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه، ويقشعر شعره فيصرع غضبه) رواه الإمام أحمد 5/367، وحسنه في صحيح الجامع 3859. وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضح هذا الأمر، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال: أفلا أدلكم على من هو أشد منه، رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن، الفتح 10/519.
7- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب: وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهو أسوتنا وقدوتنا، واضحة في أحاديث كثيرة، ومن أبرزها: عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم " أي ما بين العنق والكتف " وقد أثرت بها حاشية البرد، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن، الفتح 10/519. ومن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل غضبنا لله، وإذا انتهكت محارم الله، وهذا هو الغضب المحمود فقد غضب صلى الله عليه وسلم لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفر الناس من الصلاة بطول قراءته، وغضب لما رأى في بيت عائشة ستراً فيه صور ذوات أرواح، وغضب لما كلمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت، وقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ وغضب لما سُئل عن أشياء كرهها، وغير ذلك، فكان غضبه صلى الله عليه وسلم لله وفي الله.
8- معرفة أن رد الغضب من علامات المتقين: وهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض، ومن صفات أنهم:) ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم، ما تشرئب الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم، ومن أخلاقهم أنهم: (إذا ما غضبوا هم يغفرون) .
9- التذكر عند التذكير: الغضب أمر من طبيعة النفس يتفاوت فيه الناس، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب، لكن الصدِّيقين إذا غضبوا فذُكروا بالله ذكروا الله ووقفوا عند حدوده، وهذا مثالهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل " العطاء الكثير " ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس، وكان من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وإن هذا من الجاهلين، فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل رواه البخاري الفتح 8/304. فهكذا يكون المسلم، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان، فقال لمن ذكره: أترى بي بأس أمجنون أنا؟ اذهب رواه البخاري فتح 1/465 نعوذ بالله من الخذلان.
10- معرفة مساويء الغضب: وهي كثيرة مجملها الإضرار بالنفس والآخرين، فينطلق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب، وقد يصل الأمر إلى القتل، وهذه قصة فيها عبرة. عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة " حبل مضفور " فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته؟ قال: نعم قتلته، قال: وكيف قتلته، قال: كنت أنا وهو نتخبط (نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف) من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه (جانب الرأس) فقتلته.. إلى آخر القصة. رواه مسلم في صحيحه 1307. وقد يحصل أدنى من هذا فيكسر ويجرح، فإذا هرب المغضوب عليه عاد الغاضب على نفسه، فربما مزق ثوبه، أو لطم خده، وربما سقط صريعاً أو أغمي عليه، وكذلك قد يكسر الأواني ويحطم المتاع. ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها، هو الطلاق، واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى، فسينبئونك: لقد كانت لحظة غضب. فينتج عن ذلك تشريد الأولاد، والندم والخيبة، والعيش المر، وكله بسبب الغضب، ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسار. وما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب أمر عظيم كما يصف الأطباء كتجلط الدم، وارتفاع الضغط، وزيادة ضربات القلب، وتسارع معدل التنفس، وهذا قد يؤدي إلى سكتة مميتة أو مرض السكري وغيره، نسأل الله العافية.
11- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب: لو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرأة حين غضبه لكره نفسه ومنظره، فلو رأى تغير لونه، وشدة رعدته، وارتجاف أطرافه، وتغير خلقته، وانقلاب سحنته، واحمرار وجهه، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه، واشمأز من هيئته، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله! نعوذ بالله من الشيطان والخذلان.
12- الدعاء: هذا سلاح المؤمن دائماً يطلب من ربه أن يخلصه من الشرور والآفات والأخلاق الرديئة، ويتعوذ بالله أن يتردى في هاوية الكفر أو الظلم بسبب الغضب، ولأن من الثلاث المنجيات: العدل في الرضا والغضب صحيح الجامع 3039 كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) . رواه النسائي في السنن 3/55 والحاكم وهو في صحيح الجامع 1301. والحمد لله رب العالمين.(13/210)
المنهيات الشرعية(13/211)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد سبقت رسالة بعنوان " محرمات استهان بها الناس " جرى فيها عرض لبعض المخالفات الشرعية المتنوعة التي شملت أمورا من الشركيات والكبائر والصغائر مع ذكر أدلتها من الكتاب والسنة مع شيء من التفصيل وبيان حالات واقعية توضح صورا مختلفة لوقوع الناس في تلك الذنوب والآثام.
ولما كانت أبواب المحرمات كثيرة والأمور التي ورد النهي عنها في كلام الله ورسوله متعددة ولما كان من المهم للمسلم أن يتعرف عليها ليجتنب أسباب سخط الله وغضبه ويتفادى ما يفسد عليه دنياه وآخرته رأيت جمع جملة من تلك المنهيات من باب قوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة " آملا أن أنتفع بها وإخواني المسلمون وقد جمعت منها ما تيسر من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة التي صححها أهل العلم بهذا الفن [وغالب الاعتماد على ما صححه العلامة محمد ناصر الدين الألباني في كتبه] مرتبة على بعض أبواب الفقه ولم أورد النص كاملا وإنما اجتزأت منه الشاهد فغالبها مأخوذ من ذات النصوص التي تضمن أكثرها كلمة النهي ومشتقاتها أو " لا " الناهية ونحو ذلك وجرى إضافة شيء من الشرح لبعض الكلمات الغريبة وذكر علة للنهي أحيانا وأسأل الله سبحانه أن يجنبنا الإثم والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يتوب علينا أجمعين والحمد لله رب العالمين.(13/212)
سرد طائفة من النواهي الواردة في القرآن والسنة
لقد نهانا الله ورسوله عن أمور كثيرة لما يترتب على اجتنابها من المصالح العظيمة والفوائد الجمة ودرء المفاسد الكثيرة والشرور الكبيرة، ومن تلك المناهي ما هو محرم ومنها ما هو مكروه وينبغي على المسلم اجتنابها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه " والمسلم الجاد يحرص على اجتناب المنهيات سواء كانت محرمة أو مكروهة ولا يفعل فعل ضعاف الإيمان الذين لا يبالون بالوقوع في المكروهات علما أن التساهل فيها يؤدي إلى الوقوع في المحرمات وهي كالحمى بالنسبة للمحرمات من رتع فيه يوشك أن يرتع فيما حرم الله بالإضافة إلى أن اجتناب المكروه يؤجر عليه صاحبه إذا تركه لله وانطلاقا من هذا لم يحصل التمييز هنا بين ما نهي عنه نهي كراهية وما نهي عنه نهي تحريم ثم إن التمييز بينهما يحتاج إلى علم على أن أكثر ما سيأتي من المنهيات هو من باب المحرم لا المكروه إليك أيها القارئ الكريم طائفة من نواهي الشريعة:(13/213)
في العقيدة
النهي عن الشرك عموما الأكبر والأصغر والخفي
والنهي عن إتيان الكهان والعرافين وعن تصديقهم وعن الذبح لغير الله وعن القول على الله ورسوله بلا علم.
والنهي عن تعليق التمائم ومنها الخرز الذي يعلق لدفع العين وعن التولة، وهي السحر الذي يعمل للتفريق بين شخصين أو الجمع بينهما والنهي عن السحر عموما وعن الكهانة والعرافة، وعن الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس وعن اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق كذلك.
والنهي عن التفكر في ذات الله وإنما يتفكر في خلق الله والنهي أن يموت المسلم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.
والنهي أن يحكم على أحد من أهل الدين بالنار، وعن تكفير المسلم بغير حجة شرعية، وعن السؤال بوجه الله أمرا من أمور الدنيا، وعن منع من سأل بوجه الله بل يعطى ما لم يكن إثما وذلك تعظيما لحق الله تعالى.
والنهي عن سب الدهر لأن الله هو الذي يصرفه والنهي عن الطيرة وهي التشاؤم.
والنهي عن السفر إلى بلاد المشركين والنهي عن مساكنة الكافر وعن اتخاذ الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الله أولياء من دون المؤمنين، وعن اتخاذ الكفار بطانة فيقربون للمشاورة والمودة.
والنهي عن إبطال الأعمال كما إذا قصد الرياء والسمعة والمن.
والنهي عن السفر إلى أي بقعة للعبادة فيها إلا المساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وعن البناء على القبور واتخاذها مساجد.
والنهي عن سب الصحابة وعن الخوض فيما حدث من الفتن بين الصحابة وعن الخوض في القدر، وعن الجدال في القرآن والمماراة فيه بلا علم، وعن مجالسة الذين يخوضون في القرآن بالباطل ويتمارون فيه، وعن عيادة المرضى من القدرية ومن شابههم من أهل البدعة وكذا شهود جنائزهم.
والنهي عن سب آلهة الكفار إذا كان يؤدي إلى سب الله - عز وجل - والنهي عن اتباع السبل أو التفرق في الدين وعن اتخاذ آيات الله هزوا وعن تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وعن الانحناء أو السجود لغير الله وعن الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناسا بهم أو إيناسا لهم وعن مفارقة الجماعة وهم من وافق الحق.
والنهي عن التشبه باليهود والنصارى المجوس في إعفاء الشارب وقص اللحية، بل نقص الشارب ونعفي اللحية، وعن بدء الكفار بالسلام وعن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم فيما يخبرونه عن كتبهم مما لا نعلم صحته. ولا بطلانه، وعن استفتاء أحد من أهل الكتاب في أمر شرعي (بقصد طلب العلم والفائدة) .
والنهي عن الحلف بالأولاد والطواغيت والأنداد وعن الحلف بالآباء وبالأمانة وعن قول ما شاء الله وشئتّ، وأن يقول المملوك ربي وربتي وإنما يقول مولاي وسيدي وسيدتي، وأن يقول المالك عبدي وأمتي وإنما يقول فتاي وفتاتي وغلامي، وعن قول خيبة الدهر، وعن التلاعن بلعنة الله أو بغضبه أو بالنار.(13/214)
في الطهارة
النهي عن البول في الماء الراكد، وعن قضاء الحاجة على قارعة الطريق وفي ظل الناس وفي موارد الماء، وعن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط، واستثنى بعض أهل العلم ما كان داخل البنيان، وعن الاستنجاء باليمين، وأن يتمسح بيمينه والنهي عن الاستنجاء بالعظم والروث لأنه زاد إخواننا من الجن. وعن الاستنجاء بالروث لأنه علف دوابهم.
والنهي أن يمسك الرجل ذكره بيمينه وهو يبول، وعن السلام على من يقضي حاجته.
ونهي المستيقظ من نومه عن إدخال يده في الإناء حتى يغسلها.(13/215)
في الصلاة
النهي عن التنفل عند طلوع الشمس وعند زوالها وعند غروبها وهي تطلع وتغرب بين قرني شيطان، فإذا رآها الكفار عباد الكواكب سجدوا لها وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وهذا في صلاة النافلة التي ليس لها سبب، أما ما كانت لسبب فلا بأس كتحية المسجد.
والنهي عن جعل البيوت مقابر لا يتنفل فيها وعن وصل صلاة فريضة بصلاة حتى يتكلم (بذكر أو غيره) أو يخرج، والنهي أن يصلي بعد أذان الفجر شيئا إلا ركعتي سنة الفجر.
والنهي عن مسابقة الإمام في الصلاة والنهي أن يصلي خلف الصف، وعن الالتفات في الصلاة، وعن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وعن قراءة القرآن في الركوع والسجود فإن دعا في سجوده بدعاء من القرآن فلا بأس.
والنهي أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء فلا يصلي وهو عاري الكتفين والنهي عن الصلاة وهو بحضرة طعام يشتهيه، وعن الصلاة وهو يدافع البول والغائط والريح، لأن كل ذلك يشغل المصلي ويصرفه عن الخشوع المطلوب.
والنهي عن الصلاة في المقبرة والحمام. والنهي في الصلاة عن نقر كنقر الغراب، والتفات كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، وإيطان كإيطان البعير، وهو أن يعتاد مكانا في المسجد لا يصلي إلا فيه، وعن الصلاة في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين.
والنهي وعن مسح الأرض أثناء الصلاة فإن احتاج فواحدة لتسوية الحصى ونحوه وعن تغطية الفم في الصلاة. والنهي أن يرفع المصلي صوته في الصلاة فيؤذي المؤمنين وعن مواصلة قيام الليل إذا أصابه النعاس بل ينام ثم يقوم، وعن قيام الليل كله وبخاصة إذا كان ذلك تباعا.
والنهي عن التثاؤب والنفخ في الصلاة، وعن تخطي رقاب الناس وعن كف الثياب وكفت الشعر في الصلاة، وكف الثياب جمعها وتشميرها وكفت الشعر جمعه وحبسه.
والنهي عن إعادة الصلاة الصحيحة وهذا نافع للموسوسين. وأيضا النهي أن يخرج المصلي من صلاته إذا شك في الحدث حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وعن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة، وعن مس الحصى والعبث والكلام أثناء الخطبة، وعن الاحتباء فيها وهو ضم الفخذين إلى البطن وشدهما بالثوب أو باليدين.
والنهي أن يصلي الرجل شيئا إذا أقيمت الصلاة المكتوبة والنهي أن يقوم الإمام في مكان أرفع من مقام المأمومين دون حاجة، وعن المرور بين يدي المصلي ونهي المصلي أن يدع أحدا يمر بين يديه أو بينه وبين سترته.
والنهي عن البصاق في الصلاة تجاه القبلة وإلى الجهة اليمنى، ولكن يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، وأن يضع المصلي نعليه عن يمينه أو شماله حتى لا يؤذي من بجانبيه وإنما يضعهما بين رجليه. والنهي عن النوم قبل العشاء إذا كان لا يأمن فوات وقتها، وعن الحديث بعد صلاة العشاء إلا لمصلحة شرعية، وأن يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه. ومثله نهي الزائر أن يؤم أصحاب الدار إلا إذا قدموه، والنهي أن يؤم قوما وهم له كارهون لسبب شرعي.(13/216)
في المساجد
النهي عن الشراء والبيع ونشد الضالة في المساجد والنهي عن اتخاذ المساجد طرقا إلا لذكر أو صلاة، والنهي عن إقامة الحدود في المسجد والنهي عن التشبيك بين اليدين إذا خرج عامدا إلى المسجد، لأنه لا يزال في صلاة إذا عمد إلى الصلاة. والنهي أن يخرج أحد من المسجد بعد الأذان حتى يصلي. والنهي أن يجلس الداخل في المسجد حتى يصلي ركعتين، والنهي عن الإسراع بالمشي إذا أقيمت الصلاة، بل يمشي وعليه السكينة والوقار والنهي عن الصف بين السواري والأعمدة في المسجد إلا إذا دعت الحاجة. ونهي من أكل ثوما أو بصلا وكل ما له رائحة كريهة أن يقرب المسجد والنهي أن يمر الرجل في المسجد ومعه ما يؤذي المسلمين، والنهي عن منع المرأة من الذهاب إلى المسجد بالشروط الشرعية، ونهي المرأة أن تضع طيبا إذا خرجت إلى المسجد. والنهي عن مباشرة النساء في الاعتكاف، والنهي عن التباهي في المساجد، وعن تزيينها بتحمير أو تصفير أو زخرفة وكل ما يشغل المصلين.(13/217)
في الجنائز
النهي عن البناء على القبور أو تعليتها ورفعها والجلوس عليها والمشي بينها بالنعال وإنارتها والكتابة عليها ونبشها. والنهي عن اتخاذ القبور مساجد والصلاة إلى القبر إلا صلاة الجنازة في المقبرة والنهي أن تحد المرأة على ميت فوق ثلاثة أيام إلا الزوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، ونهي المتوفى عنها زوجها عن الطيب والاكتحال والحناء والزينة كأنواع الحلي ولبس الثوب المصبوغ (وهو ثوب الزينة) .
والنهي عن النياحة والنهي عن الإسعاد (وهو أن تساعد المرأة من مات له ميت بالبكاء، فهو بكاء لغير الله ثم إن الاجتماع بهذه الصفة على البكاء يعد من النياحة) ومن المحرمات استئجار النائحة، وشق الثوب ونشر الشعر لموت ميت.
والنهي عن نعي أهل الجاهلية أما مجرد الإخبار بموت الميت فلا حرج فيه.(13/218)
في الصيام
النهي عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة بعد الأضحى ويوم الشك، وعن إفراد الجمعة بالصوم وكذلك يوم السبت، والنهي عن صيام الدهر والنهي عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، والنهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان ما لم يكن له صوم معتاد من قبل. والنهي أن يصل يوما بيوم في الصوم دون إفطار بينهما، وعن صيام يوم عرفة بعرفة إلا لمن لم يجد الهدي، والنهي عن المبالغة في المضمضة والاستنشاق إذا كان صائماً. والنهي أن تصوم المرأة صيام نافلة وبعلها شاهد إلا بإذنه، وعن ترك السحور للصائم ولو جرعة ماء. ونهي الصائم عن الرفث والمشاتمة والمقاتلة.(13/219)
الحج والأضحية
النهي عن تأخير الحج بغير عذر، والنهي عن الرفث والفسوق والجدال في الحج.
ونهي المحرم أن يلبس القميص أو العمامة أو السراويل أو البرنس أو الخف، وأن تلبس المحرمة النقاب أو القفازين، والنهي عن قلع شجر الحرم أو قطعه أو خبطه.
والنهي عن حمل السلاح في الحرم أو الصيد فيه أو تنفير الصيد أو التقاط لقطته إلا لمعرف. والنهي عن تطييب من مات محرما وعن تغطية رأسه وعن تحنيطه، بل يدفن في ثيابه فهو يبعث ملبيا.
والنهي أن ينفر الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت (أي طواف الوداع) ورخص للحائض والنفساء في تركه.
والنهي عن ذبح الأضحية قبل صلاة العيد والنهي عن الأضحية المعيبة والنهي أن يعطي الجزار منها شيئا على أنه أجرة ونهي من أراد أن يضحي إذا دخلت عشر ذي الحجة أن يأخذ شيئا من شعره أو أظفاره أو بشرته حتى يضحي.(13/220)
في البيوع والمكاسب
والنهي عن أكل الربا، وعن البيوع التي تشتمل على الجهالة والتغرير والخداع، والنهي عن بيع الشاة باللحم، وبيع فضل الماء وبيع الكلب والهر والدم والخمر والخنزير والأصنام وعسب الفحل وهو ماؤه الذي يلقح به، والنهي عن ثمن الكلب وكل شيْء حرمه الله فثمنه حرام بيعا وشراء. وكذلك النهي عن النجش وهو أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها كما يحصل في كثير من المزادات. والنهي عن كتم عيوب السلعة وإخفائها عند بيعها، والنهي عن البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة، والنهي عن بيع ما لا يملك وعن بيع الشيء قبل أن يحوزه ويقبضه، والنهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل يدا بيد. والنهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه وأن يشتري على شراء أخيه وأن يسوم على سوم أخيه، والنهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وتنجو من العاهة. والنهي عن التطفيف في المكيال والميزان، والنهي عن الاحتكار والنهي عن تلقي الركبان، وهو تلقي من يقدم من خارج البلد سواء للبيع منهم أو البيع لهم بل يتركون حتى يأتوا سوق البلد وفي ذلك مصلحة للجميع.
والنهي أن يبيع حاضر لباد (مثل أن يكون ساكن البلد سمسارا للقادم من البادية) فعليه أن يدعه يبيع بنفسه، والنهي أن يبيع الرجل جلد أضحيته، ونهي الشريك في الأرض أو النخل وما شابهها عن بيع نصيبه حتى يعرضه على شريكه، والنهي عن الأكل بالقرآن والاستكثار به (مثل الذين يقرأون القرآن ويسألون به الناس) والنهي عن أكل أموال اليتامى ظلما وعن القمار والميسر والغصب، والنهي عن أخذ الرشوة وإعطائها والنهي عن السرقة، وعن الاختلاس من الغنيمة وعن النهبة، وهي نهب أموال الناس والنهي عن أكل أموالهم بالباطل وكذلك أخذها بقصد إتلافها والنهي عن بخس الناس أشياءهم، والنهي عن كتمان اللقطة وتغييبها وعن أخذ اللقطة إلا لمن يعرفها، والنهي عن الغش بأنواعه، والنهي أن يأخذ المسلم من مال أخيه المسلم شيئا إلا بطيب نفس منه وما أخذ بسيف الحياء فهو حرام، والنهي عن قبول الهدية بسبب الشفاعة، والنهي عن التبقر في المال وهو الاستكثار منه والتوسع فيه وتفريقه في البلدان بحيث يؤدي إلى توزع قلب صاحبه وانشغاله عن الله.(13/221)
في النكاح
النهي عن التبتل وهو ترك النكاح، والنهي عن الاختصاء، والنهي عن الجمع بين الأختين والنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى خشية القطيعة. والنهي أن ينكح الرجل امرأة أبيه.
والنهي عن الشغار وهو أن يقول مثلا زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي فتكون هذه مقابل الأخرى وهذا ظلم وحرام والنهي عن نكاح المتعة وهو نكاح إلى أجل متفق عليه بين الطرفين ينتهي العقد بانتهاء الأجل، والنهي عن النكاح إلا بولي وشاهدين، والنهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك أو يأذن له، والنهي عن خطبة المعتدة من وفاة زوج تصريحا إنما يكون ذلك بالتلميح، والمطلقة الرجعية لا يجوز خطبتها مطلقا، والنهي عن إخراج المطلقة الرجعية من بيتها ونهي المرأة أن تخرج من بيت زوجها وتتركه في عدة الطلاق الرجعي والنهي عن إمساك المطلقة أو مراجعتها وليس له رغبة فيها وإنما لتطول عليها المدة فتتضرر والنهي أن تكتم المطلقة ما خلق الله في رحمها، والنهي عن اللعب بالطلاق والنهي أن تسأل المرأة طلاق أختها سواء كانت زوجة أو مخطوبة مثل أن تسأل المرأة الرجل أن يطلق زوجته لتتزوجه، والنهي أن يحدث الزوج والزوجة بما يكون بينهما من أمور الاستمتاع والنهي عن إفساد المرأة على زوجها والعكس ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن، ونهي المرأة أن تنفق من مال زوجها إلا بإذنه، ونهي المرأة أن تهجر فراش زوجها فإن فعلت دون عذر شرعي لعنتها الملائكة، والنهي عن إيذاء الناشز إذا رجعت إلى طاعة زوجها. والنهي أن تدخل المرأة أحداً بيت زوجها إلا بإذنه، ويكفي إذنه العام إذا لم يخالف الشرع.
والنهي عن ترك إجابة الدعوة إلى الوليمة بغير عذر شرعي، وعن التهنئة بقولهم بالرفاء والبنين لأنها من تهنئة الجاهلية، وأهل الجاهلية كانوا يكرهون البنات.
والنهي أن يطأ الرجل امرأة فيها حمل من غيره والنهي أن يعزل الرجل عن زوجته الحرة إلا بإذنها والنهي أن يطرق الرجل أهله ويفاجأهم ليلا إذا قدم من سفر فإذا أخبرهم بوقت قدومه فلا حرج، ونهي الزوج أن يأخذ من مهر زوجته بغير طيب نفس منها، والنهي عن الإضرار بالزوجة لتفتدي منه بالمال والنهي عن الظهار والنهي عن الميل إلى إحدى الزوجتين دون الأخرى وعن مجانبة العدل بين الزوجات، وعن نكاح التحليل وهو أن يتزوج مطلقة ثلاثاً لكي يحلها لزوجها الأول.(13/222)
في أمور متعلقة بالنساء
النهي أن تبدي المرأة زينتها إلا للمحارم، ونهي النساء عن التبرج ونهي النساء أن يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، والنهي أن تضار والدة بولدها أو مولود له بولده، والنهي عن التفريق بين الوالدة وولدها، وعن المبالغة في ختان المرأة. والنهي أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، والنهي عن مصافحة المرأة الأجنبية وعن تطيب المرأة عند خروجها ومرورها بعطرها على الرجال وأن يختلي الرجل بالمرأة الأجنبية والنهي عن الدياثة والنهي عن إطلاق النظر إلى المرأة الأجنبية وعن اتباع النظرة النظرة.(13/223)
في الذبائح والأطعمة
النهي عن الميتة سواء ماتت بالغرق أو الخنق أو الصعق أو السقوط من مكان مرتفع أو نطحتها أخرى أو التي افترسها السبع إلا ما ذكي وعن الدم ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله وما ذبح للأصنام وعن الأكل مما ذبح دون أن يذكر اسم الله عليه تعمدا.
والنهي عن أكل لحم الجلالة وهي الدابة التي تتغذى على القاذورات والنجاسات وكذا شرب لبنها وعن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وأكل لحم الحمار الأهلي، وعن قتل الضفدع للدواء وهي مستخبثة لا يؤكل لحمها عند جمهور العلماء.
والنهي عن صبر البهائم وهو أن تمسك ثم ترمى بشيء إلى أن تموت أو أن تحبس بلا علف، والبهيمة التي تصبر بالنبل هي المجثمة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها لأنها لم تذبح بالطريقة الشرعية.
والنهي عن الأكل من صيد الكلب غير المعلم أو إذا خالطته كلاب أخرى فإنه لا يدري أيها الذي صاد والنهي عن أكل الصيد إذا أصابه بآلة فقتلته بثقلها أو صدمتها كالمعراض، أما إذا أصابه بمحدد كالسهم فخرق أو خزق وسمى الله فليأكل.
والنهي عن الذبح بالسن والظفر، وأن يذبح بهيمة بحضرة أخرى، وأن يحد الشفرة أمامها.
والنهي عن أكل طعام المتباريين وهما المتفاخران اللذان يصنعان الطعام للمفاخرة والمراءاة ويتنافسان في ذلك وهو داخل في أكل المال بالباطل.(13/224)
في اللباس والزينة
النهي عن الإسراف في اللباس وعن الذهب للرجال، وعن التختم في الوسطى والتي تليها (أي السبابة) وعن خاتم الحديد.
والنهي عن التعري وعن المشي عريانا وعن كشف الفخذ.
والنهي عن إسبال الثياب وعن جرها خيلاء وعن لبس ثوب الشهرة وثوب الحرير.
والنهي عن المفدم وهو المشبع حمرة بالعصفر فلا يلبسه الرجل.
والنهي عن تشبه الرجال بالنساء ولبس ملابسهن وعن تشبه النساء بالرجال ولبس ملابسهم وعن لبس القصير والرقيق والضيق من الثياب للنساء.
والنهي عن الانتعال قائما وذلك فيما في لبسه قائماً مشقة كالأحذية التي تحتاج إلى ربط. والنهي عن المشي في نعل واحدة لأن الشيطان يمشي في النعل الواحدة.
والنهي عن الوشم وعن تفليج الأسنان ووشرها مثل أخذها بالمبرد ولا يدخل في ذلك تقويم الأسنان بالأسلاك ونحوها.
والنهي عن مشابهة المشركين في إعفاء الشارب وقص اللحية بل نقص الشارب ونعفي اللحية.
والنهي عن النمص وهو نتف شعر الوجه وأشده الأخذ من الحاجبين وعن حلق المرأة شعرها وعن وصل الشعر بشعر مستعار لآدمي أو لغيره للرجال والنساء، وعن نتف الشيب وعن تغيير الشيب بالسواد وعن الصبغ بالسواد وعن القزع وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه.
والنهي عن تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق سواء كان مرسوما أو مطبوعا أو محفورا أو منقوشا أو مصبوبا بقوالب ونحو ذلك وإن كان لابد فاعلا فليصنع الشجر وما لا روح فيه.
والنهي عن افتراش الحرير وجلود النمور وكل ما فيه خيلاء والنهي عن ستر الجدران.(13/225)
في آفات اللسان
النهي عن شهادة الزور.
والنهي عن قذف المحصنة.
والنهي عن قذف البريء وعن البهتان.
والنهي عن الهمز واللمز والتنابز بالألقاب والغيبة والنميمة والسخرية بالمسلمين، وعن التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب وعن السباب والشتم والفحش والخنا والبذاءة وكذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم.
والنهي عن الكذب ومن أشده الكذب في المنام مثل اختلاق الرؤى والمنامات لتحصيل فضيلة أو كسب مادي أو تخويفا لمن بينه وبينهم عداوة ومن عقوبته أن يكلف يوم القيامة بأمر مستحيل وهو أن يعقد بين شعيرتين.
والنهي أن يزكي المرء نفسه، وعن النجوى فلا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه، وعن التناجي بالإثم والعدوان، وعن لعن المؤمن ولعن من لا يستحق اللعن.
والنهي عن رفع الصوت فوق الصوت النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك رفع الصوت فوق صوت القارئ للحديث وكذلك رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم.
والنهي عن سب الأموات، وسب الديك لأنه يوقظ للصلاة وسب الريح لأنها مأمورة وسب الحمى لأنها تنفي الذنوب وسب الشيطان لأنه يتعاظم والمفيد هو الاستعاذة بالله من شره.
والنهي عن الدعاء بالموت أو تمنيه لضر نزل به، وعن الدعاء على النفس والأولاد والخدم والأموال.
والنهي عن تسمية العنب كرما لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الخمر تدعو إلى الكرم، والنهي أن يقول الرجل خبثت نفسي والنهي أن يقول نسيت آية كذا وإنما يقول أنسيت ولا يقل اللهم اغفر لي إن شئت بل يعزم في الدعاء والمسألة، النهي عن إطلاق لفظة سيد على المنافق والنهي عن التقبيح وخاصة تقبيح الزوج زوجته (مثل أن يقول قبحك الله) ، وعن قول راعنا، والنهي عن السؤال قبل السلام، والنهي عن التمادح.(13/226)
في آداب الطعام والشراب
النهي عن الأكل مما بين أيدي الآخرين وعن الأكل من وسط الطعام وإنما يأكل من حافته وجوانبه فإن البركة تنزل وسط الطعام، والنهي عن ترك اللقمة إذا سقطت بل يزيل عنها الأذى ثم يأكلها ولا يدعها للشيطان.
والنهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة والنهي عن الشرب واقفا وعن الشرب من ثلمة الإناء المكسور حتى لا يؤذي نفسه وعن الشرب من فم الإناء والنهي عن التنفس فيه، وعن الشرب بنفس واحد بل يشرب ثلاثا فإنه أهنأ وأمرأ وأبرأ.
والنهي عن النفخ في الطعام والشراب والنهي عن الأكل والشرب بالشمال، وأن يأكل الشخص وهو منبطح على بطنه وأن يقرن الرجل بين تمرتين عند الأكل إلا إذا أذن له صاحبه المشترك معه في الطعام وذلك لما في الإقران من الشره والإجحاف برفيقه، والنهي عن استعمال آنية أهل الكتاب التي يستعملونها فإذا لم يجد غيرها فليغسلها ويأكل فيها، والنهي عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر.(13/227)
في آداب النوم
والنهي عن النوم على سطح ليس له جدار حتى لا يسقط إذا تقلب أثناء نومه والنهي عن مبيت الرجل وحده والنهي عن ترك النار في البيت موقدة حين النوم، والنهي أن يبيت الرجل وفي يده غمر مثل الزهومة والزفر والنهي عن النوم على البطن، والنهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى عند الاستلقاء على القفا إذا كان يكشف العورة، والنهي أن يحدث الإنسان بالرؤيا القبيحة أو أن يفسرها لأنها من تلعب الشيطان.(13/228)
ٍ
النهي عن قتل النفس بغير حق، والنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر وعن الانتحار.
والنهي عن الزنا والنهي عن اللواط وشرب الخمر وعصره وحمله وبيعه. والنهي عن الفرار من الزحف إلا لسبب شرعي، والنهي عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، والنهي عن إرضاء الناس بسخط الله.
والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها في العهود والمواثيق، وعن الغناء والكوبة وهو الطبل وعن المزمار وعن المعازف، والنهي عن انتساب الولد لغير أبيه، والنهي عن التعذيب بالنار، والنهي عن تحريق الأحياء والأموات بالنار والنهي عن المثلة وهي تشويه جثث القتلى، والنهي عن الإعانة على الباطل والتعاون على الإثم والعدوان، والنهي عن حمل السلاح على المسلمين.
والنهي أن يفتي بغير علم والنهي عن يطيع أحداً في معصية الله والنهي عن الحلف كاذبا وعن اليمين الغموس، وعن قبول شهادة الذين يرمون المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء إلا إذا تابوا، وعن تحريم الطيبات التي أحلها الله، وعن اتباع خطوات الشيطان، وعن التقدم بين يدي الله ورسوله لا بقول ولا بفعل.
والنهي أن يستمع لحديث قوم بغير إذنهم، وعن الاطلاع في بيوت قوم بغير إذنهم، وعن الدخول إلى بيوت الناس إلا بعد الاستئذان، وعن النظر إلى العورات،
والنهي أن يدعي ما ليس له والنهي أن يتشبع بما لم يعط وأن يسعى إلى أن يحمد بما لم يفعل.
والنهي عن دخول ديار الأقوام الذين أهلكهم الله بالعذاب إلا مع البكاء أو التباكي ويدخل معتبرا لا متفرجا، والنهي عن اليمين الآثمة، والتجسس وسوء الظن بالصالحين والصالحات والنهي عن التحاسد والتباغض والتدابر والنهي عن التمادي في الباطل.
والنهي عن الكبر والفخر والخيلاء والإعجاب بالنفس وعن الفرح المذموم بالدنيا الذي يسبب الأشر والبطر.
والنهي عن المشي في الأرض مرحاً وعن تصعير الخد للناس وهو علامة الكبر. والنهي أن يعود المسلم في صدقتة ولو بشرائها، والنهي أن يقتل الوالد إذا قتل ولده، وأن ينظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة. وعن النظر إلى فخذ حي أو ميت والنهي عن انتهاك حرمة الشهر الحرام أما مجاهدة الكفار فيه فهي مشروعة.
والنهي عن الإنفاق من الكسب الخبيث.
والنهي عن استيفاء العمل من الأجير وعدم إيفائه أجره والنهي عن عدم العدل في العطية بين الأولاد. والنهي عن المضارة في الوصية وعن الوصية لوارث، لأن الله قد أعطى الورثة حقوقهم، وأن يوصي بماله كله ويترك ورثته فقراء فإن فعل فلا تنفذ وصيته إلا في الثلث.
والنهي عن سوء الجوار وعن إيذاء الجار، وعن هجر المسلم فوق ثلاثة أيام دون سبب شرعي.
والنهي عن الخذف وهو رمي الحصاة بين إصبعين لأنها مظنة الأذى مثل فقء العين وكسر السن، والنهي عن الاعتداء.
والنهي أن يجهر الناس بعضهم على بعض بقراءة القرآن، والنهي عن الدخول بين المتناجيين وأن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما، وأن يقيم شخصاً من مقعده ويجلس هو فيه، وأن يقوم الرجل من عند أخيه حتى يستأذن. والنهي عن القيام على رأس الجالس، وعن الجلوس بين الشمس والظل، لأنه مجلس الشيطان.
والنهي عن الإضرار بالمسلمين، وعن شهر السلاح على المسلم.
والنهي أن يشير إلى أخيه المسلم بحديدة.
والنهي عن تعاطي السيف مسلولا خشية الإيذاء، والنهي عن ردّ الهدية إذا لم يكن فيها محذور شرعي، والنهي عن الإسراف والتبذير، وعن التكلف للضيف، وعن إعطاء المال للسفهاء. ونهي الناس أن يتمنى ما فضل الله بعضهم على بعض من الرجال والنساء. والنهي عن إعطاء المال للسفهاء، والنهي عن التنازع، والنهي عن الرأفة بالزاني والزانية عند إقامة الحد. وعن إبطال الصدقات بالمن والأذى.
والنهي عن كتمان الشهادة، والنهي عن قهر اليتيم ونهر السائل، والنهي عن التداوي بالدواء الخبيث فإن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها، والنهي عن قتل النساء والصبيان في الحرب، والنهي عن التعمق والتكلف والنهي عن الأغلوطات وهي الإتيان بالمسائل المشكلة إلى العالم لمغالطته وتحديه وتشويش فكره أو إرادة السائل إظهار فضله وذكائه أو السؤال عن أمور لم تقع من الفرضيات والجدليات التي لا تنفعه في دينه.
والنهي عن اللعب بالنرد والنهي عن لعن الدواب والنهي عن خمش الوجه عند المصيبة، وعن غش الرعية، والنهي أن ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في أمور الدنيا بل ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يعرف نعمة الله عليه فلا يزدريها، والنهي أن يفخر أحد على أحد،
والنهي عن إخلاف الوعد، والنهي عن خيانة الأمانة، والنهي عن كتم العلم والنهي عن الشفاعة السيئة مثل أن يتوسط في الشر.
والنهي عن سؤال الناس دون حاجة، والنهي عن الجرس في السفر والنهي عن اتخاذ الكلاب إلا لحاجة ككلب الماشية وكلب الزرع والصيد والحراسة.
والنهي عن الضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله والنهي عن كثرة الضحك والنهي عن إكراه المرضى على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم والنهي عن إحداد النظر إلى المجذومين.
والنهي أن يروع المسلم أخاه المسلم أو يأخذ متاعه لاعبا أو جادا والنهي عن الأخذ والإعطاء بالشمال، والنهي عن النذر لأنه لا يرد من قضاء الله شيئا وإنما يستخرج به من البخيل، وعن ممارسة الطب بغير خبرة، وعن قتل النمل والنحل والهدهد.
والنهي أن يسافر الرجل وحده، والنهي أن يمنع الجار جاره أن يغرز خشبة في جداره.
والنهي عن جعل السلام للمعرفة وإنما يسلم على من عرف ومن لم يعرف، وعن إجابة من بدأ بالسؤال قبل السلام، وعن تقبيل الرجل الرجل.
والنهي عن جعل اليمين حائلة بين الحالف وعمل البر بل يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وعن القضاء بين الخصمين وهو غضبان أو يقضي لأحدهما دون أن يسمع كلام الآخر.
والنهي عن إخراج الصبيان خارج البيت عند غروب الشمس حتى يشتد السواد لأنها ساعة تنتشر فيها الشياطين، والنهي عن الجذاذ بالليل وهو قطع الثمار وعن الحصاد بالليل لئلا يخفى على المساكين ولئلا يكون فرارا من الفقراء قال الله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) .
والنهي أن يمر الرجل في السوق ومعه ما يؤذي المسلمين كالأدوات الحادة المكشوفة، والنهي عن الخروج من البلد التي وقع فيها الطاعون أو الدخول إليها.
والنهي عن الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد والأربعاء وإنما يحتجم يوم الخميس والاثنين والثلاثاء، والنهي عن تشميت من عطس فلم يحمد الله، والنهي عن التفل تجاه القبلة، والنهي عن التعريس على قارعة الطريق في السفر، وهو النزول للنوم والاستراحة وذلك لأنها مأوى الدواب، والنهي عن الضحك من الضرطة وهي صوت الريح لأن كل إنسان معرض لذلك ولا يخلو منه شخص وفيه رعاية لنفوس الآخرين.
والنهي عن رد الطيب والوسائد والريحان.
وختاما هذا ما تيسر جمعه من المنهيات، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجنبنا الإثم والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يباعد بيننا وبين أسباب سخطه وأن يتوب علينا إنه سميع قريب مجيب. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(13/229)
ظاهرة ضعف الإيمان(13/230)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} آل عمران /102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء /1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} الأحزاب /70، 71.
أما بعد:
فإن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم: " أحس بقسوة في قلبي " " لا أجد لذة للعبادات " " أشعر أن إيماني في الحضيض "، " لا أتأثر بقراءة القرآن "، " أقع في المعصية بسهولة "، وكثيرون آثار المرض عليهم بادية، وهذا المرض أساس كل مصيبة وسبب كل نقص وبلية.
وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم، وقد سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه قال عليه الصلاة والسلام: (إنما القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2364. وفي رواية (مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة الريح ظهراً لبطن) . أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح: ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني 1/102.
وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً) المرجع السابق رقم 226 وإسناده صحيح: ظلال الجنة 1/102. وفي رواية (أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً) رواه أحمد 6/4 وهو في صحيح الجامع رقم 5147. والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) رواه مسلم رقم 2654.
وحيث (أن الله يحول بين المرء وقلبه) وأنه لن ينجو يوم القيامة (إلا من أتى الله بقلب سليم) وأن الويل (للقاسية قلوبهم من ذكر الله) وأن الوعد بالجنة لـ (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عله الران فيهلك والأمر عظيم والشأن خطير فإن الله قد حذرنا من القلب القاسي والمقفل والمريض والأعمى والأغلف والمنكوس والمطبوع المختوم عليه.
وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه وعلاجه، أسأل الله أن ينفعني بهذا العمل وإخواني المسلمين وأن يجزي بالجزاء الأوفى من ساهم في إخراجه وهو سبحانه المسؤول أن يرقق قلوبنا ويهدينا إنه نعم المولى وهو حسبنا ونعم الوكيل.(13/231)
أولاً: مظاهر ضعف الإيمان(13/232)
إن مرض ضعف الإيمان له أعراض ومظاهر متعددة فمنها:
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات: ومن العصاة من يرتكب معصية يصر عليها ومنهم من يرتكب أنواعاً من المعاصي، وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا، وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) رواه البخاري: فتح 10/486.
2- ومنها: الشعور بقسوة القلب وخشونته: حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء، والله جل وعلا يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} البقرة /74، وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب، ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار.
3- ومنها: عدم إتقان العبادات: ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة هذا إذا حافظ عليها، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء والله سبحانه وتعالى: (… لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه) رواه الترمذي رقم 3479 وهو في السلسة الصحيحة 594.
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان: التكاسل عن الطاعات والعبادات، وإضاعتها، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} النساء /142. ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فقد يؤخر الحج وهو قادر ويتفارط الغزو وهو قاعد، ويتأخر عن صلاة الجماعة ثم عن صلاة الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يخلفهم الله في النار) رواه أبو داود رقم: 679 وهو في صحيح الترغيب رقم 510. ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة، وكذا لو فاتته سنة راتبة أو وِرْد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته، وكذا يتعمد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية، فربما لا يشهد صلاة العيد (مع قول بعض أهل العم بوجوب شهودها) ولا يصلي الكسوف والخسوف، ولا يهتم بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها، فهو راغب عن الأجر، مستغن عنه على النقيض ممن وصفهم الله بقوله: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) الأنبياء /90.
ومن مظاهر التكاسل في الطاعات، التكاسل عن فعل السنن الرواتب، وقيام الليل، والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل فمثلاً صلاة الضحى لا تخطر له ببال فضلاً عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة.
5- ومن المظاهر: ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم، الإيمان بقوله: (الإيمان: الصبر والسماحة) السلسلة الصحيحة رقم 554، 2/86. ووصف المؤمن بأنه: (يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) السلسلة الصحيحة رقم 427.
6- ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم التأثر بآيات القرآن، لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه.
7- ومنها: الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى: فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله المنافقين بقوله: (ولا يذكرون الله إلا قليلاً) النساء /142.
8- ومن مظاهر ضعف الإيمان: عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها} أي: دخلت فيه دخولاً تاماً {نكت فيه نكتة سوداء} أي: نقط فيه نقطة {حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: (أسود مربادا {بياض يسير يخالطه السواد} كالكوز مجخياً {مائلاً منكوساً} لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) رواه مسلم رقم 144. فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي. بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقره كما ذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة أنكرها - كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) رواه أبو داود رقم 4345، وهو في صحيح الجامع 689. فهذا الرضا منه وهو - عمل قلبي - أورثه منزلة الشاهد في الإثم.
9- ومنها حب الظهور وهذا له صور منها:
- الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر، وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئس الفاطمة) (قوله: نعم المرضعة أي أولها لأن معها المال والجاه واللذات، وقوله: بئس الفاطمة أي: آخرها لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة) رواه البخاري رقم 6729. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي، أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل) رواه الطبراني في الكبير 18/72 وهو في صحيح الجامع 1420. ولو كان الأمر قياماً بالواجب وحملاً للمسؤولية في موضع لا يوجد من هو أفضل منه مع بذل الجهد والنصح والعدل كما فعل يوسف عليه السلام إذاً لقلنا أنعم وأكرم، ولكن الأمر في كثير من الأحيان رغبة جامحة في الزعامة وتقدم على الأفضل وغمط أهل الحقوق حقوقهم واستئثار بمركز الأمر والنهي.
- محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له، وصدور المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب -) رواه البيهقي 2/439 وهو في صحيح الجامع 120.
- محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يمثل "ي ينتصف ويقوم " هـ عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار) رواه البخاري في الأدب المفرد 977 انظر السلة الصحيحة 357. ولذلك لما خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير {وفي رواية: وكان أرزنهما} فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) رواه أبو داود رقم 5229 والبخاري في الأدب المفرد 977 وهو في السلسلة الصحيحة 357. ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب لو طبقت السنة فبدئ باليمين، وإذا دخل مجلساً فلا يرضى إلا بأن يقوم أحدهم ليجلس هو رغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه) رواه البخاري فتح 11/62.
10- ومنها: الشح والبخل ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) رواه النسائي: المجتبي 6/13 وهو في صحيح الجامع 2678. أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا) رواه أبو داود 2/324 وهو في صحيح الجامع رقم 2678. وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب، ولا أبلغ من كلام الله في هذا الشأن قال عز وجل: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) سورة محمد /38.
11- ومنها: أن يقول الإنسان ما لا يفعل قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف /2، 3. ولا شك أن هذا نوع النفاق، ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله مكروهاً عند الخلق، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه، وينهاهم عن المنكر ويأتيه.
12- ومنها: السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة، فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه.
13- ومن مظاهر ضعف الإيمان: النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط وغض البصر عن فعل المكروه، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر وإنما يسأل: هل هذا العمل يصل إلى الإثم أم لا؟ هل هو حرام أم أنه مكروه فقط؟ وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في شرك الشبهات والمكروهات، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يوماً ما، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرماً، وهذا عين ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه..) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم رقم 1599 بل إن بعض الناس إذا استفتى في شيء وأخبر أنه محرم، يسأل هل حرمته شديدة أو لا؟! وكم الإثم المترتب عليه؟ فمثل هذا لا يكون لديه اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات بل عنده استعداد لارتكاب أول مراتب الحرام، واستهانة بمحقرات الذنوب مما ينتج عنه الاجتراء على محارم الله، وزوال الحواجز بينه وبين المعصية ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً) قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال: (أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها) رواه ابن ماجة رقم 4245 قال في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات وهو في صحيح الجامع 5028.
فتجده يقع في المحرم دون تحفظ ولا تردد، وهذا أسوأ من الذي يقع في الحرام بعد تردد وتحرج وكلا الشخصين على خطر، ولكن الأول أسوأ من الثاني، وهذا النوع من الناس يستسهل الذنوب نتيجة لضعف إيمانه ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن وحال المنافق بقوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا) أي دفعه بيده. رواه البخاري فتح 11/102، وانظر تغليق التعليق 5/136 المكتب الإسلامي.
14- ومنها: احتقار المعروف، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله؟ إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطاً) مسند أحمد 5/63 وهو في السلسلة الصحيحة 1352. فلو جاء يريد أن يستسقي من بئر وقد رفعت دلوك فأفرغته له، فهذا العمل وإن كان ظاهره صغيراً لا ينبغي احتقاره، وكذا لقيا الأخ بوجه طلق، وإزالة القذر والأوساخ من المسجد، وحتى ولو كان قشة فلعل هذا العمل يكون سبباً في مغفرة الذنوب، والرب يشكر لعبده مثل هذه الأفعال فيغفر له، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأًدخل الجنة) رواه مسلم رقم 1914.
إن النفس التي تحقر أعمال الخير اليسيرة فيه سوء وخلل ويكفي في عقوبة الاستهانة بالحسنات الصغيرة الحرمان من مزية عظيمة دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من أماط أذى عن طريق المسلمين كتب له حسنة ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 593 وهو في السلسلة الصحيحة 5/387. وكان معاذ رضي الله عنه يمشي ورجل معه فرفع حجراً من الطريق فقال {أي الرجل} ما هذا؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رفع حجراً من الطريق كتب له حسنة ومن كانت له حسنة دخل الجنة) المعجم الكبير للطبراني 20/101، السلسلة الصحيحة 5/387.
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة، فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث، فيكتفي بسلامة نفسه، وهذا نتيجة ضعف الإيمان، فإن المؤمن بخلاف ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) مسند أحمد 5/340 وهو في السلسلة الصحيحة 1137.
16- ومن مظاهر ضعف الإيمان: انفصام عرى الأخوة بين المتآخيين، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب {وفي رواية: ففرق بينهما إلا بذنب} يحدثه أحدهما) البخاري في الأدب المفرد رقم 401 وأحمد في المسند 2/68 وهو في السلسلة الصحيحة 637. فهذا دليل على شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها، فهذه الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين إخوانه أحياناً هي نتيجة لتدني الإيمان بسبب ارتكاب المعاصي لأن الله يسقط العاصي من قلوب عباده، فيعيش بينهم أسوأ عيش ساقط القدر زري الحال لا حرمة له، وكذلك يفوته رفقة المؤمنين ودفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.
17- ومنها: عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا لدين، فلا يسعى لنشره ولا يسعى لخدمته على النقيض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسئولية على الفور، وهذا الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى، والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله عز وجل.
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقومون بما يترتب على الدخول في الدين من معاداة الكفار والبراءة منهم ومفاصلتهم، فهذا ثمامة بن أثال رضي الله عنه - رئيس أهل اليمامة - لما أسر وجيء به فربط إلى المسجد وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم وذهب إلى العمرة فلما وصل مكة قال لكفار قريش: " لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري فتح 8/87. فمفاصلته للكفار ومحاصرته لهم اقتصادياً وتقديم كافة الإمكانات المتاحة لخدمة الدعوة حصلت على الفور، لأن إيمانه الجازم استوجب منه هذا العمل.
18- ومن مظاهره الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة فتراه مرتعد الفرائص، مختل التوازن، شارد الذهن، شاخص البصر، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية فتنغلق في عينيه المخارج وتركبه الهموم فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت، وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات.
19- ومنها: كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل) رواه أحمد في المسند 5/252 وهو في صحيح الجامع 5633. فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم، وما أكثر جدال الناس اليوم بالباطل يتجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويكفي دافعاً لترك الخصلة الذميمة قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464.
20- ومنه: التعلق بالدنيا، والشغف بها، والاسترواح إليها، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن، ويعتبر نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا، وقد يحسده، ويتمنى زوال النعمة عنه، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد) . رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464.
21- ومنها: أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً لنص من القرآن أو السنة أو كلام السلف رحمهم الله.
22- ومنها: المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً، فتجده يهتم بالكماليات اهتماماً بالغاً، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من اللباس ويزوق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات، وهي مما لا ضرورة له ولا حاجة - مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه الأموال - ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعيم والترفه المنهي عنه كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال: (إياك والتنعيم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) رواه أبو نعيم في الحلية 5/155 وهو في السلسلة الصحيحة 353 وعند أحمد بلفظ إياي: المسند 5/243.(13/233)
ثانياً: أسباب ضعف الإيمان
إن لضعف الإيمان أسباباً كثيرة ومنها ما هو مشترك مع الأعراض مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا وهذا ذكر لبعض الأسباب مضافاً إلى ما سبق: -
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس، يقول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} الحديد /16. فدلت الآية الكريمة على أن: طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في القلب، فمثلاً: الشخص الذي يبتعد عن إخوانه في الله لفترة طويلة لسفر أو وظيفة ونحو ذلك فإنه يفتقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله، ويستمد منه قوة قلبه والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (إخواننا أغلى عندنا من أهلينا فأهلونا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة) وهذا الابتعاد إذا استمر يخلف وحشة تقلب بعد حين إلى نفرة من تلك الأجواء الإيمانية، يقسو على أثرها القلب ويظلم، ويخبو فيه نور الإيمان. وهذا مما يفسر حدوث الانتكاسة لدى البعض في الإجازات التي يسافرون فيها أو عقب انتقالهم إلى أماكن أخرى للعمل أو الدراسة.
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة، فالشخص الذي يتعلم على يدي رجل صالح يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح وقوة الإيمان، يتعاهده ويحذيه مما عنده من العلم والأخلاق والفضائل، لو ابتعد عنه فترة من الزمن فإن المتعلم يحس بقسوة في قلبه، ولذلك لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووري التراب قال الصحابة: (فأنكرنا قلوبنا) ، وأصابتهم وحشة لأن المربي والمعلم والقدوة عليه الصلاة والسلام قد مات، وجاء وصفهم أيضاً في بعض الآثار (كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة) ولكنه عليه الصلاة والسلام ترك فيمن ترك وراءه جبالاً كل منهم يصلح للخلافة وصار بعضهم لبعض قدوة، أما اليوم فالمسلم في أشد الحاجة إلى قدوة يكون قريباً منه.
3- ومن الأسباب: الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية التي تحيي القلب، فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه وعلى رأسها كتاب الله تعالى وكتب الحديث ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ والذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب، مثل كتب العلامة ابن القيم وابن رجب وغيرهم، والانقطاع عن مثل هذه الكتب مع الإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط أو كتب الأحكام المجردة عن الأدلة أو كتب اللغة والأصول مثلاً من الأشياء التي تورث أحياناً قسوة القلب، وهذا ليس ذماً في كتب اللغة أو الأصول ونحوها بل هو تنبيه لمن أعرض عن كتب التفسير والحديث، فلا تكاد تجده يقرأ فيها مع أنها هي الكتب التي تصل القلب بالله عز وجل فعندما تقرأ في الصحيحين (مثلاً) تشعر أنك تعيش في أجواء العصر الأول مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة، وتتعرض لنفحات إيمانية، من سيرتهم، وحياتهم، وتلك الأحداث التي جرت في عصرهم:
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه، أنفاسه صحبوا
وهذا السبب - وهو الابتعاد عن الكتب الإيمانية - آثاره بادية على أولئك الذين يدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع وغيرها من الموضوعات التي صيغت بمعزل عن الإسلام، وكذا من يعشق قراءة القصص الخيالية وقصص الحب والغرام وهواة تتبع الأخبار غير النافعة من الصحف والمجلات والمذكرات وغيرها من الاهتمام بها والمداومة على متابعتها.
4- ومنها: وجود الإنسان المسلم في وسط يعج بالمعاصي فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها وثالث يدخن ورابع يبسط مجلة ماجنة وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم وهكذا، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة.
وبعض الأوساط لا تذكّر إلا بالدنيا كما هو الحال في كثير من مجالس الناس ومكاتبهم اليوم، فأحاديث التجارة والوظيفة والأموال والاستثمارات ومشكلات العمل والعلاوات والترقيات والانتدابات وغيرها تحتل الصدارة في اهتمامات كثير من الناس وأحاديثهم.
وأما البيوت - فحدث ولا حرج - حيث الطامات والأمور المنكرات مما يندى له جبين المسلم وينصدع قلبه، فالأغاني الماجنة، والأفلام الساقطة، والاختلاط المحرم وغير ذلك مما تمتلئ به بيوت المسلمين، فمثل هذه البيئات تصاب فيها القلوب بالمرض وتصبح قاسية ولا شك.
5- ومنها: الإغراق في الاشتغال بالدنيا حتى يصبح القلب عبداً لها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم) رواه البخاري رقم 2730. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب) رواه الطبراني في الكبير 4/78 وهو في صحيح الجامع 2384. يعني الشيء اليسير الذي يبلغه المقصود. وهذه الظاهرة واضحة في هذه الأيام التي عم فيها الطمع المادي والجشع في الازدياد من حطام الدنيا وصار الناس يركضون وراء التجارات والصناعات والمساهمات وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب) رواه أحمد 5/219 وهو ففي صحيح الجامع 1781.
6- ومن الأسباب أيضاً: الانشغال بالمال والزوجة والأولاد، يقول الله عز وجل: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) الأنفال /28. ويقول عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران /14 ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء وفي مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله فإنه مستقبح مذموم صاحبه، أما إن كان حب ذلك على وجهه الشرعي المعين على طاعة الله فهو محمود صاحبه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة) رواه أحمد 3/128 وهو في صحيح الجامع 3124. وكثير من الناس ينساق وراء الزوجة في المحرمات وينساق وراء الأولاد منشغلاً عن طاعة الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة) رواه الطبراني في الكبير 24/241 وهو في صحيح الجامع 1990. قوله مبخلة: إذا أراد الإنسان أن ينفق في سبيل الله ذكره الشيطان بأولاده فيقول: أولادي أحق بالمال أبقيه لهم يحتاجونه من بعدي فيبخل عن الإنفاق في سبيل الله، وقوله: مجبنة أي إذا أراد الرجل أن يجاهد في سبيل الله يأتيه الشيطان فيقول تقتل وتموت فيصبح الأولاد ضياعاً يتامى، فيقعد عن الخروج للجهاد، وقوله: مجهلة أي يشغل الأب عن طلب العلم والسعي في تحصيله وحضور مجالسه وقراءة كتبه. وقوله: محزنة أي إذا مرض حزن عليه وإذا طلب الولد شيئاً لا يقدر عليه الأب حزن الأب، وإذا كبر وعق أباه فذلك الحزن الدائم والهم اللازم.
وليس المقصود ترك الزواج والإنجاب ولا ترك تربية الأولاد، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات.
وأما فتنة المال فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) رواه الترمذي 2336 وهو في صحيح الجامع 2148. والحرص على المال أشد إفساداً للدين من الذئب الذي تسلط على زريبة غنم وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الترمذي رقم 2376 وهو في صحيح الجامع 5620. ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الكفاية دون توسع يشغل عن ذكر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله) رواه أحمد 5/290 وهو في صحيح الجامع 2386. وقد تهدد النبي صلى الله عليه وسلم المكثرين من جمع الأموال إلا أهل الصدقات فقال: (ويل للمكثرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا أربع عن يمينه وعن شماله ومن قدامه ومن ورائه) رواه ابن ماجه رقم 4129 وهو في صحيح الجامع 7137. يعني في أبواب الصدقة ووجوه البر.
7- طول الأمل: قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وقال علي رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة) فتح الباري 11/236. وجاء في الأثر: (أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا) " ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى: (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم) وقيل: من قصر أمله قل همه وتنور قلبه لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة … " فتح الباري 11/237.
8- ومن أسباب ضعف الإيمان وقسوة القلب: (الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة، فكثرة الأكل تبلد الذهن وتثقل البدن عن طاعة الرحمن وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان وكما قيل: " من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً وخسر أجراً كبيراً " فالإفراط في الكلام يقسي القلب، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجه 4193 وهو في صحيح الجامع. وكذلك الوقت الذي لا يملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان.
وأسباب ضعف الإيمان كثيرة ليس بالوسع حصرها، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر منها، والعاقل يدرك ذلك من نفسه، نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويقينا شر أنفسنا.(13/234)
ثالثاً: علاج ضعف الإيمان
روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فأسالوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الحاكم في المستدرك 1/4 وهو في السلسلة الصحيحة 1585 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/52 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن. يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديماً، وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم وهذه الصورة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم، إذ تجلت عنه فأضاء) رواه أبو نعيم في الحلية 2/196 وهو في السلسلة الصحيحة 2268. فالقمر تأتي عليه أحياناً سحابة تغطي ضوءه، وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحب مظلمة من المعصية، فتحجب نوره، فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب، وعاد نور قلبه يضيء كما كان.
ومن المرتكزات المهمة في فهم قضية ضعف الإيمان وتصور علاجها هو معرفة أن الإيمان يزيد وينقص وهذا من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة، فإنهم يقولون أن الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالجنان (أي القلب) وعمل بالأركان (أي الجوارح) يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد دلت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة فمنها قوله تعالى: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) وقوله: (أيكم زادته هذه إيماناً) وقوله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) البخاري فتح 1/51. وأثر الطاعة والمعصية في الإيمان زيادة ونقصاناً أمر معلوم مشاهد ومجرب فلو أن شخصاً خرج يمشي في السوق ينظر إلى المتبرجات ويسمع صخب أهل السوق ولغوهم ثم خرج فذهب إلى المقبرة فدخلها فتفكر ورق قلبه فإنه يجد فرقاً بيناً بين الحالتين فإذا القلب يتغير بسرعة.
وعن علاقة المفهوم بموضوعنا يقول بعض السلف: " من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه، وما ينقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه؟ أو ينقص؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه؟ " شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/140.
ومما ينبغي معرفته أن نقص الإيمان إذا أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم فهذا فتور خطير مذموم يجب عليه التوبة إلى الله والشروع في علاج نفسه أما إذا لم يؤد الفتور إلى ترك واجب أو فعل محرم وإنما كان تراجعاً في عمل مستحبات مثلاً فعلى صاحبه أن يسوس نفسه ويسدد ويقارب حتى يعود إلى نشاطه وقوته في العبادة وهذا مما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة - يعني نشاط وقوة - ولكل شرة فترة - يعني ضعف وفتور - فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك) رواه أحمد 2/210 وهو في صحيح الترغيب رقم 55.
وقبل الشروع في الكلام عن العلاج يحسن ذكر ملاحظة وهي: أن كثيراً من الذين يحسون بقسوة قلوبهم يبحثون عن علاجات خارجية يريدون الاعتماد فيها على الآخرين مع أن بمقدورهم - لو أرادوا - علاج أنفسهم بأنفسهم وهذا هو الأصل لأن الإيمان علاقة بين العبد وربه وفيما يلي ذكر عدد من الوسائل الشرعية التي يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل وتوطين النفس على المجاهدة: -
1- تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء ونوراً يهدي به سبحانه من شاء من عباده، ولا شك أن فيه علاجاً عظيماً ودواء فعالاً قال الله عز وجل: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) أما طريقة العلاج فهي التفكر والتدبر.
(وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائم بالليل، حتى إنه في إحدى الليالي قام يردد آية واحدة من كتاب الله، وهو يصلي لم يجاوزها حتى أصبح وهي قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} سورة المائدة /118) رواه أحمد 4/149 وفي صفة الصلاة للألباني ص: 102.
وكان عليه الصلاة والسلام يتدبر القرآن وقد بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً، روى ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن عطارة قال: دخلت أنا وعبيد الله بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد الله بن عمير: (حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي - تعني يصلي - فقال: يا عائشة، ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض …} آل عمران /190) السلسلة الصحيحة 1/106. وهذا يدل على وجوب تدبر هذه الآيات.
والقرآن فيه توحيد ووعد ووعيد وأحكام وأخبار وقصص وآداب وأخلاق وآثارها في النفس متنوعة وكذلك من السور ما يرهب النفس أكثر من سور أخرى، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب) السلسلة الصحيحة 2/679. وفي رواية (هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت) رواه الترمذي 3297 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 955. لقد شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة التي ملأت بثقلها قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فظهرت آثارها على شعره وجسده، (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) .
وقد كان صحابته صلى الله عليه وسلم يقرأون ويتدبرون ويتأثرون وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً أسيفا رقيق القلب إذا صلّى بالناس وقرأ كلام الله لا يتمالك نفسه من البكاء ومرض عمر من أثر تلاوة قول الله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع) الأثر بأسانيده في تفسير ابن كثير 7/406. وسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ قول الله عن يعقوب عليه السلام: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) مناقب عمر لابن الجوزي 167. وقال عثمان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله، وقتل شهيداً مظلوماً ودمه على مصحفه وأخبار الصحابة في هذا كثيرة، وعن أيوب قال سمعت سعيداً - ابن جبير - يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً عشرين مرة (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) سير أعلام النبلاء 4/324. وهي أخر آية نزلت من القرآن وتمامها (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) . وقال إبراهيم بن بشار: الآية التي مات فيها علي بن الفضيل: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد) في هذا الموضع مات وكنت فيمن صلّى عليه رحمه الله. سير أعلام النبلاء 4/446. وحتى عند سجدات التلاوة كانت لهم مواقف فمنها قصة ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) الإسراء /109. فسجد سجدة التلاوة ثم قال معاتباً نفسه: هذا السجود فأين البكاء؟ .
ومن أعظم التدبر أمثال القرآن لأن الله سبحانه وتعالى لما ضرب لنا الأمثال في القرآن ندبنا إلى التفكر والتذكر فقال: (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) وقال: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) .
تفكر أحد السلف مرة في مثل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه فجعل يبكي، فسئل ما يبكيك؟ فقال: إن الله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} العنكبوت /43. وأنا لم أعقل المثل، فلست بعالم، فأبكي على ضياع العلم مني.
وقد ضرب الله لنا في القرآن أمثلة كثيرة منها: مثل الذي استوقد ناراً، ومثل الذي ينعق بما لا يسمع، ومثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل، ومثل الكلب الذي يلهث، والحمار يحمل أسفاراً، والذباب، والعنكبوت، ومثل الأعمى والأصم، والبصير والسميع، ومثل الرماد الذي اشتدت به الريح، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والماء النازل من السماء ومثل المشكاة التي فيها مصباح، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والرجل الذي فيه شركاء متشاكسون، وغيرها، والمقصود الرجوع إلى آيات الأمثال والاعتناء بها عناية خاصة.
ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن فيقول: " ملاك ذلك أمران: أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها، وتدبر وفهم ما يراد منه، وما نزل لأجله، وأخذ نصيبك من كل آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله ".
2- استشعار عظمة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب فهو ملكها وسيدها وهي بمثابة جنوده وأتباعه فإذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت.
والنصوص من الكتاب والسنة في عظمة الله كثيرة إذا تأملها المسلم ارتجف قلبه وتواضعت نفسه للعلي العظيم وخضعت أركانه للسميع العليم وازداد خشوعاً لرب الأولين والآخرين فمن ذلك ما جاء من أسمائه الكثيرة وصفاته سبحانه فهو العظيم المهيمن الجبار المتكبر القوي القهار الكبير المتعال، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وهو القاهر فوق عباده ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عزيز ذو انتقام، قيوم لا ينام، وسع كل شيء علماً، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقد وصف سعة علمه بقوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) الأنعام /59. ومن عظمته ما أخبر عن نفسه بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الزمر/67. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض) رواه البخاري 6947. ويتضعضع الفؤاد ويرجف القلب عند التأمل في قصة موسى عليه السلام لما قال: (رب أرني أنظر إليك) فقال الله: {قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} الأعراف/143. ولما فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قرأها وقال بيده: (هكذا - ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فساخ الجبل) الحديث رواه الترمذي برقم 3074 وأحمد 3/125، 209 وساق ابن كثير طرق الحديث في تفسيره 3/466، قال ابن القيم: إسناده صحيح على شرط مسلم، وخرجه الألباني وصححه في تخريج السنة لابن أبي عاصم حديث 480. والله سبحانه وتعالى: (حجابه النور، لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) رواه مسلم برقم 197. ومن عظمة الله ما حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير) رواه البخاري 7043. والنصوص في هذا كثيرة والمقصود أن استشعار عظمة الرب بالتأمل في هذه النصوص وغيرها من أنفع الأشياء في علاج ضعف الإيمان ويصف ابن القيم رحمه الله عظمة الله بكلام عذب جميل فيقول: (يدبر أمر الممالك ويأمر وينهى ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو، قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً.. ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية.. (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين ... لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة.. هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس دونه شيء، تبارك وتعالى أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأولى من شكر، وارأف من ملك، وأجود من سئل … هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والصمد فلا ولد له، والعلي فلا شبيه له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء زائل إلا ملكه.. لن يطاع إلا بأذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، عطاؤه كلام وعذابه كلام (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) الوابل الصيب ص: 125 بتصرف.
3- طلب العلم الشرعي: وهو العلم الذي يؤدي تحصيله إلى خشية الله وزيادة الإيمان به عز وجل كما قال الله تعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) فلا يستوي في الإيمان الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فكيف يستوي من يعلم تفاصيل الشريعة ومعنى الشهادتين ومقتضياتهما وما بعد الموت من فتنة القبر وأهوال المحشر ومواقف القيامة ونعيم الجنة وعذاب النار وحكمة الشريعة في أحكام الحلال والحرام وتفصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أنواع العلم كيف يستوي هذا في الإيمان ومن هو جاهل بالدين وأحكامه وما جاءت به الشريعة من أمور الغيب، حظه من الدين التقليد وبضاعته من العلم مزجاة، (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) .
4- لزوم حلق الذكر وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان لعدة أسباب منها ما يحصل فيها من ذكر الله، وغشيان الرحمة، ونزول السكينة، وحف الملائكة للذاكرين، وذكر الله لهم في الملأ الأعلى، ومباهاته بهم الملائكة، ومغفرته لذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) صحيح مسلم رقم 2700. وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) صحيح الجامع 5507. قال ابن حجر رحمه الله: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم. فتح الباري 11/209. ومما يدل على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال: قلت نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول قال: قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات - يعني المعاش من مال أو حرفة أو صنعة - فنسينا كثيراً، قال أبو بكر فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذاك) قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كانا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات صحيح مسلم رقم 2750.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمونه إيماناً، قال معاذ رضي الله عنه لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) إسناده صحيح: أربع مسائل في الإيمان، تحقيق الألباني ص: 72.
5- ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها، وهذا من أعظم أسباب العلاج وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان ظاهر كبير، وقد ضرب الصديق في ذلك مثلاً عظيماً لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم، أصحابه (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر أنا، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا، قال، فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً، قال أبو بكر أنا، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب 1 حديث 12.
فهذه القصة، تدل على أن الصديق رضي الله عنه كان حريصاً على اغتنام الفرص، وتنويع العبادات ولما وقع السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم مفاجئاً دل ذلك على أن أيام أبي بكر رضي الله عنه كانت حافلة بالطاعات، وقد بلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها مبلغاً عظيماً، ومثال ذلك عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف منهم حماد بن سلمة قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي: " لو قيل لحماد بن سلمة: أنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً " سير أعلام النبلاء 7/447.(13/235)
وينبغي أن يراعي المسلم في مسألة الأعمال الصالحة أموراً منها:
المسارعة إليها لقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) وقال تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) ومدلول هذه الآيات كان محركاً للمسارعة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك في قصة غزوة بدر لما دنا المشركون قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال: نعم قال: بخ بخ - كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك بخ بخ) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها قال: فإنك من أهلها، فاخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه لحياة طويلة قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. صحيح مسلم 1901. ومن قبل أسرع موسى للقاء الله وقال: (وعجلت إليك ربي لترضى) وامتدح الله زكريا وأهله فقال: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء - وفي رواية خير - إلا في عمل الآخرة) رواه أبو داود في سننه 5/157 وهو في صحيح الجامع 3009.
الاستمرار عليها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، عن ربه في الحديث القدسي: (ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) صحيح البخاري 6137. وكلمة (ما يزال) تفيد الاستمرارية، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا الحج والعمرة) رواه الترمذي رقم 810 وهو في السلسلة الصحيحة 1200. والمتابعة تعني كذلك الاستمرار وهذا المبدأ مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. والمداومة على الأعمال الصالحة تقوي الإيمان وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أدومها وإن قل) رواه البخاري فتح11/194. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا عمل عملاً أثبته. رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين، باب 18 حديث 141.
الاجتهاد فيها: إن علاج قسوة القلب لا يصلح أن يكون علاجاً مؤقتاً يتحسن فيه الإيمان فترة من الوقت ثم يعود إلى الضعف بل ينبغي أن يكون نهوضاً متواصلاً بالإيمان وهذا لن يكون إلا بالاجتهاد في العبادة. وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحولاً عدة فمنها: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) . وقال الله تعالى عنهم: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) . والاطلاع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين شيء يبعث على الإعجاب ويقود إلى الاقتداء فمن ذلك أنه كان لهم سُبُع من القرآن يختمونه كل يوم وكانوا يقومون الليل في الغزو والقتال ويذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن، يصفون أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يتفكرون في خلق السموات والأرض، يخادع أحدهم زوجته كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، يقسمون الليل على أنفسهم وأهليهم ونهارهم في الصيام والتعلم والتعليم واتباع الجنائز وعيادة المرضى وقضاء حوائج الناس تمر على بعضهم السنون لا تفوتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام ينتظرون الصلاة بعد الصلاة يتفقد أحدهم عيال أخيه بعد موته سنوات ينفق عليهم، ومن هذا حاله فإيمانه في ازدياد.
عدم إملال النفس: ليس المقصود من المداومة على العبادات أو الاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادات ما يطيق ويسدد ويقارب وينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقصد عند الفتور، ويدل على هذه التصورات مجموعة من الأحاديث منه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا..) صحيح البخاري 39. وفي رواية: (والقصد القصد تبلغوا) صحيح البخاري 6099، وقال البخاري رحمه الله باب ما يكره من التشديد في العبادة، عن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: (ما هذا الحبل) قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) صحيح البخاري 1099. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً نهاه عن ذلك وبين السبب بقوله: (فإنك إذا فعلت هجمت عينك - يعني غارت أو ضعفت لكثرة السهر - ونفهت نفسك - يعني كلت) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل) رواه البخاري، فتح 3/38.
استدراك ما فات منها: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل، أو شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل) رواه النسائي وغيره، والمجتبي: 2/68، صحيح الجامع 1228. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها وكان إذا فاته القيام من الليل غلبته عيناه بنوم أو وجع صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار) رواه أحمد 6/95. ولما رأته أم سلمة رضي الله عنها يصلي ركعتين بعد العصر وسألته أجابها عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) رواه البخاري فتح 3/105. (وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده) رواه الترمذي رقم 427 وصحيح سنن الترمذي رقم 350. (وكان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الظهر) صحيح الجامع 4759. فهذا الأحاديث تدل على قضاء السنن الرواتب، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان أولها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض " أي رمضان " تهذيب سنن أبي داود 3/318، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً. فتح الباري 4/285.
رجاء القبول مع الخوف من عدم القبول، وبعد الاجتهاد في الطاعات، ينبغي الخوف من ردها على صاحبها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات) رواه الترمذي 3175 وهو في السلسلة الصحيحة 1/162. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين) تفسير ابن كثير 3/67. ومن صفات المؤمنين احتقار النفس أمام الواجب من حق الله تعالى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة) رواه الإمام أحمد، المسند 4/185 وهو في صحيح الجامع 5249. فمن عرف الله وعرف النفس يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفي ولو جاء بعمل الثقلين، إنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله.
6- تنويع العبادات: من رحمة الله وحكمته أن نوع علينا العبادات فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة ومنها ما يكون بالمال كالزكاة ومنها ما يكون بهما معاً كالحج ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة والفرائض تتنوع وكذلك السنن مثل الصلاة فيها رواتب ثنتي عشرة ركعة في اليوم ومنها ما هو أقل منزلة كالأربع قبل العصر وصلاة الضحى ومنها ما هو أعلى كصلاة الليل وهو كيفيات متعددة منها مثنى مثنى أو أربع ثم أربع ثم يوتر ومنها خمس أو سبع أو تسع بتشهد واحد، وهكذا من يتتبع العبادات يجد تنويعاً عظيماً في الأعداد والأوقات والهيئات والصفات والأحكام ولعل من الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد، ثم إن النفس ليست متماثلة في انجذابها وإمكاناتها وقد تستلذ بعض النفوس بعبادات أكثر من غيرها، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) رواه البخاري رقم 1798. والمقصود المكثرون من أصحاب النوافل في كل عبادة أما الفرائض فلا بد من تأديتها للجميع، وقال صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنة) رواه الترمذي رقم 1900 وهو في صحيح الجامع 7145. أي بر الوالدين، يمكن الاستفادة من هذا التنوع في علاج ضعف الإيمان والاستكثار من العبادات التي تميل إليها النفس مع المحافظة على الفرائض والواجبات التي أمر الله بها، وهذا ويمكن للمرء المسلم إذا استعرض نصوص العبادات أن يجد أنواعاً فريدة لها آثار ومعان لطيفة في النفس قد لا توجد في غيرها وهذان مثالان:
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله - أي يبغضهم - أما الثلاثة الذين يحبهم الله الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) مسند أحمد 5/151 وهو في صحيح الجامع 3074.
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ أرحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك) الحديث رواه الطبراني وله شواهد، انظر السلسلة الصحيحة 2/533. وهذا شاهد مباشر لموضوع علاج ضعف الإيمان.
7- ومن علاجات ضعف الإيمان: الخوف من سوء الخاتمة، لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب، أما سوء الخاتمة فأسبابها كثيرة منها: ضعف الإيمان والانهماك في المعاصي وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك صوراً مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ - أي يطعن - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه - أي يشربه في تمهل ويتجرعه- في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) صحيح مسلم رقم 109. وقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم وقائع من هذا فمنها قصة الرجل الذي كان مع عسكر المسلمين يقاتل الكفار قتالاً لم يقاتله أحد مثله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه من أهل النار) فتتبعه رجل من المسلمين فأصاب الرجل جرح شديد فاستعجل الموت فوضع سيفه بين ثديه واتكأ عليه فقتل نفسه. القصة في صحيح البخاري، فتح 7/471. وأحوال الناس في سوء الخاتمة كثيرة سطر أهل العلم عدداً منها، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب " الداء والدواء " أنه قيل لبعضهم عند موته قل لا إله إلا الله فقال: لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء، وقيل لتاجر - ممن ألهته تجارته عن ذكر الله - لما حضرته الوفاة قل لا إله إلا الله فجعل يقول هذه قطعة جيدة هذه على قدرك هذه مشتراها رخيص حتى مات. طريق الهجرتين ص: 308، ويروى أن بعض جنود الملك الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله فقال: الناصر مولاي فأعاد عليه القول وأبوه يكرر الناصر مولاي، الناصر مولاي ثم مات، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا، وقيل لأحد المرابين عند موته قل لا إله إلا الله فجعل يقول عشرة بأحد عشر يكررها حتى مات. الداء والدواء ص: 170، 289. وبعضهم قد يسود لونه أو يتحول عن القبلة وقال ابن الجوزي رحمه الله لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة خير وهو يقول في ليالي موته " ربي هو ذا يظلمني " - تعالى الله عن قوله- فاتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت ثم قال ابن الجوزي رحمه الله: فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها هذا اليوم. صيد الخواطر 137. وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم. الداء والدواء 171.
8- الإكثار من ذكر الموت: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات يعني الموت) رواه الترمذي رقم 2307 وهو في صحيح الجامع 1210. وتذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ولا يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ومن أعظم ما يذكر بالموت زيارة القبور ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارتها فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً) رواه الحاكم 1/376 وهو في صحيح الجامع 4584. بل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: (زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) رواه مسلم 3/65. فزيارة القبور من أعظم وسائل ترقيق القلوب وينتفع الزائر بذكر الموت وكذلك ينتفع الموتى بالدعاء لهم ومما ورد في السنة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) رواه مسلم رقم 974. وينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ويقصد بزيارته وجه الله وإصلاح فساد قلبه ثم يعتبر بمن صار تحت التراب وانقطع عن الأهل والأحباب فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم ومحا التراب محاسن وجوههم وافترقت في القبور أجزاؤهم وترمل بعدهم نساؤهم وشمل ذل اليتم أولادهم وليتذكر آفة الانخداع بالأسباب والركون إلى الصحة والشباب والميل إلى اللهو واللعب وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليتفكر في حال الميت كيف تهدمت رجلاه، وسالت عيناه، وأكل الدود لسانه، وأبلى التراب أسنانه. التذكرة للقرطبي ص: 16 وما بعدها بتصرف.
يا من يصيح إلى داعي الشقاء وقد
نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى
في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل
لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقي ولا الدنيا ولا الفلك
الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها
فراقها الثاويان البدو والحضر
الأبيات لعبد الله بن محمد الأندلسي الشنتريني: تفسير ابن كثير 5/436.
ومن أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة، ومما يؤثر في النفس من مشاهد الموت رؤية المحتضرين فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويمنع الأجفان من النوم والأبدان من الراحة ويبعث على العمل ويزيد في الاجتهاد. دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه وشدة وما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال: يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم والله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه. التذكرة 17.
ومن تمام الشعور بالموت الصلاة على الجنازة، وحملها على الأعناق والذهاب بها إلى المقبرة ودفن الميت، ومواراة التراب عليه وهذا يذكر بالآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة) رواه أحمد 3/48 وهو في صحيح الجامع 4109. وبالإضافة إلى ذلك فإن في اتباع الجنازة أجراً عظيماً ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (من شهد الجنازة من بيتها - وفي رواية: من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً - حتى يصل عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان من الأجر) قيل يا رسول الله وما القيراطان قال: (مثل الجبلين العظيمين) (وفي رواية كل قيراط مثل أحد) . رواه الشيخان وغيرها والسياق مجموع من الروايات: أحكام الجنائز للألباني ص: 67.
وكان السلف رحمهم الله يذكرون الموت عند نصح رجل يواقع معصية، فهذا أحد السلف رحمه الله وكان في مجلسه رجل ذكر آخر بغيبة فقال واعظاً الذي يغتاب: " اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك " أي عند التكفين.
9- ومن الأمور التي تجدد الإيمان بالقلب: تذكر منازل الآخرة، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب، يبصر به الوعد والوعيد، والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثرة العطاش، وقل الوارد، ونصب الجسر للعبور، ولز الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضاً تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة أنقضائها. مدارج السالكين 1/123. والقرآن العظيم فيه ذكر كثير لمشاهد اليوم الآخر في سورة ق والواقعة والقيامة والمرسلات والنبأ والمطففين والتكوير، وكذلك في مصنفات الحديث مذكورة فيها تحت أبواب مثل القيامة، والرقاق، والجنة، والنار ومن المهم كذلك في هذا الجانب قراءة كتب أهل العلم المفردة لهذا الغرض مثل حادي الأرواح لابن القيم، والنهاية في الفتن والملاحم لابن كثير، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، والقيامة الكبرى والجنة والنار لعمر الأشقر وغيرها، والمقصود أن مما يزيد الإيمان العلم بمشاهد القيامة كالبعث والنشور، والحشر، والشفاعة، والحساب، والجزاء، والقصاص، والميزان، والحوض، والصراط، ودار القرار، والجنة أو النار.
10- ومن الأمور التي تجدد الإيمان: التفاعل مع الآيات الكونية روى البخاري ومسلم وغيرهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه) فقالت عائشة: يا رسول الله، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال: (يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: (هذا عارض ممطرنا) رواه مسلم 899. وكان صلى الله عليه وسلم يقوم فزعاً إذا رأى الكسوف كما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة) . فتح الباري 2/545. وأمرنا عليه الصلاة والسلام عند الكسوف والخسوف أن نفزع إلى الصلاة وأخبر أنهما من آيات الله التي يخوف بها عباده، ولا شك أن تفاعل القلب مع هذه الظواهر والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويذكر بعذاب الله، وبطشه، وعظمته، وقوته، ونقمته، وقالت عائشة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشار إلى القمر فقال: يا عائشة: استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) رواه أحمد 6/237 وهو في السلسلة الصحيحة. ومن أمثلة ذلك أيضاً: التأثر عند المرور بمواضع الخسف والعذاب وقبور الظالمين، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصلوا الحجر: (لا تدخلوا عليهم هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم) رواه البخاري رقم 423. هذا والناس اليوم يذهبون إليها للسياحة والتصوير فتأمل!!.
11- ومن الأمور بالغة الأهمية في علاج ضعف الإيمان ذكر الله تعالى وهو جلاء القلوب وشفاؤها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو روح الأعمال الصالحة وقد أمر الله به فقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) ووعد بالفلاح من أكثر منه فقال: (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) وذكر الله أكبر من كل شيء قال الله تعالى: (ولذكر الله أكبر) وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شرائع الإسلام فقال له: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه الترمذي 3375 وقال حديث حسن غريب وهو في صحيح الكلم 3. وهو مرضاة للرحمن مطردة للشيطان مزيل للهم والغم وجالب للرزق فاتح لأبواب المعرفة وهو غراس الجنة وسبب لترك آفات اللسان، وهو سلوة أحزان الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فعوضهم الله بالذكر الذي ينوب عن الطاعات البدنية والمالية ويقوم مقامها، وترك ذكر الله من أسباب قسوة القلب:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم
وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وليس لهم حتى النشور نشور
ولذلك لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (24) سورة الكهف. وقال الله تعالى مبيناً أثر الذكر على القلب: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد /28. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن العلاج بالذكر: " في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر. وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل و " الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى قال مكحول ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء " الوابل الصيب رافع الكلم الطيب 142.
وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان. قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإذا دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين - أي يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يتقرب من قلب المؤمن - فيقولون ما لهذا، فيقال: قد مسه الإنسي! مدارج السالكين 2/424. وأكثر الناس الذين تمسهم الشياطين هم من أهل الغفلة الذين لم يتحصنوا بالأوراد والأذكار، ولذلك سهل تلبس الشياطين بهم.
وبعض الذين يشكون من ضعف الإيمان تثقل عليهم بعض وسائل العلاج كقيام الليل والنوافل فيكون من المناسب لهم البدء بهذا العلاج والحرص عليه فيحفظون من الأذكار المطلقة ما يرددونه باستمرار مثل: " لا إله إلا الله لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير " و " سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " وغيرها، ويحفظون كذلك من الأذكار المقيدة التي جاءت في السنة ما يرددونه إذا حان وقته زماناً أو مكاناً مثل أذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ والرؤى والأحلام والأكل والخلاء والسفر والمطر والأذان والمسجد والاستخارة والمصيبة والمقابر والريح ورؤية الهلال وركوب الدابة والسلام والعطاس وصياح الديكة والنهيق والنباح وكفارة المجلس ورؤية أهل البلاء وغيرها، ولا ريب أن من حافظ على هذه سيجد الأثر مباشراً في قلبه. لشيخ الإسلام ابن تيمة رسالة مفيدة في الأذكار اسماها الكلم الطيب اختصرها الألباني باسم صحيح الكلم الطيب.
12- ومن الأمور التي تجدد الإيمان مناجاة الله والانكسار بين يديه عز وجل، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعاً كان إلى الله أقرب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم 482. لأن حال السجود فيها ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات والأوضاع، فلما ألزق العبد جبهته في الأرض - وهي أعلى شيء فيه - صار أقرب ما يكون من ربه. يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل بلسان الذلة والانكسار للتائب بين يدي الله: " فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، أسألك مسألة المساكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه " فعندما يأتي العبد بمثل هذه الكلمات مناجياً ربه فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة.
وكذلك إظهار الافتقار إلى الله مما يقوي الإيمان والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بفقرنا إليه وحاجتنا له فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فاطر/15.
13- قصر الأمل: وهذا مهم جداً في تجديد الإيمان، يقول ابن القيم رحمه الله: " ومن أعظم ما فيها هذه الآية {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} الشعراء /205 (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) فهذه كل الدنيا فلا يطول الإنسان الأمل، يقول: سأعيش وسأعيش، قال بعض السلف لرجل صلّي بنا الظهر، فقال الرجل: إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر، فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش لصلاة العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
14- التفكر في حقارة الدنيا حتى يزول التعلق بها من قلب العبد قال الله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً، فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه، قد علم إلى ما يصير) رواه الطبراني في الكبير 1/198 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 382. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو علماً أو متعلماً) رواه ابن ماجه رقم 4112 وهو في صحيح الترغيب والترهيب رقم 71.
15- ومن الأمور المجددة للإيمان في القلب: تعظيم حرمات الله، يقول الله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) الحج/32. وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى، وقد تكون في الأشخاص وقد تكون في الأمكنة وقد تكون في الأزمنة، فمن تعظيم حرمات الله في الأشخاص القيام بحق الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً، ومن تعظيم شعائر الله في الأمكنة تعظيم الحرم مثلاً، ومن تعظيم شعائر الله في الأزمنة تعظيم شهر رمضان مثلاً: (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) الحج/30، ومن التعظيم لحرمات الله عدم احتقار الصغائر وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها. رواه أحمد 1/402 وهو في السلسلة الصحيحة 389.
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض
الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: " كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها هينة وهي تقدح في الأصول، مثل إطلاق البصر في المحرمات، وكاستعارة بعض طلاب العلم جزءاً لا يردونه) وقال بعض السلف: " تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف " وهذا من تواضعه رحمه الله.
16- ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب: الولاء والبراء أي موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، وذلك أن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً وتذوى معاني العقيدة فيه، فإذا جرد الولاء لله فوالي عباد الله المؤمنين وناصرهم، وعادى أعداء الله ومقتهم فإنه يحيى بالإيمان.
17- وللتواضع دور فعال في تجديد الإيمان وجلاء القلب من صدأ الكبر، لأن التواضع في الكلام والمظهر دال على تواضع القلب الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البذاذة من الإيمان) رواه ابن ماجه 4118 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 341 ومعناه أراد التواضع في الهيئة واللباس انظر النهاية لابن الأثير 1/110. وقال أيضاً: من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) رواه الترمذي رقم 2481 وهو في السلسلة الصحيحة 718. وقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله لا يعرف من بين عبيده.
18- وهناك أعمال للقلوب، مهمة في تجديد الإيمان مثل محبة الله والخوف منه ورجائه وحسن الظن به والتوكل عليه، والرضا به وبقضائه، والشكر له والصدق معه واليقين به، والثقة به سبحانه، والتوبة إليه وما سوى ذلك من الأعمال القلبية.
وهناك مقامات ينبغي على العبد الوصول إليها لاستكمال العلاج كالاستقامة والإنابة والتذكر والاعتصام بالكتاب والسنة والخشوع والزهد والورع والمراقبة وقد أفاض في هذه المقامات ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين.
19- ومحاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان يقول جل وعلا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) الحشر /18 وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " ويقول الحسن لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه، وقال ميمون بن مهران إن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح.
وقال ابن القيم رحمه الله: وهلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها.
فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلو فيه بنفسه فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها، وماذا قدم من الزاد ليوم المعاد.
20- وختاماً فإن دعاء الله عز وجل من أقوى الأسباب التي ينبغي على العبد أن يبذلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(13/236)
أعياد الكفاروحكم المشاركة فيها
الصراع بين الحق والباطل دائم ما دامت الدنيا، واتباع فئام من الأمة المحمدية أهلَ الباطل في باطلهم من يهود ونصارى ومجوس وعباد أوثان وغيرهم، وبقاء طائفة على الحق رغم الضغوط والمضايقات، كل ذلك سنن كونية مقدرة مكتوبة، ولا يعني ذلك الاستسلام وسلوك سبيل الضالين؛ لأن الذي أخبرنا بوقوع ذلك لا محالة حذَّرنا من هذا السبيل، وأمرنا بالثبات على الدين مهما كثر الزائغون، وقوي المنحرفون، وأخبرنا أن السعيد من ثبت على الحق مهما كانت الصوارف عنه، في زمن للعامل فيه مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمل الصحابة - رضي الله عنهم - كما ثبت ذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -.
ولسوف يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقوام ينحرفون عن الحق صوب الباطل يغيرون ويبدلون، وعقوبتهم أنهم سيُحجزون عن الحوض حينما يَرِده الذين استقاموا ويشربون منه كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "أنا فرطكم على الحوض؛ وليُرفعن إليَّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني فأقول: أي رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي رواية: "فأقول: سحقاً لمن بدَّل بعدي".
ومن أعظم مظاهر التغيير والتبديل، والتنكر لدين محمد صلى الله عليه وسلم اتِّباع أعداء الله - تعالى - في كل كبيرة وصغيرة، باسم الرقي والتقدم، والحضارة والتطور، وتحت شعارات التعايش السلمي والأخوة الإنسانية، والنظام العالمي الجديد والعولمة والكونية، وغيرها من الشعارات البراقة الخادعة. وإن المسلم الغيور ليلحظ هذا الداء الوبيل في جماهير الأمة إلا من رحم الله - تعالى - حتى تبعوهم وقلدوهم في شعائر دينهم وأخص عاداتهم وتقاليدهم كالأعياد التي هي من جملة الشرائع والمناهج. والله - تعالى - يقول: {ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة: 48) ، ويقول - تعالى -: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} (الحج: 67) أي: عيداً يختصون به.
وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله - تعالى - خاصة النصارى في أعيادهم الكبرى كعيد ميلاد المسيح - عليه الصلاة والسلام - (الكريسمس) وعيد رأس السنة الميلادية، ويحضرون احتفالات النصارى بها في بلادهم؛ بل نقلها بعضهم إلى بلاد المسلمين - والعياذ بالله - فإن البلية الكبرى والطامة العظمى ما يجري من استعدادات عالمية وعلى مستوى الدول النصرانية الكبرى للاحتفال بنهاية الألفية الثانية والدخول في الألفية الثالثة لميلاد المسيح ابن مريم - عليه الصلاة والسلام -. وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في كل رأس سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية قرن ميلادي (القرن العشرين) ؛ بل بنهاية ألف ميلادية هي الثانية؟ إنه حدث ضخم تستعد له الأمم النصرانية بما يناسب حجمه وضخامته.
إن هذا الحدث النصراني لن يكون الاحتفال بليلة رأس السنة فيه كما هو المعتاد في بلاد النصارى فحسب وفي قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل الاستعدادات جارية ليكون مركز الاحتفال الرئيس (بيت لحم) موضع مولد المسيح - عليه الصلاة والسلام - وسينتقل إليها أئمة النصارى السياسيون والدينيون: الإنجيليون منهم والعلمانيون لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط الصحافة العالمية في الحديث عنها كلما اقترب الحدث يوماً بعد يوم، ويتوقع أن يحضرها أكثر من ثلاثة ملايين من البشر في (بيت لحم) يؤمهم البابا يوحنا بولس الثاني، وستشارك بعض الدول الإسلامية المجاورة في هذه التظاهرة العالمية على اعتبار أن بعض شعائر العيد النصراني يقع في أراضيها وهو موقع تعميد المسيح - عليه الصلاة والسلام - حيث عمده يوحنا المعمدان (يحيى عليه الصلاة والسلام) في نهر الأردن، بل إن كثيراً من المسلمين سيشاركون في تلك الاحتفالات على اعتبار أنها مناسبة عالمية تهم سكان الأرض كلهم، وما علم هؤلاء أن الاحتفال بهذه الألفية هو احتفال بعيد ديني نصراني (عيد ميلاد المسيح وعيد رأس السنة الميلادية) وأن المشاركة فيه مشاركة في شعيرة من شعائر دينهم، والفرح به فرح بشعائر الكفر وظهوره وعلوه، وفي ذلك من الخطر على عقيدة المسلم وإيمانه ما فيه؛ حيث إن "من تشبه بقوم فهو منهم" كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن شاركهم في شعائر دينهم؟! وذلك يحتم علينا الوقوف على حكم أعياد الكفار، وما يجب على المسلم تجاهها، وكيفية مخالفتهم التي هي أصل من أصول ديننا الحنيف، بَلْهَ التعرف على أنواع أعيادهم وشعائرهم فيها بقصد تجنبها والحذر والتحذير منها.(13/237)
لماذا علينا أن نعرف أعياد الكفار؟!
من المتفق عليه أن المسلم لا يعنيه التعرف على أحوال الكفار، ولا يهمه معرفة شعائرهم وعاداتهم - ما لم يُرِدْ دعوتهم إلى الإسلام - إلا إذا كانت شعائرهم تتسرب إلى جهلة المسلمين فيقعون في شيء منها عن قصد أو غير قصد، فحينئذ لا بد من معرفتها لاتقائها، والحذر من الوقوع في شيء منها، وفي العصور المتأخرة يتأكد ذلك للأسباب الآتية:
1 - كثرة الاختلاط بالكفار سواء بذهاب المسلم إلى بلادهم للدراسة أو السياحة أوالتجارة أو غير ذلك، فيرى أولئك الذاهبون إليهم بعض شعائرهم وقد يُعجبون بها، ومن ثم يتَّبعونهم فيها، لا سيما مع هزيمتهم النفسية، ونظرتهم إلى الكافرين بإعجاب شديد يسلب إرادتهم، ويفسد قلوبهم ويضعف الدين فيها، ومن ذلك أن كثيراً من المثقفين المغتربين يصف الكفرة بالرقي والتقدم والحضارة حتى في عاداتهم وأعمالهم المعتادة، أو كان ذلك عن طريق إظهار تلك الأعياد في البلاد الإسلامية من طوائف وأقليات أخرى غير مسلمة فيتأثر بها جهلة المسلمين في تلك البلاد.
2 - وزاد الأمرَ خطورةً البثُّ الإعلامي الذي به يمكن نقل كل شيء بالصوت والصورة الحية من أقصى الأرض إلى أدناها، وما من شك في أن وسائل إعلام الكفار أقوى وأقدر على نقل شعائرهم إلى المسلمين دون العكس؛ حيث أصبحت كثير من القنوات الفضائية تنقل شعائر أعياد الآخرين خاصة أعياد الأمة النصرانية، واستفحل الخطر أكثر وأكثر حينما تبنت بعض الأنظمة العلمانية في البلاد الإسلامية كثيراً من الاحتفالات بشعائر الكفرة والمبتدعة وأعيادهم، وينقل ذلك عبر الفضائيات العربية إلى العالم؛ فيغتر بذلك بعض المسلمين بسبب صدوره من بلاد إسلامية.
3 - قد عانى المسلمون على مدى تاريخهم من تأثُّر بعضهم بشعائر غيرهم من جراء الاختلاط بهم مما جعل كثيراً من أئمة الإسلام يحذرون عوام المسلمين من تقليد غيرهم في أعيادهم وشعائرهم؛ منهم - على سبيل المثال -: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والحافظان: الذهبي، وابن كثير، وهم قد عاشوا عصراً واحداً كثر فيه اختلاط المسلمين بغيرهم خاصة بالنصارى، وتأثر جهلتهم ببعض شعائر دينهم خاصة أعيادهم، ولهذا أكثر الكلامَ عن ذلك هؤلاء العلماء في تضاعيف مصنفاتهم، وبعضهم أفرد لذلك كتاباً خاصاً، كابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) أو الذهبي في رسالته: (تشبيه الخسيس بأهل الخميس) ، وغيرهم.
ولقد أطال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في ذكر أعيادهم وأعمالهم فيها، وبين مدى تأثر جهلة المسلمين بها، ووصف أعيادهم وأنواعها وما يجري فيها من شعائر وعادات مما يستغني عن معرفته المسلمون، إلا أن الحاجة دعت إلى ذلك بسبب اتباع كثير من المسلمين أهل الكتاب في تلك الشعائر.
وقد بيّن شيخ الإسلام أعيادهم وعرضها في مقام التحذير؛ حيث يقول - رحمه الله تعالى - بعد أن أفاض في الحديث عنها: "وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم؛ ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر جملة ولا تفصيلاً لم يتمكن من قَصْدِ اجتنابه. والمعرفة الجُمَلية كافية بخلاف الواجبات"، وقال أيضاً: "وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله، ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت ما رأيت من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم"
4 - أن بعض أعيادهم تحول في العصر الحاضر إلى اجتماع كبير له بعض خصائص عيدهم القديم، ويشارك كثير من المسلمين في ذلك دون علم كما في دورة الألعاب الأولمبية التي أصلها عيد عند اليونان ثم عند الرومان ثم عند النصارى، وكالمهرجانات التي تقام للتسوق أو الثقافة أو غير ذلك مع أن أصل المهرجان عيد من أعياد الفرس، وأكثر من يقيمون تلك الاجتماعات ويسمونها (مهرجانات) يجهلون ذلك.
5 - معرفة الشر سبب لاتقائه واجتنابه، وقد قال حذيفة - رضي الله عنه -: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافةَ أن يدركني" ومن المعلوم أن الشر العظيم والداء الوبيل أن يقع المسلم في شيء من شعائر الذين كفروا دون علمه أن ذلك من شعائرهم وأخص عاداتهم التي أُمرنا بمجانبتها والحذر منها؛ لأنها رجس وضلال.
6 - كثرة الدعاوي وقوة الأصوات المنافقة التي تريد للأمة الخروج عن أصالتها، والقضاء على هويتها، والانصهار في مناهج الكفرة، واتباعهم حذو القذة بالقذة تحت شعارات: الإنسانية والعولمة والكونية والانفتاح على الآخر وتلقِّي ثقافته، مما حتَّم معرفة ما عند هذا الآخر - الكافر - من ضلال وانحراف لفضحه وبيان عواره وكشف التزوير وتمزيق الأغلفة الجميلة التي تغلف بها تلك الدعاوى القبيحة {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال: 42) ولكي تقوم الحجة على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يغتروا وينخدعوا.(13/238)
أعياد الفراعنة:
من أعياد الفراعنة: عيد شم النسيم وهو لتقديس بعض الأيام تفاؤلاً أو تزلفاً لمن كانوا يُعبدون من دون الله - تعالى - وقد ذكر الشيخ محفوظ ما يقع فيه - في زمنه - من المخازي والفجور مما يندى له الجبين؛ حيث تمتلئ فيه المزارع والخلوات بجماعات الفجار وفاسدي الأخلاق، ينزحون جماعات شيباً وشباناً ونساءًا إلى البساتين والأنهار لارتكاب الزنا وشرب المسكرات، يظنون أن ذلك اليوم أبيحت فيه جميع الخبائث لهم.
ومن أوهامهم فيه: وضع البصل تحت رأس النائم وتعليقه على الأبواب زاعمين أنه يُذهب عنهم الكسل والوخم. وهو معدود في أعياد الفراعنة وقيل: أحدثه الأقباط، ولا مانع أنه لكليهما وأنه انتقل من أولئك إلى هؤلاء، ولا زال كثير من أهل مصر - خاصة الأقباط - يحتفلون به ويشاركهم فيه كثير من المسلمين، وفي الآونة الأخيرة كتب عنه عدد من الكتاب العلمانيين داعين إلى أن يكون عيداً رسمياً إحياءًا لتراث الفراعنة في الوقت الذي يصفون فيه شعائر الإسلام بالتخلف والرجعية والردة الحضارية.(13/239)
أعياد اليونان:
أَشْهُر السنة عند اليونان كثيرة وكانت تسمى بأسماء أعيادهم، وكانت نفقات أعيادهم يتحملها الأغنياء منهم، وعامة أعيادهم لها صلات بشعائر دينهم الوثني المبني على تعدد الآلهة عندهم، وقد كثرت أعيادهم جداً بغية التخفف بتلك الأعياد من متاعب الحياة الرتيبة، وبلغ من كثرتها أنه ما خلا شهر من أشهرهم من عيد أو أعياد عدا شهر واحد عندهم هو شهر (ممكتريون) .
واتسمت أعيادهم بالفحش والعهر والسكر وإطلاق العنان لغرائزهم الحيوانية تفعل ما تشاء، كما كان فيها شيء كثير من خرافاتهم وضلالهم: كزعم تحضير أرواح الأموات ثم إرجاعها أو طردها مرة أخرى بعد انتهاء العيد، وأهم أعيادهم:
عيد الأولمبياد أو العيد الأولمبي ويقام في (إليس) وينعقد كل أربع سنوات، وكان الأولمبياد الأول المعترف به سنة (776 ق م) وهذا الأولمبياد من أكبر أعيادهم وتجمعاتهم الموسمية، ومنذ ذلك التاريخ كان يطلق على تلك الألعاب (الأولمبياد) ، وكان لها صبغة وطنية، ومضامين قومية حتى قيل: إن اليونان كانت تفتخر بانتصاراتها الأولمبية أكثر من افتخارها بانتصاراتها في المعارك الحربية؛ فهو أكبر عيد في عالم الإغريق آنذاك.
ولا تزال هذه الألعاب تقام وترعاها الأمم النصرانية بتسميتها القديمة نفسها وشعائرها الموروثة من إشعال الشعلة الأولمبية من أثينا ونقلها إلى البلد المنظم للدورة ونحو ذلك؛ ومع بالغ الأسف فإن كثيراً من المسلمين يشاركون فيها، ويفاخرون بتلك المشاركات، ويجهل كثيرون منهم أن أصلها عيد من أعياد الكفار الكبرى وأيام مقدسة في دينهم الوثني؛ فنعوذ بالله من الزيغ والضلال والتقليد الأعمى.
وكان لليونان أيضاً أعياد عظيمة كأعياد الجامعة الهيلينية، وعيد الجامعة الأيونية وغيرها.(13/240)
أعياد الرومان:
من أكثر الأمم أعياداً الرومان؛ حيث كان عندهم في السنة أكثر من مائة يوم مقدس يعتبرونها أعياداً، من بينها اليوم الأول من كل شهر، وخصصت بعض هذه الأعياد لتقديس الموتى، وأرواح العالم السفلي، وكان يقصد بكثير من أعيادهم وما يقام فيها من احتفالات استرخاء الموتى وإقصاء غضبهم - حسب زعمهم.
ومن المعلوم أن الإمبراطورية الرومانية سادت بعد اليونان؛ فورثت كثيراً من شعائر اليونان وعاداتهم وأعيادهم.(13/241)
ومن أشهر أعيادهم:
عيد الحب: يحتفلون به في يوم (14) فبراير من كل سنة تعبيراً عما يعتقدونه في دينهم الوثني أنه تعبير عن الحب الإلهي، وأحدث هذا العيد قبل ما يزيد على (1700 عام) في وقت كانت الوثنية هي السائدة عند الرومان، وقد أعدمت دولتهم أيام وثنيتها القديس (فالنتين) الذي اعتنق النصرانية بعد أن كان وثنياً، فلما اعتنق الرومان النصرانية جعلوا يوم إعدامه مناسبة للاحتفال بشهداء الحب، ولا زال الاحتفال بهذا العيد قائماً في أمريكا وأوروبا لإعلان مشاعر الصداقة، ولتجديد عهد الحب بين المتزوجين والمحبين، وأصبح لهذا العيد اهتمامه الاجتماعي والاقتصادي.
ويبدو أن عيداً آخر نشأ من مفهوم هذا العيد ذلك هو عيد الزوجين أو الصديقين المتحابين يحتفل به الزوجان في يوم ذكرى زواجهما من كل عام لتأكيد المحبة بينهما، وانتقلت هذه العادة إلى المسلمين بسبب المخالطة حتى صار الزوجان يحتفلان بليلة زواجهما احتفالاً خاصاً في كثير من بلاد المسلمين؛ تشبهاً بالكفار؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(13/242)
أعياد اليهود:
1 - عيد رأس السنة العبرية ويسمونه عيد (هيشا) وهو أول يوم من تشرين الأول، ويزعمون أنه اليوم الذي فُدِيَ فيه الذبيح إسحاق عليه السلام، - حسب معتقدهم الخاطئ؛ لأن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق - وهذا العيد هو بمنزلة عيد الأضحى عند المسلمين.
2 - عيد صوماريا أو الكيبور وهو عندهم يوم الغفران.
3 - عيد المظلل أو الظلل أو المظال يوم (15 تشرين) يستظلون فيه بأغصان الشجر ويسمونه أيضاً: عيد صوم مريم العذراء.
4 - عيد الفطير وهو عيد الفصح يوم (15 نيسان) وهو بمناسبة ذكرى هروب بني إسرائيل من الاستعباد في مصر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقصة هذا العيد مروية في الإصحاح الثاني عشر من التوراة - سِفْر الخروج - ومدته ثمانية أيام يحتفلون به في فلسطين المحتلة، واليهود الإصلاحيون يحتفلون به في أقطارهم لمدة سبعة أيام، ولهم فيه احتفال يسمى (السيدار) وفه تُقرأ قصة هروب بني إسرائيل من كتاب اسمه: (الحقادا) ويأكلون فيه خبزاً غير مخمر، على اعتبار أن بني إسرائيل لما هربوا أكلوه؛ إذ لم يكن عندهم وقت لتخميره، ولا يزال اليهود يأكلونه إلى اليوم في هذا العيد.
5 - عيد الأسابيع أو (العنصرة) أو (الخطاب) ويزعمون أنه اليوم الذي كلم الله - تعالى - فيه موسى - عليه الصلاة والسلام -.
6 - يوم التكفير في الشهر العاشر من السنة اليهودية: ينقطع الشخص تسعة أيام يتعبد فيها ويصوم وتسمى أيام التوبة.
7 - الهلال الجديد: كانوا يحتفلون لميلاد كل هلال جديد؛ حيث كانت تنفخ الأبواق في بيت المقدس وتشعل النيران ابتهاجاً به.
8 - عيد اليوبيل وهو المنصوص عليه في سِفْر اللاويين.
ولهم أعياد أخرى من أشهرها: عيد الفوز أو (البوريم) وعيد الحنكة ويسمى (التبريك) .(13/243)
أعياد النصارى:
1 - عيد القيامة ويسمى عيد الفصح، وهو أهم أعياد النصارى السنوية، ويسبقه الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً قبل أَحَد الفصح، وهذا العيد يحتفون في ذكراه بعودة المسيح - عليه السلام - أو قيامته بعد صلبه وهو بعد يومين من موته - على حد زعمهم - وهو خاتمة شرائع وشعائر متنوعة هي:
أ - بداية الصوم الكبير وهو أربعون يوماً قبل أحد الفصح، ويبدؤون الصوم بأربعاء يسمونه أربعاء الرماد؛ حيث يضعون الرماد على جباه الحاضرين ويرددون: (من التراب نبدأ وإليه نعود) .
ب - ثم بعده خمسون يوماً تنتهي بعيد الخمسين أو العنصرة.
ج - أسبوع الآلام وهو آخر أسبوع في فترة الصوم، ويشير إلى الأحداث التي قادت إلى موت عيسى - عليه السلام - وقيامته - كما يزعمون.
د - أحد السعف وهو يوم الأحد الذي يسبق الفصح، وهو إحياء ذكرى دخول المسيح بيت المقدس ظافراً.
هـ - خميس العهد أو الصعود ويشير إلى العشاء الأخير للمسيح واعتقاله وسجنه.
و الجمعة الحزينة وهي السابقة لعيد الفصح وتشير إلى موت المسيح على الصليب - حسب زعمهم.
ز - سبت النور وهو الذي يسبق عيد الفصح، ويشير إلى موت المسيح، وهو يوم الانتظار وترقب قيام المسيح أحد عيد الفصح. وتنتهي احتفالات عيد الفصح بيوم الصعود أو خميس الصعود؛ حيث تتلى قصة رفع المسيح إلى السماء في كل الكنائس، ولهم فيه احتفالات ومهرجانات مختلفة باختلاف المذاهب والبلاد النصرانية، ويسمون خميسه وجمعته السابقة له الخميس الكبير، والجمعة الكبيرة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وهو الخميس المقصود برسالة الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - (تشبيه الخسيس بأهل الخميس) ، وهذا الخميس هو آخر يوم صومهم ويسمونه أيضاً خميس المائدة أو عيد المائدة وهو المذكور في سورة المائدة في قوله - تعالى -: قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ... {المائدة: 114} .
وكان لهم من الأعمال الغريبة في هذه الأعياد شيء كثير، ذَكَرَهُ كثير من المؤرخين، فمن ذلك جمع ورق الشجر وتنقيعه والاغتسال به والاكتحال، وكان أقباط مصر يغتسلون في بعض أيامه في النيل ويزعمون أن في ذلك رقية ونشرة. ويوم الفصح عندهم هو يوم الفطر من صومهم الأكبر، ويزعمون أن المسيح - عليه السلام - قام فيه بعد الصلبوت بثلاثة أيام وخلص آدم من الجحيم، إلى غير ذلك من خرافاتهم. وقد ذكر شمس الدين الدمشقي الذهبي أن أهل حماة يعطلون فيه أعمالهم لمدة ستة أيام، ويصبغون البيض، ويعملون الكعك، وذكر ألواناً من الفساد والاختلاط الذي يجري فيه آنذاك، وذكر أن المسلمين يشاركون فيه وأن أعدادهم تفوق أعداد النصارى - والعياذ بالله.
وذكر ابن الحاج: أنهم يجاهرون بالفواحش والقمار ولا أحد ينكر عليهم ولعل هذا ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى إنكار ما رآه من المسلمين من تقليد النصارى في أعيادهم وشعائرهم؛ فإنه ذكر شيئاً كثيراً من ذلك في كتابه القيم الاقتضاء، وكذلك ألف الذهبي رسالته آنفة الذكر.
ويحتفل به عامة النصارى إلى اليوم في أول أَحد بعد كمال الهلال من فصل الربيع في الفترة ما بين (22 مارس و 25 إبريل) والكنائس الشرقية الأرثوذكسية تتأخر عن بقية النصارى في الاحتفال به وهو بشعائره وصيامه وأيامه فصلٌ كامل من السنة النصرانية.
2 - عيد ميلاد المسيح - عليه السلام - وعند الأوروبيين يسمى عيد الكريسمس وهو يوم (25 ديسمبر) عند عامة النصارى، وعند الأقباط يوافق يوم (29 كيهك) والاحتفال به قديم ومذكور في كتب التاريخ قال المقريزي: وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر جليلاً تباع فيه الشموع المزهرة وكانوا يسمونها الفوانيس.
ومناسبة هذا العيد عند النصارى تجديد ذكرى مولد المسيح - عليه السلام - كل عام، ولهم فيه شعائر وعبادات؛ حيث يذهبون إلى الكنيسة ويقيمون الصلوات الخاصة. وقصة عيد الميلاد مذكورة في أناجيلهم (لوقا) و (متَّى) وأول احتفال به كان عام 336م، وقد تأثر بالشعائر الوثنية؛ حيث كان الرومان يحتفلون بإله الضوء وإله الحصاد، ولما أصبحت الديانة الرسمية للرومان النصرانية صار الميلاد من أهم احتفالاتهم في أوروبا، وأصبح القديس (نيكولاس) رمزاً لتقديم الهدايا في العيد من دول أوروبا، ثم حل البابا (نويل) محل القديس (نيكولاس) رمزاً لتقديم الهدايا خاصة للأطفال (1) . وقد تأثر كثير من المسلمين في مختلف البلاد بتلك الشعائر والطقوس؛ حيث تنتشر هدايا البابا (نويل) المعروفة في المتاجر والمحلات التي يملكها في كثير من الأحيان مسلمون، وكم من بيت دخلته تلك الهدايا، وكم من طفل مسلم يعرف البابا (نويل) وهداياه! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وللنصارى في هذا العيد شعائر منها: أن نصارى فلسطين وما جاورها يجتمعون ليلة عيد الميلاد في (بيت لحم) المدينة التي ولد فيها المسيح - عليه الصلاة والسلام - لإقامة قداس منتصف الليل، ومن شعائرهم: احتفالهم بأقرب يوم أحد ليوم (30 نوفمبر) وهو عيد القديس (أندراوس) وهو أول أيام القدوم - قدوم عيسى عليه السلام - ويصل العيد ذروته بإحياء قداس منتصف الليل؛ حيث تزين الكنائس ويغني الناس أغاني عيد الميلاد وينتهي موسم العيد في (6 يناير) . وبعضهم يحرق كتلة من جذع شجرة عيد ميلاد المسيح، ثم يحتفظون بالجزء غير المحروق، ويعتقدون أن ذلك الحرق يجلب الحظ، وهذا الاعتقاد سائد في بريطانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية.
3 - عيد الغطاس: وهو يوم (19 يناير) وعند الأقباط يوم (11 من شهر طوبة) وأصله عندهم أن يحيى بن زكريا - عليهما الصلاة والسلام - والمعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمّد المسيح ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - في نهر الأردن، وعندما غسله اتصلت به روح القدس، فصار النصارى لأجل ذلك يغمسون أولادهم في الماء في هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم، وقد ذكر المسعودي أن لهذا العيد - في وقته - شأناً عظيماً بمصر، يحضره آلاف النصارى والمسلمين، ويغطسون في نهر النيل ويزعمون أنه أمان من المرض ونشرة للدواء. وعلى هذا المفهوم تحتفل به الكنائس الأرثوذكسية، وأما الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية فلهم مفهوم آخر في الاحتفال به، وهو إحياء ذكرى تقديس الرضيع المسيح - عليه الصلاة والسلام - على يد الرجال الثلاثة الذين قدموا من الشرق.
وأصل كلمة (غطاس) إغريقية وهي تعني الظهور، وهو مصطلح ديني مشتق من ظهور كائن غير مرئي، وقد جاء في التوراة أن الله - تعالى - تجلى لموسى - عليه الصلاة والسلام - على هيئة أجمة محترقة - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
- عيد رأس السنة الميلادية: وللاحتفال به شأن عظيم في هذه الأزمنة؛ حيث تحتفل به الدول النصرانية وبعض الدول الإسلامية، وتنقل تلك الاحتفالات بالصوت والصورة الحية من شتى بقاع الأرض، وتتصدر احتفالاته الصفحات الأولى من الصحف والمجلات، وتستحوذ على معظم نشرات الأخبار والبرامج التي تبث في الفضائيات، وصار من الظواهر الملحوظة سفر كثير من المسلمين الذين لا تقام تلك الاحتفالات النصرانية في بلادهم إلى بلاد النصارى لحضورها والاستمتاع بما فيها من شهوات محرمة غافلين عن إثم الارتكاس في شعائر الذين كفروا.
وللنصارى في ليلة رأس السنة (31 ديسمبر) اعتقادات باطلة، وخرافات كسائر أعيادهم المليئة بذلك، وهذه الاعتقادات تصدر عن صُنّاع الحضارة الحديثة وممن يوصفون بأنهم متحضرون ممن يريد المنافقون من بني قومنا اتباعهم حذو القذة بالقذة حتى في شعائرهم وخرافاتهم لكي نضمن مواقعنا في مصافِّ أهل التقدم والحضارة، وحتى يرضى عنها أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء!!
ومن اعتقاداتهم تلك: أن الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإذا كان عازباً فسيكون أول من يتزوج من بين رفاقه في تلك السهرة، ومن الشؤم دخول منزل ما يوم عيد رأس السنة دون أن يحمل المرء هدية، وكنسُ الغبار إلى الخارج يوم رأس السنة يُكنس معه الحظ السعيد، وغسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم، والحرص على بقاء النار مشتعلة طوال ليلة رأس السنة يحمل الحظ السعيد.... إلخ تلك الخرافات.
ولهم أعياد سوى تلك: منها ما هو قديم، ومنها ما هو محدث، وأعياد أخذوها عمن سبقهم من اليونان والرومان، وأعياد كانت في دينهم ثم اندثرت، ومن هذه الأعياد ما هو كبير مهم لديهم، ومنها ما هو صغير تقتصر أهميته على بعض كنائسهم أو بعض مذاهبهم.
ولكل أصحاب مذهب منهم أعياد تخصهم وتخص كنائسهم ورهبانهم وقساوستهم لا يعترف بها أهل المذاهب الأخرى، فالبروتستانت لا يؤمنون بأعياد الكنائس الأخرى، ولكنهم يتفقون على الأعياد الكبرى كعيد الفصح والميلاد ورأس السنة والغطاس وإن اختلفوا في شعائرها ومراسم الاحتفال بها، أو في بعض أسبابها وتفاصيلها، أو في زمانها ومكانها.(13/244)
أعياد الفرس:
1 - عيد النيروز: ومعنى النيروز: الجديد، وهو ستة أيام؛ حيث كانوا في عهد الأكاسرة يقضون حاجات الناس في الأيام الخمسة الأولى، وأما اليوم السادس فيجعلونه لأنفسهم وخواصهم ومجالس أنسهم، ويسمونه النيروز الكبير، وهو أعظم أعيادهم.
وذكر أصحاب الأوائل أن أول من اتخذ النيروز حمشيد الملك، وفي زمانه بعث هود - عليه السلام - وكان الدين قد تغيّر، ولما ملك حمشيد جدّد الدين وأظهر العدل، فسُمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزاً، فلما بلغ من عمره سبعمائة سنة ولم يمرض ولم يوجعه رأسه تجبر وطغى، فاتخذ شكلاً على صورته وأرسلها إلى الممالك ليعظموها، فتعبَّدها العوام، واتخذوا على مثالها الأصنام، فهجم عليه الضحاك العلواني من العمالقة باليمن فقتله كما في التواريخ. ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو اليوم الذي خلق الله فيه النور. ويعتبر النيروز عيد رأس السنة الفارسية الشمسية ويوافق الحادي والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية، وكان من عادة عوامهم إيقاد النار في ليلته ورش الماء في صبيحته.
ويحتفل بعيد النيروز أيضاً البهائيون، وذلك في ختام صيامهم الذي مدته 19 يوماً وذلك في (21 آذار) والنيروز، أيضاً أول يوم من السنة عند القبط ويسمى عندهم عيد شم النسيم ومدته عندهم ستة أيام أيضاً تبدأ من (6 حزيران) . وقد مضى ذكر شم النسيم عند الفراعنة فلا يمنع أن يكون الأقباط أخذوه من تراث الفراعنة وآثارهم، ولا سيما أن الجميع في مصر.
2 - عيد المهرجان: كلمة (مهرجان) مركبة من (المهر) ومعناه: الوفاء، (جان) : السلطان، ومعنى الكلمة: سلطان الوفاء، وأصل هذا العيد: ابتهاج بظهور (أفريدون) على الضحاك العلواني الذي قتل (حمشيد) الملك صاحب عيد النيروز، وقيل: بل هو احتفال بالاعتدال الخريفي، ولا يمنع أن يكون أصله ما ذكر أولاً لكنه وافق الاعتدال الخريفي فاستمر فيه. والاحتفال به يكون يوم (26 من تشرين الأول من شهور السريان) وهو كسابقه ستة أيام أيضاً، والسادس منها المهرجان الكبير، وكانوا يتهادون فيه وفي النيروز المسك والعنبر والعود الهندي والزعفران والكافور، وأول من رسم هدايا هذين العيدين في الإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي، واستمر إلى أن رفعه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -.
ومن عظيم ما ابتلي به المسلمون استخدام لفظ (المهرجان) على كثير من الاجتماعات والاحتفالات والتظاهرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ بل وحتى الدعوية فيقال: مهرجان الثقافة، ومهرجان التسوق، ومهرجان الكتب، ومهرجان الدعوة، وما إلى ذلك مما نرى دعاياته ونسمع عباراته كثيراً يتصدرها هذا المصطلح الوثني (المهرجان) الذي هو عيد عَبَدَة النار.
ولهذا فإن إطلاق هذا الشعار الفارسي الوثني على اجتماعات المسلمين من مواطن النهي الجلي يجب اجتنابه والنهي عن استعماله، وفي المباح من الألفاظ غنية عنه، واللغة العربية أغنى اللغات لفظاً ومعنى.(13/245)
تشبه المسلمين بالكفار في أعيادهم:(13/246)
تعريف التشبه:
الشبه في اللغة المثل وشابهه وأشبهه: ماثله وتشبه فلان بكذا وتشبه بغيره: ماثله وجاراه في العمل. والتشبيه: التمثيل. وفي اللغة ألفاظ مقاربة للفظ التشبه منها: المماثلة, والمحاكاة والمشاكلة, والاتباع, والموافقة, والتأسي, والتقليد , ولكل منها معنى يخصه, ولها اشتراك مع لفظ التشبه.
وأما في الاصطلاح فعرف الغزي الشافعي التشبه بأنه: عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به, وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته وهو عبارة عن تكل ف ذلك وتقصده وتعمله.(13/247)
حكم التشبه بالكفار:
إن من الأصول العظيمة التي هي من أصول ديننا الولاء للإسلام وأهله, والبراءة من الكفر وأهله, ومن حتميات تلك البراءة من الكفر وأهله تميز المسلم عن أهل الكفر, واعتزازه بدينه وفخره بإسلامه مهما كانت أحوال الكفار قوة وتقدما وحضارة , ومهما كانت أحوال المسلمين ضعفا وتخلفا وتفرقا ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتخذ قوة الكفار وضعف المسلمين ذريعة لتقليدهم ومسوغا للتشبه بهم كما يدعو إلى ذلك المنافقون والمنهزمون ذلك أن النصوص التي حرمت التشبه بالكفار ونهت عن تقليدهم لم تفرق بين حال الضعف والقوة لأن المسلم باستطاعته التميز بدينه والفخر بإسلامه حتى في حال ضعفه وتأخره.
والاعتزاز بالإسلام والفخر به دعا إليه ربنا - تبارك وتعالى - واعتبره من أحسن القول وأحسن الفخر; حيث قال: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) [فصلت: 33] .
ولأهمية تميز المسلم عن الكافر أُمر المسلم أن يدعو الله تعالى في كل يوم على الأقل سبع عشرة مرة أن يجنبه طريق الكافرين ويهديه الصراط المستقيم: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) [الفاتحة: 6 - 7] وجاءت النصوص الكثيرة جدا من الكتاب والسنة تنهى عن التشبه بهم, وتبين أنهم في ضلال; فمن قلدهم فقد قلدهم في ضلالهم. قال الله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية: 18] وقال تعالى: (ولئن اتبعت أهوائهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق) [الرعد: 37] وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات [آل عمران: 105] ويدعو الله تعالى المؤمنين إلى الخشوع عند ذكره سبحانه وتلاوة آياته ثم يقول: (ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 16] .
وما من شك أن مشابهتهم من أعظم الدلائل على مودتهم ومحبتهم, وهذا يناقض البراءة من الكفر وأهله, والله تعالى نهى المؤمنين عن مودتهم وموالاتهم, وجعل موالاتهم سببا لأن يكون المرء والعياذ بالله منهم; يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [المائدة: 51] ، وقال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [المجادلة: 22] , يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن, كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر "، وقال - أيضا - تعليقا على آية المجادلة: فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا ; فمن واد الكفار فليس بمؤمن; والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة " وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تشبه بقوم فهو منهم " أخرجه أبو داود في اللباس (1204) وأحمد (2/05) وجو د إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/042) وانظر الفتاوى (52/133) وعضده الحافظ في الفتح بمرسل حسن الإسناد (6/89) وحسنه السيوطي وصححه الألباني في صحيح الجامع (5206) .
قال شيخ الإسلام: " وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [المائدة: 51] " الاقتضاء (1/732) .
وقال الصنعاني:؛فإذا تشبه بالكافر في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله ك ف ر, فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال يكفر, وهو ظاهر الحديث, ومنهم من قال: لا يكفر; ولكن يؤدب " سبل السلام (8/842) .
ويذكر شيخ الإسلام: " أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين, كما أن أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم " الاقتضاء (1/413) . دروس الدين: اختفاء معالمه.
والحديث عن التشبه بالكفار يطول ; ولعل فيما سبق إيراده من نصوص ونقول يفي بالغرض المقصود.(13/248)
صور التشبه بالكفار في أعيادهم:
للكفار على اختلاف مللهم ونحلهم أعياد متنوعة: منها ما هو ديني من أساس دينهم أو مما أحدثوه فيه وكثير من أعيادهم ما هو إلا من قبيل العادات والمناسبات التي أحدثوا الأعياد من أجلها, كالأعياد القومية ونحوها, ويمكن حصر أنواع أعيادهم فيما يلي:
أولا: الأعياد الدينية التي يتقربون بها إلى الله تعالى كعيد الغطاس والفصح والفطير, وعيد ميلاد المسيح - عليه السلام - ونحوها, ومشابهة المسلم لهم فيها تكون من وجهين:
1 - مشاركتهم في تلك الأعياد, كما لو احتفلت بعض الطوائف والأقليات غير المسلمة في بلاد المسلمين بعيدها فشاركهم فيها بعض المسلمين, كما حدث في وقت شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي, وهو ما يحدث الآن في كثير من بلاد المسلمين , وأقبح منه ما يفعله بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار بقصد حضور تلك الأعياد والمشاركة في احتفالاتها, سواء أكانت دوافع هذا الحضور شهوانية أم كانت من قبيل إجابة دعوة بعض الكفار كما يفعله بعض المسلمين الحال ين في بلاد الكفار من إجابة تلك الدعوات الاحتفالية بأعيادهم , وكما يفعله بعض أصحاب رؤوس الأموال وملاك بعض الشركات الكبرى من إجابة تلك الدعوات مجاملة لأصحاب الدعوة أو لمصلحة دنيوية ; كعقد صفقات تجارية, ونحو ذلك; فهذا كله محرم ويخشى أن يؤدي إلى الكفر لحديث " من تشبه بقوم فهو منهم " وفاعل ذلك قصد المشاركة فيما هو من شعائر دينهم.
2 - نقل احتفالاتهم إلى بلاد المسلمين; فمن حضر أعياد الكفار في بلدهم وأعجبته احتفالاتهم مع جهله وضعف إيمانه وقلة علمه, فقد يجعله ذلك ينقل شيئا من تلك الأعياد والشعائر إلى بلاد المسلمين كما يحصل الآن في أكثر بلاد المسلمين من الاحتفال برأس السنة الميلادية وهذا الصنف أقبح من الصنف السابق من وجه وهو نقل هذه الأعياد إلى بلاد المسلمين حيث لم يكتف أصحابه بمشاركة الكفار في شعائرهم بل يريدون نقلها إلى بلاد المسلمين.
ثانيا: الأعياد التي كان أصلها من شعائر الكفار, ثم تحولت إلى عادات واحتفالات عالمية وذلك مثل الأعياد الأولمبية عند اليونان (الأولمبياد) حيث تظهر في هذا العصر على أنها مجرد تظاهرات رياضية عالمية والمشاركة فيها تكون على وجهين أيضا:
1 - حضور تنظيماتها ومراسمها وشعائرها في بلاد الكفار كما تفعله كثير من الدول الإسلامية من إيفاد وفود رياضية للمشاركة في ألعابها المختلفة.
2 - نقل هذه الأعياد إلى بلاد المسلمين كما لو طلبت بعض الدول الإسلامية تنظيم الألعاب الأولمبية في بلاد المسلمين.
وكلا الأمرين: المشاركة فيها أو تنظيمها محرم في بلاد المسلمين لما يلي:
أ - أن أصل هذه الألعاب الأولمبية عيد وثني من أعياد اليونان كما سبق ذكره وهو أهم وأعظم عيد عند الأمة اليونانية, ثم ورثه عنهم الرومان, ثم النصارى.
ب - أنها تحمل الاسم ذاته الذي عرفت به لما كانت عيدا لليونان.
وكونها تحولت إلى مجرد ألعاب رياضية لا يلغي كونها عيدا وثنيا باعتبار أصلها واسمها والدليل على ذلك ما رواه ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله , ولا فيما لا يملك ابن آدم " أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور (3133) وفي رواية أخرى أن السائلة امرأة (2133) وأخرجه الطبراني في الكبير (1431) قال شيخ الإسلام: وهذا الإسناد على شرط الصحيحين, وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة, انظر الاقتضاء (1/634) , وصححه الحافظ في البلوغ (5041) .
فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الأصل وأصل هذه الدورة الرياضية عيد.
قال شيخ الإسلام: " وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر, كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك , وإلا لما انتظم الكلام وحسن الاستفصال, ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها, أو لإحياء شعار عيدهم فيها, ونحو ذلك إذ ليس إلا مكان الفعل أو الفعل نفسه أو زمانه ... , وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا فكيف عيدهم نفسه؟ " الاقتضاء (1/344) .
ومسألتنا هنا في عيد الأولمبياد ليست في زمان العيد أو مكانه, بل هو العيد عينه على أصل تسميته وما يجري فيه من أعمال, كإشعال الشعلة الأولمبية, وهي شعار العيد, وهو زمانه أيضا ; لأنه عند اليونان يقام كل أربع سنوات, وكذلك هو الآن يقام كل أربع سنوات; فهو عيد بأصله وتسميته وأعماله وزمانه فالاشتراك فيه اشتراك في عيد وثني ثم نصراني, وطلب تنظيم تلك الألعاب الأولمبية في بلاد المسلمين هو نقل لذلك العيد الوثني إلى بلاد المسلمين.
ثالثا: الأيام والأسابيع التي ابتدعها الكفار وهي على قسمين:
1 - ما كان له أصل ديني عندهم ثم تحول إلى عادة يرتبط بها مصلحة دنيوية وذلك مثل عيد العمال الذي أحدثه عباد الشجر , ثم صار عيدا وثنيا عند الرومان،ثم انتقل إلى الفرنسيين وارتبط بالكنيسة إلى أن جاءت الاشتراكية فنادت به وأصبح عالميا ورسميا حتى في كثير من الدول الإسلامية; فلا شك في حرمة اتخاذه عيدا وتعطيل الأعمال فيه لما يلي:
أ - كونه عيدا دينيا وثنيا في أصل نشأته.
ب - ثبوته في يوم من السنة معلوم وهو الأول من مايو.
ج - علة التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم.
2 - أن لا يكون له أصل ديني, كيوم الصحة العالمي ويوم مكافحة المخدرات, ويوم محو الأمية, ونحوها من الأيام والأسابيع المحدثة; فلا يخلو حينئذ من أحد حالين:
أ - أن يكون يوما أو أسبوعا ثابتا معلوما من السنة للعالم كله, يعود إذا عاد ذلك اليوم بعينه وذلك كعيد البنوك وما شابهه من الأيام الثابتة وهذا فيه علتان:
- كونه ثابتا يعود كلما عاد ذلك اليوم بعينه.
- علة التشبه بالكفار حيث هو من إحداثهم.
وهل يتسامح في الأيام التنظيمية العالمية التي فيها خير للإنسانية كلها, ولا مفر للمسلمين من مشاركة العالم فيها إذ لهم مصالح تفوت بعدم المشاركة كيوم الصحة العالمي ويوم مكافحة المخدرات وهي ليست من باب الديانات بل هي من قبيل التنظيمات وإن أخذت صفات العيد في كونها تعود كل عام وفي كونها محل احتفال واحتفاء هذا فيما يظهر لي محل بحث واجتهاد تقدر فيه المصالح والمفاسد إذ لا مشورة للمسلمين فيها ولا اعتبار لرأيهم بل هي مفروضة على العالم كله والمسلمون من الضعف والذلة بما يعلم.
ب - أن لا يكون يوما أو أسبوعا ثابتا في السنة وإنما متنقل حسب تنظيم معين أو مصلحة ما, فهذا انتفت عنه علة العيد وهي العود في يوم محدد, ولكن بقيت فيه علة التشبه فيما إذا كان مبتدعه الكفار ثم نقله عنهم المسلمون فهل ذلك من التشبه المحرم؟ أم هو من التشبه الحلال فيكون كسائر التنظيمات الإدارية ونحوها وكأيام الجرد السنوية بالنسبة للشركات والمؤسسات ونحوها؟ هذا أيضا محل بحث ونظر, وإن كان الظاهر لي ابتداءا أنه لا بأس بها لما يلي:
- عدم ثباتها في أيام معينة تعود كلما عادت; فانتفت عنها صفة العيد.
- أنها لا تسمى أعيادا ولا تأخذ صفة الأعياد من حيث الاحتفال ونحوه.
- أن الهدف منها تنظيم حملات توعية وإرشاد لتحقيق أهداف نافعة.
- أنه يلزم من منعها منع كثير من التنظيمات والاجتماعات التي تعود بين حين وآخر, ولا أظن أحدا يقول بهذا وذلك مثل الاجتماعات الأسرية والدعوية والوظيفية ونحوها.
- ليس فيها علة تحرمها إلا كون أصلها من الكفار وانتقلت إلى المسلمين, وعمت بها البلوى وانتشرت عند الكفار وغيرهم, فانتفت عنها خصوصية الكفار بها بانتشارها بين المسلمين.
والخلاصة: أنها ليست من دين الكفار ومعتقداتهم, وليست من خصائص عاداتهم وأعرافهم, ولا تعظيم فيها ولا احتفال وليست أعيادا في أيام معلومة تعود كلما عادت فأشبهت سائر التنظيمات على ما فيها من مصلحة راجحة.
رابعا: من صور التشبه بالكفار قلب أعياد المسلمين إلى ما يشبه أعياد الكفار: فإن أعياد المسلمين تميزت بكون شعائرها تدل على شكر الله - تعالى - وتعظيمه وحمده وطاعته, مع الفرح بنعمة الله - تعالى - وعدم تسخير هذه النعمة في المعصية وعلى العكس من ذلك أعياد الكفار فإنها تميزت بأنها تعظيم لشعائرهم الباطلة وأوثانهم التي يعبدونها من دون الله - تعالى - مع الانغماس في الشهوات المحرمة, ومع بالغ الأسف فإن المسلمين في كثير من الأقطار تشبهوا بالكفار في ذلك, فقلبوا مواسم عيدهم من مواسم طاعة وشكر إلى مواسم معصية وكفر للنعمة وذلك بإحياء ليالي العيدين بالمعازف والغناء والفجور وإقامة الحفلات المختلطة وما إلى ذلك مما يعبرون به عن بهجة العيد, على غرار ما يفعله الكفار في أعيادهم من فجور ومعصية.(13/249)
وجوب اجتناب أعياد الكفار:
أ - اجتناب حضورها:
اتفق أهل العلم على تحريم حضور أعياد الكفار والتشبه بهم فيها وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة انظر الاقتضاء (2/425) وأحكام أهل الذمة لابن القيم (2/227 - 527) والتشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي (533) . لأدلة كثيرة جدا منها:
1 - جميع الأدلة الواردة في النهي عن التشبه وقد سبق ذكر طرف منها.
2 - الإجماع المنعقد في عهد الصحابة والتابعين على عدم حضورها ودليل الإجماع من وجهين:
أ - أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس, ثم لم يكن على عهد السابقين من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك, فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا عن ذلك لوقع ذلك كثيرا إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع لا محالة والمقتضي واقع فعلم وجود المانع والمانع هنا هو الدين فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة وهو المطلوب الاقتضاء (1/454) .
ب - ما جاء في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفق عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام: فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهرا لها؟ المصدر السابق, (1/454) .
3 - قول عمر رضي الله عنه: " لا تعلموا رطانة الأعاجم , ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم إن السخطة تنزل عليهم " مصنف عبد الرزاق (9061) والسنن الكبرى للبيهقي (9/432) .
4 - قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة " السنن الكبرى (9/432) وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (1/754) .
قال شيخ الإسلام: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم; فكيف بفعل بعض أفعالهم , أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟ وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه; أليس قد تعرض 0لعقوبة ذلك؟ الاقتضاء (1/854) .
وعلق على قول عبد الله بن عمرو: (حشر معهم) فقال: وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه الاقتضاء (1/954) .
ب - اجتناب موافقتهم في أفعالهم:
قد لا يتسنى لبعض المسلمين حضور أعياد الكفار لكنه يفعل مثل ما يفعلون فيها, وهذا من التشبه المذموم المحرم. قال شيخ الإسلام: " لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك, ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك, ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة. وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم, بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام " مجموع الفتاوى (52/923) .
وقال الذهبي: " فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم, كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم " تشبيه الخسيس بأهل الخميس, ضمن مجلة الحكمة, عدد (4) , ص 391.
وذكر ابن التركماني الحنفي جملة مما يفعله بعض المسلمين في أعياد النصارى من توسع النفقة وإخراج العيال, ثم قال عقب ذلك: قال بعض علماء الحنفية: من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب فهو كافر مثلهم, وقال بعض أصحاب مالك: " من كسر يوم النيروز بطيخة فكأنما ذبح خنزيرا " اللمع في الحوادث والبدع (1/492) .
ج - اجتناب المراكب التي يركبونها لحضور أعيادهم:
قال مالك: " يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم لنزول السخطة واللعنة عليهم " اللمع في الحوادث والبدع (1/492) .
وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه الاقتضاء (2/625) .
د - عدم الإهداء لهم أو إعانتهم على عيدهم ببيع أو شراء:
قال أبو حفص الحنفي: " من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى "فتح الباري لابن حجر العسقلاني (2/315) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:؛وكره ابن القاسم للمسلم يهدي للنصارى شيئا في عيدهم مكافأة لهم, ورآه من تعظيم عيدهم وعونا لهم على مصلحة كفرهم; ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم؟ لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم, وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك, وهو قول مالك وغيره: لم أعلمه اختلف فيه " الاقتضاء (2/625 - 725) .
وقال ابن التركماني: " فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم " اللمع في الحوادث (1/ 492) .
هـ- عدم إعانة المسلم المتشبه بهم في عيدهم على تشبهه:
قال شيخ الإسلام: " وكما لا نتشبه بهم في الأعياد, فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك; بل ينهى عن ذلك, فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه, ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك; لأن في ذلك إعانة على المنكر " الاقتضاء (2/915 - 025) .
د - عدم تهنئتهم بعيدهم:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن لم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه ". ا. هـ أحكام أهل الذمة (1/144 - 244) .
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراما وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقرارا لما هم عليه من شعائر الكفر, ورضى به لهم وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال - تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) [الزمر: 7] وقال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3] وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك; لأنها ليست بأعياد لنا ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى لأنها إما مبتدعة في دينهم وإما مشروعة; لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق , وقال فيه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران: 85] , وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام لأن هذا أعظم من تهنئتهم به لما في ذلك من مشاركتهم فيها ومن فعل شيئا من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو توددا أو حياءا أو لغير ذلك من الأسباب لأنه من المداهنة في دين الله ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين - جمع وترتيب فهد السلمان (3/54 - 64) .
مسألة: لو أراد المسلم أن يحتفل مثل احتفالهم لكنه قدم ذلك أو أخره عن أيام عيدهم فرارا من المشابهة؟
هذا نوع من التشبه وهو حرام لأن تحريم الشيء يدخل فيه, وتحريم العيد ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم كيوم الخميس المقصود بالخميس هنا خميس العهد أو الصعود وهو من ضمن شعائر عيد القيامة (الفصح) عند النصارى ويسمونه الخميس الكبير
والميلاد , ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع أو الشهر الآخر وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا هو لم يقتضوا ذلك, فهذا أيضا من مقتضيات المشابهة انظر: الاقتضاء (2/315) .
هـ- اجتناب استعمال تسمياتهم ومصطلحاتهم التعبدية:
إذا كانت الرطانة لغير حاجة مما ي نهى عنه لعلة التشبه بهم فاستخدام تسميات أعيادهم أو مصطلحات شعائرهم مما هو أو لى في النهي عنه وذلك مثل استخدام لفظ (المهرجان) على كل تجمع كبير وهو اسم لعيد ديني عند الفرس.
فقد روى البيهقي: " أن عليا رضي الله عنه أتي بهدية النيروز فقال: ما هذه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا يوم النيروز قال: فاصنعوا كل يوم فيروزا قال أبو أسامة: كره رضي الله عنه أن يقول: نيروزا " أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/532) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما علي رضي الله عنه فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به, فكيف بموافقتهم في العمل " انظر: الاقتضاء (1/954) .
وقد مضى بيان أن هذا اللفظ ليس بعربي وفي العربية ما يغني عنه وما هو خير منه.
وحكم قبول هديتهم في أعيادهم:
تقرر سابقا أن الإهداء لهم في عيدهم لا يجوز لأنه من إعانتهم على باطلهم وأيضا عدم جواز هدية المسلم المتشبه بهم في عيدهم لأن قبولها إعانة له في تشبهه وإقرار له وعدم إنكار عليه الوقوع في هذا الفعل المحرم.
وأما قبول هدية الكافر إذا أهدى للمسلم في وقت عيد الكافر فهو مثل الهدية في غيره لأنه ليس فيه إعانة على كفرهم والمسألة فيها خلاف وتفصيل ينبني على مسألة قبول هدية الكافر الحربي والذمي.
علما بأن هديتهم على نوعين:
1 - ما كان من غير اللحوم التي ذبحت لأجل عيدهم كالحلوى والفاكهة ونحوها فهذا فيه الخلاف المبني على مسألة قبول هدية الكافر عموما والظاهر الجواز لما مضى أن عليا رضي الله عنه قبلها ولما ورد أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها قالت: " إن لنا أطيارا من المجوس وإنه يكون لهم في العيد فيهدون لنا فقالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن لوا من أشجارهم " أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الأطعمه من مصنفه (5/521) برقم (16342) وفي الاقتضاء (إن لنا آظارا) وهو جمع ظئر. قال محقق الاقتضاء: ولعل المقصود به الأقارب من الرضاعة.
وعن أبي برزة رضي الله عنه: " أنه كان له سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان فكان يقول لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه وما كان غير ذلك فردوه " المصدر السابق برقم (26342) .
قال شيخ الإسلام: " فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم; بل حكمها في العيد وغيره سواء لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم " الاقتضاء (2/455 - 555) .
2 - أن تكون هديتهم من اللحوم المذبوحة لأجل عيدهم فلا يأكل منها لأثر عن عائشة وأبي برزة السابق ذكرهما ولأنه ذبح على شعائر الكفر.
ز - تخصيص أعياد الكفار بالصيام مخالفة لهم:
اختلف العلماء في ذلك:
1 - فقيل بعدم كراهة صيام أعيادهم لأجل مخالفتهم وهذا ضعيف.
2 - والصواب عدم جواز تخصيص أعيادهم بالصيام لأن أعيادهم موضع تعظيمهم فتخصيصها بالصيام دون غيرها موافقة لهم في تعظيمها.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: " وقال أصحابنا: ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم ; لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم " المغني (4/924) وانظر الاقتضاء (2/975) .
" وهذا الحكم فيما إذا قصد تخصيصه بالصوم لأنه عيدهم. أما لو وافق نذرا أو صيام تطوع أو نحوه من دون قصد موافقة عيدهم فلا بأس به " انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع (3/064) .
وضابط مخالفتهم في أعيادهم: أن لا ي حد ث فيها أمرا أصلا بل يجعل أيام أعيادهم كسائر الأيام انظر: الاقتضاء (2/815) . فلا يعطل فيها عن العمل ولا يفرح بها ولا يخصها بصيام أو حزن أو غير ذلك.
وذكر شيخ الإسلام ما يمكن أن يضبط به التشبه فقال رحمه الله تعالى: " والتشبه: يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة "الاقتضاء (1/242) .
وبناءا على ما ذكره شيخ الإسلام فإن موافقتهم فيما يفعلون على قسمين:
1 - تشبه بهم وهو ما كان للمتشبه فيه قصد التشبه لأي غرض كان وهو المحرم.
2 - مشابهة لهم وهي ما تكون بلا قصد لكن يبين لصاحبها وينكر عليه فإن انتهى وإلا وقع في التشبه المحرم قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها " وفي رواية فقال: " أأمك أمرتك بهذا؟ " قلت: أغسلهما؟ قال: " بل احرقهما " أخرج الروايتين مسلم في اللباس والزينة (7702) .
قال القرطبي: " يدل على أن علة النهي عن لبسهما التشبه بالكفار " المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (5/993) .
فظاهر الحديث أن عبد الله رضي الله عنه لم يعلم بأنه يشبه لباس الكفار, ومع ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وبين له الحكم الشرعي في ذلك.
هذا إذا كان أصل الشيء من الكفار أما إذا لم يعلم أنه من أصلهم بل يفعلونه ويفعله غيرهم فكأنه لا يكون تشبها ; لكن يرى شيخ الإسلام ابن تيمية النهي عنه سدا للذريعة وحماية للمسلم من الوقوع في التشبه, ولما فيه من قصد مخالفتهم.
المنافقون وأعياد الكفار:
1 - طالب حزب البعث الاشتراكي في إحدى الدول العربية بإلغاء الأضحية بحجة الجوع والجفاف , ووضع دعاته لافتة كبيرة مكتوبا عليها: من أجل الجوعى والفقراء والعراة تبرع بقيمة خروف الأضحية انظر مجلة الاستجابة عدد (4) ربيع الثاني 6041هـ-.
ومضى عيد الأضحى بسلام وضحى المسلمون في ذلك البلد ثم لما أزف عيد الميلاد وعيد رأس السنة بدأت الاستعدادات للاحتفالات ثم جاء الميلاد ورأس السنة فكانت العطلات الرسمية في ذلك البلد والحفلات الباهظة والسهرات الماجنة وفي مقدمة المحتفلين قادة حزب البعث الاشتراكي الذين أنستهم الفرحة بأعياد النصارى ومجونها حال الجوعى والفقراء والعراة ; فهم لا يتذكرون أحوالهم إلا في أعياد المسلمين!!
2 - كتب أحدهم في زاويته الأسبوعية تحت عنوان (تسامح) انظر صحيفة عكاظ (82/8/8141هـ-) (5/9/8141هـ-) (21/9/8141هـ-) . كلاما ينبئ عن مرض قلبه وضعف دينه, وهذا التسامح الذي يريده كان بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة النصرانيي ن فكان مما قال هذا المتفيقه المتحذلق:؛ فهذه الأخوة الإنسانية تعم البشر جميعا ولا تكون التفرقة والمعاداة إلا عند الاقتتال وحين يناوئ جماعة المسلمين جماعة أخرى عندئذ تكون المقاتلة والعداوة للدفاع المشروع عن النفس رغم أن بعض المتشددين والجماعات الإرهابية تحاول إطفاء هذا الوهج بإشاعة تفاسير وآراء تحض على الكراهية بين البشر ومقاطعة العالم يضجون بها في المناسبات العامة التي يحتفي بها العالم جميعه ويعتبرون تهنئة الآخرين بها جنوحا عن الإسلام والصواب - لعمري - هو إشاعة المحبة لا البغض والتقريب لا التنفير " ويمضي الكاتب في سلسلته التسامحية المتميعة المنهزمة والتي امتدت على ثلاث حلقات لتغطي جميع أيام العيدين النصرانيين الذي أشرب قلبه حبهما فيقول في الثانية منهما: " فالأصل هو البر أي التسامح والعدل أما العداوة فهي على الذين أعلنوا القتال علينا. أما الاختلاف في الأديان فالأمر فيه لعدل الله ورحمته يوم القيامة والقول بأن ذلك التسامح موالاة لغير المسلمين فقد رد عليه العلماء بقولهم: إن الممنوع هو موالاة المحاربين للمسلمين في حرب معلنة فيكون حينئذ خيانة عظمى , ولا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم واتخاذهم بطانة يفضي إليهم بالأسرار ".
فهل هذا الكلام إلا عين الضلال والشك في الإسلام وتصحيح كفر الكفار؟! والعياذ بالله من ذلك.
ثم في حلقته الثالثة يكيل التهم الرخيصة المستهلكة من الإرهاب والتطرف وسفك الدماء على كل من لم يوافقه على فقهه الصحفي, كما هي عادة هذه الذئاب المتفرنجة في افتتاحيات مقالاتهم وخاتمتها.
وما كنت أظن أن الحال بالأمة سيصل إلى هذا الحد المخزي ولا أن التبعية والانهزام سيصير إلى هذا الأثر المخجل, ولكن ماذا كنا نتوقع ما دام أن كثيرا من المنابر الإعلامية والصحفية يتربع عليها أمثال هؤلاء الموتورين المهووسين, وإلى الله المشتكى من أمة يقرر ولاء ها وبراءها ويرسم طريقها ومنهجها عبر الإعلام والصحافة أناس ما تخرجوا إلا من الملاحق الفنية والرياضية جل ثقافتهم أسماء الممثلات والمغنيات والراقصات والرياضيين.
ثم يا ترى ماذا سيكتبون بعد أسابيع عن احتفالات نهاية الألفية الميلادية الثانية التي توشك على الانتهاء؟!
إنهم وكالمعتاد سيدعون جماهير المسلمين إلى المشاركة فيها حتى لا يتهم الإسلام بالرجعية والظلامية, ولكي يثبتوا للعالم أنهم متحضرون بما فيه الكفاية حتى يرضى عنهم عباد الصليب وعباد العجل, والويل ثم الويل لمن أنكر مشاركة المسلمين في تلك الاحتفالات العالمية الألفية, إنه سيتهم بالأصولية والتطرف والإرهاب وسفك الدماء.
ولن تعدم من منهزميهم فتاوى معممة جاهزة بجواز المشاركة, يتلقفها صحفيون يكذبون عليها ألف كذبة لإقناع المسلمين أن الإسلام بلغ من تسامحه وأريحيته إجازة المشاركة في شعائر الكفر; حتى لا نجرح مشاعر الكفار, ونكدر عليهم صفو احتفالاتهم التي كانت خاتمة لقرن شهد دماءا إسلامية غزيرة نزفت في أرجاء المعمورة بأيدي اليهود والنصارى في حروب عقائدية دينية غير متكافئة وما أنباء كوسوفا عن تلك الاحتفالات ببعيدة إذ هي في آخر عام من تلك الألفية النصرانية المتسامحة!!.
مجلة البيان العدد 143،144(13/250)
شهر الله المحرم(13/251)
فضل شهر الله المحرّم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.. الآية (36) سورة التوبة
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:.. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ." رواه البخاري 2958
والمحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما وتأكيدا لتحريمه
وقوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) " أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظّم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في قوله " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظّم الله. فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. " انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير رحمه الله: تفسير سورة التوبة آية 36
فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ. " رواه مسلم 1982
قوله: (شهر الله) إضافة الشّهر إلى الله إضافة تعظيم، قال القاري: الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم.
ولكن قد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله.
وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان , ولعله لم يوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه.. شرح النووي رحمه الله على صحيح مسلم.
الله يصطفي ما يشاء من الزمان والمكان
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله: وَتَفْضِيلُ الأَمَاكِنِ وَالأَزْمَانِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: دُنْيَوِيٌّ.. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: تَفْضِيلٌ دِينِيٌّ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِيهَا بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ , كَتَفْضِيلِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ سَائِرِ الشُّهُورِ , وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ.. فَفَضْلُهَا رَاجِعٌ إلَى جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ فِيهَا.. قواعد الأحكام 1/38
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(13/252)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء عن حكم الاحتفال بحلول عام 2000 الإفرنجي وما يتعلق به من أمور
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين والمحالة استفتاءاتهم إلى اللجنة الدائمة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 3825 وتاريخ 21/7/1420هـ، وقد سأل المستفتون أسئلة عن حكم الاهتمام بالألفية الإفرنجية والاحتفال بها وغير ذلك من الأمور المتعلقة بها، نكتفي بذكر سؤالين منها:
ففي أحده يقول السائل: (نرى في هذه الأيام ما تبثه وسائل الإعلام من رصد الأحداث والإجراءات بمناسبة حلول عام 2000 الميلادي وبداية الآلف الثالثة والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم يبتهجون بذلك ويعلقون على هذه المناسبة آمالاً، والسؤال يا سماحة الشيخ: أن بعض من ينتسب للإسلام صاروا يهتمون بذلك ويعدونها مناسبة سعيدة فيربطون زواجهم أو أعمالهم بها أو يقومون بوضع دعاية لتلك المناسبة على محلاتهم أو شركاتهم وغير ذلك مما يسوء المسلم فما حكم الشرع في تعظيم هذه المناسبة والاحتفاء بها وتبادل التهاني من أجلها شفهياً أو بطبع البطاقات.. الخ، وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.)
وجاء في سؤال آخر: (يستعد اليهود والنصارى لحلول عام 2000 حسب تاريخهم، بشكل غير عادي لترويج خططهم ومعتقداتهم في العالم وبالأخص بالدول الإسلامية.
وقد تأثر بعض المسلمين بهذه الدعاية فأخذوا يعدون العدة ومنهم من أعلن عن تخفيض على بضاعته بهذه المناسبة، ويخشى أن يتطور الأمر إلى عقيدة المسلمين في موالاتهم لغير المسلمين.
نأمل بيان حكم مجارات المسلمين للكفار في مناسباتهم والدعاية لها والاحتفال بها وحكم تعطيل الأعمال في بعض المؤسسات والشركات بهذه المناسبة.
وهل فعل شيء من هذه الأمور وما شابهها أو الرضى بها يؤثر على عقيدة المسلم) .
وبعد دراسة اللجنة للأسئلة المذكورة أجابت بما يلي:
إن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده هي نعمة الإسلام والهداية على صراطه المستقيم، ومن رحمته سبحانه أن فرض على عباده المؤمنين أن يسألوه هدايته في صلواتهم، فيسألوه حصول الهداية للصراط المستقيم والثبات عليها، ووصف سبحانه هذا الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله علهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وليس صراط المنحرفين عنه من اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين.
إذا عُلم هذا: فالواجب على المسلم معرفة قدر نعمة الله فيقوم بشكر الله سبحانه قولاً وعملاً واعتقاداً وعليه أن يحرس هذه النعمة ويحوطها ويعمل الأسباب التي تحفظها من الزوال.
وإن الناظر من أهل البصيرة في دين الله في عالم اليوم الذي التبس فيه الحق بالباطل على كثير من المسلمين ليرى بوضوح جهود أعداء الإسلام في طمس حقائقه، وإطفاء نوره، ومحاولة إبعاد المسلمين عنه، وقطع صلتهم به، بكل وسيلة ممكنة، فضلاً عن تشويه صورته، وإلصاق التهم والأكاذيب به لصد البشر جميعاً عن سبيل الله والإيمان بما أنزل على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومصداق ذلك في قول الله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) وقوله سبحانه وتعالى: (ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) وقوله جل وعلا: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) . وقوله عز وجل: (قل يا أيها الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) وغيرها من الآيات.
لكن - ومع ذلك كله - فالله عز وجل وعد بحفظ دينه وكتابه فقال جل وعلا: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فالحمد لله كثيراً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، فالحمد لله كثيراً، ونسأله سبحانه وهو القريب المجيب أن يجعلنا وإخواننا المسلمين منهم إنه جواد كريم.
هذا.. واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وهي تسمع وترى الاستعداد الكبير والاهتمام البالغ من طوائف اليهود والنصارى ومن تأثر بهم ممن ينتسب للإسلام بمناسبة تمام عام ألفين واستقبال الألفية الثالثة بالحساب الإفرنجي لا يسعها إلا النصح والبيان لعموم المسلمين عن حقيقة هذه المناسبة وحكم الشرع المطهر فيها ليكون المسلمون على بصيرة من دينهم ويحذروا من الانحراف إلى ضلالات المغضوب عليهم والضالين.
فنقول:
أولاً: إن اليهود والنصارى يعلقون على هذه الألفية أحداثاً وآمالاً يجزمون بتحققها أو يكادون لأنها ناتجة عن بحوث ودراسات كما زعموا، كما يربطون بعضاً من قضايا عقائدهم بهذه الألفية زاعمين أنها مما جاءت في كتبهم المحرفة.. والواجب على المسلم ألا يلتفت إليها ولا يركن إليها، بل يستغني بكتاب ربه سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عما سواهما، وأما النظريات والآراء المخالفة لهما فلا تعدو كونها وهماً.
ثانياً: لا تخلو هذه المناسبة وأشباهها من لبس الحق بالباطل، والدعوة إلى الكفر والضلال والإباحية والإلحاد، وظهور ما هو منكر شرعاً ومن ذلك: الدعوة إلى وحدة الأديان، وتسوية الإسلام بغيره من الملل والنحل البالة، والتبرك بالصليب، وإظهار شعائر والنصرانية واليهودية ونحو ذلك من الأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيهما مما يخالف دين الإسلام أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالإسلام بإجماع الأمة، هذا فضلاً عن كونه وسيلة من وسائل تغريب المسلمين عن دينهم.
ثالثاً: استفاضت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة في النهي عن مشابهة الكفار فيما هو من خصائصهم ومن ذلك مشابهتهم في أعيادهم واحتفالاتهم بها، والعيد: اسم جنس يدخل فيه كل يوم يعود ويتكرر يعظمه الكفار أو مكان للكفار لهم فيه اجتماع ديني، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة فهو من أعيادهم، فليس النهي عن خصوص أعيادهم بل كل ما يعظمونه يدخل في ذلك وكذلك ما قبله وما بعده من الأيام التي هي كالحريم له كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ومما جاء في النهي عن خصوص المشابهة في الأعياد قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) في ذكر صفات عباد الله المؤمنين، فقد فسرها جماعة من السلف كابن سيرين ومجاهد والربيع بن أنس: بأن الزور هو أعياد الكفار، وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبان فيهما فقال: (ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح.
وصح عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أنه قال: (نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها من وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) خرجه أبو داود بإسناد صحيح.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم، وقال أيضاً: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة.
رابعاً: وينهى أيضاً عن أعياد الكفار لاعتبارات كثيرة منها:
أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطل.
والمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة من العقائد الفاسدة على وجه المسارقة والتدرج الخفي.
ومن أعظم المفاسد - أيضاً - الحاصلة من ذلك: أن مشابهة الكفار في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى: (يا أيها الذي آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ، وقال سبحانه: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..) الآية.
خامساً: بناء على ما تقدم فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً أن يقيم احتفالات لأعياد لا أصل لها في دين الإسلام ومنها الألفية المزعومة، ولا يجوز أيضاً حضورها ولا المشاركة فيها ولا الإعانة عليها بأي شيء كان، لأنها إثم ومجاوزة لحدود الله والله تعالى يقول: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) .
سادساً: لا يجوز لمسلم التعاون مع الكفار بأي وجه من وجوه التعاون في أعيادهم ومن ذلك: إشهار أعيادهم وإعلانها، ومنها الألفية المذكورة ولا الدعوة إليها بأي وسيلة سواء كانت الدعوة عن طريق وسائل الأعلام، أو نصب الساعات واللوحات الرقمية، أو صناعة الملابس والأغراض التذكارية، أو طبع البطاقات أو الكراسات المدرسية، أو عمل التخفيضات التجارية والجوائز المادية من أجلها أو الأنشطة الرياضية أو نشر شعار خاص بها.
سابعاً: لا يجوز لمسلم اعتبار أعياد الكفار ومنا الألفية المذكورة ونحوها مناسبات سعيدة وأوقاتاً مباركة فتعطل فيها الأعمال وتجري فيها عقود الزواج أو ابتداء الأعمال التجارية أو افتتاح المشاريع وغيرها، ولا يجوز أن يعتقد في هذه الأيام ميزة على غيرها، لأن هذه الأيام كغيرها من الأيام ولأن هذا من الاعتقاد الفاسد الذي لا يغير من حقيقتها شيئاً، بل إن هذا الاعتقاد فيها هو إثم على إثم نسأل الله العافية والسلامة.
ثامناً: لا يجوز لمسلم التهنئة بأعياد الكفار، لأن ذلك نوع رضى بما هم عليه من الباطل وإدخال للسرور عليهم قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وأا التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج المحرم ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه.) أ. هـ
تاسعاً: شرفٌ للمسلمين التزامهم بتاريخ هجرة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرَّخوا به بدون احتفال وتوارثه المسلمون من بعدهم منذ أربعة عشر قرناً إلى يومنا هذا، لذا فلا يجوز لمسلم التولي عن التاريخ الهجري والأخذ بغيره من تواريخ أمم الأرض كالتاريخ الميلادي فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
هذا ونوصي جميع إخواننا المسلمين بتقوى الله حق التقوى وبالعمل بطاعته والبعد عن معاصيه، والتواصي بذلك والصبر عليه.
وليجتهد كل مؤمن ناصح لنفسه حريص على نجاتها من غضب الله ولعنته في الدنيا والآخرة في تحقيق العلم والإيمان وليتخذ الله هادياً ونصيراً وحاكماً وولياً، فإنه نعم المولى ونعم النصير، وكفى بربك هادياً ونصيراً وليدع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخٌتلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(13/253)
وقد عرض السؤال التالي على فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين سلمه الله ورعاه:
يستعد العالم في الأيام القادمة لاستقبال الألفية الثالثة، وتطالعنا الصحف بهذا الموضوع بشكل مكثف، والسؤال: ما حكم الشرع في نظركم عن هذا الأمر؟ وكيف يستعد المسلمون لاستقبال الألفية الجديدة؟
فأجاب حفظه الله بقوله:
لا ينبغي للمسلمين أن يعبئوا بهذا الأمر ولا أن يرفعوا له رأساً لأنه لا علاقة لهم به فتاريخ المسلمين هو التاريخ الهجري المبني على مناسبة من أفضل المناسبات بل هي أليق المناسبات ببدء التاريخ الإسلامي، لأنه تاريخ يذكرهم بابتداء عزهم وإنشاء دولتهم وقوة سلطانهم.
وأما ما يروجه بعض الناس مما سيكون فكله تخرص ليس له أصل من شرع ولا عقل ولا محسوس اللهم إلا ما كان من صنعهم مما صنعوه هم وجعلوا له أمداً ينتهي إليه.
أما علم الغيب فهو لله وحده قال الله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون)
أسأل الله تعالى أن يرزقنا العزة بإيماننا والنصر على أعدائنا إنه جواد كريم.(13/254)
عشرون نصيحة للطلاب في الاختبارات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه وبعد
فإنّ الطالب المسلم يتوكّل على الله تعالى في مواجهة اختبارات الدنيا ويستعين به آخذا بالأسباب الشرعية انطلاقا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ. صحيح مسلم حديث رقم 2664.
ومن تلك الأسباب:
- الالتجاء إلى الله بالدعاء بأي صيغة مشروعة كأن يقول ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري.
- أن يستعدّ بالنوم المبكّر والذّهاب إلى الامتحان في الوقت المحدد.
- إحضار جميع الأدوات المطلوبة والمسموح بها كالأقلام وأدوات الهندسة والحاسبة والساعة لأنّ حسن الاستعداد يُعين على الإجابة.
- تذكّر دعاء الخروج من البيت: (بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل، أو أَزل أو أُزل، أو أًظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي) ولا تنس التماس رضا والديك فدعوتهما لك مستجابة.
- أن تسمي بالله قبل البدء لأنّ التسمية مشروعة في ابتداء كلّ عمل مباح وفيها بركة واستعانة بالله وهي من أسباب التوفيق.
- اتّق الله في زملائك فلا تُثر لديهم القلق ولا الفزع قبيل الاختبار فالقلق مرض معدٍ بل أدخل عليهم التفاؤل بالعبارات الطيبة المشروعة وقد تفاءل النبي صلى الله عليه وسلم باسم سهيل وقال: سهُل لكم من أمركم وكان يُعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع: يا راشد يا نجيح.
فتفاءل لنفسك ولإخوانك بأنكم ستقدمون امتحانا جيدا.
- ذكر الله يطرد القلق والتوتّر وإذا استغلقت عليك مسألة فادع الله أن يهوّنها عليك وكان شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله إذا استغلق عليه فهم شيء يقول: يا معلّم ابراهيم علمني ويا مفهّم سليمان فهمني.
- اختر مكاناً جيداً للجلوس أثناء الإختبار ما أمكنك، وحافظ على إستقامة ظهرك وأن تجلس على الكرسيّ جلسة صحيّة.
- تصفح الإمتحان أولا، والأبحاث توصي بتخصيص 10بالمائة من وقت الامتحان لقراءة الأسئلة بدقة وعمق وتحديد الكلمات المهمة وتوزيع الوقت على الأسئلة.
- خطط لحل الأسئلة السهلة أولاً والصعبة لاحقا، وأثناء قراءة الأسئلة اكتب ملاحظات وأفكارا لتستخدمها لاحقاً في الإجابة.
- أجب على الأسئلة حسب الأهمية.
- ابتدئ بحلّ الاسئلة السهلة التي تعرفها. ثم اشرع في حلّ الأسئلة ذات العلامات الأعلى وأخّر الاسئلة التي لا يحضرك جوابها أو ترى أنّها ستأخذ وقتا للتوصّل إلى نتيجة فيها أو التي خُصّص لها درجات اقلّ.
- تأنّ في الإجابة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " التأني من الله والعجلة من الشيطان. " حديث حسن: صحيح الجامع 3011
- فكّر جيدا في أسئلة اختيار الجواب الصحيح في امتحانات الخيارات المتعددة، وتعامل معها وفق التالي: إذا كنت متأكّدا من الاختيار الصحيح فإياك والوسوسة، وإذا لم تكن متأكّدا فابدأ بحذف الاحتمالات الخاطئة والمستبعدة ثمّ اختر الجواب الصحيح بناء على غلبة الظنّ وإذا خمّنت جوابا صحيحا فلا تغيّره إلا إذا تأكّدت أنّه خاطئ - خصوصا إذا كنت ستفقد نقاطا عند الإجابة الخاطئة -، وقد دلّت الأبحاث على أن الجواب الصحيح غالبا هو ما يقع في نفس الطالب أولا.
- في الإمتحانات الكتابية، اجمع ذهنك قبل أن تبدأ الإجابة، واكتب الخطوط العريضة لإجابتك ببضع كلمات تشير إلى الأفكار التي تريد مناقشتها. ثمّ رقّم الأفكار حسب التسلسل الذي تريد عرضه.
- أكتب النقطة الرئيسة للإجابة في أول السطر لأنّ هذا ما يبحث عنه المصحح وقد لا يرى المطلوب إذا كان داخل العبارات والسطور وكان المصحح في عجلة.
- خصص 10 بالمائة من الوقت لمراجعة إجاباتك. وتأنّ في المراجعة وخصوصا في العمليات الرياضية وكتابة الأرقام، وقاوم الرغبة في تسليم ورقة الامتحان بسرعة ولا يُزعجنّك تبكير بعض الخارجين فقد يكونون ممن استسلموا مبكّرا.
- إذا اكتشفت بعد الاختبار أنّك أخطأت في بعض الإجابات فخذ درسا في أهمية المزيد من الاستعداد مستقبلا أو عدم الاستعجال في الإجابة وارض بقضاء الله ولا تقع فريسة للإحباط واليأس وتذكّر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. صحيح مسلم وقد تقدّم أوله.
- اعلم بأنّ الغشّ محرّم سواء في مادة اللغة الأجنبية أو غيرها وقد قال عليه الصلاة والسلام: من غشّ فليس منا، وهو ظلم وطريقة محرّمة للحصول على ما ليس بحقّ لك من الدّرجات والشهادات وغيرها، وأنّ الاتّفاق على الغشّ هو تعاون على الإثم والعدوان، فاستغن عن الحرام يُغْنك الله من فضله وارفض كلّ وسيلة وعرْض محرّم يأتيك من غيرك ومن ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه.
وعليك بإنكار المنكر ومقاومته والإبلاغ عمّا تراه من ذلك أثناء الاختبار وقبله وبعده وليس هذا من النميمة المحرّمة بل من إنكار المنكر الواجب.
فانصح من يقوم ببيع الأسئلة أو شرائها أو يقوم بنشرها عبر شبكة الإنترنت وغيرها والذين يقومون بإعداد أوراق الغشّ، وقل لهم أن يتقوا الله، وأخبرهم بحكم فعلهم وحكم مكسبهم وأنّ هذا الوقت الذي يقضونه في الإعداد المحرّم لو أنفقوه في المذاكرة الشّرعيّة وحلّ الاختبارات السابقة والتعاون على تفهيم بعضهم بعضا قبل الاختبار لكان خيرا لهم وأقوم من الأعمال والاتفاقات المحرمة.
- تذكّر ما أعددت للآخرة وأسئلة الامتحان في القبر وسُبل النجاة يوم المعاد: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
نسأل الله أن يجعلنا من الفالحين الناجحين في الدنيا والفائزين الناجين في الآخرة إنه سميع مجيب.(13/255)
الشيخ محمد صالح المنجد(13/256)
كذبة إبريل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وبعد
فإن الكذب من مساوئ الأخلاق، وبالتحذير منه جاءت الشرائع، وعليه اتفقت الفِطر، وبه يقول أصحاب المروءة والعقول السليمة.
و" الصدق أحد أركان بقاء العالم.. وهو أصل المحمودات، وركن انبوات، ونتيجة التقوى، ولولاه لبطلت أحكام الشرائع، والاتصاف بالكذب: انسلاخ من الإنسانية لخصوصية الإنسان بالنطق."
" بريقة محمودية " محمد الخادمي (3 / 183) .
وفي شرعنا الحنيف جاء التحذير منه في الكتاب والسنة، وعلى تحريمه وقع الإجماع، وكان للكاذب عاقبة غير حميدة إن في الدنيا وإن في الآخرة.
ولم يأت في الشرع جواز " الكذب " إلا في أمورٍ معينة لا يترتب عليها أكل حقوق، ولا سفك دماء، ولا طعن في أعراض ... الخ، بل هذه المواضع فيها إنقاذ للنفس أو إصلاح بين اثنين، أو مودة بين زوجين.
ولم يأت في الشريعة يومٌ أو لحظة يجوز أن يكذب فيها المرء ويخبر بها ما يشاء من الأقوال، ومما انتشر بين عامة الناس ما يسمى " كذبة نيسان " أو " كذبة أبريل " وهي: زعمهم أن اليوم الأول من الشهر الرابع الشمسي - نيسان - يجوز فيه الكذب من غير ضابط شرعي.
وقد ترتب على هذا الفعل مفاسد كثيرة - يأتي ذكر بعضها -.(13/257)
تحريم الكذب:
1. وقال تعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} [النحل / 105] .
قال ابن كثير:
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب؛ لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شرارُ الخلق الذين لا يؤمنون بآيات الله من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان أصدق الناس، وأبرهم، وأكملهم علماً وعملاً وإيماناً وإيقاناً، معروفاً بالصدق في قومه لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا " بالأمين محمد "، ولهذا سأل " هرقل " - ملك الروم - أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما قال له: " هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
" تفسر ابن كثير " (2 / 588) .
2. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان.
رواه البخاري (33) ومسلم (59) .
قال النووي:
الذي قاله المحققون والأكثرون - وهو الصحيح المختار -: أن معناه: أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، ...
وقوله صلى الله عليه وسلم " كان منافقاً خالصاً " معناه: شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه. فهذا هو المختار في معنى الحديث، وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي رضي الله عنه معناه عن العلماء مطلقاً فقال: إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل. " شرح مسلم " (2 / 46، 47) .
وأشنع الكذب:
1. الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
وهو أعظم الكذب، وصاحبه معرَّض للوعيد الشديد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تكفير فاعله.
قال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}
وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تكذبوا عليَّ؛ فإنه من كذب علي فليلج النار ".
رواه البخاري (106) .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار ".
رواه البخاري (110) ومسلم (3) .
قال ابن القيم:
المباءة: هي التي يبوء إليها الشخص، أي: يرجع إليها رجوع استقرار، والمباءة " هي المستقر ومنه قوله " من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار "، أي: ليتخذ مقعده من النار مباءة يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذي ينزله ثم يرحل عنه.
" طريق الهجرتين " (ص 169) .
ومن الكذب ما يكونعلى الخلق مثل
2. الكذب في البيع والشراء
عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ".
رواه مسلم (106) .
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ".
رواه البخاري (1973) ومسلم (532) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والله تعالى قد أمر بالصدق والبيان، ونهى عن الكذب والكتمان فيما يحتاج إلى معرفته وإظهاره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما "، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة / 8] .
" منهاج السنة " (1 / 16) .
3. تحريم الكذب في الرؤيا والحلم
وهو ما يدَّعيه بعضهم أنه رأى في منامه كذا وهم غير صادق، ثم يصبح يقص على الناس ما لم ير.
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تحلَّم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون - أو يفرون منه - صُب في أذنه الآنُك يوم القيامة، ومن صوَّر صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ ".
رواه البخاري (6635) .
قال المناوي:
" أن يعقد بين شعيرتين " بكسر العين، تثنية شعيرة، ولن يقدر أن يعقد بينهما؛ لأن اتصال أحدهما بالأخرى غير ممكن عادة، فهو يُعذب حتى يفعل ذلك، ولا يمكنه فعله فكأنه يقول يكلف ما لا يستطيعه فيعذب عليه، فهو كناية عن تعذيبه على الدوام،… ووجه اختصاص الشعير بذلك دون غيره لما في المنام من الشعور وبما دل عليه فحصلت المناسبة بينهما من جهة الاشتقاق.
وإنما شدد الوعيد على ذلك - مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه إذ يكون شهادة في قتل أو حدٍّ؛ - لأن الكذب في النوم كذب على الله تعالى؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة، وما كان من أجزائها فهو منه تعالى والكذب على الخالق أقبح منه على المخلوق.
" فيض القدير " (6 / 99) .
4. تحريم التحدث بكل ما يسمع
عن حفص بن عاصم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع ".
رواه مسلم (5) .
قال النووي:
وأما معنى الحديث والآثار التي في الباب: ففيها الزجر عن التحدث بكل ما سمع الإنسان؛ فانه يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدَّث بكل ما سمع فقد كذب؛ لإخباره بما لم يكن، وقد تقدم أن مذهب أهل الحق: أن الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا يشترط فيه التعمد، لكن التعمد شرط في كونه إثما والله أعلم.
" شرح مسلم " (1 / 75) .
5. الكذب في المزاح
ويظن بعض الناس أنه يحل له الكذب إذا كان مازحاً، وهو العذر الذي يتعذرون به في كذبهم في أول " نيسان " أو في غيره من الأيام، وهذا خطأ، ولا أصل لذلك في الشرع المطهَّر، والكذب حرام مازحاً كان صاحبه أو جادّاً.
الكذب في المزاح حرام كالكذب في غيره.
عن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقّاً ".
رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (12 / 391) .
والحديث: حسنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8 / 89) ، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في " صحيح الجامع " (2494) .
وعن أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: " إني لا أقول إلا حقا ".
رواه الترمذي (1990) .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
ونحوه عند الطبراني في " الأوسط " (8 / 305) وحسَّنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (9 / 17) .
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال ما يضحككم فقالوا لا إلا أنا أخذنا نبل هذا ففزع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً.
رواه أبو داود (5004) وأحمد - واللفظ له - (22555) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (7658) .
عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جادّاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها.
رواه أبو داود (5003) ، والترمذي (2160) - مختصراً -.
والحديث: حسنه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (7578) .
6. الكذب في ملاعبة الصبيان
ينبغي الحذر من الكذب في ملاعبة الصبيان فإنه يكتب على صاحبه، وقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما أردت أن تعطيه؟ " قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة "، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة ".
رواه أبو داود (4991) .
والحديث: حسنه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (1319) .
7. الكذب للإضحاك
عن معاوية بن حيدة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له.
رواه الترمذي (235) وقال: هذا حديث حسن، وأبو داود (4990) .
عاقبة الكذب:
وقد تُوعِّد الكاذب بعقوبات دنيوية مهلكة، وبعقوبات أخروية مخزية، ومنها:
1. النفاق في القلب.
قال تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة / 77] .
قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا المنافق بثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، قال: وتلا هذه الآية: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} إلى قوله: {نفاقا في قلوبهم} إلى قوله: {بما كانوا يكذبون} .
" مصنف ابن أبي شيبة " (6 / 125) .
2. الهداية إلى الفجور وإلى النار
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذاباً ".
رواه البخاري (5743) ومسلم (2607) .
قال الصنعاني:
وفي الحديث إشارة إلى أن من تحرى الصدق في أقواله صار له سجية ومن تعمد الكذب وتحراه صار له سجية، وأنه بالتدرب والاكتساب تستمر صفات الخير والشر.
والحديث دليل على عظمة شأن الصدق وأنه ينتهي بصاحبه إلى الجنة، ودليل على عظمة قبح الكذب وأنه ينتهي بصاحبه إلى النار، وذلك من غير ما لصاحبهما في الدنيا؛ فإن الصدوق مقبول الحديث عند الناس، مقبول الشهادة عند الحكام محبوب مرغوب في أحاديثه والكذوب بخلاف هذا كله.
" سبل السلام " (2 / 687) .
3. رد شهادته
قال ابن القيم:
[الحكمة في رد شهادة الكذاب]
وأقوى الأسباب في رد الشهادة والفتيا والرواية: الكذب؛ لأنه فساد في نفس آلة الشهادة والفتيا والرواية، فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال، وشهادة الأصم الذي لا يسمع على إقرار المقر؛ فإن اللسان الكذوب بمنزلة العضو الذي قد تعطل نفعه، بل هو شر منه، فشر ما في المرء لسان كذوب.
" أعلام الموقعين " (1 / 95) .
4. سواد الوجه في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} [الزمر / 60] .
قال ابن القيم:
ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب عليه يوم القيامة وشعار الكاذب على رسوله سواد وجوههم، والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه برقعا من المقت يراه كل صادق، فسيما الكاذب في وجهه ينادى عليه لمن له عينان، والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة ومقتا، فمن رآه مقته واحتقره، وبالله التوفيق.
" أعلام الموقعين " (1 / 95) .
5. شق شدق الكاذب إلى قفاه
عن سَمُرَة بْن جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا قَالَ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي انْطَلِقْ.. فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ فَيَشُقُّ قَالَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَالَ قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ (ثم قال في تفسير الملكين للمشاهد التي رآها) : وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ..
رواه البخاري (5745) .
أقوال السلف في الكذب:
1. قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى ما يكون للفجور في قلبه موضع إبرة يستقر فيه، وإنه ليكذب ويتحرى الكذب حتى ما يكون للصدق في قلبه موضع إبرة يستقر فيه.
2. وعنه قال: لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ثم تلا عبد الله {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} .
3. قال أبو بكر الصدِّيق: إياكم والكذب فإنه مجانب الإيمان.
4. عن سعد بن أبي وقاص قال: المؤمن يطبع على الخلال كلها غير الخيانة والكذب.
5. عن عمر رض الله عنه قال: لا تبلغ حقيقة الإيمان حتى تدع الكذب في المزاح.
" مصنف ابن أبي شيبة " (5 / 235، 236) .
الكذب الجائز
ويكون في مواضع ثلاثة: الحرب، للإصلاح بين المتخاصِمين، وكذب الزوج على زوجته والعكس لأجل المودة وعدم الشقاق.
عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً.
رواه البخاري (2546) ، ومسلم (2605) .
وعن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس ".
رواه الترمذي (1939) .
والحديث: حسنه الشي الألباني في " صحيح الجامع " (7723) .
كذبة نيسان
وأما كذبة إبريل فلم يعرف أصل هذه الكذبة على وجه التحديد وهناك آراء مختلفة في ذلك:
فذكر بعضهم أنها نشأت مع احتفالات الربيع عند تعادل الليل والنهار في 21من شهر آذار …..
ويرى بعضهم أن هذه البدعة بدأت في فرنسا عام (1564م) بعد فرض التقويم الجديد كما سبق إذ كان الشخص الذي يرفض هذا التقويم الجديد يصبح في اليوم الأول من شهر إبريل ضحية لبعض الناس الذين كانوا يعرضونه لمواقف محرجة ويسخرون منه فيصبح محط سخرية الآخرين.
ويرى بعضهم أن هذه البدعة تمتد إلى عصور قديمة واحتفالات وثنية لارتباطها بتاريخ معين في بداية فصل الربيع إذ هي بقايا طقوس وثنية ويقال إن الصيد في بعض البلاد يكون خائبا في أول أيام الصيد في بعض البلاد في الغالب فكان هذا قاعدة لهذه الأكاذيب التي تختلق في أول شهر إبريل.
سمكة إبريل: يطلق الإفرنج على كذبة إبريل " سمكة إبريل" ………. وسبب تسميتها بهذا الاسم أن الشمس تنتقل فيه من برج الحوت إلى ما يلنه أو لأن كلمة (بواسون) السابقة التي معناها سمكة محرفة من لفظ باسيون التي معناها " العذاب " إذ هي رمز للعذاب الذي كابده عيسى عليه الصلاة والسلام فيما يدعيه النصارى ويزعمون أنه حدث في أول شهر أبريل.
ويُسمى هذا اليوم عند بعض الكفار بيوم جميع الحمقى والمغفلين: كما أطلقه الإنجليز وذلك لما يفعلونه من أكاذيب حيث قد يصدقهم من يسمع فيصبح ضحية لذلك فيسخرون منه.
وأول كذبة إبريل ورد ذكرها في اللغة الإنجليزية في مجلة كانت تعرف بـ " مجلة دريك " ………. ففي اليوم الثاني من إبريل علم (1698م) ذكرت هذه المجلة أن عددا من الناس تسلموا دعوة لمشاهد عملية غسل السود في برج لندن في صباح اليوم الأول من شهر إبريل.
ومن أشهر ما حدث في أوروبا في أول إبريل أن جريدة " ايفند ستار " الإنجليزية أعلنت في مارس (آذر) سنة (1746) أن غدا -أول إبريل - سيقام معرض حمير عام في غرفة الزراعة لمدنية (اسلنجتون) من البلاد الإنجليزية فهرع الناس لمشاهدة تلك الحيوانات واحتشدوا احتشادا عظيما وظلوا ينتظرون فلما أعياهم الانتظار سألوا عن وقت عرض الحمير فلم يجدوا شيئا فعلموا أنهم إنما جاءوا يستعرضون أنفسهم فكأنهم هم الحمير!!
انظر كتاب (كذبة ابريل نيسان أصلها التاريخي وحكمها الشرعي) للدكتور عاصم بن عبد الله القريوتي.
ولا يهمنا معرفة أصل هذه الكذبة بقدر ما يهمنا حكم الكذب في يومها، والذي نجزم به أنها لم تكن في عصور الإسلام الزاهرة الأولى، وليس منشؤها من المسلمين، بل هي من أعدائهم.
والحوادث في كذبة نيسان كثيرة، فمن الناس من أخبر بوفاة ولده أو زوجته أو بعض محبيه فلم يحتمل الصدمة ومات، ومنهم من يخبر بإنهاء وظيفته أو بوقوع حريق أو حادث تصادم لأهله فيصاب بشلل أو جلطة أو ما شابههما من الأمراض.
وبعض الناس يُتحدث معه كذباً عن زوجته وأنها شوهدت مع رجل فيسبب ذلك قتلها أو تطليقها.
وهكذا في قصص لا تنتهي وحوادث لا نهاية لها، وكله من الكذب الذي يحرمه الدين والعقل، وتأباه المروءة الصادقة.
وقد رأينا كيف أن الشرع حرَّم الكذب حتى في المزاح، وأنه نهى أن يُروَّع المسلم سواء كان جادّاً أو مازحاً معه في الحديث أو الفعل.
فهذا شرع الله فيه الحكمة والعناية بأحوال الناس وإصلاحهم.
والله الموفق.(13/258)
الكسوف بين أهل الإيمان وأهل الغفلة(13/259)
ماذا قال أهل الدنيا في الكسوف
قال باحث علمي: " إن الكسوف ظاهرة طبيعية يجب التعامل معها بدون رعب "
أما ماذا فعلوا فقد جاءت الأخبار بما يلي؟
- سيتم توفير النّارات الطبيّة للناس ليتمتّعوا بهذه اللحظات الممتعة.
- في بعض البلدان تمّ استيراد 50,000 نظّارة خاصة لاستخدامها في مشاهدة الكسوف في الأربعاء المقبل.
- سيتجمّع النّاس عند أجهزة التلسكوبات المخصّصة لإفساح المجال لهم لمشاهدة الكسوف بوسائل علمية متطوّرة.
- تنظّم الخطوط الجوية البريطانية رحلتين بطائرتي كونكورد لمراقبة كسوف الشّمس الأربعاء المقبل من مطار هيثرو وتتجّهان غربا عبر حتى منتصف المسافة ثم تعودان ليتمكن 200 راكب من مشاهدة الكسوف على ارتفاع 58000 قدم وبضعف سرعة الصوت وقد بيعت جميع تذاكر الطائرتين في وقت قليل.
- وفي بعض البلدان نُصح الناس بلزوم البيوت وعدم الخروج إلى الشوارع إطلاقا.
هذا ما قاله أهل الغفلة فماذا يقول أهل الإيمان، قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه(13/260)
بَاب الصَّلاةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ رِدَاءهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ [وَلا لِحَيَاتِهِ] ، [وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ] فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا [فَقُومُوا فَصَلُّوا] وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ 982
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا ثُمَّ قَالَ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. صحيح البخاري 986
ثم قال رحمه الله: بَاب النِّدَاءِ بـ الصَّلاةُ جَامِعَةٌ فِي الْكُسُوفِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُودِيَ إِنَّ الصَّلاةَ جَامِعَةٌ. صحيح البخاري 989
ثم قال رحمه الله:
بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ لَهَا أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَخَسَفَتْ الشَّمْسُ فَرَجَعَ ضُحًى فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْحُجَرِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. رواه البخاري 991
ثم قال رحمه الله تعالى:(13/261)
بَاب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءةِ فِي الْكُسُوفِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ فِي صَلاةِ الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ (أي ركوعات) فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ صحيح البخاري 1004
ونقتطف فيما يلي فوائد مهمة من شرح الحافظ بن حجر العسقلاني رحمه الله لأحاديث البخاري باختصار وتصرّف مع عناوين يسيرة:
الخسوف والكسوف تخويف من الله لعباده وتذكير لهم بيوم القيامة الذي يخسف فيه القمر وتكوّر فيه الشمس والقمر
قوله: (آيتان) أي علامتان (من آيات الله) أي الدالة على وحدانية الله وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته , ويؤيده قوله تعالى (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)
قوله " يخوف الله بهما عباده ".. قد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله , وأن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له "
والحديث.. قد أثبته غير واحد من أهل العلم , وهو ثابت من حيث المعنى أيضا , لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي , فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته. ويؤيده قوله تعالى (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) اهـ. ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاووس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت وقال: هي أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله " يخوف الله بهما عباده " وليس بشيء.. لأن الله أفعالا على حسب العادة , وأفعالا خارجة عن ذلك , وقدرته حاكمة على كل سبب , فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد , وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوّفا لعباد الله تعالى.(13/262)
حكمها
قوله: (باب الصلاة في كسوف الشمس) أي مشروعيتها , وهو أمر متفق عليه , لكن اختلف في الحكم وفي الصفة , فالجمهور على أنها سنة مؤكدة..(13/263)
فزعه عليه الصلاة والسلام للكسوف
قوله: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه) عن يونس " مستعجلا ".. ولمسلم من حديث أسماء " كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه " يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك.
مدّ الصلاة إلى الانجلاء
قوله: (حتى انجلت) استدل به على إطالة الصلاة حتى يقع الانجلاء , وأجاب الطحاوي بأنه قال فيه " فصلوا وادعوا " فدل على أنه إن سلّم من الصلاة قبل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي , وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين.. ولا يلزم منه تطويل الصلاة ولا تكريرها.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشمس) زاد في رواية ابن خزيمة " فلما كشف عنا خطبنا فقال " واستدل به على أن الانجلاء لا يُسقط الخطبة.(13/264)
إبطال اعتقاد الجاهلية في الكسوف
قوله: (لموت أحد) في رواية " وذلك أن ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له إبراهيم مات فقال الناس في ذلك " وفي رواية: " فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم " , وفي رواية " انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد , فلم يزل يصلي حتى انجلت , فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء , وليس كذلك " الحديث. وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض , وهو نحو قوله في الحديث الماضي في الاستسقاء " يقولون مطرنا بنوء كذا " قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر , فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل , وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.
. قوله: (ولا لحياته) فائدة ذكر الحياة دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد.
وفي الكسوف إشارة إلى تقبيح رأي من يعبد لشمس أو القمر , وحمل بعضهم الأمر في قوله تعالى (واسجدوا لله الذي خلقهن) على صلاة الكسوف لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتهما لما يظهر فيهما من التغيير والنقص المنزه عنه المعبود جل وعلا سبحانه وتعالى.(13/265)
وقتها:
قوله: (فقوموا فصلوا) استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معيّن , لأن الصلاة علقت برؤيته , هي ممكنة في كل وقت من النهار , وبهذا قال الشافعي ومن تبعه ,.. (و) المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء. وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء ,
تاريخ وقوع الكسوف في العهد النبوي:
قوله: (يوم مات إبراهيم) يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم , وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة , فقيل في ربيع الأول وقيل في رمضان والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر وقيل في رابع عشرة ,
ماذا يفعل الناس:
- قوله: (فأفزعوا) بفتح الزاي أي التجئوا وتوجهوا , وفيه إشارة إلى المبادرة إلى المأمور به , وأن الالتجاء إلى الله عند المخاوف بالدعاء والاستغفار سبب لمحو ما فرط من العصيان يرجى به زوال المخاوف وأن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة , نسأل الله تعالى رحمته وعفوه وغفرانه.
قوله: (فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعا يخشى أن تكون الساعة) أي يخشى أن تحضر الساعة
فلعله خشى أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها , ولا يستحيل ان يتخلل بين الكسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر وتقع متتالية بعضها إثر بعض مع استحضار قوله تعالى (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) , وتعظيما منه لأمر الكسوف ليتبين لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثرها.
قوله: (هذه الآيات التي يرسل الله) ثم قال (ولكن يخوف الله بها عباده) موافق لقوله تعالى (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)
واستدل بذلك على أن الأمر بالمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين لأن الآيات أعم من ذلك ,(13/266)
باب الصدقة في الكسوف:
ورد الأمر - في الأحاديث التي أوردها في الكسوف - بالصلاة والصدقة والذكر والدعاء وغير ذلك , وقد قدم منها الأهم فالمهم.
باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف
قوله: (باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف) قال ابن المنير في الحاشية: مناسبة التعوذ عند الكسوف أن ظلمة النهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر وان كان نهارا , والشيء بالشيء يذكر , فيخاف من هذا كما يخاف من هذا , فيحصل الاتعاظ بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الآخرة.(13/267)
ماذا قرأ في الصلاة:
قوله: (فأطال القيام) في رواية ابن شهاب " فاقترأ قراءة طويلة " وفي أواخر الصلاة من وجه آخر عنه " فقرأ بسورة طويلة " وفي حديث ابن عباس بعد أربعة أبواب " فقرأ نحوا من سورة البقرة في الركعة الأولى " ونحوه لأبي داود من طريق سليمان بن يسار عن عروة وزاد فيه أنه " قرأ في القيام الأول من الركعة الثانية نحوا من آل عمران ".
كيفيتها:
قوله: (ثم قام فأطال القيام) في رواية ابن شهاب " ثم قال سمع الله لمن حمده " وزاد من وجه آخر عنه في أواخر الكسوف " ربنا ولك الحمد " واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى , واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه , والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها , بل كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعا لأنها أصل برأسه , وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها. .. والقياس مع وجود النص يضمحل , وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد ونحوها مما يجمع فيه من مطلق النوافل , فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود , وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات , وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة , فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع.
قوله: (فأطال الركوع) .
اتفقوا على أنه لا قراءة فيه , وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما
قوله: (ثم انصرف) أي من الصلاة (وقد تجلت الشمس) في رواية ابن شهاب " انجلت الشمس قبل أن ينصرف " وللنسائي " ثم تشهد وسلم "
قوله: (باب طول السجود في الكسوف)
ثبتت الأحاديث الصحيحة في تطويله
قوله: (ما سجدت سجودا قط كان أطول منها) كذا فيه , وفي رواية غيره " منه " أي من السجود المذكور , زاد مسلم فيه " ولا ركعت ركوعا قط كان أطول منه " , وتقدم في رواية عروة عن عائشة بلفظ " ثم سجد فأطال السجود "
وللشيخين من حديث أبي موسى " بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط " ولأبي داود والنسائي من حديث سمرة " كأطول ما سجد بنا في صلاة قط " وكل هذه الأحاديث ظاهرة في أن السجود في الكسوف يطوّل كما يطوّل القيام والركوع ,
رواه مسلم في حديث جابر بلفظ " وسجوده نحو من ركوعه " وهذا مذهب أحمد وإسحاق وأحد قولي الشافعي وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه واختاره النووي ,
(تنبيه) : وقع في حديث جابر الذي أشرت إليه عند مسلم تطويل الاعتدال الذي يليه السجود ولفظه " ثم ركع فأطال , ثم سجد "
وروى النسائي وابن خزيمة وغيرهما , من حديث عبد الله بن عمرو أيضا وفيه " ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع , ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد , ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع , ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد , ثم سجد " الحديث صحيح , ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا ,
قوله: (باب الركعة الأولى في الكسوف أطول)
قال فيه " ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ".. وقد رواه الإسماعيلي بلفظ " الأولى فالأولى أطول " وفيه دليل لمن قال: إن القيام الأول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من الركعة الأولى ,.. فيكون كل قيام دون الذي قبله، ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد من قوله " القيام الأول " أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن مقدارهما , فالأول أكثر فائدة , والله أعلم.
الروايات الواردة في كيفيتها
واستدل به على أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره , ومن زيادة ركوع في كل ركعة.
ومن عناوين بعض نسخ البخاري " باب صب المرأة على رأسها الماء إذا أطال الإمام القيام في الركعة الأولى " (أي إذا غشي على المصلي وهو يصلي وأنّ ذلك لا يُبطل الصلاة)
خطبتها:
قوله: (فخطب الناس) فيه مشروعية الخطبة للكسوف ,
واستدل به على أن الانجلاء لا يسقط الخطبة , بخلاف ما لو انجلت قبل أن يشرع في الصلاة فإنه يسقط الصلاة والخطبة
قوله: (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي في حديث سمرة " وشهد أنه عبد الله ورسوله ". قوله: (فاذكروا الله) في رواية الكشميهني " فادعوا الله ". قوله: (والله ما من أحد) فيه القسم لتأكيد الخبر وإن كان السامع غير شاك فيه. قوله: (ما من أحد أغيرَ) بالنصب
الحمية والأنفة , وأصلها في الزوجين والأهلين
لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء , وخص منها الزنا لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة الرب الذي يغار سبحانه وتعالى. وقوله " يا أمة محمد "
بسبب كون المقام مقام تحذير وتخويف.. ومثله " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا " الحديث. وصدر صلى الله عليه وسلم كلامه باليمين لإرادة التأكيد للخبر وإن كان لا يرتاب في صدقه ,
ويؤخذ من قوله " يا أمة محمد " أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه , بل يبالغ في التواضع لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه. قوله: (لو تعلمون ما أعلم) أي من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الإجرام
قوله: (لضحكتم قليلا) أي لتركتم الضحك ولم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن.
وفي الحديث ترجيح التخويف في الخطبة على التوسع في الترخيص لما في ذكر الرخص من ملاءمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة , والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها.
قوله: (باب خطبة الإمام في الكسوف) اختلف في الخطبة فيه , فاستحبها الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث. قال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. .. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد لها خطبة بخصوصها , وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس. وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث , فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف , والأصل مشروعية الاتباع , والخصائص لا تثبت إلا بدليل. وقد استضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور وقال: إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين , بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة , وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف , فينبغي التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف. نعم نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبتي الجمعة والعيدين , إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك , البخاري 988
هل تجب الجماعة لها
قوله: (إلى الصلاة) أي المعهودة الخاصة.. ويستنبط منه أن الجماعة ليست شرطا في صحتها لأن فيه إشعارا بالمبادرة إلى الصلاة والمسارعة إليها.. (ولكن قد ثبتت الجماعة من فعله صلى الله عليه وسلم فهي السنّة ولكن يصحّ أن يصليها المسلم وحده ذكرا او أنثى حضرا أو سفرا)(13/268)
باب صلاة الكسوف في المسجد
يؤخذ من قولها فيه " فمر بين ظهراني الحجر " لأن الحجر بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لاصقة بالمسجد , وقد وقع التصريح بذلك.. عند مسلم ولفظه " فخرجت في نسوة بين ظهراني الحجر في المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم من مركبه حتى أتى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه " الحديث , والمركب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه بسبب موت ابنه إبراهيم.. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتى المسجد.. وصح أن السنة في صلاة الكسوف أن تصلى في المسجد , ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء , والله أعلم.(13/269)
صلاة النساء مع الرجال في الكسوف
فيه رد قول من منع ذلك وقال: يصلين فرادى ,.. وفي المدونة: تصلي المرأة في بيتها وتخرج المتجالّة (أي الكبيرة في السنّ إلى المسجد) . وعن الشافعي يخرج الجميع إلا من كانت بارعة الجمال. (وذلك خشية افتتان الرجال بها) .
ذكر الله في وقت الكسوف يكون بكلّ صيغة مشروعة
قوله: (إلى ذكر الله) في رواية الكشميهني " إلى ذكره " والضمير يعود على الله في قوله " يخوف الله بها عباده " , وفيه الندب إلى الاستغفار عند الكسوف وغيره لأنه مما يدفع به البلاء.
- مما ذكره الؤرخون المسلمون في كتب التاريخ الإسلامي(13/270)
جاء في البداية والنهاية
وفي جمادى الآخرة (453 هـ) ، لليلتين بقيتا منه، كسفت الشمس كسوفا عظيما، جميع القرص غاب، فمكث الناس أربع ساعات، حتى بدت النجوم، وآوت الطيور إلى أوكارها، وتركت الطيران لشدة الظلمة.
وقال رحمه الله في موضع آخر: وفي صبيحة يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر المذكور (جمادى الآخرة) كسفت الشمس قبل الظهر.
وأخيرا(13/271)
ما موقفنا من النّاحية الطّبية؟
من الحكمة أن لا نحدّق في الشّمس وقت الكسوف إذا ثبت طبيا أنه أمر مضرّ. ولا بأس أن يحضر أطّباء العيون في العيادات والمستشفيات لمعالجة أي حالة طارئة، هذا احتياط مقبول لكن أن يترك الناس العبادة العظيمة وهي صلاة الكسوف التي يخوّف الله بها عباده لأجل الاستمتاع بالنّظر إلى الكسوف بالنّظارات الخاصّة وحمل المناظير وآلات التصوير فهذه قمّة الغفلة في هذه المناسبة.
الناس يخشون من أخطار الأشعة فوق البنفسجية لأجل المضاعفات الخطيرة المحتملة التي تهدّد بحروق في شبكية العين وتدمير خلايا هذه الشّبكة وفقدان شفافية العدسة.
الأشعة تحت الحمراء تحرق الشبكية دون أن يحسّ الشخص.
فليتنا نخاف اليوم الذي تحترق فيه العين وهي تحسّ.
اللهم اجعلنا نخشاك كأنّنا نراك وأسعدنا بتقواك وأعزّنا بطاعتك ولا تُذلّنا بمعصيتك وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله على نبينا محمد.(13/272)
نبذة عن شهر صفر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
شهر صفر هو أحد الشهور الإثنى عشر الهجرية وهو الشهر الذي بعد المحرم، قال بعضهم: سمِّي بذلك لإصفار مكَّة من أهلها (أي خلّوها من أهلها) إذا سافروا فيه، وقيل: سَمَّوا الشهر صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع (أي يسلبونه متاعه فيصبح لا متاع له) . انظر لسان العرب لابن منظور ج/4 ص/462-463(13/273)
وسيتناول الحديث عن هذا الشهر النقاط التالية:
1. ما ورد فيه عند العرب الجاهليين.
2. ما ورد في الشرع مما يخالف أهل الجاهلية.
3. ما يوجد في هذا الشهر من البدع والاعتقادات الفاسدة من المنتسبين للإسلام.
4. ما حدث في هذا الشهر من غزوات وأحداث مهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
5. ما ورد في الأحاديث المكذوبة في صفر.(13/274)
أولاً:
ما ورد فيه عند العرب الجاهليين:
كان للعرب في شهر صفر منكران عظيمان: الأول: التلاعب فيه تقديما وتأخيرا، والثاني: التشاؤم منه.
1. من المعلوم أن الله تعالى خلق السنة وعدة شهورها اثنا عشر شهراً، وقد جعل الله تعالى منها أربعةً حرم، حرَّم فيها القتال تعظيماً لشأنها، وهذه الأشهر هي: ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، ورجب.
ومصداق ذلك في كتاب الله قوله تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} [التوبة / 36] .
وقد علم المشركون ذلك، لكنهم كانوا يؤخرون فيها ويقدمون على هواهم، ومن ذلك: أنهم جعلوا شهر " صفر " بدلاً من " المحرَّم "!
وكانوا يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وهذه طائفة من أقوال أهل العلم في ذلك:
أ. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدَّبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر: حلَّت العمرة لمن اعتمر.
رواه البخاري (1489) ومسلم (1240) .
ب. قال ابن العربي:
المسألة الثانية: كيفية النسيء:
ثلاثة أقوال:
الأول:
عن ابن عباس أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم كل عام، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب، ألا وإن صفراً العام الأول حلال، فنحرمه عاما، ونحله عاما، وكانوا مع هوازن وغطفان وبني سليم.
وفي لفظة: أنه كان يقول: إنا قدمنا المحرم وأخرنا صفراً، ثم يأتي العام الثاني فيقول: إنا حرمنا صفرا وأخرنا المحرم؛ فهو هذا التأخير.
الثاني: الزيادة: قال قتادة: عمد قوم من أهل الضلالة فزادوا صفرا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرم، فيحرمونه ذلك العام، ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت صفرا فيحرمونه ذلك العام، ويقولون: الصفران. وروى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك نحوه قال: كان أهل الجاهلية يجعلونه صفرين، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا صفر "، وكذلك روى أشهب عنه.
الثالث: تبديل الحج: قال مجاهد بإسناد آخر: {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافت حجة أبي بكر في ذي القعدة، ثم حج النبي في ذي الحجة، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في خطبته: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض "، رواه ابن عباس وغيره، واللفظ له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا في هذا الموقف أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام إلى يوم تلقون ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلغت، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فقد رضي به، فاحذروه أيها الناس على دينكم، وإن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا إلى قوله ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان "، وذكر سائر الحديث.
" أحكام القرآن " (2 / 503 - 504) .
2. أما التشاؤم من شهر صفر فقد كان مشهوراً عند أهل الجاهلية ولا زالت بقاياه في بعض من ينتسب للإسلام.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامَة ولا صَفَر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد ".
رواه البخاري (5387) ومسلم (2220) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
و" صفر " فُسِّر بتفاسير:
الأول: أنه شهر صفر المعروف، والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنه داء في البطن يصيب البعير، وينتقل من بعير إلى آخر، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: صفر: شهر صفر، والمراد به النسيء الذي يُضل به الذين كفروا، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً.
وأرجحها: أن المراد: شهر صفر، حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله عز وجل، فهو كغيره من الأزمنة يُقدَّر فيه الخير والشر.
وبعض الناس إذا انتهى من عمل معين في اليوم الخامس والعشرين - مثلاً - من صفر أرَّخ ذلك وقال: انتهى في الخامس والعشرين من شهر صفر الخير، فهذا من باب مداواة البدعة بالبدعة، فهو ليس شهر خير ولا شر؛ ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: " خيراً إن شاء الله "، فلا يقال خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة وألا يضعف الملم أمام هذه الأمور.
وإذا ألقى المسلم بالَه لهذه الأمور فلا يخلو من حالين:
الأولى: إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم، فيكون حينئذٍ قد علَّق أفعاله بما لا حقيقة له.
الثانية: أن لا يستجيب بأن يقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول لكن يجب أن لا يستجيب لداعي هذه الأمور مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله عز وجل …
والنفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان سبباً معلوماً فهو سبب صحيح، وما كان سبباً موهوماً فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببيته …
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (2 / 113، 115) .(13/275)
ثانياً:
ما ورد في الشرع مما يخالف أهل الجاهلية.
وقد سبق حديث أبي هريرة في الصحيحين، وفيه بيان أن اعتقاد أهل الجاهلية في صفر مذموم، فهو شهر من شهور الله لا إرادة له إنما يمضي بتسخير الله له.(13/276)
ثالثاً:
ما يوجد في هذا الشهر من البدع والاعتقادات الفاسدة من المنتسبين للإسلام.
1. سئلت اللجنة الدائمة:
إن بعض العلماء في بلادنا يزعمون أن في دين الإسلام نافلة يصليها يوم الأربعاء آخر شهر صفر وقت صلاة الضحى أربع ركعات، بتسليمة واحدة تقرأ في كل ركعة: فاتحة الكتاب وسورة الكوثر سبع عشرة مرة، وسورة الإخلاص خمسين مرة، والمعوذتين مرة مرة، تفعل ذلك في كل ركعة، وتسلم، وحين تسلم تشرع في قراءة {الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ثلاثمائة وستين مرة، وجوهر الكمال ثلاث مرات، واختتم بسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وتصدَّق بشيء من الخبز إلى الفقراء، وخاصية هذه الآية لدفع البلاء الذي ينزل في الأربعاء الأخير من شهر صفر.
وقولهم إنه ينزل في كل سنة ثلاثمائة وعشرون ألفاً من البليَّات، وكل ذلك يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر، فيكون ذلك اليوم أصعب الأيام في السنة كلها، فمن صلَّى هذه الصلاة بالكيفيَّة المذكورة: حفظه الله بكرمه من جميع البلايا التي تنزل في ذلك اليوم، ولم يحسم حوله لتكون محواً يشرب منه من لا يقدر على أداء الكيفية كالصبيان، وهل هذا هو الحل؟(13/277)
فأجاب علماء اللجنة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
هذه النافلة المذكورة في السؤال لا نعلم لها أصلاً من الكتاب ولا من السنَّة، ولم يثبت لدينا أنَّ أحداً من سلف هذه الأمَّة وصالحي خلفها عمل بهذه النافلة، بل هي بدعة منكرة.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ".
ومن نسب هذه الصلاة وما ذُكر معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم: فقد أعظم الفرية، وعليه من الله ما يستحق من عقوبة الكذَّابين.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 354) .
2. وقال الشيخ محمد عبد السلام الشقيري:
قد اعتاد الجهلاء أن يكتبوا آيات السلام كـ " سلام على نوح في العالمين " إلخ في آخر أربعاء من شهر صفر ثم يضعونها في الأواني ويشربون ويتبركون بها ويتهادونها لاعتقادهم أن هذا يُذهب الشرور، وهذا اعتقاد فاسد، وتشاؤم مذموم، وابتداع قبيح يجب أن يُنكره كل من يراه على فاعله.
" السنن والمبتدعات " (ص 111، 112) .(13/278)
رابعاً:
ما حدث في هذا الشهر من غزوات وأحداث مهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهي كثيرة، ويمكن اختيار بعضها:
1. قال ابن القيم:
ثم غزا بنفسه غزوة " الأبواء " ويقال لها " ودَّان "، وهي أول غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش، فلم يلق كيداً.
وفي هذه الغزوة وادع مخشيَّ بن عمرو الضمري وكان سيد بني ضمرة في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا أن يكثِّروا عليه جمعاً ولا يعينوا عليه عدوا وكتب بينه وبينهم كتابا وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
" زاد المعاد " (3 / 164، 165) .
2. وقال:
فلما كان صفر - (سنة ثلاث من الهجرة) - قدم عليه قوم من " عَضَل " و " القارة "، وذكروا أن فيهم إسلاما، وسألوه أن يبعث معهم من يعلِّمهم الدين، ويقرؤهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر - في قول ابن إسحاق، وقال البخاري: كانوا عشرة - وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وفيهم خبيب بن عدي، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع - وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز - غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا فجاؤوا حتى أحاطوا بهم فقتلوا عامتهم واستأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدَّثِنة، فذهبوا بهما وباعوهما بمكة وكانا قَتلا من رؤوسهم يوم بدر.
" زاد المعاد " (3 / 244) .
3. وقال:
وفي هذا الشهر بعينه وهو صفر من السنة الرابعة كانت وقعة " بئر معونة " وملخصها: أن أبا براء عامر بن مالك المدعو " ملاعب الأسنَّة " قدم على رسول الله المدينة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبونهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلا في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح: هو الصحيح، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعنق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم فساروا حتى نزلوا " بئر معونة " - وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم - فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه، وأمَر رجلا فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال: فزت ورب الكعبة، ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم فأجابته " عصية " و " رعل " و " ذكوان "، فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار فإنه ارتُثَّ - (أي: رفع وبه جراح) - بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق، وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة فنزل المنذر بن محمد فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من " مضر " جز عامرٌ ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمِّه، ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرة من صدر قناة - (اسم موضع) - نزل في ظل شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهدٌ من رسول الله لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله بما فعل فقال: لقد قتلتَ قتيلين لأَدِينَّهما.
" زاد المعاد " (3 / 246 - 248) .
4. وقال ابن القيم:
فإن خروجه - (أي: إلى خيبر) - كان في أواخر المحرم لا في أوله وفتحها إنما كان في صفر.
" زاد المعاد " (3 / 339، 340) .
5. وقال:
فصل في ذكر سرية " قطبة بن عامر بن حديدة " إلى خثعم.
وكانت في صفر سنة تسع، قال ابن سعد: قالوا: بعث رسول الله قطبة بن عامر في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية تبالة، وأمَره أن يشن الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضرة، ويحذرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضرة فشنوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقَتل قطبة بن عامر مَن قتل، وساقوا النَّعم والنساء والشاء إلى المدينة، وفي القصة أنه اجتمع القوم، وركبوا في آثارهم فأرسل الله سبحانه عليهم سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين فساقوا النَّعم والشاء والسبي وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروا إليهم حتى غابوا عنهم.
" زاد المعاد " (3 / 514) .
6. وقال:
وقدم على رسول الله وفد " عُذرة " في صفر سنة تسع اثنا عشر رجلاً فيهم جمرة بن النعمان فقال رسول الله: مَن القوم؟ فقال متكلمهم: من لا تنكره نحن بنو عذرة، إخوة قصي لأمِّه، نحن الذين عضدوا قصيّاً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام، قال رسول الله: مرحبا بكم وأهلا ما أعرفني بكم، فأسلموا، وبشرهم رسول الله بفتح الشام وهرَب هرقل إلى ممتنع من بلاده، ونهاهم رسول الله عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، فأقاموا أياماً بدار رملة ثم انصرفوا وقد أجيزوا.
" زاد المعاد " (3 / 657) .(13/279)
خامساً:
ما ورد في الأحاديث المكذوبة في صفر:
قال ابن القيم:
فصل أحاديث التواريخ المستقبلة:
ومنها: أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا، مثل قوله: إذا كانت سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت.
وكقول الكذاب الأشر: إذا انكسف القمر في المحرم: كان الغلاء والقتال وشغل السلطان، وإذا انكسف في صفر: كان كذا وكذا.
واستمر الكذاب في الشهور كلها.
وأحاديث هذا الباب كلها كذب مفترى.
" المنار المنيف " (ص 64) .
والله أعلم.(13/280)
عشر ذي الحجة: فضلها والعمل فيها
الحمد لله الذي خلق الزمان وفضّل بعضه على بعض فخصّ بعض الشّهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يُعظم فيها الأجر، ويَكثر الفضل رحمة منه بالعباد ليكون ذلك عْوناً لهم على الزيادة في العمل الصالح والرغبة في الطاعة، وتجديد النشاط ليحظى المسلم بنصيب وافر من الثواب، فيتأهب للموت قبل قدومه ويتزود ليوم المعاد.
ومن فوائد مواسم الطاعة سدّ الخلل واستدراك النقص وتعويض ما فات، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه، ولله تعالى فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات] . ابن رجب في اللطائف ص40.
فعلى المسلم أن يعرف قدر عمره وقيمة حياته، فيكثر من عبادة ربه، ويواظب على فعل الخيرات إلى الممات.
قال الله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر/99
قال المفسرون اليقين: الموت.
ومن مواسم الطّاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي فضّلها الله تعالى على سائر أيام العام فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا ولا الجهاد في سبيل الله!! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء " أخرجه البخاري 2/457.
وعنه أيضاً رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى " قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: " ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " رواه الدارمي 1/357 وإسناده حسن كما في الإرواء 3/398.
فهذه النصوص وغيرها تدلّ على أنّ هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها، حتى العشر الأواخر من رمضان. ولكنّ ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وبهذا يجتمع شمل الأدلة. أنظر تفسير ابن كثير 5/412
واعلم - يا أخي المسلم - أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة منها:
1- أن الله تعالى أقسم بها: والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظم نفعه، قال تعالى: (والفجر وليال عشر) قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. قال ابن كثير: " وهو الصحيح " تفسير ابن كثير8/413
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدّم في الحديث الصحيح.
3- أنه حث فيها على العمل الصالح: لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان - أيضاً - وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام.
4- أنه أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ". أخرجه احمد 7/224 وصحّح إسناده أحمد شاكر.
5- أن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه يكفّر آثام سنتين، وفي العشر أيضا يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنّة على الإطلاق وهو يوم الحجّ الأكبر الذي يجتمع فيه من الطّاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره.
6- أن فيها الأضحية والحج.
في وظائف عشر ذي الحجة: إن إدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون. وواجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة. وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لعبادة مولاه.(13/281)
فمن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة:(13/282)
1- الصيام
فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال. وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي: " قال الله: كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " أخرجه البخاري 1805
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول اثنين من الشهر وخميسين " أخرجه النسائي 4/205 وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/462.(13/283)
2- التكبير:
فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر. والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى.
ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة
قال الله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) الحج: 28. والجمهور على أن الأيام المعلومات هي أيام العشر لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الأيام المعلومات: أيام العشر) ، وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى.
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولا سيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير فيكبر كل واحد بمفرده وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد فإن هذا غير مشروع.
إن إحياء ما اندثر من السنن أو كاد فيه ثواب عظيم دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً) أخرجه الترمذي 7/443 وهو حديث حسن لشواهده.(13/284)
3- أداء الحج والعمرة: إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر حج بيت الله الحرم، فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب - إن شاء الله - من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) .(13/285)
4- الإكثار من الأعمال الصالحة عموما: لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى وهذا يستلزم عِظَم ثوابه عند الله تعالى. فمن لم يمكنه الحجّ فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة(13/286)
5- الأضحية:
ومن الأعمال الصالحة في هذا العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي واستسمانها واستحسانها وبذل المال في سبيل الله تعالى.(13/287)
6- التوبة النصوح:
ومما يتأكد في هذا العشر التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب. والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وترك ما يكرهه الله ظاهراً وباطناً ندماً على ما مضى، وتركا في الحال، وعزماً على ألا يعود والاستقامة على الحقّ بفعل ما يحبّه الله تعالى.
والواجب على المسلم إذا تلبس بمعصية أن يبادر إلى التوبة حالاً بدون تمهل لأنه:
أولاً: لا يدري في أي لحظة يموت.
ثانياً: لأنّ السيئات تجر أخواتها.
وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم لأن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير فيحصل الاعتراف بالذنب والندم على ما مضى. وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان، فإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة فهذا عنوان الفلاح إن شاء الله. قال تعالى: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين) القصص: 67.
فليحرص المسلم على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء، وليقدم لنفسه عملا صالحاً يجد ثوابه أحوج ما يكون إليه: إن الثواب قليل، والرحيل قريب، والطريق مُخْوِف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمآب (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) .
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عِوَضٌ ولا تُقدَّر بقيمة، المبادرةَ المبادرةَ بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، وقبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرّجعة فلا يُجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمِّل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء محبوسا في حفرته بما قدَّم من عمل.
يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري، أما آن لقلبك أن يستنير أو يستلين، تعرّض لنفحات مولاك في هذا العشر فإن لله فيه نفحات يصيب بها من يشاء، فمن أصابته سَعِد بها يوم الدّين.(13/288)
الحج: فضله ومنافعه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه كلمة مختصرة عن الحج: فضله ومنافعه وشيء من أحكامه:
1. متى فرض الحج
فرض الحج على الصحيح سنة تسع من الهجرة، وهي سنة الوفود التي نزلت فيها سورة آل عمران وفيها قو الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} .
2. حكم الحج
الفرضية، وهو من أركان الدين، ودليله ما سبق من الآية الكريمة، وكذا جاء في السنة ما يدل عليه.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ". رواه البخاري (8) ومسلم (16) .
3. هل يجب الحج على الفور؟
نعم هو على الفور، ودليله ما سبق من الآية الكريمة، وهو الأصل في الأوامر الشرعية، ومن السنة ما يدل على هذا الحكم:
1. عن أبي هريرة قال: " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ". رواه مسلم (1337) .
2. عن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة ".
رواه أبو داود (1732) - دون قوله " فإنه قد.. " وابن ماجه (2883) وأحمد (1836) .
وفي رواية عند أحمد (2864) : " تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ".
وكلا الروايتين تحسن إحداهما الأخرى، انظر " إرواء الغليل للألباني " (4 / 168) .
وذهب الشافعية إلى أنه على التراخي لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أخره إلى سنة عشر، لكن يجاب عليه:
1. بأنه لم يؤخره سوى سنة واحدة، وهؤلاء يقولون يؤخر إلى ما لا حد له! .
2. وأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن يطهر البيت من المشركين وحجِّ العراة.
3. وأنه قد شُغل صلى الله عليه وسلم بإسلام الوفود الذين تعاقبوا على المدينة لإعلان إسلامهم.
انظر " الشرح الممتع " للشيخ ابن عثيمين (7 / 17، 18) .
4. والحج يجب مرة واحدة في العمر
عن أبي هريرة قال: خطبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ". رواه مسلم (1337) .
5. فضله
وقد جاء في فضل الحج أحاديث كثيرة، ومنها:
1. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور. رواه البخاري (26) ومسلم (83) .
والحج المبرور معناه:
1. أن يكون من مالٍ حلال.
2. أن يبتعد عن الفسق والإثم والجدال فيه.
3. أن يأتي بالمناسك وفق السنة النبوية.
4. أن لا يرائي بحجه، بل يخلص فيه لربه.
5. أن لا يعقبه بمعصية أو إثم.
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ". رواه البخاري (1449) ومسلم (1350) .
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ". رواه البخاري (1683) ومسلم (1349) .
4. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله: ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكُنّ أحسن الجهاد وأجمله الحج حج مبرور، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري (1762) .
5. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ".. وأن الحج يهدم ما كان قبله ". رواه مسلم (121) .
6. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ". رواه الترمذي (810) والنسائي (2631) . والحديث: صححه الشيخ الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " (1200) .
7. عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم ". رواه ابن ماجه (2893) .
والحديث: حسن، حسَّنه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1820) .
6. منافع الحج
قال الله عز وجل {ليشهدوا منافع لهم} [الحج / 28] .
والمنافع: دنيوية ودينية.
أما الدينية: فلتحصيل رضوان الله تعالى، والعودة بمغفرة الذنوب جميعاً، وكذا الأجور العظيمة التي لا توجد إلا في تلك الأماكن، فالصلاة في المسجد الحرام - مثلاً - بمائة ألف صلاة، ولا يوجد طواف ولا سعي إلا في تلك الأماكن.
ومن المنافع ولقاء المسلمين، والوقوف على أحوالهم، ولقاء أهل العلم، والاستفادة منهم، وطرح المشكلات عليهم
وأما المنافع الدنيوية فمنها التجارة، وسائر وجوه المكاسب الناشئة والمتعلقة بالحجّ.
7. أما حِكَم الحج، وما فيه من آثار على النفس.
لأداء مناسك الحج فضائل متعددة وحِكَم بالغة من وُفِّق لفهمهما والعمل بها وفق لخير عظيم، ومنها:
1. سفر الإنسان إلى الحج لأداء المناسك: يتذكر سفره إلى الله والدار الآخرة، وكما أن في السفر فراق الأحبة والأهل والأولاد والوطن؛ فإن السفر إلى الدار الآخرة كذلك.
2. وكما أن الذاهب في هذا السفر يتزود من الزاد الذي يبلِّغه إلى الديار المقدسة، فليتذكر أن سفره إلى ربه ينبغي أن يكون معه من الزاد ما يبلِّغه مأمنه، وفي هذا يقول الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة / 197) .
3. وكما أن السفر قطعة من العذاب فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك وأعظم منه بمراحل، فأمام الإنسان النزع والموت والقبر والحشر والحساب والميزان والصراط ثم الجنة أو النار، والسعيد من نجَّاه الله تعالى.
4. وإذا لبس المُحْرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به، وهذا يدعوه إلى التخلص من المعاصي والذنوب، وكما تجرد من ثيابه فعليه أن يتجرد من الذنوب، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين فكذا ينبغي أن يكون قلبه وأن تكون جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية.
5. وإذا قال في الميقات " لبيك اللهم لبيك " فهو يعني أنه قد استجاب لربه تعالى، فما باله باقٍ على ذنوب وآثام لم يستجب لربّه في تركها ويقول بلسان الحال: " لبيك اللهم لبيك " يعني: استجبت لنهيك لي عنها وهذا أوان تركها؟
6. وتركه للمحظورات أثناء إحرامه، واشتغاله بالتلبية والذكر: يبين له حال المسلم الذي ينبغي أن يكون عليه، وفيه تربية له وتعويد للنفس على ذلك، فهو يروض نفسه ويربيها على ترك مباحات في الأصل لكن الله حرمها عليه ها هنا فكيف أن يتعدى على محرمات حرمها الله عليه في كل زمان ومكان؟.
7. ودخوله لبيت الله الحرام الذي جعله الله أمناً للناس يتذكر به العبد الأمن يوم القيامة، وأنه لا يحصله الإنسان إلا بكد وتعب، وأعظم ما يؤمن الإنسان يوم القيامة التوحيد وترك الشرك باله، وفي هذا يقول الله تعالى {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام / 81) .
وتقبيله للحجر الأسود وهو أول ما يبدأ به من المناسك يربي الزائر على تعظيم السنة، وأن لا يتعدى على شرع الله بعقله القاصر، ويعلم أن ما شرع الله للناس فيه الحكمة والخير، ويربي نفسه على عبوديته لربه تعالى، وفي هذا يقول عمر رضي الله عنه بعد أن قبَّل الحجر الأسود: " إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلُك ما قبلتك ". رواه البخاري (1520) ومسلم (1720) .
8. وفي طوافه يتذكر أباه إبراهيم عليه السلام، وأنه بنى البيت ليكون مثابة للناس وأمناً، وأنه دعاهم للحج لهذا البيت، فجاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الناس لهذا البيت أيضاً، وكذا كان يحج إليه موسى ويونس وعيسى عليهم السلام، فكان هذا البيت شعاراً لهؤلاء الأنبياء وملتقىً لهم، وكيف لا وقد أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببنائه وتعظيمه.
9. وشربه لماء زمزم يذكره بنعمة الله تعالى على الناس بهذا الماء المبارك والذي شرب منه ملايين الناس على مدى دهور طويلة ولم ينضب، ويحثه على الدعاء عند شربه لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم " أن ماء زمزم لما شرب له " رواه ابن ماجه (3062) وأحمد (14435) وهو حديث حسن حسَّنه ابن القيم رحمه الله في " زاد المعاد " (4 / 320) .
01. ويذكّره السعي بين الصفا والمروة بما تحملته هاجر أم إسماعيل وزوجة الخليل عليه السلام من الابتلاء، وكيف أنها كانت تتردد بين الصفا والمروة بحثاً عن مُغيث يخلصها مما هي فيه من محنة وخاصة في شربة ماء لولدها الصغير - إسماعيل -، فإذا صبرت هذه المرأة على هذا الابتلاء ولجأت لربها فيه فأن يفعل المرء ذلك أولى وأحرى له، فالرجل يتذكر جهاد المرأة وصبرها فيخفف عليه ما هو فيه، والمرأة تتذكر من هو من بنات جنسها فتهون عليها مصائبها.
11. والوقوف بعرفة يذكر الحاج بازدحام الخلائق يوم المحشر، وأنه إن كان الحاج ينصب ويتعب من ازدحام آلاف فكيف بازدحام الخلائق حفاة عراة غرلا - غير مختونين - وقوفا خمسين ألف سنة؟
21. وفي رمي الجمار يعوِّد المسلم نفسه على الطاعة المجردة ولو لم يُدرك فائدة الرمي وحكمته، ولو لم يستطع ربط الأحكام بعللها، وفي هذا إظهار للعبودية المحضة لله تعالى.
31. وأما ذبح الهدي فيذكّره بالحادثة العظيمة في تنفيذ أبينا إبراهيم لأمر الله تعالى بذبح ولده البكر إسماعيل بعد أن شبَّ وصار مُعيناً له، وأنه لا مكان للعاطفة التي تخالف أمر الله ونهيه، ويعلمه كذلك الاستجابة لما أمر الله بقول الذبيح إسماعيل {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات / 102) .
41. فإذا ما تحلل من إحرامه وحلَّ له ما حرمه الله عليه: رباه ذلك على عاقبة الصبر، وأن مع العسر يسراً، وأن عاقبة المستجيب لأمر الله الفرح والسرور وهذه فرحة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوة الطاعة، كالفرحة التي يشعرها الصائم عند فطره، أو القائم في آخر الليل بعد صلاته.
51. وإذا انتهى من مناسك الحج وجاء به على ما شرع الله وأحب، وأكمل مناسكه رجا ربه أن يغفر له ذنوبه كلها كما وعد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " مَن حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "، رواه البخاري (1449) ومسلم (1350) ، ودعاه ذلك ليفتح صفحة جديدة في حياته خالية من الآثام والذنوب.
61. وإذا رجع إلى أهله وبنيه وفرح بلقائهم ذكره ذلك بالفرح الأكبر بلقائهم في جنة الله تعالى، وعرَّفه ذلك بأن الخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة، كما قال تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} (الزمر / 15) .
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته وبلوغ بيته والقيام بفرائضه وصلى الله على نبينا محمد(13/289)
زكاة الفطر(13/290)
تعريفها:
زكاة الفطر هي صدقة تجب بالفطر في رمضان، وأضيفت الزكاة إلى الفطر لأنها سبب وجوبها.(13/291)
حكمتها ومشروعيتها.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ. " رواه أبو داود 1371 قال النووي: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قوله: (طهرة) : أي تطهيرا لنفس من صام رمضان، وقوله (والرفث) قال ابن الأثير: الرفث هنا هو الفحش من كلام، قوله (وطعمة) : بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل. قوله: (من أداها قبل الصلاة) : أي قبل صلاة العيد، قوله (فهي زكاة مقبولة) : المراد بالزكاة صدقة الفطر، قوله (صدقة من الصدقات) : يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات. عون المعبود شرح أبي داود
وقيل هي المقصودة بقوله تعالى في سورة الأعْلَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ; رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ قَالا: " أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاةِ " أي صلاة العيد. أحكام القرآن للجصاص ج3: سورة الأعلى
وعَنْ وَكِيعٍ بْنِ الْجَرَّاحِ رحمه الله قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ كَسَجْدَتِي السَّهْوِ لِلصَّلاةِ، تَجْبُرُ نُقْصَانَ الصَّوْمِ كَمَا يَجْبُرُ السُّجُودُ نُقْصَانَ الصَّلاةِ. المجموع للنووي ج6
حكمها
الصَّحِيحُ أَنَّهَا فَرْضٌ ; لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: {فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ} . وَلإجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ. المغني ج2 باب صدقة الفطر
وقت وجوبها
فَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَهُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَمَنْ تَزَوَّجَ، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرَةُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، لَمْ تَلْزَمْهُ.. وَمِنْ مَاتَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ المغني ج2: فصل وقت وجوب زكاة الفطر.
على من تجب
- زكاة الفطر تجب على المسلمين: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. البخاري 1407
- قال الشافعي رحمه الله: وَفِي حَدِيثِ نَافِعٍ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْرِضْهَا إلا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ مُوَافَقَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الزَّكَاةَ لِلْمُسْلِمِينَ طَهُورًا وَالطَّهُورُ لا يَكُونُ إلا لِلْمُسْلِمِينَ. الأم ج2 باب زكاة الفطر
- تجب على المستطيع، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَوَّالٌ وَعِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ مَنْ يَقُوتُهُ يَوْمَهُ وَمَا يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ َدَّاهَا عَنْهُمْ وَعَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا مَا يُؤَدِّي عَنْ بَعْضِهِمْ أَدَّاهَا عَنْ بَعْضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلا سِوَى مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَتِهِمْ يَوْمَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وَلا عَلَى مَنْ يَقُوتُ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ. الأم ج2 باب زكاة الفطر
- قال النووي رحمه الله: الْمُعْسِرُ لا فِطْرَةَ عَلَيْهِ بِلا خِلافٍ،.. وَالاعْتِبَارُ بِالْيَسَارِ وَالإِعْسَارِ بِحَالِ الْوُجُوبِ، فَمَنْ فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِلَيْلَةِ الْعِيدِ وَيَوْمِهِ صَاعٌ، فَهُوَ مُوسِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ فَهُوَ مُعْسِرٌ وَلا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ. المجموع ج6 شروط وجوب صدقة الفطر
- يخرجها الإنسان المسلم عن نفسه وعمن ينفق عليهم من الزوجات والأقارب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها هم، لأنهم المخاطبون بها أصلاً.
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. صحيح البخاري 1407
قال الشافعي رحمه الله: وَيُؤَدِّي وَلِيُّ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ عَنْهُمَا زَكَاةَ الْفِطْرِ وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُمَا مُؤْنَتُهُ كَمَا يُؤَدِّي الصَّحِيحُ عَنْ نَفْسِهِ.. وإِنْ كَانَ فِيمَنْ يُمَوِّنُ (أي يعول) كَافِرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ لأَنَّهُ لا يَطْهُرْ بِالزَّكَاةِ. الأم ج2 باب زكاة الفطر.
وقال صاحب المهذب: قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: (وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَتُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ وَوَجَدَ مَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ فَاضِلا عَنْ النَّفَقَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الأَبِ وَالأُمِّ وَعَلَى أَبِيهِمَا وَأُمِّهِمَا - وَإِنْ عَلَوْا - فِطْرَةُ وَلَدِهِمَا وَوَلَدِ وَلَدِهِمَا - وَإِنْ سَفَلُوا - وَعَلَى الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ (وَإِنْ سَفَلُوا) فِطْرَةُ الأَبِ وَالأُمِّ وَأَبِيهِمَا وَأُمِّهِمَا - وَإِنْ عَلَوْا - إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ، المجموع ج6.
يخرج الإنسان عن نفسه وزوجته - وإن كان لها مال - وأولاده الفقراء ووالديه الفقيرين، والبنت التي لم يدخل بها زوجها. فإن كان ولده غنياً لم يجب عليه أن يخرج عنه، ويُخرج الزوج عن مطلقته الرجعية لا الناشز ولا البائن، ولا يلزم الولد إخراج فطرة زوجة أبيه الفقير لأنه لا تجب عليه نفقتها.
ويبدأ بالأقرب فالأقرب، بنفسه فزوجته فأولاده ثم بقية القرابة أقربهم فأقربهم على حسب قانون الميراث.
- قال الشافعي رحمه الله: وَمَنْ قُلْت تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَإِذَا وُلِدَ، أَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ عِيَالِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَغَابَتْ الشَّمْسُ لَيْلَةَ هِلالِ شَوَّالٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ.. الأم: باب زكاة الفطر الثاني.
ولا تجب عن الحمل الذي في البطن إلا إن يتطوع بها فلا بأس.
وَإِنْ مَاتَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ قَبْلَ أَدَائِهَا، أُخْرِجَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ.. وَلَوْ مَاتَ مَنْ يَمُونُهُ، بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، لَمْ تَسْقُطْ. المغني ج2.
والخادم إذا كان له أجرة مقدرة كل يوم أو كل شهر لا يُخرج عنه الصدقة لأنه أجير والأجير لا يُنفق عليه. الموسوعة 23/339
- وفِي إخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ الْيَتِيمِ: قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يُؤَدِّي الْوَصِيُّ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ الْيَتَامَى الَّذِينَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا. المدونة ج1.
- إذا أسلم الكافر يوم الفطر: فقد قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ. المدونة ج1
مقدار الزكاة
مقدارها صاع من طعام بصاع النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم
لحديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ.. " رواه البخاري 1412
والوزن يختلف باختلاف ما يملأ به الصاع، فعند إخراج الوزن لابد من التأكد أنه يعادل ملئ الصاع من النوع المخرَج منه ... وهو مثل 3 كيلو من الرز تقريباً
الأصناف التي تؤدى منها
الجنس الذي تُخرج منه هو طعام الآدميين، من تمر أو بر أو رز أو غيرها من طعام بني آدم.
ففي الصحيحين من حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ (وكان الشعير يومذاك من طعامهم) البخاري 1408
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ. رواه البخاري 1414.
فتخرج من غالب قوت البلد الذي يستعمله الناس وينتفعون به سواء كان قمحا أو رزاً أو تمراً أو عدسا ...
قال الشافعي رحمه الله: وَإِنْ اقْتَاتَ قَوْمٌ ذُرَةً، أَوْ دُخْنًا، أَوْ سُلْتًا أَوْ أُرْزًا، أَوْ أَيَّ حَبَّةٍ مَا كَانَتْ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَهُمْ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهَا. الأم للشافعي ج2 باب الرجل يختلف قوته.
وقال النووي رحمه الله: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الأَقْوَاتِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ (أي في زكاة الحبوب والثمار) ، فَلا يُجْزِئُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِهَا إلا الأَقِطَ وَالْجُبْنُ وَاللَّبَنُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا لَوْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَزَائِرِ أَوْ غَيْرِهِمْ يَقْتَاتُونَ السَّمَكَ وَالْبَيْضَ فَلا يُجْزِئُهُمْ بِلا خِلافٍ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَالصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ: أَنَّهُ لا يُجْزِئُ قَوْلا وَاحِدًا. .. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا لَوْ اقْتَاتُوا ثَمَرَةً لا عُشْرَ فِيهَا كَالتِّينِ وَغَيْرِهِ لا يُجْزِئُ قَطْعًا. المجموع ج6: الواجب في زكاة الفطر.
وقال ابن القيم رحمه الله: فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ صَاعَ التَّمْرِ فِي كُلِّ مَكَان، سَوَاءٌ كَانَ قُوتًا لَهُمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ. قِيلَ: هَذَا مِنْ مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَمَوَارِدِ الاجْتِهَادِ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ صَاعًا مِنْ قُوتِهِمْ، وَنَظِيرُ هَذَا تَعْيِينُهُ صلى الله عليه وسلم الأَصْنَافَ الْخَمْسَةَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَأَنَّ كُلَّ بَلَدٍ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ مِقْدَارَ الصَّاعِ، وَهَذَا أَرْجَحُ وَأَقْرَبُ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَإِلا فَكَيْفَ يُكَلَّفُ مَنْ قُوتُهُمْ السَّمَكُ مَثَلا أَوْ الأَرُزُّ أَوْ الدُّخْنُ إلَى التَّمْرِ.. وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. إعلام الموقعين ج2.
القياس
ويجوز إخراجها من المكرونة المصنوعة من القمح ولكن يتأكد أنّ الوزن هو وزن صاع القمح.
وأما إخراجها مالا فلا يجوز مطلقا لأنّ الشّارع فرضها طعاما لا مالا وحدّد جنسها وهو الطّعام فلا يجوز الإخراج من غيره، ولأنّه أرادها ظاهرة لا خفيّة، ولأنّ الصحابة أخرجوها طعاما ونحن نتّبع ولا نبتدع، ثمّ إخراج زكاة الفطر بالطعام ينضبط بهذا الصّاع أمّا إخراجها نقودا فلا ينضبط، فعلى سعر أي شيء يُخرج؟ ، وقد تظهر فوائد لإخراجها قوتا كما في حالات الاحتكار وارتفاع الأسعار والحروب والغلاء. ولو قال قائل: النقود أنفع للفقير ويشتري بها ما يشاء وقد يحتاج شيئا آخر غير الطعام، ثم قد يبيع الفقير الطعام ويخسر فيه فالجواب عن هذا كله أن هناك مصادر أخرى لسدّ احتياجات الفقراء في المسكن والملبس وغيرها، وذلك من زكاة المال والصدقات العامة والهبات وغيرها فلنضع الأمور في نصابها الشّرعي ونلتزم بما حدّده الشّارع وهو قد فرضها صاعا من طعام: طُعمة للمساكين ونحن لو أعطينا الفقير طعاما من قوت البلد فإنه سيأكل منه ويستفيد عاجلا أو آجلا لأنّ هذا مما يستعمله أصلا.
وبناء عليه فلا يجوز إعطاؤها مالا لسداد دين شخص أو أجرة عملية جراحية لمريض أو تسديد قسط دراسة عن طالب محتاج ونحو ذلك فلهذا مصادر أخرى كما تقدم.
وقت الإخراج
- تؤدى قبل صلاة العيد كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " أَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. البخاري 1407
ووقت الدفع له وقت استحباب ووقت جواز.
فأما وقت الاستحباب فهو صباح يوم العيد للحديث السابق، ولهذا يسن تأخير صلاة العيد يوم الفطر ليتسع الوقت لمن عليه إخراجها، ويفطر قبل الخروج.
كما يسن تعجيل صلاة العيد يوم الأضحى ليذهب الناس لذبح أضاحيهم ويأكلوا منها.
أما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين. ففي صحيح البخاري عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى أنه كان يعطي عن بنيّ وكان يعطيها الذين يقبلونها وكان يُعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين.
ومعنى قوله (الذين يقبلونها) هم الجباة الذين ينصبهم الإمام لجمع صدقة الفطر.
وعَنْ نَافِعٍ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ بِثَلاثَةٍ. المدونة ج1 باب تعجيل الزكاة قبل حلولها.
ويكره تأخيرها بعد صلاة العيد وقال بعضهم يحرم وتكون قضاء واستُدِل لذلك بحديث: مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ. " رواه أبو داود 1371.
قال في عون المعبود شرح أبي داود: والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد الصلاة كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة. وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر، والحديث يردّ عليهم، وأما تأخيرها عن يوم العيد. فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها.
فيحرم إذن تأخيرها عن وقتها بلا عذر لأن يفوت به المعنى المقصود، وهو إغناء الفقراء عن الطلب يوم السرور فلو أخرّها بلا عذر عصى وقضى.
ويجب أن تصل إلى مستحقها أو من ينوب عنه من المتوكلين في وقتها قبل الصلاة، فلو أراد دفعها إلى شخص فلم يجده ولم يجد وكيلاً له وخاف خروج الوقت فعليه أن يدفعها إلى مستحق آخر ولا يؤخرها عن وقتها، وإذا كان الشّخص يحب أن يدفع فطرته لفقير معيّن ويخشى أن لا يراه وقت إخراجها فليأمره أن يوكل أحداً بقبضها منه أو يوكله هو في قبضها له من نفسه فإذا جاء وقت دفعها فليأخذها له في كيس أو غيره ويبقيها أمانة عنده حتى يلقى صاحبها.
وإذا وكّل المزكّي شخصا بإخراج الزكاة عنه فلا تبرأ الذمة حتى يتأكد أن الوكيل قد أخرجها ودفعها فعلاً.: مجالس شهر رمضان: أحكام زكاة الفطر للشيخ ابن عثيمين.
لمن تعطى
تصرف زكاة الفطر إلى الأصناف الثمانية التي تصرف فيها زكاة المال وهذا هو قول الجمهور.
وذهب المالكية وهي رواية عن أحمد واختارها ابن تيمية إلى تخصيص صرفها للفقراء والمساكين.
- (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَتُقْسَمُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ تُقْسَمُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ لا يُجْزِئُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ،.. وَيَقْسِمُهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَفِي الرِّقَابِ وَهُمْ الْمُكَاتَبُونَ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ. كتاب الأم: باب ضيعة زكاة الفطر قبل قسمها.
- وقال النووي رحمه الله: بعدما ساق حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ رضي الله عنه: {أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ} .. قال: وَلا يَجُوزُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ إلَى كَافِرٍ , سَوَاءٌ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْمَالِ.. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لا يُعْطَوْنَ (أي الكفار) .
والمستحقون لزكاة الفطر من الفقراء ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفاءها أو لا تكفيهم رواتبهم إلى آخر الشهر فيكونون مساكين محتاجين فيعطون منها بقدر حاجتهم.
ولا يجوز لدافعها شراؤها ممن دفعها إليه. فتاوى الشيخ ابن عثيمين.
إخراجها وتفريقها
- الأفضل أن يتولى الإنسان قسْمها بنفسه: (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَأَخْتَارُ قَسْمَ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِنَفْسِي عَلَى طَرْحِهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ.
- قال النووي رحمه الله: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْمُخْتَصَرِ ": وَتُقَسَّمُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ تُقَسَّمُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ، وَأُحِبُّ دَفْعَهَا إلَى ذَوِي رَحِمِهِ الَّذِينَ لا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ بِحَالٍ، قَالَ: فَإِنْ طَرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.. و..الأَفْضَلَ أَنْ يُفَرِّقَ الْفِطْرَةَ بِنَفْسِهِ و.. لَوْ دَفَعَهَا إلَى الإِمَامِ أَوْ السَّاعِي أَوْ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ الْفِطْرَةُ لِلنَّاسِ وَأَذِنَ لَهُ فِي إخْرَاجِهَا أَجْزَأَهُ، وَلَكِنَّ تَفْرِيقَهُ بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. المجموع: ج6
- ويجوز أن يوكّل ثقة بإيصالها إلى مستحقيها وأما إن كان غير ثقة فلا، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ قَالَ سَمِعْت ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ وَرَجُلٌ يَقُولُ لَهُ: إنَّ (فلانا) أَمَرَنِي أَنْ أَطْرَحَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَفْتَاك الْعِلْجُ بِغَيْرِ رَأْيِهِ؟ اقْسِمْهَا (أي تولّ أنت قسمتها بنفسك) ، فَإِنَّمَا يُعْطِيهَا ابْنُ هِشَامٍ (أي الوالي الذي يجمعها في المسجد) أَحْرَاسَهُ وَمَنْ شَاءَ. (أي يعطيها لغير مستحقّيها) . الأم: باب ضيعة زكاة الفطر قبل قسمها.
ونص الإمام أحمد رحمه الله على أنه يَجُوزُ صَرْفُ صَاعٍ إلَى جَمَاعَةٍ، وَآصُعٍ إلَى وَاحِدٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْ عِيَالِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا. المدونة ج1 باب في قسم زكاة الفطر
وإذا أعطى فقيرا أقلّ من صاع فلينبهه لأنّ الفقير قد يُخرجها عن نفسه.
ويجوز للفقير إذا أخذ الفطرة من شخص وزادت عن حاجته أن يدفعها هو عن نفسه أو أحد ممن يعولهم إذا علم أنها تامة مجزئة
مكان الإخراج
قال ابن قدامة رحمه الله: فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَفُرِّقَتْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَبَبُهَا فِيهِ. المغني ج2 فصل إذا كان المزكي في بلد وماله في بلد.
وورد في المدونة في فقه الإمام مالك رحمه الله: قُلْتُ: مَا قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ إفْرِيقِيَّةَ وَهُوَ بِمِصْرَ يَوْمَ الْفِطْرِ أَيْنَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: حَيْثُ هُوَ، قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ أَدَّى عَنْهُ أَهْلُهُ بِإِفْرِيقِيَّةَ أَجْزَأَهُ (ومصطلحهم في كلمة إفريقية يختلف عما هو عليه الآن) ج1. باب في إخراج المسافر زكاة الفطر.
نسأل الله أن يتقبّل منّا أجمعين، وأن يُلحقنا بالصالحين وصلى الله على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولمعرفة المزيد عن أحكام زكاة الفطر راجع قسم زكاة الفطر في الموقع(13/292)
عاشوراء أحكام ومسائل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
عاشوراء في التاريخ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. " رواه البخاري 1865
قوله: (هذا يوم صالح) في رواية مسلم " هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه ". قوله: (فصامه موسى) زاد مسلم في روايته " شكرا لله تعالى فنحن نصومه " وفي رواية للبخاري " ونحن نصومه تعظيما له " ورواه الإمام أحمد بزيادة: " وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا ".
قوله: (وأمر بصيامه) وفي رواية للبخاري أيضا: " فقال لأصحابه أنتم أحق بموسى منهم فصوموا ".
وصيام عاشوراء كان معروفا حتى على أيّام الجاهلية قبل البعثة النبويّة فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت " إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه ".. قال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السّلام. وقد ثبت أيضا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به فسألهم عن السبب فأجابوه كما تقدّم في الحديث وأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيدا كما جاء في حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا [وفي رواية مسلم " كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود تتخذه عيدا " وفي رواية له أيضا: " كان أهل خيبر (اليهود) .. يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم "] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصُومُوهُ أَنْتُمْ." رواه البخاري. وظاهر هذا أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام. انتهى ملخّصا من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري.
وكان صيام عاشوراء من التدرّج الحكيم في تشريع الصيام وفرضه فقد أُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ , فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ الصَّوْمَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ} , ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} أحكام القرآن للجصاص ج1، فانتقل الفرض من صيام عاشوراء إلى صيام رمضان وهذا من الأدلة في أصول الفقه على جواز النسخ من الأخفّ إلى الأثقل.
وقبل نسخ وجوب صوم عاشوراء كان صيامه " واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم تأكّد الأمر بذلك ثمّ زيادة التأكيد بالنداء العام ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يُرضعن فيه الأطفال وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: " لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء " فتح 4/ 247 أي تُرك وجوبه أما استحبابه فباقٍ.
فضل صيام عاشوراء
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ. " رواه البخاري 1867
ومعنى " يتحرى " أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله. " رواه مسلم 1976، وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم.
أي يوم هو عاشوراء
قال النووي رحمه الله: عَاشُورَاءُ وَتَاسُوعَاءُ اسْمَانِ مَمْدُودَانِ , هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ , وَتَاسُوعَاءُ هُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ هَذَا مَذْهَبُنَا , وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ،.. وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَمُقْتَضَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ , وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. المجموع
وهو اسم إسلامي لا يُعرف في الجاهلية: كشاف القناع ج2 صوم المحرم
وقال ابن قدامة رحمه الله:
عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَالْحَسَنِ ; لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ , قَالَ: {أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ} . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّهُ قَالَ: التَّاسِعُ وَرُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ التَّاسِعَ} . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ , أَنَّهُ قَالَ: {صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ} إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ لِذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ.
استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء
روى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه مسلم 1916
قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر , ونوى صيام التاسع.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع معه وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.
الحكمة من استحباب صيام تاسوعاء
قال النووي رحمه الله: ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ أَوْجُهًا: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ , وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.. (الثَّانِي) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْلُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ , كَمَا نَهَى أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ , ذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ. (الثَّالِثَ) الاحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلَالِ , وَوُقُوعِ غَلَطٍ فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ. انتهى
وأقوى هذه الأوجه هو مخالفة أهل الكتاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ.. فِي عَاشُورَاءَ: {لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ} . الفتاوى الكبرى ج6: سد الذرائع المفضية إلى المحارم
وقال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على حديث: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) : ما همّ به من صوم التاسع يُحتمل معناه أن لا يقتصر عليه بل يُضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطا له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح وبه يُشعر بعض روايات مسلم. فتح 4/245
حكم إفراد عاشوراء بالصيام
قال شيخ الإسلام: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ.. الفتاوى الكبرى ج5، وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي: وعاشوراء لا بأس بإفراده ج3 باب صوم التطوع
يصام عاشوراء ولو كان يوم سبت أو جمعة
قال الطحاوي رحمه الله: وَقَدْ {أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحَضَّ عَلَيْهِ} , وَلَمْ يَقُلْ إنْ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَلا تَصُومُوهُ. فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ كُلِّ الْأَيَّامِ فِيهِ.
وَقَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , إنْ كَانَ ثَابِتًا (أي النهي عن صيام السبت) , أَنْ يَكُونَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْ صَوْمِهِ , لِئَلّا يَعْظُمَ بِذَلِكَ , فَيُمْسَكَ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ فِيهِ , كَمَا يَفْعَلُ الْيَهُودُ. فَأَمَّا مَنْ صَامَهُ لا لإِرَادَةِ تَعْظِيمِهِ , وََلا لِمَا تُرِيدُ الْيَهُودُ بِتَرْكِهَا السَّعْيَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.. مشكل الآثار ج2 باب صوم يوم السبت
(( (وقد ورد النهي عن إفراد الجمعة بالصوم والنهي عن صوم يوم السبت إلا في فريضة، وتزول الكراهية إذا صامهما بضمّّ يوم أو إذا وافق عادة مشروعة كصوم يوم وإفطار يوم أو نذرا أو قضاء أو صوما طلبه الشارع كعرفة وعاشوراء تحفة المحتاج ج3 باب صوم التطوع، كشاف القناع ج2: باب صوم التطوع)
وقال صاحب المنهاج (وَيُكْرَهُ إفْرَادُ الْجُمُعَةِ) .. وَإِنَّمَا زَالَتْ الْكَرَاهَةُ بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ كَمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ وَبِصَوْمِهِ إذَا وَافَقَ عَادَةً أَوْ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً كَمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ
قال الشارح في تحفة المحتاج: (قَوْلُهُ إذَا وَافَقَ عَادَةً) أَيْ: كَأَنْ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَوَافَقَ يَوْمَ صَوْمِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (قَوْلُهُ أَوْ نَذْرًا إلَخْ) وَكَذَا إذَا وَافَقَ يَوْمًا طَلَبَ (أي الشارع) صَوْمَهُ فِي نَفْسِهِ كَعَاشُورَاءَ أَوْ عَرَفَةَ. تحفة المحتاج ج3 باب صوم التطوع
قال البهوتي رحمه الله: (وَ) يُكْرَهُ تَعَمُّدُ (إفْرَادِ يَوْمِ السَّبْتِ) بِصَوْمٍ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ أُخْتِهِ {: لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ} رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ ; وَلأَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ فَفِي إفْرَادِهِ تَشَبُّهٌ بِهِمْ.. (إلا أَنْ يُوَافِقَ) يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَوْ السَّبْتِ (عَادَةً) كَأَنْ وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَكَانَ عَادَتَهُ صَوْمُهُمَا فَلا كَرَاهَةَ ; لأَنَّ الْعَادَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ. كشاف القناع ج2: باب صوم التطوع
ما العمل إذا اشتبه أول الشهر؟
قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الشَّهْرِ صَامَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَتَيَقَّنَ صَوْمَ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ. المغني لابن قدامة ج3 - الصيام - صيام عاشوراء
فمن لم يعرف دخول هلال محرّم وأراد الاحتياط للعاشر بنى على إكمال ذي الحجة ثلاثين - كما هي القاعدة - ثم صام التاسع والعاشر، ومن أراد الاحتياط للتاسع أيضا صام الثامن والتاسع والعاشر (فلو كان ذو الحجة ناقصا يكون قد أصاب تاسوعاء وعاشوراء يقينا) . وحيث أنّ صيام عاشوراء مستحبّ ليس بواجب فلا يُؤمر النّاس بتحرّي هلال شهر محرم كما يؤمرون بتحرّي هلال رمضان وشوال.
صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟
قال الإمام النووي رحمه الله:
يُكَفِّرُ كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ , وَتَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا الْكَبَائِرَ.
ثم قال رحمه الله: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ , وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ , وَإِذَا وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. .. كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ , وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ ,.. وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ , رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ. المجموع شرح المهذب ج6 صوم يوم عرفة
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَتَكْفِيرُ الطَّهَارَةِ , وَالصَّلَاةِ , وَصِيَامِ رَمَضَانَ , وَعَرَفَةَ , وَعَاشُورَاءَ لِلصَّغَائِرِ فَقَطْ. الفتاوى الكبرى ج5
عدم الاغترار بثواب الصيام
يَغْتَرُّ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِثْلِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ , حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلِّهَا وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ , وَهِيَ إنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ , فَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ , وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إلَيْهَا , فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ. وَمِنْ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ , لِأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ , وَإِذَا عَمِلَ طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا , كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ , ثُمَّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ , وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ طُولَ نَهَارِهِ , فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّلُ فِي فَضَائِلِ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ , وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ. الموسوعة افقهية ج31: غرور
صيام عاشوراء لمن عليه قضاء من رمضان
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ , لِكَوْنِ الْقَضَاءِ لا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ , لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ , قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ , كَالْمَنْذُورِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ. سَوَاءٌ كَانَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ , أَوْ كَانَ مُؤَكَّدًا , كَعَاشُورَاءَ وَتَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ , وَعَدَمِ صِحَّةِ التَّطَوُّعِ حِينَئِذٍ وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ , وَلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَرْضِ حَتَّى يُقْضِيَهُ. الموسوعة الفقهية ج28: صوم التطوع
فعلى المسلم أن يبادر إلى القضاء بعد رمضان ليتمكن من صيام عرفة وعاشوراء دون حرج.
ولو صام عرفة وعاشوراء بنية القضاء وبيّت النية من الليل أجزأه ذلك في قضاء الفريضة، وفضل الله عظيم.
بدع عاشوراء
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رحمه الله عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ , وَالِاغْتِسَالِ , وَالْحِنَّاءِ وَالْمُصَافَحَةِ , وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ.. فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ صَحِيحٌ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةً أَمْ لَا؟ وَمَا تَفْعَلُهُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْعَطَشِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ , وَقِرَاءَةِ الْمَصْرُوعِ , وَشَقِّ الْجُيُوبِ. هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا عَنْ أَصْحَابِهِ , وَلا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لا الأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَلا غَيْرِهِمْ. وَلا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا , لَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا الصَّحَابَةِ , وَلا التَّابِعِينَ , لا صَحِيحًا وَلا ضَعِيفًا , لا فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ , وَلا فِي السُّنَنِ , وَلا الْمَسَانِيدِ , وَلا يُعْرَفُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَلَى عَهْدِ الْقُرُونِ الْفَاضِلَةِ. وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ , وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامِ , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.. وَرَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ} . وَرِوَايَةُ هَذَا كُلِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذِبٌ.
ثم ذكر رحمه الله ملخصا لما مرّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك فقال:
فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ , وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ , تُظْهِرُ مُوَالَاتَهُ , وَمُوَالاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ , وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ , وَشَقِّ الْجُيُوبِ , وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.. فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا , وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ , وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ , وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ , وَالتَّعَصُّبُ , وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ , وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ , وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى َبِّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ.. وَشَرُّ هَؤُلَاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ , لا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلامِ. فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ , وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ , وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ , وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ , وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ , فَوَضَعُوا الْآثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالِاكْتِحَالِ وَالِاخْتِضَابِ , وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ , وَطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ , فَصَارَ هَؤُلاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الأَعْيَادِ وَالْأَفْرَاحِ. وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الْأَحْزَانَ وَالْأَتْرَاحَ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ , وَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ أَسْوَأَ قَصْدًا وَأَعْظَمَ جَهْلًا , وَأَظْهَرَ ظُلْمًا.. وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ , لا شَعَائِرَ الْحُزْنِ وَالتَّرَحِ , وَلا شَعَائِرَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ..
وَأَمَّا سَائِرُ الْأُمُورِ: مِثْلُ اتِّخَاذِ طَعَامٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ , إمَّا حُبُوبٌ وَإِمَّا غَيْرُ حُبُوبٍ , أَوْ تَجْدِيدُ لِبَاسٍ وَتَوْسِيعُ نَفَقَةٍ , أَوْ اشْتِرَاءُ حَوَائِجِ الْعَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ , أَوْ فِعْلُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ. كَصَلاةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ , أَوْ قَصْدُ الذَّبْحِ , أَوْ ادِّخَارُ لُحُومِ الأَضَاحِيّ لِيَطْبُخَ بِهَا الْحُبُوبَ , أَوْ الاكْتِحَالُ وَالاخْتِضَابُ , أَوْ الاغْتِسَالُ أَوْ التَّصَافُحُ , أَوْ التَّزَاوُرُ أَوْ زِيَارَةُ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ , الَّتِي لَمْ يَسُنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ , وَلا اسْتَحَبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لا مَالِكٌ وَلا الثَّوْرِيُّ , وَلا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , وَلا أَبُو حَنِيفَةَ , وَلا الأَوْزَاعِيُّ , وَلا الشَّافِعِيُّ , وَلا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَلا إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَلا أَمْثَالُ هَؤُلاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.. الفتاوى الكبرى لابن تيمية
وذكر ابن الحاج رحمه الله من بدع عاشوراء تعمد إخراج الزكاة فيه تأخيرا أو تقديما وتخصيصه بذبح الدجاج واستعمال الحنّاء للنساء: المدخل ج1 يوم عاشوراء
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان وأن يوفقنا لما يحب ويرضى ونسأله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يتقبل منا ويجعلنا من المتقين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/293)
الاحتفال بعيد الحب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن الله سبحانه وتعالى اختار لنا الإسلام دينا ولن يقبل من أحد دينا سواه كما قال تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فئاما من أمته سيتبعون أعداء الله تعالى في بعض شعائرهم وعاداتهم، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى، قال: فمن؟!) (أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم 8/151) . (ومسلم في العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى 4/2054) .
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر في الأزمنة الأخيرة في كثير من البلاد الإسلامية إذ اتبع كثير من المسلمين أعداء الله تعالى في كثير من عاداتهم وسلوكياتهم وقلدوهم في بعض شعائرهم، واحتفلوا بأعيادهم.
وزاد الأمر سوءا الانفتاح الإعلامي بين كافة الشعوب حتى غدت شعائر الكفار وعاداتهم تنقل مزخرفة مبهرجة بالصوت والصورة الحية من بلادهم إلى بلاد المسلمين عبر الفضائيات والشبكة العالمية - الإنترنت - فاغتر بزخرفها كثير من المسلمين.
وفي السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة بين كثير من شباب المسلمين - ذكورا وإناثا - لا تبشر بخير، تمثلت في تقليدهم للنصارى في الاحتفال بعيد الحب، مما كان داعيا لأولي العلم والدعوة أن يبينوا شريعة الله تعالى في ذلك، نصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم حتى يكون المسلم على بينة من أمره ولئلا يقع فيما يخل بعقيدته التي أنعم الله بها عليه.
وهذا عرض مختصر لأصل هذا العيد ونشأته والمقصود منه، وما يجب على المسلم تجاهه.(13/294)
قصة عيد الحب:
يعتبر عيد الحب من أعياد الرومان الوثنيين، إذ كانت الوثنية سائدة عند الرومان قبل ما يزيد على سبعة عشر قرنا. وهو تعبير في المفهوم الوثني الروماني عن الحب الإلهي.
ولهذا العيد الوثني أساطير استمرت عند الرومان، وعند ورثتهم من النصارى، ومن أشهر هذه الأساطير: أن الرومان كانوا يعتقدون أن (رومليوس) مؤسس مدينة (روما) أرضعته ذات يوم ذئبة فأمدته بالقوة ورجاحة الفكر.
فكان الرومان يحتفلون بهذه الحادثة في منتصف شهر فبراير من كل عام احتفالا كبيرا وكان من مراسيمه أن يذبح فيه كلب وعنزة، ويدهن شابان مفتولا العضلات جسميهما بدم الكلب والعنزة، ثم يغسلان الدم باللبن، وبعد ذلك يسير موكب عظيم يكون الشابان في مقدمته يطوف الطرقات. ومع الشابين قطعتان من الجلد يلطخان بهما كل من صادفهما، وكان النساء الروميات يتعرضن لتلك اللطمات مرحبات، لاعتقادهن بأنها تمنع العقم وتشفيه.(13/295)
علاقة القديس (فالنتين) بهذا العيد:
(القديس فالنتين) اسم التصق باثنين من قدامى ضحايا الكنيسة النصرانية. قيل: انهما اثنان، وقيل: بل هو واحد توفي في روما إثر تعذيب القائد القوطي (كلوديوس) له حوالي عام 296م. وبنيت كنيسة في روما في المكان الذي توفي فيه عام 350م تخليدا لذكره.
ولما اعتنق الرومان النصرانية أبقوا على الاحتفال بعيد الحب السابق ذكره لكن نقلوه من مفهومه الوثني (الحب الإلهي) ، إلى مفهوم آخر يعبر عنه بشهداء الحب، ممثلا في القديس فالنتين الداعية إلى الحب والسلام الذي استشهد في سبيل ذلك حسب زعمهم. وسمي أيضا (عيد العشاق) واعتبر (القديس فالنتين) شفيع العشاق وراعيهم.
وكان من اعتقاداتهم الباطلة في هذا العيد أن تكتب أسماء الفتيات اللاتي في سن الزواج في لفافات صغيرة من الورق وتوضع في طبق على منضدة، ويدعى الشبان الذين يرغبون في الزواج ليخرج كل منهم ورقة، فيضع نفسه في خدمة صاحبة الاسم المكتوب لمدة عام يختبر كل منهما خلق الآخر، ثم يتزوجان، أو يعيدان الكرة في العام التالي يوم العيد أيضا.
وقد ثار رجال الدين النصراني على هذا التقليد، واعتبروه مفسدا لأخلاق الشباب والشابات فتم إبطاله في إيطاليا التي كان مشهورا فيها، ثم تم إحياؤه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين حيث انتشرت في بعض البلاد الغربية محلات تبيع كتبا صغيرة تسمى (كتاب الفالنتين) فيها بعض الأشعار الغرامية ليختار منها من أراد أن يرسل إلى محبوبته بطاقة تهنئة وفيها مقترحات حول كيفية كتابة الرسائل الغرامية والعاطفية.
ومما قيل في سبب هذا العيد أيضا أنه لما دخل الرومان في النصرانية بعد ظهورها، وحكم الرومان الإمبراطور الروماني (كلوديوس الثاني) في القرن الثالث الميلادي منع جنوده من الزواج لأن الزواج يشغلهم عن الحروب التي كان يخوضها، فتصدى لهذا القرار (القديس فالنتين) وصار يجري عقود الزواج للجند سرا، فعلم الإمبراطور بذلك فزج به في السجن، وحكم عليه بالإعدام. وفي سجنه وقع في حب ابنة السجان، وكان هذا سراً حيث يحرم على القساوسة والرهبان في شريعة النصارى الزواج وتكوين العلاقات العاطفية، وإنما شفع له لدى النصارى ثباته على النصرانية حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفو عنه على أن يترك النصرانية ليعبد آلهة الرومان ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له، إلا أن (فالنتين) رفض هذا العرض وآثر النصرانية فنفذ فيه حكم القتل يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلة 15 فبراير، عيد (لوبر كيليا) ، ومن يومها أطلق عليه لقب قديس.
وجاء في كتاب قصة الحضارة: أن الكنيسة وضعت تقويماً كنيسياً جعلت كل يوم فيه عيداً لأحد القديسين وفي إنجلترا كان عيد القديس فالنتين يحدد في آخر فصل الشتاء فإذا حل ذلك اليوم على حد قولهم تزاوجت الطيور بحماسة في الغابات ووضع الشباب الأزهار على أعتاب النوافذ في بيوت البنات اللاتي يحبونهن. قصة الحضارة تأليف ول ديورانت (15 / 23)
وقد جعل البابا من يوم وفاة القديس فالنتين 14/فبراير/270م عيداً للحب فمن هو البابا؟ هو الحبر الأعظم رئيس البيعة المنظور وخليفة القديس البطرس، فانظروا إلى هذا الحبر الأعظم كيف شرع لهم الاحتفال بهذا العيد المبتدع في دينهم ألا يذكرنا هذا بقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) التوبة / 31، عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب مذهب، فقال: (يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباًَ من دون الله) قال: قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه) رواه الترمذي وهو حديث حسن.(13/296)
من أهم شعائرهم في هذا العيد:
1- إظهار البهجة والسرور فيه كحالهم في الأعياد المهمة الأخرى.
2- تبادل الورود الحمراء، وذلك تعبيرا عن الحب الذي كان حباً إلهياً عند الوثنيين وعشقاً عند النصارى، ولذلك سمي عندهم بعيد العشاق.
3- توزيع بطاقات التهنئة به، وفي بعضها صورة (كيوبيد) وهو طفل له جناحان يحمل قوسا ونشابا. وهو اله الحب عند الأمة الرومانية الوثنية تعالى الله عن إفكهم وشركهم علوا كبيرا.
4- تبادل كلمات الحب والعشق والغرام في بطاقات التهنئة المتبادلة بينهم - عن طريق الشعر أو النثر أو الجمل القصيرة، وفي بعض بطاقات التهنئة صور ضاحكة وأقوال هزلية، وكثيرا ما كان يكتب فيها عبارة (كن فالنتينيا) وهذا يمثل المفهوم النصراني له بعد انتقاله من المفهوم الوثني.
5- تقام في كثير من الأقطار النصرانية حفلات نهارية وسهرات ليلية مختلطة راقصة، ويرسل كثير منهم هدايا منها: الورود وصناديق الشوكولاته إلى أزواجهم وأصدقائهم ومن يحبونهم.
ومن نظر إلى ما سبق عرضه من أساطير حول هذا العيد الوثني يتضح له ما يلي:
أولا: أن أصله عقيدة وثنية عند الرومان، يعبر عنها بالحب الإلهي للوثن الذي عبدوه من دون الله تعالى. فمن احتفل به فهو يحتفل بمناسبة شركية تعظم فيها الأوثان، قال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) المائدة/72.
ثانيا: أن نشأة هذا العيد عند الرومان مرتبطة بأساطير وخرافات لا يقبلها العقل السوي فضلا عن عقل مسلم يؤمن بالله تعالى وبرسله عليهم السلام.
فهل يقبل العقل السوي أن ذئبة أرضعت مؤسس مدينة روما وأمدته بالقوة ورجاحة الفكر، على ما في هذه الأسطورة مما يخالف عقيدة المسلم لأن الذي يمد بالقوة ورجاحة الفكر هو الخالق سبحانه وتعالى وليس لبن ذئبة!!
وكذلك أسطورة أن أوثانهم ترد عنهم السوء وتحمي مراعيهم من الذئاب.
ثالثا: أن من الشعائر البشعة لهذا العيد عند الرومان ذبح كلب وعنزة ودهن شابين بدم الكلب والعنزة ثم غسل الدم باللبن … الخ فهذا مما تنفر منه الفطر السوية ولا تقبله العقول الصحيحة.
رابعا: أن ارتباط القديس (فالنتين) بهذا العيد قد شككت فيه كثير من المصادر واعتبرته غير مؤكداً، فكان الأولى بالنصارى رفض هذا العيد الوثني الذي قلدوا فيه الوثنيين، فكيف بنا نحن المسلمين ونحن مأمورون بمخالفة النصارى والوثنيين من قبلهم.
خامسا: أن هذا العيد تم إبطاله من قبل رجال الدين النصراني في إيطاليا معقل الكاثوليك، لما فيه من إشاعة الأخلاق السيئة والتأثير على عقول الشباب والشابات، فكان الأولى بالمسلمين أن ينبذوه ويحذروا منه ويقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاهه.
وقد يقول قائل: لماذا لا نحتفل نحن المسلمين بهذا العيد؟!
وللإجابة على ذلك أوجه عدة منها:
الوجه الأول: أن الأعياد في الإسلام محددة وثابتة لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وهي كذلك من صلب عباداتنا يعني ذلك أنها توقيفية، شرعها لنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن تيمية - رحمه الله -: (الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقال: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره , ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) [البخاري 952، ومسلم 892ا] [الاقتضاء (1/471-472) ] .
وبما أن عيد الحب يرجع إلى العهد الرومي، وليس الإسلامي فإن هذا يعني أنه من خصوصيات النصارى وليس للإسلام والمسلمين فيه حظ ولا نصيب، فإذا كان لكل قوم عيد كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل قوم عيداً) رواه البخاري ومسلم، فهذا القول منه صلى الله عليه وسلم يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشاركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم.
الوجه الثاني: أن الاحتفال بعيد الحب فيه تشبه بالرومان الوثنيين ثم بالنصارى الكتابيين فيما قلدوا فيه الرومان وليس هو من دينهم. وإذا كان يمنع من التشبه بالنصارى فيما هو من دينهم حقيقة - إذا لم يكن من ديننا - فكيف بما أحدثوه في دينهم وقلدوا فيه عباد الأوثان!!
وعموم التشبه بالكفار - وثنيين أو كتابيين - محرم، سواء كان التشبه في عباداتهم - وهي الأخطر - أو في عاداتهم وسلوكياتهم، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
1- فمن القرآن قول الله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران / 105) .
2- ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) (أخرجه أحمد 2/50 وأبو داود 4021) قال شيخ الإسلام: (هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (الاقتضاء 1/314) .
3- وأما الإجماع فقد نقل ابن تيمية أنه منعقد على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم في وقت الصحابة رضي الله عنهم، كما نقل ابن القيم إجماع العلماء على ذلك. (انظر الاقتضاء 1/454) وأحكام أهل الذمة (2/722 - 725) .
وقد نهى الله عن تقليد الكفار فمقته وحذر من مغبته، في آيات كثيرة، ومناسبات عديدة، وأساليب متنوعة، ولا سيما تقليد الكفار، فتارة بالنهي عن تبعيتهم وطاعتهم، وتارة بالتحذير منهم، ومن الاغترار بمكرهم والانصياع لآرائهم والتأثر بأعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم،، وتارة بذكر بعض خصالهم التي تنفر المؤمنين منهم، ومن تقليدهم، وأكثر ما يرد التحذير في القرآن من اليهود والمنافقين، ثم من عموم أهل الكتاب والمشركين، وقد بين الله تعالى في القرآن الكريم أن تقليد الكفار وطاعتهم منه ما هو ردة، وقد نهى تعالى كذلك عن طاعتهم واتباع أهوائهم وخصالهم السيئة.
كما أن النهي عن التقليد من مقاصد الشريعة، إذ أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وقد أكمل الله الشريعة للناس: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) المائدة / 3، وجعلها مشتملة على كل المصالح في كل الأزمان والأمكنة ولكل الناس، فلا حاجة للاستعداد من الكفار أو تقليدهم.
والتقليد يحدث خللاً في شخصية المسلم، من الشعور بالنقص والصغار، والضعف والانهزامية، ثم البعد والعزوف عن منهج الله وشرعه، فقد أثبتت التجربة أن الإعجاب بالكفار وتقليدهم سبب لحبهم والثقة المطلقة بهم والولاء لهم والتنكر للإسلام ورجاله، وأبطاله، تراثه وقيمه وجهل ذلك كله.
الوجه الثالث: أن المقصود من عيد الحب في هذا الزمن إشاعة المحبة بين الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، ولا شك في حرمة محبة الكفار ومودتهم، قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) (المجادلة: 22) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة) (الاقتضاء 1/490)
الوجه الرابع: أن المحبة المقصودة في هذا العيد منذ أن أحياه النصارى هي محبة العشق والغرام خارج إطار الزوجية، ونتيجة ذلك: انتشار الزنى والفواحش، ولذلك حاربه رجال الدين النصراني في وقت من الأوقات وأبطلوه ثم أعيد مرة أخرى.
وأكثر الشباب يحتفلون به لما فيه من تحقيق لشهواتهم، دون النظر إلى ما فيه من تقليد ومشابهة، فانظر معي إلى هذا البلاء، يتوصلون إلى الكبائر من زنا ونحوه عن طريق مشابهة النصارى فيما هو من عباداتهم والذي يخشى أن يكون كفراً.
وقد يتساءل البعض فيقولون: أنتم بهذا تريدون حرماننا من الحب، ونحن في هذا اليوم إنما نعبر عن مشاعرنا وعواطفنا، فما المحذور في ذلك؟
فنقول:
أولاً: من الخطأ الخلط بين ظاهر مسمى اليوم وحقيقة ما يريدون من ورائه، فالحب المقصود في هذا اليوم هو العشق والهيام واتخاذ الأخدان والخلان والخليلات والمعروف عنه أنه يوم الإباحية والجنس عندهم بلا قيود أو حدود ... وهؤلاء لا يتحدثون عن الحب الطاهر بين الرجل وزوجته والمرأة وزوجها. أو على الأقلّ لا يفرّقون بين الحبّ الشّرعي في علاقة الزوجين وبين الحبّ المحرّم للعشيقات والأخدان فالعيد عندهم وسيلة لتعبير الجميع عن الحبّ.
ثانياً: إن التعبير عن المشاعر والعواطف لا يسوِّغ للمسلم إحداث يوم يعظمه ويخصه من تلقاء نفسه بذلك، ويسميه عيداً أو يجعله كالعيد، فكيف وهو من أعياد الكفار؟
فالزّوج يحبّ زوجته في الإسلام على مدار العام ويعبّر لها عن هذا الحبّ بالهدية والشّعر والنثر والرسائل وغيرها على مدار العام وليس في يوم واحد في السنة.
ثالثاً: لا يوجد دين يحث أبناءه على التحابب والمودة والتآلف كدين الإسلام، وهذا في كل وقت وحين لا في يوم بعينه بل حث على إظهار العاطفة والحب في كل وقت كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه) (رواه أبو داوود / 5124، والترمذي / 2329، وهو صحيح) ، وقال: (والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم / 54.
رابعاً: إن الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى من قصره على صورة واحدة وهي الحب بين الرجل والمرأة، بل هناك مجالات أشمل وأرحب وأسمى، فهناك حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وحب أهل الخير والصلاح وحب الدين ونصرته، وحب الشهادة في سبيل الله، وهناك محاب كثيرة، فمن الخطأ والخطر إذن قصر هذا المعنى الواسع على هذا النوع من الحب.
خامساً: أن ظنّ الذين يظنون بأن الحبّ قبل الزواج مفيد والعلاقة نافعة ظنّهم خائب كما أثبتت الدراسات وتجارب الواقع ففي دراسة أجرتها جامعة القاهرة، حول ما أسمته زواج الحب، والزواج التقليدي، جاء في الدراسة:
الزواج الذي يأتي بعد قصة حب تنتهي 88% من حالاته بالإخفاق، أي بنسبة نجاح لا تتجاوز 12%، وأما ما أطلقت عليه الدراسة الزواج التقليدي فقد حقق 70% من حالات النجاح. وبعبارة أخرى، فإن عدد حالات الزواج الناجحة في الزواج الذي يسمونه تقليدياً تعادل ستة أضعاف ما يسمى بـ (زواج الحب) . (رسالة إلى مؤمنة ص: 255) .
ثمّ إذا نظرنا في أحوال المجتمعات الغربية التي تحتفل بعيد الحبّ وتروّجه ونسأل: مال حال العلاقات الزوجية لديهم وما أثر هذه الاحتفالات والأعياد على المعاملة بين الزوجين؟ وهل أثّرت فيها إيجابيا؟
جاء في دراساتهم وإحصاءاتهم ما يلي:
1- في دراسة أميركية عام (1407هـ / 1987م) جاء فيها: أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء، وبخاصة إذا كانوا متزوجين ... ! [جريدة القبس (15/2/1988) ]
2- وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء فيها:
- 17% من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف من ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء.
- 83% دخلن المستشفيات سابقاً مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أصبن بها، كان دخولهن نتيجة الضرب. وأضافت الدراسة أن هناك نساء أكثر لا يذهبن إلى المستشفى للعلاج بل يضمدن جروحهن في المنزل.
3- وفي تقرير للوكالة الأمريكية المركزية للفحص والتحقيق F.P.T. فإن هناك زوجة يضربها زوجها كل 18 ثانية في أمريكا.
4- ونشرت مجلة التايم الأمريكية أن حوالي 4000 زوجة من حوالي ستة ملايين زوجة مضروبة تموت نتيجة ذلك الضرب!!!
5- وفي دراسة ألمانية: ما لا يقل عن 100 ألف امرأة تتعرض سنوياً لأعمال العنف الجسدي أو النفساني التي يمارسها الأزواج أو الرجال الذي يعاشرونهن مع احتمال أن يكون الرقم الحقيقي يزيد على المليون.
6- وفي فرنسا تتعرض حوالي مليوني امرأة للضرب.
7- وفي بريطانيا في أحد استطلاعات الرأي شاركت فيه 7 آلاف امرأة قالت 28% منهن: إنهن يتعرضن للهجوم من أزواجهن وأصدقائهن.
فكيف نصدّق بعد ذلك أنّ عيد الحبّ مفيد للزوجين، والحقيقة أنّه دعوة لمزيد من الانحلال والفجور وإقامة العلاقات المحرّمة.
والزوج الصّادق في محبّة زوجته لا يحتاج لتذكيره بالمحبة إلى هذا العيد فهو يعبّر عن حبّه لزوجته في كلّ وقت وحين.(13/297)
موقف المسلم من عيد الحب:
مما سبق عرضه يتبين موقف المسلم من هذا العيد في الأمور التالية:
أولاً: عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم، أو الحضور معهم لما سبق من الأدلة الدالة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: (فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم. أهـ (تشبه الخسيس بأهل الخميس،: مجلة الحكمة 4/193) . ولما كان من أصول اعتقاد السلف الصالح الولاء والبراء وجب تحقيق هذا الأصل لكل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيحب المؤمنين ويبغض الكافرين ويعاديهم ويخالفهم ويعلم أن في ذلك من المصلحة ما لا يحصى كما أن في مشابهتهم من المفسدة أضعاف ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإن مشابهة المسلمين لهم تشرح صدورهم وتدخل على قلوبهم السرور، وتؤدي إلى المحبة القلبية للكفار، ومن تحتفل بهذ العيد من بنات المسلمين وترى لأنها ترى مارغريت أو هيلاري أو ... يحتفلن بهذه المناسبة فلا شك أنها بهذا تعكس اتذباعها لهنّ وارتياحها لمسلكهنّ وقد قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) المائدة / 51، ومن مساوئ مشابهتهم تكثير سوادهم ونصرة دينهم واتباعه وكيف يليق بالمسلم الذي يقرأ في كل ركعة: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) الفاتحة / 6-7، أن يسأل الله الهداية لصراط المؤمنين ويجنبه صراط المغضوب عليهم ولا الضالين ثم يسلك سبيلهم مختاراً راضياً.
وتشير الإحصائيات إلى أن عيد الحب هو ثاني مناسبة بعد الكريسماس! فإذا تبين أن عيد الحب من أعياد النصارى وهو في المرتبة الثانية بعد عيد الكريسماس - عيد ميلاد المسيح - فلا يجوز للمسلمين مشاركتهم بالاحتفال في هذا التاريخ لأننا مأمورون بمخالفتهم في دينهم وعاداتهم وغير ذلك من خصوصياتهم كما جاء ذلك في القرآن والسنة والإجماع.
ثانيا: عدم إعانة الكفار على احتفالهم، لأنه شعيرة من شعائر الكفر، فإعانتهم وإقرارهم عليه إعانة على ظهور الكفر وعلوه وإقرار به. والمسلم يمنعه دينه من إقرار الكفر والإعانة على ظهوره وعلوه. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة. . . وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام) (مجموعة الفتاوى 25/329) .
ثالثا: عدم إعانة من احتفل به من المسلمين، بل الواجب الإنكار عليهم، لأن احتفال المسلمين بأعياد الكفار منكر يجب إنكاره. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يعان المسلم بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك (الاقتضاء 2/519 - 520) .
وبناءا على ما قرره شيخ الإسلام فإنه لا يجوز للتجار المسلمين أن يتاجروا بهدايا عيد الحب من لباس معين أو ورود حمراء أو غير ذلك، كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها لأن في قبولها إقرار لهذا العيد.
يقول أحد الدعاة: توجهنا إلى أحد محلات الورود في بلاد المسلمين ففوجئنا باستعداد تام كانت بدايته فرش مدخل المحل بفرش أحمر ولوحات حمراء ومناظر حمراء، وقابلنا أحد العمال في المحل وسألناه عن مدى استعدادهم لهذه المناسبة؟ فردّ بأن هذا الاستعداد بدأ مبكراً والطلبات كانت مكثفة،.. ثم أخبرنا العامل بأنه مستغرب من ذلك حيث فاجأنا بأنه أسلم حديثاً وترك النصرانية وأن ذلك يعرفه في دينهم قبل إسلامه فكيف يكون الزبائن من المسلمين وليس من النصارى؟!
وفي محلات أخرى نفدت الورود الحمراء وبيعت بالأثمان الغالية، ولما دخلت إحدى الداعيات المسلمات على الطالبات المجتمعات في صالة لإلقاء محاضرة عليهن أصيبت بخيبة أمل كبيرة لأنها وجدت الحضور محمرّا فهذه معها وردة حمراء والأخرى بشال أحمر أو منديل أحمر أو حقيبة حمراء أو جوارب حمراء
وهكذا، فواأسفى على بنات المسلمين.
ومن المظاهر المشاهدة بين المسلمين في هذا العيد:
1- كل طالبة تتفق مع من تحب من صديقاتها بربط شريطة حمراء اللون في معصم اليد اليسرى.
2- لبس أي لباس أحمر اللون (بلوزة، بكلة شعر، حذاء، ... ) وقد كان ذلك في غاية الوضوح العام الماضي لدرجة أننا ندخل الفصول فنجد أغلب الطالبات وقد ارتدينه وكأنه زي رسمي.
3- البالونات الحمراء والمكتوب عليها: (I Love you) وعادة يخرجنها آخر اليوم الدراسي وفي الساحة بعيداً عن أعين المعلمات.
4- نقش الأسماء والقلوب على اليدين والحروف الأولى من الأسماء.
5- انتشار الورود الحمراء بشكل كبير في هذا اليوم.
لفيف من البنات دخلن قاعات المحاضرات يوم 14 فبراير وقد ارتدت كل واحدة منهن ثوباً أحمر وألصقت على وجهها رسوماً لقلوب حمراء بعد أن وضعت مساحيق التجميل الحمراء على وجهها وبدأن يتبادلن الهدايا ذات اللون الحمر مع القبلات الحارة، هذا ما حدث في أكثر من جامعة في بلد إسلامي بل وفي جامعة إسلامية أو بالأحرى عيد القديس فالنتين.
المدارس الثانوية في ذلك اليوم فوجئت بكثير من الطالبات قد أحضرن وروداً حمراء من النوع الفاخر وصبغن وجوههن بمساحيق تجميل ذات اللون الأحمر وارتدين أقراطاًَ حمراء وأخذن يتبادلن الهدايا وعبارات الغرام الساخنة فيما بينهن احتفالاً بهذا العيد.
تشير الموسوعة العربية إلى أن لعيد فالنتين طقوساً خاصة منها طباعة أشعار العاطفة والحب على البطاقات وتوزيعها على الأقارب ومن يحب، وبعضهم يرسم صوراً ضاحكة على هذه البطاقات وكثيراً ما يكتب عليها (كن فالنتينياً) ، وكثيراً ما تعقد حفلات نهارية راقصة على طريقتهم ومازال الأوربيون يحتفلون بهذا العيد، ففي بريطانيا بلغت مبيعات الزهور في ذلك اليوم 22 مليون جنيه استرليني، ويزداد الإقبال على الشوكولاته، وتعرض الشركات على مواقعها في الإنترنت رسائل مجانية بهذه المناسبة ترويجاً لموقعها.
انتقل عيد فالنتين إلى عدد من البلاد العربية والإسلامية بل إلى موطن الإسلام (جزيرة العرب) وإلى مجتمعات كنا نظنها بعيدة عن هذا الخبل، حتى ارتفع سعر الورود في هذا اليوم بشكل جنوني فبلغ ثمن الوردة الواحدة (10 دولارات) بعد أن كان لا يتجاوز دولار وربع، وتنافست محلات الهدايا والكروت في تصميم كروت وهدايا لهذه المناسبة وقامت بعض العائلات بتعليق الورود الحمراء على نوافذ المنزل في ذلك اليوم.
وفي بعض دول الخليج نظمت العديد من المراكز التجارية والفنادق احتفالات خاصة بمناسبة عيد الحب، فاكتست غالبية المحلات والمجمعات التجارية باللون الأحمر وانتشرت البالونات والألعاب والدمى في أحد المطاعم الخليجية الفاخرة، وتمشياً مع عادات عيد الحب وأساطير الوثنية عرض المطعم مشهداً تمثيلياً لشخصية (كيوبيد) صنم الحب في الأساطير الرومانية وهو شبه عار مع قوسه وسهمه كما قام هذا الممثل مع وصيفاته باختيار (مسز ومستر فالنتين) من بين الحضور.
أما مطاعم الدخل المحدود فقد احتفلت بهذا اليوم بطريقتها الخاصة حيث قام بعض المحلات بتغيير الأطباق العادية إلى أطباق على شكل قلوب وأبدلت مفارش الطاولات باللون الأحمر كما وضعت وردة حمراء في كل طاولة ليقدمها المحب إلى حبيبته.
أبرز تقاليع عيد الحب عرضها صاحب أحد محلات الهدايا في الكويت إذ قام باستيراد أرانب فرنسية (حية) صغيرة الحجم ذات عيون حمراء وقام بوضع رابطة عنق على رقاب هذه الأرانب ووضعها في علب صغيرة لتقدم هدية.!!
فيجب محاربة هذه المظاهر بشتى الوسائل والمسئولية ملقاة على الجميع
رابعا: عدم تبادل التهاني بعيد الحب، لأنه ليس عيدًا للمسلمين. وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة. قال ابن القيم رحم الله تعالى: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) (أحكام أهل الذمة 1/441 - 442) .
خامسا: وجوب توضيح حقيقة هذا العيد وأمثاله من أعياد الكفار لمن اغتر بها من المسلمين، وبيان ضرورة تميز المسلم بدينه والمحافظة على عقيدته مما يخل بها، نصحا للأمة وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(13/298)
من فتاوى العلماء المسلمين حول عيد الحب:
فتوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
السؤال: فقد انتشر في الآونة الأخيرة الاحتفال بعيد الحب - خاصة بين الطالبات - وهو عيد من أعياد النصارى، ويكون الزي كاملا باللون الأحمر الملبس والحذاء ويتبادلن الزهور الحمراء.. نأمل من فضيلتكم بيان حكم الاحتفال بمثل هذا العيد، وما توجيهكم للمسلمين في مثل هذه الأمور والله يحفظكم ويرعاكم؟
فأجاب حفظه الله:
الاحتفال بعيد الحب لا يجوز لوجوه:
الأول: إنه عيد بدعي لا أساس له في الشريعة.
الثاني: أنه يدعو إلى اشتغال القلب بمثل هذه الأمور التافهة المخالفة لهدي السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ فلا يحل أن يحدث في هذا اليوم شيء من شعائر العيد سواء في المآكل أو المشارب أو الملابس أو التهادي أو غير ذلك وعلى المسلم أن يكون عزيزا بدينه وأن لا يكون إمعة يتبع كل ناعق. أسأل الله أن يعيذ المسلمين من كل الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يتولانا بتوليه وتوفيقه. والله أعلم.
فتوى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين في الاحتفال بهذا اليوم:
سئل فضيلته: انتشر بين فتياننا وفتياتنا الاحتفال بما يسمى عيد الحب (يوم فالنتين) وهو اسم قسيس يعظمه النصارى يحتفلون به كل عام في 14 فبراير، ويتبادلون فيه الهدايا والورود الحمراء، ويرتدون الملابس الحمراء، فما حكم الاحتفال به أو تبادل الهدايا في ذلك اليوم وإظهار ذلك العيد جزاكم الله خيراً.
فأجاب حفظه الله:
أولاً: لا يجوز الاحتفال بمثل هذه الأعياد المبتدعة، لأنه بدعة محدثة، لا أصل لها في الشرع فتدخل في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي مردود على من أحدثه.
ثانياً: أن فيها مشابهة للكفار وتقليداً لهم في تعظيم ما يعظمونه واحترام أعيادهم ومناسباتهم وتشبهاً بهم فيما هو من ديانتهم وفي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) .
ثالثاً: ما يترتب على ذلك من المفاسد المحاذير كاللهو واللعب والغناء والزمر والأشر والبطر والسفور والتبرج واختلاط الرجال بالنساء أو بروز النساء أمام غير المحارم ونحو ذلك من المحرمات، أو ما هو وسيلة إلى الفواحش ومقدماتها، ولا يبرر ذل ما يعلل به من التسلية والترفيه وما يزعمونه من التحفظ فإن ذلك غير صحيح، فعلى من نصح نفسه أن يبتعد عن الآثام ووسائلها.
وعلى هذا لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود إذا عرف أن المشتري يحتفل بتلك الأعياد أو يهديها أو يعظم بها تلك الأيام حتى لا يكون البائع مشاركاً لمن يعمل بهذه البدعة والله أعلم. ا. هـ.
فتوى اللجنة الدائمة
كما سئلت اللجنة الدائمة سؤالاً حول هذا العيد هذا نصه:
يحتفل بعض الناس في اليوم الرابع عشر من شهر فبراير 14/2، من كل سنة ميلادية بيوم الحب (فالنتين داي) ، ويتهادون الورود الحمراء ويلبسون اللون الأحمر ويهنئون بعضهم وتقوم بعض محلات الحلويات بصنع حلويات باللون الأحمر ويرسم عليها قلوب وتعمل بعض المحلات إعلانات على بضائعها التي تخص هذا اليوم فما هو رأيكم؟
فأجابت اللجنة: ... يحرم على المسلم الإعانة على هذا العيد أو غيره من الأعياد المحرمة بأي شيء من أكلٍ أو شرب أو بيع أو شراء أو صناعة أو هدية أو مراسلة أو إعلان أو غير ذلك لأن ذلك كله من التعاون على الإثم والعدوان ومعصية الله والرسول والله جل وعلا يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) .
ويجب على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أحواله لاسيما في أوقات الفتن وكثرة الفساد، وعليه أن يكون فطناً حذراً من الوقوع في ضلالات المغضوب عليهم والضالين والفاسقين الذين لا يرجون لله وقاراً ولا يرفعون بالإسلام رأساً، وعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بطلب هدايته والثبات عليها فإنه لا هادي إلا الله ولا مثبت إلا هو سبحانه وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وفي الختام ننصح الأخوة بما يلي:
1- حث خطباء المساجد للتنبيه وتحذير الناس وتوضيح هذا الموضوع لإمام المسجد وإخباره بقرب حلوله مع إرفاق فتوى اللجنة وفتوى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - غفر الله له -، وكل شخص يتكفل بإمام مسجده لإيصال الخبر له، ومن المؤكد أن من الأخوة أئمة مساجد فلعل الذمة برئت بإخبارهم عند قراءتهم هذا المقال.
2- كل معلم ومعلمة عليه أمانة توضيح صورة هذا العيد وتنبيه الطلبة والطالبات لذلك وأنهم مسؤولون أمام الله غداً وبيان التحريم عن طريق فتوى اللجنة وكل ذلك لابد أن يبدأ قبل أسبوع حتى يستفاد من الحملة.
3- تنبيه أهل الحسبة وتبليغ مراكز الهيئات عن المحلات التي تبيع هدايا خاصة لهذا اليوم أو تحمل صوراً تدل على ماهية الهدية وطريقة تغليفها.
4- كما أنه على كل إنسان أن يقوم بمهمة التوعية بين أهل بيته ومن كان له أخوات مدرسات أو أخوة فليبلغهم بالأمر فكثير من الناس يجهلون هذا العيد وماهيته.
نسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين من مضلات الفتن وأن يقيهم شرور أنفسهم ومكر أعدائهم إنه سميع مجيب. وصلى الله وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. .(13/299)
فضل قيام الليل
فضل قيام ليالي رمضان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثم كان الأمر عل ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وصدرٍ من خلافة عمر رضي الله عنه.
وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وصمت الشهر، وقمت رمضان، وآتيت الزكاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء "
ليلة القدر وتحديدها:
2- وأفضل لياليه ليلة القدر، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر {ثم وُفّقت له} ، إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه "
ورفع ذلك في رواية إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم وغيره. .
مشروعية الجماعة في القيام:
4- وتشرع الجماعة في قيام رمضان، بل هي أفضل من الانفراد، لإقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها بنفسه، وبيانه لفضلها بقوله، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان، فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله! لو نفّلتنا قيام هذه الليلة، فقال: " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر) حديث صحيح، أخرجه أصحاب السنن.
السبب في عدم استمرار النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة فيه:
5- وإنما لم يقم بهم عليه الصلاة والسلام بقية الشهر خشية أن تُفرض عليهم صلاة الليل في رمضان، فيعجزوا عنها كما جاء في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما، وقد زالت هذه الخشية بوفاته صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله الشريعة، وبذلك زال المعلول، وهو ترك الجماعة في قيام رمضان، وبقي الحكم السابق وهو مشروعية الجماعة، ولذلك أحياها عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري وغيره.
مشروعية الجماعة للنساء:
6- ويشرع للنساء حضورها كما في حديث أبي ذر السابق بل يجوز أن يُجعل لهن إمام خاص بهن، غير إمام الرجال، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على القيام، جعل على الرجال أبيّ بن كعب، وعلى النساء سليمان بن أبي حثمة، فعن عرفجة الثقفي قال: (كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال: فكنت أنا إمام النساء "
قلت: وهذا محله عندي إذا كان المسجد واسعاً، لئلا يشوش أحدهما على الآخر.
عدد ركعات القيام:
7- وركعاتها إحدى عشرة ركعة، ونختار أن لا يزيد عليها اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يزد عليها حتى فارق الدنيا، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن صلاته في رمضان؟ فقالت: " ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاُ فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً " أخرجه الشيخان وغيرهما
8- وله أن ينقص منها، حتى لو اقتصر على ركعة الوتر فقط، بدليل فعله صلى الله عليه وسلم وقوله.
أما الفعل، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: " كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة " رواه ابو داود وأحمد وغيرهما.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو: " الوتر حق، فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة ".
القراءة في القيام:
9- وأما القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره، فلم يحُد فيها النبي صلى الله عليه وسلم حداً لا يتعداه بزيادة أو نقص، بل كانت قراءته فيها تختلف قصراً وطولاً، فكان تارة يقرأ في كل ركعة قدر (يا أيها المزمل) وهي عشرون آية، وتارة قدر خمسين آية، وكان يقول: " من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين "، وفي حديث آخر: ".. بمائتي آية فإنه يُكتب من القانتين المخلصين ".
وقرأ صلى الله عليه وسلم في ليلة وهو مريض السبع الطوال، وهي سورة (البقرة) و (آل عمران) و (النساء) و (المائدة) و (الأنعام) و (الأعراف) و (التوبة) .
وفي قصة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة واحدة (البقرة) ثم (النساء) ثم (آل عمران) ، وكان يقرؤها مترسلا متمهلاً
وثبت بأصح إسناد أن عمر رضي الله عنه لما أمر أبيّ بن كعب أن يصلي للناس بإحدى عشرة ركعة في رمضان، كان أبيّ رضي الله عنه يقرأ بالمئين، حتى كان الذين خلفه يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في أوائل الفجر.
وصح عن عمر أيضاً أنه دعا القراء في رمضان، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية، والوسط خمساً وعشرين آية، والبطيء عشرين آية.
وعلى ذلك فإن صلى القائم لنفسه فليطوّل ما شاء، وكذلك إذا كان معه من يوافقه، وكلما أطال فهو أفضل، إلا أنه لا يبالغ في الإطالة حتى يحيي الليل كله إلا نادراً، اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم القائل: " وخير الهدي هدي محمد "، وأما إذا صلى إماماً، فعليه أن يطيل بما لا يشق على من وراءه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة، فإن فيهم الصغير والكبير وفيهم الضعيف، والمريض، وذا الحاجة، وإذا قام وحده فليُطل صلاته ما شاء.
وقت القيام:
10- ووقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر "
11- والصلاة في آخر الليل أفضل لمن تيسر له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل "
12- وإذا دار الأمر بين الصلاة أول الليل مع الجماعة، وبين الصلاة آخر الليل منفرداً، فالصلاة مع الجماعة أفل، لأنه يحسب له قيام ليلة تامة.
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن بن عبد القاري: " خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرّهط، فقال: والله إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبيّ بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: عمر، نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوله "
وقال زيد بن وهب: (كان عبد الله يصلي بنا في شهر رمضان فينصرف بليل)
13- لما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الإيتار بثلاث، وعلل ذلك بقوله: " ولا تشبهوا بصلاة المغرب " فحينئذ لابد لمن صلى الوتر ثلاثاً من الخروج من هذه المشابهة، وذلك يكون بوجهين:
أحدهما: التسليم بين الشفع والوتر، وهو الأقوى والأفضل.
والآخر: أن لا يقعد بين الشفع والوتر، والله تعالى أعلم.
القراءة في ثلاث الوتر:
14- ومن السنة أن يقرأ في الركعة الأولى من ثلاث الوتر: (سبح اسم ربك الأعلى) ، وفي الثانية: (قل يا أيها الكافرون) ، وفي الثالثة: (قل هو الله أحد) ويضيف إليها أحياناُ: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ مرة في ركعة الوتر بمائة آية من سورة (النساء)
دعاء القنوت:
15- و.. يقنت.. بالدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو: (اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لا منجا منك إلا إليك) ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، لما يأتي بعده. (ولا بأس أن يزيد عليه من الدعاء المشروع والطيّب الصحيح) .
16- ولا بأس من جعل القنوت بعد الركوع، ومن الزيادة عليه بلعن الكفرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للمسلمين في النصف الثاني من رمضان، لثبوت ذلك عن الأئمة في عهد عمر رضي الله عنه، فقد جاء في آخر حديث عبد الرحمن بن عبيد القاري المتقدم: " وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك، إله الحق) ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين.
قال: وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك لمن عاديت ملحق " ثم يكبر ويهوي ساجداً.
ما يقول في آخر الوتر:
17- ومن السنة أن يقول في آخر وتره (قبل السلام أو بعده) :
" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما اثنيت على نفسك "
18- وإذا سلم من الوتر، قال: سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس (ثلاثاً) ويمد بها صوته، ويرفع في الثالثة.
الركعتان بعده:
19- وله أن يصلي ركعتين (بعد الوتر إن شاء) ، لثبوتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً بل.. قال: " إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم، فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له ".
20- والسنة أن يقرأ فيهما: (إذا زلزلت الأرض) و (قل يا أيها الكافرون) .
من كتاب قيام رمضان للألباني.
متابعة الإمام حتى ينصرف
إذا كان الأرجح في عدد ركعات التراويح هو أحد عشر ركعة وصليت في مسجد تقام فيه التراويح بإحدى وعشرين ركعة، فهل لي أن أغادر المسجد بعد الركعة العاشرة أم من الأحسن إكمال الإحدى وعشرين ركعة معهم؟
الأفضل إتمام الصلاة مع الإمام حتى ينصرف ولو زاد على إحدى عشرة ركعة لأنّ الزيادة جائزة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ".. مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ.. " رواه النسائي وغيره: سنن النسائي: باب قيام شهر رمضان. ولقوله صلى الله عليه وسلم: " صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ ". رواه السبعة وهذا لفظ النسائي.
ولا شكّ أنّ التقيّد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم هو الأولى والأفضل والأكثر أجرا مع إطالتها وتحسينها، ولكن إذا دار الأمر بين مفارقة الإمام لأجل العدد وبين موافقته إذا زاد فالأفضل أن يوافقه المصلي للأحاديث المتقدّمة، هذا مع مناصحة الإمام بالحرص على السنّة.
إذا زاد ركعة على وتر الإمام ليكمل بعد ذلك
بعض الناس إذا صلى مع الإمام الوتر وسلم الإمام قام وأتى بركعة ليكون وتره آخر الليل فما حكم هذا العمل؟ وهل يعتبر انصراف مع الإمام؟ .
الجواب
الحمد لله:
لا نعلم في هذا بأساً نص عليه العلماء ولا حرج فيه حتى يكون وتره في آخر الليل. ويصدق عليه أنه قام مع الإمام حتى ينصرف لأنه قام معه حتى انصراف الإمام وزاد ركعة لمصلحة شرعية حتى يكون وتره آخر الليل فلا بأس بهذا ولا يخرج به عن كونه ما قام مع الإمام بل هو قام مع الإمام حتى انصرف لكنه لم ينصرف معه بل تأخر قليلاً. من كتاب الجواب الصحيح من أحكام صلاة الليل والتراويح للشيخ عبد العزيز بن باز ص 41
الإسلام سؤال وجواب(13/300)
وسائل الثبات على دين الله(13/301)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد.
وتكمن أهمية الموضوع في أمور منها:
- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً (القابض على دينه كالقابض على الجمر) .
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر؛ لفساد الزمان، وندرة الأخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.
- كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن.
- ارتباط الموضوع بالقلب؛ الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه: (لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياً) رواه أحمد 6/4 والحاكم 2/289 وهو في السلسلة الصحيحة 1772. ويضرب عليه الصلاة والسلام للقلب مثلاً آخر فيقول: (إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2361. فسبق الحديث قول الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها.(13/302)
وسائل الثبات
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته ? وسائل كثيرة للثبات. أستعرض معك أيها القارئ الكريم بعضاً منها:(13/303)
أولاً: الإقبال على القرآن:
القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} الفرقان /32 -33.
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت؟؟
- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله.
- لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله.
- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص.
- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول، وهذه نماذج:
1- ما هو أثر قول الله عز وجل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} الضحى /3 على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال المشركون: (ودع محمد …) أنظر صحيح مسلم بشرح النووي 12/156.
2- وما هو أثر قول الله عز وجل: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} النحل /103 لما ادعى كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة؟
3- وما هو أثر قول الله عز وجل: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} التوبة /49 في نفوس المؤمنين لما قال المنافق: " ائذن لي ولا تفتني "؟
أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات، وإسكاتاً لأهل الباطل..؟ بلى وربي.
ومن العجب أن الله يعد المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائم كثيرة يأخذونها (وهي غنائم خيبر) وأنه سيعجلها لهم وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم وأن المنافقين سيطلبون مرافقتهم وأن المسلمين سيقولون لن تتبعونا وأنهم سيصرون يريدون أن يبدلوا كلام الله وأنهم سيقولون للمؤمنين بل تحسدوننا وأن الله أجابهم بقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة وخطوة بخطوة وكلمة بكلمة.
- ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، ومنه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل.
- ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم.(13/304)
ثانياً: التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء} إبراهيم /27.
قال قتادة: " أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر ". وكذا روي عن غير واحد من السلف تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/421. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأشَدَّ تَثْبِيتًا} النساء /66. أي على الحق.
وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهم الخطب؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيماُ. ولذلك كان ? يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل. وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته.
وكان ? يقول: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة) سنن الترمذي 2/273 وقال: الحديث حسن أو صحيح. وهو في صحيح النسائي 1/388 وصحيح الترمذي 1/131. أي السنن الرواتب. وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) رواه البخاري، انظر فتح الباري 11/340.(13/305)
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل:
والدليل على ذلك قوله تعالى {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} هود /120.
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتلهي والتفكه، وإنما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفئدة المؤمنين معه.
- فلو تأملت يا أخي قول الله عز وجل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} الأنبياء /68-70 قال ابن عباس: " كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل" الفتح 8/22
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة؟
- لو تدبرت قول الله عز وجل في قصة موسى: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الشعراء /61-62.
ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة؟.
- لو استعرضت قصة سحرة فرعون، ذلك المثل العجيب للثلة التي ثبتت على الحق بعدما تبين.
ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} طه /71
ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} طه /72.
- وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.(13/306)
رابعاً: الدعاء:
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم:
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) ، (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا) . ولما كانت (قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً انظر مسلم بشرح النووي 16/204. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً تحفة الأحوذي 6/349 وهو في صحيح الجامع 7864.(13/307)
خامساً: ذكر الله:
وهو من أعظم أسباب التثبيت.
- تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} الأنفال /45. فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.
" وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها " ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء. بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً.
- وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها؟ ألم يدخل في حصن " معاذ الله " فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟
وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين.(13/308)
سادساً: الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً:
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل..
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك: لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم؟؟.
فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى علم الكلام والاعتزال إلى التحريف والتأويل إلى التفويض والإرجاء، ومن طريقة في التصوف إلى أخرى..
وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون، وانظر كيف حُرم أهل الكلام الثبات عند الممات فقال السلف: " أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام " لكن فكر وتدبر هل رجع من أهل السنة والجماعة عن طريقه سَخْطَةً بعد إذ عرفه وفقهه وسلكه؟ قد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهات عرضت لعقله الضعيف، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه.
ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد ?؟ قال هرقل لأبي سفيان: " فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخ فيه؟ " قال أبو سفيان: لا. ثم قال هرقل: " وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب " رواه البخاري، الفتح 1/32.
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع وآخرين هداهم الله فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس؟!
فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين.(13/309)
سابعاً: التربية:
التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات.
التربية الإيمانية: التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل الرجال.
التربية العلمية: القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والأمعية الذميمة.
التربية الواعية: التي لا تعرف سبيل المجرمين وتدرس خطط أعداء الإسلام وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً، المنافية للانغلاق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة.
التربية المتدرجة: التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة.
ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائل أنفسنا.
- ما هو مصدر ثبات صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، إبان فترة الاضطهاد؟
- كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره؟
- هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة، صقلت شخصياتهم؟
لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك (أي الشحم) ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟.
- وبلال تحت الصخرة في الرمضاء، وسمية في الأغلال والسلاسل..
- وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني، من الذي ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم؟ كلا.. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء؟(13/310)
ثامناً: الثقة بالطريق:
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالريق الذي يسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر.. ولهذا وسائل منها:
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه - يا أخي - ليس جديداً ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق (عتيق صفة مدح) قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون، فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أنساً، وكآبتك فرحاً وسروراً، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
- الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل: (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) النمل /59. وقال: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فاطر /32. وقال: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) يوسف /6. وكما أن الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء.
- ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً، أو دابة، أو كافراً ملحداً، أو داعياً إلى بدعة، أو فاسقاً، أو مسلماً غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء؟
- ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟(13/311)
تاسعاً: ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل:
النفس إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومخلصة النفس من العذاب؛ فيها تتفجر الطاقات، وتنجز المهمات (فلذلك فادع، واستقم كما أمرت) . وليس يصح شيء يقال فيه " فلان لا يتقدم ولا يتأخر " فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والإيمان يزيد وينقص.
والدعوة إلى المنهج الصحيح - ببذل الوقت، وكدّ الفكر، وسعي الجسد، وانطلاق اللسان، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل - يقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة.
زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق، والمعاندين، وأهل الباطل، وهو يسير في مشواره الدعوي، فيرتقي إيمانه، وتقوى أركانه.
فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات، والحماية من التراجع والتقهقر، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه.(13/312)
عاشراً: الالتفاف حول العناصر المثبتة:
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) حسن رواه ابن ماجة عن أنس مرفوعاً 237 وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/127 وانظر السلسلة الصحيحة 1332.
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات. وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال.
ومن ذلك: ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى " أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة ".
وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت: " وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ". الوابل الصيب ص 97.
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة.. الزمهم وعش في أكنافهم وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.(13/313)
الحادي عشر: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:
نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران /146-148.
ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فماذا قال؟
جاء في حديث خباب مرفوعاً عند البخاري: (وليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه) رواه البخاري، انظر فتح الباري 7/165.
فعرض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهم في تربيتهم على الثبات.(13/314)
الثاني عشر: معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:
في قول الله عز وجل: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} آل عمران /196 تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم.
وفي قوله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء} الرعد /17 عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.
ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} الأنعام /55 حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام.
وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم.(13/315)
الثالث عشر: استجماع الأخلاق المعينة على الثبات:
وعلى رأسها الصبر، ففي حديث الصحيحين: (وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب الاستعفاف عن المسألة، ومسلم في كتاب الزكاة - باب فضل التعفف والصبر. وأشد الصبر عند الصدمة الأولى، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عدم الصبر.
- تأمل فيما قاله ابن الجوزي رحمه الله: " رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته، فقال: ما ينبغي لأحد أن يدعو، فإنه ما يستجيب. ثم قال: إن الله تعالى يعاند فما يترك لنا ولداً " الثبات عند الممات لابن الجوزي ص34 تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.
- لما أصيب المسلمون في أحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم بالنصر، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} آل عمران /165 ماذا حصل من عند أنفسهم؟
فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا.(13/316)
الرابع عشر: وصية الرجل الصالح:
عندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه ليمحصه، يكون من عوامل الثبات أن يقيض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبته، فتكون كلمات ينفع الله بها، ويسدد الخطى، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله، ولقائه، وجنته، وناره.
وهاك أخي، هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد رحمه الله، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقياً.
لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد: (يعز عليّ يا أبا عبد الله، أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف) البداية والنهاية 1/332.
وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت؛ ففي السير للذهبي 11/238 عن أبي جعفر الأنباري قال: " لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه.
فقال: يا أبا جعفر تعنيت.
فقلت: يا هذا، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تُجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله. ثم قال: يا أبا جعفر أعِد..
فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله ... أ. هـ "
وقال الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: " صرنا إلى الرحبة منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل.
فقيل له: هذا. فقال للجمال: على رسلك.. ثم قال: " يا هذا، ما عليك أن تُقتل ها هنا، وتدخل الجنة " ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
فسألت عنه، فقيل لي هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له: جابر بن عامر يُذكر بخير " سير أعلام النبلاء 11/241.
وفي البداية والنهاية: أن أعرابي قال للإمام أحمد: " يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ".
قال الإمام حمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه. البداية والنهاية 1/332
وفي رواية أن الإمام أحمد قال: " ما سمعت كلمة وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي كلمني بها في رحبة طوق وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات، قال: " يا أحمد إن يقتلك الحق متّ شهيداً، وإن عشت عشت حميداً.. فقوي قلبي " سير أعلام النبلاء 11/241.
ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمد معه في الفتنة:
ما رأيت أحداً - على حداثة سنه، وقدر علمه - أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير.
قال لي ذات يوم: " يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله. فمات وصليت عليه ودفنته. سير أعلام النبلاء 11/242.
وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد، قد ساهموا في تثبيته.
فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس: " لست أبالي بالحبس - ما هو ومنزلي إلا واحد - ولا قتلاً بالسيف، وإنما أخاف فتنة السوط "
فسمعه بعض أهل الحبس فقال: " لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي " فكأنه سُرِّي عنه. سير أعلام النبلاء 11/240.
فاحرص أيها الأخ الكريم على طلب الوصية من الصالحين: وأعقلها إذا تليت عليك.
- اطلبها قبل سفر إذا خشيت مما قد يقع فيه.
- اطلبها أثناء ابتلاء، أو قبل محنة متوقعة.
- اطلبها إذا عُينت في منصب أو ورثت مالاً وغنى.
وثبت نفسك، وثبت غيرك والله ولي المؤمنين.(13/317)
الخامس عشر: التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت:
والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق.
فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذون في الله تعالى فقال لهم: (صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) رواه الحاكم 3/383، وهو حديث حسن صحيح، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) متفق عليه.
وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، وسائر منازل الآخرة.
كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها. لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات، فكيف تسول له نفسه أن يزل، أو يتمادى في الانحراف، ولأجل هذا قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) رواه الترمذي 2/50 وصححه في إرواء الغليل 3/145.(13/318)
مواطن الثبات
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام:(13/319)
أولاً: الثبات في الفتن:
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم.(13/320)
ومن أنواع الفتن:
- فتنة المال: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} التوبة /75،76
فتنة الجاه {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف /28.
وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الإمام أحمد في السند 3/460 وهو في صحيح الجامع 5496. والمعنى أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم.
- فتنة الزوجة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} التغابن /14.
- فتنة الأولاد: (الولد مجبنة مبخلة محزنة) رواه أبو يعلى 2/305 وله شواهد، وهو في صحيح الجامع 7037.
- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ) البروج 4-9.
وروى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقال عليه السلام: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه) رواه البخاري، انظر فتح الباري 12/315.
- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: (يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال.. يا عباد الله، أيها الناس: فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي..) رواه ابن ماجه 2/1359 انظر صحيح الجامع 7752.
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه) رواه الإمام أحمد 5/386، ومسلم 1/128 واللفظ له. " معنى عرض الحصير: أي تؤثر الفتن في القلب كتأثير الحصير في جنب النائم عليه. ومعنى مربداً: بياض شديد قد خالطه سواد، مجخياً: أي مقلوباً منكوساً. "(13/321)
ثانياً: الثبات في الجهاد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} الأنفال /45. ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف وكان عليه الصلاة والسلام وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين: (وثبت الأقدام إن لاقينا) رواه البخاري في كتاب الغزوات، باب غزوة الخندق انظر الفتح 7/399.(13/322)
ثالثاً: الثبات على المنهج:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} الأحزاب /23 مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل.(13/323)
رابعاً: الثبات عند الممات:
أما أهل الكفر والفجور فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة كما قيل لرجل عند موته: قل لا إله إلا الله فجعل يحرك رأسه يميناً وشمالاً يرفض قولها.
وآخر يقول عند موته: " هذه قطعة جيدة، هذه مشتراها رخيص "، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج. ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذكر معشوق.
ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا.
وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتن رائحة، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما أهل الصلاح والسنة فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين.
وقد يُرى من هؤلاء تهلل وجه أو طيب رائحة ونوع استبشار عند خروج أرواحهم.
وهذا مثال لواحد ممن وفقهم الله للثبات في نازلة الموت، إنه أبو زرعة الرازي أحد أئمة أهل الحديث وهذا سياق قصته:
قال أبو جعفر محمد بن علي ورّاق أبي زرعة: حضرنا أبا زرعة بما شهران قرية من قرى الري وهو في السَّوْق أي عند احتضاره وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكروا حديث التلقين (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه، فقالوا تعالوا نذكر الحديث، فقال ابن واره: حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح، وجعل يقول ابن أبي - ولم يجاوزه - فقال أبو حاتم: حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، لم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زرعة وهو في السَّوْق " وفتح عينيه " حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وخرجت روحه رحمه الله. سير أعلام النبلاء 13/76-85.
ومثل هؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت /30.
اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(13/324)
أخطار تهدد البيوت(13/325)
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:
أما بعد.. فإن صلاح البيوت أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة ينبغي لى كل مسلم ومسلمة أداؤها كما أمر الله والسير بها على منهج الله، ومن وسائل تحقيق ذلك تطهير البيوت من المنكرات، وهذه تنبيهات على أمور واقعة في بعض البيوت من المنكرات الكبيرة التي أصبحت معاول هدم في محاضن أجيال الأمة، ومصادر تخريب في أكنان الأسرة المسلمة.
وهذه الرسالة في بيان لبعض تلك المنكرات أضيفت إليها تنبيهات على أمور من المحرمات بصيغة نصائح تحذيرية، مهداة لكل من أراد الحق وسلوك سبيل التغيير تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم في صحيحه 1/69.
وهذه النصائح تفصيل لما سبق إجماله في فصل المنكرات من رسالة أربعون نصيحة لإصلاح البيوت.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفع بهذه وتلك إخواني المسلمين. والله الهادي إلى سواء السبيل.(13/326)
المنكرات في البيوت
نصيحة: الحذر من دخول الأقارب غير المحارم على المرأة في البيت عند غياب زوجها:
لا تخلو بعض البيوت من وجود أقارب للزوج من غير محارم زوجته، يعيشون معه في بيته لبعض الظروف الاجتماعية، كإخوانه مثلاً، ممن هو طالب أو أعزب، ويدخل هؤلاء البيت دون غرابة، لأنهم معروفون بين أهل الحي بقرابتهم لصاحب البيت، فهذا أخوه أو ابن أخيه، أو عم أو خال، وهذه السهولة في الدخول قد تولد مفاسد شرعية تُغضب الله إذا لم تضبط بالحدود الشرعية، والأصل في هذا حديثه صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو، قال: الحمو الموت) رواه البخاري، فتح الباري 9/330.
قال النووي - رحمه الله -: المراد في الحديث أقارب الزوج غير آبائه أو أبنائه، لأنهم محارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت، قال: وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم، وابن العم، وابن الأخت وغيرهم ممن يحل لها التزوج بها لو لم تكن متزوجة، وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبهه بالموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي. فتح الباري 9/331.
وقوله الحمو الموت له عدة معان منها:
أن الخلوة بالحمو قد تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية.
أو تؤدي إلى الموت إن وقعت الفاحشة، ووجب حد الرجم.
أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها لها إذا حملته الغيرة على تطليقها.
أو المقصود احذروا الخلوة بالأجنبية كما تحذرون الموت.
أو أن الخلوة مكروهة كالموت.
وقيل أي فليمت الحمو ولا يخلو بالأجنبية.
وكل هذا من حرص الشريعة على حفظ البيوت، ومنع معاول التخريب من الوصول إليها، فماذا تقول الآن بعد بيانه صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأزواج الذين يقولون لزوجاتهم: (إذا جاء أخي ولست بموجود فأدخليه المجلس) ، أو تقول هي للضيف: (ادخل المجلس وليس معه ولا معها أحد في البيت) .
ونقول للذين يتذرعون بمسألة الثقة، ويقولون أنا أثق بزوجتي، وأثق بأخي، وابن عمي، نقول: لا ترفعوا ثقتكم ولا ترتابوا فيمن لا ريبة فيه، ولكن اعلموا أن حديثه صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) رواه الترمذي 1171. يشمل أتقى الناس، وأفجر الناس، والشريعة لا تستثني من مثل هذه النصوص أحداً.(13/327)
إضافة:
الآن وفي أثناء كتابة هذه السطور وردت مشكلة، مفادها أن رجلاً تزوج امرأة فأتى بها إلى بيت أهله، وعاشت معه سعيدة، ثم أصبح أخوه الأصغر يدخل عليها في غياب زوجها ويكلمها بأحاديث عاطفية وغرامية، فنشأ عن ذلك أمران: الأول كرهها لزوجها كرهاً شديداً. والثاني: تعلقها بأخيه، فلا هي تستطيع أن تطلق زوجها، ولا هي تستطيع أن تفعل ما تشاء مع الآخر، وهذا هو العذاب الأليم، وهذه القصة تمثل درجة من الفساد، وتحتها دركات تنتهي بعمل الفاحشة وأولاد الحرام.(13/328)
نصيحة: فصل النساء عن الرجال في الزيارات العائلية:
الإنسان مدني بطبعه، واجتماعي بفطرته، والناس لا بد لهم من أصدقاء، والأصدقاء لابد لهم من مزاورات.
فإذا كانت الزيارة بين العوائل فلابد من سد منافذ الشر بعدم الاختلاط، ومن أدلة تحريم الاختلاط قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهم} الأحزاب /53.
وإذا تتبعنا الآثار السيئة للجلسات المختلطة في الزيارات العائلية فسنجد مفاسد كثيرة منها:
1. غالب الناس في مجالس الاختلاط حجابهن معدوم أو مختل فتبدي المرأة الزينة التي نهاها الله عن إبدائها لغير من يحل لها أن تكشف عنده، في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن) ويحدث أن تتزين المرأة للأجانب في مجلس الاختلاط مالا تتزين به لزوجها مطلقاً.
2. رؤية الرجل للنساء في المجلس الواحد سبب لفساد الدين والخلق، والثوران المحرم للشهوات.
3. ما يحدث من التنازع والتقاطع الفظيع، عندما ينظر هذا إلى زوجة ذاك، أو يغمز هذا زوجة ذاك، أو يمازحها ويضاحكها والعكس، وبعد الرجوع إلى البيت تبدأ تصفية الحسابات.
4. الرجل: لماذا ضحكت من كلمة فلان، وليس في كلامه ما يضحك؟
5. المرأة: وأنت لماذا غمزت فلانة؟
6. الرجل: عندما يتكلم هو تفهمين كلامه بسرعة، وكلامي أنا لا تفهمينه على الإطلاق؟
7. وتتبادل الاتهامات وتنتهي المسألة بعداوات أو حالات طلاق.
8. يندب بعضهم أو بعضهن حظوظهم في الزواج عندما يقارن الرجل زوجته بزوجة صاحبه، أو تقارن المرأة زوجها بزوج صاحبتها، ويقول الرجل في نفسه: فلانة تناقش وتجيب.. ثقافتها واسعة، وامرأتي جاهلة، ما عندها ثقافة.. وتقول المرأة في نفسها: يا حظ فلانة زوجها أنيق ولبق، وزوجي ثقيل الظل يرمي الكلمة دون وزن، وهذا يفسد العلاقة الزوجية أو يؤدي إلى سوء العشرة.
9. تزين بعضهم لبعض بما ليس فيهم إدعاء وكذباً، فهذا يصدر الأوامر لزوجته بين الرجال ويتظاهر بقوة شخصيته، وإذا خلا بها في البيت فهو قط وديع، وتلك تستعير ذهباً تلبسه لتري الجلساء أنها تملك كذا وكذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) رواه البخاري، الفتح 9/317.
10. ما ينتج عن هذه السهرات المختلطة من ضياع للأوقات، وآفات اللسان، وترك الأولاد الصغار في البيوت (حتى لا تُفسد السهرة بالصياح!) .
11. وقد تتطور الأمور إلى اشتمال هذه السهرات المختلطة على أنواع عظيمة من الكبائر، مثل: الخمر والميسر، وخصوصاً في أوساط ما يسمى بالطبقة المخملية، ومن الكبائر التي تسري عبر هذه المجالس الاقتداء بالكفار، والتشبه بهم في الزي والعادات المختلفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه الإمام أحمد في المسند 2/50 وهو في صحيح الجامع 2828، وكذلك 6025.(13/329)
نصيحة: الانتباه لخطورة السائقين والخادمات في البيوت:
السعي لدرء المفاسد من الواجبات الدينية، وسد أبواب الشر والفتنة من الأولويات الشرعية.
وقد ولج علينا من باب الخدم والسائقين كثير من الفتن والمعاصي، وكثير من الناس لا ينتبهون، وإذا انتبهوا لا يتعظون، وربما لدغ أحدهم مراراً من جحر واحد ولا يتألم، ويسمع أن قارعة حصلت قريباً من داره ولا يتعلم، وهذا من ضعف الإيمان وبلادة حس مراقبة الله في قلوب كثير من أهل هذا الزمان، وفي هذه العجالة نبين بعض مساوئ وجود الخادمات والسائقين في البيوت حتى تكون تذكرة لمن كان له قلب أو أراد أن يسلك في بيته مسلك الإحسان.
فتنة الإغراء والإغواء التي تحصل من الخادمات للرجال في البيوت وخصوصاً الشباب منهم، بوسائل التزين والخلوة، وتتوالى القصص في أسباب انحراف بعض الشباب، والسبب: دخلت عليه أو انتهز خلو البيت فجاء إليها، وبعضهم يصارح أهله ولا من مجيب، أو يكتشف بعض الأهل شيئاً فيأتي جواب عديم الغيرة (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) وتُترك النار بجانب الوقود، والوضع هو هو لم يتغير، ولقد وصل الأمر أيضاً ببعض الخادمات إلى نقل الشذوذ لبعض الفتيات في البيوت.
- تخلي ربة الأسرة الأصلية عن واجباتها ونسيانها لمهامها، وتعوديها الكسل، فإذا سافرت الخادمة كان العذاب الأليم.
- سوء تربية الأبناء المتمثل في أمور منها:
نقل معتقدات كفرية إلى الأطفال من الخادمات الكافرات، النصرانيات والبوذيات، وقد وُجد أطفال يؤشرون بعلامة التثليث على الرأس وجانبي الصدر، كما يرون النصرانية تصلي، وتقول للطفل: هذه الحلوى من المسيح، ويرى الطفل الخادمة تصلي إلى تمثال بوذا، وأخرى تحتفل بأعياد قومها، وتنقل الفرح بذلك إلى أطفالنا، فيعتادون المشاركة في أعياد الكفرة.
حرمان الطفل من حنان أمه اللازم في تربيته، واستقرار نفسيته، ولا يمكن للخادمة تعويض من ليس بولدها هذا الحنان.
تشويه لغة الطفل العربية بما يشوبها من الكلمات الأجنبية فينشأ بمركب نقص يضره أثناء العملية التعليمية.
- الإرهاق المالي الذي يحصل لبعض أرباب الأسر برواتب ونفقات السائق والخادمة.
ثم النزاعات العائلية التي تحصل في شأن من يدفع تلك النفقات؟ وخصوصاً بين الزوج وزوجته الموظفة، ولو جلست المرأة لتعمل في بيتها بدلاً من العمل خارج البيت، لكفيت شراً كثيراً.
والحقيقة أننا في كثير من الأحيان، نوجد مشكلات بأنفسنا!! ثم نطلب لها حلاً، وكثيراً ما تكون الحلول غير حاسمة.
إن التعود على الخادمات قد أفرز أنواعاً من الاتكالية والسلبية في الشخصيات.
وأخرى تشترط خادمة في العقد وثالثة تنوي أخذ خادمة أهلها معها بعد الزواج، وبالتالي فقدت بناتنا القدرة على الاستقلال بشئون البيت مهما كان صغيراً.
- ولما جلبت ربات البيوت الخادمات صار لديهن وقت كثير لا يدرين كيف يقضينه، فصارت المرأة تنام كثيراً، ثم لا تقر في بيتها من كثرة ذهابها إلى مجالس الغيبة والنميمة وضياع الوقت، والنهاية حسرة يوم القيامة.
- الإضرار بأهل البيت بأمور منها:
1. السحر والشعوذة التي تفرق بين الرجل وزوجته، أو تضر بعافية الأبدان.
2. الإضرار بممتلكات أصحاب البيت بما يحصل من السرقات.
3. تشويه سمعة أهل البيت فكم من بين شريف كريم تحول خلال غياب أصحابه إلى وكر للفاحشة والفساد، ولابد أنك سمعت عن بعض الخادمات اللاتي يستقبلن رجالاً في بيوت غاب أصحابها.
4. الكفر فيه مخالفة صريحة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن دخول الكفار لجزيرة العرب خصوصاً وأن الوضع ليس فيه ضرورة كما ترى مع إمكان الإتيان بالمسلمين عند- تقييد حرية الرجال (الذين يخافون الله) داخل البيت وكذلك الدعاة الذين يحاولن إصلاح أهليهم.
5. ما يحصل من خلوة المرأة بالسائق الأجنبي في البيت أو السيارة، وعدم تحفظ النساء من الخروج بالزينة والطيب أمامه، حتى كأنه أحد المحارم أو أقرب، وكثرة المحادثات والمشاوير تسقط الحواجز النفسية فيقع المحظور، والوقائع المتكاثرة في المجتمع تدل أولي الألباب على خطورة الأمر.
6. جلب الخدم والسائقين من شتى ملل الحاجة، فكيف إذا أضيف إلى هذا ما يحدث من تقوية اقتصاديات الكفار بتحويلات مرتبات أولئكم الكفرة من السائقين والخادمات، مع أن المسلمين أولى وأحرى، وتبلد إحساس المسلم بكثرة مخالطة هؤلاء الكفار يقضي تدريجياً على مفهوم الولاء والبراء في النفس، أضف إلى ذلك الدور البشع لبعض الذين لا يخافون الله من أصحاب مكاتب الاستقدام الذين يخبرونك بعدم وجود مستخدمين مسلمين، أو القيام بعمليات الخداع والتمويه، ليكشف بعض أرباب البيوت بعد وصول السائق أو الخادمة الموسومين بالإسلام في الأوراق الرسمية أن المسألة كذب في تزوير، وأن التمثيلية قد بدأت من البلد الذي قدم منه المستخدم بتلقينه بعض الكلمات الإسلامية التي يتظاهر بها أمام أهل البيت زوراً.
7. ما يحصل من تفسخ الأسرة بسبب علاقة صاحب البيت بالخادمة وانظر في الواقع وفكر كم نسبة حوادث الطلاق التي حصلت بسبب الخادمة؟
وكم خادمة حملت سفاحاً؟
ثم سائل أقسام الولادة بالمستشفيات، وسجلات مراكز الشرطة عن المشكلات الناتجة عن أولاد الحرام بسبب الفتنة بالخادمات، ثم حاول أن تدرك نطاق الأمراض السارية التي انتقلت إلى مجتمعنا من جراء ذلك، لتعلم حجم الدوامة التي نحن فيها بسبب جلب الخادمات إلى البيوت.
ثم فكر في التصور الذي يأخذه هؤلاء الخدم والسائقين عن الدين الإسلامي، وهم يرون ويعاينون تصرفات المنتسبين إليه، واسأل نفسك أي عائق وضعناه أمامهم، وأي صد عن سبيل الله قد فعلناه بهم، وهل يمكن أن يدخل هؤلاء في دين هذا حال من يزعمون أنهم حملته؟!
ومن أجل الأسباب المتقدمة وغيرها، رأى بعض أهل العلم عدم جواز جلب الخادمات على الوجه الحاصل الآن، وأنه يجب حسم مادة الفتنة وإغلاق منافذ الشر أنظر فتوى الشيخ محمد صالح العثيمين بشأن هذه القضية.
وحتى نكون مسترشدين بقوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا) فلا بد أن نشير إلى ما يلي:
أولاً: لا ننكر أن عدداً من الخدم والسائقين الكفرة قد أسلموا وحٌسن إسلام بعضهم نتيجة ما رأوه من بعض مظاهر الإسلام في بعض البيوت، أو نتيجة لشيء من الجهود المخلصة - القليلة مع الأسف - التي بذلت في دعوتهم إلى الله.
ولا ننكر أن بعض الخدم والسائقين مسلمون حقاً، ربما أكثر من أهل البيت، وسمعنا عن الخادمة التي تضع مصحفاً فوق رف المطبخ لتقرأ فيه وقت فراغها من العمل، والسائق المسلم الذي يصلي الفجر في المسجد قبل رب البيت.
ثانياً: لن نتجاهل الحاجة الماسة التي تقع أحياناً لبعض الناس من ضرورة وجود من يخدم في البيت الواسع، مع كثرة الأولاد أو وجود مرضى مزمنين وأصحاب عاهات، أو عمل شاق قد لا تطيقه الزوجة وحدها، لكن السؤال أيها المسلمون: من الذي يطبق الشروط الشرعية ويراعي الاحتياطات الدينية في جلب الخدم والسائقين؟ وكم عدد الذين سيأتون بسائق وزوجته (الحقيقية!) ويضمن عدم خلوة إحدى نسائه بالسائق، وعدم خلوة أحد الرجال بالخادمة؟ ثم يأمر الخادمة بالحجاب، ولا يتعمد النظر إلى زينتها، وإذا جاء إلى البيت وليس فيه إلا الخادمة فلن يدخل، وأن لا يقبل إلا مستخدمين مسلمين حقاً.. الخ
ومن أجل ذلك فإنه لابد لكل من عنده أحد من هؤلاء في بيته أن يتأكد أنه موجود لحاجة شرعية فعلاً، وأن وجوده بالشروط الشرعية حقاً، وإن في قصة يوسف عليه السلام، لعبرة في هذا الموضوع، وفيها دلالة واضحة على الفتنة التي تحصل بوجود الخدم والسائقين في البيت وأن الشر قد يحصل من أهل المنزل ابتداءً مع كون الخدم ممن يخاف الله. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ} يوسف/23.
ونقول للذين يشكون من ظروف صعبة في بيوتهم من جهة الخدمة يمكنكم عمل ما يلي:
1. شراء الطعام الجاهز من السوق، استعمال الأواني الورقية وكذا استخدام المغاسل بالأجرة، وتنظيف البيت بعمال يشرف عليهم الرجل، والاستعانة بالأقارب لرعاية الأولاد يكون حلاً سريعاً في أوقات الحاجة، كأن تكون الزوجة مثلاً نفساء في فراشها.
2. فإن لم يف ذلك بالغرض يمكن الاستعانة بخادمة مؤقتة بالشروط الشرعية، يتم الاستغناء عنها حال انتهاء الحاجة إليها مع ما في هذا الحل من المخاطر.
3. الأفضل أن تكون خادمة بالساعة، مثلاً تقوم بمهمتها ثم تغادر البيت، وعلى أية حال الضرورة تقدر بقدرها.
4. وقد طال الحديث في هذه الفقرة لعموم البلاء بها في هذا المجتمع، وقد يختلف الأمر في مجتمعات أخرى، وقبل أن نغادر الموضوع نذكر بأمور من تقوى الله.
5. كل من لديه أسباب فتنة في بيته من هؤلاء وغيرهم أن يتقي الله ويخرجهم من البيت.
6. على كل من يظن أنه سيضع ضوابط شرعية للإتيان بالخدم أن يتقي الله، ويعلم أن كثيراً من هذه الضوابط تتلاشى بمرور الزمن.
7. على كل من يوجد عنده مستخدم كافر في أرض الجزيرة أن يعرض عليه الإسلام بالأسلوب الحسن، فإن أسلم وإلا أخرجه وأعاده من حيث أتى.
وأخيراً نختم موضوع الخدم والسائقين بذكر هذه القصة التي فيها عبر عظيمة في خطورة المستخدمين في البيوت، وفي التحاكم إلى الكتاب والسنة، ورفض كل حكم يُخالف الشريعة، وسؤال أهل العلم، وتطهير المجتمع الإسلامي بالحدود الشرعية:
عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي قال: قل، قال: إن ابني هذا كان عسيفاً (أي أجيراً ويطلق على الخادم) على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، (دفعها كتعويض له عما لحق بعرضه) ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام (لأنه غير محصن) وعلى امرأته الرجم (لأنها محصنة وراضية) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، المائة شاة والخادم رد (أي مردودة عليك) وعلي ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها. رواه البخاري الفتح 12/136.
تنبيه: ومما يسوء كل مسلم غيور على حرمات الله ما يحدث في بعض البيوت من دخول عمال النظافة والصيانة على النساء وهن بلباس النوم والبيت، فهل يظن أولئك النسوة أن مثل هؤلاء ليسوا رجالاً أمر الله بالاحتجاب عنهم؟!
ومن المنكرات كذلك ما يحدث في بعض البيوت من تدريس الرجال الأجانب للفتيات البالغات، وتدريس بعض النساء للأولاد البالغين دون حجاب.(13/330)
نصيحة: أخرجوا المخنثين من بيوتكم
قال البخاري رحمه الله تعالى باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت وساق حديث ابن عباس قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلاناً وأخرج عمر فلانة. رواه البخاري في كتاب اللباس باب 62، الفتح 10/333.
ثم ساق حديث أم سلمة الذي أورده في باب: (ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة) ونصه: عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها، وفي البيت مخنث فقال: المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية إن فتح الله لكم الطائف غداً أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتُدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن هذا عليكم) رواه البخاري باب 113 الفتح 9/333.
أما تعريف المخنث: فهو من يشبه النساء في خلقته، أو حركاته وكلامه، وغير ذلك، فإذا كان من أصل الخلقة فلا لوم عليه مع أنه يجب عليه أن يسعى ما استطاع لتغير هذا التشبه، وإن كان يتشبه بالنساء عمداً فيسمى مخنثاً سواء فعل الفاحشة أو لا.
وهذا المخنث - الذي بمثابة الخادم - كان يدخل إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه معدود من غير أولي الإربة من الرجال.
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الشخص التدقيق في وصف النساء، وأنه يصف امرأة بأن لها أربع عكن من الأمام (وهو ما تثنى من لحم البطن نتيجة السمنة) وثمان عكن من الخلف (أربع من كل جانب) أمر بإخراجه ومنعه من الدخول إلى حجر نسائه، وذلك لأنه يأتي منه مفاسد مثل احتمال أن يصف النساء اللاتي يراهن للأجانب، أو أن يتأثر أهل البيت به فيحصل للنساء تشبه بالرجال، أو للرجال تشبه بالنساء مثل التكسر في المشي والخنوع في الصوت أو يؤدي للوقوع في منكرات أبعد من ذلك.
وبعد هذا نتساءل اليوم ونحن نرى كثيراً من أشباه الرجال أو أشباه النساء في هؤلاء الخدم، وخصوصاً الكفار الموجودين في بيوت المسلمين، والذين نعلم يقياً آثارهم السيئة على أولاد وبنات المسلمين، بل لقد ظهرت طبقة تعرف بالجنس الثالث من شباب يضعون أدوات الزينة ويلبسون ملابس النساء، فما أعظم الرزية وما أشد البلية في أمة يراد منها أن تكون أمة جهاد!!
وإذا أردت المزيد من محاربته صلى الله عليه وسلم لهذا الجنس وغيرة الصحابة على مثل هذا الوضع، فتدبر هذا الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه (أي صبغها بالحناء كالنساء) ، فقيل يا رسول الله! هذا يتشبه بالنساء، فنفاه إلى البقيع (عقاباً له في مكان غربة ووحشة، وحماية لغيره) فقيل ألا تقتله، فقال: (إني نهيت عن قتل المصلين) رواه أبو داود 4928 وغيره وأنظر صحيح الجامع 2502(13/331)
نصيحة: احذر أخطار الشاشة:
لا يكاد يخلو بيت في هذا الزمان من نوع أو أنواع من الأجهزة المحتوية على شاشات، والقليل من استخدامات هذه الأجهزة مفيد جيد، والأكثر ضار مدمر وخصوصاً آلات عرض الأفلام، ومع وصول البث المباشر إلى ديار المسلمين، وانتشار بيع الأفلام وتبادلها صارت مسألة التحكم في هذه الأجهزة شبه مستحيلة.
وفيما يلي ذكر الأضرار والمفاسد الناتجة عن مشاهدة هذه الأجهزة، وسيسعى للتغير بعد تأملها كل من أراد رضى الله واجتناب سخطه:
عقائدياً:
1. إظهار شعائر أهل الكفر ورموز أديانهم الباطلة، كالصليب، وبوذا، والمعابد المقدسة، وآلهة الحب والخير والشر، والظلام والنور والشقاء والمطر، وهكذا الأفلام التبشيرية الداعية إلى تعظيم دين النصارى والدخول فيه.
2. الإيحاء بقدرة بعض الخلق على مضاهاة الله في الخلق والإحياء والإماتة، مثل بعض المشاهد المتضمنة لإحياء ميت باستخدام صليب أو عصا سحرية.
3. نشر الدجل والخرافة والشعوذة والسحر، والعرافة والكهانة، المنافية للتوحيد.
4. ما ينطبع في حس المتفرج من توقير ممثلي الأديان الباطلة، كالأب والقسيس، والراهبة التي تداوي المرضى وتفعل الخير!
5. في كثير من التمثيليات حلف بغير الله، وتلاعب بأسماء الله كما سمى أحدهم الآخر مرة عبد القيساح.
6. التشكيك في قدرة الله أو خلقه، أو تصوير الحياة على أنها صراع بين الله والإنسان.
7. القضاء على مفهوم البراءة من أعداء الله في نفوس المشاهدين بما يرونه من أمور تبعث على الإعجاب بشخصيات الكفار ومجتمعاتهم، وكسر الحواجز النفسية بين المسلم والكافر، فإذا زال البغض في الله بدأ التشبه والتلقي عن هؤلاء الكفرة.(13/332)
اجتماعياً:
1. الإعجاب بشخصيات الكفرة عند عرضهم أبطالاً في الأفلام.
2. الدعوة إلى الجريمة، بعرض مشاهد العنف والقتل والخطف والاغتصاب.
3. تكوين العصابات على النمط المعروف في الأفلام للاعتداء والإجرام، وإصلاحيات الأحداث والسجون شاهدة على آثار الأفلام في هذا المجال.
4. تعليم فن السرقة والاحتيال والاختلاس والتزوير، وقبض الرشاوي وغيرها من الكبائر.
5. الدعوة إلى تشبه النساء بالرجال، والرجال بالنساء، في مخالفة واضحة لحديثه صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك، فهذا رجل يقلد امرأة في صوتها ومشيتها، وقد يلبس الشعر المستعار، والحلي ويضع الأصباغ وأدوات الزينة، وتلك امرأة تضع لحية أو شارباً مستعاراً وتخشن صوتها، وهذا من أسباب نشر الميوعة في المجتمع وظهور الجنس الثالث.
6. بدلاً من النبي والصحابي والعالم والمجاهد، صار القدوة الممثل والمغني، والراقصة واللاعب.
7. زوال الشعور بالمسؤولية تجاه الأسرة، واللامبالاة بالطلبات المهمة والولد المريض، لأن رب السرة متسمّر أما الجهاز وقد يضرب الولد ضرباً مبرحاً إذا قطع على الأب خلوته بالفيلم.
8. تمرد الأبناء على الأباء التي تدعو إلى ذلك، وعندما أصرَّ أحدهم على قبض ثمن السلعة من أبيه ذكّره الأب بحقه عليه، فقال الولد في التمثيلية أبي يعني تسرقني، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " أنت ومالك لأبيك ". رواه أبو داود 3530
9. قطع الرحم بانشغال المشاهدين بالأفلام عن الزيارات العائلية، وإن زاروا فلا يتبادلون الأحاديث المفيدة، ولا يتداولون حلول المشكلات العائلية بقدر ما يتحلّقون حول الشاشة صامتين.
10. الانشغال عن إكرام الضيف.
11. إشاعة الكسل والخمول، وتعطيل الإنتاج بما تستهلكه هذه الأجهزة من أوقات المسلمين.
12. نشوء الخلافات الزوجية، والكره المتبادل، وظهور الغيرة المذمومة، فهذا رجل يتغزّل بأوصاف امرأة على الشاشة أما زوجته، وهي ترد عليه بذكر محاسن المذيع والممثل.
13. ذهاب الغيرة المحمودة من استمراء النظر إلى مشاهد الاختلاط، وكشف الزوجة على الأجانب، وسفور البنات والأخوات، والتأثر بالدعوة إلى تحرير المرأة.(13/333)
أخلاقياً:
1. إثارة الشهوات بعرض مناظر النساء للرجال، وأشكال الرجال الفاتنين للنساء.
2. دعوة المجتمع إلى إظهار العورات بأنواع الملابس الفاضحة واعتياد الظهور بها.
3. الدعوة إلى إقامة العلاقات بين الجنسين وتعليم المشاهد كيفية التعرف، وما هي الكلمات المتبادلة في البداية، ووسائل تطوير العلاقة المحرمة، وتبادل أحاديث الحب والغرام وتشابك الأيدي … الخ.
4. الوقوع في الزنا والفاحشة بفعل الأفلام التي تعرض ذلك، حتى أن بعضهم يقلّد ما يحدث في الفيلم مع بعض محارمه والعياذ بالله، أو يمارس عادات سيئة أثناء عرض هذه الأفلام.
5. تعليم النساء أنواع الرقص مما فيه إظهار للعورات وإغراء للرجال، وهذا من أنواع الميوعة والانحلال.
6. اكتساب الشخصية الهزلية، وانحسار الجدية، بالإضافة إلى الضحك الكثير المفسد للقلب بفعل أفلام " الكوميديا ".
7. شيوع الألفاظ البذيئة مما يستخدم في كثير من الأفلام والتمثيليات.(13/334)
تعبدياً:
1. تضيع صلاة الفجر من جراء السهر على مشاهدة ما يعرض في الشاشة.
2. الأخر عن أداء الصلوات في أوقاتها فضلاً عن أدائها في المساجد للرجال بسبب تعلق القلب بالمسلسل أو الفيلم أو المباراة.
3. التسبب في بُغض بعض الشعائر التعبدية، كما يحدث لبعضهم إذا قطعت المباراة المثيرة بتوقف لأداء الصلاة.
4. إنقاص أجر بعض الصائمين، أو ذهابه بالكلية بذنوب هذه المشاهدات المحرّمة.
5. الطعن في بعض ما جاءت به الشريعة من أحكام كالحجاب وتعدد الزوجات.(13/335)
تاريخياً:
1. تشويه التاريخ الإسلامي، وطمس الحقائق، وإهمال ذكر منجزات المسلمين في الأفلام التي تحكي تاريخ البشرية.
2. تحريف الحقائق التاريخية الثابتة، بإظهار الظالم على أنه مظلوم، وهكذا كالزعم بأن اليهود أصحاب قضية عادلة.
3. التقليل من شأن أبطال الإسلام في أعين المشاهدين لبعض التمثيليات التي تمثل فيها أدوار الصحابة وقادة الفتح الإسلامي والعلماء، وتظهر فيها هذه الشخصيات بهيئة مبتذلة، والممثلون في الأصل فسقة وفجرة، وتختلط بالتمثيلية مشاهد غرامية.
4. إيقاع المسلمين تحت وطأة الهزيمة النفسية، وإشاعة الرعب في قلوبهم، بما يعرض من أنواع الآلة الحربية المتقدمة لدى الكفار فيحسّ المسلم أنه لا يمكن هزيمة هؤلاء.(13/336)
نفسياً:
1. اكتساب العنف والطبع العدواني من مشاهدة أفلام العنف والمصارعة، ومشاهد الدماء والرصاص والأسلحة الحادة.
2. إشاعة الخوف في نفوس مشاهدي أفلام الرعب حتى أن أحدهم ليهب من نومه مذعوراً فزعاً، وهو يصرخ مما رآه في نومه نتيجة مشهد علق في مخيلته.
3. إفساد واقعية الأطفال وغيرهم بعض المشاهد المنافية للواقع، ولما جعله الله من النتائج المترتبة على الأسباب، ومن أمثلة ذلك بعض ما يعرض في أفلام الكرتون، وهذه اللاواقعية تؤثر على التصرفات في الحياة العملية.(13/337)
صحياً:
1. الإضرار بحاسة البصر، وهي نعمة سيسأل عنها العبد!
2. تسارع ضربات القلب، وارتفاع الضغط والتوتر العصبي ونحوه عند مشاهدة أفلام الرعب وسفك الدماء!
3. السهر المضر براحة الجسد، الذي سيسأل العبد عنه يوم القيامة فيم أبلاه؟
4. ما يحدث من أضرار بأجساد الأطفال الذين يقلدون السوبرمان والرجل الحديدي وغيرهما، والكبار الذين يقلدون الملاكمين والمصارعين.(13/338)
مالياً:
صرف المبالغ في شراء الأجهزة والأفلام وأجرة الإصلاح، وأجهزة التحسين والاستقبال، وهذا المال سيسأل عنه العبد يوم القيامة فيم أنفقه؟ !
مسارعة الكثير من الناس إلى شراء كماليات لا يحتاجون إليها، وتنافس النساء في شراء الأزياء من جراء ما يعرض في الشاشة من المشاهد والدعايات.(13/339)
نصيحة: الحذر من شر الهاتف
الهاتف من المخترعات المفيدة، ومن حاجات العصر الحديث. فهو يوفر الأوقات، ويقصر المسافات، ويصلك بجميع الجهات، ويمكن أن يستخدم في الأعمال الصالحات، كالإيقاظ لصلاة الفجر، أو سؤال شرعي، واستحصال فتوى ومواعدة أهل الخير، وصلة الرحم، ونُصح المسلمين.
ولكنه في الوقت نفسه وسيلة لأمور من الشر عديدة، وكم كان الهاتف سبباً لتدمير بيوت بأسرها، وإدخال الشقاء والتعاسة على سكانها أو جرِّهم وجرِّهنَّ إلى مهاوي الرذيلة والفساد! وتكمن الخطورة في سهولة استخدامه، وأنه منفذ مباشر من خارج البيت إلى داخله.
ومن استخدامه في الشر:
1. ما يحدث بواسطته من المعاكسات المزعجة.
2. تعرف المرأة بالرجل الأجنبي، وتطور العلاقة، قال لي شاب قد هداه الله إلى طريق التوبة: قلما تعرف شاب بفتاة بالهاتف إلا خرجت معه في النهاية، وما يحدث بعد ذلك من دركات الفواحش المتفاوتة لا يعلمه إلا الله.
3. ما يحدث فيه من إفساد المرأة على زوجها أو الزوج على زوجته، أو تأليب الأب على أولاده، وبناته والعكس، وذلك نتيجة مكالمات من النمامين والمخربين مبنية على الحسد وحب الشر والتفريق.
4. ضياع الأوقات في المحادثات التافهة المسببة لقسوة القلب، والالتهاء عن ذكر الله، وخصوصاً بين النساء، فتجد المرأة فيه متنفسها.(13/340)
ومن الحلول في قضايا الهاتف:
1. متابعة ووعظ من يسيء استعماله من داخل البيت وخارجه.
2. الحكمة في الرد.
3. إذا جاءنا خبر في مكالمة من مجهول عرضناها على كتاب الله عز وجل ونفذنا أمر الله (فتبيَّنوا) .
4. والتربية الإسلامية كفيلة بجعل استخدام هذا الجهاز صحيحاً إذا غاب الولي والراعي.
5. وآخر الدواء الكي بفصل الحرارة إذا صار إثمه أكبر من نفعه.(13/341)
نصيحة: يجب إزالة كل ما فيه رمز الأديان الكفار الباطلة أو معبوداتهم وآلهتهم.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه. رواه البخاري، فتح الباري 10/385 باب نقض الصور.
وقد بلينا في هذا الزمان بمصنوعات جاءتنا من بلاد الكفار فيها تصاوير ونقوشات، ورسومات لآلهتم ومعبوداتهم، ومن ذلك الصليب بأشكاله المتنوعة، وصور مريم وعيسى، أو صور الكنائس وتماثيل بوذا، وآلهة الإغريق كآلهة الحب، وآلهة الخير والشر، وهكذا.
وبيت المسلم الموحد لا يصلح أن يكون فيه رموز للشرك الذي ينافي التوحيد، بل ينقضه من أساسه، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينقض الصلبان إذا رآها في بيته، والنقض هو الإزالة سواء بالطمس إذا كانت مرسومة أو منقوشة، أو الحك والتلطيخ بما يغير هيئتها أو اقتلاعها وإزالتها بالكلية.
وليس هذا من الغلو في الدين، لأن الذي نهى عن الغلو هو الذي فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ولأجل ذلك ينبغي على أهل البيت إذا أرادوا شراء الأواني والفرش وغيرها أن يحذروا من مثل هذا الرمو للأديان الباطلة التي تنافي التوحيد على أننا ننبه إلى أهمية الاعتدال في هذا الأمر فما لم يكن الشكل واضحاً في كونه صليباً مثلاً فلا يجب تغييره.(13/342)
نصيحة: إزالة صور ذوات الأرواح
يعمد كثير من الناس إلى تزيين بيوتهم بصور تعلق على الجدارن أو تماثيل توضع على أرفف في بعض زوايا البيت، وكثير من هذه الصور المجسمة وغير المجسمة تكون لذوات أرواح كإنسان أو طير أو دابة ونحو ذلك.
وأقوال المحققين من أهل العلم ظاهرة في تحريم صور ذوات الأرواح سواء كانت نحتاً أو رسماً أو مأخوذة بالآلة ما دامت ثابتة ليست كصورة المرآة أو الصورة في الماء، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن المصورين وتهديدهم بتكليفهم ما لا يطيقون من نفخ الروح فيها يوم القيامة يشمل كل عامل في حقل التصوير ما لم يكن من باب الإعانة على الضرورة والحاجة كصور الإثباتات الشخصية اللازمة أو تتبع المجرمين ونحو ذلك.
وتعليق صور ذوات الأرواح فيه إثم آخر لأن ذلك يفضي إلى تعظيم صاحب الصورة، وقد يؤدي إلى الوقوع في الشرك كما حصل في قوم نوح وأقل ما في تعليق من الأضرار تجديد الأحزان أو التباهي والتفاخر بالآباء والأجداد فلا يقل أحد من الناس نحن لا نسجد للصورة، ومن أراد أن يحرم نفسه من الخير العظيم بدخول الملائكة بيته فليضع الصورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة) رواه البخاري 4/325.
ولقد جاء في النهي عن التصوير عدة أحاديث فمنها:
(إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون) رواه البخاري 1/382. وحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يُقال لهم أحيوا ما خلقتم) رواه البخاري 1/382.
وحديث أبي هريرة أنه دخل داراً بالمدينة فرأى في أعلاها مصوراً يصور (ينقش الصور في حيطان الدار التي تُبنى) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة فليخلقوا ذرة) رواه البخاري 1/385.
وحديث أبي جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور رواه البخاري 1/393.
وإليك أيها القارئ الكريم مزيداً من الإيضاح حول هذه المسألة في كلام أهل العلم.
جاء في شرح حديث لا تدخل الملائكة بيتاً: (المراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص، سواء كان بناءً أو خيمة أم غير ذلك) فتح الباري 1/393.
أما الصور التي تمنع الملائكة عن الدخول بسببها فهي صور ذوات الأرواح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن الفتح 1/382 (أي يُهان ويُحتقر بالوطء عليها وغيره) وصنع صور ذوات الأرواح فعل محدث أحدثه عباد الصور، وما يُشعر بذلك فعل قوم نوح، وحديث عائشة في قصة الكنيسة التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله) الفتح 1/382.
ويضيف ابن حجر رحمه الله:
(قال النووي: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان (ذوات الأرواح) حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره، فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.
قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها أي طمسها) الحديث فتح الباري 1/384
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على تطهير بيته من الصور المحرمة، وهذا مثال على ذلك: تحت عنوان من لم يدخل بيتاً فيه صورة روى البخاري رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة (وسادة) فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، قالت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت؟ قال: (ما بال هذه النمرقة؟) فقالت: (اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) فتح الباري 1/392.
وقد يقول البعض: ولماذا الإطالة في هذا الموضوع؟ فنقول: لقد دخلنا بيوتاً وغرفاً فوجدنا صور المغنين وغيرهم، وبعضها عارية أو شبه عارية، معلقة على الجدران والمرايا والخزائن والأدراج والطاولات، ينظر إليها صاحبها صباح مساء، وصار بعضهم يقبل الصورة، ويتخيل أموراً منكرة!! فصارت الصورة من أعظم وسائل الانحراف، وتبين لأولي الألباب شيئاً من حكمة الشارع في تحريم صور ذوات الأرواح.
ولابد في ختام هذه الفقرة أن نشير إلى ما يلي:
1. يقول بعض الناس: إن الصور اليوم غزتنا في كل شيء في المعلبات الغذائية، والكتب والمجلات والدفاتر، وإذا أردنا طمس كل صورة فسنضيع أوقاتنا في ذلك، فماذا نفعل؟
2. نقول: احرص على شراء ما خلا من الصور - إن أمكن - والباقي: يطمس ظاهراً كالصورة على الغلاف، ويبقى الكتاب يستفاد منه، وإذا انتهت الفائدة كالجرائد وغيرها تخرج من البيت، وما يتعذر طمسه كالصورة على المعلبات الغذائية مثلا، فلا حرج إن شاء الله في تركه كما ذكره أهل العلم لأنه دخل فيما عمت به البلوى والمشقة تجلب التيسير.
3. إن كان ولابد من تعليق شيء لتزيين الجدران فليكن بعض المناظر الطبيعية أو صور المساجد والمشاعر الخالية من المحذورات الشرعية.
4. على من يعلقون الآيات القرآنية وغيرها أن ينتبهوا إلى أن القرآن لم ينزل لتزين به الجدران، وأن من العبث تصوير الآيات على هيئة رجل ساجد أو طير ونحو ذلك، وأن لا يقع من الشخص في المجلس محظورات شرعية تخالف الآية المعلقة فوق رأسه.(13/343)
نصيحة: امنعوا التدخين في بيوتكم
يكفي دليلاً على تحريم التدخين (بالنسبة للعقلاء) قول الله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) سورة الأعراف/157 فقسم الله المطعومات والمشروبات إلى قسمين لا ثالث لهما طيبات مباحة وخبائث محرمة، ومن الذي يجرؤ أن يقول اليوم إن التدخين طيب، بالنظر إلى رائحته والأموال التي تصرف فيه والأضرار الجسدية والمادية الناتجة عنه.
والبيت الصالح ليس فيه ولاعات سجائر ولا منافض للسجائر، لا من الدعايات المجانية ولا غيرها فضلاً عن الشيشة ومشتقاتها.
فإذا خشيت من التدخين في بيتك فضع ملصقات للتلميح، فإن رأيت أحداً يريد ارتكاب المنكر أمامك فليس لك بد في منع وقوعه بالأسلوب المناسب.(13/344)
نصيحة: إياكم واقتناء الكلاب في البيوت
مما وصلنا من جملة ما وصلنا من عادات الكفار اقتناء الكلاب في البيوت، وعدد من الذين تطبعوا بطباع الكفرة في مجتمعنا يجعلون في بيوتهم كلاباً يشترونها بمبالغ وثمن الكلب حرام من حديث رواه الإمام أحمد 1/356 وهو في صحيح الجامع 3071. وينفقون في طعامها ونظافتها أموالاً سيسألون عنها يوم القيامة، حتى صار من شعار بيوت كثير من الأثرياء وكبار الموظفين وجود كلب في البيت، ولعاب الكلب نجس، وهو يلعق أهل المنزل وأمتعتهم، ولو ولغ الكلب في إناء لوجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، فكيف إذا علمت أيها المسلم مقدار ما ينقص من أجر الذين يقتنون الكلاب قال صلى الله عليه وسلم: " ما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط (وفي رواية مسلم قيراطان) إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم " رواه الترمذي 1489 وهو في صحيح الجامع 5321، فالنهي عن اقتناء الكلاب يستثنى منه كلب الزرع، والصيد والحراسة (حراسة البيوت والمنشآت أو المواشي وغيرها) ويدخل فيه كل ما تدعو إليه الحاجة من تتبع آثار المجرمين، وكشف المخدرات ونحو ذلك، كما هو مضمون كلام بعض أهل العلم. التعليق على سنن الترمذي ط. شاكر 3/267
وهذا جبريل عليه السلام يبين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم السبب الذي منعه من دخول بيته عليه الصلاة والسلام، حسب الموعد الذي كان بينهما، قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر (مثل الستارة) فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال يقطع، فيُصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيُجعل منه وسادتان توطئان، ومر بالكلب فيُخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ". رواه الإمام أحمد، صحيح الجامع رقم 68(13/345)
نصيحة: الابتعاد عن تزويق البيوت
شاع في بيوت كثير من الناس اليوم أنواع التزويق والتزيين والزخرفة نتيجة الانغماس في الملذات، والتعلق بالدنيا، والتباهي والتفاخر.
وبعض البيوت إذا دخلتها تتذكر كلام ابن عباس: (ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء) ، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نستطرد في ذكر أنواع العجائب والغرائب، من التحف والزينات والنقوش والزخارف، التي تزخرف بها بعض البيوت والقصور، ولكننا نذّكر بما يلي:
قال تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكون وزخرفاً..) الزخرف/33.
أي (لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/213. لجعلنا لبيوت الكفار سقفاً وسلالم وأقفالاً على الأبواب من فضة وذهب من متاع الحياة الفانية، ليوافوا الله وليس عندهم حسنة، لأنهم أخذوا نصيبهم من الدنيا.
روى الإمام مسلم - رحمه الله - عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزاة فأخذت نمطاً (بساط له خمل) فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: (إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين) صحيح مسلم 3/1666
روى الإمام أحمد قصة فاطمة لما قالت لعلي رضي الله عنهما (وقد صنعوا طعاماً) لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فوضع يديه على عضادتي الباب فرأى قراماً (ثوب رقيق من صوف فيه ألوان ونقوش) فرجع، فقالت فاطمة لعلي: ألحقه فقل له لم رجعت يا رسول الله؟ فقال: (إنه ليس لي (وفي رواية: لنبي أن يدخل) أن أدخل بيتاً مزوقاً) رواه الإمام أحمد 5/221 وهو في صحيح الجامع 2411.
ورواه أبو داود تحت باب: الرجل يُدعى فيرى مكروهاً سنن أبي داود 3755.
وتحت باب: هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة، روى البخاري رحمه الله تعليقاً: ودعى ابن عمر أبا أيوب، فرأى في البيت ستراً على الجدار، فقال ابن عمر: (غلبنا عليه النساء) ، فقال: (من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً) فرجع فتح الباري 9/249
وقد وصل الحديث الإمام أحمد عن سالم بن عبد بن عمر قال: (أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، فكان أبو أيوب فيمن آذناه، وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه، فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر، فقال أبي واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن تغلبه النساء…) الحديث فتح الباري.
روى الطبراني عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفتح عليكم الدنيا حتى تنجدوا بيوتكم كما تنجد الكعبة، فأنتم اليوم خير من يومئذ) صحيح الجامع 3614
وخلاصة كلام أهل العلم في زخرفة وتزويق البيوت: أنه إما مكروه أو محرم الآداب الشرعية لابن مفلح 3/421
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/346)
حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) المائدة /3، وقال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) الشورى /21.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ..
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة يوم الجمعة: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمته ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا عندما بلّغ البلاغ المبين، وبيّن للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال، وأوضح صلى الله عليه وسلم: أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه للإسلام من أقوال وأعمال، فكله مردود على من أحدثه، ولو حسن قصده، وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وهكذا علماء الإسلام بعدهم، فأنكروا البدع وحذروا منها كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة، كابن وضاح والطرطوشي، وابن شامة وغيرهم.
ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، وما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع، كما نبّه على ذلك كثير من أهل العلم، وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله.
وورد فيها أيضاً آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي عليه جمهور العلماء: أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، وبعضها موضوع، وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب في كتابه (لطائف المعارف) وغيره، والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي ثبت أصلها بأدلة صحيحة، وأما الاحتفال بليلة النصف من شعبان فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطّرَاحه، وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعلها، فضلاً عن الدعوة إليها وتحبيذها، كما قال الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) النساء/59، وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) الشورى /10، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران /31. وقال عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء /65.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة، ووجوب الرضى بحكمهما، وأن ذلك هو مقتضى الإيمان، وخير للعباد في العاجل والآجل: (وأحسن تأويلاً) أي: عاقبة.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه: (لطائف المعارف) في هذه المسألة - بعد كلام سبق -: (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر، وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: أنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية،.. وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة.. ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان،..) إلى أن قال رحمه الله: قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه..) .
انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله.
وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان.
وكل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً؛ لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله سواء فعله مفرداً أو في جماعة، وسواء أسرّه أو أعلنه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها.
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله، في كتابه (الحوادث والبدع) ما نصه: (وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال: ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها، وقيل لابن أبي مليكة: إن زياداً لنميري يقول: إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر، فقال: لو سمعته وبيدي عصاً لضربته. وكان زياداً قاصاً) انتهى المقصود.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في (الفوائد المجموعة) ما نصه: (حديث: يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، و (قل هو الله أحد) عشر مرات، إلا قضى الله له كل حاجة ... الخ) وهو موضوع [أي مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم] ، وفي ألفاظه - المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب - ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية كلها موضوعة، ورواتها مجاهيل.
وقال في (المختصر) : حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي: (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) ضعيف.
وقال في (اللآلئ) : مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات ... موضوع وجمهور رواته في الطرق الثلاث، مجاهيل وضعفاء، قال: واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة، موضوع وأربع عشرة موضوع.
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، كصاحب (الإحياء) وغيره، وكذا من المفسرين، وقد رويت صلاة هذه الليلة - أعني: ليلة النصف من شعبان - على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة،.. انتهى المقصود.
وقال الحافظ العراقي: (حديث: صلاة ليلة النصف، موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب عليه) .
وقال الإمام النووي في كتاب (المجموع) : (الصلاة المعروفة بـ: صلاة الرغائب، وهي: اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يُغتر بذكرهما في كتاب (قوت القلوب) و (إحياء علوم الدين) ، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غلط في ذلك) .
وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما، فأحسن وأجاد، وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جداً، ولو ذهبنا ننقل كل ما اطّلعنا عليه من كلامهم في هذه المسألة لطال بنا الكلام، ولعل في ما ذكرنا كفاية ومقنعاً لطالب الحق.
ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق: أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام، بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم) وما جاء في معناها من الآيات.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي ما جاء في معناه من الأحاديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) .
فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزاً، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيره، لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي، ذل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص.
ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها، نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وحث الأمة على قيامها، وفعل ذلك بنفسه كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) ، (ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه) .
فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، أو ليلة الإسراء والمعراج بشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه أو فعله بنفسه ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة ولم يكتموه عنها، وهم خير الناس وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم.
وقد عرفت آنفاً من كلام العلماء: أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في فضل ليلة النصف من شعبان فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصهما بشيء من العبادة بدعة منكرة، وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة، كما لا يجوز الاحتفال بها للأدلة السابقة، هذا لو عُلمت فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف؟! وقول من قال: أنها ليلة سبع وعشرين من رجب، قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة، ولقد أحسن من قال:
وخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها والحذر مما خالفها إنه جواد كريم.
وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهى بتصرّف واختصار من مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 2/882(13/347)
أربعون نصيحة لإصلاح البيوت(13/348)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... أما بعد:(13/349)
البيت نعمة
قال الله تعالى: " والله جعل لكم من بيوتكم سكناً ". سورة النحل الآية 80.
قال ابن كثير - رحمه الله -: " يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ويستترون وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع ".
ماذا يمثل البيت لأحدنا؟ أليس هو مكان أكله ونكاحه ونومه وراحته؟ أليس هو مكان خلوته واجتماعه بأهله وأولاده؟
أليس هو مكان ستر المرأة وصيانتها؟! قال تعالى: " وقرن في بيوتكن ولا تبرج تبرج الجاهلية الأولى " سورة الأحزاب الآية: 33
وإذا تأملت أحوال الناس ممن لا بيوت لهم ممن يعيشون في الملاجئ، أو على أرصفة الشوارع، واللاجئين المشردين في المخيمات المؤقتة، عرفت نعمة البيت، وإذا سمعت مضطربا يقول ليس لي مستقر، ولا مكان ثابت، أنام أحيانا في بيت فلان، وأحيانا في المقهى، أو الحديقة أو على شاطئ البحر، ومستودع ثيابي في سيارتي؛ إذن لعرفت معنى التشتت الناجم عن حرمان نعمة البيت.
ولما انتقم الله من يهود بني النضير سلبهم هذه النعمة وشردهم من ديارهم فقال تعالى:
" هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم لأول الحشر ". ثم قال: " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ". سورة الحشر، الآية: 2(13/350)
والدافع عند المؤمن للاهتمام بإصلاح بيته عدة أمور:
أولا: وقاية النفس والأهل نار جهنم، والسلامة من عذاب الحريق: " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " سورة التحريم، الآية: 6
ثانيا: عظم المسئولية الملقاة على راعي البيت أمام الله يوم الحساب:
قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ".
ثالثا: أنه المكان لحفظ النفس، والسلامة من الشرور وكفها عن الناس، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة:
قال صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " خمس من فعل واحد منهن كان على الله، من عاد مريضا، أو خرج غازيا، أو دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " سلامة الرجل من الفتنة أن يلزم بيته ".
ويستطيع المسلم أن يلمس فائدة هذا الأمر في حال الغربة عندما لا يستطيع لكثير من المنكرات تغييرا، فيكون لديه ملجأ إذا دخل فيه يحمي نفسه من العمل المحرم والنظر المحرم، ويحمي أهله من التبرج والسفور، ويحمي أولاده من قرناء السوء.
رابعا: أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في الغالب داخل بيوتهم، وخصوصا في الحر الشديد والبرد الشديد والأمطار وأول النهار وآخره، وعند الفراغ من العمل والدراسة، ولا بد من صرف الأوقات في الطاعات، وإلا ستضيع في المحرمات.
خامسا: وهو أهمها، أن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم، فإن المجتمع يتكون من بيوت هي لبناته، والبيوت أحياء، والأحياء مجتمع، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعا قويا بأحكام الله، صامدا في وجه أعداء الله، يشع الخير ولا ينفذ إليه شر.
فيخرج من البيت المسلم إلى المجتمع أركان الإصلاح فيه؛ من الداعية القدوة، وطالب العلم، والمجاهد الصادق، والزوجة الصالحة، والأم المربية، وبقية المصلحين.
فإذا كان الموضوع بهذه الأهمية، وبيوتنا فيها منكرات كثيرة، وتقصير كبير، وإهمال وتفريط؛ فهنا يأتي السؤال الكبير:(13/351)
ما هي وسائل إصلاح البيوت؟ .
وإليك أيها القارئ الكريم الجواب، نصائح في هذا المجال عسى الله أن ينفع بها، وأن يوجه جهود أبناء الإسلام لبعث رسالة البيت المسلم من جديد.
وهذه النصائح تدور على أمرين: إما تحصيل مصالح، وهو قيام بالمعروف، أو درء مفاسد وهو إزالة للمنكر.
وهذا أوان الشروع في المقصود.(13/352)
تكوين البيت(13/353)
نصيحة "1": حسن اختيار الزوجة
" وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم " سورة النور الآية 32
ينبغي على صاحب البيت انتقاء الزوجة الصالحة بالشروط التالية:
1. " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجملها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " متفق عليه.
2. "الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم 1468
3. " ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة " رواه أحمد " 5/282" والترمذي وابن ماجه عن ثوبان صحيح الجامع 5231
4. وفي رواية " وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس " رواه البيهقي صحيح الجامع 4285
5. " تزوجوا الودود الولود إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " رواه أحمد وهو صحيح الإرواء 6/ 195
" عليكم بالأبكار فإنهن أنتق رحما، وأعذب أفواها، وأرضى باليسير ". وفي رواية " وأقل خبا " أي: خداعا رواه ابن ماجة السلسلة الصحيحة 623
وكما أن المرأة الصالحة واحدة من أربع من السعادة، فالمرأة السوء واحدة من أربع من الشقاء، كما جاء في الحديث الصحيح وفيه قوله: " فمن السعادة: المرأة الصالحة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك، ومن السقاء: المرأة التي تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك " رواه ابن حبان وهو في السلسلة الصحيحة 282
وفي المقابل لابد من التبصر في حال الخاطب الذي يتقدم للمرأة المسلمة، والموافقة عليه حسب الشروط التالية:
" إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
ولابد في كل ما سبق من حسن السؤال وتدقيق البحث وجمع المعلومات والتوثق من المصادر والأخبار حتى لا يفسد البيت أو ينهدم.
والرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتا صالحا لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.(13/354)
نصيحة " 2 " السعي في إصلاح الزوجة
إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت وهذا من فضل الله، وإن لم تكن بذاك الصلاح، فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها. وقد يحدث هذا في حالات منها:
أن يتزوج الرجل امرأة غير متدينة أصلا؛ لكونه لم يكن مهتما بموضوع التدين هو نفسه في مبدأ أمره، أو أنه تزوجها على أمل أن يصلحها، أو تحت ضغط أقربائه مثلا، فهنا لابد من التشمير في عملية الإصلاح.
ولابد أن يعلم الرجل أولا أن الهداية من الله، والله هو الذي يصلح، ومن منه على عبده زكريا قوله فيه: " وأصلحنا له زوجه " سورة الأنبياء، الآية 90
سواء كان إصلاحا بدنيا أو دينيا، قال ابن عباس: كانت عاقرا لا تلد فولدت، وقال عطاء: كان في لسانها طول فأصلحها الله ولاستصلاح الزوجة وسائل منها:
1. الاعتناء بتصحيح عبادتها لله بأنواعها على ما سيأتي تفصيله.
1. السعي لرفع إيمانها في مثل:
2. حضها على قيام الليل.
3. وتلاوة الكتاب العزيز.
4. وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها ومناسباتها.
5. وحثها على الصدقة.
6. قراءة الكتب الإسلامية النافعة.
7. سماع الأشرطة الإسلامية المفيدة؛ العلمية منها والإيمانية ومتابعة إمدادها بها.
8. اختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الاخوة، وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات الهادفة.
9. درء الشر عنها وسد منافذه عليها، بإبعادها عن قرينات السوء وأماكن السوء.
الإيمانيات في البيت(13/355)
نصيحة " 3 ": اجعل البيت مكانا لذكر الله
قال صلى الله عليه وسلم: " مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت ".
فلابد من جعل البيت مكانا للذكر بأنواعه؛ سواء ذكر القلب، وذكر اللسان، أو الصلوات وقراءة القرآن، أو مذاكرة العلم الشرعي وقراءة كتبه المتنوعة.
وكم من بيوت المسلمين اليوم هي ميتة بعدم ذكر الله فيها، كما جاء في الحديث، بل ما هو حالها إذا كان ما يذكر فيها هو ألحان الشيطان من المزامير والغناء، والغيبة والبهتان والنميمة؟! …
وكيف حالها وهي مليئة بالمعاصي والمنكرات، كالاختلاط المحرم والتبرج بين الأقارب من غير المحارم، أو الجيران الذين يدخلون البيت؟!
كيف تدخل الملائكة بيتا هذا حاله؟! فأحيوا بيوتكم رحمكم الله بأنواع الذكر.(13/356)
نصيحة " 4 ": اجعلوا بيوتكم قبلة
والمقصود اتخاذ البيت مكانا للعبادة.
قال الله - عز وجل -: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " سورة يونس الآية 87
قال ابن عباس: أمروا أن يتخذوها مساجد.
قال ابن كثير: " وكان هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة كما قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " سورة البقرة الآية 153. وفي الحديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ".
وهذا يبين أهمية العبادة في البيوت وخصوصا في أوقات الاستضعاف، وكذلك ما يحصل في بعض الأوضاع عندما لا يستطيع المسلمون إظهار صلاتهم أمام الكفار. ونتذكر في هذا المقام أيضا محراب مريم وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " سورة آل عمران الآية 37
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يحرصون على الصلاة في البيوت - في غير الفريضة - وهذه قصة معبرة في ذلك: عن محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك - وهو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ممن شهدوا بدرا من الأنصار- أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قد أنكرت بصري وأنا اصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سأفعل - إن شاء الله - ". قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: " أين تحب أن أصلي في بيتك؟ " قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم. رواه البخاري الفتح 1/519(13/357)
نصيحة " 5 ": التربية الإيمانية لأهل البيت
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي من الليل فإذا أوتر قال قومي فأوتري يا عائشة ". رواه مسلم، مسلم بشرح النووي 6/23
وقال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله رجلا قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء ". رواه أحمد وأبو داود، صحيح الجامع 3488
وترغيب النساء في البيت بالصدقة مما يزيد الإيمان، وهو أمر عظيم حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ". رواه البخاري، الفتح 1/405
ومن الأفكار المبتكرة وضع صندوق للتبرعات في البيت للفقراء والمساكين، فيكون كل ما دخل فيه ملكا للمحتاجين؛ لأنه وعاؤهم في بيت المسلم. وإذا رأى أهل البيت قدوة بينهم يصوم أيام البيض، والاثنين والخميس، وتاسوعاء، وعاشوراء، وعرفة، وكثيرا من المحرم وشعبان، فسيكون دافعا لهم على الاقتداء به.(13/358)
نصيحة " 6 ": الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت
ومن أمثلة ذلك:
أذكار دخول المنزل
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله تعالى حين يدخل وحين يطعم، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا، وإن دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه قال: أدركتم المبيت والعشاء ". رواه الإمام احمد، المسند 346:3، ومسلم 1599:3
أذكار الخروج من المنزل
روى أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقال له: حسبك قد هديت، وكفيت ووقيت، فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟ ". رواه أبو داود والترمذي، وهو في صحيح الجامع رقم 499
السواك
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دخل بيته بدأ بالسواك " رواه مسلم كتاب الطهارة باب 15 رقم 44(13/359)
نصيحة " 7 ": مواصلة قراءة سورة البقرة في البيت لطرد الشيطان منه
وفي هذا عدة أحاديث ومنها:
فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " رواه مسلم 1/539
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقروا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل بيتا يقرأ فيه سورة البقرة ". رواه الحاكم في المستدرك 1/561 وهو في صحيح الجامع 1170
وعن فضل الآيتين الأخيرتين منها، وأثر تلاوتهما في البيت قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وهو عند العرش، وأنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان " رواه الإمام أحمد في المسند 4/274 وغيره وهو في صحيح الجامع 1799
العلم الشرعي في البيت(13/360)
نصيحة " 8 ": تعليم أهل البيت
فريضة شرعية لابد أن يقوم بها رب الأسرة إنفاذا لأمره تعالى في الآية الكريمة: " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " سورة التحريم، الآية:6 وهذه الآية أصل في تعليم أهل البيت وتربيتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإليك أيها القارئ الكريم بعضا مما قاله المفسرون في هذه الآية، بشأن ما يجب على رب الأسرة:
قال قتادة: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به، ويساعدهم عليه.
وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه.
وقال علي - رضي الله عنه -: علموهم وأدبوهم.
وقال الكيا الطبري - رحمه الله -: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على تعليم الإماء وهن أرقاء؛ فما بالك بأولادك وأهلك الأحرار.
قال البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه: باب تعليم الرجل أمته وأهله. ثم ساق حديثه صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لهم أجران.. ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران "
قال ابن حجر - رحمه الله - في شرح الحديث: مطابقة الحديث للترجمة - أي عنوان الباب - في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء.
وفي غمرة مشاغل الرجل ووظيفته وارتباطاته قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله، فمن الحلول لهذا أن يخصص يوما يجعله موعدا عاما لأهل البيت، وحتى غيرهم من الأقرباء لعقد مجلس علم في البيت، ويعلم الجميع بهذا الموعد، فينضبط حضورهم فيه، ويتشجعوا لإتيانه، ويصبح ملزما أمامهم، وعند نفسه بالحضور، وإليك ما حصل منه صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن.
قال البخاري - رحمه الله -: باب هل يجعل للنساء يوم على حده في العلم، وساق حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: " غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن "
قال ابن حجر: ووقع في رواية سهل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بنحو هذه القصة فقال: " موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن ". فتح الباري 1/195
ويؤخذ من الحديث تعليم النساء في البيوت، وحرص نساء الصحابة على التعلم، وأن توجيه الجهود إلى الرجال فقط دون النساء تقصير كبير من الدعاة وأرباب البيوت.
وقد يقول بعض القراء: هب أننا خصصنا يوما، وأخبرنا أهلينا بذلك، فما الذي يقدم في هذه الجلسات؟ وكيف نبدأ؟
وجواباً لذلك أعرض عليك أخي القارئ الكريم اقتراحا في هذا الشأن يكون منهجا مبسطا، لتدريس أهل البيت عموما، وللنساء خصوصا.
تفسير العلامة ابن سعدي المسمى: " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ". ويقع في سبعة مجلدات مفصل بأسلوب ميسر، تقرا أو تقدم منه سور ومقاطع.
رياض الصالحين مع تناول أحاديثه بشيء من التعليقات والعظات، والفوائد المستنبطة منها، ويمكن الرجوع في هذا إلى كتاب: نزهة المتقين.
" حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة " للعلامة صديق حسن خان.
كما أن من المهم أن تعلم المرأة بعض الأحكام الفقهية، كأحكام الطهارة، والدماء الطبيعية، وأحكام الصلاة والزكاة، والصيام والحج إذا استطاعته، وبعض أحكام الأطعمة والأشربة، واللباس والزينة، وسنن الفطرة والمحرم، وحكم الغناء والتصوير وغيرها، ومن المصادر المهمة في هذا: فتاوى أهل العلم كمجموعة فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وغيرهما من أهل العلم، سواء المكتوب منها أو المسجل في الأشرطة.
ومما يتضمن جدول تعليم المرأة وأهل البيت تذكيرهم بالدروس والمحاضرات العامة التي يستطيعون حضورها للعلماء، أو طلبة العلم الثقات، لإيجاد عدة مصادر جيدة ومتنوعة للتعليم، ولا ينسى في هذا المجال الاستماع إلى كثير من أنشطة إذاعة القرآن الكريم، وتوجيه الاهتمام إليها، ويدخل في إطار توفير وسائل التعليم أيضا: تذكير أهل البيت بالأيام المخصصة لحضور النساء في معارض الكتاب الإسلامي، والذهاب بهن إليها بالشروط الشرعية.(13/361)
نصيحة " 9 ": اصنع نواة لمكتبة إسلامية في بيتك
مما يساعد في تعليم أهل البيت، وإتاحة المجال لتفقههم في الدين وإعانتهم على الالتزام بأحكام الشريعة؛ عمل مكتبة إسلامية في البيت. ليس بالضرورة أن تكون كبيرة، ولكن العبرة بانتقاء الكتب المهمة، ووضعها في مكان يسهل تناولها وحث أهل البيت على قراءتها.
ركن في مجلس البيت الداخلي نظيف ومرتب، ومكان مناسب لشيء من الكتب، في غرفة نوم، وفي مجلس الضيوف، يتيح المجال للفرد في البيت كي يقرأ باستمرار.
ومن إتقان المكتبة - والله يحب الإتقان - أن تحتوي على مراجع تصلح لبحث المسائل المختلفة، وتنفع الأولاد في المدارس، وأن تحتوي على كتب ذات مستويات مختلفة، تصلح للكبار والصغار، والرجال والنساء، وكتب من أجل الإهداء للضيوف وأصدقاء الأولاد، وزوار العائلة مع الحرص على الطبعات الجذابة المحققة والمخرجة الأحاديث، ويمكن الاستفادة من معارض الكتاب لإنشاء مكتبة البيت بعد استشارة أهل الخبرة بالكتب. ومما يساعد في العثور على الكتاب ترتيب المكتبة حسب الموضوعات، فكتب التفسير على رف، والحديث على آخر.. والفقه على ثالث.. وهكذا، ويقوم أحد أفراد العائلة بعمل فهرس ألف بائي وموضوعي، لتسهيل البحث عن الكتب. وقد يتساءل كثير من الحريصين عن أسماء كتب إسلامية لمكتبة البيت.
وهاك أخي القارئ اقتراحات بهذا الشأن:
التفسير: تفسير ابن كثير، تفسير ابن سعدي، زبدة التفسير للأشقر، بدائع التفسير لابن القيم، أصول التفسير لابن عثيمين، لمحات في علوم القرآن لمحمد الصباغ.
الحديث: صحيح الكلم الطيب، عمل المسلم في اليوم والليلة " أو الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة "، رياض الصالحين وشرحه نزهة المتقين، مختصر صحيح البخاري للزبيدي، مختصر صحيح مسلم للمنذري والألباني، صحيح الجامع الصغير، وضعيف الجامع الصغير، صحيح الترغيب والترهيب، السنة ومكانتها في التشريع، قواعد وفوائد من الأربعين النووية لناظم سلطان.
العقيدة: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " تحقيق الأرناؤوط "، أعلام السنة المنشورة للحكمي " محقق "، شرح العقيدة الطحاوية تحقيق الألباني، سلسلة العقيدة لعمر سليمان الأشقر "8" أجزاء، أشراط الساعة د. يوسف الوابل.
الفقه: منار السبيل لابن ضويان مع إرواء الغليل للألباني، زاد المعاد، المغني لابن قدامة، فقه السنة، الملخص الفقهي لصالح الفوزان، مجموعة فتاوى العلماء " عبد العزيز بن باز، محمد صالح العثيمين، عبد الله بن جبرين "، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني والشيخ عبد العزيز بن باز، ومختصر أحكام الجنائز للألباني.
الأخلاق وتزكية النفوس: تهذيب مارج السالكين، الفوائد، الجواب الكافي، طريق الهجرتين وباب السعادتين، الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم، لطائف المعارف لابن رجب، تهذيب موعظة المؤمنين، غذاء الألباب.
السير والتراجم: البداية والنهاية لابن كثير، مختصر الشمائل المحمدية للترمذي اختصار الألباني، الرحيق المختوم للمباركفوري، العواصم من القواصم لابن العربي تحقيق الخطيب والاستانبولي، المجتمع المدني 1-2 للشيخ أكرم العمري، سير أعلام النبلاء، منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي.
كما أن هناك عدد من الكتب الجيدة في المجالات المختلفة، فمنها: كتب الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وكتب الشيخ عمر بن سليمان الأشقر، وكتب الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، وكتب الأستاذ محمد محمد حسين، وكتب الشيخ محمد جميل زينو، وكتب الأستاذ حسين العوايشة في الرقائق، وكتاب الإيمان لمحمد نعيم ياسين، والولاء والبراء للشيخ محمد سعيد القحطاني، والإنحرافات العقدية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر لعلي بن بخيت الزهراني، المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية لعبد الله الشبانة، المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي، الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتليفزيون لمروان كجك، المرأة المسلمة إعداداتها ومسئولياتها لأحمد أبا بطين، مسئولية الأب المسلم في تربية ولده لعدنان باحارث، وحجاب المسلمة لأحمد البرازي، وكتاب وجاء دور المجوس لعبد الله محمد الغريب، وكتب الشيخ بكر أبو زيد، وأبحاث الشيخ مشهور حسن سلمان.
وغير هذا كثير من النافع الطيب، وما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر، وهناك في عالم الكتيبات أشياء كثيرة نافعة، سيطول بنا المقام إذا أردنا السرد، فعلى المسلم الاستشارة والتمعن للانتقاء. ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.(13/362)
نصيحة " 10 ": المكتبات الصوتية في البيت
المسجل في كل بيت ممكن أن يعمل في الخير أو في الشر، فكيف نؤثر في استخدامه ليكون مرضيا لله؟
من الوسائل لتحقيق ذلك: عمل مكتبة صوتية في البيت تحوي طائفة من الأشرطة الإسلامية الجيدة، للعلماء والقراء والمحاضرين، والخطباء والوعّاظ.
إن سماع أشرطة التلاوة الخاشعة من أصوات بعض أئمة صلاة التراويح مثلا، له تأثير عظيم على الأهل في البيت، من جهة تأثرهم بمعاني التنزيل، أو حفظهم من جراء تكرار ما يسمعون، وكذلك من جهة حمايتهم بالسماع القرآني عن السماع الشيطاني من الألحان والأغاني، لأن الآذان والصدور لا يصلح أن يختلط فيها كلام الرحمن بمزمار الشيطان.
وكم لأشرطة الفتاوى من أثر في تفقيه أهل البيت بالأحكام المختلفة، التي يتعرضون لها يوميا في حياتهم، ومما يقترح في هذا الجانب سماع الفتاوى المسجلة للعلماء أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ محمد العثيمين والشيخ صالح الفوزان، وغيرهم من الثقات في العلم والدين.
ولابد أن يعتني المسلمون بالجهة التي يأخذون عنها الفتوى، لأن هذا دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فالأخذ عمن عُلم بصلاحه وتقواه، وورعه واعتماده على الأحاديث الصحيحة، وعدم تعصّبه المذهبي، وسيره مع الدليل، والتزامه بالمذهب الوسط فلا تشدد ولا تساهل، هو الخبير الذي نسأله " الرحمن فاسأل به خبيرا " سورة الفرقان الآية: 59.
والسماع للمحاضرين الذين يعملون على توعية الأمة، وإقامة الحجة، وإنكار المنكر، أمر مهم في بناء شخصية الفرد في البيت المسلم.
والأشرطة كثيرة والمحاضرين كثر والمهم أن يعرف المسلم سمات المنهج الصحيح للمحاضر حتى يحرص على أشرطته ويطمئن لسماعها. ومن تلك السمات:
أن يكون على عقيدة الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، ملتزما بالسنة مفارقا للبدعة، وسطا في منهجه لا من الغالين ولا من المفرطين المتساهلين.
أن يعتمد الأحاديث الصحيحة ويحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
أن يكون على بصيرة بحال الناس وواقع الأمّة، يضع الدواء على موضع الداء، ويقدّم للناس ما يحتاجون إليه.
أن يكون قوّالا للحق ما أمكنه، لا يتكلم بالباطل ولا يرضي الناس بسخط الله
وكم وجدنا في أشرطة الأطفال من تأثير كبير عليهم، سواء في حفظهم لسور متعددة من قارئ صغير يتلو، أو أذكار اليوم والليلة وآداب إسلامية، وأناشيد هادفة، ونحو ذلك.
إن وضع الأشرطة في أدراج بطريقة مرتبة تُسهّل الوصول إليها من ناحية، وتحافظ على الأشرطة من التلف وعبث الأطفال من ناحية أخرى، ولابد أن نسعى في نشر الشريط الجيد إهدائه أو إعارته للغير بعد سماعه. ووجود مسجل في المطبخ يفيد ربة البيت كثيرا، وكذا في غرفة النوم يساعد على الاستفادة من الوقت لآخر لحظة.(13/363)
نصيحة " 11 ": دعوة الصالحين والأخيار وطلبة العلم للزيارة في البيت
" رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا للمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً " سورة نوح الآية: 28
إن دخول أهل الإيمان بيتك يزيده نورا، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش معهم من الفائدة أمور كثيرة، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، وجلوس الأولاد والإخوان والآباء وسماع النساء من وراء حجاب لما يُقال فيه تربية للجميع، وإذا أدخلت خيّرا منعت سيّئا من الدخول والتخريب.(13/364)
نصيحة " 12 ": تعلم الأحكام الشرعية للبيوت
ومن ذلك:
الصلاة في البيت:
أما الرجل فيقول صلى الله عليه وسلم في شأنه: " أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " رواه البخاري، الفتح رقم 731
فالواجب أن تصلي في المسجد إلا من عذر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: " تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده " رواه ابن أبي شيبة، صحيح الجامع 2953. وأما المرأة كلما كان مكان صلاتها أعمق كان أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم " خير صلاة النساء في قعر بيوتهن" رواه الطبراني، صحيح الجامع 3311.
أن لا يؤم غيره في بيته، ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يُؤَمُّ الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه " رواه الترمذي رقم 2772. أي لا يتقدم عليه بالإمامة ولو كان غيره أقرأ منه في مكان يملكه، أو له فيه سلطة كصاحب البيت في بيته أو إمام المسجد، وكذلك لا يجوز لأحد أن يجلس في الموضع الخاص بصاحب البيت من فراش أو سرير إلا بإذنه.
الاستئذان:
" يا أيها الذي آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون "27" فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم " سورة النور الآيتين 27،28
" وأتوا البيوت من أبوابها " سورة البقرة الآية: 189
جواز دخول البيوت التي ليس فيها أحد بغير استئذان إذا كان للداخل فيها متاع كالبيت المعد للضيف: " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " سورة النور الآية 29
عدم التحرج في الأكل من بيوت الأقرباء والأصدقاء، وما ملك المرء مفتاحه من بيوت الأقرباء والأصدقاء من بيوت الآخرين إذا كانوا لا يكرهون ذلك: " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً " سورة النور الآية 61
أمر الأطفال والخدم بعدم اقتحام غرفة نوم الأبوين بغير استئذان في أوقات النوم المعتادة: قبل صلاة الفجر، ووقت القيلولة، وبعد صلاة العشاء، خشية أن تقع أعينهم على ما لا يناسب، ولو رأوا شيئاً عرضاً في غير هذه الأوقات فيغتفر، لأنهم من الطوافين الذين يشق منعهم، قال تعالى: " يا آيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " سورة النور الآية 58.
تحريم الاطلاع في بيوت الآخرين بغير إذنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اطلع في بيت قوم بغير إذن ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص " رواه أحمد، المسند 2/385 وهو في صحيح الجامع 6046
عدم خروج ولا إخراج المطلقة الرجعية من بيتها طيلة وقت العدة مع الإنفاق عليها: قال تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " سورة الطلاق الآية 1.
جواز هجر الرجل لامرأته الناشز في البيت أو في خارج البيت حسب المصلحة الشرعية: فأما هجرها في البيت فدليله قول الله تعالى: " واهجروهن في المضاجع " سورة النساء الآية 34، وأما هجرها خارج البيت فكما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هجر نسائه في حُجرهن، وأعتزل في مشربة خارج بيوت نسائه رواه البخاري، كتاب الطلاق باب في الإيلاء.
ولا يبيت وحيداً في البيت: عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة، أن يبيت الرجل وحده أو أن يسافر وحده رواه أحمد في المسند 2/91 وهذا النهي لما في الوحدة من الوحشة ونحوها، كهجوم عدو أو لص أو مرض، فوجود الرفيق معه يدفع عنه طمع العدو واللص ويسعفه عند المرض انظر الفتح الرباني 5/64.
لا ينام على ظهر بيت ليس له سور حتى لا يسقط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بات على ظهر بيت ليس له حجار، فقد برئت منه الذمة " رواه أبو دود، السنن رقم 5041، وهو في صحيح الجامع 6113 وشرحه في عون المعبود 13/384 وذلك أن النائم قد يتقلب في نومه فإذا كان على سطح ليس له حجار أو حجاب يحجب الإنسان عن الوقوع ويمنعه من التردي والسقوط، فقد يسقط فيموت، فعند ذلك لا يؤاخذ أحد بموته فتبرأ منه الذمة، أو أنه قد تسبب بإهماله في عدم كلاءة الله له وحفظه إياه، لأنه لم يأخذ بالأسباب.
قطط البيوت لا تنجس الإناء إذا شربت منه ولا الطعام إذا أكلت منه: عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه وُضع له وضوءه فولغ فيه السنور " الهر "، فأخذ يتوضأ، فقالوا: يا أبا قتادة! قد ولغ فيه السنور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " السنور من أهل البيت، وأنه من الطوافين، والطوافات عليكم " رواه أحمد في المسند 5/309 وهو في صحيح الجامع 3694، وفي رواية: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين والطوافات عليكم " رواه أحمد في المسند 5/309 وهو في صحيح الجامع 2437
الاجتماعات في البيوت(13/365)
نصيحة 13: إتاحة الفرصة لاجتماعات تناقش أمور العائلة:
" وأمرهم شورى بينهم " سورة الشورى الآية 38. عندما تتاح الفرصة لأفراد العائلة بالجلوس سوياً في وضع مناسب لمناقشة أمور داخلية أو خارجية تتعلق بالعائلة، فإن ذلك يعد علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها، ولا شك أن الرجل الذي ولاه الله أمور رعيته في بيته هو المسئول الأول، وصاحب القرار ولكن إتاحة المجال للآخرين - وخصوصاً عندما يكبر الأولاد - يكون فيه تربية لهم على تحمل المسئولية بالإضافة إلى ارتياح الجميع لإحساسهم بأن آراءهم ذات قيمة عندما يُسألون إبداءها، ومن الأمثلة على ذلك مناقشة الأمور التي تتعلق بالحج أو عمرة رمضان وغير ذلك من الإجازات، والسفر لصلة رحم، أو ترويح مباح، وتنظيم الأعراس ووليمة الزفاف، أو عقيقة المولود، أو الانتقال من بيت لآخر، ومشروعات خيرية، كإحصاء فقراء الحي، وتقديم المساعدات، أو إرسال الطعام لهم، وكذلك مناقشة أوضاع العائلة ومشكلات الأقارب وكيفية الإسهام في حلها وهكذا..، تجدر الإشارة هنا إلى نوع آخر مهم من أنواع الاجتماعات، وهو جلسات المصارحة بين الأبوين وأولادهما، فإن بعض المشكلات التي تعرض لبعض البالغين لا يمكن حلها إلا بجلسات انفرادية، يخلو الأب بابنه يناجيه في مسائل تتعلق بمشكلات الشباب، وسن المراهقة، وأحكام البلوغ، وكذلك تخلو الأم بابنتها لتلقنها ما تحتاج إليه من الأحكام الشرعية، وتساعدها في حل المشكلات التي تعرض في مثل هذه السن، واستهلال الأب والأم الكلام بمثل عبارة " عندما كنت في مثل سنك.. " له أثر كبير في التقبل، وانعدام مثل هذه المصارحات هو الذي يقود هؤلاء لمفاتحة قرناء السوء وقرينات السوء، فينتج عن ذلك شر عظيم.(13/366)
نصيحة 14: عدم إظهار الخلافات العائلية أمام الأولاد:
يندر أن يعيش جماعة في بيت دون نوع من الخصومات، والصلح خير والرجوع إلى الحق فضيلة. ولكن مما يزعزع تماسك البيت، ويضر بسلامة البناء الداخلي هو ظهور الصراعات أمام أهل البيت، فينقسمون إلى معسكرين أو أكثر، ويتشتت الشمل، بالإضافة إلى الأضرار النفسية على الأولاد وعلى الصغار بالذات، فتأمل حال بيت يقول الأب فيه للولد: لا تكلم أمك، وتقول الأم له: لا تكلم أباك، والولد في دوامة وتمزق نفسي، والجميع يعيشون في نكد. فلنحرص على عدم وقوع الخلافات، ولنحاول إخفاءها إذا حصلت، ونسأل الله أن يؤلف بين القلوب.(13/367)
نصيحة 15: عدم إدخال من لا يُرضى دينه إلى البيت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير " قطعة من رواية أبي داود " 4829 ". وفي رواية البخاري: " وكير الحداد يُحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة " رواه البخاري الفتح 4/323. أي والله يحرق بيتك بأنواع الفساد والإفساد، كم كان دخول المفسدين والمشبوهين سبباً لعداوات بين أهل البيت، وتفريق بين الرجل وزوجته، ولعن الله من خبّب امرأة على زوجها، أو زوجاً على امرأته، وسبب عداوة بين الأب وأولاده، وما أسباب وضع السحر في البيوت أو حدوث السرقات أحياناً وفساد الخلق كثيراً إلا بعد إدخال من لا يُرضى دينه، فيجب عدم الإذن بدخوله، ولو كان من الجيران، رجالاً ونساءً، أو من المتظاهرين بالمصادقة رجالاً ونساءً، وبعض الناس يسكتون تحت وطأة الإحراج، فإذا رآه على الباب أذن له، وهو يعلم أنه من المفسدين. وتتحمل المرأة في البيت جزءاً عظيماً من هذه المسئولية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ ؟ " قالوا: يوم الحج الأكبر، ثم قال عليه الصلاة والسلام، في ثنايا خطبته الجامعة في ذلك اليوم: " فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون " رواه الترمذي 1163 وغيره عن عمرو بن الأحوص وهو في صحيح الجامع 7880. فلا تجدي في نفسك أيتها المرأة المسلمة إذا منع زوجك أو أبوك دخول إحدى الجارات إلى البيت، لما يرى من أثرها في الإفساد، وكوني لبيبة حازمة إذا عقدت لك مقارنات بين زوجها وزوجك، تنتهي بدفعك لمطالبة زوجك بأمور لا يطيقها. والنصح عليك واجب لزوجك إذا لاحظت أن من ندمائه في بيته أناساً يزينون له المنكر.
هدية: حاول أن تكون موجوداً في البيت كلما استطعت، فوجود ولي الأمر في بيته يضبط الأمور، ويمكنه من الإشراف على التربية وإصلاح الأحوال بالمراقبة والمتابعة، وعند بعض الناس أن الأصل هو الخروج من البيت، فإذا لم يجد مكاناً يذهب إليه رجع إلى البيت، وهذا مبدأ خاطئ، فإذا كان خروج المرء من بيته لأجل طاعات، فعليه الموازنة، وإذا كان خروجه للمعاصي وضياع الأوقات أو الانشغال الزائد بالدنيا، فعليه أن يخفف من المشاغل والتجارات، ويحسم اللقاءات الفارغة. بئس القوم يضيعون أهليهم، ويسهرون في الملاهي..، ونحن لا نريد الانسياق وراء مخططات أعداء الله، وهذه فقرة فيها عبرة: جاء في نشرة المشرق الأعظم الماسوني الفرنسي المنعقدة عام 1923م ما يلي: " وبغية التفريق بين الفرد وأسرته، عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة ".(13/368)
نصيحة 16: الدقة في ملاحظة أحوال أهل البيت
من هم أصدقاء أولادك؟
هل سبق أن قابلتهم أو تعرفت عليهم؟
ماذا يجلب أولادك معهم من خارج البيت؟
إلى أين تذهب ابنتك ومع من؟
بعض الآباء لا يدري أن في حوزة أولاده صوراً سيئة، وأفلاماً خالعة، وربما مخدرات، وبعضهم لا يدري أن ابنته تذهب مع الخادمة إلى السوق، وتطلب منها أن تنتظر مع السائق ثم تذهب لموعدها مع أحد الشياطين، والأخرى تذهب لتشرب الدخان عند قرينة سوء تعبث معها، وهؤلاء الذين يفلتون أولادهم لن يفلتوا من مشهد يوم عظيم، ولن يستطيعوا الهرب من أهوال يوم الدين: " إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " حسن رواه النسائي 292، وابن حبان عن أنس وهو في صحيح الجامع 1775، السلسة الصحيحة 1636.
وهنا نقاط مهمة:
يجب أن تكون المراقبة خفية.
لا لأجواء الإرهاب.
يجب أن لا يحس الأولاد بفقدان الثقة.
ينبغي أن يراعى في النصح أو العقاب أعمار الأولاد ومداركهم ودرجة الخطأ.
حذار من التدقيق السلبي وإحصاء الأنفاس. روى لي شخص أن أحد الآباء عنده كمبيوتر يخزن فيه أخطاء أولاده بالتفصيل، فإذا حصل خطأ أرسل إليه استدعاء وفتح الخانة الخاصة بالولد في الجهاز، وسرد عليه أخطاء الماضي مع الحاضر.
التعليق: لسنا في شركة، وليس الأب هو الملك الموكل بكتابة السيئات، وليقرأ هذا الأب المزيد في أصول التربية الإسلامية.
وأعرف في المقابل أناساً يرفضون التدخل في شئون أولادهم بتاتاً بحجة أن الولد لن يقتنع بأن الخطأ خطأ والذنب ذنب إلا بأن يقع فيه، ثم يكتشف خطأه بنفسه، وهذا الاعتقاد المنحرف ناتج عن رضاع من لبن الفلسفة الغربية، وفطام على مبدأ إطلاق الحريات المذموم فتعست المرضعة، وبئست الفاطمة، ومنهم من يفلت الزمام لولده خشية أن يكرهه بزعمه، ويقول: أكسب حبه مهما فعل، وبعضهم يطلق العنان لولده كردة فعل عما حصل له مع أبيه في السابق من نوع شدة خاطئة، فيظن أنه يجب أن يعمل العكس تماماً مع ولده، وبعضهم يبلغ به السفول لدرجة أن يقول: دع الابن والبنت يتمتعان بشبابهما كما يريدان، فهل يفكر مثل هؤلاء بأن أبناءهم قد يأخذون بتلابيبهم يوم القيامة فيقول الولد: لِمَ تركتني يا أبي على المعصية؟!(13/369)
نصيحة 17 الاهتمام بالأطفال في البيت
ولهذا جوانب عديدة منها:
تحفيظ القرآن والقصص الإسلامية: لا أجمل من جمع الأب أولاده ليقرئهم القرآن مع شرح مبسط، ويقدم المكافآت لحفظه، وقد حفظ صغار سورة الكهف من تكرار تلاوة الأب لها كل جمعة، وتعليم الولد من أصول العقيدة الإسلامية كمثل التي وردت في حديث: " احفظ الله يحفظك "، وتعليمه الآداب والأذكار الشرعية، كأذكار الأكل والنوم، والعطاس والسلام، والاستئذان، ولا أشد تنبيهاً وأقوى تأثيراً في الطفل من سرد القصص الإسلامية على مسامعه.
ومن هذه القصص: قصة نوح عليه السلام، والطوفان، وقصة إبراهيم عليه السلام، في تكسير الأصنام وإلقائه في النار، وقصة موسى عليه السلام في نجاته من فرعون وإغراقه، وقصة يونس عليه السلام في بطن الحوت، ومختصر قصة يوسف عليه السلام، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم مثل البعثة والهجرة، وشيء من الغزوات كبدر والخندق، وغيرها كقصته صلى الله عليه وسلم مع الرجل والجمل الذي كان يُجيعه ويُجهده، وقصص الصالحين، كقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة وأولادها الجياع في الخيمة، وقصة أصحاب الأخدود، وقصة أصحاب الجنة في سورة "ن"، والثلاثة أصحاب الغار، وغيرها كثير طيب، يلخص ويبسط مع تعليقات ووقفات خفيفة، يغنينا عن كثير من القصص المخالفة للعقيدة والخرافية أو المخيفة التي تفسد واقعية الطفل، وتورث فيه الجبن والخوف.
حذار من خروج الأولاد مع من هب ودب: فيرجعون إلى البيت بالألفاظ والأخلاق السيئة، بل يُنتقى ويُدعى من أولاد الأقرباء والجيران من يلعب معهم في المنزل.
الاهتمام بلعب الأولاد المسلية والهادفة: وعمل غرفة ألعاب أو خزانة خاصة، يرتب فيها الأولاد ألعابهم، وتجنب الألعاب المخالفة للشريعة: كالأدوات الموسيقية وما فيه صلبان أو نرد.
ومن الجيد توفير ركن هوايات للفتيان كالنجارة والإلكترونيات، والميكانيكا، وبعض ألعاب الكمبيوتر المباحة، وبهذه المناسبة ننبه إلى خطورة بعض أشرطة الكمبيوتر المصممة لتعرض صور النساء في غاية السوء على شاشة الجهاز، أو ألعاب فيها صلبان، حتى ذكر أحدهم أن إحدى الألعاب هي لعبة قمار مع الكمبيوتر، وينتقي اللاعب صورة فتاة من أربع فتيات يظهرن على الشاشة تمثل الطرف الآخر، فإذا فاز في اللعبة خرجت له صورة الفتاة في أسوأ منظر جائزة الفوز.
التفريق بين الذكور والإناث في المضاجع: وهذا من الفروق في ترتيب بيوت أهل الدين وغيرهم ممن لا يهتمون بهذا.
الممازحة والملاطفة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال يمسح رؤوسهم، ويتلطف في مناداتهم، ويعطي أصغرهم أول الثمرة، وربما ارتحله بعضهم. وفيما يلي مثالان على مداعبته صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه لحسن بن علي، فيرى الصبي حُمرة لسانه فيبهش له " أي أعجبه وجذبه فأسرع إليه. رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه، انظر السلسلة الصحيحة رقم 70. وعن يعلى بن مرة أنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام، فإذا حسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا وهاهنا، ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى في فأس رأسه فقبله. رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 364 وهو في صحيح ابن ماجه 1/29.(13/370)
نصيحة 18 الحزم في تنظيم أوقات النوم والوجبات:
بعض البيوت حالها كالفنادق لا يكاد قاطنوها يعرف بعضهم بعضاً، وقلما يلتقون.
بعض الأولاد يأكل متى شاء وينام متى شاء، ويتسبب في السهر ومضيعة الوقت، وإدخال الطعام على الطعام، وهذه الفوضوية تتسبب في تفكك الروابط، واستهلاك الجهود والأوقات، وتنمي عدم الانضباط في النفوس، قد تعذر أصحاب الأعذار، فالطلاب يتفاوتون في مواعيد الخروج من المدارس والجامعات، ذكوراً وإناثاً، والموظفون والعمال وأصحاب المحلات ليسوا سواء، ولكن ليست هذه الحالة عند الجميع، ولا أحلى من اجتماع العائلة الواحدة على الطعام، واستغلال الفرصة لمعرفة الأحوال والنقاشات المفيدة، وعلى رب الأسرة الحزم في ضبط مواعيد الرجوع إلى المنزل، والاستئذان عند الخروج، خصوصاً للصغار - صغار السن أو صغار العقل - الذين يُخشى عليهم.(13/371)
نصيحة 19: تقويم عمل المرأة خارج البيت
شرائع الإسلام يكمل بعضها بعضاً، وعندما أمر الله النساء بقوله: " وقرن في بيوتكن " الأحزاب /33، جعل لهن من ينفق عليهن وجوباً كالأب والزوج.
والأصل أن المرأة لا تعمل خارج البيت إلا لحاجة، كما رأى موسى عليه السلام، بنتي الرجل الصالح على الماء تذودان غنمهما تنتظران، فسألهما: " ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير " القصص الآية 23، فاعتذرتا حالاً عن خروجهما لسقي الغنم، لأن الولي لا يستطيع العمل لكبر سنه، لذا صار الحرص على التخلص من العمل خارج البيت حالما تسنح الفرصة " قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " القصص الآية 26.
فبينت هذه المرأة بعبارتها رغبتها في الرجوع إلى بيتها لحماية نفسها، من التبذل والذي قد تتعرض له بالعمل خارج البيت.
وعندما احتاج الكفار في العصر الحديث لعمل النساء بعد الحربين العالميتين، لتعويض النقص الحاصل في الرجال، وصار الوضع حرجاً من أجل إعادة إعمار ما خربته الحرب، وواكب ذلك المخطط اليهودي في تحرير المرأة، والمناداة بحقوقها بقصد إفساد المرأة، وبالتالي إفساد المجتمع تسربت مسألة خروج المرأة للعمل.
وعلى الرغم من أن الدوافع عندنا ليست كما هي عندهم، والفرد المسلم يحمي حريمه وينفق عليهن، إلا أن حركة تحرير المرأة نشطت، ووصل الأمر إلى المطالبة بابتعاثها إلى الخارج، ومن ثم المطالبة بعملها حتى لا تذهب هذه الشهادات هدراً وهكذا، وإلا فالمجتمعات الإسلامية ليست بحاجة لهذا الأمر على هذا النطاق الواسع الحاصل، ومن الأدلة على ذلك وجود رجال بغير وظائف مع استمرار فتح مجالات العمل للنساء.
وعندما نقول: " على هذا النطاق الواسع "، فإننا نعني ذلك لأن الحاجة إلى عمل المرأة في بعض القطاعات كالتعليم والتمريض والتطبيب بالشروط الشرعية حاجة قائمة، وإنما قدمنا تلك المقدمة لأننا لاحظنا أن بعض النساء يخرجن للعمل دون حاجة، وأحياناً براتب زهيد جداً، لأنها تحس أنها لا بد أن تخرج لتعمل حتى ولو كانت غير محتاجة، ولو في مكان غير لائق بها، فوقعت فتن عظيمة.
ومن الفروق الرئيسية بين المنهج الإسلامي لقضية عمل المرأة، والنهج العلماني أن التصور الإسلامي للقضية يعتبر أن الأصل هو " وقرن في بيوتكن " والخروج للحاجة " أُذن لكن أن تخرجن في حوائجكن " والنهج العلماني يقوم على أن الخروج هو الأصل في جميع الحالات.
ولأجل العدل في القول نقول: إن عمل المرأة قد يكون حاجة فعلاً، كأن تكون المرأة هي المعيل للأسرة بعد زوج ميت، أو أب عاجز، ونحو ذلك، بل إنه في بعض البلدان نتيجة لعدم قيام المجتمع على أسس إسلامية تضطر الزوجة إلى العمل لتغطي مصروف البيت مع زوجها، ولا يخطب الرجل إلا موظفة، بل اشترط بعضهم على زوجته في العقد أن تعمل!!
والخلاصة: فقد يكون عمل المرأة للحاجة أو لأجل هدف إسلامي، كالدعوة إلى الله في مجال التعليم، أو تسلية كما يقع لبعض من ليس لها أولاد.
وأما سلبيات عمل المرأة خارج البيت فمنها:
ما يقع كثيراً من أنواع المنكرات الشرعية، كالاختلاط بالرجال، والتعرف بهم والخلوة المحرمة، والتعطر لهم، وإبداء الزينة للأجانب، وقد تكون النهاية هي الفاحشة.
عدم إعطاء الزوج حقه، وإهمال أمر البيت، والتقصير في حق الأولاد " وهذا موضوعنا الأصلي".
نقصان المعنى الحقيقي للشعور بقوامة الرجل في نفوس بعض النساء فلنتصور امرأة تحمل شهادة مثل شهادة زوجها، أو أعلى " وهذا ليس عيباً في ذاته "، وتعمل براتب قد يفوق راتب زوجها، فهل ستشعر هذه المرأة بشكل كاف بحاجتها إلى زوجها وتتكامل لديها طاعة الزوج، أم أن الإحساس بالاستغناء قد يسبب مشكلات تزلزل كيان البيت من أساسه، إلا من أراد الله بها خيراً، وهذه مشكلات النفقة على الزوجة الموظفة والإنفاق على البيت لا تنتهي.
الإرهاق الجسدي والضغط النفسي والعصبي الذي لا يناسب طبيعة المرأة.
وبعد هذه العرض السريع لمصالح ومفاسد عمل المرأة نقول: لا بد من تقوى الله، ووزن المسألة بميزان الشريعة، ومعرفة الحالات التي يجوز فيها للمرأة أن تخرج للعمل، من التي لا تجوز، وأن لا تعمينا المكاسب الدنيوية عن سلوك سبيل الحق، والوصية للمرأة لأجل مصلحتها، ومصلحة البيت، وعلى الزوج ترك الإجراءات الانتقامية وألا يأكل مال زوجته بغير حق.(13/372)
نصيحة 20: حفظ أسرار البيوت:
وهذا يشمل أموراً منها:
عدم نشر أسرار الاستمتاع.
عدم تسريب الخلافات الزوجية.
عدم البوح بأي خصوصية يكون إظهارها ضرر بالبيت أو أحد أفراده.
فأما المسألة الأولى فدليل تحريمها: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها " رواه مسلم 4/157. ومعنى يفضي: أي يصل إليها بالمباشرة والمجامعة كما في قوله تعالى: " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " سورة النساء الآية 21.
ومن أدلة التحريم أيضاً حديث أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال والنساء قعود فقال: " لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها " فأرم القوم " أي سكتوا " فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليفعلن! وإنهم ليفعلون!! قال: " فلا تفعلوا فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون " رواه الإمام أحمد 6/457 وهو مخرج في آداب الزفاف للألباني ص 144. وفي رواية لأبي داود: " هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه، وألقى عليه ستره، واستتر بستر الله؟ قالوا: نعم، قال: ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلت كذا، فعلت كذا، فسكتوا، ثم أقبل على النساء، فقال: هل منكن من تحدث؟ فسكتن، فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله إنهم ليحدثون، وإنهن ليحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل ذلك؟ إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه " سنن أبى داود 2/627 وهو في صحيح الجامع 7037.
وأما الأمر الثاني، وهو تسريب الخلافات الزوجية خارج محيط البيت، فإنه في كثير من الأحيان يزيد المشكلة تعقيداً، وتدخل الأطراف الخارجية في الخلافات الزوجية يؤدي إلى مزيد من الجفاء في الغالب، ويُصبح الحل بالمراسلة بين اثنين هما أقرب الناس لبعضهما، فلا يلجأ إليه إلا عند تعذر الإصلاح المباشر المشترك وعند ذلك نفعل كما أمر الله: "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " سورة النساء الآية 35.
والأمر الثالث: وهو الإضرار بالبيت أو أحد أفراده - بنشر خصوصياته - وهذا لا يجوز لأنه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار " رواه الإمام أحمد 1/313 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 250. ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: "ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما " التحريم الآية10، فقد نقل ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما يلي: " فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت أهل المدينة ممن يعمل السوء " تفسير ابن كثير 8/198. أي ليأتوا فيعملوا بهم الفاحشة.
الأخلاق في البيت(13/373)
نصيحة 21: إشاعة خلق الرفق في البيت:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله - عز وجل - بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " رواه الإمام أحمد في المسند 6/71 وهو في صحيح الجامع 303 وفي رواية أخرى: " إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق " رواه ابن أبى الدنيا وغيره وهو في صحيح الجامع رقم 1704. أي صار بعضهم يرفق ببعض، وهذا من أسباب السعادة في البيت، فالرفق نافع جداً بين الزوجين، ومع الأولاد، ويأتي بنتائج لا يأتي بها العنف كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه " رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب رقم 2593.(13/374)
نصيحة 22: معاونة أهل البيت في عمل البيت
كثير من الرجال يأنفون من العمل البيتي، وبعضهم يعتقد أن مما ينقص من قدره ومنزلته أن يخوض مع أهل البيت في مهنتهم.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان " يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم " رواه الإمام أحمد في المسند 6/121 وهو في صحيح الجامع 4927.
قالت ذلك زوجته عائشة رضي الله عنها لما سُئلت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته فأجابت بما شاهدته بنفسها وفي رواية: كان بشراً من البشر يفلي " يُنقي " ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. رواه الإمام أحمد في المسند 6/256 وهو في السلسلة الصحيحة 671. وسُئلت رضي الله عنها أيضاً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته، قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري، الفتح 2/162
فإذا فعلنا ذلك نحن اليوم نكون قد حققنا عدة مصالح:
اقتدينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ساعدنا أهلينا.
شعرنا بالتواضع وعدم الكبر.
وبعض الرجال يطالب زوجته بالطعام فوراً، والقدر فوق النار، والولد يصرخ يريد الرضاع، فلا هو يمسك الولد، ولا هو ينتظر الطعام قليلاً، فلتكن هذه الأحاديث تذكرة وعبرة.(13/375)
نصيحة 23: الملاطفة والممازحة لأهل البيت
ملاطفة الزوجة والأولاد من الأسباب المؤدية إلى إشاعة أجواء السعادة والألفة في البيت، ولذلك نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم جابراً أن يتزوج بكراً، وحثه بقوله: " فهلا بكراً تُلاعبها وتُلاعبك وتضاحكها وتضاحكك " الحديث في عدة مواضع في الصحيحين ومنها البخاري مع الفتح 9/121 وقال صلى الله عليه وسلم: " كل شيء ليس فيه ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع، ملاعبة الرجل امرأته.. " رواه النسائي في عشرة النساء ص 87 وهو في صحيح الجامع. وكان صلى الله عليه وسلم يلاطف زوجته عائشة وهو يغتسل معها، كما قالت رضي الله عنها: " كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي، قالت: وهما جنبان " مسلم بشرح النووي 4/6.
وأما ملاطفته صلى الله عليه وسلم للصبيان فأشهر أن تذكر، وكان كثيراً ما يلاطف الحسن والحسين كما تقدم، ولعل هذا من الأسباب التي تجعل الصبيان يفرحون بمقدمه صلى الله عليه وسلم من السفر فيُهرعون لاستقباله كما جاء في الحديث الصحيح: " كان إذا قدم من سفر تُلقي بصبيان أهل بيته " صحيح مسلم 4/1885-2772 وانظر الشرح في تحفة الأحوذي 8/56 وكان صلى الله عليه وسلم يضمهم إليه كما قال عبد الله بن جعفر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلقي بنا، فتُلقي بي وبالحسن أو بالحسين، قال: فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى دخلنا المدينة " صحيح مسلم 4/1885-2772، وانظر الشرح في تحفة الأحوذي 8/56.
قارن بين هذا وبين حال بعض البيوت الكئيبة لا فيها مزاح بالحق، وملاطفة ولا رحمة. ومن ظن أن تقبيل الأولاد يتنافى مع هيبة الأب فليقرأ هذا الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " من لا يرحم لا يُرحم ".(13/376)
نصيحة 24: مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت:
لا يخلو فرد من الأفراد في البيت من خلق غير سوي كالكذب أو الغيبة والنميمة ونحوها، ولابد من مقاومة هذه الأخلاق الرديئة.
وبعض الناس يظن أن العقوبة البدينة هي العلاج الوحيد في مثل هذه الحالات، وفيما يلي حديث صحيح تربوي في هذا الموضوع، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة " انظر مسند الإمام أحمد 6/152 ونص الحديث في صحيح الجامع رقم 4675.
ويتبين من الحديث أن الأعراض والهجر بترك الكلام والالتفات من العقوبات البليغة في مثل هذا الحال، وربما كان أبلغ أثراً من العقاب البدني، فليتأمله المربون في البيوت.(13/377)
نصيحة 25: (علقوا السوط حيث يراه أهل البيت) أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/332 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1446.
التلويح بالعقوبة من وسائل التأديب الراقية، ولذلك جاء بيان السبب من تعليق السوط أو العصا في البيت، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آدب لهم " أخرجه الطبراني 10/344-345 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1447.
ورؤية أداة العقاب معلقة يجعل أصحاب النوايا السيئة يرتدعون عن ملابسة الرذائل خوفاً أن ينالهم منه نائل، ويكون باعثاً لهم على التأدب والتخلق بالأخلاق الفاضلة، قال ابن الأنباري: " لم يرد به الضرب به لأنه لم يأمر بذلك أحداً، وإنما أراد لا ترفع أدبك عنهم". انظر فيض القدير للمناوي 4/325.
والضرب ليس هو الأصل أبداً، ولا يلجأ إليه إلا عند استنفاد الوسائل الأخرى للتأديب، أو الحمل على الطاعات الواجبة، كمل قوله تعالى: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرهن في المضاجع واضربوهن " النساء الآية 34. على الترتيب ومثل حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر " سنن أبي داود 1/334 وانظر إرواء الغليل 1/266.
أما استعمال الضرب دون الحاجة فإنه اعتداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصح امرأة أن لا تتزوج من رجل لأنه لا يضع العصا عن عاتقه أي ضراب للنساء، أما من يرى عدم استخدام الضرب مطلقاً تقليداً لبعض نظريات الكفار في التربية، فرأيه خاطئ يخالف النصوص الشرعية.
المنكرات في البيت(13/378)
نصيحة 26: الحذر من دخول الأقارب غير المحارم على المرأة في البيت عند غياب زوجها.(13/379)
نصيحة 27: فصل النساء عن الرجال في الزيارات العائلية.(13/380)
نصيحة 28: الانتباه لخطورة السائقين والخادمات في البيوت.(13/381)
نصيحة 29: اخرجوا المخنثين من بيوتكم.(13/382)
نصيحة 30: احذر أخطار الشاشة.(13/383)
نصيحة 31: الحذر من شر الهاتف.(13/384)
نصيحة 32: يجب إزالة كل ما فيه رمز لأديان الكفار الباطلة أو معبوداتهم وآلهتهم.(13/385)
نصيحة 33: إزالة صور ذوات الأرواح.(13/386)
نصيحة 34: امنعوا التدخين في بيوتكم.(13/387)
نصيحة 35: إياك واقتناء الكلاب في البيوت.(13/388)
نصيحة 36: الابتعاد عن تزويق البيوت.
البيت من الداخل والخارج(13/389)
نصيحة 37: حسن اختيار موقع البيت وتصميمه: لا شك أن المسلم الحق يراعي في اختيار بيته وتصميمه أمراً لا يراعيها غيره.
فمن جهة الموقع مثلاً:
أن يكون البيت قريباً من مسجد وفي هذا فوائد عظيمة لا تخفى، فالنداء يذكر ويوقظ للصلاة، والقرب يمكن الرجل من إدراك الجماعة، والنساء من سماع التلاوة والذكر من مكبر المسجد، والصغار من إتيان حلقة تحفيظ القرآن وهكذا..
أن لا يكون في عمارة فيها فساق أو مجمعات سكنية فيها كفار يتوسطها مسبح مختلط ونحو ذلك.
أن لا يكشف ولا يُكشف، ولو حصل يستعان بالسواتر وتعلية الجدر.
ومن جهة التصميم مثلاً:
أن يراعى فيه فصل الرجال عن النساء من الزوار الأجانب من ناحية المدخل، وصالات الجلوس، وإن لم يحصل فيستعين بالستائر والحواجز.
ستر الشبابيك: بحيث لا يظهر من في الغرف للجار، أو لرجل الشارع، وخصوصاً في الليل عندما تضاء الأنوار.
أن لا تكون المراحيض باتجاه القبلة عند استخدامها.
أن يختار المسكن الواسع والدار كثيرة المرافق، وذلك لأمور منها:
" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " حديث رواه الترمذي رقم 2819 وقال: هذا حديث حسن.
" ثلاثة من السعادة وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، ومن الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوف، فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك، والدار قليلة المرافق " حديث رواه الحاكم 3/262 وهو في صحيح الجامع برقم 3056.
الحرص على الأمور الصحية كالتهوية ودخول الشمس، وهذه وغيرها مقيدة بالقدرة المادية والإمكانات المتاحة.(13/390)
نصيحة 38: اختيار الجار قبل الدار
وهذه مسألة تحتاج إلى إفراد لأهميتها.
فالجار في عصرنا له مزيد من التأثير على جاره، بفعل تقارب المساكن، وتجمع الناس في البنايات والشقق، والمجمعات السكنية.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع من السعادة وذكر منها: الجار الصالح، وأخبر عن أربع من الشقاء وذكر منها: الجار السوء رواه أبو نعيم في الحلية 8/388 وهو في صحيح الجامع 887. ولخطر هذا الأخير كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه في دعائه فيقول: " اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة " أي الذي يجاورك في مكان ثابت " فإن جار البادية يتحول " رواه الحاكم 1/532 وهو في صحيح الجامع 1290.
وأمر المسلمين أن يتعوذوا من ذلك فقال: " تعوّذوا بالله من جار السوء في دار المقام، فإن الجار البادي يتحول عنك " رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 117 واللفظ في صحيح الجامع 2967.
ويضيق المجال للحديث عن أثر جار السوء على الزوجين والأولاد، وأنواع الإيذاء التي تصدر عنه، ومنغصات العيش بجانبه، ولكن في تطبيق الأحاديث السابقة على الواقع كفاية للمعتبر، ولعل من الحلول العلمية ما ينفذه بعض الطيبين من استئجار السكن المتجاور لعائلاتهم، لحل مشكلة الجيرة ولو على حساب بعض الماديات، فإن الجيرة الصالحة لا تقدر بمال.(13/391)
نصيحة 39: الاهتمام بالإصلاحات اللازمة وتوفير وسائل الراحة
من نعم الله علينا في هذا الزمان ما وهبنا من وسائل الراحة التي تسهل أمور المعيشة في هذه الدنيا، وتوفر الأوقات كالمكيف والثلاجة والغسالة.. إلخ، فيكون من الحكمة توفيرها في البيت بالجودة التي يستطيعها صاحب البيت من غير إسراف ولا مشقة، ولابد من التفريق بين الأمور التحسينية المفيدة والكماليات الزائفة التي لا قيمة لها.
ومن الاهتمام بالبيت إصلاح ما فسد من مرافقه وأجهزته، وبعض الناس يهملون، وتشتكي زوجاتهم من بيوت تعج فيها الحشرات، وتفيض فيها البلاعات، وتفوح القمامة بالروائح الكريهة، وتتناثر فيه قطع الأثاث المكسور والتالف.
ولا شك أن هذا مما يمنع حصول السعادة في البيت، ويسبب مشكلات زوجية وصحية، فالعاقل من عالج ذلك.(13/392)
نصيحة 40: الاعتناء بصحة أهل البيت وإجراءات السلامة
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات " رواه مسلم رقم 2192. " وكان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك " المرض " أمر بالحساء " المرقة المعروفة " فصنع، ثم أمرهم فحسوا، وكان بقول: " إنه ليرتق " يشد " فؤاد الحزين، ويسرو " يكشف " عن فؤاد السقيم، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها " رواه الترمذي رقم 2039 وهو في صحيح الجامع رقم 4646،
وعن بعض إجراءات الوقاية والسلامة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، فغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً " مثل العود ونحوها " وأطفئوا مصابيحكم " رواه البخاري الفتح 10/88-89. وفي رواية لمسلم: " أغلقوا أبوابكم، وخمروا آنيتكم، وأطفئوها سرجكم، وأوكئوا أسقيتكم " شدوا رباطها على أفواها " فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يكشف غطاء، ولا يحل وكاء، وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله " " أي تسحب فتيل السراج فيشتعل البيت " رواه الإمام أحمد في المسند 3/301 وهو في صحيح الجامع 1080.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون " رواه البخاري، الفتح 11/85.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/393)
علاج الهموم(13/394)
المقدمة(13/395)
استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة(13/396)
أولاً: التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح(13/397)
ثانياً: النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة، إذا أصابته(13/398)
غموم الدنيا وهمومها(13/399)
ثالثاً: معرفة حقيقة الدنيا(13/400)
رابعاً: ابتغاء الأسوة بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلاً وقدوة(13/401)
خامساً: أن يجعل العبد الآخرة همه(13/402)
سادساً: علاج مفيد ومدهش وهو ذكر الموت(13/403)
سابعاً: دعاء الله تعالى(13/404)
ثامناً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(13/405)
تاسعاً: التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه(13/406)
عاشراً: ومما يدفع الهم والقلق الحرص على ما ينفع واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي(13/407)
الحادي عشر: ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله(13/408)
الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة.(13/409)
الثالث عشر: ومما يفرج الهم أيضا الجهاد في سبيل الله(13/410)
الرابع عشر: التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة(13/411)
الخامس عشر: الانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة(13/412)
السادس عشر: النظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره(13/413)
السابع عشر: معرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأنّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمّ(13/414)
والغمّ(13/415)
الثامن عشر: ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات(13/416)
التاسع عشر: التوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات(13/417)
العشرين: ومن العلاجات أيضا الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم(13/418)
الحادي والعشرون: أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً، وأن بعد الضيق فرجاً(13/419)
الثاني والعشرون: ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة
وقد لخص ابن القيم هذه الأدوية والعلاجات في خمسة عشر نوعاً من الدواء يذهب الله بها الهم والحزن وهي:(13/420)
تذكرة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد..
فإن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار اللأواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم " لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين"، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاماً " وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في كبد ". فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال.
والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم.
والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين: قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم. من فوائد ابن القيم.
والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات.
فمن الهموم هموم سامية، ذات دلالات طيبة، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون فيها إلى جواب وخصوصا إذا استعصت المسألة واستغلقت، وكذلك همّ إمام المسلمين بمشكلات رعيته وهذا مما أقلق العمرين وغيرهما فكان الأول يجهّز الجيش في الصلاة وهو معذور في ذلك ويحمل همّ الدواب أن تعثر بأرض العراق، والثاني كان يعبّر عما يعانيه بقوله: إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحقّ غيره. سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص: 37
وكلما كان القرار أكثر تعلقاً بمصير المسلمين كان الهمّ أعظم ولذلك لما أوكل إلى عبد الرحمن بن عوف اختيار خليفة المسلمين بعد عمر لم يكتحل بنوم ليشاور المسلمين حتى العجائز البخاري الفتح 7207.
ومن الهموم الشريفة همّ الداعية في نشر الدين وحمل الرسالة والأخذ بيد المدعو إلى طريق الهداية، وهموم العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهم المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض..
ومن الهموم ما يكون ناشئاً عن المعاصي، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دماً حراماً، أو هم الزانية بحملها.
ومن الغموم ما يكون بسبب ظلم الآخرين كظلم الأقرباء كما قال الشاعر:
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وكذلك الغموم الحاصلة بسبب مصائب الدنيا، كالأمراض المزمنة والخطيرة، وعقوق الأبناء وتسلط الزوجة، واعوجاج الزوج.
ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل وما يخبئه الزمان كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلفه لهم.
وهكذا تتنوع الغموم والهموم، وفيما يلي شيء من البيان والتفصيل:
الهم الذي يعتري الداعية أثناء دعوته لقومه، وقد نال منه الأنبياء النصيب الأوفى، فهذه عائشة رضى الله عنها تحدث ابن أختها عروة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَ لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا رواه البخاري الفتح 3231
وكذلك أصابه الكرب صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه في مسراه فروى مسلم رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ.. صحيح مسلم، ط. عبد الباقي، رقم 172
ومن الهموم هم العبادات، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهمه أمر إعلام الناس بالصلاة: فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا فَقِيلَ لَهُ انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ شَبُّورُ الْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ قَالَ فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ فَقَالَ هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُرِيَ الأَذَانَ فِي مَنَامِهِ قَالَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الأَذَانَ … " رواه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة باب بدء الأذان
ومنها همّ الصادق بتكذيبه، كما وقع للصحابي الجليل زيد بن الأرقم رضي الله عنه لما سمع رأس المنافقين يقول لأَصْحَابِهِ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ (يعني بالأعز نفسه، ويقصد بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) ، قَالَ زَيْدٌ: فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَفَ وَجَحَدَ قَالَ فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي قَالَ فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَكَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ قَالَ فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ مَا قَالَ لِي شَيْئًا إِلا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَقَالَ أَبْشِرْ ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لأَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن ط. شاكر رقم 3313.
وفي رواية مسلم للقصة قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ فَقَالَ كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) . صحيح مسلم رقم 2772
ومنها هم البريء بسبب التهمة الباطلة، وقد نالت زوجة رسولنا الكريم عائشة رضى الله عنها من هذا الهم نصيبا وافرا فعندما رماها المنافقون في غزوة المريسيع بما رموها به من الفاحشة، وكانت مريضة، علمت بالخبر من إحدى نساء بيتها فازداد مرضها، وركبها الهم، قَالَتْ فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي.. ثم قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ قَالَتْ فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي قَالَتْ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلاً إِلا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) قَالَتْ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ فَقَالَتْ أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ قَالَتْ فَقُلْتُ لا وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسِبُوهُ) الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا. رواه البخاري الفتح رقم 2661
وكذلك قصة المرأة التي اتُّهمت ظلماً وروت قصتها عَائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ قَالَتْ خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ البخاري الفتح 3835
ومنها الهم بما قد يحصل للزوجة والذرية بعد الموت
عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلا الصَّابِرُونَ قَالَ ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفاً رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، سنن الترمذى رقم 3682 وحسنه في مشكاة المصابيح رقم 6121
عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلا الصَّابِرُونَ قَالَ ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ فَسَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَكَانَ قَدْ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ يُقَالُ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفاً رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، سنن الترمذى رقم 3682 وحسنه في مشكاة المصابيح رقم 6121
ومنها الهمّ بسبب الدَّيْن ومن أمثلة ذلك ما وقع للزبير رضي الله عنه كما روى قصته ولده عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ وَإِنِّي لا أُرَانِي إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا فَقَالَ يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلايَ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاكَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاّ قُلْتُ يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيهِ.. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.. (واستبعد بعض أصحاب الزبير ضي الله عنه إمكان قضاء الدّين من هوله وكثرته ولكن بارك الله في أرض كانت للزبير بركة عظيمة ومدهشة فقسّمت وبيعت وسُدّد الدّين وبقيت بقية) فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا قَالَ لا وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ قَالَ فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ قَالَ فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ البخاري: الفتح رقم 3129
ومنها الهم للرؤيا يراها المرء، وقد وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ البخارى: الفتح رقم 4375
ووقع لابن عمر رضي الله عنهما همّ بسبب رؤيا رآها وقد حدثنا عن ذلك فقَالَ كُنْتُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لِي مَبِيتٌ إِلا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ يَأْتُونَهُ فَيَقُصُّونَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا قَالَ فَقُلْتُ مَا لِي لا أَرَى شَيْئًا فَرَأَيْتُ كَأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ فَيُرْمَى بِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ فِي رَكِيٍّ فَأُخِذْتُ فَلَمَّا دَنَا إِلَى الْبِئْرِ قَالَ رَجُلٌ خُذُوا بِهِ ذَاتَ الْيَمِينِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ هَمَّتْنِي رُؤْيَايَ وَأَشْفَقْتُ مِنْهَا فَسَأَلْتُ حَفْصَةَ عَنْهَا فَقَالَتْ نِعْمَ مَا رَأَيْتَ فَقُلْتُ لَهَا سَلِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكُنْتُ إِذَا نِمْتُ لَمْ أَقُمْ حَتَّى أُصْبِحَ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي اللَّيْلَ رواه الدارمي، كتاب الصلاة، باب النوم في المسجد
وروى البخاري رحمه الله تعالى القصة عن ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ إِنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُصُّونَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَنَا غُلامٌ حَدِيثُ السِّنِّ وَبَيْتِي الْمَسْجِدُ قَبْلَ أَنْ أَنْكِحَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَرَأَيْتَ مِثْلَ مَا يَرَى هَؤُلاءِ فَلَمَّا اضْطَجَعْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيَّ خَيْراً فَأَرِنِي رُؤْيَا فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَنِي مَلَكَانِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ يُقْبِلانِ بِي إِلَى جَهَنَّمَ وَأَنَا بَيْنَهُمَا أَدْعُو اللَّهَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهَنَّمَ ثُمَّ أُرَانِي لَقِيَنِي مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ لَنْ تُرَاعَ نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ لَوْ كُنْتَ تُكْثِرُ الصَّلاةَ فَانْطَلَقُوا بِي حَتَّى وَقَفُوا بِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ لَهُ قُرُونٌ كَقَرْنِ الْبِئْرِ بَيْنَ كُلِّ قَرْنَيْنِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِقْمَعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ وَأَرَى فِيهَا رِجَالاً مُعَلَّقِينَ بِالسَّلاسِلِ رُؤوسُهُمْ أَسْفَلَهُمْ عَرَفْتُ فِيهَا رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ فَانْصَرَفُوا بِي عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَزَلْ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ اصَّلاةَ البخاري: الفتح رقم 7029
وفي الشريعة علاجات للهمّ الحاصل بسبب المنامات والأحلام المقلقة. ومنها التفل عن الشمال ثلاثاً والاستعاذة بالله من الشيطان ثلاثاً والاستعاذة بالله من شرّ ما رأى ثلاثاً وأن يغير الجنب الذي كان نائماً عليه أو يقوم يصلي ولا يحدّث برؤياه تلك أحداً من الناس
وبعد هذا العرض لطائفة من أنواع هموم الدنيا فقد آن الأوان للحديث عن العلاج.
ولا شك أن العقيدة تؤثر في المعالجة، فترى كثيراً من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة وكم ملئت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء، فضلاً عن الضعفاء، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون.
أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ".(13/421)
فهلم إلى استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة:(13/422)
أولاً: التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} النحل (97)
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان. فيتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتها تلك المسرات.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد، فيحصّلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة، والتجارب المفيدة، وقوة النفس، وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى في الحديث الصحيح بقوله: (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ) رواه مسلم في صحيحه رقم 2999
وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء، ومن ذلك:(13/423)
ثانياً: النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة، إذا أصابته(13/424)
غموم الدنيا وهمومها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) رواه البخاري الفتح 5642
وفي رواية مسلم: (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) صحيح مسلم رقم 2573
فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمّ لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلم المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف ولذلك كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء.
وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصاً إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه عَبْد اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ رواه أحمد رحمه الله المسند 4/87 والحاكم في المستدرك 1/349 وفي إسناده الحسن عن عبد الله بن مغفل والحسن مدلس وقد عنعن ولكن روى صالح بن أحمد ببن حنبل قال: قال أبي: سمع الحسن من أنس بن مالك ومن ابن مغفل - يعني عبد الله بن مغفل -: كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص: 45 باب ما يثبت للحسن البصري سماعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي رحمه الله: قال قائل: إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن: عن فلان، وإن كان مما قد ثبت لقيُّه فيه لفلان المعين لأن الحسن معروف بالتدليس ويدلّس عن الضعفاء فيبقى في النفس من ذلك.. السير 4/588
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه) رواه الترمذي السنن رقم 2396 وهو في صحيح الجامع رقم 308(13/425)
ثالثاً: معرفة حقيقة الدنيا
فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ رواه مسلم رقم 2956
وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ رواه البخاري: الفتح رقم 6512
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث: إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيّاً عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحاً بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ فَيَقُولُونَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَإِذَا قَالَ أَمَا أَتَاكُمْ قَالُوا ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطاً عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ فَيَقُولُونَ مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ المجتبى من سنن النسائي رقم 1810 وصححه الألباني في صحيح النسائي 1309
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهوّن عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغمّ ونكد الهمّ لأنه يعلم أنه أمر لا بدّ منه فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا.(13/426)
رابعاً: ابتغاء الأسوة بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلاً وقدوة
وهم أشد الناس بلاءً في الدنيا، والمرء يبتلى على قدر دينه، والله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن: رقم 2398 وهو في صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 1956(13/427)
خامساً: أن يجعل العبد الآخرة همه
لكي يجمع الله له شمله لما رواه أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ رواه الترمذي رقم 2389 وصححه الألباني في صحيح الجامع 6510
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الزخرف (36) . الفوائد ط. دار البيان ص: 159(13/428)
سادساً: علاج مفيد ومدهش وهو ذكر الموت
لقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه) رواه البزار عن أنس وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 1211 وصححه كذلك في إرواء الغليل رقم 682(13/429)
سابعاً: دعاء الله تعالى
وهذا نافع جداً ومنه ما هو وقاية ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه متضرعاً إليه بأن يعيذه من الهموم ويباعد بينه وبينها، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن حاله معه بقوله: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) رواه البخاري الفتح رقم 2893
وهذا الدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه والدفع أسهل من الرفع.
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ رواه مسلم رقم 2720.
فإذا وقع الهم وألمّ بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم عز وجل إن طُرق بابه وسُئل أعطى وأجاب.. يقول جلّ وعلا: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ".
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم والإتيان بعده بالفرج: الدعاء العظيم المشهور الذي حثّ النبي صلى الله عليه وسلم كلّ من سمعه أن يتعلّمه ويحفظه:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجا قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا رواه الإمام أحمد في المسند 1/391 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 198
هذا الحديث العظيم الذي يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله وأنه لا غنى له عنه وليس له سيد سواه والتزام بعبوديته وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه، وأن الله يصرّفه ويتحكّم فيه كيف يشاء وإذعان لحكم الله ورضى بقضائه وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة ثم سؤال المطلوب ونشدان المرغوب
وقد ورد في السنّة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رواه البخاري، الفتح رقم 6346
وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) الترمذي رقم 3524 وحنه في صحيح الجامع 4653
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رواه أبو داود كتاب الصلاة: باب في الاستغفار، وهو في صحيح الجامع 2620
ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:.. دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ.. رواه أبوداود في كتاب الأدب رقم 5090.وحسنه في صحيح الجامع 3388 وفي صحيح سنن أبي داود رقم 4246.
فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له، وانقلب همه فرحاً وسروراً.(13/430)
ثامناً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وهي من أعظم ما يفرج الله به الهموم:
روى الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي فَقَالَ مَا شِئْتَ قَالَ قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قَالَ قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. السنن رقم 2457/وحسنه الألباني في المشكاة 929(13/431)
تاسعاً: التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه
" فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير. وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه وأنصح للعبد لنفسه وأرحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر. له التصرف في عبده بما شاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات. وحمل كل حوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها. فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب، ولا اهتمام منه، لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه. فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرغ قلبه منها، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.
وأما من أبى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه دون حق ربه، خلاه وما اختاره وولاه ما تولى فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب، وكسف البال وسوء الحال، فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل، ولا راحة يفوز بها، ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه. فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد. الفوائد لابن القيم ص: 209
" ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب، الدافعة لقلقه، قال تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه.
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسرا، وترحه فرحا، وخوفه أمنا فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير. " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي(13/432)
عاشراً: ومما يدفع الهم والقلق الحرص على ما ينفع واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي
ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها والهم الذي يحدث بسببه الخوف من المستقبل، فيكون العبد ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فهو يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو لدفعه لأن الدعاء مقارن للعمل، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم 2664. فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة، ومشاهدة قضاء الله وقدره وجعل الأمور قسمين: قسماً يمكن للعبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه، أو دفعه أو تخفيفه فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. وقسماً لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي
والحديث المذكور يدلّ على السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته. فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك صلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي(13/433)
الحادي عشر: ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، قال الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".
وأعظم الأذكار لعلاج الهمّ العظيم الحاصل عند نزول الموت: لا إله إلا الله
وذلك لما حدّث به طلحة عمر رضي الله عنه فال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَلِمَةٌ لا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ وَأَشْرَقَ لَوْنُهُ فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهَا إِلا الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لأَعْلَمُهَا فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَمَا هِيَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَعْظَمَ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ طَلْحَةُ هِيَ وَاللَّهِ هِيَ رواه أحمد 1/161(13/434)
الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة.
قال الله تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة " وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى رواه أبو داود كتاب الصلاة باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل وحسنه في صحيح الجامع رقم 4703(13/435)
الثالث عشر: ومما يفرج الهم أيضا الجهاد في سبيل الله
كما قال عليه الصلاة والسلام: عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ رواه أحمد عن أبي أمامة عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنهما 5/ 319 وصححه في صحيح الجامع 4063 وعزاه السيوطي للطبراني في الأوسط عن أبي أمامة.(13/436)
الرابع عشر: التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة
فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا. فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا تحصى ولا تعدّ وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة، بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم، هانت وطأتها، وخفت مؤنتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوة أجرها مرارة صبرها.
ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ رواه الترمذي في سننه رقم 2513 وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وهو في صحيح الجامع 1507
فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رأى نفسه يفوق قطعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيه غيره ممن هو دونه فيها.
وكلما طال تأمل العبد في نِعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيراً كثيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي(13/437)
الخامس عشر: الانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة
فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه. وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحت نفسه، وازداد نشاطه، وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره. ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه، ويعمل الخير الذي يعمله، إن كان عبادة فهو عبادة وإن كان شغله دنيوياً أو عادة دنيوية أصحبها النية الصالحة، وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار، فحلت به الأمراض المتنوعة فصار دواءه الناجح: نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته.
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه؛ فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع والله أعلم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي(13/438)
السادس عشر: النظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ رواه مسلم 1469.
ومن فوائد هذا الحديث: زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة وحصول الراحة بين الطرفين، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بل عكس القضية فلحظ المساوىء، وعمي عن المحاسن، فلا بد أن يقلق، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويخلّ بكثير من الحقوق التي على كل منهما المحافظة عليها. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي(13/439)
السابع عشر: معرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأنّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمّ(13/440)
والغمّ
فالعاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جداً، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهباً للهموم والأكدار ولا فرق في هذا بين البر والفاجر، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر، والنصيب النافع العاجل والآجل. وينبغي أيضا إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية. وبين ما أصابه من مكروه فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم، واضمحلال ما أصابه من المكاره وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية وبذلك يزول همه وخوفه، ويقدر أعم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت، ويسعى في دفع ما لم يقع منها وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.
جعل الأمور النافعة نصب عينيك واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي(13/441)
الثامن عشر: ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات
وذلك بحسمها في الحال والتفرغ للمستقبل، لأن الأعمال إذا لم تُحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة، فتشتد وطأتها، فإذا حسمت كل شيء في وقته تفّرغت للأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل.
وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم، فالأهم وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة، فما ندم من استشار، وادرس ما تريد فعله درساً دقيقاً، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين الوسائل المفيدة للحياة السعيدة: ابن سعدي، بتصرف.(13/442)
التاسع عشر: التوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات
فإن الإنسان إذا استحضر في نفسه فقد عزيز أو مرض قريب أو وقوعاً في دين أو قهر عدو أو أي احتمال سيئ مما لم يحدث بعد - مع استعاذته بالله من ذلك ورجاء السلامة - فإنه لو وقع له شيء من ذلك حقيقة سيكون أهون عليه وأخف وطأة لتوقعه المسبق.
ومما ينبغي التنبّه له أن كثيراً من الناس من ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة. لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون، ويتكدر الصفاء، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار، وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم فالحازم يوطن نفسه على الأمور الصغيرة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين فعند ذلك يسهل عليه الصغير، كما سهل عليه الكبير ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحاً.(13/443)
العشرين: ومن العلاجات أيضا الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم
فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب. وقد شكى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يلقون من تعذيب ...
فهذا خَبَّاب بْن الأَرَتِّ رضي الله عنه يقول: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ البخاري الفتح 3612
وكذلك شكى التابعون إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الزبير بن عدي: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه البخاري الفتح رقم 7068
فيسمع المسلم من أهل العلم والقدوة ما يسليه ويخفف عنه آلام غمومه وهمومه.
ومن هذا الباب أيضا: اللجوء إلى إخوان الصدق والأقرباء العقلاء والأزواج والزوجات الأوفياء والوفيات فهذه فاطمة رضى الله عنها لمّا أصابها الهمّ شكت إلى زوجها عليٍّ رضي الله عنه كما روى القصة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا سِتْراً فَلَمْ يَدْخُلْ قَالَ وَقَلَّمَا كَانَ يَدْخُلُ إِلا بَدَأَ بِهَا فَجَاءَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَرَآهَا مُهْتَمَّةً فَقَالَ مَا لَكِ قَالَتْ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ فَلَمْ يَدْخُلْ فَأَتَاهُ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّكَ جِئْتَهَا فَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا قَالَ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا وَمَا أَنَا وَالرَّقْمَ (أي النقش والرسم) فَذَهَبَ إِلَى فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ قُلْ لَهَا فَلْتُرْسِلْ بِهِ إِلَى بَنِي فُلانٍ [وَكَانَ سِتْراً مَوْشِيّاً] (أي مزخرفاً منقوشاً) رواه أبو داود كتاب اللباس باب في اتخاذ الستور وهو في صحيح أبي داود 3496.(13/444)
الحادي والعشرون: أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسراً، وأن بعد الضيق فرجاً
فليحسن الظن بالله فإنه جاعل له فرجاً ومخرجاً.
وكلما استحكم الضيق وازدادت الكربة قرب الفرج والمخرج.
وقد قال الله تعالى في سورة الشرح (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً) فذكر عسراً واحداً ويسرين فالعسر المقترن بأل في الآية الأولى هو العسر في الآية الثانية أما اليسر في الآية الثانية فهو يسر آخر غير الذي في الآية الأولى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً رواه أحمد 1/293 السلسلة الصحيحة 2382 وصححه الألباني في صحيح الجامع برواية الخرائطي عن أنس بلفظ رقم 6806(13/445)
الثاني والعشرون: ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة
فقد روى البخاري رحمه الله عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُولُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ الفتح رقم 5689
وروى رحمه الله أيضا عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ الفتح 5147
والتلبينة: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل وسميت تلبينة لشبهها باللبن، وهي تطبخ من الشعير مطحوناً.
ومعنى مُجِمَّة: أي تريح وتنشط وتزيل الهمّ
وروى أحمد رحمه الله عنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّ فُلانًا وَجِعٌ لا يَطْعَمُ الطَّعَامَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إِيَّاهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا يَغْسِلُ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ مِنَ الْوَسَخِ رواه أحمد 6/152.
ورواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعَكُ أَمَرَ بِالْحِسَاءِ فَصُنِعَ ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ لَيَرْتُقُ (وفي رواية أحمد وابن ماجة: ليرتو) فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إِحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ: السنن رقم 2039
ويرتو أو يرتق: أي يشدّ ويقوي، ويسرو: أي يكشف
وهذا الأمر - وإن استغربه بعض الناس - هو حق وصدق ما دام قد ثبت من طريق الوحي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، والله خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها وبالتالي فإن حساء الشعير المذكور هو من الأغذية المفرحة، والله اعلم. يُراجع زاد المعاد لابن القيم رحمه الله 5/120.
أما عن طريقة طبخه لمريض الجسد ومحزون القلب فيقول ابن حجر رحمه الله: ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحاً وبالحزين ماؤه إذا طبخ مطحوناً والله أعلم انظر فتح الباري 147.
وقد لخص ابن القيم هذه الأدوية والعلاجات في خمسة عشر نوعاً من الدواء يذهب الله بها الهم والحزن وهي:
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث:التوحيد العلمي الاعتقادي (وهو توحيد الأسماء والصفات) .
الرابع: تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: الحي القيوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيق التوكل عليه، والتفويض إليه، والاعتراف له بأن ناصيته في يده، يصرفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن، ويتعزى به عن كل مصيبة، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.
نسأل الله تعالى أن يعافينا من الهموم وأن يفرج عنا الكروب ويزيل عنا الغموم إنه هو السميع المجيب، وهو الحي القيوم.(13/446)
تذكرة
وبعد ذكر هذه الطائفة من أنواع هموم الدنيا وعلاجها يجدر التذكير بأن هموم الآخرة أعظم وغمومها وكروبها أشدّ، ومن أمثلة ذلك ما يُصيب الناس في أرض المحشر فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ.. أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ.. رواه البخاري الفتح 4712
ولا علاج لغموم وكربات ذلك اليوم إلا بالإقبال على الله في هذا اليوم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه خير قوم والحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.(13/447)
أريد أن أتوب ولكن؟(13/448)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الله أمر المؤمنين جميعاً بالتوبة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور /31.
وقسم العباد إلى تائب وظالم، وليس ثم قسم ثالث البتة، فقال عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات /11 وهذا أوان بعد فيه كثير من الناس عن دين الله فعمت المعاصي وانتشر الفساد، حتى ما بقي أحد لم يتلوث بشيء من الخبائث إلا من عصم الله.
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فانبعث الكثيرون من غفلتهم ورقادهم، وأحسوا بالتقصير في حق الله، وندموا على التفريط والعصيان، فتوجهت ركائبهم ميممة شطر منار التوبة، وآخرون سئموا حياة الشقاء وضنك العيش، وهاهم يتلمسون طريقهم للخروج من الظلمات إلى النور.
لكن تعترض طريق ثلة من هذا الموكب عوائق يظنونها تحول بينهم وبين التوبة، منها ما هو في النفس، ومنها ما هو في الواقع المحيط.
ولأجل ذلك كتبت هذه الرسالة آملاً أن يكون فيها توضيح للبس وكشف لشبهة أو بيان لحكم ودحر للشيطان.
وتحتوي هذه الرسالة على مقدمة عن خطورة الاستهانة بالذنوب فشرحاً لشروط التوبة، ثم علاجات نفسية، وفتاوى للتائبين مدعمة بالأدلة من القرآن الكريم والسنة، وكلام أهل العلم وخاتمة.
والله أسأل أن ينفعني وأخواني المسلمين بهذه الكلمات، وحسبي منهم دعوة صالحة أو نصيحة صادقة، والله يتوب علينا أجمعين.(13/449)
مقدمة في خطر الاستهانة بالذنوب
اعلم رحمني الله وإياك أن الله عز وجل أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} التحريم /8
ومنحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال صلى الله عليه وسلم: (إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات - محتمل أن تكون الساعة الفلكية المعروفة، أو هي المدة اليسيرة من الليل أو النهار، من لسان العرب - عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209. ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل.
ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر، فيقول مثلاً: وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية. الأجانب هم ما سوى المحارم.
ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات، حتى أن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها؟ أهي كبيرة أم صغيرة؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري رحمه الله:
- عن أنس رضي الله عنه قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) والموبقات هي المهلكات.
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - أي بيده - فذبه عنه "
وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه (وفي رواية) إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) رواه أحمد، صحيح الجامع 2686-2687.
وقد ذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها، ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
ونقول لمن هذه حاله: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت.
وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم.
إنها لمن يؤمن بقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الحجر /49، كما يؤمن بقوله: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} الحجر /50.(13/450)
شروط التوبة ومكملاتها
كلمة التوبة كلمة عظيمة، لها مدلولات عميقة، لا كما يظنها الكثيرون، ألفاظ باللسان ثم الاستمرار على الذنب، وتأمل قوله تعالى: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) هود /3 تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار.
ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث، وهذا ذكر بعضها:
الأول: الإقلاع عن الذنب فوراً.
الثاني: الندم على ما فات.
الثالث: العزم على عدم العودة.
الرابع: إرجاع حقوق من ظلمهم، أو طلب البراءة منهم.
وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح، نسوقها مع بعض الأمثلة:
الأول: أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر، كعدم القدرة عليه أو على معاودته، أو خوف كلام الناس مثلاً.
فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس، أو ربما طرد من وظيفته.
ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية، أو أنها تضعف جسمه وذاكرته.
ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً.
ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه.
وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه، بل لابد لمثل هذا من الندم والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف على فواتها ولمثل هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة) رواه أحمد وابن ماجه، صحيح الجامع 6802.
والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) رواه أحمد والترمذي وصححه صحيح الترغيب والترهيب 1/9.
الثاني: أن يستشعر قبح الذنب وضرره.
وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل.
وقد ساق ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها:
حرمان العلم - والوحشة في القلب - وتعسير الأمور - ووهن البدن - وحرمان الطاعة - ومحق البركة - وقلة التوفيق - وضيق الصدر - وتولد السيئات - واعتياد الذنوب - وهوان المذنب على الله - وهوانه على الناس - ولعنة البهائم له - ولباس الذل - والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة - ومنع إجابة الدعاء - والفساد في البر والبحر- وانعدام الغيرة - وذهاب الحياء - وزوال النعم - ونزول النقم - والرعب في قلب العاصي - والوقوع في أسر الشيطان - وسوء الخاتمة - وعذاب الآخرة.
وهذه المعرفة لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها:
أن يعتقد أن وزنها أخف.
لأن النفس تميل إليها أكثر، والشهوة فيها أقوى.
لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز، أسبابها حاضرة متوافرة.
لأن قرناءه وخلطاؤه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم.
لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي، فأنشد أبو نواس:
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي
الثالث: أن يبادر العبد إلى التوبة، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته ذنب يحتاج إلى توبة.
الرابع: أن يخشى على توبته من النقص، ولا يجزم بأنها قد قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله.
الخامس: استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً، كإخراج الزكاة التي منعت في الماضي ولما فيها من حق الفقير كذلك.
السادس: أن يفارق موضع المعصية إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى.
السابع: أن يفارق من أعانه على المعصية وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه.
والله يقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الزخرف /67. وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم.
وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي.
الثامن: إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها.
ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات.
التاسع: أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء وأن يحرص على حلق الذكر ومجالس العلم ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي.
العاشر: أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب.
الحادي عشر: أن تكون التوبة قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها: والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله صلى الله عليه وسلم: (من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه) رواه أحمد والترمذي، صحيح الجامع 6132. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) رواه مسلم.(13/451)
توبة عظيمة
ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن بريدة رضي الله عنه: أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني فرده، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله إني زنيت فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: (أتعلمون بعقله بأساً؟ أتنكرون منه شيئاً؟) قالوا: ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً، فسأل عنه فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، قال: فجاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى، قال: (أما لا، فاذهبي حتى تلدي) ، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه) ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: (مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس "وهو الذي يأخذ الضرائب" لغفر له) رواه مسلم. ثم أمر بها فصلى عليها، ودفنت.
وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها! فقال: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل. رواه عبد الرزاق في مصنفه 7/325.(13/452)
التوبة تمحو ما قبلها
وقد يقول قائل: أريد أن أتوب ولكن من يضمن لي مغفرة الله إذا تبت وأنا راغب في سلوك طريق الاستقامة ولكن يداخلني شعور بالتردد ولو أني أعلم أن الله يغفر لي لتبت؟
فأقول له ما داخلك من المشاعر داخل نفوس أناس قبلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو تأملت في هاتين الروايتين بيقين لزال ما في نفسك إن شاء الله.
الأولى: روى الإمام مسلم رحمه الله قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها: " فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يديّ قال: مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط، قال (تشترط بماذا؟) قلت: أن يغفر لي. قال: (أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟) .
والثانية: وروى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: " إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الفرقان /68. ونزل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) .(13/453)
هل يغفر الله لي
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن ذنوبي كثيرة جداً ولم أترك نوعاً من الفواحش إلا واقترفته، ولا ذنباً تتخيله أو لا تتخيله إلا ارتكبته لدرجة أني لا أدري هل يمكن أن يغفر الله لي ما فعلته في تلك السنوات الطويلة.
وأقول لك أيها الأخ الكريم: هذه ليست مشكلة خاصة بل هي مشكلة كثير ممن يريدون التوبة وأذكر مثالاً عن شاب وجه سؤالاً مرة بأنه قد بدأ في عمل المعاصي من سن مبكرة وبلغ السابعة عشرة من عمره فقط وله سجل طويل من الفواحش كبيرها وصغيرها بأنواعها المختلفة مارسها مع أشخاص مختلفين صغاراً وكباراً حتى اعتدى على بنت صغيرة، وسرق عدة سرقات ثم يقول: تبت إلى الله عز وجل، أقوم وأتهجد بعض الليالي وأصوم الاثنين والخميس، وأقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر فهل لي من توبة؟
والمبدأ عندنا أهل الإسلام أن نرجع إلى الكتاب والسنة في طلب الأحكام والحلول والعلاجات، فلما عدنا إلى الكتاب وجدنا قول الله عز وجل: (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) الزمر الآيتان 53،54
فهذا الجواب الدقيق للمشكلة المذكورة وهو واضح لا يحتاج إلى بيان.
أما الإحساس بأن الذنوب أكثر من أن يغفرها الله فهو ناشيء عن عدم يقين العبد بسعة رحمة ربه أولاً.
ونقص في الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب ثانياً.
وضعف عمل مهم من أعمال القلوب هو الرجاء ثالثاً.
وعدم تقدير مفعول التوبة في محو الذنوب رابعاً.
ونجيب عن كل منها.
فأما الأول: فيكفي في تبيانه قول الله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف /56.
وأما الثاني: فيكفي فيه الحديث القدسي الصحيح: (قال تعالى من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً) رواه الطبراني في الكبير والحاكم، صحيح الجامع 4330. وذلك إذا لقي العبد ربه في الآخرة.
وأما الثالث: فيعالجه هذا الحديث القدسي العظيم: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي، صحيح الجامع 4338.
وأما الرابع: فيكفي فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجه، صحيح الجامع 3008.
وإلى كل من يستصعب أن يغفر الله له فواحشه المتكاثرة نسوق هذا الحديث:(13/454)
توبة قاتل المائة
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدّل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط , فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي حكماً - فقال: قيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة) متفق عليه. وفي رواية في الصحيح (فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها) وفي رواية في الصحيح (فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) .
نعم ومن يحول بينه وبين التوبة! فهل ترى الآن يا من تريد التوبة أن ذنوبك أعظم من هذا الرجل الذي تاب الله عليه، فلم اليأس؟
بل إن الأمر أيها الأخ المسلم أعظم من ذلك، تأمل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الفرقان /68 - 70.
ووقفة عند قوله: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفرقان /70 تبين لك فضل الله العظيم، قال العلماء التبديل هنا نوعان:
الأول: تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيماناً وبالزنا عفة وإحصاناً وبالكذب صدقاً وبالخيانة أمانة وهكذا.
والثاني: تبديل السيئات التي عملوها بحسنات يوم القيامة، وتأمل قوله تعالى: (يبدل الله سيئاتهم حسنات) ولم يقل مكان كل سيئة حسنة فقد يكون أقل أو مساوياً أو أكثر في العدد أو الكيفية، وذلك بحسب صدق التائب وكمال توبته، فهل ترى فضلاً أعظم من هذا الفضل؟ وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في الحديث الجميل:
عن عبد الرحمن بين جبير عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وفي طرق أخرى - " جاء شيخ هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدّعم على عصا حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة أي صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها، وفي رواية، إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم أي أهلكتهم فهل لذلك من توبة؟ قال: (فهل أسلمت) قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: (تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن) قال: وغدراتي وفجراتني، قال: (نعم) قال: الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى. قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيطة وهو ثقة، المجمع 1/36 وقال المنذري في الترغيب إسناده جيد قوي 4/113 وقال ابن حجر في الإصابة هو على شرط الصحيح 4/149.
وهنا قد يسأل تائب، فيقول: إني لما كنت ضالاً لا أصلي خارجاً عن ملة الإسلام قمت ببعض الأعمال الصالحة فهل تحسب لي بعد التوبة أو تكون ذهبت أدراج الرياح.
وإليك الجواب: عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتِاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير) رواه البخاري.
فهذه الذنوب تغفر، وهذه السيئات تبدل حسنات، وهذه الحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة، فماذا بقي!(13/455)
كيف أفعل إذا أذنبت
وقد تقول إذا وقعت في ذنب فكيف أتوب منه مباشرة وهل هناك فعل أقوم به بعد الذنب فوراً؟.
فالجواب: ما ينبغي أن يحصل بعد الإقلاع عملان.
الأول: عمل القلب بالندم والعزم على عدم العودة، وهذه تكون نتيجة الخوف من الله.
الثاني: عمل الجوارح بفعل الحسنات المختلفة ومنها صلاة التوبة وهذا نصها:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له) رواه أصحاب السنن، صحيح الترغيب والترهيب 1/284. ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران /135.
وقد ورد في روايات أخرى صحيحة صفات أخرى لركعتين تكفران الذنوب وهذا ملخصها:
- ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء (لأن الخطايا تخرج من الأعضاء المغسولة مع الماء أو مع آخر قطر الماء)
ومن إحسان الوضوء قول بسم الله قبله والأذكار بعده وهي: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين - سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وهذه أذكار ما بعد الوضوء لكل منها أجر عظيم.
- يقوم فيصلي ركعتين.
- لا يسهو فيهما.
- لا يحدث فيهما نفسه.
- يحسن فيهن الذكر والخشوع.
- ثم استغفر الله.
والنتيجة:
غفر له ما تقدم من ذنبه.
إلا وجبت له الجنة. صحيح الترغيب 1/ 94، 95
ثم الإكثار من الحسنات والطاعات، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، قال بعدها فعلمت لذلك أعمالاً أي صالحات لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع أي لباس من حديد يرتديه المقاتل ضيقة، قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض) رواه الطبراني في الكبير، صحيح الجامع 2192. فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح، ويلخص لك يا أخي ما تقدم هذه القصة المعبرة.
عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، ثم قال: (ردوه علي) ، فردوه عليه فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (114) سورة هود.
فقال معاذ - وفي رواية عمر - يا رسول الله أله وحده، أم للناس كافة؟ فقال: (بل للناس كافة) رواه مسلم.
أهل السوء يطاردونني
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن أهل السوء من أصحابي يطاردونني في كل مكان وما أن علموا بشيء من التغير عندي حتى شنوا عليّ حملة شعواء وأنا أشعر بالضعف فماذا أفعل؟!
ونقول لك اصبر فهذه سنة الله في ابتلاء المخلصين من عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين وليميز الله الخبيث من الطيب.
وما دمت وضعت قدميك على بداية الطريق فاثبت، وهؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض لكي يردوك على عقبيك فلا تطعهم، إنهم سيقولون لك في البداية هذا هوس لا يلبث أن يزول عنك، وهذه أزمة عارضة، والعجب أن بعضهم قال لصاحب له في بداية توبته عسى ما شر!!
والعجب أن إحداهن لما أغلق صاحبها الهاتف في وجهها لأنه تاب ولا يريد مزيداً من الآثام اتصلت به بعد فترة وقالت عسى أن يكون زال عنك الوسواس؟
والله يقول: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس) الناس /1-6.
فهل ربك أولى بالطاعة أم ندماء السوء؟!
وعليك أن تعلم أنهم سيطاردونك في كل مكان وسيسعون لردك إلى طريق الغواية بكل وسيلة ولقد حدثني بعضهم بعد توبته أنه كانت له قرينة سوء تأمر سائق سيارتها أن يمشي وراءه وهو في طريقه إلى المسجد وتخاطبه من النافذة.
هنالك: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} إبراهيم /27.
سيسعون إلى تذكيرك بالماضي وتزيين المعاصي السابقة لك بكل طريقة، ذكريات.. توسلات.. صور.. ورسائل.. فلا تطعهم واحذرهم أن يفتنوك وتذكر هنا قصة كعب بن مالك الصحابي الجليل، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة جميعاً بمقاطعته لتخلفه عن غزوة تبوك حتى يأذن الله، أرسل إليه ملك غسان الكافر رسالة يقول فيها: " أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك " يريد الكافر استمالة المسلم حتى يخرج من المدينة ويضيع هناك في ديار الكفر.
ما هو موقف الصحابي الجليل قال كعب: " فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور أي الفرن فسجرتها أي أحرقتها.
وهكذا اعمد أنت أيها المسلم من ذكر أو أنثى إلى كل ما يرسل إليك من أهل السوء فاحرقه حتى يصير رماداً وتذكر وأنت تحرقه نار الآخرة. (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون)(13/456)
إنهم يهددونني
أريد أن أتوب ولكن أصدقائي القدامى يهددونني بإعلان فضائحي بين الناس، ونشر أسراري على الملأ، إن عندهم صوراً ووثائق، وأنا أخشى على سمعتي، إني خائف!!
ونقول: جاهد أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، فهذه ضغوط أعوان إبليس تجتمع عليك كلها، ثم لا تلبث أن تتفرق وتتهاوى أمام صبر المؤمن وثباته.
واعلم أنك إن سايرتهم ورضخت لهم فسيأخذون عليك مزيداً من الإثباتات، فأنت الخاسر أولاً وأخيراً، لكن لا تطعهم واستعن بالله عليهم، وقل حسبي الله ونعم الوكيل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم) رواه أحمد وأبو داود، صحيح الجامع 4582.
صحيح أن الموقف صعب وأن تلك المسكينة التائبة التي اتصل بها قرين السوء يقول مهدداً: لقد سجلت مكالمتك ولديّ صورتك ولو رفضت الخروج معي لأفضحنك عند أهلك!! صحيح أنها في موقف لا تحسد عليه.
وانظر إلى حرب أولياء الشياطين لمن تاب من المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات فإنهم يطرحون أسوأ إنتاجهم السابق في الأسواق للضغط والحرب النفسية، ولكن الله مع المتقين، ومع التائبين، وهو ولي المؤمنين، لا يخذلهم ولا يتخلى عنهم، وما لجأ عبد إليه فخاب أبداً، واعلم أن مع العسر يسراً، وأن بعد الضيق فرجاً.
وإليك أيها الأخ التائب هذه القصة المؤثرة شاهداً واضحاً على ما نقول.
إنها قصة الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد الغنويّ الفدائي الذي كان يهرب المستضعفين من المسلمين من مكة إلى المدينة سراً. " كان رجل يقال له: مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة، حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحتمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجانب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفت، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد، قالت: مرحباً وأهلاً، هلم فبت عندنا الليلة، قلت: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية، وسلكت الخندمة (وهو جبل معروف عند أحد مداخل مكة) فانتهيت إلى غار أو كهف، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي وعماهم الله عني قال: ثم رجعوا، ورجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلاً ثقيلاً، حتى انتهيت إلى الأذخر ففككت عنه أكبله (أي قيوده) فجعلت أحمله ويُعييني (أي يرهقني) حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ مرتين، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً، حتى نزلت {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} النور /3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها) صحيح سنن الترمذي 3/80.
هل رأيت كيف يدافع الله عن الذين آمنوا وكيف يكون مع المحسنين؟.
وعلى أسوأ الحالات لو حصل ما تخشاه أو انكشفت بعض الأشياء واحتاج الأمر إلى بيان فوضح موقفك للآخرين وصارحهم، وقل نعم كنت مذنباً فتبت إلى الله فماذا تريدون؟
ولنتذكر جميعاً أن الفضيحة الحقيقة هي التي تكون بين يدي الله يوم القيامة، يوم الخزي الأكبر، ليست أمام مائة أو مائتين ولا ألف أو ألفين، ولكنها على رؤوس الأشهاد، أما الخلق كلهم من الملائكة والجن والإنس، من آدم وحتى آخر رجل.(13/457)
فهلم إلى دعاء إبراهيم:
(ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء /87-89
وتحصن في اللحظات الحرجة بالأدعية النبوية: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم لا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.(13/458)
ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول: إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله، ولكن ذنوبي تطاردني، وتذكري لما عملته ينغص عليّ حياتي، ويقض مضجعي، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي، فما السبيل إلى إراحتي.
فأقول لك أيها الأخ المسلم، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة، وهذا هو الندم بعينه، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء، رجاء أن يغفر الله لك، ولا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمة الله، والله يقول: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} الحجر /56.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير.
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله.(13/459)
هل اعترف؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول: أريد أن أتوب ولكن هل يجب عليّ أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد عليّ؟
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز، والمرأة، والرجل الذي قبّل امرأة في بستان.
فأقول لك أيها الأخ المسلم: اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم، الذي ارتضاه الله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) البقرة /186. وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً، وفي دعاء سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي) أي أعترف لك يا الله.
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى، قسيس وكرسي اعتراف وصك غفران.. إلى آخر أركان المهزلة.
بل إن الله يقول: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} التوبة /104 أي عن عباده دون وسيط.
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف، ومن ستر الله عليه لا بأس أن يستر نفسه، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله، ومن أسمائه سبحانه الستِّير وهو يحب الستر على عباده، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً.
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل البيت، كما يخطر في أذهان البعض.
وعند ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها:
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل، فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً، وتقام عليك الحدود، ثم ينظر في أمرك، فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه.
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول: أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة، والله يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} النحل /43 وقال: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الفرقان /59.
فليس كل واعظ يصلح أن يُفتي، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يُخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس، ولا كل أديب أو قاصّ يصلح ناقلاً للفتاوى، والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى، وهذه مسألة تعبدية، وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين، قال أحد السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم. والله المستعان.(13/460)
فتاوى مهمة للتائبين
وقد تقول: أريد أن أتوب ولكني أجهل أحكام التوبة، وتدور في ذهني أسئلة كثيرة عن صحة التوبة من بعض الذنوب، وكيفية قضاء حقوق الله التي فرطت فيها، وطريقة إرجاع حقوق العباد التي أخذتها، فهل من إجابات على هذه التساؤلات؟
وإليك أيها العائد إلى الله ما علّه يشفي الغليل.
س1: إنني أقع في الذنب فأتوب منه، ثم تغلبني نفسي الأمارة بالسوء فأعود إليه! فهل تبطل توبتي الأولى ويبقى عليّ إثم الذنب الأول وما بعده؟
جـ1: ذكر أكثر العلماء على أنه لا يشترط في صحة التوبة ألا يعود إلى الذنب، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم الجازم على ترك معاودته، فإن عاوده يصبح حينئذ كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة.
س2: هل تصح التوبة من ذنب وأنا مصر على ذنب آخر؟
جـ2: تصح التوبة من ذنب ولو أصر على ذنب آخر، إذا لم يكن من النوع نفسه، ولا يتعلق بالذنب الأول، فمثلاً لو تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر فتوبته من الربا صحيحة، والعكس صحيح، أما إذا تاب من ربا الفضل وأصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته حينئذ، وكذلك من تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو العكس، وكذلك من تاب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها فهؤلاء توبتهم غير صحيحة، وغاية ما فعلوه أنهم عدلوا عن نوع من الذنب إلى نوع آخر منه. راجع المدارج.
س3: تركت حقوقاً لله في الماضي من صلوات لم أؤدها وصيام تركته وزكاة منعتها، فماذا أفعل الآن؟
جـ3: أما تارك الصلاة فالراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها، ولا يمكن استدراكه ويعوضه بكثرة التوبة والاستغفار، والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه.
وأما تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام، فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، من غير عذر وهذه كفارة التأخير، وهي واحدة لا تتضاعف ولو توالت أشهر رمضان.
مثال: رجل ترك 3 أيام من رمضان سنة 1400 هـ و 5 أيام من رمضان سنة 1401 هـ تهاوناً، وبعد سنين تاب إلى الله، فإنه يلزمه قضاء الصيام ثمانية أيام، وإطعام مسكين عن كل يوم من الأيام الثمانية.
مثال آخر: امرأة بلغت عام 1400 هـ وخجلت من إخبار أهلها، فصامت أيام عادتها الثمانية مثلاً ولم تقضها، ثم تابت إلى الله الآن فعليها الحكم السابق نفسه، وينبغي أن يعلم أن هناك فروقاً بين ترك الصلاة وترك الصيام، ذكره أهل العلم على أن هناك في العلماء من يرى عدم القضاء على من ترك الصيام متعمداً دون عذر.
وأما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها وهي حق لله من جهة، وحق للفقير من جهة أخرى. للمزيد راجع مدارج السالكين 1/383.
س4: إذا كانت السيئة في حق آدميّ فكيف تكون التوبة؟
جـ4: الأصل في هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت لأخيه عنده مظلمة، من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه) رواه البخاري فيخرج التائب من هذه المظالم إما بأدائها إلى أصحابها وإما باستحلالها منهم وطلب مسامحتهم، فإن سامحوه وإلا ردها.
س5: وقعت في غيبة شخص أو أشخاص، وقذفت آخرين بأمورٍ هم بريئون منها فهل يشترط إخبارهم بذلك مع طلب المسامحة وإذا كان لا يشترط فكيف أتوب؟!
جـ5: المسألة هنا تعتمد على تقدير المصالح والمفاسد.
فإن كان إذا أخبرهم بم اغتابهم أو قذفهم لا يغضبون منه ولا يزدادون عليه حنقاً وغماً صارحهم وطلب منهم المسامحة ولو بعبارات عامة، كأن يقول إني أخطأت في حقك في الماضي، أو ظلمتك بكلام، وإني تبت إلى الله فسامحني، دون أن يفصل فلا بأس بهذا.
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم أو قذفهم حنقوا عليه وازدادوا غماً وغيظاً - وربما يكون هذا هو الغالب - أو أنه إذا أخبرهم بعبارات عامة لم يرضوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية له، فإنه حينئذ لا يجب عليه إخبارهم أصلاً لأن الشريعة لا تأمر بزيادة المفاسد، وإخبار شخص بأمور كان مستريحاً قبل سماعها على وجه يسبب البغضاء وينافي مقصد الشريعة في تأليف القلوب والتحاب بين المسلمين، وربما يكون الإخبار سبباً لعداوة لا يصفو بعدها قلب المغتاب أبداً لمن اغتابه، وفي هذه الحالة يكفي التوبة أمور منها:
1- الندم وطلب المغفرة من الله والتأمل في شناعة هذه الجريمة واعتقاد تحريمها.
2- أن يكذب نفسه عند من سمع الغيبة، أو القذف ويبرئ المقذوف.
3- أن يثني بالخير على من اغتابه في المجالس التي ظلمته فيها، ويذكر محاسنه.
4- أن يدافع عمن اغتابه، ويرد عنه إذا أراد أحد أن يسيء إليه.
5- أن يستغفر له بظهر الغيب المدارج 1/291، والمغني مع الشرح 12/78
ولاحظ أيها الأخ المسلم الفرق بين الحقوق المالية وجنايات الأبدان، وبين الغيبة والنميمة، فالحقوق المالية يستفيد أهلها إذا أخبروا بها، وردت إليهم، ويسرون بذلك، ولذلك لا يجوز كتمها بخلاف الحقوق التي في جانب العِرض، والتي لا تزيد من يُخبر بها إلا ضرراً وتهييجاً.
س6: كيف يتوب القاتل المتعمد؟
جـ6: القاتل المتعمد عليه ثلاثة حقوق:
حق الله، وحق القتيل، وحق الورثة.
فحق الله لا يُقضى إلا بالتوبة.
حق الورثة أن يسلم نفسه إليهم ليأخذوا حقهم، إما بالقصاص أو بالدية أو العفو.
ويبقى حق القتيل الذي لا يمكن الوفاء به في الدنيا، وهنا قال أهل العم إذا حسنت توبة القاتل، فإن الله يرفع عنه حق القتيل ويعوض القتيل يوم القيامة خيراً من عنده عز وجل، وهذا أحسن الأقوال. المدارج 1/299.
س7: كيف يتوب السارق؟
جـ7: إذا كان الشيء عنده الآن رده إلى أصحابه.
وإن تلف أو نقصت قيمته بالاستعمال أو الزمن وجب عليه أن يعوضهم عن ذلك، إلا إذا سامحوه فالحمد لله.
س8: أشعر بالحرج الشديد إذا واجهت من سرقت منهم، ولا أستطيع أن أصارحهم، ولا أن أطلب منهم المسامحة فكيف أفعل؟
جـ8: لا حرج عليك في البحث عن طريق تتفادى فيه هذا الإحراج الذي لا تستطيع مواجهته، كأن ترسل حقوقهم مع شخص آخر، وتطلب عدم ذكر اسمك، أو بالبريد، أو تضعها خفية عندهم، أو تستخدم التورية وتقول هذه حقوق لكم عند شخص، وهو لا يريد ذكر اسمه، والمهم رجوع الحق إلى أصحابه.
س9: كنت أسرق من جيب أبي خفية، وأريد الآن أن أتوب ولا أعلم كم سرقت بالضبط، وأنا محرج من مواجهته؟
جـ9: عليك أن تقدر ما سرقته بما يغلب على ظنك أنه هو أو أكثر منه، ولا بأس أن تعيده إلى أبيك خفية كما أخذته خفية.
س10: سرقت أموالاً من أناس وتبت إلى الله، ولا أعرف عناوينهم؟
وآخر يقول أخذت من شركة أموالاً خلسة، وقد أنهت عملها وغادرت البلد؟
وثالث يقول سرقت من محل تجاري سلعاً، وتغير مكانه ولا أعرف صاحبه؟
جـ10: عليك بالبحث عنهم على قدر طاقتك ووسعك، فإذا وجدتهم فادفعها إليهم والحمد لله، وإذا مات صاحب المال فتعطى لورثته، وإن لم تجدهم على الرغم من البحث الجاد فتصدق بهذه الأموال بالنيابة عنهم، وانوها لهم ولو كانوا كفاراً لأن الله يعطيهم في الدنيا ولا يعطيهم في الآخرة.
ويشبه هذه المسألة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في المدراج 1/388 أن رجلاً في جيش المسلمين غل (أي سرق) من الغنيمة، ثم تاب بعد زمن، فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه، وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا؟ فأتى هذا التائب حجاج بن الشاعر يستفتيه فقال له حجاج: يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم، فإن الله يوصل ذلك إليهم ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إليّ من نصف ملكي، وهناك فتوى مشابهة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قريبة من هذه قصة مذكورة في المدارج.
س11: غصبت مالاً لأيتام وتاجرت به وربحت، ونما المال أضعافاً وخفت من الله فكيف أتوب؟
جـ11: للعلماء في هذه المسألة أقوال أوسطها وأعدلها أنك ترد رأس المال الأصلي للأيتام، زائداً نصف الأرباح، فتكون كأنك وإياهم شركاء في الربح مع إعادة الأصل إليهم.
وهذه رواية عن الإمام أحمد، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم رحمه الله (المدراج 1/392)
وكذلك لو غصب سائمة من إبل أو غنم فنتجت أولاداً فهي ونصف أولادها للمالك الأصلي، فإن ماتت أعطى قيمتها مع نصف النتاج إلى مالكها.
س12: رجل يعمل في الشحن الجوي وتتخلف عندهم بضائع أخذ منها مسجلاً خلسة وبعد سنوات تاب فهل يُرجع المسجل نفسه أو قيمته أو شبيهاً به، علماً بأن هذا النوع قد انتهى من السوق؟
جـ12: يرجع المسجل نفسه زائداً عليه ما نقص من قيمته لقاء الاستعمال أو تقادم الزمن، وذلك بطريقة مناسبة دون أن يؤذي نفسه، فإن تعذر، تصدق بقيمته نيابة عن صاحبه الأصلي.
س13: كان عندي أموال من الربا ولكني أنفقتها كلها، ولم يبق عندي منها شيء، وأنا الآن تائب فماذا يلزمني؟
جـ13: لا يلزمك إلا التوبة إلى الله عز وجل توبة نصوحاً والربا خطير، ولم يؤذن بحرب أحد في القرآن الكريم إلا أهل الربا وما دامت الأموال الربوية قد ذهبت كلها، فليس عليك من جهتها شيء الآن.
س14: اشتريت سيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام، وهي موجودة عندي الآن فكيف أفعل؟
جـ14: من اشترى شيئاً لا يتجزأ كالبيت أو السيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام فيكفيه أن يخرج ما يقابل الحرام من ماله الآخر ويتصدق به تطييباً لتلك الممتلكات، فإن كان هذا الجزء من المال الحرام هو حق للآخرين وجب ردّ مثله إليهم على التفصيل السابق.
س15: ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال؟
جـ15: من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم.
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام، وأراد أن يتوب فإن كان:
1- كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا.
2- وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب.
س16: شخص يأخذ الرشاوي، ثم هداه الله إلى الاستقامة، فماذا يفعل بالأموال التي أخذها من الرشوة؟
جـ16: هذا الشخص لا يخلو من حالتين:
1- إما أن يكون أخذ الرشوة من صاحب حق مظلوم اضطر أن يدفع الرشوة ليحصل على حقه لأنه لم يكن له سبيل للوصول إلى حقه إلا بالرشوة، فهنا يجب على هذا التائب أن يرد المال إلى الراشي صاحب الحق لأنه في حكم المال المغصوب ولأنه ألجأه إلى دفعه بالإكراه.
2- أن يكون أخذ الرشوة من راش ظالم مثله تحصل عن طريق الرشوة على أشياء ليست من حقه، فهذا لا يُرجع إليه ما أخذه منه، وإنما يتخلص التائب من هذا المال الحرام في وجوه الخير كإعطائه للفقراء مثلاً، كما يتوب مما تسبب فيه من صرف الحق عن أهله.
س17: عملت أعمالاً محرمة وأخذت مقابلها أموالاً فهل يجب عليّ وقد تبت إرجاع هذه الأموال لمن دفعها إليّ؟
جـ17: الشخص الذي يعمل في أعمال محرمة، أو يقدم خدمات محرمة، ويأخذ مقابلاً أو أجرة على ذلك إذا تاب إلى الله وعنده هذا المال الحرام فإنه يتخلص منه ولا يعيده إلى من أخذه منه.
فالزانية التي أخذت مالاً على الزنا لا تعيده إلى الزاني إذا تابت، والمغني الذي أخذ أموالاً على الغناء المحرم لا يعيده إلى أصحاب الحفلة إذا تاب، وبائع الخمر أو المخدارت لا يعيدها إلى من اشتروها منه إذا تاب، وشاهد الزور الذي أخذ مقابلاً لا يعيد المال من استخدمه لشهادة الزور وهكذا، والسبب أنه إذا أرجع المال للعاصي الذي دفعه فإنه يكون قد جمع له بين العِوض الحرام والمُعوَّض بالتخلص منه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم. كما في المدارج 1/390.
س18: هناك أمر يقلقني ويسبب لي إرهاقاً وأرقاً، وهو أني وقعت في الفاحشة مع امرأة فكيف أتوب، وهل يجوز لي أن الزواج منها لستر القضية؟
وآخر يسأل أنه وقع في الفاحشة في الخارج، وأن المرأة حملت منه فهل يكون هذا ولده، وهل يجب عليه إرسال نفقة الولد.
جـ18: لقد كثرت الأسئلة عن الموضوعات المتعلقة بالفواحش كثرة تجعل من الواجب على المسلمين جميعاً إعادة النظر في أوضاعهم وإصلاحها على هدي الكتاب والسنة وخصوصاً في مسائل غض البصر وتحريم الخلوة، وعدم مصافحة المرأة الأجنبية والالتزام بالحجاب الشرعي الكامل وخطورة الاختلاط، وعدم السفر إلى بلاد الكفار والاعتناء بالبيت المسلم والأسرة المسلمة والزواج المبكر وتذليل صعوباته.
أما بالنسبة إلى السؤال فمن فعل الفاحشة فلا يخلو من حالتين:
1- إما أنه زنى بالمرأة اغتصاباً وإكراهاً فهذا عليه أن يدفع لها مهر مثلها، عوضاً عما ألحق بها من الضرر، مع توبته إلى الله توبة نصوحاً، وإقامة الحد عليه إذا وصل أمره إلى الإمام، أو من ينوب عنه كالقاضي ونحوه. انظر المدارج 1/366
2- أن يكون قد زنى بها برضاها، فهذا لا يجب عليه إلا التوبة، ولا يُلحق به الولد مطلقاً ولا تجب عليه النفقة لأن الولد جاء من سفاح ومثل هذا ينسب لأمه، ولا يجوز إلحاقه بنسب الزاني.
ولا يجوز للتائب الزواج منها لستر القضية والله يقول: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) التوبة /3.
ولا يجوز العقد على امرأة في بطنها جنين من الزنا، ولو كان منه، كما لا يجوز العقد على امرأة لا يدرى أهي حامل أم لا.
أما إذا تاب هو وتابت المرأة توبة صادقة وتبين براءة رحمها، فإنه يجوز له حينئذ أن يتزوج منها، ويبدأ معها حياة جديدة يحبها الله.
س19: لقد حصل والعياذ بالله أني ارتكبت الفاحشة وعقدت على المرأة الزانية، وقد صار لنا سنوات وقد تبنا أنا وهي إلى الله توبة صادقة فماذا يجب عليّ؟
جـ19: ما دامت التوبة قد صحت من الطرفين فعليكما إعادة العقد بشروطه الشرعية من الولي والشاهدين، ولا يلزم أن يكون ذلك في المحكمة بل لو حصل في البيت لكان كافياً.
س20: امرأة تقول إنها تزوجت من رجل صالح وقد فعلت أموراً لا ترضي الله قبل زواجها، وضميرها يؤنبها الآن، وتسأل هل يجب عليها إخبار زوجها بما حصل منها في الماضي؟
جـ20: لا يجب على أيٍّ من الزوجين إخبار الآخر بما فعل في الماضي من المنكرات، ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وتكفيه التوبة النصوح.
وأما من تزوج بكراً ثم تبين له عند الدخول بها أنها ليست كذلك لفاحشة ارتكبتها في الماضي، فإنه يحق له أخذ المهر الذي أعطاها ويفارقها، وإن رأى أنها تابت فستر الله عليها وأبقاها فله الأجر والمثوبة من الله.
س21: ماذا يجب على التائب من فاحشة اللواط؟
جـ21: الواجب على الفاعل والمفعول به التوبة إلى الله توبة عظيمة، فإنه لا يُعلم أن الله أنزل أنواعاً من العذاب بأمة كما أنزله بقوم لوط لشناعة جريمتهم فإنه:
1- أخذ أبصارهم فصاروا عمياناً، يتخبطون كما قال تعالى: (فطمسنا أعينهم)
2- أرسل عليهم الصيحة.
3- قلب ديارهم، فجعل عاليها سافلها.
4- أمطرهم بحجارة من سجيل منضود، فأهلكهم عن بكرة أبيهم.
ولذلك كان الحد الذي يقام على مرتكب هذه الفاحشة القتل محصناً أو غير محصن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في إرواء الغليل.
س22: تبت إلى الله ولديّ أشياء محرمة كأدوات موسيقية وأشرطة وأفلام، فهل يجوز لي بيعها خصوصاً وأنها تساوي مبلغاً كبيراً؟
جـ22: لا يجوز بيع المحرمات وثمن بيعها حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. وكل ما تعلم أن غيرك سيستخدمه في الحرام فلا يجوز لك بيعه إياه، لأن الله نهى عن ذلك فقال: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ومهما خسرت من مال الدنيا فما عند الله خير وأبقى، وهو يعوضك بمنه وفضله وكرمه.
س23: كنت إنساناً ضالاً أنشر الأفكار العلمانية، وأكتب القصص والمقالات الإلحادية، وأستخدم شعري في نشر الإباحية والفسوق، وقد تداركني الله برحمته، فأخرجني من الظلمات إلى النور وهداني فكيف أتوب؟
جـ23: هذه والله النعمة الكبرى والمنة العظمى، وهي الهداية فاحمد الله عليها، واسأل الله الثبات والمزيد من فضله.
أما من كان يستخدم لسانه وقلمه في حرب الإسلام ونشر العقائد المنحرفة أو البدع المضلة والفجور والفسق فإنه يجب عليه الآتي:
أولاً: أن يعلن توبته منها جميعاً، ويُظهر تراجعه على الملأ بكل وسيلة وسبيل يستطيعه حتى يُعذر فيمن أضلهم، ويبين الباطل الذي كان لئلا يغتر من تأثر به من قبل، ويتتبع الشبهات التي أثارها والأخطاء التي وقع فيها فيرد عليها، ويتبرأ مما قال وهذا التبيين واجب من واجبات التوبة، قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} البقرة /160.
ثانياً: أن يسخر قلمه ولسانه في نشر الإسلام، ويوظف طاقته وقدراته في نصر دين الله، وتعليم الناس الحق والدعوة إليه.
ثالثاً: أن يستخدم هذه الطاقات في الرد على أعداء وفضحهم وفضح مخططاتهم، كما كان يناصرهم من قبل ويفند مزاعم أعداء الإسلام، ويكون سيفاً لأهل الحق على أهل الباطل، وكذلك كل من اقنع شخصاً ولو في مجلس خاص بأمر محرم كجواز الربا، وأنه فوائد مباحة، فإنه ينبغي عليه أن يعود ويبين له كما أضله حتى يكفّر عن خطيئته والله الهادي.(13/461)
وختاماً:
يا عبد الله فتح الله باب التوبة فهلا ولجت (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، وفي رواية عرضه مسيرة سبعين عاماً، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) . رواه الطبراني في الكبير، صحيح الجامع 2177.
ونادى الله (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) رواه مسلم. فهلا استغفرت.
والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والله يحب الإعتذار فهلا أقبلت.
فلله ما أحلى قول التائب، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني.
أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه.
وتأمل هذه القصة ودلالتها في موضع التوبة:
روي أن أحد الصالحين كان يسير في بعض الطرقات فرأى باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب، ونام ودموعه على خديه، فخرجت أمه بعد حين، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني ومن يؤويك سواي، ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم أخذته ودخلت!!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أرحم بعباده من هذه بولدها) رواه مسلم.
وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟
والله يفرح إذا تاب العبد إليه، ولن نعدم خيراً من رب يفرح (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض، نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فأوى إلى ظل شجرة، فوضع رأسه فنام نومة تحتها، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فينما هو كذلك، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده، تجر خطامها، عليها زاده طعامه وشرابه، فأخذ بخطامها، فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من هذا براحلته وزاده) السياق مجموع من روايات صحيحة، انظر ترتيب صحيح الجامع 4/368.
واعلم يا أخي، أن الذنب يُحدث للتائب الصادق انكساراً وذلة بين يدي الله، وأنين التائبين محبوب عند رب العالمين.
ولا يزال العبد المؤمن واضعاً ذنوبه نُصب عينيه فتُحدث له انكساراً وندماً، فيعقب الذنب طاعات وحسنات كثيرة حتى أن الشيطان ربما يقول: يا ليتني لم أوقعه في هذا الذنب، ولذلك فإن بعض التائبين قد يرجع بعد الذنب أحس مما كان قبله بحسب توبته.
والله لا يتخلى عن عبده أبداً إذا جاء مقبلاً عليه تائباً إليه.
أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القائم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجة، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب إلى بلاد الأعداء، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لواعج الحسرات، وتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه من النعيم.
فينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه، أنظر إلى ولدك وما هو فيه والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه وعدوه يشتد في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به.
فهل تقول إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها. إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه، وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه، يقول: يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا معين له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك، أنت معاذه، وبك ملاذه، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، فهيا إلى فعل الخيرات، وكسب الحسنات، ورفقة الصالحين، وحذار من الزيغ بعد الرشاد، والضلالة بعد الهداية والله معك.(13/462)
سبعون مسألة في الصيام(13/463)
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. وإنما خلق الله الخلق لعبادته فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه الله على العباد، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة، ورغبهم فيه فقال: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (184) سورة البقرة، وأرشدهم إلى شكره على فرضه بقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة، وحببّه إليهم وخفّفه عليهم لئلا تستثقل النفوس ترك العادات وهجر المألوفات، فقال عزّ وجلّ: (أياما معدودات) ، ورحمهم ونأى بهم عن الحرج والضرر، فقال سبحانه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (184) سورة البقرة، فلا عجب أن تُقبل قلوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم يخافونه من فوقهم ويرجون ثوابه والفوز العظيم.
ولما كان قدر هذه العبادة عظيما كان لابدّ من تعلّم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام ليعرف المسلم ما هو واجب فيفعله، وما هو حرام فيجتنبه، وما هو مباح فلا يضيّق على نفسه بالامتناع عنه.
وهذه الرسالة تتضمن خلاصات في أحكام الصيام وآدابه وسننه كتبتها باختصار عسى الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين والحمد لله رب العالمين(13/464)
تعريف الصيام
1- الصوم لغة: الإمساك، وشرعا الإمساك عن المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية.(13/465)
حكم الصيام
2- أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض، والدليل من الكتاب قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ، ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: بُني الإسلام على خمس: وذكر منها صوم رمضان رواه البخاري فتح 1/49 ومن أفطر شيئا من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها: " حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم " أي قبل وقت الإفطار صحيح الترغيب 1/420. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكّون في إسلامه، ويظنّون به الزندقة والانحلال. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا أفطر في رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله، وإن كان فاسقا عوقب عن فطره في رمضان. مجموع الفتاوى 25/265(13/466)
فضل الصيام
3- فضل الصيام عظيم ومما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة: أن الصيام قد اختصه الله لنفسه وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب لحديث: " إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " البخاري فتح رقم 1904 صحيح الترغيب 1/407، وأن الصوم لا عِدل له النسائي 4/165 وهو في صحيح الترغيب 1/413، وأن دعوة الصائم لا تُردّ رواه البيهقي 3/345 وهو في السلسلة الصحيحة 1797، وأن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه رواه مسلم 2/807، وأن الصيام يشفع " للعبد يوم القيامة يقول: أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " رواه أحمد 2/174 وحسّن الهيثمي إسناده: المجمع 3/181 وهو في صحيح الترغيب 1/411، وأن " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " مسلم 2/807، وأن " الصوم جُنّة وحصن حصين من النار " رواه أحمد 2/402 وهو في صحيح الترغيب 1/411 وصحيح الجامع 3880، وأنّ " من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " رواه مسلم 2/808، وأنّ " من صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له به دخل الجنّة " رواه أحمد 5/391 وهو في صحيح الترغيب 1/412. وأنّ في الجنة بابا " يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد " البخاري فتح رقم 1797.
وأما رمضان فإنه ركن الإسلام وقد أُنزل فيه القرآن، وفيه ليلة خير من ألف شهر، و " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ " رواه البخاري الفتح رقم 3277، وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر أنظر مسند أحمد 5/280 وصحيح الترغيب 1/421، و " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري فتح رقم 37، و "لله عزّ وجلّ عند كلّ فطر عتقاء " رواه أحمد 5/256 وهو في صحيح الترغيب 1/419.(13/467)
من فوائد الصيام
4- في الصيام حكم وفوائد كثيرة مدارها على التقوى التي ذكرها الله عز وجل في قوله: " لعلكم تتقون "، وبيان ذلك: أن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا في مرضاة الله تعالى وخوفا من عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام.
وأن الإنسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه ويده وفرجه، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح.
وأن الصائم إذا ذاق ألم الجوع أحس بحال الفقراء فرحمهم وأعطاهم ما يسدّ جوعتهم، إذ ليس الخبر كالمعاينة، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجّل.
وأن الصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها. وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا.
وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد.
وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله سبحانه فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد ومنهم من يدخله لأول مرة ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد وهم في حال رقّة نادرة، فلا بدّ من انتهاز الفرصة بالمواعظ المرقِّقة والدروس المناسبة والكلمات النافعة مع التعاون على البرّ والتقوى. وعلى الداعية أن لا ينشغل بالآخرين كليّا وينسى نفسه فيكون كالفتيلة تضيء للناس وتُحرق نفسها.(13/468)
5- آداب الصيام وسننه
ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، فمن ذلك:
الحرص على السحور وتأخيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تسحروا فإن في السحور بركة " رواه البخاري فتح 4/139، فهو الغداء المبارك، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، و " نِعمَ سحور المؤمن التمر " رواه أبو داود رقم 2345 وهو في صحيح الترغيب 1/448
تعجيل الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر رواه البخاري فتح 4/198، وأن يفطر على ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء." رواه الترمذي 3/79 وغيره وقال حديث حسن غريب وصححه في الإرواء برقم 922، ويقول بعد إفطاره ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود 2/765 وحسن الدارقطني إسناده 2/185 البعد عن الرفث لقوله صلى الله عليه وسلم ".. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث.. " رواه البخاري الفتح رقم 1904 والرفث هو الوقوع في المعاصي، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. " البخاري الفتح رقم 1903، وينبغي أن يجتنب الصائم جميع المحرمات كالغيبة والفحش والكذب، فربما ذهبت بأجر صيامه كله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع. " رواه ابن ماجه 1/539 وهو في صحيح الترغيب 1/453
ومما أذهب الحسنات وجلب السيئات الانشغال بالفوازير والمسلسلات، والأفلام والمباريات، والجلسات الفارغات، والتسكع في الطرقات، مع الأشرار ومضيعي الأوقات، وكثرة اللهو بالسيارات، وازدحام الأرصفة والطرقات، حتى صار شهر التهجد والذكر والعبادة ـ عند كثير من الناس ـ شهر نوم بالنهار لئلا يحصل الإحساس بالجوع، ويضيع من جرّاء ذلك ما يضيع من الصلوات، ويفوت ما يفوت من الجماعات، ثم لهو بالليل وانغماس في الشهوات، وبعضهم يستقبل الشهر بالضجر لما سيفوته من الملذات، وبعضهم يسافر في رمضان إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات!! وحتى المساجد لم تخل من المنكرات من خروج النساء متبرجات متعطرات، وحتى بيت الله الحرام لم يسلم من كثير من هذه الآفات، وبعضهم يجعل الشهر موسما للتسول وهو غير محتاج، وبعضهم يلهو فيه بما يضرّ كالألعاب النارية والمفرقعات، وبعضهم ينشغل بالصفق في الأسواق والتطواف على المحلات، وبعضهن بالخياطة وتتبع الموضات، وتنزل البضائع الجديدة والأزياء الحديثة في العشر الأواخر الفاضلات لتشغل الناس عن تحصيل الأجور والحسنات.
* أن لا يصخب، لقوله صلى الله عليه وسلم: " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، إني صائم " رواه البخاري وغيره الفتح رقم 1894، فواحدة تذكيرا لنفسه، والأخرى تذكيرا لخصمه. والناظر في أخلاق عدد من الصائمين يجد خلاف هذا الخُلق الكريم فيجب ضبط النفس، وكذلك استعمال السكينة وهذا ما ترى عكسه في سرعات السائقين الجنونية عند أذان المغرب.
* عدم الإكثار من الطعام، لحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ.. " رواه الترمذي رقم 2380 وقال هذا حديث حسن صحيح، والعاقل إنما يريد أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل، وإن خير المطاعم ما استخدمت وشرها ما خُدمت. وقد انغمس الناس في صنع أنواع الطعام، وتفننوا في الأطباق حتى ذهب ذلك بوقت ربات البيوت والخادمات، وأشغلهن عن العبادة، وصار ما ينفق من الأموال في ثمن الأطعمة أضعاف ما يُنفق في العادة، وأصبح الشهر شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة. يأكلون أكل المنهومين، ويشربون شرب الهيم، فإذا قاموا إلى صلاة التراويح قاموا كسالى، وبعضهم يخرج بعد أول ركعتين.
* الجود بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس {بالخير} ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ". رواه البخاري الفتح رقم 6 فكيف بأناس استبدلوا الجود بالبخل والنشاط في الطاعات بالكسل والخمول فلا يتقنون الأعمال ولا يحسنون المعاملة متذرعين بالصيام.
والجمع بين الصيام والإطعام من أسباب دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام " رواه أحمد 5/343 وابن خزيمة رقم 2137 وقال الألباني في تعليقه: إسناده حسن لغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من فطّر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء. " رواه الترمذي 3/171 وهو في صحيح الترغيب 1/451 قال شيخ الإسلام رحمه الله: والمراد بتفطيره أن يُشبعه. الاختيارات الفقهية ص: 109
وقد آثر عدد من السلف ـ رحمهم الله ـ الفقراءَ على أنفسهم بطعام إفطارهم، منهم: عبد الله بن عمر، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم. وكان عبد الله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين.(13/469)
ومما ينبغي فعله في الشهر العظيم
* تهيئة الأجواء والنفوس للعبادة، والإسراع إلى التوبة والإنابة، والفرح بدخول الشهر، وإتقان الصيام، والخشوع في التراويح، وعدم الفتور في العشر الأواسط، وتحري ليلة القدر، ومواصلة ختمة بعد ختمة مع التباكي والتدبر، وعمرة في رمضان تعدل حجة، والصدقة في الزمان الفاضل مضاعفة، والاعتكاف في رمضان مؤكد.
* لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويحثّهم على الاعتناء به فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجلّ عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلّق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم " رواه النسائي 4/129 وهو في صحيح الترغيب 1/490(13/470)
من أحكام الصيام
6- من الصيام ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان والصوم في كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان وكذلك من نذر صوما متتابعا لزمه.
ومن الصيام ما لايلزم فيه التتابع كقضاء رمضان وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي والصوم في كفارة اليمين) عند الجمهور (وصوم الفدية في محظورات الإحرام) على الراجح) وكذلك صوم النذر المطلق لمن لم ينو التتابع.
7- صيام التطوع يجبر نقص صيام الفريضة، ومن أمثلته عاشوراء وعرفة وأيام البيض والاثنين والخميس وست من شوال والإكثار من الصيام في محرم وشعبان.
8- جاء النهي عن إفراد الجمعة بالصوم البخاري فتح الباري برقم 1985 وعن صيام السبت في غير الفريضة رواه الترمذي 3/111 وحسنه والمقصود إفراده دون سبب، وعن صوم الدهر، وعن الوصال في الصوم، وهو أن يواصل يومين أو أكثر دون إفطار بينهما.
ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله، ويجوز لمن لم يجد الهدي أن يصومها بمنى.(13/471)
ثبوت دخول الشهر
9- يثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله أو بإتمام شعبان ثلاثين يوما، ويجب على من رأى الهلال أو بلغه الخبر من ثقة أن يصوم.
وأما العمل بالحسابات في دخول الشهر فبدعة، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في المسألة: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته "، فإذا أخبر المسلم البالغ العاقل الموثوق بخبره لأمانته وبصره أنه رأى الهلال بعينه عُمل بخبره.(13/472)
على من يجب الصوم
10- ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس.
ويحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة: ـ إنزال المني باحتلام أو غيره، ـ نبات شعر العانة الخشن حول القُبُل، ـ إتمام خمس عشرة سنة. وتزيد الأنثى أمرا رابعا وهو الحيض فيجب عليها الصيام ولو حاضت قبل سنّ العاشرة.
11- يؤمر الصبي بالصيام لسبع إن أطاقه "وذكر بعض أهل العلم أنه " يُضرب على تركه لعشر كالصلاة انظر المغني 3/90. وأجر الصيام للصبي، ولوالديه أجر التربية والدلالة على الخير، عن الرُبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت في صيام عاشوراء لما فُرض: كنا نصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار. البخاري فتح رقم 1960 وبعض الناس يتساهل في أمر أبنائه وبناته بالصيام، بل ربما صام الولد متحمّسا وهو يُطيق فأمره أبوه أو أمه بالإفطار شفقة عليه بزعمهما، وما علموا أنّ الشفقة الحقيقية بتعاهده بالصيام، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شِداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون) . وينبغي الاعتناء بصيام البنت في أول بلوغها، فربما تصوم إذا جاءها الدم خجلا ثم لا تقضي.
12- إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أثناء النهار لزمهم الإمساك بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب، ولا يلزمهم قضاء ما فات من الشهر، لأنهم لم يكونوا من أهل الوجوب في ذلك الوقت.
13- المجنون مرفوع عنه القلم، فإن كان يجنّ أحيانا ويُفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه. وإن جنّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره لأنه نوى الصيام وهو عاقل. مجالس شهر رمضان ابن عثيمين ص: 28 ومثله في الحكم المصروع.
14- من مات أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر.
15- من جهل فرض الصوم في رمضان أو جهل تحريم الطعام أو الوطء فجمهور العلماء على عذره إن كان يُعذر مثله، كحديث العهد بالإسلام والمسلم في دار الحرب ومن نشأ بين الكفار. أما من كان بين المسلمين ويمكنه السؤال والتعلم فليس بمعذور.(13/473)
المسافر
16- يُشترط للفطر في السفر: أن يكون سفرا مسافة أو عرفا (على الخلاف المعروف بين أهل العلم) ، وأن يُجاوز البلد وما اتصل به من بناء وقد منع الجمهور من الإفطار قبل مغادرة البلد وقالوا إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد. أما إذا كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة.، وأن لا يكون سفره سفر معصية (عند الجمهور) ، وأن لا يكون قصد بسفره التحيّل على الفطر.
17- يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادرا على الصيام أم عاجزا وسواء شقّ عليه الصوم أم لم يشقّ، بحيث لو كان مسافرا في الظلّ والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر مجموع الفتاوى 25/210
18- من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر لأنه قد يعرض له ما يمنعه من سفره تفسير القرطبي 2/278
ولا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة (المأهولة) ، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان، وإذا كان المطار خارج بلدته أفطر فيه، أما إذا كان المطار في البلد أو ملاصقا لها فإنه لا يُفطر فيه لأنه لا يزال في البلد.
19- إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك لأنه أتمّ صيام يومه كاملا فلا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها. وإذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد إتمام صيام ذلك اليوم في السفر فلا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه من الجوّ، ولا يجوز للطيار أن يهبط إلى مستوى لا تُرى فيه الشمس لأجل الإفطار لأنه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران فاختفى قرص الشمس أفطر. من فتاوى الشيخ ابن باز مشافهة
20- من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم فالذي يسافر للدراسة في الخارج أشهرا أو سنوات فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة أنه في حكم المقيم يلزمه الصوم والإتمام.
وإذا مرّ المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم لأنه في حكم المقيمين أنظر فتاوى الدعوة ابن باز 977
21- من ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر لأن الله جعل مطلق السفر سببا للرخصة بقوله تعالى: (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أُخر) .
22- ويجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالبريد الذي يُسافر في مصالح المسلمين (وأصحاب سيارات الأجرة والطيارين والموظفين ولو كان سفرهم يوميا وعليهم القضاء) وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر. والبدو الرحّل إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى جاز لهم الفطر والقصر وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يُفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي أنظر مجموع فتاوى ابن تيمية 25/213
23- إذا قدم المسافر في أثناء النهار ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء مجموع الفتاوى 25/212 والأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك.
24- إذا ابتدأ الصيام في بلد ثم سافر إلى بلد صاموا قبلهم أو بعدهم فإن حكمه حكم من سافر إليهم فلا يفطر إلا بإفطارهم ولو زاد عن ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تُفطرون "، وإن نقص صومه عن تسعة وعشرين يوما فعليه إكماله بعد العيد إلى تسعة وعشرين يوما لأن الشهر الهجري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوما. من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز: فتاوى الصيام: دار الوطن ص: 15-16(13/474)
المريض
25- كل مرض خرج به الإنسان عن حدّ الصحة يجوز أن يُفطر به، والأصل في ذلك قول الله تعالى (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . أما الشيء الخفيف كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه.
وإذا ثبت بالطب أو علم الشخص من عادته وتجربته أو غلب على ظنّه أن الصيام يجلب له المرض أو يزيده أو يؤخر البرء يجوز له أن يُفطر بل يُكره له الصيام. وإذا كان المرض مطبقا فلا يجب على المريض أن ينوي الصوم بالليل ولو كان يُحتمل أن يُصبح صحيحا لأن العبرة بالحال الحاضرة.
26- إن كان الصوم يسبب له الإغماء أفطر وقضى الفتاوى 25/217، وإذا أغمي عليه أثناء النهار ثم أفاق قبل الغروب أو بعده فصيامه صحيح ما دام أصبح صائما، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه. أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء المغني مع الشرح الكبير 1/412، 3/32، والموسوعة الفقهية الكويتية 5/268، وأفتى بعض أهل العلم بأن من أغمي عليه أو وضعوا له منوّما أو مخدرا لمصلحته فغاب عن الوعي فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ يقضي قياسا على النائم وإن كان أكثر لا يقضي قياسا على المجنون من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
27- ومن أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك أو ذهاب بعض الحواسّ بغلبة الظن لا الوهم أفطر وقضى لأن حفظ النفس واجب، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة أو التعب أو خوف المرض متوهما، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر وعليهم نية الصيام بالليل، فإن كان يضرهم ترك الصنعة وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار، أو لحق بهم مشقة عظيمة اضطرتهم إلى الإفطار فإنهم يُفطرون بما يدفع المشقة ثمّ يُمسكون إلى الغروب ويقضون بعد ذلك، وعلى العامل في المهن الشّاقة كأفران صهر المعادن وغيرها إذا كان لا يستطيع تحمّل الصيام أن يحاول جعل عمله بالليل أو يأخذ إجازة أثناء شهر رمضان ولو بدون مرتّب فإن لم يتيسّر ذلك بحث عن عمل آخر يُمكنه فيه الجمع بين الواجبين الديني والدنيوي ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب: فتاوى اللجنة الدائمة 10/233، 235. وليست امتحانات الطلاب عذرا يبيح الفطر في رمضان، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق: فتاوى اللجنة الدائمة 10/241
28- المريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ولا يُجزئه الإطعام، والمريض مرضا مزمنا لا يُرجى برؤه وكذا الكبير العاجز يُطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد (وذلك يعادل كيلو ونصف تقريبا من الرز) ، ويجوز أن يجمع الفدية فيطعم المساكين في آخر الشهر ويجوز أن يطعم مسكينا كلّ يوم، ويجب إخراجها طعاما لنصّ الآية ولا يُجزئ إعطاؤها إلى المسكين نقودا فتاوى اللجنة الدائمة 10/198، ويُمكن أن يوكّل ثقة أو جهة خيرية موثوقة لشراء الطعام وتوزيعه نيابة عنه.
والمريض الذي أفطر من رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ثم علم أن مرضه مزمن فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره من فتاوى الشيخ ابن عثيمين ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه فمات فليس عليه ولا على أوليائه شيء. ومن كان مرضه يُعتبر مزمنا فأفطر وأطعم ثم مع تقدّم الطبّ وُجد له علاج فاستعمله وشفي لا يلزمه شيء عما مضى لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه. فتاوى اللجنة الدائمة 10/195
29- من مرض ثمّ شفي وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم. وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليّه ". من فتاوى اللجنة الدائمة مجلة الدعوة 806(13/475)
الكبير والعاجز والهرم
30- العجوز والشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت لا يلزمهما الصوم ولهما أن يفطرا مادام الصيام يُجهدهما ويشق عليهما، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في قوله تعالى: (وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين) : ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. البخاري كتاب التفسير باب أياما معدودات..
وأما من سقط تمييزه وبلغ حدّ الخَرَف فلا يجب عليه ولا على أهله شيء لسقوط التكليف، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم حال تمييزه ولم يجب حال هذيانه أنظر مجالس شهر رمضان: ابن عثيمين: ص 28
31- من قاتل عدوا أو أحاط العدو ببلده والصوم يُضعفه عن القتال ساغ له الفطر ولو بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل القتال: " إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطِروا " رواه مسلم 1120ط. عبد الباقي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأفتى به أهل الشام وهم في البلد لما نزل بهم التتار.
32- من كان سبب فطره ظاهرا كالمريض فلا بأس أن يفطر ظاهرا، ومن كان سبب فطره خفيا كالحائض فالأولى أن يُفطر خفية خشية التهمة.(13/476)
النية في الصيام
33- تُشترط النية في صوم الفرض وكذا كلّ صوم واجب كالقضاء والكفارة لحديث: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " رواه أبو داود رقم 2454 ورجح عدد من الأئمة وقفه كالبخاري والنسائي والترمذي وغيرهم: تلخيص الحبير 2/188
ويجوز أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة. والنية عزم القلب على الفعل، والتلفظ بها بدعة وكل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/215. ومن نوى الإفطار أثناء النهار ولم يُفطر فالراجح أن صيامه لم يفسد وهو بمثابة من أراد الكلام في الصلاة ولم يتكلم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يُفطر بمجرد قطع نيته، فالأحوط له أن يقضي. أما الردّة فإنها تُبطل النية بلا خلاف.
وصائم رمضان لا يحتاج إلى تجديد النية في كلّ ليلة من ليالي رمضان بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر فإن قطع النية للإفطار في سفر أو مرض ـ مثلا ـ لزمه تجديد النية للصوم إذا زال عذره.
34- النفل المطلق لا تُشترط له النية من الليل لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا: لا فقال فإني إذا صائم. رواه مسلم 2/ 809 عبد الباقي وأما النفل المعيّن كعرفة وعاشوراء فالأحوط أن ينوي له من الليل.
35- من شرع في صوم واجب ـ كالقضاء والنذر والكفارة ـ فلا بدّ أن يتمّه، ولا يجوز أن يُفطر فيه بغير عذر. وأما صوم النافلة فإن " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر " رواه أحمد 6/342 ولو بغير عذر، وقد أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مرة صائما ثم أكل كما جاء في صحيح مسلم في قصة الحيس الذي أهدي إليه عند عائشة رقم 1154 عبد الباقي، ولكن هل يُثاب من أفطر بغير عذر على ما مضى من صومه؟ قال بعض أهل العلم بأنه لا يُثاب الموسوعة الفقهية 28/13، والأفضل للصائم المتطوع أن يُتمّ صومه ما لم توجد مصلحة شرعية راجحة في قطعه.
36- من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه وعليه القضاء عند جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ". رواه أبو داود 2454
37- السجين والمحبوس إن علم بدخول الشهر بمشاهدة أو إخبار من ثقة وجب عليه الصيام وإلا فإنه يجتهد لنفسه ويعمل بما غلب على ظنّه فإن تبين له بعد ذلك أن صومه وافق رمضان أجزأه ذلك عند الجمهور وإذا وافق صومه بعد رمضان أجزأه عند جماهير الفقهاء وإذا وافق صومه قبل دخول الشهر فلا يُجزيه وعليه القضاء، وإذا وافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض أجزأه ما وافقه وما بعده دون ما قبله. فإن استمرّ الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. الموسوعة الفقهية 28/84(13/477)
الإفطار والإمساك
38- إذا غاب جميع قرص الشمس أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " رواه البخاري: الفتح رقم 1954 والمسألة في مجموع الفتاوى 25/216
والسنّة أن يعجّل الإفطار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي المغرب حتى يُفطر ولو على شربة من الماء رواه الحاكم 1/432 السلسلة الصحيحة 2110 فإن لم يجد الصائم شيئا يُفطر عليه نوى الفطر بقلبه، ولا يمصّ أصبعه كما يفعل بعض العوامّ. وليحذر من الإفطار قبل الوقت فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أقواما معلقين من عراقيبهم تسيل أشداقهم دما فلما سأل عنهم أُخبر أنهم الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم. الحديث في صحيح ابن خزيمة برقم 1986 وفي صحيح الترغيب 1/420، ومن تحقق أو غلب على ظنه أو شكّ أنّ فطره حصل قبل المغرب فعليه القضاء لأنّ الأصل بقاء النهار: فتاوى اللجنة الدائمة 10/287، وينبغي الحذر من الاعتماد على خبر الأطفال الصّغار والمصادر غير الموثوقة. وكذلك ينبغي الانتباه لفارق التوقيت بين المدن والقرى عند سماع الأذان في الإذاعة ونحوها.
39- إذا طلع الفجر وهو البياض المعترض المنتشر في الأفق من جهة المشرق وجب على الصائم الإمساك حالا سواء سمع الأذان أم لا. وإذا كان يعلم أنّ المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر فيجب عليه الإمساك حال سماع أذانه، وأما إذا كان المؤذن يؤذن قبل الفجر فلا يجب الإمساك عن الأكل والشرب. وإن كان لا يعلم حال المؤذن أو اختلف المؤذنون ولا يستطيع أن يتبين الفجر بنفسه ـ كما في المدن غالبا بسبب الإنارة والمباني ـ فإن عليه أن يحتاط بالعمل بالتقويمات المطبوعة المبنية على الحسابات والتقديرات مالم يتبين خطؤها.
وأما الاحتياط بالإمساك قبل الفجر بوقت كعشر دقائق ونحوها فهو بدعة من البدع، وما يلاحظ في بعض التقاويم من وجود خانة للامساك وأخرى للفجر فهو أمر مصادم للشريعة.
40- البلد الذي فيه ليل ونهار في الأربع والعشرين ساعة على المسلمين فيه الصيام ولو طال النهار مادام يمكن تمييز ليلهم من نهارهم وفي بعض البلدان التي لا يمكن فيها تمييز ذلك يصومون بحسب أقرب البلدان إليهم مما فيه ليل أو نهار متميز.(13/478)
المفطرات
41- المفطّرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة: ـ أن يكون عالما غير جاهل، ـ ذاكرا غير ناس، ـ مختارا غير مضطر ولامُكْرَه
ومن المفطّرات ما يكون من نوع الاستفراغ كالجماع والاستقاءة والحيض والاحتجام ومنه ما يكون من نوع الامتلاء كالأكل والشرب. مجموع الفتاوى 25/248
42- من المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب كالأدوية والحبوب عن طريق الفم والإبر المغذية وكذلك حقن الدم ونقله.
وأما الإبر التي لا يُستعاض بها عن الأكل والشرب ولكنها للمعالجة كالبنسلين والأنسولين أو تنشيط الجسم أو إبر التطعيم فلا تضرّ الصيام سواء عن طريق العضلات أو الوريد، فتاوى ابن ابراهيم 4/189 والأحوط أن تكون كل هذه الإبر بالليل، وغسيل الكلى الذي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى مع إضافة مواد كيماوية وغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم يعتبر مفطّرا فتاوى اللجنة الدائمة 10/190 والراجح أن الحقنة الشرجية وقطرة العين والأذن وقلع السنّ ومداواة الجراح كل ذلك لا يفطر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/233، 25/245، وبخاخ الربو لا يفطّر لأنه غاز مضغوط يذهب إلى الرئة وليس بطعام وهو محتاج إليه دائما في رمضان وغيره. وسحب الدم للتحليل لا يُفسد الصوم بل يُعفى عنه لأنه مما تدعو إليه الحاجة فتاوى الدعوة: ابن باز عدد 979 ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم إن لم يبتلعه، ومن حشا سنّه بحشوة طبية فوجد طعمها في حلقه فلا يضر ذلك صيامه من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة(13/479)
وسائر الأمور التالية ليست من المفطّرات:
1. - غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2. الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3. ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس) ، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4. إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5. ما يدخل الإحليل، أي مجرى البول الظاهر للذكر أو الأنثى، من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6. حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7. المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8. الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9. غاز الأكسجين.
10. غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11. ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
12. إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.
13. إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14. أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15. منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.
16. دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
43- من أكل أو شرب عامدا في نهار رمضان دون عذر فقد أتى كبيرة عظيمة من الكبائر وعليه التوبة والقضاء وإن كان إفطاره بمحرم كمسكر ازداد فعله شناعة وقبحا والواجب بكل حال التوبة العظيمة والإكثار من النوافل من صيام وغيره ليجبر نقص الفريضة ولعل الله أن يتوب عليه.
44- و" إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري فتح رقم 1933 وفي رواية: " فلا قضاء عليه ولا كفارة. "
وإذا رأى من يأكل ناسيا فإن عليه أن يذكّره لعموم قول الله تعالى وتعاونوا على البرّ والتقوى ولعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"فإذا نسيت فذكّروني " ولأن الأصل أن هذا منكر يجب تغييره. مجالس شهر رمضان: ابن عثيمين ص: 70
45- من احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة فإنه يُفطر ويقضي كما قد يحدث في إنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق.
46- من وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامدا مختارا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين فقد أفسد صومه أنزل أو لم يُنزل وعليه التوبة وإتمام ذلك اليوم والقضاء والكفارة المغلظة لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت، قال: مالك؟ ، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ ، قال: لا ... الحديث رواه البخاري فتح 4رقم 1936 هذا والحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة.
ومن جامع في أيام من رمضان نهارا فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها مع قضاء تلك الأيام ولا يُعذر بجهله بوجوب الكفّارة: فتاوى اللجنة الدائمة 10/321
47- لو أراد جماع زوجته فأفطر بالأكل أوّلا فمعصيته أشدّ وقد هتك حرمة الشهر مرتين؛ بأكله وجماعه والكفارة المغلظة عليه أوكد وحيلته وبالٌ عليه وتجب عليه التوبة النصوح. أنظر مجموع الفتاوى 25/262
48- والتقبيل والمباشرة والمعانقة واللمس وتكرار النظر من الصائم لزوجته أو أمته إن كان يملك نفسه جائز، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لأَرَبه "، أما حديث: " يدع زوجته من أجلي " فالمقصود به جماعها، ولكن إن كان الشخص سريع الشهوة لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك لأنه يؤدي إلى إفساد صومه ولا يأمن من وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع قال الله تعالى في الحديث القدسي: " ويدع شهوته من أجلي ". والقاعدة الشرعية: كل ما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم.
49- وإذا جامع فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع وصومه صحيح ولو أمنى بعد النزع، ولو استدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر أفطر وعليه التوبة والقضاء والكفارة المغلّظة.
50- إذا أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومه ويجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر وعليه المبادرة لأجل الصلاة.
51- إذا نام الصائم فاحتلم فإنه لا يفسد صومه إجماعا بل يتمّه، وتأخير الغسل لا يضرّ الصيام ولكن عليه أن يبادر به لأجل الصلاة ولتقربه الملائكة.
52- من استمنى في نهار رمضان بشيء يُمكن التحرز منه كاللمس وتكرار النظر وجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يُمسك بقية يومه وأن يقضيه بعد ذلك، وإن شرع في الاستمناء ثمّ كفّ ولم يُنزل فعليه التوبة وليس عليه قضاء لعدم الإنزال، وينبغي أن يبتعد الصائم عن كلّ ما هو مثير للشهوة وأن يطرد الخواطر الرديئة. وأما خروج المذي فالراجح أنه لا يُفطّر. وخروج الودي وهو السائل الغليظ اللزج بعد البول بدون لذة لا يُفسد الصيام ولا يوجب الغسل وإنما الواجب منه الاستنجاء والوضوء فتاوى اللجنة الدائمة 10/279
53- و" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض ". حديث صحيح رواه الترمذي 3/89 ومن تقيأ عمدا بوضع أصبعه أو عصر بطنه أو تعمد شمّ رائحة كريهة أو داوم النظر إلى ما يتقيأ منه فعليه القضاء، ولو غلبه القيء فعاد بنفسه لا يُفطر لأنه بدون إرادته ولو أعاده هو أفطر. وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القيء لأن ذلك يضره مجالس شهر رمضان: ابن عثيمين 67، وإذا ابتلع ما علق بين أسنانه بغير قصد أو كان قليلا يعجز عن تمييزه ومجّه فهو تبع للريق ولا يفطّر، وإن كان كثيرا يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامدا فسد صومه، المغني 4/47 وأما العلك فإن كان يتحلل منه أجزاء أو له طعم مضاف أو حلاوة حرم مضغه وإن وصل إلى الحلق شيء من ذلك فإنه يفطّر، وإذا أخرج الماء بعد المضمضة فلا يضرّه ما بقي من البلل والرطوبة لأنه لا يمكنه التحرز منه ومن أصابه رعاف فصيامه صحيح وهو أمر ناشئ بغير اختياره فتاوى اللجنة الدائمة 10/264 وإذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك فلا يجوز ابتلاع الدم وعليه إخراجه فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده فلا شيء عليه، وكذلك القيء إذا رجع إلى جوفه بغير اختياره فصيامه صحيح: فتاوى اللجنة الدائمة 10/254. أما النخامة ـ وهي المخاط النازل من الرأس ـ والنخاعة ـ وهي البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح ـ فإن ابتلعها قبل وصولها إلى فيه فلا يفسد صومه لعموم البلوى بها فإذا ابتلعها عند وصولها إلى فيه فإنه يُفطر عند ذلك فإذا دخلت بغير قصده واختياره فلا تفطّر. واستنشاق بخار الماء في مثل حال العاملين في محطات تحلية المياه لا يضرّ صومهم: فتاوى اللجنة الدائمة 10/276، ويُكره ذوق الطعام بلا حاجة لما فيه من تعريض الصوم للفساد، ومن الحاجة مضغ الطعام للولد إذا لم تجد الأم منه بدّ، وأن تتذوق الطعام لتنظر اعتداله، وكذلك إذا احتاج لتذوّق شيء عند شرائه، عن ابن عباس قال لا بأس أن يذوق الخلّ والشيء يريد شراءه. حسنه في إرواء الغليل 4/86. وانظر الفتح شرح باب اغتسال الصائم كتاب الصيام
54- والسواك سنّة للصائم في جميع النهار وإن كان رطبا، وإذا استاك وهو صائم فوجد حرارة أو غيرها من طَعْمِه فبلعه أو أخرجه من فمه وعليه ريق ثم أعاده وبلعه فلا يضره الفتاوى السعدية 245 ويجتنب ما له مادة تتحلل كالسواك الأخضر وما أضيف إليه طعم خارج عنه كالليمون والنعناع، ويُخرج ما تفتت منه داخل الفم، ولا يجوز تعمد ابتلاعه فإن ابتلعه بغير قصده فلا شيء عليه.
55- وما يعرض للصائم من جرح أو رعاف أو ذهاب للماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره لا يُفسد الصوم. وكذلك إذا دخل إلى جوفه غبار أو دخان أو ذباب بلا تعمد فلا يُفطر، وما لا يُمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطّره ومثله غبار الطريق وغربلة الدقيق، وإن جمع ريقه في فمه ثم ابتلعه قصدا لم يفطّره على الأصح المغني لابن قدامة 3/106 وكذلك لايضره نزول الدمع إلى حلقه أو أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فيجد طعمه في حلقه، ولا يفطّر وضع الحنّاء والكحل والدّهن أنظر مجموع الفتاوى 25/233، 25/245 وكذلك المراهم المرطّبة والمليّنة للبشرة. ولا بأس بشمّ الطيب واستعمال العطور ودهن العود والورد ونحوها، والبخور لا حرج فيه للصائم إذا لم يتسعّط به: فتاوى اللجنة الدائمة 10/314. والأحسن أن لا يستخدم معجون الأسنان بالنهار ويجعله بالليل لأن له نفوذا قويا المجالس ابن عثيمين ص72
56- والأحوط للصائم أن لا يحتجم والخلاف شديد في المسألة، واختار شيخ الإسلام إفطار المفصود دون الفاصد.
57- التدخين من المفطّرات وليس عذرا في ترك الصيام إذ كيف يُعذر بمعصية؟!
58- والانغماس في ماء أو التلفف بثوب مبتلّ للتبرد لا بأس به للصائم ولا بأس أن يصبّ على رأسه الماء من الحر والعطش المغني 3/44 ويُكره له السباحة لما فيها من تعريض الصوم للفساد. ومن كان عمله في الغوص أو وظيفته تتطلّب الغطس فإن كان يأمن من دخول الماء إلى جوفه فلا بأس بذلك.
59- لو أكل أو شرب أو جامع ظاناً بقاء الليل ثم تبين له أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه لأن الآية قد دلّت على الإباحة إلى أن يحصل التبين، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أحلّ الله لك الأكل والشرب ما شككت فتح الباري 4/135 وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 29/ 263
60- إذا أفطر يظن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فعليه القضاء (عند جمهور العلماء) لأن الأصل بقاء النهار واليقين لا يزول بالشك. (وذهب شيخ الإسلام إلى أنه لا قضاء عليه)
61- وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فقد اتفق الفقهاء على أنه يلفظه ويصح صومه، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسيا ثم تذكّر وفي فيه طعام أو شراب صحّ صومه إن بادر إلى لفظه.
من أحكام الصيام للمرأة
62- التي بلغت فخجلت وكانت تُفطر عليها التوبة العظيمة وقضاء ما فات مع إطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير إذا أتى عليها رمضان الذي يليه ولم تقض. ومثلها في الحكم التي كانت تصوم أيام عادتها خجلا ولم تقض. فإن لم تعلم عدد الأيام التي تركتها على وجه التحديد صامت حتى يغلب على ظنها أنها قضت الأيام التي حاضت فيها ولم تقضها من الرمضانات السابقة مع إخراج كفارة التأخير عن كل يوم مجتمعة أو متفرّقة حسب استطاعتها.
63- ولا تصوم الزوجة (غير رمضان) وزوجها حاضر إلا بإذنه، فإذا سافر فلا حرج.
64- الحائض إذا رأت القصّة البيضاء ـ وهو سائل أبيض يدفعه الرّحم بعد انتهاء الحيض ـ التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت، تنوي الصيام من الليل وتصوم، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه فإن خرج نظيفا صامت، فإذا رجع دم الحيض أفطرت، ولو كان دما يسيرا أو كدرة فإنه يقطع الصيام ما دام قد خرج في وقت العادة فتاوى اللجنة الدائمة 10/154، وإذا استمر انقطاع الدم إلى المغرب وكانت قد صامت بنية من الليل صحّ صومها، والمرأة التي أحست بانتقال دم الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس صح صومها وأجزأها يومها.
والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلا فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فمذهب العلماء كافة صحة صومها الفتح 4/148
65- المرأة التي تعرف أن عادتها تأتيها غدا تستمر على نيتها وصيامها ولا تُفطر حتى ترى الدم.
66- الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها وترضى بما كتب الله عليها ولا تتعاطى ما تمنع به الدم وتقبل ما قَبِل الله منها من الفطر في الحيض والقضاء بعد ذلك وهكذا كانت أمهات المؤمنين ونساء السلف، فتاوى اللجنة الدائمة 10/151 بالإضافة إلى أنه قد ثبت بالطبّ ضرر كثير من هذه الموانع وابتليت كثير من النساء باضطراب الدورة بسبب ذلك، فإن فعلت المرأة وتعاطت ما تقطع به الدم فارتفع وصارت نظيفة وصامت أجزأها ذلك.
67- دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام.
68- إذا أسقطت الحامل جنينا متخلّقا أو ظهر فيه تخطيط لعضو كرأس أو يد فدمها دم نفاس، وإذا كان ما سقط علقة أو مضغة لحم لا يتبيّن فيه شيء من خَلْق الإنسان فدمها دم استحاضة وعليها الصيام إن استطاعت وإلا أفطرت وقضت فتاوى اللجنة الدائمة 10/224. وكذلك إن صارت نظيفة بعد عملية التنظيف صامت. وقد ذكر العلماء أن التخلّق يبدأ بعد ثمانين يوما من الحمل.
النفساء إذا طهرت قبل الأربعين صامت واغتسلت للصلاة المغني مع الشرح الكبير 1/360 فإن رجع إليها الدم في الأربعين أمسكت عن الصيام لأنه نفاس، وإن استمر بها الدم بعد الأربعين نوت الصيام واغتسلت (عند جمهور أهل العلم) وتعتبر ما استمر استحاضة، إلا إن وافق وقت حيضها المعتاد فهو حيض.
والمرضع إذا صامت بالنهار ورأت في الليل نقطا من الدم وكانت طاهرا بالنهار فصيامها صحيح: فتاوى اللجنة الدائمة 10/150
69- الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم ". رواه الترمذي 3/85 وقال: حديث حسن، والحامل إذا صامت ومعها نزيف فصيامها صحيح ولا يؤثّر ذلك على صحة صيامها فتاوى اللجنة الدائمة 10/225
70- المرأة التي وجب عليها الصوم إذا جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها فحكمها حكمه وأما إن كانت مكرهة فعليها الاجتهاد في دفعه ولا كفارة عليها، قال ابن عقيل رحمه الله فيمن جامع زوجته في نهار رمضان وهي نائمة: لا كفارة عليها. والأحوط لها أن تقضي ذلك اليوم. وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم فساد صومها وأنه صحيح.
وينبغي على المرأة التي تعلم أن زوجها لا يملك نفسه أن تتباعد عنه وتترك التزين في نهار رمضان. ويجب على المرأة قضاء ما أفطرته من رمضان ولو بدون علم زوجها ولا يُشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج، وإذا شرعت المرأة في قضاء الصيام الواجب فلا يحلّ لها الإفطار إلا من عذر شرعي ولا يحلّ لزوج المرأة أن يأمرها بالإفطار وهي تقضي وليس له أن يُجامعها وليس لها أن تطيعه في ذلك: فتاوى اللجنة الدائمة 10/353 أمّا صيام النافلة فلا يجوز لها أن تشرع فيه وزوجها حاضر إلا بإذنه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ." رواه البخاري 4793
وفي الختام هذا ما تيسّر ذكره من مسائل الصيام، أسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يختم لنا شهر رمضان بالغفران، والعتق من النيران.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(13/480)