كلمة حول الإعجاز العددي في القرآن واستعمال التقويم الشمسي
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت مؤخرا عن بعض " معجزات " القرآن الكريم، التي شملت العديد من الأشياء مثل المراحل الثلاثة للجنين، ومدارات الكواكب،.. الخ، إلا أن إحداها تحدثت عن أن كلمة " يوم " وردت في القرآن 365 مرة، وأن كلمة " قمر " تكررت 12 مرة، وقد نسيت عدد المرات التي تكرر ذكر كلمة " أيام " في القرآن، وقد قام أحد الأصدقاء بطباعة التقويم الإسلامي (الهجري) لكنه لم يكن يتكون من 365 يوماً، فما معنى ذلك حول التقويم الإسلامي؟ أيعني ذلك أنه غير دقيق؟ أم أن الله علم أن أغلب العالم سيستخدمون التقويم الميلادي وأنه إشارة إلى صحة هذا التقويم الأخير؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
شُغف كثير من الناس بأنواع من الإعجازات في القرآن الكريم، ومن هذه الأنواع " الإعجاز العددي " فنشروا في الصحف والمجلات وشبكات الإنترنت قوائم بألفاظ تكررت مرات تتناسب مع لفظها، أو تساوى عددها مع ما يضادها، كما زعموا في تكرار لفظة " يوم " (365) مرة، ولفظ " شهر " (12) مرة، وهكذا فعلوا في ألفاظ أخرى نحو " الملائكة والشياطين " و " الدنيا والآخرة " إلخ.
وقد ظنَّ كثيرٌ من الناس صحة هذه التكرارات وظنوا أن هذا من إعجاز القرآن، ولم يفرقوا بين " اللطيفة " و " الإعجاز "، فتأليف كتابٍ يحتوي على عدد معيَّن من ألفاظٍ معيَّنة أمرٌ يستطيعه كل أحدٍ، فأين الإعجاز في هذا؟ والإعجاز الذي في كتاب الله تعالى ليس هو مثل هذه اللطائف، بل هو أمر أعمق وأجل من هذا بكثير، وهو الذي أعجز فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سورٍ مثله أو بسورة واحدة، وليس مثل هذه اللطائف التي يمكن لأي كاتب أن يفعلها – بل وأكثر منها – في كتاب يؤلفه، فلينتبه لهذا.
وليُعلم أنه قد جرَّ هذا الفعل بعض أولئك إلى ما هو أكثر من مجرد الإحصائيات، فراح بعضهم يحدد بتلك الأرقام " زوال دولة إسرائيل " وتعدى آخر إلى " تحديد يوم القيامة "، ومن آخر ما افتروه على كتاب الله تعالى ما نشروه من أن القرآن فيه إشارة إلى " تفجيرات أبراج نيويورك "! من خلال رقم آية التوبة وسورتها وجزئها، وكل ذلك من العبث في كتاب الله تعالى، والذي كان سببه الجهل بحقيقة إعجاز كتاب الله تعالى.
ثانياً:
بالتدقيق في إحصائيات أولئك الذين نشروا تلك الأرقام وُجد أنهم لم يصيبوا في عدِّهم لبعض الألفاظ، ووجدت الانتقائية من بعضهم في عدِّ الكلمة بالطريقة التي يهواها، وكل هذا من أجل أن يصلوا إلى أمرٍ أرادوه وظنوه في كتاب الله تعالى.
قال الشيخ الدكتور خالد السبت:
قدَّم الدكتور " أشرف عبد الرزاق قطنة " دراسة نقدية على الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وأخرجه في كتاب بعنوان: " رسم المصحف والإعجاز العددي، دراسة نقدية في كتب الإعجاز العددي في القرآن الكريم " وخلص في خاتمة الكتاب الذي استعرض فيه ثلاثة كتب هي (1) كتاب " إعجاز الرقم 19 " لمؤلفه باسم جرار، (2) كتاب " الإعجاز العددي في القرآن " لعبد الرزاق نوفل، (3) كتاب " المعجزة " لمؤلفه عدنان الرفاعي، وخلص المؤلف إلى نتيجة عبَّر عنها بقوله:
" وصلت بنتيجة دراستي إلى أن فكرة الإعجاز العددي " كما عرضتها هذه الكتب " غير صحيحة على الإطلاق، وأن هذه الكتب تقوم باعتماد شروط توجيهية حيناً وانتقائية حيناً آخر، من أجل إثبات صحة وجهة نظر بشكل يسوق القارئ إلى النتائج المحددة سلفاً، وقد أدت هذه الشروط التوجيهية أحياناً إلى الخروج على ما هو ثابت بإجماع الأمة، كمخالفة الرسم العثماني للمصاحف، وهذا ما لا يجوز أبداً، وإلى اعتماد رسم بعض الكلمات كما وردت في أحد المصاحف دون الأخذ بعين الاعتبار رسمها في المصاحف الأخرى، وأدت كذلك إلى مخالفة مبادئ اللغة العربية من حيث تحديد مرادفات الكلمات وأضدادها.
(ص 197) دمشق، منار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1420هـ / 1999.
وقد ذكر الدكتور فهد الرومي أمثله على اختيار الدكتور عبد الرزاق نوفل الانتقائي للكلمات حتى يستقيم له التوازن العددي، ومن ذلك قوله: إن لفظ اليوم ورد في القرآن (365) مرة بعدد أيام السنة، وقد جمع لإثبات هذا لفظي " اليوم "، " يوماً " وترك " يومكم " و " يومهم " و " يومئذ "؛ لأنه لو فعل لاختلف الحساب عليه! وكذلك الحال في لفظ " الاستعاذة " من الشيطان ذكر أنه تكرر (11) مرة، يدخلون في الإحصاء كلمتي " أعوذ " و " فاستعذ " دون " عذت " و " يعوذون " و " أعيذها " و " معاذ الله ".
انظر: " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر " (2 / 699، 700) بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1414هـ.
وبهذا الكلام العلمي المتين يتبيَّن الجواب عن كلمة " يوم " وعددها في القرآن الكريم، والذي جاء في السؤال.
ثالثاً:
وأما الحساب الذي يذكره الله تعالى في كتابه الكريم فهو الحساب الدقيق الذي لا يختلف على مدى السنوات، وهو الحساب القمري.
وفي قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) الكهف/25 ذكر بعض العلماء أن عدد (300) هو للحساب الشمسي، وأن عدد (309) هو للحساب القمري! وقد ردَّ على هذا القول الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وبيَّن في ردِّه أن الحساب عند الله تعالى هو الحساب القمري لا الشمسي.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" (وَازْدَادُوا تِسْعاً) ازدادوا على الثلاث مائة تسع سنين، فكان مكثُهم ثلاث مائة وتسع سنين، قد يقول قائل: " لماذا لم يقل مائة وتسع سنين؟ "
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال: (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) ، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية، وازدادوا تسعاً بالقمرية؛ فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، مَن الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟ حتى لو وافق أن ثلاث مائة سنين شمسية هي ثلاث مائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا؛ لأن الحساب عند الله تعالى واحد.
وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن " ثلاث مائة سنين " شمسية، (وازدادوا تسعاً) قمرية قول ضعيف.
أولاً: لأنه لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس/5، وقال تعالى: (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) البقرة/189 " انتهى.
" تفسير سورة الكهف ".
والحساب بالقمر والأهلة هو المعروف عند الأنبياء وأقوامهم، ولم يُعرف الحساب بالشمس إلا عند جهلة أتباع الديانات، وللأسف وافقهم كثير من المسلمين اليوم.
قال الدكتور خالد السبت – في معرض رده على من استدل بآية (لا يزال بنيانهم..) في سورة التوبة على تفجيرات أمريكا -:
" الخامس: أن مبنى هذه الارتباطات على الحساب الشمسي، وهو حساب متوارث عن أُمم وثنية، ولم يكن معتبراً لدى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما الحساب المعتبر في الشرع هو الحساب بالقمر والأهلة، وهو الأدق والأضبط، ومما يدل على أن المعروف في شرائع الأنبياء هو الحساب بالقمر والأهلة حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ) أخرجه أحمد (4 / 107) ، والبيهقي في " السنن " (9 / 188) ، وسنده حسن، وذكره الألباني في " الصحيحة " (1575) . وهذا لا يعرف إلا إذا كان الحساب بالقمر والأهلة، ويدل عليه أيضا الحديث المخرج في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ... الحديث , أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130) ، وقد صرَّح الحافظ رحمه الله أنهم كانوا لا يعتبرون الحساب بالشمس - انظر: " الفتح " (4 / 291) ، وانظر (7 / 323) -.
وقال ابن القيم رحمه الله - تعليقا على قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) يونس/5، وقوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يس/38، 39:
" ولذلك كان الحساب القمري أشهر وأعرف عند الأمم وأبعد من الغلط، وأصح للضبط من الحساب الشمسي، ويشترك فيه الناس دون الحساب، ولهذا قال تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) يونس/5 ولم يقل ذلك في الشمس، ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسيره حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب " انتهى من "مفتاح دار السعادة " ص 538، 539.
وربما يُفهم من العبارة الأخيرة لابن القيم رحمه الله أن أهل الكتاب كانوا يعتمدون الحساب بالشمس، وهذا قد صرح الحافظ ابن حجر رحمه الله بردِّه بعد أن نسبه لابن القيم - انظر: " الفتح " (7 / 323) –.
والواقع أنه لم يكن معتبراً في شرعهم وإنما وقع لهم بعد ذلك لدى جهلتهم " انتهى.
وفي فوائد قوله تعالى: (يسئلونك عن الأهلة ... ) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" ومنها: أن ميقات الأمم كلها الميقات الذي وضعه الله لهم - وهو الأهلة - فهو الميقات العالمي؛ لقوله تعالى: (مواقيت للناس) ؛ وأما ما حدث أخيراً من التوقيت بالأشهر الإفرنجية: فلا أصل له من محسوس، ولا معقول، ولا مشروع؛ ولهذا تجد بعض الشهور ثمانية وعشرين يوماً، وبعضها ثلاثين يوماً، وبعضها واحداً وثلاثين يوماً، من غير أن يكون سبب معلوم أوجب هذا الفرق؛ ثم إنه ليس لهذه الأشهر علامة حسيَّة يرجع الناس إليها في تحديد أوقاتهم، بخلاف الأشهر الهلاليَّة فإن لها علامة حسيَّة يعرفها كل أحدٍ " انتهى.
" تفسير البقرة " (2 / 371) .
وقال القرطبي رحمه الله تعليقاً على قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) التوبة/36:
" هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام في العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً؛ لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج " انتهى.
" تفسير القرطبي " (8 / 133) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/22)
من هو ابن صياد؟ وهل هو المسيح الدجال؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في بعض الأحاديث كلاما عن شخصية عجيبة ظهرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واسمه ابن صياد أو ابن صائد فمن هو هذا الرجل وما حقيقته؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ابن صياد اسمه: صافي، وقيل عبد الله بن صياد أو صائد.
كان من يهود المدينة، وقيل من الأنصار، وكان صغيراً عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وقيل إنه أسلم.
وكان ابن صياد دجّالاً، وكان يتكهن أحياناً فيصدق ويكذب، فانتشر خبره بين الناس، وشاع أنه الدجال. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطّلع على أمره ويتبين حاله، فكان يذهب إليه مختفياً حتى لا يشعر به رجاء أن يسمع منه شيئاً، وكان يوجه إليه بعض الأسئلة التي تكشف عن حقيقته. وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ فُقِدَ ابن صياد يوم الحرّة.
قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن صياد
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَرَى قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ. رواه البخاري 1355
قَوْله: " أُطُم " بِضَمَّتَيْنِ بِنَاء كَالْحِصْنِ.
وَ " مَغَالَة " بَطْن مِنْ الأَنْصَار ,
وَقَوْله " فَرَفَضَهُ " أَيْ تَرَكَهُ ,
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُرِيد أَنْ يَسْتَغْفِلهُ لِيَسْمَع كَلامه وَهُوَ لا يَشْعُر.
قَوْله: (لَهُ فِيهَا رُمْزَة أَوْ زُمْرَة) وفي رواية زَمْزَمَة
بِمَعْنَى الصَّوْت الْخَفِيّ , أو تَحْرِيك الشَّفَتَيْنِ بِالْكَلامِ، أو الكلام الغامض.
يُنظر فتح الباري شرح الحديث المتقدّم في كتاب الجنائز من صحيح البخاري
*هل ابن صياد هو الدجال الأكبر؟
في الحديث السابق - الذي فيه بعض أحوال ابن صياد وامتحان النبي صلى الله عليه وسلم له - ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفاً في أمر ابن صياد، لأنه لم يُوحَ إليه أنه الدجّال ولا غيره. وكان كثير من الصحابة يظنون أن ابن صياد هو الدجال. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يحلف أنه الدجال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وحضرة الصحابة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ففي الحديث عن محمد بن المنكدر قال: " رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ. قُلْتُ: تَْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رواه البخاري برقم 6808.
وقد حصلت لابن عمر قصّة عجيبة مع ابن صائد وردت في صحيح الإمام مسلم عن نَافِعٍ قَالَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ قَوْلا أَغْضَبَهُ فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلأَ السِّكَّةَ فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا فَقَالَتْ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَرَدْتَ مِنْ ابْنِ صَائِدٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا. صحيح مسلم 2932
وبالرغم من ذلك فقد كان ابن صياد لما كبر يحاول الدّفاع عن نفسه ويُنكر أنه الدّجال ويُظهر تضايقه من هذه التهمة، ويحتج على ذلك بأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الدجال لا تنطبق عليه.
ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي. فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ؛ فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَفَعَلَ. قَالَ: فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ - قدح كبير - فَقَالَ: اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ وَاللَّبَنُ حَارٌّ - مَا بِي إِلا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ أَوْ قَالَ آخُذَ عَنْ يَدِهِ - فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أَخْتَنِقَ مِمَّا يَقُولُ لِي النَّاسُ، يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمٌ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَقِيمٌ لا يُولَدُ لَهُ وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بِالْمَدِينَةِ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلا مَكَّةَ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ وَأَيْنَ هُوَ الآنَ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ " رواه مسلم برقم 5211. وقال ابن صياد في رواية: " أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الآنَ حَيْثُ هُوَ وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ " رواه مسلم برقم 5210.
وقد التبس على العلماء ما جاء في ابن صياد، وأشكل عليهم أمره، فمن قائل أنه الدجال، ومنهم من يقول أنه ليس الدجال. ومع كل فريق دليله، فتضاربت أقوالهم كثيراً، وقد اجتهد ابن حجر في التوفيق بين هذه الأقوال، فقال: " أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال: أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثوقاً، وأن ابن صياد هو شيطان تبدّى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه، إلى أن تجيء المدة التي قدّر الله تعالى خروجه فيها، فتح الباري (13 / 328) .
وقيل إنّ ابن صياد هو دجّال من الدّجاجلة وليس هو الدّجال الأكبر. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/23)
هل صخرة بيت المقدس معلقة في الهواء
[السُّؤَالُ]
ـ[صخرة المقدس التي ركب المعراج عليها يوم عرج النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لنا أنها معلقة في الهواء بالقدرة أفتونا جزاكم الله خيراً؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كل شيء قائم في مقره بإذن الله سواء في ذلك السموات وما فيها والأرضون وما فيهن حتى الصخرة المسؤول عنها، قال تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) وقال سبحانه: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)
وليست صخرة بيت المقدس معلقة في الفضاء وحولها هواء من جميع نواحيها بل لا تزال متصلة من جانب الجبل التي هي جزء منه متماسكة معه، وهي وجبلها قائمان في مقرهما للأسباب الكونية العادية المفهومة، شأنهما في ذلك شأن غيرهما من الكائنات، ولا ننكر قدرة الله على أن يمسك جزءاً من الكونيات في الفضاء فمجموع المخلوقات كلها قائمة في الفضاء بقدرة الله كما تقدم، وقد رفع الله الطور فوق قوم موسى حينما امتنعوا من العمل بما أتاهم به موسى من الشرائع وكان محمولاً بقدرة الله، قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) ، وقال تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظُلّة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) ولكن القصد بيان الواقع، وأن الصخرة التي في بيت المقدس ليست معلقة في الفضاء من جميع جوانبها منفصلة عن الجبل انفصالاً كلياً بل هي متصلة به متماسكة معه. والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
فتوى إسلامية لللجنة الدائمة /485(9/24)
اتخّاذ الهلال شعارا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الذي يرمز إليه شعار الهلال والنجمة لدى المسلمين؟ لقد بحثت في موقعك على الإنترنت وكذلك في المراجع الموجودة في المكتبة لديَ ولم أعثر على شيء سوى إشارة إلى علم الإمبراطورية العثمانية. شكراً لك على اهتمامك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن اتخاذ الأهلة أو النجوم شعاراً للمسلمين لا أصل له في الشرع، ولم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد خلفائه الراشدين بل ولا في عهد بني أمية، وإنما حدث بعد ذلك واختلف بعض أصحاب التواريخ في أول حدوثه، وفي أول من فعله فقيل الفرس، وقيل الإغريق ثم انتقل إلى المسلمين في بعض الحوادث، (يُنظر التراتيب الإدارية للكتاني 1/320) ، ويقال أن اتخاذ الهلال سببه هو أن المسلمين حين فتحوا بعض بلاد الغرب وفي كنائسهم يعلو فيها الصليب وضع المسلمون بدل الصليب هذا الهلال فانتشر لذلك، وعلى كلٍّ فالشعارات والرايات لابد وأن تكون موافقة للشرع وحيث أنه ليس هناك دليل على مشروعيتها فالأحرى ترك ذلك، وليس الهلال ولا النجمة شعاراً للمسلمين، ولو اتخذه بعض المسلمين، وأما من جهة - ما يعتقده المسلمون في القمر والنجوم فإنهم يعتقدون أنها من خلق الله عز وجل لا تنفع ولا تضر ولا تؤثر بذاتها في الأحداث الأرضية، وإنما خلقها الله لفوائد البشر، ومن ذلك قول الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.. الآية (189) سورة البقرة. نقل ابن كثير رحمه الله في معنى قوله قل هي مواقيت للناس: يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم.. جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعِدَّة نسائهم ومحل دَيْنهم. تفسير ابن كثير
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه, وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والأَيْمان والحج والعُدَد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات.. إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب" [الإسراء: 12] .. وقوله: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" [يونس: 5] وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام. أنظر تفسير القرطبي.
أمّا النّجوم فقد قال علماء الإسلام خَلَقَ (الله) هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاثٍ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَعَلامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، صحيح البخاري كتاب بدء الخلق كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..) الآية 97 سورة الأنعام، وقال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير) سورة تبارك آية 5، والله تعالى أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/25)
متى كانت بداية الإسلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[متى كانت بداية الإسلام؟ وكم بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بدأ الإسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه جبريل بالوحي من الله في مكة في جزيرة العرب وكان ذلك في يوم الاثنين في شهر رمضان في العام الأربعين من عمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل ثلاث عشرة سنة من هجرته إلى المدينة (وهو بدء التاريخ الهجري) وبالتأريخ الميلادي تكون البعثة قد حدثت تقريبا في عام 608 أو 609 للميلاد، وقد أخبر سلمان الفارسي رضي الله عنه (وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) أن بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى صلى الله عليه وسلم ستمائة عام. والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/26)
زواج أبناء آدم
[السُّؤَالُ]
ـ[لست أشكّ في إيماني ولله الحمد ولكنها أشياء ترد على الذّهن: لما ولد لآدم وحواء أولاد المفترض أنهم تزوجوا من بعضهما البعض، أليس زواج الإخوة من أخواتهم حرام في القرآن فكيف حدث ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما دام قلبك مطمئنا بالإيمان فلا يضرّك - إن شاء الله - ما يمرّ بك من الوساوس لأنّ الإنسان المؤمن إذا خطر بباله شبهة أو حصل في عقله شيء من التعارض بين بعض النصوص الشرعية فإنّه يؤمن بالحق وإنّ لتلك الشّبهة جوابا ولذلك التعارض حلّ وإن لم يعرفه ولم يهتد إليه. لكن على الإنسان أن لا يتخذّ من قلبه مستودعا للشبهات أو يجعل همّه البحث عن الإشكالات ويترك طلب العلم المفيد كما أنّه لا بدّ للمسلم من معرفة الأمور المحكمة في الشريعة لكي يردّ إليها الأمور المشتبهة.
وأمّا المسألة التي سألت عنها فإنّه من المعلوم أنّ الأحكام تختلف باختلاف الشرائع مع بقاء الأصول والمعتقد ثابتة في الجميع وإذا كانت صناعة التماثيل جائزة في شريعة سليمان فإنها محرّمة في شرعنا وإذا كان سجود التحيّة جائزا في شريعة يوسف فهو محرم في شرعنا وإذا كانت غنائم المعارك محرّمة على من قبلنا فهي حلال لنا وإذا كانت قبلة غيرنا من الأمم إلى بيت المقدس فقبلتنا إلى الكعبة وهكذا، وقد كان في شرع آدم عليه السلام تزويج الأخ من أخته بخلاف شرائع من بعده وفيما يلي توضيح من الحافظ ابن كثير في هذه المسألة:
قال رحمه الله تعالى: [إن] الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ولكن قالوا كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر.. قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر تفسير ابن كثير. سورة المائدة. آية 27
أسأل الله أن يوفقنا وإياك للإيمان والعلم النافع. وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/27)
من هو عمر الخيام
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو عمر الخيام وما هي عقيدته؟ أرجو إعطائي نبذة عنه؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. هو: أبو الفتح، عمر بن إبراهيم الخيَّامي النيسابوري، شاعر، فيلسوف، من أهل نيسابور، مولداً ووفاة.
2. ولد سنة 408 هـ، في قرية نيسابور، وتوفي ودفن فيها سنة 517 هـ، وقيل: 515 هـ
3. كان عالماً بالرياضيات، والفَلَك، واللغة، والفقه، والتاريخ.
4. ولنبوغه في علم الفلك، فقد عيِّن مديراً لمرصد بغداد، ولشدة اهتمامه بالفلسفة قُرن اسمه باسم ابن سينا - الذي كان له مقالات كفرية تُخرج عن الإسلام -.
5. واشتهر كذلك بالشعر، ومن أشهر أشعاره " الرُّباعيات "، وهي مليئة بالكفر والإباحية والزندقة، ولا عجب إذا علمنا اهتمام الغرب بطباعتها ونشرها، وقد ترجموها إلى لغات عديدة مثل الإنجليزية، والفرنسية، والروسيَّة، والألمانية، وغيرها، وقد استفاد الإنجليز في نشر الفاحشة والرذيلة والتي دعا إليها الخيَّام في " رباعياته "، وقد نشروا ذلك في الدول التي استعمروها كالهند وإيران، ناسبين ذلك الأمر إلى واحد من المسلمين بل ومن عظمائهم في زعمهم.
6. ومِن أشعاره في الخمر - من الرباعيات -:
إشرب الراَّح فهْي رُوح الرَّوْح
بلْسم النفس والحشا والمروح
وإذا ما دهاك طوفان همٍّ
فانْجُ فيها فذي سفينة نوحِ
7. وفي إنكاره البعث بعد الموت يقول:
قُم قبل غارة الأسى مبِّكرَا
وادع بها ورْديَّةً تجلو الدُّجَى
فلستَ يا هذا الغبيُّ عسجدَا
حتى تُوارى في الثرى وتُخرجا
= العسجد: الذهب.
8. وفي إباحياته وخلاعياته يقول:
ما اسطعتَ كن لبني الخلاعة تابعاً
واهدِم بناء الصوم والصلوات
واسمع عن الخيَّام خير مقالة
إشرب وغنِّ وسِر إلى الخيرات
9. وفي استهزائه بالشرع ووقاحته مع ربه، وموقفه من التوبة، يقول:
كلَّ يوم أنوي المتاب إذا ما
جاءني الليل عن كؤوس الشراب
فأتاني فصلُ الزهور وإني
فيه يا ربُّ تائبٌ عن متابي
01. ويرى بعض الباحثين كالزِّركلي أنه تاب من ذلك وحجّ، وبعضهم كعبد الحق فاضل يشكك في نسبة الرباعيات له!
وعلى كل حال: فالرباعيات لا تدل على أنه تاب، لأن فيها المجاهرة بالكفر والتحلل من الفضائل، وفيها التبرِّي من التوبة والإنابة، بل لا تدل على أن صاحبها يؤمن بالله واليوم الآخر.
والتشكيك في نسبتها إلى الخيام لا يقْوى مع كثرة من نسبها إليه ودلَّل على ذلك، والله أعلم بالحقائق،
وانظر في ترجمته: " الأعلام " للزركلي 5 / 38، و "معجم المؤلفين " لعمر رضا كحالة 2 / 549، و " عمر الخيام بين الكفر والإيمان " لإحسان حقي، و " ثورة الخيام " لعبد الحق فاضل. وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/28)
هل انتشر الإسلام بحد السيف
[السُّؤَالُ]
ـ[يدعي بعض أعداء الدين أن الإسلام قد انتشر بحد السيف، فما رد فضيلتكم على ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإسلام انتشر بالحجة والبيان بالنسبة لمن استمع البلاغ واستجاب له، وانتشر بالقوة والسيف بالنسبة لمن عاند وكابر حتى غُلِب على أمره، فذهب عناده فأسلم لذلك الواقع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى اللجنة الدائمة 12/14.(9/29)
هل ترمز الحمامة إلى أي معنى في الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[في الدين النصراني الحمام رمز للسلام،ليس ذلك فقط وإنما أيضا نفس مقدسة في دين الإسلام هل للحمام أي أهمية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عرضنا هذا السؤال على فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين فأجاب حفظه الله:
ليس للحمام ميزة معينة في الإسلام وهو من الطيور التي أباح الله أكلها كسائر الطيور المباحة
والحمامة في الإسلام لا ترمز إلى السلام ولا إلى غيره ويكفينا نحن المسملين ما أمرنا الله به من إقامة العدل في الأرض.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الله بن جبرين(9/30)
هل كان العرب يعرفون الله قبل البعثة النبوية
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن نعلم بأن اسم والد نبينا الكريم كان "عبد الله"، وأنه مات قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم. بهذه الخلفية، أرجو أن تخبرني عن مفهوم العرب عن "الله" قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) ، هل كانوا يفهمون معنى هذه الكلمة قبل مولد النبي؟ كيف كانوا يفرقون بين الله وبين الأوثان، هذا إذا كانوا يفرقون بينهما أصلا؟ وشكرا لك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينبغي أن تعلم أن المجتمعات العربية قبل الإسلام لم تكن مجتمعات إلحادية تنكر وجود الله، ولا مجتمعات تجهل أن هناك رباً خالقاً رازقاً، بل كانوا يعرفون ذلك، وكان منهم بقايا من دين إبراهيم، وعلاقتهم باليهود والنصارى موجودة، ولكن كانت مشكلتهم أنهم لا يُفردون الله بالعبادة وحده دون سواه، بل يشركون معه الآلهة التي يعبدونها، وهم يعبدونها لا بحجة أنها هي الرب الخالق الرازق، ولكن يزعمون انها وسائط بينهم وبين الله، تقربهم إلى الله، ولذلك قال الله عنهم: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) ، فهذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق، وفي آية أخرى يقول سبحانه: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) . وهكذا في آيات عديدة تدل على إيمانهم بتوحيد الربوبية، وإنما كان شركهم في الألوهية كما قال سبحانه وتعالى عنهم: (والذين اتخذوا من دونه أولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ، أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربوننا إلى الله.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ سعد الحميد.(9/31)
لم يعش أحد أكثر من مائة سنة ممن كان حيا في العام العاشر للهجرة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل بإمكانكم توضيح هذا الحديث لي:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: بعد أن صلى بنا رسول الله صلاة العشاء قال لنا: أتعلمون هذه الليلة؟ لن يبقى أحد ممن هو على الأرض الآن بعد 100 عام من هذه الليلة. صحيح البخاري.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
معنى الحديث واضح وظاهر وأيده الواقع، فهو صلى الله عليه وسلم يُخبر أن الناس الموجودين في ذلك العصر لن يعيش أحد منهم أكثر من مائة سنة، وهذا ما حصل فعلا، فآخر الصحابة موتا كانت وفاته سنة عشر ومائة أي بعد مائة عام من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أبو الطفيل بن واثلة.
الشيخ سعد الحميد.
والحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ) رواه البخاري.
وفيما يلي طائفة من شرح الحافظ ابن حجر رحمه الله لهذا الحديث:
قَوْله: (صَلَّى لَنَا) أَيْ إِمَامًا ,
قَوْله: (فِي آخِر حَيَاته) جَاءَ مُقَيَّدًا فِي رِوَايَة جَابِر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل مَوْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرٍ. قَوْله: (أَرَأَيْتَكُمْ) الْمَعْنَى أَعَلِمْتُمْ أَوْ أَبْصَرْتُمْ لَيْلَتكُمْ ,
قَوْله: (فَإِنَّ رَأْس) أَيْ عِنْد اِنْتِهَاء مِائةِ سَنَة.
قَوْله: (لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْر الأَرْض) أَيْ الآن مَوْجُودًا أَحَد إِذْ ذَاكَ ,
قَالَ اِبْن بَطَّال: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّة تَخْتَرِم الْجِيل الَّذِي هُمْ فِيهِ , فَوَعَظَهُمْ بِقِصَرِ أَعْمَارهمْ , وَأَعْلَمهُمْ أَنَّ أَعْمَارهمْ لَيْسَتْ كَأَعْمَارِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الأُمَم لِيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمُرَاد أَنَّ كُلّ مَنْ كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة عَلَى الأَرْض لا يَعِيش بَعْد هَذِهِ اللَّيْلَة أَكْثَر مِنْ مِائَة سَنَة سَوَاء قَلَّ عُمْره قَبْل ذَلِكَ أَمْ لا , وَلَيْسَ فِيهِ نَفْي حَيَاة أَحَد يُولَد بَعْد تِلْكَ اللَّيْلَة مِائَة سَنَة. وَاَللَّه أَعْلَم. انتهى
وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنّه أخبر بأمر مستقبلي ووقع كما أخبر وقد استدلّ به العلماء الثقات في الردّ على بعض الصوفية الذين يقولون بأنّ الخضر عليه السلام لا يزال حيا إلى الآن.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/32)
اسم امرأة أيوب عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما اسم امرأة أيوب علية السلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر المؤرخون وبعض المفسرين أن اسمها " رحمة " بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب!
وهذا مما لم يثبت بنص صحيح صريح، وإنما ينقل من كتب عن أهل الكتاب، أو من المسلمين عنهم، ونحن نذكر من قال بهذا القول ونقَلَه.
أولاً:
قال السيوطي:
وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: زوجة أيوب عليه السلام: رحمة رضي الله عنها بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
" الدر المنثور " (7 / 197) . وكذا هو في: " تفسير البيضاوي " (3 / 310) ، " تفسير القرطبي " (9 / 265) ، " تفسير البغوي " (2 / 451) .
ثانياً:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنَّها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق: فذاك صحيحٌ.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوتٌ عنه لا مِن هذا القبيل، ولا مِن هذا القبيل: فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايتُه لما تقدم.
وغالب ذلك مما لا فائدةَ فيه تعود إلى أمرٍ دينيٍّ، ولهذا يختلف علماءُ أهلِ الكتابِ في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسببِ ذلك، كما يذكرون في مثل هذا: أسماءَ أصحابِ الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى مِن أيِّ الشجرِ كانت… إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم.
" مجموع الفتاوى " (13 / 366 - 367) .
وقال الشنقيطي رحمه الله:
وما يذكره المفسرون مِن الأقوال في اسم كلبهم، فيقول بعضهم: اسمه " قطمير "، ويقول بعضهم: اسمه " حمدان " إلى غير ذلك، لم نُطِل به الكلام لعدم فائدته، ففي القرآن العظيم أشياءُ كثيرةٌ لم يبيِّنْها الله لنا ولا رسولُه، ولم يَثبت في بيانها شيءٌ، والبحثُ عنها لا طائلَ تحته ولا فائدةَ فيه.
" أضواء البيان " (4 / 48) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/33)
موقفنا من يزيد بن معاوية
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت عن المدعو يزيد بن معاوية، وأنه كان خليفة على المسلمين في فترة مضت، وأنه كان شخصا سكِّيراً ساديا، ولم يكن مسلما حقا. فهل هذا صحيح؟ أرجو أن تخبرني عن تاريخ المذكور.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اسمه: يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة الأموي الدمشقي.
قال الذهبي: وكان أمير ذلك الجيش في غزو القسطنطينية وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري عقد له أبوه بولاية العهد من بعده فتسلم الملك عند موت أبيه في رجب سنة ستين وله ثلاث وثلاثون سنة فكانت دولته أقل من أربع سنين.
ويزيد ممن لا نسبُّه ولا نحبه وله نظراء من خلفاء الدولتين وكذلك في ملوك النواحي بل فيهم من هو شر منه وإنما عظم الخطب لكونه ولي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وأربعين سنة والعهد قريب والصحابة موجودون كابن عمر الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده.
افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين واختتمها بواقعة الحرة فمقته الناس ولم يبارك في عمره وخرج عليه غير واحد بعد الحسين كأهل المدينة قاموا لله.. وابن الزبير.....
سير أعلام النبلاء ج/ 4 ص/ 38.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية الموقف من يزيد بن معاوية فقال:
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبى سفيان ثلاث فرق، طرفان ووسط.
فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وأنه سعى في قتل سبط رسول الله تشفِّياً من رسول الله وانتقاما منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد على بن أبى طالب وغيره يوم بدر وغيرها. وأشياء من هذا النمط وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان فتكفير يزيد أسهل بكثير.
والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلًا صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي وحمله على يديه وبرَّك عليه. وربما فضَّله بعضهم على أبى بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبيَّا ...
وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسِيَر المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأى وخبرة
والقول الثالث: أنه كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبا ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة.
ثم افترقوا ثلاث فرق فرقة لعنته وفرقة أحبته وفرقة لا تسبه ولا تحبه وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين قال صالح بن أحمد قلت لأبي: إن قوما يقولون: إنهم يحبون يزيد فقال يا بني وهل يحب يزيد أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر!! فقلت يا أبت فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني ومتى رأيت أباك يلعن أحداً.
وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد فيما بلغني لا يُسَب ولا يُحَب وقال: وبلغنى أيضا أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد فقال: لاننقص فيه ولا نزيد وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها ... أهـ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج/4 ص/481-484.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/34)
أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم أم أن هؤلاء قوم غير هؤلاء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي في تفسير قول الله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) الكهف/9:
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين أحدهما معطوف على الآخر خلافا لمن قال: إن أصحاب الكهف طائفة وأصحاب الرقيم طائفة أخرى، وأن الله قص على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم هذه السورة الكريمة " قصة أصحاب الكهف " ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عنهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه فدعوا الله بأعمالهم الصالحة وهم: البار بوالديه والعفيف والمستأجر، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى، واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم وفي أي محل من الأرض كانوا كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ زائد على ما في القرآن وللمفسرين في ذلك أخبار كثير إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 22) .(9/35)
أين دفن الحسين وما هي أهمية معرفة مكان قبور الصحابة
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول السائل كثر كلام الناس واختلف حول قبر سيدنا الحسين أين مكانه؟ وهل يستفيد المسلمون من معرفة مكانه بالتحديد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بالواقع قد اختلف الناس في ذلك، فقيل: إنه دفن في الشام، وقيل: في العراق، والله أعلم بالواقع. أما رأسه فاختلف فيه؛ فقيل: في الشام، وقيل في العراق، وقيل: في مصر، والصواب أن الذي في مصر ليس قبرا له، بل هو غلط وليس به رأس الحسين، وقد ألف في ذلك بعض أهل العلم، وبينوا أنه لا أصل لوجود رأسه في مصر ولا وجه لذلك، وإنما الأغلب أنه في الشام؛ لأنه نقل إلى يزيد ابن معاوية وهو في الشام، فلا وجه للقول بأنه نقل إلى مصر، فهو إما حفظ في الشام في مخازن الشام، وإما أعيد إلى جسده في العراق.
وبكل حال فليس للناس حاجة في أن يعرفوا أين دفن وأين كان، وإنما المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة، غفر الله له ورضي عنه، فقد قتل مظلوما فيدعى له بالمغفرة والرحمة، ويرجى له خير كثير، وهو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهما وأرضاهما، ومن عرف قبره وسلم عليه ودعا له فلا بأس، كما تزار القبور الأخرى، من غير غلو فيه ولا عبادة له، ولا يجوز أن تطلب منه الشفاعة ولا غيرها كسائر الأموات؛ لأن الميت لا يطلب منه شيء وإنما يدعى له ويترحم عليه إذا كان مسلما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)
فمن زار قبر الحسين أو الحسن أو غيرهما من المسلمين للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما يفعل مع بقية قبور المسلمين - فهذا سنة، أما زيارة القبور لدعاء أهلها أو الاستعانة بهم أو طلبهم الشفاعة - فهذا من المنكرات، بل من الشرك الأكبر، ولا يجوز أن يبنى عليها مسجد ولا قبة ولا غير ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق على صحته، ولما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها) ، فلا يجوز أن يجصص القبر أو يطيب أو توضع عليه الستور أو يبنى عليه، فكل هذا ممنوع ومن وسائل الشرك، ولا يصلى عنده لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) أخرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
وهذا الحديث يدل على أنه لا تجوز الصلاة عند القبور ولا اتخاذها مساجد؛ ولأن ذلك وسيلة للشرك وأن يعبدوا من دون الله بدعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والتمسح بقبورهم طلبا لبركتهم، فلهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وإنما تزار القبور زيارة شرعية فقط، للسلام عليهم والدعاء لهم والترحم عليهم من دون شد رحل لذلك.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 6/366(9/36)
المسجد الأقصى وقبة الصخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[وصلني مؤخراً رسالة بالبريد الإلكتروني عن حالة المسجد الأقصى والتفريق بين مسجد الأقصى وقبة الصخرة هل يمكن أن توضح ما إذا كان المسجد الأقصى مختلفا عن قبة الصخرة؟ لماذا نرى القبة وهي تشير للمسجد الأقصى في الأماكن الإسلامية وأنا وكثير من المسلمين لا ندري بالفرق؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسجد الأقصى المبارك هو أولى القبلتين، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وقد قيل: إن الذي بناه سليمان عليه السلام، كما ثبت ذلك في سنن النسائي (693) وصححه الألباني في صحيح النسائي، وقيل أنه كان موجوداً قبل سليمان عليه السلام وأن بناء سليمان له كان تجديداً بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام قال قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصله فإن الفضل فيه " (رواه البخاري (3366) ومسلم (520) .
وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وصلى بالأنبياء في هذا المسجد المبارك.
قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الاسراء / 1. وأما قبة الصخرة فقد بناها الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 72 هـ
جاء في الموسوعة الفلسطينية 4/203 (كان اسم المسجد الأقصى يطلق قديما على الحرم القدسي الشريف كله وما فيه من منشآت أهمها قبة الصخرة المشرفة التي بناها عبد الملك بن مروان سنة 72 هـ/ 691 م وتعد من أعظم الآثار الإسلامية. وأما اليوم فيطلق الاسم على المسجد الكبير الكائن جنوبي ساحة الحرم) .
وجاء في الموسوعة أيضا (3/23) : (يقوم بناء قبة الصخرة في وسط ساحة المسجد الأقصى، في القسم الجنوبي الشرقي من مدينة القدس، وهي ساحة فسيحة مستطيلة الشكل تمتد من الشمال إلى الجنوب مقدار 480 م، ومن الشرق إلى الغرب مقدار 300 م تقريبا، وتكون هذه الساحة على وجه التقريب خمس مساحة مدينة القدس القديمة) . أ. هـ بتصرف
فالمسجد الذي هو موضع الصلاة، ليس هو قبة الصخرة، لكن لانتشار صورة القبة، يظن كثير من المسلمين حين يرونها أنها المسجد، والواقع ليس كذلك، فالمسجد يقع في الجزء الجنوبي من الساحة الكبيرة، والقبة بنيت على صخرة مرتفعة تقع وسط الساحة.
وقد سبق أن اسم المسجد كان يطلق على الساحة كلها قديما.
ويؤكد هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموعة الرسائل الكبرى 2/61 (فالمسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى، المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب في مقدمته. والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها، فأمر عمر بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؟ فقال: خلف الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية! خالطتك اليهودية، بل أبنيه أمامها فإنّ لنا صدور المساجد.
ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر، وأما الصخرة فلم يصل عندها عمر ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان ... وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة ... وإنما يعظمها اليهود وبعض النصارى) .
وإنكار عمر على كعب الأحبار وقوله له: (يا ابن اليهودية) لأن كعباً كان من أحبار اليهود وعلمائهم، فلما أشار على عمر بن الخطاب ببناء المسجد خلف الصخرة كان في ذلك تعظيماً للصخرة حتى يستقبلها المسلمون في الصلاة، وتعظيم الصخرة من دين اليهود لا من دين المسلمين.
واكتفاء المسلمين بصورة القبة، قد يكون راجعا لحسن عمارة هذه القبة وجمال هيئتها، وهذا لا يعفيهم من الخطأ الذي نشأ عنه عدم التمييز بين المسجد وما حوله.
وقد يكون هذا من مكر اليهود وكيدهم؛ لتعظيمهم الصخرة وتوجههم إليها أو تكون إظهار الصخرة ليتم لهم مرادهم بإقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، وذلك ليظن المسلمون بأن المسجد الأقصى هو قبة الصخرة، فإذا قام اليهود بهدم المسجد الأقصى وأنكر عليها المسلمون قالوا لهم ها هو المسجد الأقصى على حاله، فيُظهرون صورة قبة الصخرة، فيكونون بذلك قد حققوا أهدافهم، وسلموا من انتقاد المسلمين.
نسأل الله تعالى أن يعيد للمسلمين عزهم ومجدهم، وأن يطهر المسجد الأقصى من إخوان القردة والخنازير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/37)
نبي الله يحيى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن إعطاؤنا معلومات عن نبي الله يحيى عليه السلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي – رحمة الله تعالى عليه -:
وقوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) مريم/12، أي: خذ التوراة بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بتفهم المعنى أولا حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات فيعتقد عقائده ويحل حلاله ويحرم حرامه ويتأدب بآدابه ويتعظ بمواعظه إلى غير ذلك من جهات العمل به، وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا التوراة …
وقوله: (وآتيناه الحكم صبيّاً) ، أي: أعطيناه الحكم وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة مرجعها إلى شئ واحد وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب أي إدراك ما فيه والعمل به حال كونه صبيا ….
وقوله: (وحناناً) ، معطوف على الحكم، أي وآتيناه حناناً من لدنّا، والحنان هو ما جبل عليه من الرحمة والعطف والشفقة، وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب ومنه قولهم: حنانك وحنانيك يا رب بمعنى: رحمتك …
وقوله: (وزكاةً) أنه معطوف على ما قبله أي أو وأعطيناه زكاة أي طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة والتقرب إلى الله بما يرضيه …
وقوله: (وكان تقيّاً) أي: ممتثلاً لأوامر ربه مجتنباً كل ما نهى عنه ولذا لم يعمل خطيئة قط ولم يلم بها ….
وقوله: (وبرّاً بوالديه) ، البَرّ - بالفتح -: هو فاعل البِرّ - بالكسر - كثيراً، أي: جعلناه كثير البر بوالديه أي: محسناً إليهما لطيفاً بهما لين الجانب لهما …
وقوله: (ولم يكن جباراً عصيّاً) أي: لم يكن مستكبراً عن طاعة ربه وطاعة والديه ولكنه كان مطيعاً لله متواضعاً لوالديه قاله ابن جرير، والجبار هو كثير الجبر أي القهر للناس والظلم لهم وكل متكبر عن الناس يظلمهم فهو جبار …
وقوله تعالى: (وسلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً) ، قال ابن جرير: " وسلام عليه أي: أمانٌ له " … والظاهر المتبادر أن قوله: (وسلام عليه يوم ولد) تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة …
وقوله في آل عمران: (وسيِّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين) آل عمران/39، … قوله (وسيِّداً) … فالسيد من يطيعه ويتبعه سواد كثير من الناس …
وقوله: (وحصوراً) أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه وانقطاعاً لعبادة الله وكان ذلك جائزاً في شرعه، وأما سنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي التزوج وعدم التبتل …
وقوله: (ونبيّاً من الصالحين) وهو فعيل بمعنى مفعول من النبأ وهو الخبر الذي له شأن لأن الوحي خبر له شأن يخبره الله به … والصالحون هم الذين صلحت عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ونياتهم والصلاح ضد الفساد وقد وصف الله تعالى يحيى بالصلاح مع من وصف بذلك الأنبياء في سورة الأنعام في قوله: (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) الأنعام/ 85.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 245 – 252) باختصار.(9/38)
كيف همّ يوسف بامرأة العزيز مع أنه عفيف
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير الآية: (ولقد همّت به وهمّ بها) في سورة يوسف، مع أن يوسف عليه السلام " عفيف " وقد رفض الانصياع لنزوة امرأة العزيز، فكيف يهمّ بها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ) يوسف/24
كان همها للمعصية، أما يوسف عليه السلام فإنه لو لم ير برهان ربه لَهَمَّ بها - لطبع البشر - ولكنه لم يهم؛ لوجود البرهان.
إذًا في الكلام تقديم وتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها.
قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله: (ولقد همت به وهم بها) قال أبو عبيد: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 9/165.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان [3/58] .
" الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن المراد بِهَمِّ يوسف خاطر قلبي صرفه عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه؛ لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك) يعني ميل القلب. أبو داود، السنن، رقم الحديث 2134.
ومثل هذا ميل الصائم إلى الماء البارد والطعام مع أن تقواه تمنعه من الشرب والأكل وهو صائم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من هم بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة كاملة) أخرجه البخاري في صحيحه برقم 6491، ومسلم برقم 207.
الجواب الثاني: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهم أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان.
إلى أن قال: هذا الوجه الذي اختاره أبو حسان وغيره هو أجرى على قواعد اللغة العربية " اهـ.
ثم بدأ يستطرد الأدلة على ما رجحه، وبناء على ما تقدم فإن معنى الآية والله أعلم أن يوسف عليه السلام لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه لما رأى برهان ربه لم يهم بها، ولم يحصل منه أصلاً.
وكذلك فإن مجرد الهم بالشيء دون فعله لا يعد خطيئة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/39)
عدد نساء سليمان عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن توضح لي الحقيقة حول أن سليمان عليه السلام كان له 999 زوجة أو عدد قريب منه، وعن الأسباب وراء ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أكبر عدد لنساء سليمان عليه السلام ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه كان عنده مائة امرأة كما روى البخاري في صحيحه (5242) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلام: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ، وَنَسِيَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ " وأخرجه مسلم (1654) وفيه أنه قال تسعين امرأة، وفي رواية أخرى أوردها البخاري معلقة في صحيحه في باب من طلب الولد للجهاد، أنه قال: تسعا وتسعين امرأة.
فلعل من قال مائة جبر الكسر، ومن قال تسعين ألغاه كما قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث.
لكن نقل الحافظ ابن كثير في قصة سليمان عليه السلام من (البداية والنهاية ج 2) عن كثير من السلف أن عدة نساء سليمان عليه السلام ألف امرأة. ومثله الحافظ ابن حجر في فتح الباري في أثناء شرحه لحديث رقم (3424)
فهذا العدد منقول عن بني إسرائيل فلا نصدقه ولا نكذبه. وليس في الأحاديث السابقة ما ينفي ذلك أو يؤيده.
أما أسباب ذلك، فإن الله سبحانه يهب لمن يشاء من عباده ما شاء من ملك الدنيا ومتعها، وذلك بحكمته البالغة وفضله الواسع، لا يسأل عما يفعل سبحانه وبحمده، وقد وهب لسليمان عليه السلام على وجه الخصوص ملكا عظيما لم يعطه أحدا من بعده، فلا يبعد أن يخصه الله بهذه القوة العظيمة التي تمكنه من الزواج بهذا العدد من النساء. ولا يمكن أن يتطرق لذهن أي مسلم أن هذا الأمر فيه منقصة لهذا النبي الكريم بل هو من تمام ملكه وفضله ورجولته فها هو يتمنى أن يرزقه الله في ليلة واحدة مائة ولد كلهم يخرجون فرسانا مجاهدين في سبيل الله، ونحن قبل ذلك وبعده نؤمن بأن الله سبحانه يخلق ما يشاء ويختار لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/40)
من هو الحلاج
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو منصور الحلاج؟ وما هو وضعه في التاريخ الإسلامي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحلاج هو الحسين بن منصور الحلاج، ويكنى أبا مغيث. وقيل: أبا عبد الله.
نشأ بواسط. وقيل بتستر، وخالط جماعة من الصوفية منهم سهل التستري والجنيد وأبو الحسن النوري وغيرهم.
رحل إلى بلاد كثيرة، منها مكة وخراسان، والهند وتعلم السحر بها، وأقام أخيراً ببغداد، وبها قتل.
تعلم السحر بالهند، وكان صاحب حيل وخداع، فخدع بذلك كثيراً من جهلة الناس، واستمالهم إليه، حتى ظنوا فيه أنه من أولياء الله الكبار.
له قبول عند عامة المستشرقين ويظهرونه على أنه قتل مظلوماً، وذلك لما سيأتي من أن اعتقاده قريب من اعتقاد النصارى، ويتكلم بكلامهم.
قتل ببغداد عام 309 هـ بسبب ما ثبت عنه بإقراره وبغير إقراره من الكفر والزندقة.
وأجمع علماء عصره على قتله بسبب ما نقل عنه من الكفر والزندقة.
وها هي بعض أقواله:
1- ادعى النبوة، ثم تَرَقَّى به الحال أن ادعى أنه هو الله. فكان يقول: أنا الله. وأمر زوجة ابنه بالسجود له. فقالت: أو يسجد لغير الله؟ فقال: إله في السماء وإله في الأرض.
2- كان يقول بالحلول والاتحاد. أي: أن الله تعالى قد حَلَّ فيه، وصار هو والله شيئاً واحداً. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا هو الذي جعل له القبول عن المستشرقين النصارى لأنه وافقهم على الحلول، إذ إنهم يعتقدون في عيسى عليه السلام أن الله تعالى قد حَلَّ فيه. ولهذا تكلم الحلاج باللاهوت والناسوت كما يفعل النصارى. فمن أشعاره:
سبحان من أظهر ناسوته سر لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب
ولما سمع ابن خفيف هذه الأبيات قال: على قائل هذا لعنة الله. فقيل له: هذا شعر الحلاج. فقال: إن كان هذا اعتقاده فهو كافر اهـ
3- سمع قارئاً يقرأ آية من القرآن، فقال: أنا أقدر أن أؤلف مثل هذا.
4- من أشعاره:
عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدا وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوه
وهذا الكلام مع تضمنه إقراره واعتقاده لجميع الكفر الذي اعتقدته الطوائف الضالة من البشر، فإنه مع ذلك كلام متناقض لا يقبله عقل صريح، إذ كيف يعتقد التوحيد والشرك في آنٍ واحد؟!
5- له كلام يبطل به أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج.
6- كان يقول: إن أرواح الأنبياء أعيدت إلى أجساد أصحابه وتلامذته، فكان يقول لأحدهم: أنت نوح، ولآخر: أنت موسى، ولآخر: أنت محمد.
7- لما ذُهب به إلى القتل قال لأصحابه: لا يهولنكم هذا، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً. فقتل ولم يَعُدْ.
فلهذه الأقوال وغيرها أجمع علماء عصره على كفره وزندقته ولذلك قتل ببغداد عام 309 هـ. وكذا ذمه أكثر الصوفية ونفوا أن يكون منهم، فممن ذمه الجنيد، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته التي ذكر فيها كثيراً من مشايخ الصوفية.
وكان من سعى في قتله وعقد له مجلساً وحكم عليه فيه بما يستحقه من القتل هو القاضي أبو عمر محمد بن يوسف المالكي رحمه الله. وقد امتدحه ابن كثير على ذلك فقال: وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قَتْلَهُ الحسين بن منصور الحلاج اهـ (البداية والنهاية 11/172) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنْ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ. . . وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ) اهـ مجموع الفتاوى (2/480) .
وقال أيضاً: (وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلاجَ بِخَيْرِ لا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا مِنْ الْمَشَايِخِ ; وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ ; لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ) .اهـ مجموع الفتاوى (2/483) .
للاستزادة يراجع:
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (8/112-141) . المنتظم لابن الجوزي (13/201-206) . سير أعلام النبلاء للذهبي (14 / 313-354) . البداية والنهاية لابن كثير (11/132-144) .
والله الهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/41)
لا حق لليهود في دخول جزيرة العرب
[السُّؤَالُ]
ـ[ذكر أن لبيد بن الأعصم اليهودي استطاع أن يأخذ من أثر النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جارية يهودية كانت تدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فهل هذا يعني جواز استخدام اليهود في العمل؟
وما مفهوم إجلاء اليهود الذي ورد في الأحاديث، آمل التفصيل في وجود اليهود في المدينة مع أنه ورد انه صلى الله عليه وسلم أجلاهم منها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وأخبر أنه لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، وهو حكم شرعي، فلا يجوز أن يبقى فيها مشرك، وأما وجودهم في المدينة وخيبر وغيرها فهذا قبل الأمر بإجلائهم كما هو معروف، فالأمر والوصية بإخراجهم كان في مرض موت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه بعد ذلك.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ: عبد الكريم الخضير.(9/42)
ادعاء أن علياً حارب الجن كذب لا أصل له
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الإمام علي رضي الله عنه حارب الجن حيث ورد في كتاب غزوات الإمام علي ذلك وأنه حاربهم حتى أوصلهم الأرض السابعة، فما هو رأيكم في هذا الكتاب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كل هذا لا أصل له. فلم يحارب الجن ولم يقع شيء من ذلك بل هذا باطل ومن الكذب والموضوعات التي أحدثها الناس , وقد نص أبو العباس: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ذلك وقال: إنه كذب لا أصل له وهو من الأباطيل التي افتراها الكذابون.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/9 ص/277.(9/43)
محمد بن عبد الوهاب مُصْلِحٌ مفترى عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب لماذا هو محارب وكثير ما يقال فيه ويسمون من يتبعه بالوهابي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لتعلم أخي أن من سنن الله تعالى في عباده المصطفين أن يبتليهم على قدر إيمانهم ليبين الصادق من الكاذب، كما قال سبحانه: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت / 1 – 3، وأشدّ أولئك العباد بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كما صحّ ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولو تأمّل الإنسان سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجد أنه – بأبي هو وأمي – قد أصابه من البلاء الشيءُ العظيم، حتى نُعت بأنه كذاب وساحر ومجنون، ووُضع سلا جزور على ظهره، وطرد من مكة، وأدميت قدماه الشريفتان في الطائف، حاله حال الأنبياء الذين كُذِّبوا من قبله صلوات ربي وسلامه عليهم.
والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد أصيب بما أصيب به العلماء والدعاة المخلصون، لكن كانت العاقبة في النهاية للحق الذي كان يحمله، وأنّى للحق أن يخبو نوره أو يعفو أثره، ولك أن تتصوّر أن يوفّق الله هذا الرجل بغرس التوحيد في أنحاء الجزيرة العربية وأطرافها، ويقضي على جلّ صور الشرك وأشكاله، وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على إخلاصه وتفانيه في دعوته فيما نحسب، مع ما اقترن ذلك من سداد الله له وتوفيقه إياه.
وأما أعداء الدعوة فلم يألوا جهداً في إلصاق التهم الباطلة به، فزعموا – وهم كاذبون – بأن الشيخ يدّعي النبوة، وأنه ينتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يكفّر الأمة جزافاً.. إلى غير ذلك من الافتراءات التي أُلصقت به، ومن ينظر إلى تلك الدعاوى يعلم يقيناً أنها محض كذب وافتراء، وكتب الشيخ المبثوثة أكبر شاهد على ذلك، وأتباعه من الذين استجابوا لدعوته لم يذكروا ذلك أيضاً، ولو كان الأمر كما ادّعى المدّعون لأبان ذلك أتباعُه، وإلاّ كانوا له عاقّين غير بارّين، ولو أردت الاستفصال في هذا الأمر واستجلاء ما خفي عليك من حقائق فعليك بالرجوع إلى كتاب " دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف. فإنك ستجد فيه ما يشفي تساؤلاتك بإذن الله.
أما نعت أتباعه (بالوهابية) فما هو إلاّ مسلسل من مسلسلات افتراءات أعداء الدعوة فيه أيضاً، ليحولوا الناس عن دعوة الحق، وليبنوا بين دعوته وبين الناس جداراً وحاجزاً يحول دون بلوغ الدعوة، ولو تأمّلت قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه لوجدت أحداثها تقارب ما حصل لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب.
فقد أورد ابن هشام في السيرة (1/394) أن الطفيل خرج قاصداً مكة، فتلقفته قريش على أبوابها وحذرته من السماع من محمد صلى الله عليه وسلم، وأوحوا إليه بأنه ساحر وأنه يفرّق بين المرء وزوجه ... ، فلم يزالوا به حتى عمد إلى قطن فوضعه في أذنيه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه بأن ينزع القطن، ويسمع منه، فإن كان ما يقوله حقاً قبل منه، وإن كان ما يقوله باطلاً وقبيحاً ردّ، فلما استمع إليه ما كان منه إلاّ أن أسلم في مكانه.
نعم أسلم بعد أن وضع القطن في أذنيه، وهكذا ينهج المناوئون لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نهج قريش في الافتراء، ذلك لأن قريشاً تدرك تمام الإدراك أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم تلامس شغاف القلوب والأفئدة، وتهتدي إليها الفطرة، فعمدوا إلى تهويل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحولوا دون بلوغ الناس الحق، وهكذا نرى الذين يتكلمون على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يعيدون نفس الفصول والمؤامرات التي حيكت حيال الدعوة الأولى.
وعليك أخي الكريم – إن كنت تنشد الحق – أن لا تترك لتلك الدعاوى مجالاً لسمعك وقلبك واقصد الحق في المسألة بالنظر إلى كتب الشيخ محمد، فكتبه أعظم دليل على كذب القوم والحمد لله.
وثمت أمرٌ آخر لطيف وهو أن اسم الشيخ هو (محمد) والنسبة إليه محمدي، أما (وهّابي) فهو نسبة إلى الوهّاب، والوهاب هو الله تعالى كما قال: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) آل عمران /8.
والوهاب كما قال الزجاج في اشتقاق أسماء الله ص: 126: " الكثير الهبة والعطية، وفعّال في كلام العرب للمبالغة، فالله عز وجل وهّاب يهب لعباده واحداً بعد واحد ويعطيهم ".
ولاشك أن سبيل الوهّاب هو السبيل الحق الذي لا اعوجاج فيه ولا افتراء، وحزبه غالب ومفلح (ومن يتولّ الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون) المائدة /56، (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) المجادلة/22.
وقديماً اتهموا الشافعي بالرفض فردّ عليهم قائلاً:
إن كان رفضاً حبّ آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ونحن نردّ على من يتّهمنا بالوهابية بقول الشيخ ملا عمران الذي كان شيعياً فهداه الله إلى السنة، قال رحمه الله:
إن كان تابع أحمد متوهّباً ... فأنا المقرّ بأنني وهّابي
أنفي الشريك عن الإله فليس لي ... ربٌ سوى المتفرّد الوهّاب
نفر الذين دعاهم خير الورى ... إذ لقّبوه بساحرٍ كذّاب
(انظر: منهاج الفرقة الناجية للشيخ محمد جميل زينو ص: 142 – 143)
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/44)
لمن ينسب كتاب " نهج البلاغة "
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن اسأل عن مدى مصداقية كتاب نهج البلاغة ورأي فضيلتكم فيه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كتاب "نهج البلاغة"من الكتب المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه كثير من الأمور التي وقع فيها الخلاف بين المنتسبين إلى الإسلام، وتبعا للقاعدة العلمية العظيمة التي سار عليها أئمة الإسلام امتثالاً للأمر الشرعي بالتثبُّت فإننا لا بدَّ أن نرجع إلى أهل العلم والاختصاص للتأكد من صدق ما ينسب إلى علي رضي الله عنه لأن ما ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم له أثره في الشريعة، لا سيما من كان مثل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي غلا في حقه من غلا وقصَّر من قصَّر ووفق الله أهل السنة للتوسط.
وبالرجوع إلى كلام أهل العلم في هذا الكتاب وبالنظر والمقارنة بين ما فيه وما ثبت بالأسانيد الصحيحة عن علي رضي الله عنه، يتبيَّن ما في هذا الكتاب من أمور تخالف ما ثبت عنه رضي الله عنه، ولنترك الكلام لبعض هؤلاء الأئمة الأعلام:
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة المرتضى علي بن حسين بن موسى الموسوي (المتوفى سنة436هـ) قلت: هو جامع كتاب " نهج البلاغة" , المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي -رضي الله عنه- , ولا أسانيد لذلك , وبعضها باطل , وفيه حق , ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها , ولكن أين المنصف؟! وقيل: بل جمع أخيه الشريف الرضي ... وفي تواليفه سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنعوذ بالله من علم لا ينفع. سير أعلام النبلاء 17/589.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (أكثر الخطب التي ينقلها صاحب "نهج البلاغة "كذب على علي، وعليٌّ رضي الله عنه أجلُّ وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق ولا هي مدح، ومن قال إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق فقد أخطأ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه، وكلاهما مخلوق ... وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره، لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره، ولهذا يوجد في كلام البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي وصاحب نهج البلاغة يجعله عن علي، وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها، فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا علم أن هذا كذب، وإلا فليبيِّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن علي، وما إسناده، وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد، ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها؛ علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها) . منهاج السنة النبوية 8/55.
وممن أشار إلى الكذب فيه أيضاً الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/161، وكذلك القاضي ابن خلكان، والصفدي وغيرهم، وخلاصة المآخذ التي قيلت فيه يمكن حصرها في التالي:
بين مؤلف الكتاب وبين علي رضي الله عنه سبع طبقات من الرواة وقد قام بحذفهم كلهم، ولهذا لا يمكن قبول كلامه من غير إسناد لو ذكر هؤلاء الرواة فلا بد من البحث عنهم وعن عدالتهم. عدم وجود أكثر هذه الخطب قبل ظهور الكتاب يدل على وضعها. المرتضى ـ صاحب الكتاب ـ ليس من أهل الرواية بل إنه من المتكلم في دينه وعدالته. ما فيه من سب لسادات الصحابة كافٍ في إبطاله. ما فيه من الهمز واللمز والسب مما ليس هو من أخلاق المؤمنين فضلا عن أئمتهم كعلي رضي الله عنه. فيه من التناقض والعبارات الركيكة ما يعلم قطعاً أنه لا يصدر عن أئمة البلاغة واللغة. كونه أصبح عند الرافضة مسلَّماً به ومقطوعاً بصحته كالقرآن مع كل هذه الاعتراضات يدل على عدم مراعاتهم في أمور دينهم لأصول التثبت والتأكد السليمة.
وبناءً على ما تقدم ذكره يتبين عدم ثبوت نسبة هذا الكتاب لعلي رضي الله عنه، وعليه؛ فإن كل ما فيه فإنه لا يحتج به في المسائل الشرعية أيًّا كانت، أما من قرأه ليطالع بعض ما فيه من الجمل البلاغية فإن حكمه حكم بقية كتب اللغة، من غير نسبة ما فيه لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه. (أنظر كتاب " كتب حذًّر منها العلماء" 2/250) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/45)
القصيدة اللامية المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ثبت نسب القصيدة اللامية في العقيدة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية؟ هل في أبياتها ما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة؟ وأي الأبيات؟ ما معنى الشطر الثاني من البيت الثالث: " ومودة القربى بها أتوسل "؟ أرجو تزويدي بقول الشيخ ابن عثيمين يرحمه الله في هذا الموضوع إن وجد. جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اختلف أهل العلم المتأخرون في صحة نسبة القصيدة " اللامية " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك على قولين:
القول الأول: تصحيح نسبتها إليه، وهذا ظاهر كلام كثير من أهل العلم، منهم:
الشيخ نعمان الألوسي في كتابه " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين "، والشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد في شرحه على الواسطية، والشيخ أحمد بن عبد الله المرداوي الذي شرح القصيدة في كتاب أسماه: " اللآلئ البهية في شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية "، ولكنه قال في المقدمة عن هذه الأبيات إنها " تنسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "، وقد علق عليها الشيخ صالح الفوزان حفظه الله، وغيرهم كثير.
وأهم ما يستدل به لهذا القول ما يلي:
1-شهرة هذه النسبة بين أهل العلم.
2-جود القصيدة في مخطوط بين كتب ورسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان هذا المخطوط لم يكتب عليه أنه من كلام شيخ الإسلام، ولكن مكانه يشير إلى مؤلفه.
القول الثاني: إنكار نسبتها إليه.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" الظاهر أنها لا تصح أصلا عن الشيخ " انتهى.
" شرح السفارينية " (ص427-428) طبعة دار البصيرة، تحت شرح البيت رقم (102)
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما يلي:
1- أن أحدا من أهل العلم المتقدمين الذين ترجموا لشيخ الإسلام ابن تيمية وسردوا أسماء مصنفاته لم يذكروا هذه القصيدة في مؤلفاته، فكيف يمكن إثبات نسبة كتاب لأحد العلماء ولم ينسبه إليه تلاميذه الذين اعتنوا بمصنفاته، بل ولا أحد ممن ترجم له من أصحاب كتب التراجم.
2-جاء في أحد أبيات هذه القصيدة ما يلي:
قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ الكتابَ وراءَهُ ... وإذا اسْتَدَلَّ يقولُ قالَ الأخطَلُ.
وهذا البيت نفسه نقله شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في " مجموع الفتاوى " (6/297)
عازيا إياه لأحد المنشدين، فقال: " وقد أنشد فيهم المنشد...." انتهى.
والأمر ربما كان يحتاج إلى مزيد من البحث والتحري في شأن هذه النسبة.
يقول الشيخ علي العمران حفظه الله:" لامية شيخ الإسلام نشرها الأخ خالد اللحيدان
معتمدا على عدة نسخ خطية متأخرة، وذكر بعض أدلة ثبوتها، وإن كنت لا أوافقه على الجزم بنسبتها إليه، بل فيه نظر كبير.
ثم وقفت على نسخة خطية منها على طرة مجموع فيه فتاوى لابن تيمية
بخط أحد أبناء عمومة ابن تيمية، بتاريخ (762) ، في غاية الجودة والنفاسة، لكنه لم
يجزم بنسبتها لشيخ الإسلام، فيبقى أن تجمع هذه الدلائل والقرائن إذا أردنا الجزم بإثباتها أو نفيها " انتهى.
نقلا عن هذا الرابط:
http://saaid.net/leqa/17.htm
وأما عن نص هذه القصيدة، فهو:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي ... رزق الهدى من للهداية يسأل
اسمع كلام محقق في قوله ... لا ينثني عنه ولا يتبدل
حب الصحابة كلهم لي مذهب ... ومودة القربى بها أتوسل
ولكلهم قدر وفضل ساطع ... لكنما الصديق منهم أفضل
وأقول في القرآن ما جاءت به ... آياته فهو القديم المنزل
وجميع آيات الصفات أمرُّها ... حقاً كما نقل الطراز الأول
وأرد عهدتها إلى نقّالها ... وأصونها من كل ما يُتخيل
قبحاً لمن نبذ القرآن وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل
والمؤمنون يرون حقاً ربهم ... وإلى السماء بغير كيف ينزل
وأقر بالميزان والحوض الذي ... أرجو بأني منه رياً أنهل
وكذا الصراط يمد فوق جهنم ... فموحد ناج وآخر مهمل
والنار يصلاها الشقي بحكمة ... وكذا التقي إلى الجنان سيدخل
ولكل حي عاقل في قبره ... عمل يقارنه هناك ويسأل
هذا اعتقاد الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل
فإن اتبعت سبيلهم فموفق ... وإن ابتدعت فما عليك معول
وقوله في القصيدة: " حب الصحابة كلهم لي مذهب ... ومودة القربى بها أتوسل ": يعني أن حب الصحابة وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من العبادات والقرب التي نتقرب بها إلى الله تعالى، ونتوسل بها إليه، فإن التوسل بالأعمال الصالحة جائز باتفاق العلماء، وهذا البيت من هذا الباب.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/46)
الجواب عن افتراء على الشيخ ابن باز أنه لم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم قط
[السُّؤَالُ]
ـ[كما هو معلوم عندكم، فإنه عند غياب العلماء الربانيين يكثر الضلال، واتخاذ الرؤوس الجهال، الذين ضلوا، وأضلوا، فهذه هي الحالة التي نعيشها هنا في بلد إفريقية، والله المستعان. سؤالي بارك الله فيكم كيف الرد على من أثار شبهة حول الشيخ ابن باز لتنفير الناس عنه ألا وهي: أن الشيخ رحمه الله مكث في مكة، أو المدينة عدة سنوات , ولم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون - هؤلاء الطرقيون المبتدعة - إنهم - يعني: الحجازيين - لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم. فبم نجيبهم؟ . الرجاء التفصيل، وذكر الأدلة كما اعتدنا منكم، من الكتاب والسنَّة، والآثار السلفية.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
بارك الله فيك أخي السائل، وجزاك الله خيراً على حرصك على سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وذبك عنها، وعلى دفاعك عن علماء أهل السنَّة والجماعة، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لنشر الاعتقاد الصحيح، ونوصيكم بالرفق، والحكمة، في دعوة الناس.
ثانياً:
لا بد أن يعلم المسلم أن أجر الصبر على غربة التمسك بالسنَّة: عظيم، ففي صحيح مسلم (145) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء) .
وفي سنن الترمذي (3058) عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( ... إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّاماً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ) .
وفي رواية: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة".
فلا ينبغي أن يجزع المسلم من هذه الغربة، فالعاقبة للمتقين , وهم المتمسكون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثالثاً:
زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان في المدينة النبوية: مشروعة، كزيارة قبر غيره، فهي داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إني كنتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم (977) من حديث بُرَيْدَةَ بن الحُصَيْب، وفي رواية: (فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ) رواها مسلم (976) من حديث أبي هريرة.
وشدُّ الرحل للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: مشروع، باتفاق المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وشدُّ الرحل إلى مسجده: مشروع باتفاق المسلمين، كما في الصحيحين عنه أنه قال: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) رواه البخاري (1132) ومسلم (1397) .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) رواه البخاري (1133) ومسلم (1394) .
فإذا أتى مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه يسلِّم عليه، وعلى صاحبيه، كما كان الصحابة يفعلون.
"الفتاوى الكبرى" (5/146) .
ولكن مسألة الزيارة غير مسألة شد الرحل، والسفر لزيارة قبره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وزيارة القبور من غير شدِّ رحل إليها مسألة , وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
"مجموع الفتاوى" (27/193) .
فالأُولى استحبها العلماء، وندبوا إليها , وأما الثانية - وهي شد الرحل والسفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبر غيره -: فهي غير مشروعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون الصلاة في مسجده: فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة، وأكثر العلماء: أن هذا غير مشروع، ولا مأمور به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) .
"الفتاوى الكبرى" (5/146) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبر غيره من الناس، في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) متفق عليه.
والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعيد عن المدينة: أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي، فتدخل زيارة القبر الشريف وقبريْ أبي بكر، وعمر، والشهداء، وأهل البقيع، تبعاً لذلك.
وإن نواهما: جاز؛ لأنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، أما نية القبر بالزيارة فقط: فلا تجوز مع شد الرحال، أما إذا كان قريباً لا يحتاج إلى شد رحال، ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفراً: فلا حرج في ذلك؛ لأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه، من دون شد رحال: سنَّة، وقربة , وهكذا زيارة قبور الشهداء، وأهل البقيع، وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان، سنَّة، وقُربة، لكن بدون شد الرحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة) أخرجه مسلم في صحيحه.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه.
"فتاوى الشيخ ابن باز" (8/336) .
وأما الأحاديث التي فيها الندب للسفر، وشدِّ الرحل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم: فهي غير صحيحة، وانظر جواب السؤال رقم: (2534) .
رابعاً:
أما كلام أولئك القبوريين، والطرقيين عن الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، وأنه لم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم في فترة مكثه في المدينة: فهو كذب عليه، وشهادة زور باء بها من شهد بها، فالشيخ رحمه الله من أعظم الناس في هذا العصر محبة، وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحد , ولا تخفى عليه مشروعية زيارة القبور، سواء أكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبر غيره , كيف وهو رحمه الله قد قرر ذلك كثيراً؟! وقد سبق النقل عنه أن "زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه، من دون شد رحال: سنَّة، وقربة"، ولكنَّ الشيخ ـ كما يبق ـ يفرق بين زيارة القبر، وبين السفر وشد الرَّحل لزيارة القبر , فالثانية هي التي يمنعها الشيخ رحمه الله , وهو الصواب.
ثمَّ يقال: من الذي راقب الشيخ رحمه الله طيلة مكثه في المدينة النبوية حتى شهد تلك الشهادة الزائفة الباطلة؟! .
وينبغي هنا أن ننبه، أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان بالمدينة، ليست مشروعة له كلما دخل المسجد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فلهذا كان العمل الشائع في الصحابة - الخلفاء الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - أنهم يدخلون مسجده، ويصلون عليه في الصلاة، ويسلمون عليه، كما أمرهم الله ورسوله، ويدعون لأنفسهم في الصلاة مما اختاروا من الدعاء المشروع، كما في الصحيح من حديث ابن مسعود لمَّا علَّمه التشهد قال: (ثم ليتخير بعد ذلك من الدعاء أعجبه إليه) ، ولم يكونوا يذهبون إلى القبر، لا من داخل الحجرة، ولا من خارجها، لا لدعاء، ولا صلاة، ولا سلام، ولا غير ذلك من حقوقه المأمور بها في كل مكان، فضلا عن أن يقصدوها لحوائجهم كما يفعله أهل الشرك، والبدع؛ فإن هذا لم يكن يعرف في القرون الثلاثة، لا عند قبره، ولا قبر غيره، لا في زمن الصحابة، ولا التابعين ولا تابعيهم.
فهذه الأمور إذا تصورها ذو الإيمان والعلم: عرف دين الإسلام في هذه الأمور، وفَرَّق بين من يعرف التوحيد، والسنَّة، والإيمان، ومن يجهل ذلك.
وقد تبين أن الخلفاء الراشدين، وجمهور الصحابة: كانوا يدخلون المسجد، ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة، وعند القدوم من السفر، بل يدخلون المسجد، فيصلون فيه، ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأتون القبر، ومقصود بعضهم التحية.
وأيضا: فقد اسْتُحِب لكل من دخل المسجد أن يسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك"، وكذلك إذا خرج يقول: "بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"، فهذا السلام عند دخول المسجد كلما يدخل: يغني عن السلام عليه عند القبر، وهو من خصائصه، ولا مفسدة فيه.
"مجموع الفتاوى" (27/413 – 415) .
خامساً:
أما زعم أولئك الطرقيين – تقليداً لغيرهم من أهل البدع – في أن الشيخ ابن باز رحمه الله، وعموم أهل السنة السلفيين لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم: فيرد عليها بما يلي:
1. أنها – والله – شهادة زور، وهم مع وقوعهم في البدعة ـ وأحياناً: الشرك أيضاً ـ، لم يكتفوا بهما حتى أضافوا الكذب، والافتراء على عباد الله.
2. ليست المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم بعمل احتفال سنوي يختلط فيه الرجال بالنساء، وتُضرب فيه الدفوف، وتُقرع فيه الطبول، بل المحبة له صلى الله عليه وسلم تكون باتباع سنَّته، والاقتداء بهديه، والذب عن دينه، قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران/ 31، فأين أولئك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته مع ما عندهم من بدع، وخرافات، وآثام؟! .
3. إذا كان عدم زيارة قبره صلى الله عليه وسلم في كل دخول للمسجد النبوي، وعدم الاحتفال بميلاده صلى الله عليه وسلم: يدل على عدم محبته صلى الله عليه وسلم: فأول المتهمين بتلك التهمة الشنيعة هم أصحابه رضي الله عنهم، الذين لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وحاشاهم رضي الله عنهم، بل كانوا أعظم الناس محبة لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكنهم علموا أن المحبة في الاتباع لا في الابتداع والخرافات.
4. عدم محبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر، مخرج عن الملة، فكيف تجرأ أولئك – وغيرهم – على مثل هذا التكفير لأهل السنَّة؟! وليعلموا أنهم يحكمون بذلك الكفر على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هم رؤوس أهل السنَّة.
قال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله:
يشاع بين المسلمين أن الذين ينكرون بدعة المولد هم أناس يبغضون الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يحبونه، وهذه جريمة قبيحة كيف تصدر من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ إذ بغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو عدم حبه كفر بواح لا يبقى لصاحبه أية نسبة إلى الإسلام والعياذ بالله تعالى.
"الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف" (ص 5) .
5. حتى تعرف مقدار حب الشيخ ابن باز رحمه الله للنبي صلى الله عليه وسلم: استمع لهذا التسجيل الصوتي له , وكيف أنه بكى لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفداه بماله وأهله ونفسه.
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=50193
والله سبحانه نسأله أن يرحمه , وأن يجزل له الأجر، والمثوبة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/47)
نبذة عن حياة عمر بن عبد العزيز، وذِكر شيء من سيرته
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف كان عمر بن عبد العزيز في خلافته؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن معرفة سيرة السلف الصالح، وتراجم الخلفاء: أمر حسنٌ مندوب إليه , وخاصة الحقبة الأولى من القرون المفضلة الذين كانوا مثالاً عالياً في كل الصفات، وفي معرفة تراجمهم دافع للمسلم للاقتداء بهم، والتأسي بأفعالهم، وأخلاقهم، ومآثرهم , وخاصة في مثل هذا الوقت الذي أصبحت فيه القدوة، والأسوة، للساقط من الناس، من الممثلين، والمغنيين، وأشباههم.
ثانياً:
عصرُ عمر بن عبد العزيز كان عصراً مميَّزاً عن العصور التي بعده , وكانت سيرته أشبه بسيرة الخلفاء الراشدين، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصره , وأثنى عليه، فعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لاَ يَزَالُ الإِسْلاَمُ عَزِيزاً إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً) ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ لأَبِي: مَا قَالَ؟ فَقَالَ: (كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) .
رواه البخاري (6796) ومسلم (1821) - واللفظ له -.
قال ابن حجر – رحمه الله - في بيان تعداد أولئك الخلفاء -:
في بعض طرق الحديث الصحيحة (كُلُّهُم يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ) ، وإيضاح ذلك: أن المراد بالاجتماع: انقيادهم لبيعته، والذي وقع: أن الناس اجتمعوا على أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، إلى أن وقع أمر الحكَمين في صفِّين، فسمِّيَ معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ... ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان ... ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد: عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اجتمع الناس عليه، لمَّا مات عمه هشام.
" فتح الباري " (13 / 214) .
وقد عدَّ كثير من العلماء عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله من مجددي هذا الدين.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) .
رواه أبو داود (4291) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال ابن كثير – رحمه الله -:
فقال جماعة من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل - فيما ذكره ابن الجوزي وغيره -: إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الأولى، وإن كان هو أولى مَن دخل في ذلك، وأحق؛ لإمامته، وعموم ولايته، وقيامه، واجتهاده في تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيراً ما تشبَّه به.
" البداية والنهاية " (9 / 232) .
ثالثاً:
كان عمر بن الخطاب يقول إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم له، أو برؤيا في منامه: إنه سيلي من ذريته رجل يعدل بين الناس , وكان يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه شين يلي يملأ الأرض عدلاً.
قال ابن كثير رحمه الله:
وكان نافع مولى ابن عمر يقول: " لا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز " , وقد روي ذلك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب نحواً من هذا، وقد كان هذا الأمر مشهوراً قبل ولايته، وميلاده، بالكلية، أنه يلي رجل من بني أمية يقال له: " أشج بني مروان "، وكانت أمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
" البداية والنهاية " (6 / 268) .
رابعاً:
أما سيرته رحمه الله تعالى: فقد كانت مثالاً عظيماً، ومضرباً للمثل، في عدله، وزهده، وحُسن خلقه , وهذه مقتطفات من سيرته نختارها من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير رحمه الله (9 / 217) فما فوقها.
1. هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو حفص، القرشي، الأموي، المعروف، أمير المؤمنين، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال له " أشج بني مروان ".
2. وكان حكَماً، مقسطاً، وإماماً عادلاً، وورعاً ديِّناً، لا تأخذه في الله لومة لائم، رحمه الله تعالى.
3. قال الزبير بن بكار: حدثني العتبي قال: إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز: حرصه على العلم، ورغبته في الأدب، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فقال: يا أبتِ أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك؟ قال: وما هو؟ قال: ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها، وأتأدب بآدابهم، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم، وما زال دأبه حتى اشتهر ذكره. .
4. وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك قال: ما صليتُ وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني: عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة.
قالوا: وكان يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً، وقال ابن وهب: حدثني الليث عن أبي النضر المديني قال: رأيت سليمان بن يسار خارجاً من عند عمر بن عبد العزيز، فقلت له: مِن عند عمر خرجت؟ قال: نعم! قلت: تُعلِّمونه؟ قال: نعم، فقلت: هو والله أعلمُكم.
5. قال ابن كثير: وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل: جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمراً بدونهم، أو من حضر منهم، وهم عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت.
وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب.
6. وقد ظهرت عليه مخايل الورع، والدِّين، والتقشف، والصيانة، والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال: إنه خطب الناس فقال في خطبته: أيها الناس، إن لي نفساً تواقة لا تُعطَى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها، وهي الجنة، فأعينوني عليها، يرحمكم الله.
7. لمَّا استُخلف عمر بن عبد العزيز: قام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاضٍ ولكني منفِّذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم، ألا إن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل.
وفي رواية أنه قال فيها: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني أثقلكم حِملاً، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أَسْمعتُ؟ .
8. وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلاًّ من هؤلاء.
9. قالت زوجته فاطمة: دخلتُ يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خدَّه على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي، فبكيت.
10. قال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها، فتركها جملة.
قالوا: ولم يكن له سوى قميص واحد، فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر:
تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجتَ إلى الدنيا وأنت مجرد
قال: وكان يعجبه، ويكرره، وعمل به حق العمل.
قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهماً، أو فلوساً يشتري له بها عِنَباً، فلم يجد عندها شيئاً، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنباً؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال، والأنكال، غداً، في نار جهنم.
11. وقالت امرأته فاطمة: ما رأيتُ أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
12. في 25 رجب سنة 101 من الهجرة: توفي عمر بن عبد العزيز بـ " دير سمعان "، وكانت مدة خلافته: سنتين وخمسة أشهر، وأربعة أيام.
فرحمه الله تعالى , وجزاه عن عدله وفعاله الحسنة خير الجزاء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/48)
استفسار عن رأي شيخ الإسلام في آية المباهلة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيميه في آية المباهلة]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
المباهلة هي الملاعنة، والمقصود منها أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
ينظر: "النهاية في غريب الأثر" (1/439) .
وآية المباهلة هي قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) . [آل عمران/59-61]
وكان سبب نزول هذه الآية أن وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة جعلوا يُجادلون في نبي الله عيسى عليه السلام، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية.
وقد تصلبوا على باطلهم، بعدما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم البراهين بأنه عبد الله ورسوله.
فأمره الله تعالى أن يباهلهم.
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم، ثم يدعون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين.
فأحضر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وقال: هؤلاء أهلي.
فتشاور وفد نجران فيما بينهم: هل يجيبونه إلى ذلك؟
فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه؛ لأنهم عرفوا أنهم إن باهلوه هلكوا، هم وأولادهم وأهلوهم، فصالحوه وبذلوا له الجزية، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة، فأجابهم صلى الله عليه وسلم لذلك.
ينظر: "تفسير ابن كثير" (2 /49) ، "تفسير السعدي" (1 /968) .
ثانياً:
ليس لشيخ الإسلام ابن تيمية رأي خاص في آية المباهلة، بل كلامه فيها ككلام سائر أهل السنة، إلا أنه قد بين بعض المفاهيم المغلوطة التي يحاول البعض أخذها من هذه القصة.
ونستطيع أن نلخص كلام شيخ الإسلام في المباهلة في نقاط:
1-إتيان النبي صلى الله عليه وسلم بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم عند المباهلة ثابت بالأحاديث الصحيحة.
قال شيخ الإسلام: " أما أخذه علياً وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال في حديث طويل: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ... ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7 / 123) .
2- ليس في ذلك دلالة على أنهم أفضل هذه الأمة.
قال: " لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7/123)
وقال: " ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7 /125) .
3- المباهلة إنما يختار لها الإنسان أقرب الناس منه نسباً، لا أفضلهم عنده.
قال شيخ الإسلام: " وسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء فقط: أن المباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب وان كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود.. ".
وقال: " وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه؛ لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخص الناس به، لما في جِبِلّة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه ...
والمباهلة مبناها على العدل، فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا، وهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب، ولهذا امتنعوا عن المباهلة لعلمهم بأنه على الحق وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بُهْلة الله، وعلى الأقربين إليهم ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (5/45)
4- سبب تخصيص علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين بالمباهلة أنهم أخص أهل بيته به في ذلك الوقت.
قال شيخ الإسلام: " وأما آية المباهلة فليست من الخصائص، بل دعا علياً وفاطمة وابنيهما، ولم يكن ذلك لأنهم أفضل الأمة، بل لأنهم أخص أهل بيته". انتهى.
"مجموع الفتاوى" (4/419)
وقال: " وآية المباهلة نزلت سنة عشر لما قدم وفد نجران، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس، والعباس لم يكن من السابقين الأولين، ولا كان له به اختصاص كعلي.
وأما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي، وكان جعفر قد قتل قبل ذلك ... بمؤتة سنة ثمان، فتعين علي رضي الله عنه ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7/125) .
وقال: " لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقية وأم كلثوم وزينب كنَّ قد توفين قبل ذلك ...
وإنما دعا حسناً وحسيناً؛ لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما، فإن إبراهيم، إن كان موجودا إذ ذاك، فهو طفل لا يُدعى ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7/ 129) .
5- ليس في آية المباهلة دليل على أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخلافة والإمامة، بزعم أن الله جعله مقام نفس الرسول بقوله: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ... ) ، والاتحاد في النفس محال، فلم يبق إلا المساواة له في الولاية العامة.
قال شيخ الإسلام: " لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع، لأن أحداً لا يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا علياً ولا غيره.
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة، قال تعالى في قصة الإفك (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا..) ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين.
وقد قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضا، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين، ولا أن يكون من عبد العجلَ مساوياً لمن لم يعبده.
وكذلك قد قيل في قوله (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضاً، وان كانوا غير متساوين.
وقال تعالى (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يلمز بعضكم بعضاً، فيطعن عليه ويعيبه، وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن والعيب، مع أنهم غير متساوين، لا في الأحكام، ولا في الفضيلة، ولا الظالم كالمظلوم، ولا الإمام كالمأموم ...
فهذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة، والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك في بعض الأمور، كالاشتراك في الإيمان ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7 / 123) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/49)
لا يُعرف مكان قبر يونس عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[بالنسبة لصحة مكان قبر يونس عليه السلام، هل هو فعلاً في العراق؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام لا يُعرف قبره، وليس لهذا صحة، بل جميع قبور الأنبياء لا تُعرف ما عدا قبر نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه معلوم في بيته في المدينة عليه الصلاة والسلام، وهكذا قبر الخليل إبراهيم معروف في المغارة هناك في الخليل في فلسطين، وأما سواهما فقد بيَّن أهل العلم أنها لا تُعلم قبورهم، ومن ادعى أن هذا قبر يونس موجود في نينوى أو أنه في المحل المعين لا أصل له، فينبغي أن يعلم هذا، ولو عُلم لم يَجُز التبرك به ولا دعاؤه ولا النذر له ولا غير ذلك من أنواع العبادة؛ لأن العبادة حق الله وحده لا يجوز صرف شيء منها لغيره بإجماع المسلمين" انتهى.
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/123)(9/50)
قصة باطلة منسوبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[أخبرني شخص أن عمر أو أبو بكر رضي الله عنهما قد جاء إلى علي رضي الله عنه وقت توليه القضاء، وقال: إنه رأى فلانا قد ارتكب الزنا، فما كان من علي إلا أن قال: إن لم يكن لديك أربعة شهود فالتزم الصمت ولا تنطق بشيء. فهل هناك ما يثبت صحة هذه الرواية؟ وهل هذا حديث صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
أولاً:
من الأحكام المتفق عليها بين علماء المسلمين أن الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال؛ لقوله تعالى: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) النساء/15، وقَوْله: (لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) النور/13.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الشهادة على الزنا أربعة لا يُقبل أقل منهم" انتهى.
"الإجماع " ص 42.
فإن نقص عدد الشهود عن أربعة، وجب عليهم السكوت، ولم يجز لهم اتهامه بالزنا، فإن تكلموا بذلك رُدت شهادتهم، وأُقيم عليهم حد القذف، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) النور/4.
ولما رواه النسائي (3469) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بْنَ السَّحْمَاءِ بِامْرَأَتِهِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) . وصححه الألباني.
قال ابن قدامة: "وإذا لم تَكمل شهود الزنا، فعليهم الحدُّ في قول أكثر أهل العلم" انتهى.
"المغني " (10 /175) .
وذلك حتى لا تُتَّخذ صورةُ الشهادة ذريعةً إلى الوقيعة في أعراض الناس.
ثانياً:
أما القصة التي أشرت إليها، فقد ذكرها أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" (2/200) ، فقال:
"روى أن عمر رضي الله عنه كان يَعُسُّ [يطوف ليلاً] بالمدينة ذات ليلة، فرأى رجلاً وامرأةً على فاحشة.
فلما أصبح قال للناس: أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأةً على فاحشة، فأقام عليهما الحد، ما كنتم فاعلين.
قالوا: إنما أنت إمام.
فقال علي رضي الله عنه: ليس ذلك لك، إذاً يقام عليك الحد، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود.
ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم.
ثم سألهم، فقال القوم مقالتهم الأولى، فقال علي رضي الله عنه مثل مقالته الأولى" انتهى.
ثم قال أبو حامد الغزالي: "وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله، فلذلك راجعهم ... خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاً بإخباره، ومالَ رأى علي إلى أنه ليس له ذلك" انتهى.
وهذه القصة التي ذكرها الغزالي لم نقف عليها ـ بعد البحث ـ مروية بسندها، حتى نستطيع الحكم بصحتها، ومن المعروف أنَّ الغزالي ممن يتساهل في إيراد الأحاديث والروايات الضعيفة والموضوعة، خاصة في كتابه: " إحياء علوم الدين".
وقد سبق الكلام عن هذا الكتاب وما فيه من أغاليط في جواب السؤال (27328) .
وقد ورد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ما يخالف هذا الأثر الذي ذكره الغزالي، وذكره السائل بمعناه.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ: زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ، وَأَنْتَ أَمِيرٌ، فَقَالَ: شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: صَدَقْتَ.
رواه البخاري معلقاً، ووصله عبد الرزاق في المصنف (8 / 340) ، وأشار ابن القيم إلى ثبوته في " الطرق الحكمية" صـ 168.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "وقد جاء عن أبي بكر الصديق نحو هذا" انتهى.
فهذا يدل على أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يريان أن الحاكم لا يحكم بما علمه ولم يشهد عليه شهود، وإنما يحكم بشهادة الشهود.
ولا نستبعد أن يكون أعداء الصحابة الذين يسمون بـ "الشيعة" أو "الرافضة" هم الذين يرجون لمثل هذه الروايات، حتى يثبتوا بها أن علياً أعلم من عمر رضي الله عنهما.
وعِلْمُ عليٍّ رضي الله عنه وفضله وحسن قضائه معلوم ظاهر، وأظهر منه: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا أفضل منه وأعلم، وهذا لا ينكره إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي.
قال ابن أبي العز في "شرح العقيدة الطحاوية":
"وَتَرْتِيبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي الْفَضْلِ، كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ. وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْنَا بالاقْتِدَاءِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَّا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِمُ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَحَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَوْقَ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ...
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ. وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ) " انتهى.
وعلق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله هنا بأن هذا الحديث الأخير رواه البخاري بلفظين آخرين، ولم يروه مسلم. وأن هذا اللفظ الذي ذكره ابن أبي العز رحمه الله هو لفظ أبي داود في سننه.
فرضي الله عن الصحابة أجمعين، وجعلنا ممن اتبعوهم بإحسان، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/51)
الحكمة في عدم حصر الوحي لنبينا بالتكليم، والحكمة من إرسال جبريل دون غيره
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لم ينزل الله وحيَه على نبيِّه محمد (ص) مباشرة دون اللجوء إلى واسطة - وهو جبريل عليه السلام -؟ وما الحكمة مِن أن جبريل كان مَن يُنزل الوحي عليه الصلاة والسلام؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحرف الصاد، ولا بكلمة " صلعم "، ومن كتب مثل هذا السؤال لا يعجزه كتابة الصلاة والسلام عليه كاملة.
وقد سبق بيان حكم كتابة هذين الاختصارين في جواب السؤال رقم (47976) ، فلينظر.
ثانياً:
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم طرق تبليغ رسله برسالاته وكلامه تعالى، فكان منها: الوحي – وله أشكال متعددة – يقظة ومناماً، والتكليم المباشر من وراء حجاب، وعن طريق جبريل عليه السلام، وقد سمَّى الله تعالى الطرق الثلاثة بـ " التكليم "، فقال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) الزخرف/ 51، وهذا هو التكليم بمعناه العام، وليس هو التكليم الخاص الذي خصَّ به بعض رسله، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة/ من الآية 253.
وكل صور الوحي وأشكاله قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه الوحي يقظة ومناماً، وكلمه الله في السماء في المعراج، وأرسل إليه جبريل عليه السلام، فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك ما لم يحصل لغيره من إخوانه الأنبياء، بل إنه حتى التكليم الذي اشترك به مع أخيه موسى عليه السلام كان لنبينا المقام الرفيع فيه؛ حيث حصل تكليم رب العالمين له في السماء، فكان ما اختاره الله تعالى لنبيه عليه السلام أكمل وأفضل وأجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وقد ذكر الله تعالى أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع:
الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء، يَقَظَةً ومناماً، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي.
والتكليم من وراءِ حجاب، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيّاً.
والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ، كما قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) 17، 18، أي: علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه بلسانك، وهذا على أظهر القولين، وهو أن " قَرَأ " بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلاَ جَزُوْرٍ قَطُّ، أي: ما أَظهرتْه، بخلاف " قَرَى يَقْرِيْ " فإنه من الجَمع، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء.
فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) أي: قرأناه بواسطةِ جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) ، وهذا كقوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) ، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته، كقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) ، فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ الله لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه.
" جامع المسائل " (5 / 284، 285) .
وقال – رحمه الله -:
وأحاديث المعراج وصعوده إلى ما فوق السموات وفرض الرب عليه الصلوات الخمس حينئذ ورؤيته لما رآه من الآيات والجنة والنار والملائكة والأنبياء في السموات والبيت المعمور وسدرة المنتهى وغير ذلك: معروف متواتر في الأحاديث، وهذا النوع لم يكن لغيره من الأنبياء مثله، يظهر به تحقيق قوله تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) فالدرجات التي رُفعها محمَّد ليلة المعراج، وسيُرفعها في الآخرة في المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون: ليس لغيره مثله.
" الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح " (6 / 168، 169) .
ثالثاً:
أما الحكمة من الاصطفاء والاختيار – ومنه اصطفاء جبريل عليه السلام لإرساله بالوحي -: فإن ذلك من أفعال الله تعالى الدالة على علمه وعدله وحكمته.
والله سبحانه وتعالى يختار ما يشاء من الأشياء المختلفة ليميزها على غيرها، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص/ 68.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
هذه الآيات – أي: الآية السابقة وما بعدها - فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر، والأزمان، والأماكن، وأن أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيء.
" تفسير السعدي " (ص 622) .
والله سبحانه وتعالى يصطفي ما يشاء من الأشياء المتشابهة ليميزها على غيرها، قال تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الحج/ 75.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
جبريل رسولٌ ملَك، ومحمَّدٌ رسولٌ بشر، والله يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن الناس، فاصطفى لكلامه الرسول الملكي، فنزل به على الرسول البشري الذي اصطفاه، وقد أضافه إلى كلٍّ من الرسوليْن لأنه بلغه وأداه؛ لا لأنه أنشأه وابتداه، قال تعالى: (إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين) التكوير/ 19، 20.
" مجموع الفتاوى " (17 / 82) .
وقال ابن القيم – رحمه الله -:
وإذا تأملت أحوالَ هذا الخلقِ: رأيتَ هذا الاختيار والتخصيص فيه دالاًّ على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمالِ حكمته وعلمه وقدرته، وأنه اللهُ الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلُق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبِّر كتدبيره، فهذا الاختيارُ والتدبير والتخصيص المشهود: أثرُه في هذا العالم مِنْ أعظم آيات ربوبيته، وأكبرِ شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدقِ رسله.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (1 / 42) .
فاصطفى الله تعالى من الملائكة جبريل عليه السلام دون غيره لما فيه من صفات القوة، والأمانة، وغيرهما، وقد علم الرب تعالى ذلك أزلاً، فاصطفاه من أجل ذلك.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
ذواتُ ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها: مشتَمِلَة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها اللهُ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفاتِ، وخصها بالاختيار، فهذا خلقُه، وهذا اختياره، (وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) القصص/ 67.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (1 / 53) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/52)
دفاعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[أسأل عن الصحابي أبي هريرة , وحسب ما أفهمه , فقد روى عددا كبيرا من الأحاديث التي جمعت الآن في صحيحي البخاري ومسلم , وغيرهما. وفي عدد من الأحاديث المنقولة , قيل إن أبا هريرة وُبخ من قبل عائشة وعمر رضي الله عنهما لنقله معلومات لم يفهمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثال ذلك , في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن ثلاثة يقطعون القبلة: الكلاب والحمر والنساء. ومن الواضح أن عائشة رضي الله عنها صححت له بعد فترة، وقالت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: (إننا لسنا مثل اليهود الذين يقولون بأن ثلاثة أشياء تقطع القبلة: الكلاب والحمير والنساء) . كما أني قرأت أن أبا هريرة عاش في آخر حياته حياة رفاهية في قصر مع حاكم مشهور, ولم يكن حاله كحال العديد من الصحابة الجليلين الذين عاشوا حياة بساطة وماتوا وهم فقراء. إن المواضيع التي قرأتها في هذا الشأن أشكلت علي كثيرا. أهو ثقة في نقل الأحاديث؟ وهل عاش حياة لم يكن لغيره أن يعيش فيها, وبعيدة عن إمكانية الفساد؟ إذا كان عمر وعائشة رضي الله عنهما لا يكنان له احتراما, فلماذا وضعت كل هذه الأحاديث التي رواها في كتب الحديث الصحيحة؟ أنا أعلم أن الأئمة الذين جمعوا الأحاديث وضعوا معايير صارمة جدا. فكيف تمكنت رواياته من المرور عبر تلك المعايير؟ أرجو أن تساعدني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يظهر أنك قرأت في كتب الملاحدة، أو قرأت في كتب المغرضين الحاقدين على الصحابة رضي الله عنهم.
لا شك أن أبا هريرة رضي الله عنه صحابي جليل، صحِب النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من أربع سنوات ولازمه ملازمة كاملة، يلازمه على ملء بطنه فيحضر وهم غائبون، ويحفظ إذا نسوا، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وفعل ما يساعده على حفظ الأحاديث، فلأجل ذلك حفظ أحاديث لم يحفظها غيره من الصحابة، وكان يقول: إنكم تقولون أكثر علينا أبو هريرة، والله الموعد، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار ليشغلهم العمل في أموالهم، وكنت امرؤ مسكينا ألزم رسول الله عليه الصلاة والسلام على ملء بطني أحفظ إذا نسوا، وأحضر إذا غابوا، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة: إن من بسط ثوبه حتى أفرغ من مقالتي وضمه إليه كان ذلك سببا في بقاء حفظه. يقول أبو هريرة: فعلت ذلك فلم أنْسَ شيئا بعد ذلك.
كان رضي الله عنه يبيت أول الليل يدرس الأحاديث ويتذكرها ويكررها حتى لا ينساها، وحتى يحفظ منها ما قد يخاف أن ينساه، فلذلك حفظ الحديث الكثير الذي ما حفظه غيره.
أما حديث قطع الصلاة فلم ينفرد به بل رواه أيضا عمر رضي الله عنه وابنه عبد الله رضي الله عنه، إلا أن عائشة رضي الله عنها أنكرته ولم تنكر على أبي هريرة فقط، بل أنكرت على عمر وابنه عبد الله لأنهم رووا الحديث، ولم تستدل إلا بأنها كانت على السرير أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يصلي في البيت وهو مظلم، وقال العلماء بأن هذا لا يعتبر مرورا، وأن القطع إنما يكون مرورا، فإذا كانت على السرير وكان البيت مظلما لم يُسَمَّ هذا مرورا، وانسلالها من السرير لا يسمى أيضا مرورا. ثم قد يقال أيضا: إن القطع في هذا الحديث ليس إبطالا للصلاة بالكلية بل ينقصها، وأنه لا يلزم إعادة ما تقدم منها، وسبب ذلك: أن القلب ينشغل بمرور ما سبق في الحديث، وهذا الانشغال يفوّت على القلب شيئا من الإقبال على الصلاة فلذلك ينقص الأجر وهذا معنى القطع. ولم يُنقل عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على أبي هريرة هذا الحديث بل وافقه على روايته، وكذلك ابنه عبد الله....
ثم إن أبا هريرة ما عاش عيشة المترفين، بل كان متقشفا حتى مات، وقد أمّره معاوية على المدينة في عهده وقيل في عهد علي رضي الله عنه كان أميرا على المدينة فكان متواضعا، فيذهب إلى البرية ليحتطب حتى يسترزق منها، وكان إذا وصل إلى المدينة قال للناس: (أخروا عن الأمير) أي أفسحوا له الطريق تواضعا منه.
ولقد دأب كثير من الرافضة وغيرهم في التشكيك في أبي هريرة فجمعوا بعض الأحاديث التي رواها والتي تخالف عقولهم ومألوفاتهم، وزعموا أنها من كذب أبي هريرة كحديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) ، ولكن هذا الحديث رواه أيضا أبو سعيد وصححه كثير من العلماء. فننصحك بقراءة الكتب التي تذبّ عن أبي هريرة رضي الله عنه ككتاب (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) ، وكتاب (الأنوار الكاشفة) وغيرها من الكتب حتى تجد الجواب والصواب في أن أبا هريرة من حفاظ الصحابة.
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم (126377) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(9/53)
ما رأيكم فيمن ينتقد الحافظ ابن حجر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم فيمن ينتقد فيه الحافظ ابن حجر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره من أهل العلم ليس معصوما عن الخطأ، ولم يعصم أي واحد منهم.. ولقد كتبت على الفتح بعض الشيء، من أوله إلى كتاب الحج، ولاحظت عليه بعض الملاحظات رحمه الله.
فالمقصود أنه ليس معصوما، ولم يعصم من هو أكبر منه، فإذا ظهر الحق، فالحق هو ضالة المؤمن، فإذا قام الدليل على مسألة من المسائل، وجب الأخذ بما قام عليه الدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف إماما كبيرا، أكبر من الحافظ ابن حجر، بل وإن خالف بعض الصحابة، فالله يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) النساء/59، ولم يقل سبحانه: ردوه إلى فلان أو فلان، بل قال: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ، وقال سبحانه: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) الشورى/10.
لكن لا بد من التثبت واحترام أهل العلم، والتأدب معهم.. فإذا وجد المرء قولا ضعيفا عن أحد الأئمة أو العلماء أو المحدثين المعتبرين، فإن ذلك لا ينقص من قدرهم، وعليه أن يحترم أهل العلم، ويتأدب معهم، ويتكلم بالكلام الطيب، ولا يسبهم ولا يحتقرهم، ولكن يبين الحق بالدليل مع دعائه للعالم، والترحم عليه، وسؤال الله أن يعفو عنه.
هكذا يجب أن تكون أخلاق أهل العلم مع أهل العلم: يقدرون أهل العلم لمكانتهم، ويعرفون لهم قدرهم ومحلهم وفضلهم.
ولكن لا يمنعهم هذا من أن ينبهوا على الخطأ إذا وجدوا خطأ ظاهرا، سواء كان من العلماء المتقدمين أو المتأخرين، ولم يزل أهل العلم يرد بعضهم على بعض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر.. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم يذهبون إلى رأي سفيان، يعني الثوري.. وسفيان رحمه الله: إمام عظيم.. ومع هذا أنكر أحمد على من يترك الحديث، ويذهب إلى رأيه، ثم قرأ الإمام أحمد رحمه الله قول الله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور/63.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى العين والرأس، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال.
وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير.. وبالله التوفيق" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/305) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/54)
كيف روى أبو هريرة رضي الله عنه كل هذه الأحاديث ومدة صحبته ثلاث سنوات فقط؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إحدى الأخوات المسلمات سألتني سؤالاً فلم أستطع أن أجيبها، قالت: طالما أن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث سنوات فقط، فكيف روى جميع هذه الأحاديث؟ أرجو التفصيل، وتدعيم الإجابة بالأدلة، حتى أتمكن من الشرح لها وتفهيمها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس هذا محل إشكال على الإطلاق، وإذا قمنا بعملية حسابية سريعة يتبين لنا أن هذا الإشكال لا حقيقة له.
وبيان ذلك: أن ثلاث سنوات من صحبة أبي هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم تعني أكثر من (1050) يوماً.
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، يصاحبه أينما حل وارتحل، ويقضي معه معظم يومه، كما أخبر هو عن نفسه رضي الله عنه، وأقر له الصحابة بذلك، فكم حديثاً نتوقع أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم؟
لا نريد أن نبالغ في العدد المفترض كي يتقبل القارئ الحجة، بل نفترض عدداً يقبله كل منصف يريد معرفة الحق لاتباعه، ولتكن خمسة أحاديث في اليوم فقط، ونعني بالأحاديث هنا خمسة مواقف، فالحديث قد يكون قولياً، وقد يكون فعلياً، وقد يكون إقرارا من النبي صلى الله عليه وسلم لفعل أو قول فعل أمامه أو بلغه، وقد يكون الحديث وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فلو نقل أبو هريرة رضي الله عنه لنا فعلاً فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو حدثاً معيناً - ولو كيفية الخروج للصلاة - فهذا يعد حديثا في عرف المحدثين.
فلو فرضنا أن أبا هريرة رضي الله عنه سيسمع عند كل صلاة من الصلوات الخمس كلمة من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يشاهد موقفاً معيناً، فستكون حصيلة العلم الذي يجمعه أبو هريرة رضي الله عنه في اليوم الواحد خمسة أحاديث فقط.
ولا نظن أن أحداً يزعم أن هذا عدد كبير لحال أي صديق مع صديقه، فكيف بحال أبي هريرة رضي الله عنه المتفرغ للعلم، وهو يصاحب أعظم الرسل، وسيد البشر، محمداً صلى الله عليه وسلم؟
وعليه؛ ففي آخر صحبة أبي هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ستكون حصيلة الأحاديث أكثر من خمسة آلاف حديث.
وهكذا هي فعلا الأحاديث التي تروى عن أبي هريرة في كتب السنة، نحو (5374) بحسب عددها في " مسند بقي بن مخلد " أضخم موسوعة حديثية مؤلفة، نقلاً عن الدكتور أكرم العمري في كتابه " بقي بن مخلد ومقدمة مسنده " (ص/19) .
فأين هي المبالغة المنسوبة لأبي هريرة رضي الله عنه في روايته للأحاديث؟
نظن أن أي منصف يتأمل عدد مرويات أبي هريرة رضي الله عنه مع مدة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم يستنتج أنه لا صحة لهذه الزوبعة التي يثيرها البعض على مرويات أبي هريرة رضي الله عنه.
فكيف إذا علم القارئ الكريم أن الخمسة آلاف حديث المروية لأبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة تشمل الصحيح والضعيف والموضوع؟ يعني أن بعض هذه الأحاديث التي تُنسب لأبي هريرة رضي الله عنه لم تصح عنه من الأصل.
وكيف لو علم القارئ الكريم أيضاً أن الخمسة آلاف حديثاً المروية لأبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة تشمل المكرر الذي جاء بمتن ونص واحد ولكن تعددت أسانيده وطرقه؟ فبعض الأحاديث تروى من عشرة طرق ونصها واحد، فهذه يعدها العلماء عشرة أحاديث وليست حديثا واحداً.
وكيف لو علم القارئ الكريم أيضاً: أن الخمسة آلاف حديثاً المروية لأبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة لم يأخذها كلها من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل أخذ كثيراً منها عن إخوانه السابقين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم؟
ثم كيف لو علم القارئ الكريم أيضاً أن أبا هريرة رضي الله عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنوات، وليس ثلاثة فقط.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مدة صحبة أبي هريرة رضي الله عنه:
" قدم في خيبر سنة سبع، وكانت خيبر في صفر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فتكون المدة أربع سنين وزيادة، وبذلك جزم حميد بن عبد الرحمن الحميري" انتهى.
" فتح الباري " (6/608) .
وأما إخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن نفسه أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، كما وقع في "صحيح البخاري" (حديث رقم/3591) أنه قال: (صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ سِنِينَ، لَمْ أَكُنْ فِى سِنِىَّ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِىَ الْحَدِيثَ مِنِّى فِيهِنَّ) .
فهذا محمول على تقديره رضي الله عنه للمدة التي لازم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة شديدة، واستثنى الأيام التي ابتعد فيها حين ذهب إلى البحرين، أو في بداية إسلامه، أو في أيام الغزوات، حيث قد لا يتيسر له ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" فكأن أبا هريرة اعتبر المدة التي لازم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الملازمة الشديدة، وذلك بعد قدومهم من خيبر، أو لم يعتبر الأوقات التي وقع فيها سفر النبي صلى الله عليه وسلم من غزوه وحجه وعُمَرِه؛ لأن ملازمته له فيها لم تكن كملازمته له في المدينة، أو المدة المذكورة بقيد الصفة التي ذكرها من الحرص، وما عداها لم يكن وقع له فيها الحرص المذكور، أو وقع له لكن كان حرصه فيها أقوى، والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (6/608) .
فإذا تبين أن صحبة أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنين، وأسقطنا من عدد الأحاديث المروية عن أبي هريرة الأحاديث المكررة والضعيفة، فأي محل يبقى لدعوى مبالغة أبي هريرة رضي الله عنه في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
ثانياً:
ثم ننقل هنا بعض ما كتبه علماؤنا رحمهم الله في توضيح أسباب كثرة روايات أبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة عن غيره من الصحابة رض الله عنهم.
قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله:
"لكثرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أسباب، استخرجناها من عدة روايات:
أحدها: أنه قصد حفظ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضبط أحواله؛ لأجل أن يستفيد منها، ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله، وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة، وقد ثبت أنهم كانوا يُسَرُّون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا؛ لأنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال: قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث) .
وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره.
ثانيها: أنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبعه حتى في زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه، ولو في أثناء الطريق، فكانت السنين القليلة من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة الذين لم يكونوا يَرَوْنه صلى الله عليه وسلم إلا في وقت الصلاة، أو الاجتماع لمصلحة يدعوهم إليها، أو حاجة يفزعون إليه فيها، وقد صرح بذلك لمروان.
وأخرج البغويّ بسند جيد - كما قال الحافظ ابن حجر - عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة:
أنت كنت أَلَزَمَنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَنا بحديثه.
وفي " الإصابة " عنه أنه قال: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث.
وعن طلحة بن عُبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما لم نسمع.
ثالثها: أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة، وهذه مزية امتاز بها أفراد من الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة، وما يقرب منه؛ إذ كانوا يعتمدون على حفظهم، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة عندما ابتدءوا يأخذونها، وقالوا: إن الإنسان يتكل على ما كتب فيضعف حفظه، وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم، وتاريخهم ثابت محفوظ، قال الإمام الشافعيّ: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال البخاري مثل ذلك، إلا أنه قال: عصره. بدل دهره.
وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه.
رابعها: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بعدم النسيان، كما ثبت في حديث بسط الرداء المتقدم – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: (ابْسُطْ رِدَاءَكَ. فَبَسَطْهُ. فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ضُمّهُ. قال أبو هريرة: فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ) رواه البخاري (119) - وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن.
خامسها: دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة الكبير رضي الله عنه عند النسائي، وهو: (أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت فسأله، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد، ندعو الله ونذكره، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه. قال زيد فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: إني أسألك
مثل ما سأل صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى , فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي) – قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " (4/208) : إسناده جيد -.
سادسها: أنه تصدى للتحديث عن قصد؛ لأنه كان يحفظ الحديث لأجل أن ينشره، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم أو فتوى أو استدلال، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له، ويذكره بمناسبة وبغير مناسبة؛ لأنه يقصد التعليم لذاته، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب كثرة حديثه.
سابعها: أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما تقدم، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة، فروى عن أبي بكر وعمر، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد وعائشة، وأبي بصرة الغفاري، أي: أنه صرح بالرواية عن هؤلاء، ومن المقطوع به أن بعض أحاديثه التي لم يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل؛ لأنها في وقائع كانت قبل إسلامه، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور.
فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة، ولم ير استنكار أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه؛ إذ علم أن سبب ذلك الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب.
على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له (446) حديثًا، بعضها من سماعه، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها في مجلس واحد؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة.
فهل يستكثر عاقل هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا، وحرصًا على تحمل الرواية وأدائها؟! " انتهى باختصار.
"مجلة المنار" (19/25) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/55)
وقفات مهمة مع حديث الحوض، وبيان الطوائف التي تردهم الملائكة عنده
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير الحديث القدسي في ما معناه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرِد المسلمون إلى حوضه، يُرجع الله طائفة من الناس فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رب، أمتي، أمتي) فيقول عز وجل: إنك لا تدري ما فعلوا بعدك؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اصطلح المحدثون على تسمية الحديث الوارد هنا: " حديث الحوض "، وللحديث ألفاظ وروايات متعددة، ليس بينها – بفضل الله – اختلاف.
وهذه بعض الروايات بألفاظها المختلفة:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي) .
رواه البخاري (6212) ومسلم (2290) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا) قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ؛ أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا) .
رواه مسلم (249) .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُهُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، فَلَيُقَطَّعَنَّ رِجَالٌ دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) .
رواه أحمد (41 / 388) وصححه المحققون.
عن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) .
رواه البخاري (6211) ومسلم (2304) .
عن عَبْد اللَّهِ بنِ مسعود قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي يَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) .
رواه البخاري (6642) ومسلم (2297) .
ثانياً:
عند التأمل في الأحاديث السابقة نجد أن الكلام قد انحصر في مجموعات ترِد حوض النبي صلى الله عليه وسلم لتشرب منه، فتردهم الملائكة، ويناديهم النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ هي " أمتي "، " أصحابي "، " أصيحابي "، وليس بينها اختلاف تضاد، بل هي محمولة على أناس تشملهم معاني تلك الكلمات، ويمكننا أن نجملهم بهذه الطوائف:
1. مرتدون عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا أسلموا في حياته ورأوه وهم على الإسلام.
2. مرتدون عن الإسلام في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعلم بكفرهم.
3. أهل النفاق ممن أظهر الإسلام، وأبطن الكفر.
4. أهل الأهواء الذين غيَّروا سنَّة النبي صلى الله وسلم وهديه، كالروافض، والخوارج.
5. وبعض العلماء يُدخل فيهم: أهل الكبائر، وله ما يؤيد من السنَّة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده (9 / 514) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا يَفْعَلُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ) وصححه المحققون.
ولفظ " أمتي " في الأحاديث يصدق على أهل القول الرابع، والخامس، ولفظ " أصحابي " و " أصيحابي " على الأقوال الثلاثة الأوَل.
ومما يدل على أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم: أنه عرفهم بالغرة والتحجيل، وهي سيما خاصة بهذه الأمة، ويكون تعرف النبي صلى الله عليهم وسلم هناك بصفاتهم، لا بأعيانهم؛ لأنهم جاءوا بعده.
ومما يدل على دخول المنافقين في اسم " أصحابي ": قوله صلى الله عليه وسلم (لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) رواه البخاري (3518) ، وهذا معنى لغوي بحت للصحبة، ليس أنهم استحقوا شرفها؛ لأن تعريف الصحابي الاصطلاحي لا يصدق على هؤلاء.
وهذه طائفة من أقوال أهل العلم في تلك الأحاديث:
1. قال النووي - رحمه الله – في شرح الحديث -:
هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال:
أحدها: أن المراد به المنافقون، والمرتدون، فيجوز أن يُحشروا بالغرة والتحجيل، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مما وُعدتَ بهم، إن هؤلاء بدَّلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد بعده، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.
والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام.
" شرح مسلم " (3 / 136، 137) .
2. وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
وقال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة العرب، ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل قوله: (أصيحابي) بالتصغير على قلة عددهم.
" فتح الباري " (11 / 385) .
3. وقال الشيخ عبد القاهر البغدادي – رحمه الله -:
أجمع أهل السنَّة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كِندة، وحنيفة، وفزارة، وبني أسد، وبني بكر بن وائل، لم يكونوا من الأنصار، ولا من المهاجرين قبل فتح مكة، وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، وأولئك بحمد الله ومنِّه درجوا على الدين القويم، والصراط المستقيم.
وأجمع أهل السنة على أن من شهد مع رسول الله بدراً: من أهل الجنة، وكذلك كل مَن شهد معه بيعة الرضوان بالحديبية.
" الفَرْق بين الفِرق " (ص 353) .
4. وقال الشاطبي – رحمه الله -:
والأظهر: أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة؛ لأجل ما دل على ذلك فيهم، وهو الغرة والتحجيل؛ لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض، كان كفرهم أصلاً، أو ارتداداً.
ولقوله: (قد بدلوا بعدك) ، ولو كان الكفر: لقال: " قد كفروا بعدك "، وأقرب ما يحمل عليه: تبديل السنة، وهو واقع على أهل البدع، ومن قال: إنه النفاق: فذلك غير خارج عن مقصودنا؛ لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً، لا تعبداً، فوضعوها غير مواضعها، وهو عين الابتداع.
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنَّة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا، لا على التعبد بها لله تعالى؛ لأنه تبديل لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي.
" الاعتصام " (1 / 96) .
5. قال القرطبي – رحمه الله -:
قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكلُّ مَن ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله: فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طرداً: مَن خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ، والأهواء، والبدع.
ثم البعد قد يكون في حال، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال، ولم يكن في العقائد، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء، يُعرفون به، ثم يقال لهم (سحقاً) ، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهرون الإيمان، ويُسرون الكفر: فيأخذهم بالظاهر، ثم يكشف له الغطاء فيقول لهم: (سحقاً سحقاً) ، ولا يخلد في النار إلا كافر، جاحد، مبطل، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
" التذكرة في أحوال الموتى والدار الآخرة " (ص 352) .
ثالثاً:
مما يبين كذب الروافض في زعمهم أن الصحابة الأجلاء أبا بكر وعمر وعثمان من أولئك المرتدين: أنه قد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه قد حصلت ردة، وقتال للمرتدين، فمَن قاتل مَن؟ إن الذي ارتد هم الذين ذكرنا وصفهم، من بعض قبائل العرب، وإن الذي قاتلهم هو أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وإخوانه من المهاجرين والأنصار - وقد شاركهم في قتالهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسبى من بني حنيفة امرأة، أنجبت له فيما بعد الإمام العلَم " محمد بن الحنفية " -؛ فإذا كان الصحابة الكرام: أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار: مرتدين؛ فماذا يكون حال مسليمة وأتباعه، والعنسي وأتباعه؟! إلا إن هذا هو عين النفاق والشقاق، وقول الباطل وشهادة الزور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين، أتباع المرتدين، الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه، ودينه، ومرقوا من الإسلام، ونبذوه وراء ظهورهم، وشاقوا الله ورسوله وعباده المؤمنين، وتولوا أهل الردة والشقاق؛ فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم: يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصدِّيق رضي الله عنه وحزبه ـ من أصولهم ـ من جنس المرتدين الكفار، كالمرتدين الذين قاتلهم الصدِّيق رضي الله عنه.
" منهاج السنة النبوية " (4 / 490) .
وقال – رحمه الله -:
وفي الجملة: فأمر مسيلمة الكذاب، وادعاؤه النبوة، واتباع بني حنيفة له باليمامة، وقتال الصدِّيق لهم على ذلك: أمر متواتر، مشهور، قد علمه الخاص، والعام، كتواتر أمثاله، وليس هذا من العلم الذي تفرد به الخاصة، بل عِلْم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال " الجمَل " و " صفِّين "، فقد ذُكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر " الجمل "، و " صفين "، وهذا الإنكار وإن كان باطلا: فلم نعلم أحداً أنكر قتال أهل " اليمامة "، وأن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة، وأنهم قاتلوه على ذلك.
لكن هؤلاء الرافضة مِن جحدهم لهذا، وجهلهم به: بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دُفِنَا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم لموالاة أبي بكر، وعمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعواهم أنه نص على " علي " بالخلافة، بل منهم من ينكر أن تكون زينب، ورقية، وأم كلثوم من بنات النبي صلى الله عليه وسلم! ويقولون: إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافراً قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
" منهاج السنة النبوية " (4 / 492، 493) .
وقال – أيضاً -:
وهم – أي: الرافضة - يدَّعون أن أبا بكر وعمر، ومن اتبعهما ارتدوا عن الإسلام! وقد علم الخاص والعام: أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدين، فإذا كانوا يدَّعون أن أهل اليمامة مظلومون، قتلوا بغير حق، وكانوا منكرين لقتال أولئك، متأولين لهم: كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لأولئك السلف، وأن الصدِّيق وأتباعه يقاتلون المرتدين في كل زمان.
وقوله – أي: ابن المطهر الحلي الرافضي – " إنهم سمُّوا بني حنيفة مرتدين لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر ": فهذا مِن أظهر الكذب، وأبينِه؛ فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، واعتقدوا نبوته، وأما مانعو الزكاة: فكانوا قوماً آخرين، غير بني حنيفة، وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم، وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم ... .
" منهاج السنة النبوية " (4 / 493، 494) .
رابعاً:
يقال لهؤلاء الروافض: لماذا ارتد الخلفاء الثلاثة دون علي؟! وما الذي استثنى مثل " عمار بن ياسر " و " المقداد بن الأسود " و " أبا ذر " و " سلمان الفارسي " من الردة؟! أم هو التحكم والهوى؟! .
ونحن نعتقد أن المهاجرين والأنصار في الجنة خالدين فيها أبداً، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/ 100.
ونعتقد أن أبا بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وهكذا كل من سماهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء جميعاً سيشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شراباً هنيئاً، والويل والثبور لمن لعنهم، وكفرهم، فهو أولى أن يكون يوم القيامة في صف المرتدين الذين حاربهم أولئك الأطهار.
خامساً:
هذه الأحاديث حجة على الروافض؛ حيث يثبتون فيها ردة الصحابة رضي الله عنهم إلا نفراً قليلاً، ويزعمون أنهم " أحدثوا " بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أنهم كانوا على الإيمان قبل ذلك! فأي دين اعتقدوه بعد ذلك؟ وماذا فعلوا ما استحقوا به التكفير؟! فإن قالوا: سلب الخلافة من علي رضي الله عنه: فيقال لهم هذه معصية! تكفرها الحسنات، ويكفي الصحابة سبكم ولعنكم لهم حتى توضع أوزارهم عليكم إن شاء الله.
وإن قالوا: قتل جنين فاطمة! : قلنا قد قُتل في زمن علي رضي الله عنه الآلاف! فهل تطبقون عليه القاعدة نفسها في التكفير؟! .
فتبين مما سبق: أن الصحابة الأجلاء هم الذين دافعوا عن دين الله، وهم الذين أوقفوا مدَّ الردة، والتي قام على إذكائها ونشرها سلف أولئك الروافض، من أمثال مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وأن الله تعالى قد أثنى في كتابه الكريم على المهاجرين والأنصار في قرآن يُتلى إلى قيام الساعة، وقد نزههم ربهم عن الوقوع في البدعة، فكيف يقعون في الردة، وهم الذين نشروا الإسلام في الآفاق؟! .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/56)
معنى قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... ) والرد على الرافضة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى تفسير قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) ، قرأت تفسير الشيعة لهذه الآية، وهم يرمون بها الصحابة رضوان الله عليهم، فاحترت لعدم علمي بالتفسير الصحيح، فما تفسير هذه الآية لدينا؟ وهل كان أحد ارتد بعد وفاة الرسول؟ ومن هم؟ وهل ذكر الحديث بقوله " ما تدري ماذا فعلوا من بعدك " يصلح تطبيقه على من ولدوا بعد عهد الرسول، أي: الرسول لم يشهد صلاحهم، فكيف يقال " بعدُ "؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/ 144: فإنها آية محكمة، وللوقوف على معناها بتفصيل: نذكر الآتي:
1. أن هذه الآيات أنزلها الله تعالى بعد غزوة " أُحد "، وهي مقدمة، وتهيئة لموت النبي صلى الله عليه وسلم، ففيها التذكير بأن الإسلام لا ينقطع بموت أو قتل نبيكم، كما فيها بيان ما حصل مع أنبياء سابقين حيث لم يؤثر قتلهم على أتباعهم، ولم يستفد من هذا التنبيه والتذكير من ارتدَّ على عقبه من القبائل، فخسروا الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
وقعةَ " أُحُدٍ " كانت مُقَدِّمَةً، وإرهاصاً، بين يدي موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم إنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه، وتوحِيدهِ، ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حيٌّ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ: لا ينبغي لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد، لا هُوَ، ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ، والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بَقِيَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ، فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/ 144، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها، حتى ماتوا، أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله، وأعزَّهم، وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم.
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفسٍ أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا، وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقيَ منهم لِما أصابهم في سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ، مستكينين، أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً، كِراماً، مقبلينَ، غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (3 / 224، 225) .
2. هذه الآية تدل على تزكية أبي بكر الصدِّيق خاصة، والصحابة الأجلاء عامة؛ حيث وصف الله تعالى من يثبت في مثل هذه المصيبة، ويعلم أن نبيه ما هو إلا بشر يبلغ ما أرسله الله تعالى به، ثم يغادر هذه الدنيا، وصفهم الله تعالى بـ " الشاكرين "، وأما ما في الآية من تزكية الصدِّيق: فمن جهتين:
الأولى: استدلاله بها – مع قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) - عند موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية: أنه قاتل من ارتد على عقبه.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم، أو عن بعض لوازمه فقدُ رئيسٍ، ولو عظم؛ وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدِّين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم.
وفي هذه الآية أيضاً أعظم دليل على فضيلة الصدِّيق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين.
" تفسير السعدي " (ص 150) .
وبمعرفة ما مضى يتبين أن الصحابة الأجلاء قد استفادوا من درس " أحد "، وأن ما أصاب بعضهم من صدمة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ليست صدمة أعقبتها ردَّة، بل لعدم تحملهم عظَم الخبر، حتى ثبتهم الله تعالى بما تلاه على مسامعهم أبو بكر الصدِّيق من الآيات البينات، وأخبرهم بثبات المؤمن:
( ... فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَقَالَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَقَالَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ ... )
رواه البخاري (3670) .
فرجعوا إلى صوابهم، وكأنهم لأول مرة تطرق هذه الآية مسامعهم، وقد عصم الله تعالى المهاجرين والأنصار من الردة، وسقط فيها طوائف من العرب تصدَّى لهم الصدِّيق وأصحابه، فعاد من عاد، وبقي منهم على الكفر جماعات.
وانظر جواب السؤال رقم (125919) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/57)
تقصير المناهج الدراسية في بيان محبة ومنزلة آل البيت
[السُّؤَالُ]
ـ[آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا يقل ذِكرُ فضائلِهم لدينا، حتى إني لم أعرف عن اختصاصهم بالمحبة إلا من خلال تصفحي للإنترنت؟ وأنا فتاة أعيش في بلد مسلم سنِّي يدرس علوم الدين، وبكثافة، لم نفرغ لتعليم حبهم إلا درساً واحداً فقط في الثانوية، فهل هذا يكفي؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذا من تقصير القائمين على المناهج الدراسية في العالَم العربي والإسلامي، ومحبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم دِين يُدان الله به، وينبغي الإكثار من بيان ذلك في شرعنا حتى لا يُفتح الباب للرافضة للتلاعب والافتراء، كما هو دأبهم في تلقيب أهل السنَّة، واتهامهم بأنهم " نواصب " – أي: نصبوا العداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن أهل السنة يرون أن النواصب الذين يبغضون أهل البيت من فرق الزيغ والضلال، كما أن الرافضة الذين يكذبون على أهل البيت ويغلون في شأنهم: هم أشد زيغا وضلالا، وأعظم كذبا.
عن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ) فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: (وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
رواه مسلم (2408) .
وإنما عظمُ حق أهل بيته لعظم حقه صلى الله عليه وسلم علينا، كما أنه ليس المراد به من أولئك إلا من عُرف بالاستقامة والدِّين، وأما من كان ضالاًّ أو مخرِّفاً: فليس له حق علينا؛ لأنه ليس من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى لنوح عن ابنه الكافر: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) هود/ من الآية 46.
وعَن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: (إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) .
رواه أحمد (29 / 340) وصححه المحققون.
وقد نصَّ العلماء على هذه المحبة في كتب العقائد، ومن ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ويحبُّون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير " خُم " - مكان فيه ماء بين مكة والمدينة -: (أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) ، وقال أيضا للعباس عمِّه - وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم - فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ، وقال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) .
" مجموع الفتاوى " (3 / 154) .
غير أننا ننبه هنا إلى أن أهل البيت يدخل فيهم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا، وأولهن: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد صرح القرآن الكريم بذلك. قال الله عز وجل: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) . سورة الأحزاب /32-33، والخطاب هنا موجه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويصفهن بأنهن (أهل البيت) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح ". انتهى. تفسير ابن كثير (6/410) .
فأين هذا من قول الرافضة في أمهات المؤمنين، وبالأخص: عائشة، الصديقة بنت الصديق؟!
ثانياً:
تتجلى محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنَّة في صور، منها:
1. اعتقاد أنهم أشرف النَّاس نسباً.
وأين هذا في دين الرافضة: حيث أنكروا نسب رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم! ، وزعموا أنهما ابنتاه بالتبني! ، وأخرجوا العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده، والزبير ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجوهم من آل البيت، ونفوا عنهم النسب الشريف، وهم يبغضون كثيراً من أولاد فاطمة رضي الله عنها، كزيد بن علي، وبنه يحيى، وأيضاً يبغضون إبراهيم، وجعفر ابنيْ موسى الكاظم.
2. أن تُعظم منزلتهم بما يستحقون، وخاصة: إن كانوا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأين هذا من فعل الروافض، حيث صرّحوا بتكفير بعض كبار أهل البيت وعلمائهم من الصحابة! كالعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ادعوا أنه نزل فيه قوله تعالى (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) الإسراء/ 72، وكابنه عبد الله بن عباس العالِم الإمام، فقد جاء في " أصول الكافي " (1 / 247) من وصفه بأنه " جاهل سخيف العقل! "، وفي كتاب " رجال الكشي " (ص 53) قوله: " اللهم العن ابني فلان وأعمِ أبصارهما، كما عميت قلوبهما! ، وقد فسَّر ذلك شيخهم حسن المصطفوي فقال: " هما عبد الله بن عباس، وعبيد الله بن عباس ".
3. أن يقدَّموا في المجالس، ويُكرموا.
4. أن ينصروا فيما عندهم من حق، وأن تُحفظ لهم كرامتهم، وذلك بكفايتهم من أموال الفيء والغنائم، وإن لم يوجد من هذه المصادر شيء: فيُدفع لهم من الزكاة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
لو فرض أنه لا يوجد لإنقاذ حياة هؤلاء من الجوع إلا زكاة الهاشميين، فزكاة الهاشميين أولى من زكاة غير الهاشميين.
وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يعطوا من الزكاة إذا لم يكن خمس، أو وجد ومنعوا منه.
والخُمس: هو أن الغنائم تقسم خمسة أسهم، أربعة أسهم للغانمين، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً:
الأول: لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، يكون في مصالح المسلمين، وهو ما يعرف بالفيء، أو بيت المال.
الثاني: لذي القربى، هم قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب؛ لأن بني عبد المطلب يشاركون بني هاشم في الخمس.
الثالث: لليتامى.
الرابع: للمساكين.
الخامس: لابن السبيل.
فإذا مُنعوا، أو لم يوجد خمس - كما هو الشأن في وقتنا هذا -: فإنهم يعطون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
وأما صدقة التطوع: فتدفع لبني هاشم، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الراجح؛ لأن صدقة التطوع كمال، وليست أوساخ الناس، فيعطون من صدقة التطوع.
" الشرح الممتع " (6 / 253، 254) .
5. حمايتهم، وصون أعراضهم، عن كل ما يسيء إليهم.
وأين هذا من الطعن في عرض عائشة، واتهامها بالفاحشة، وهي زوجة صاحب البيت، وإمام أهله وغيرهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المبرأة من الله في قرآن يتلونه، رغم أنوفهم؟! .
وأين هذا مما فعله الرافضي ابن العلقمي، والطوسي، من جلب التتار إلى بغداد، وقتل الخليفة العباسي، وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وسبي النساء الهاشميات، والاعتداء عليهن، من قبَل جنود هولاكو، فهؤلاء الذين يزعمون محبة آل البيت تسببوا في هذا، وفي غيره مما يُبكي العيون دماً، لا دمعاً.
وينظر في تحديد من هم آل البيت: جواب السؤال رقم: (10055) .
وينظر في بيان فضائلهم: جواب السؤال رقم: (121948) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/58)
ترجمة أويس القرني رحمه الله
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت الكثير، ووردتني الكثير من الإيميلات عن تابعي (أحيانا يذكر أنه صحابي) يسمى أويس القرني، وعن بره بوالدته. هل من الممكن أن تتكرموا علينا بذكر قصته وسيرته؟ هل فعلا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه له مكانة خاصة؟ كيف كان بره بأمه - إن صح - أنه فضل لبره بأمه؟ جزاكم الله كل خير وقرب منه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أويس القرني: أبو عمرو: أويس، بن عامر، بن جزء، بن مالك، القرني، المرادي اليماني، من سادات التابعين، والأولياء الصالحين، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ولكنه لم يلقه، منعه من السفر إليه بره بأمه كما حكى ذلك الحافظ أبو نعيم في " حلية الأولياء " (2/87) عن أصبغ بن زيد، فليس هو من الصحابة، وإنما هو من التابعين.
ولد ونشأ في اليمن.
قال عنه الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (4/19) :
" القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، كان من أولياء الله المتقين، ومن عباده المخلصين".
ثانيا:
عقد الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم بابا في فضائله، وأورد تحته ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله من أحاديث في فضله، منها حديث رقم (2542) :
عنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ:
(كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ) فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ. قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ.
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)
فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ.
قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟)
كما عقد الإمام الحاكم في " المستدرك " (3/455) بابا في مناقبه، وقال عنه:
" أويس راهب هذه الأمة " انتهى.
ولعل من أعظم ما روي في مناقبه الأحاديث الواردة في شفاعة رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأناس كثيرين، وقد جاءت من روايات كثيرة، أصحها حديث عبد الله بن أبي الجدعاء مرفوعا: (ليدخُلَنَّ الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم) رواه الترمذي (رقم/2438) وقال حسن صحيح. وصححه الألباني.
فقد صح عن الحسن البصري أن هذا الشافع هو أويس القرني، وورد ذلك في أحاديث أخرى مرفوعة لكنها ضعيفة.
ورويت في فضله أحاديث أخرى ضعيفة، منها حديث طويل جاء فيه: (ليصلين معكم غدا رجل من أهل الجنة ... ذاك أويس القرني) ... إلى آخر الحديث، وفيه حوار مطول بينه وبين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب.
رواه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (2/81) وأشار إلى ضعفه. وقال الشيخ الألباني في " السلسلة الضعيفة " (رقم/6276) : منكر جدا.
يقول ابن الجوزي رحمه الله – وقد عقد في كتابه " الموضوعات " بابا في ذكر أويس -:
" وإنما يصح في الحديث عن أويس كلمات يسيرة جرت له مع عمر، وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يأتي عليكم أويس، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) فأطال القُصَّاص في حديث أويس بما لا فائدة في الإالة بذكره " انتهى باختصار.
" الموضوعات " (2/44) .
ثالثا:
قد ذكر العلماء في ترجمته بعض القصص التي تدل على صلاحه وزهده رحمه الله، ومن أشهر مَن روى ذلك الحافظ أبو نعيم في كتابه العظيم " حلية الأولياء "، فكان مما جاء فيه بسنده (2/79) عن أبي نضرة عن أسير بن جابر قال:
" كان محدث بالكوفة يحدثنا، فاذا فرغ من حديثه يقول: تفرقوا. ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدا يتكلم بكلامه، فأحببته، ففقدته، فقلت لأصحابي: هل تعرفون رجلا كان مجالسنا كذا وكذا؟ فقال: رجل من القوم: نعم أنا أعرفه، ذاك أويس القرني. قلت: أفتعرف منزله؟ قال: نعم. فانطلقت معه حتى جئت حجرته، فخرج إلي فقلت: يا أخي ما حبسك عنا؟ قال: العري. قال: وكان أصحابه يسخرون به ويؤذونه. قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه. قال: لا تفعل، فإنهم إذًا يؤذونني إذا رأوه. قال: فلم أزل به حتى لبسه، فخرج عليهم، فقالوا: مَن ترون خدع عن برده هذا. فجاء فوضعه فقال: أترى!
قال: فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل! قد آذيتموه، الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة. قال: فأخذتهم بلساني أخذا شديدا " انتهى.
رابعا:
قد روي عن أويس كثير من الكلمات النورانية التي تفيض بالحكمة والموعظة:
عن سفيان الثوري قال: كان لأويس القرني رداء إذا جلس مس الأرض وكان يقول:
" اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة، وجسد عار، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني " انتهى.
رواه الحاكم في " المستدرك " (3/458)
ومن كلامه أيضا رحمه الله في الحث على الخوف من الله ودوام مراقبته:
" كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم " انتهى.
رواه الحاكم في " المستدرك " (3/458)
وعن أصبغ بن زيد قال:
" كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح، وكان يقول إذا أمسى: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح. وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب ثم يقول: اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به " انتهى.
رواه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (2/87) وقوله " فيركع حتى يصبح ... ويسجد حتى يصبح " أي يطيل الركوع في الصلاة حتى يصبح، ثم في ليلة أخرى يطيل السجود في الصلاة حتى يصبح ".
وعن الشعبي قال:
" مر رجل من مراد على أويس القرني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد الله. قال: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظن أن لا يمسي، وإن أمسى ظن أن لا يصبح، فمبشر بالجنة أو مبشر بالنار، يا أخا مراد! إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحا، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له في ماله فضة ولا ذهبا، وإن قيامه بالحق لم يترك له صديقا " انتهى.
" حلية الأولياء " (2/83) ، ورواه الحاكم في " المستدرك " (3/458)
خامسا:
وأكثر أهل العلم يذهبون إلى أن وفاته كانت يوم صفين سنة (37هـ) ، حيث قاتل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستشهد هناك، أسند ذلك الحاكم في " المستدرك " (3/460) إلى شريك بن عبد الله وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهما.
وذكر آخرون أنه غزا أذربيجان فاستشهد هناك. انظر: " حلية الأولياء " (2/83) .
والأول عليه الأكثر.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/59)
ما فضل آل البيت؟ وهل يشفعون في الناس يوم القيامة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما فضل آل البيت على غيرهم من الناس؟ وهل يشفعون في الناس يوم القيامة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قد بينّا في جواب السؤال رقم (10055) من هم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ـ، ومما قلناه في آخر الجواب:
فيصبح آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم: أزواجه، وذريته، وبنو هاشم، وبنو عبد المطلب، ومواليهم.
انتهى
ثانياً:
قد جعل الله تعالى لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فضائل متعددة، واتفق أهل السنَّة والجماعة على وجوب محبتهم، ورعاية حقهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وكذلك " آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقّاً في الخُمس، والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) .
" مجموع الفتاوى " (3 / 407) .
وقال – أيضاً -:
وكذلك " أهل بيت رسول الله " تجب محبتهم، وموالاتهم، ورعاية حقهم.
" مجموع الفتاوى " (28 / 491) .
ثالثاً:
ومن فضائل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم:
1. قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الأحزاب/ 32،33. وليس هذا الفضل خاصّاً بنسائه رضي الله عنه، بل قد دخل فيه غيرهنَّ بالسنَّة الصحيحة:
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل مِن شَعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمَّ جاء الحُسين فدخل معه، ثمَّ جاءت فاطمةُ فأدخلَها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخله، ثمَّ قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) .
رواه مسلم (2424) .
2. وقال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) الأحزاب/ من الآية6.
3. وعن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) .
رواه مسلم (2276) .
4. وعن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى " خُمًّا " بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ، وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ) فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: (وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
رواه مسلم (2408) .
وقد رعى هذه الوصية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم: أبو بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما:
روى البخاري (3508) ومسلم (1759) أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعليٍّ رضي الله عنه: " والذي نفسي بيدِه لَقرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أنْ أَصِلَ من قرابَتِي ".
وروى البخاريُّ في صحيحه أيضاً (3509) عن أبي بكر رضي الله عنه أيضاً قوله: " ارقُبُوا محمَّداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته ".
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
قوله ارقبوا محمدا في أهل بيته يخاطب بذلك الناس ويوصيهم به والمراقبة للشيء المحافظة عليه يقول احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم.
" فتح الباري " (7 / 79) .
وأما تقدير عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم: فقد بانت في أمور، ومنها تقديمهم في العطاء على نفسه، وعلى الناس غيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وأيضاً فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَّا وضع ديوان العطاء: كتب الناس على قدر أنسابهم، فبدأ بأقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا انقضت العرب ذكر العجم هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بني أمية، وولد العباس، إلى أن تغير الأمر بعد ذلك.
" اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 159، 160) .
رابعاً:
ليس ثمة شفاعة خاصة بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من رضي الله تعالى شفاعته من الصالحين، والشهداء، والعلماء، سواء كانوا من آل البيت، أم من غيرهم من عموم الناس.
وفي جواب السؤال رقم (21672) قلنا:
والشفاعة لأرباب الذنوب والمعاصي ليست خاصة بالنبي، بل يشاركه فيها: الأنبياء، والشهداء، والعلماء، والصلحاء، والملائكة، وقد يشفع للمرء عمله الصالح، لكن للنبي صلى الله عليه وسلم من أمر الشفاعة النصيب الأوفر.
انتهى
وبه يُعلم الرد على أهل الغلو من الرافضة الذين زعموا شفاعة خاصة بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت في كتبهم أن آل البيت هم الذين يُدخلون الناس الجنَّة، والنَّار! في قائمة طويلة من أصناف الغلو فيهم، والذي مصدره جهلهم بدين الله تعالى، والبُعد عن نصوص الوحي من الكتاب والسنَّة.
وننصح بالنظر في رسالة بعنوان " فضلُ أهل البيت وعلوُّ مكانتِهم عند أهل السُّنَّة والجماعة " من تأليف الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر، - وقد استفدنا منها هنا – ففيها مباحث ضافية في الموضوع، وهي على صغر حجمها نافعة جدّاً، وانظرها هنا:
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=1&book=1135
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(9/60)
فضل العرب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صح شيء في فضل العرب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من المقرر في قواعد الشريعة المقررة في القرآن الكريم أن ميزان التفاضل والمنافسة بين الناس هو التقوى والعمل الصالح، كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13.
ومن المقرر أيضا في السنة النبوية أن العروبة مفضلة على غيرها من الأجناس، فقد اختار الله سبحانه وتعالى النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من العرب، وجعل القرآن – الذي هو الرسالة الخالدة – عربيا، واتفق أهل السنة والجماعة على أفضلية العروبة على غيرها من الأعراق والأنساب.
وليس بين التقريرين السابقين تعارض:
فتفضيل العروبة هو تفضيل جنس وليس تفضيل أفراد، فالعجمي المتقي الصالح خير من العربي المقصر في حق الله تعالى، وتفضيل العروبة إنما هو اختيار من الله تعالى، قد تظهر حكمته جلية، وقد لا تكون ظاهرة لنا، إلا أن في العرب من الصفات والخلال ما يشير إلى وجه هذا التفضيل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلقا كثيرا خيرا من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (19/29-30)
وقد كتب كثير من العلماء كتبا خاصة في هذا الموضوع، كالإمام ابن قتيبة في كتابه " فضل العرب والتنبيه على علومها"، والإمام العراقي في "محجة القرب في فضل العرب"، ونحوه للإمام الهيثمي، ومن المتأخرين العلامة مرعي الكرمي في رسالته: " مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب "، والشيخ بكر أبو زيد في " خصائص جزيرة العرب "، كلها تقرر الحقيقة السابقة.
ولعل أفضل من شرح المسألة وبينها بالبيان الشافي شيخ الإسلام ابن تيمية، فنحن ننقل نص كلامه هنا، مع شيء من الاختصار غير المخل إن شاء الله.
يقول رحمه الله:
" الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانيهم، وسريانيهم، رومهم، وفرسهم، وغيرهم.
وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا.
وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم - وإن كان هذا من الفضل - بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسا ونسبا، وإلا لزم الدور.
ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني، صاحب الإمام أحمد، في وصفه للسنة التي قال فيها: هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت مَن أدركت مِن علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم
فكان من قولهم:
أن الإيمان قول وعمل ونية، وساق كلاما طويلا إلى أن قال:
ونعرف للعرب حقها، وفضلها، وسابقتها، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق) – رواه الحاكم في "المستدرك" (4/97) وقال الذهبي: الهيثم بن حماد متروك، وانظر "السلسلة الضعيفة" (1190) - ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، فإن قولهم بدعة وخلاف.
ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الإصطخري عنه إن صحت، وهو قوله وقول عامة أهل العلم.
وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم، وهؤلاء يسمون الشعوبية، لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل القبائل للعرب، والشعوب للعجم.
ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب.
والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق: إما في الاعتقاد، وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس، مع شبهات اقتضت ذلك.
ولهذا جاء في الحديث: (حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق) .
مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس، ونصيب للشيطان من الطرفين، وهذا محرم في جميع المسائل.
فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمر بإصلاح ذات البين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله)
وهذان حديثان صحيحان، وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة ما لا يحصى.
والدليل على فضل جنس العرب، ثم جنس قريش، ثم جنس بني هاشم:
ما رواه الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله! إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا) قال الترمذي: هذا حديث حسن، وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل.
[الحديث رواه الترمذي (3607) وأحمد (17063) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع] .
والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه خير الناس نفسا ونسبا.
وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله ابن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه سمع شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال:
من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله صلى الله عليك وسلم. قال: أنا محمد، بن عبد الله، بن عبد المطلب، ثم قال: إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، وخيرهم نفسا) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
[رواه الترمذي (3532) ، وأحمد بنحوه (1791) ، وحسنه محققو المسند]
وقوله في الحديث: (خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم خيرهم فجعلهم فرقتين، فجعلني في خير فرقة) يحتمل شيئين:
أحدهما: أن الخلق هم الثقلان، أو هم جميع ما خلق في الأرض، وبنو آدم خيرهم، وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة، فكان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة وله وجه صحيح.
ثم جعل بني آدم فرقتين، والفرقتان: العرب والعجم. ثم جعل العرب قبائل، فكانت قريش أفضل قبائل العرب، ثم جعل قريشا بيوتا، فكانت بنو هاشم أفضل البيوت.
ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم، فكان في خيرهم، أي ولد إبراهيم، أو في العرب، ثم جعل بني إبراهيم فرقتين: بني إسماعيل، وبني إسحاق، أو جعل العرب عدنان وقحطان، فجعلني في بني إسماعيل، أو بني عدنان، ثم جعل بني إسماعيل أو بني عدنان قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة وهم قريش.
وعلى كل تقدير فالحديث صريح في تفضيل العرب على غيرهم.
ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث الأوزاعي عن شداد بن عمار عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) .
وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحق، ومعلوم أن ولد إسحق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم، لما فيهم من النبوة والكتاب، فمتى ثبت الفضل على هؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى، وهذا جيد ...
واعلم أن الأحاديث في فضل قريش ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة، وليس هذا موضعها، وهي تدل أيضا على ذلك، إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس، وهكذا جاءت الشريعة.
فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها، ثم خص قريشا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص، ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك من الخصائص، فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها، والله عليم حكيم.
(الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) و (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وقد قال الناس في قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك) وفي قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) أشياء ليس هذا موضعها.
وفي المسألة آثار غير ما ذكرته، في بعضها نظر، وبعضها موضوع.
وأيضا فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على قدر أنسابهم، فبدأ بأقربهم نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انقضت العرب ذكر العجم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك.
وسبب هذا الفضل - والله أعلم - ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح، والعلم له مبدأ، وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم، وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة، والعرب هم أفهم من غيرهم، وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة، ولسانهم أتم الألسنة بيانا، وتمييزا للمعاني جمعا وفرقا، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل.
وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق، وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة " انتهى.
"اقتضاء الصراط المستقيم" (148-162)
وانظر: "منهاج السنة النبوية" (4/364)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
(9/61)
هل خص النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل بقوله إني أحبك؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في كتاب " الصلاة " أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قال مرة لمعاذ رضى الله عنه: " إني أحبك " فقال معاذ رضى الله عنه: " وأنا أحبك " فأخذ النبي محمد صلى الله عليه وسلم بيد معاذ وقال له: " أوصيك يا معاذ! لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ". وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحب جميع أصحابه، فلماذا لم يقل " إني أحبك " إلا لمعاذ رضى الله عنه. ربما قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك لصحابة آخرين أيضا، لكن لماذا لم يقل ذلك لجميع صحابته؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
معاذ بن جبل رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المقربين، ومن الذين شهد لهم بالعلم والفقه والدين، أمر صلى الله عليه وسلم الناس بأخذ القرآن عنه، وبعثه إلى اليمن معلما وداعيا وأميرا، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عمر في الناس فقال لهم: من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل.
توفي رضي الله عنه سنة ثمان عشرة أو سبع عشرة للهجرة.
انظر: "سير أعلام النبلاء" (1/443) .
وقد أحبه النبي صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وصرح له بذلك، بل وأكده بيمين حلفها بالله عز وجل، وكرر العبارة والكلمة ليقع في قلب السامع عظيم قدر هذه المحبة والمودة.
فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: (يَا مُعَاذُ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) رواه أبو داود (1522) قال النووي في "الأذكار" (ص/103) : إسناده صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" (ص/96) : إسناده قوي. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وفي إحدى روايات الحديث – كما عند البخاري في "الأدب المفرد" (1/239) وصححها الألباني في "صحيح الأدب المفرد" – أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا والله أحبك) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وكان معاذ رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة علية؛ فإنه قال له: (يا معاذ والله إني لأحبك، وكان يردفه وراءه) . وروي فيه أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأنه يحشر أمام العلماء برتوة - أي بخطوة -.
ومن فضله أنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه، داعيا، ومفقها، ومفتيا، وحاكما إلى أهل اليمن. وكان يشبهه بإبراهيم الخليل عليه السلام، وإبراهيم إمام الناس، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (10/654)
فهذا الحديث – ولا شك – فضيلة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، غير أنه لم يختص بهذه الفضيلة دون باقي الصحابة، فقد ورد تصريح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة رضوان الله عليهم بمحبته لهم على وجه الخصوص أو العموم، ونحن نذكر ههنا بعض ما ورد في ذلك:
1- تصريحه صلى الله عليه وسلم بمحبة الأنصار جميعا:
فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ مِنْ عُرُسٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْثِلًا – يعني قائما منتصبا - فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ) رواه البخاري (3785) ومسلم (2508) وبوب عليه البخاري بقوله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إلي.
2- تصريحه بحب أبي بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم:
فقد سأل عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضى الله عنه النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم: أَىُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ. فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: أَبُوهَا. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَعَدَّ رِجَالاً. رواه البخاري (3662) ومسلم (2384)
3- التصريح بحب الحسن والحسين:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لِحَسَنٍ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ) رواه البخاري (3749) ، ومسلم (2421) .
وروى الترمذي (3769) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن والحسين رضي الله عنهما: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا) وحسنه الألباني في سنن الترمذي.
4- التصريح بحب زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد:
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ عن زيد بن حارثة وابنه أسامة: (إِنْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ [يعني: زيداً] ، وَإِنَّ هَذَا [يعني: أسامة] لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ) . رواه البخاري (4250) ومسلم (2426) .
وليست هذه جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب، بل هناك الكثير من الأحاديث التي تتضمن معاني المودة والمحبة والتقدير من النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام، فقد كان يحبهم جميعا، وإنما خص بعضهم بألفاظ المحبة لمزيد عناية بهم، ولما لهم من المكانة الخاصة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/62)
فضائل يوم عرفة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي فضائل يوم عرفة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من فضائل يوم عرفة:
1- أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال أي آية؟ قال: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " المائدة:3. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم: وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
2- أنه يوم عيد لأهل الموقف:
قال صلى الله عليه وسلم: " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب " رواه أهل السنن. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " نزلت - أي آية (اليوم أكملت) - في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد ".
3- أنه يوم أقسم الله به:
والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: " وشاهد ومشهود " البروج:3، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة.. " رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وهو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: " والشفع والوتر " الفجر:3، قال ابن عباس: الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة. وهو قول عكرمة والضحاك.
4- أن صيامه يكفر سنتين:
فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: " يكفر السنة الماضية والسنة القابلة " رواه مسلم.
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
5- أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من يعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " الأعراف:172-173، رواه أحمد وصححه الألباني، فما أعظمه من يوم وما أعظمه من ميثاق.
6- أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف:
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ "
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا " رواه أحمد وصححه الألباني.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(9/63)
هل يُخبر غَيْر المسلم بكل تفاصيل الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من الصواب للشاب المسلم أن يخبر شخصاً ما من غير المسلمين عن كل ما يعنيه الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم من الصواب إخباره بمعنى الإسلام ولكن ليس من الحكمة إخباره بكل تفاصيل الإسلام دفعة واحدة، ولذلك فلابد للداعية أن يكون حكيماً ويبدأ بالأهم ويعمل بفقه الأوليات في الدعوة كما جاء في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) رواه البخاري (1458) ومسلم (19)
وعلى المسلم أن يدعو للإسلام بشرط أن يكون عالماً بما يدعو إليه، حتى لا يقع منه الخطأ أثناء دعوته لقول الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) سورة يوسف/108.
والبصيرة: " هي المعرفة التي تميز بها بين الحق والباطل. " أ. هـ كلام البغوي رحمه الله في تفسيره (4/284) .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/422) عند تفسير هذه الآية: " يقول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمراً له أن يخبر الناس: أن هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي. " أ. هـ
واعلم بأن الدعوة إلى الإسلام واجبة، قال علماؤنا رحمهم الله: " يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم أربع مسائل والعمل بها:
الأولى: العلم، وهو معرفة العبد ربه، ونبيه، ودين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به، أي العمل بمقتضى هذا العمل.
الثالثة: الدعوة إليه. أي الدعوة إلى ما تعلَّمه.
الرابعة: الصبر على الأذى فيه. أي في سبيل العلم، والعمل، والدعوة إلى ما تعلم.
والدليل على هذه المسائل الأربع قول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) سورة العصر.
فقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} دليل على المسألة الأولى؛ لأنه لا إيمان إلا بعلم. وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} دليل على المسألة الثانية، وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} دليل على المسألة الثالثة، وهي الدعوة. وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} دليل على المسألة الرابعة.
فيبين لغير المسلم ما يعنيه دين الإسلام من الاستسلام لله وقبول أمره والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم، ويذكر له محاسن الدين الإسلامي (راجع السؤال 219) ، حتى يقتنع ويقر بالإسلام، فإذا أسلم فحينئذٍ يبين له أحكام الإسلام على سبيل التفصيل على سبيل التدرج ويراعى مستوى عقل المخاطب ولا يُطرح عليه أموراً تثير لديه الشبهات أو تجعله كالضائع من كثرة المعلومات، ولكن ينهج نهج الربانيين الذين قال الله فيهم: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) آل عمران/79، قيل في تفسير الربانيين: الذين يربّون الناس بصغار العلم قبل كباره (تفسير البغوي 2/60)
أي بالقواعد والأمور الكبار قبل الدقائق وصغار المسائل. والله الهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/64)
هارون الرشيد من خيرة الخلفاء
[السُّؤَالُ]
ـ[ذكرت بعض كتب التاريخ ولاسيما كتاب " ألف ليلة وليلة " عن خليفة المسلمين هارون الرشيد أنه لا يعرف إلا اللهو وأنه يشرب الخمور ويراقص الغانيات ويقربهن منه. أرجو أن تخبروني هل ما قيل عن هذا الرجل صحيح أم لا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"هذا كذب صريح، وظلم قبيح، فإن هذا الخليفة من خيرة الخلفاء، وكان يحج عاماً، ويغزو عاماً، وقد فتح الله في زمنه الكثير من البلدان، واتسعت رقعة الإسلام، واستتب الأمن، وعم الرخاء، وكثر الخير، بما لا نظير له، ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة، يجالس العلماء، ويأخذ منهم، ويسمع المواعظ ويبكي، ويخشع ويكثر العبادة والتهجد والقراءة والذكر، كما ذكر في سيرته المشهورة التي أفردت بالتأليف، فأما هذا الكتاب فإنه أكاذيب مختلقة، لا حقيقة لها، وإنما لَفَّقَه شخص لا أمانه له، وأراد بذلك شغل الأمة عن واجباتها، وإضاعة الأوقات في قراءة أو سماع تلك الخرافات، فلا يغتر به. والله الموفق" انتهى.
فضيلة الشيخ ابن جبرين حفظه الله.
"فتاوى إسلامية" (4/487) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/65)
هل يجوز القول بأن الحسين مات شهيداً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لنا القول بأن الحسين مات شهيدا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم؛ قتل الحسين رضي الله عنه شهيداً.
وذلك أن أهل العراق (الكوفة) كتبوا إليه ليخرج إليهم ليبايعوه على الإمارة، وذلك بعد موت معاوية رضي الله عنه، وتولية ابنه يزيد.
ثم تغير أهل الكوفة على الحسين بعد ما تولاها عبيد الله بن زياد من قِبَل يزيد بن معاوية، وقَتَلَ مسلمَ بنَ عقيل رسولَ الحسين إليهم، فكانت قلوب أهل العراق مع الحسين، غير أن سيوفهم مع عبيد الله بن زياد.
فخرج إليهم الحسين وهو لا يعلم بمقتل مسلم بن عقيل، ولا بتغيرهم نحوه.
وقد أشار عليه ذوو الرأي والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، ولكنه أصَرَّ على الخروج إليهم.
فممن أشار عليه بهذا: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم أجمعين.
فسار الحسين إلى العراق، ونزل بكربلاء، وعلم أن أهل العراق تنكروا له، فطلب الحسين من الجيش الذي جاء لمقاتلته إحدى ثلاث خصال: إما أن يتركوه يرجع إلى مكة، وإما أن يسير إلى يزيد بن معاوية، وإما أن يذهب للثغور للجهاد في سبيل الله.
فأبوا إلا أن يستسلم لهم، فأبى الحسين، فقاتلوه، فقتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه.
"البداية والنهاية" (11/473-520) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ; ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء ; ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح وكان من شبان المسلمين ; ولا كان كافرا ولا زنديقا ; وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه. وجرت في إمارته أمور عظيمة: - أحدها مقتل الحسين رضي الله عنه ; وهو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله ; ولا نكت بالقضيب على ثناياه - رضي الله عنه - ولا حمل رأس الحسين - رضي الله عنه - إلى الشام لكن أمر بمنع الحسين رضي الله عنه وبدفعه عن الأمر. ولو كان بقتاله فزاد النواب على أمره ;...... فطلب منهم الحسين رضي الله عنه أن يجيء إلى يزيد ; أو يذهب إلى الثغر مرابطا ; أو يعود إلى مكة. فمنعوه رضي الله عنه إلا أن يستأسر لهم وأمر عمر بن سعد بقتاله، فقتلوه مظلوما، له ولطائفة من أهل بيته. رضي الله عنهم وكان قتله رضي الله عنه من المصائب العظيمة فإن قتل الحسين , وقتل عثمان قبله: كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة وقتلتهما من شرار الخلق عند الله" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (3/410-413) .
وقال أيضا (25/302-305) :
"فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله الحسين بالشهادة، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته. أكرم بها حمزة وجعفرا وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: (الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة) رواه الترمذي وغيره.
فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما، ويكرمونهما، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قتل شهيدا، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم....
فلما خرج الحسين رضي الله عنه ورأى أن الأمور قد تغيرت، طلب منهم أن يدعوه يرجع أو يلحق ببعض الثغور، أو يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا، حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا، شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين. وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه " انتهى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/66)
هل يحكم بتبديع كل من أخطأ في العقيدة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم تبديع جملة من أئمة أهل السنة بحجة أنهم أخطأوا في العقيدة مثل النووي وابن حجر وغيرهما؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"من أخطأ لا يؤخذ بخطئه، الخطأ مردود، مثل ما قال مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، وكل عالم يخطئ ويصيب، فيؤخذ صوابه، ويُترك خطؤه، وإذا كان من أهل العقيدة السلفية ووقع في بعض الأغلاط، فيترك الغلط، ولا يخرج بهذا من العقيدة السلفية إذا كان معروفاً باتباع السلف، ولكن تقع منه بعض الأغلاط في بعض شروح الحديث، أو في بعض الكلمات التي تصدر منه، فلا يقبل الخطأ، ولا يتبع فيه، وهكذا جميع الأئمة إذا أخطأ الشافعي أو أبو حنيفة أو مالك أو أحمد أو الثوري أو الأوزاعي أو غيرهم، يؤخذ الصواب ويترك الخطأ، والخطأ ما خالف الدليل الشرعي، وهو ما قاله الله ورسوله، فلا يؤخذ أحد من الناس إلا بخطأ يخالف الدليل، والواجب اتباع الحق، قال الله تعالى: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) .
وقد أجمع العلماء على أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالواجب اتباع ما جاء به وقبوله وعدم رد شيء مما جاء به عليه الصلاة والسلام؛ للآية الكريمة المذكورة، وما جاء في معناها، ولقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (28/254) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/67)
تفاجأت أن الألباني من المعاصرين وتوقفت عن قبول أحكامه على الأحاديث!
[السُّؤَالُ]
ـ[علمت مؤخراً أن العلامة الألباني هو من علماء العصر الحديث، وأنه توفي منذ ثماني سنوات فقط، وأنا لست من أهل العلم لأفتي في الرجل، ولا أعلم عن سيرته شيئاً يُذكر، ولكني فقط أريد أن أطمئن ويطمئن قلبي، كيف يجوز لنا الأخذ بحديث ضعَّفه الأوائل من أهل العلم وصححه هو؟ أو كيف يجوز لنا ترك حديث صححه السابقون من العلماء وأنكره هو؟ مع ما لهم من قرب عهد بالرواة والصحابة والتابعين ما يمكنهم من معرفة أحوالهم والسؤال عنهم، وما له من بعد عهد عن كل هؤلاء الرواة، مما يجعل قدرته على اقتفاء آثارهم ومعرفة أحوالهم وصفاتهم أمراً متعذراً جدّاً، يكاد لا يعتمد فيه إلا على ما أخبر به الأوائل ابتداء، وبذلك فهو ربما لا يكون قد أضاف شيئاً، لا أقصد المعيب في علاَّمة مثله، ولكن هذا تصوري العقلي، وأنا كنت آخذ بأحاديثه دون نقاش، لكن بعد أن علمت أنه ليس من التابعين وأصحاب العهد الأول: دهشت، ولم أعد أعلم كيف أتصرف عندما يخالف رأيه أحداً منهم. أرجو الإفادة، وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ليس من الصحابة ولا من التابعين، ولا من أهل القرون الثلاثة، بل هو معاصر، ولد عام 1333 هـ، الموافق 1914 م في مدينة " أشقودرة " في دولة ألبانيا، وتوفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة عام 1420هـ، الموافق الثاني من أكتوبر 1999م، في الأردن.
ثانياً:
العلم الشرعي لا يعرف متقدماً ومتأخراً، وكل متقدم هو ـ في الحقيقة ـ متأخر بالنسبة لمن سبقه، وكل متأخر هو ـ أيضا ـ متقدم بالنسبة لمن تلاه!! والمتقدم في الزمان قد لا يكون على درجة من العلم أو الفقه بالنسبة لمتأخر نهل من علم الأوائل ورزقه الله فهماً ثاقباً، فالحق لا يُعرف بكون قائله من المتقدمين، بل بموافقته للأدلة من القرآن والسنَّة.
ثالثاً:
المتقدمون أنفسهم في القرون الفاضلة المتقدمة اختلفوا في الحكم على رجال ورواة، واختلفوا في الحكم على أحاديث صحة وضعفاً، فماذا تصنعين مع هذا الاختلاف منهم وهم في زمان متقدم، وكلهم من أهل العلم الفضل؟! إنك تحتاجين لمن ينظر في أقوالهم، ويقلِّب النظر فيها، ويرجح بينها ليخلص بنتيجة، وهذا لن يكون إلا رجلاً متأخراً عن زمانهم، أو معاصراً لزمانك، فأنتِ بحاجة لهذا العالِم ليعطيك نتيجة الترجيح بين تلك الأقوال المختلفة، وهو في الحقيقة لا غنى له عن علوم المتقدمين، بل هو لا شيء لولاها، ولذا كان هؤلاء عالة على المتقدمين، وما من أحدٍ من أهل العلم إلا ويعترف لعلماء الحديث وأئمتهم المتقدمين بالفضل.
رابعاً:
إذا كنتِ لستِ من أهل العلم، فكيف لكِ أن تحكمي على شخص بأنه ليس مؤهلاً لأخذ أقواله، وقبول ترجيحاته؟! وها أنتِ ذا تراسليننا وتطلبين منَّا النصيحة والتوجيه، ونعتقد أنك تقبلين كلامنا في الشيخ الألباني رحمه الله، ونحن نخبرك أنه شيخنا وإمامنا، ونحن في موقعنا هذا نذكر حكمه على الأحاديث غالباً، ونرضى فقهه في كثير من المسائل، فما الذي يجعلك تقبلين الفتوى منّا أو من غيرنا في مسائل الفقه والاعتقاد، ولا تقبلينها من الشيخ الألباني رحمه الله، وكلهم معاصرون لزمانك، ولعلَّ بعضهم تلاميذ للشيخ نفسه! .
خامساً:
إذا أردتِ معرفة كون الإنسان عالِماً يوثق بفقهه وعلمه: فإنه يمكنك ذلك بإحدى طريقتين:
الأولى: أن تكوني من أهل العلم، فتنظري في أقواله، وتسمعي كلامه، ثم تحكمين بأنه من أهل العلم، من خلال استدلاله، وقوة نظره في الأدلة، واستعمال القواعد العلمية في النظر والترجيح.
والثانية: أنكِ تسألين من تثقين به من أهل العلم الثقات عندك عنه، فإن زكَّاه لكِ: أخذتِ بأقواله وترجيحاته، ووثقتِ بكلامه وتوقيعه عن رب العالمين.
وبما أن الأمر في الطريقة الأولى لن يكون؛ بسبب اعترافك بأنك لست من أهل العلم: فإنه لم يبق إلا الطريقة الثانية، وهي حكم العلماء المعروفين، والموثوقين على هذا الرجل، وهل هو فعلاً من العلماء أم لا.
ونحن نذكر لك بعض الأقوال في تزكية هذا الإمام، لتحكمي بعدها بما حكم به هؤلاء العلماء، وليس أمامكِ إلا قبول كلامهم.
1. قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:
ما رأيت تحت أديم السماء عالماً بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني.
2. وسئل – رحمه الله - عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) من مجدد هذا القرن، فقال - رحمه الله -: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني هو مجدد هذا العصر في ظني، والله أعلم.
3. وقال – رحمه الله -:
الشيخ ناصر الدين الألباني من إخواننا المعروفين من المحدثين من أهل السنة والجماعة، نسأل الله لنا وله التوفيق والإعانة على كل خير، والواجب على كل مسلم أن يتقي الله، وأن يُراقب الله في العلماء، وأن لا يتكلَّم إلا عن نصيحة.
4. وقال – أيضاً -:
ونفيدكم أن الشيخ المذكور معروف لدينا بحسن العقيدة، والسيرة، ومواصلة الدعوة إلى الله سبحانه، مع ما يبذله من الجهود المشكورة في العناية بالحديث الشريف، وبيان الحديث الصحيح من الضعيف من الموضوع.
5. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
فالذي عرفته عن الشيخ من خلال اجتماعي به - وهو قليل -: أنه حريص جدّاً على العمل بالسنَّة، ومحاربة البدعة، سواء كان في العقيدة، أم في العمل، أما من خلال قراءتي لمؤلفاته: فقد عرفت عنه ذلك، وأنه ذو علمٍ جمٍّ في الحديث، رواية، ودراية، وأن الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثيراً من الناس، من حيث العلم، ومن حيث المنهاج والاتجاه إلى علم الحديث، وهذه ثمرة كبيرة للمسلمين، ولله الحمد، أما من حيث التحقيقات العلمية الحديثية: فناهيك به.
وهذه أقوال علماء كبار شهدوا لأخيهم بالعلم، وخاصة علم الحديث، وإذا شهد الكبار لشخص بأنه من العلماء والأئمة: فلم يبق كلام لغيرهم من الصغار الطاعنين بعلم الشيخ رحمه الله.
ومع تلك الشهادات الغالية من أولئك الأئمة الأعلام: فإننا نذكر تزكية الجهات الأكاديمية، والمجامع الفقهية لعلم الشيخ الألباني، وهي تعزز شهادة إخوانه العلماء.
6. " مجمع الفقه الإسلامي ".
قال الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدكتور الحبيب بلخوجة – حفظه الله -:
إننا فقدنا بموته رجلا سبَّاقاً إلى خدمة العالم الإسلامي، فكان بذلك مرجعاً لعدد كبير من الأساتذة والشيوخ.
7. " رابطة العالم الإسلامي ".
قال الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور عبد الله بن صالح العبيد – حفظه الله -:
لا شك بأن فقد الأمة الإسلامية بوفاة الشيخ الألباني تعتبر خسارة فادحة.
8. " إدارة البحوث العلمية والإفتاء " في السعودية.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ - حفظه الله -:
قال حفظه الله معترفا بمكانة الشيخ الألباني رحمه:
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أحد العلماء في هذا العصر، فهو رجلٌ صاحب سنَّّّة، ومحب للسنَّة، ومدافع عنها.
9. " كلية الشريعة في جامعة دمشق ".
وقد اختارته ليقوم بتخريج " أحاديث البيوع " الخاصة بموسوعة الفقه الإسلامي، التي عزمت الجامعة على إصدارها عام 1955 م.
10. " لجنة الحديث ".
التي شكلت في عهد الوحدة بين مصر وسوريا، وقد اختارته ليكون عضواً فيها؛ للإشراف على نشر كتب السنة وتحقيقها.
11. " الجامعة السلفية " في " بنارس " في " الهند ".
وقد اختارته ليتولى مشيخة الحديث فيها، وقد اعتذر عن ذلك.
12. " وزارة المعارف في السعودية ".
وقد طلبت منه عام 1388 هـ أن يتولى الإشراف على قسم الدراسات الإسلامية العليا في جامعة مكة.
13. " الجامعة الإسلامية " في المدينة النبوية.
وقد اختاروه للتدريس فيها، واختير عضواً للمجلس الأعلى فيها.
14. وأخيراً:
فقد قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية منح الجائزة عام 1419هـ، 1999م، وموضوعها " الجهود العلمية التي عنيت بالحديث النبوي تحقيقاً وتخريجاً ودراسة " للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقالوا: " تقديراً لجهوده القيِّمة في خدمة الحديث النبوي، تخريجاً، وتحقيقاً، ودراسة، وذلك في كتبه التي تربو على المئة ".
وبه يتبين – إن شاء الله – أن الشيخ الألباني رحمه الله أهلٌ لأن يؤخذ عنه العلم، وبخاصة علم الحديث، وقد زكَّاه رؤوس أهل العلم في زماننا هذا، وزكته جهات رسمية، وأكاديمية، عربية، وأعجمية.
وننبه في نهاية هذا الجواب إلى أمرين اثنين:
الأول: أن الشيخ رحمه الله ليس بمعصوم عن الخطأ، وأنه قد ردَّ عليه كثيرون، فأصابوا في أشياء وأخطئوا في أخرى، وقد قبَل الشيخ تصويبهم فيما أخطأ به، ولم يمنعه ذلك من قبول الحق، فالشيخ رحمه الله بشر، يصيب ويخطئ، وصوابه أكثر من خطئه.
والثاني: أنه لا يوجد – حسب علمنا – حديث تفرد الشيخ بتصحيحه أو تضعيفه عن المتقدمين، فكل حديث صححه أو ضعفه فهو مسبوق من غيره بالحكم نفسه، وإن وُجد ما يخالف كلامنا هذا فهو نادر.
ويمكنك معرفة الكثير عن حياة الشيخ وجهوده من خلال قراءة شيء من تراجمه المنشورة، وهي كثيرة، وأهمها: حياة الألباني وآثاره، وثناء العلماء عليه، للشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني، وهو في مجلدين. كما ننصحك بالاستفادة المباشرة من كتب الشيخ، وأشرطته، ولعل سماع الأشرطة يساعدك على الاستفادة المباشرة من الشيخ، والوقوف على شيء من علمه، رحمه الله.
ونسأل الله تعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا منه ما جهلنا، وأن يرحم شيخنا الألباني، ويسكنه الفردوس الأعلى.
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/68)
موقف علمائنا من الحافظين ابن حجر والنووي رحمهما الله
[السُّؤَالُ]
ـ[قال واحد من العلماء المسلمين في المدينة التي أسكن بها: إن الإمام ابن حجر، والإمام النووي مبتدعان، وساق بعض الأدلة من "فتح الباري" لتبرير رأيه، وأعطى مثالاً على ذلك بشرح الإمام ابن حجر للمقصود بوجه الله أنه رحمته، ما رأيكم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أهل السنَّة والجماعة منصفون في الحكم على الآخرين، لا يرفعون الناس فوق ما يستحقون، ولا ينقصون قدرهم، ومن الإنصاف بيان خطأ المخطئ من أهل العلم والفضل، والتأول له، والترحم عليه، كما أن من الإنصاف التحذير من خطئه؛ لئلا يغتر أحد بمكانته فيقلده فيما أخطأ فيه، وأهل السنَّة لا يتوانون عن الحكم على المخالف المتعمد للسنَّة بأنه مبتدع ضال.
وقد وُجد في زماننا هذا من نال من الإمامين ابن حجر والنووي، فحكم عليهما بأنهم مبتدعة ضالون! ، وبلغت السفاهة ببعضهم أن قال بوجوب إحراق كتابيهما "فتح الباري" و "شرح مسلم "! .
وليس معنى هذا أنهما لم يخطئا في مسائل من الشرع، وبخاصة في باب صفات الله تعالى، وقد علَّق عليها علماؤنا، وبينوها، وردوا عليهما، مع الترحم عليهما، والثناء بما يستحقانه، والدعاء لهما، والوصية بالاستفادة من كتبهما، وهذا هو الإنصاف الذي عُرف به أهل السنَّة والجماعة، بخلاف من بدَّعهما، وضلَّلهما، وقال بإحراق كتبهما، وبخلاف من استدل بكلامهما كأنه شرع منزَّل، وجعل ما يعتقدانه هو الحق الذي لا ريب فيه، وسنذكر ما يتيسر من كلام علمائنا ليقف المسلم على الإنصاف، والعلم، والحكم بالعدل على هذين الإمامين.
1- سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
ما هو موقفنا من العلماء الذين أوَّلوا في الصفات، مثل ابن حجر، والنووي، وابن الجوزي، وغيرهم، هل نعتبرهم من أئمة أهل السنَّة والجماعة أم ماذا؟ وهل نقول: إنهم أخطأوا في تأويلاتهم، أم كانوا ضالين في ذلك؟
فأجابوا:
" موقفنا من أبي بكر الباقلاني، والبيهقي، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي زكريا النووي، وابن حجر، وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى، أو فوَّضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، وأنهم أخطأوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله، سواء تأولوا الصفات الذاتية، وصفات الأفعال، أم بعض ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز. الشيخ عبد الرزاق عفيفي. الشيخ عبد الله بن قعود
"فتاوى اللجنة الدائمة" (3/241) .
2- وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
بالنسبة للعلماء الذين وقعوا في بعض الأخطاء في العقيدة، كالأسماء والصفات، وغيرها، تمر علينا أسماؤهم في الجامعة حال الدراسة، فما حكم الترحُّم عليهم؟ .
الشيخ: مثل مَن؟ .
السائل: مثل: الزمخشري، والزركشي، وغيرهما.
الشيخ: الزركشي في ماذا؟ .
السائل: في باب الأسماء والصفات.
فأجاب:
"على كل حال، هناك أناس ينتسبون لطائفة معينة شعارها البدعة، كالمعتزلة مثلاً، ومنهم الزمخشري، فالزمخشري مُعتزلي، ويصف المثْبِتِين للصفات بأنهم: حَشَوِية، مُجَسِّمة، ويُضَلِّلهم فهو معتزلي، ولهذا يجب على مَن طالع كتابه "الكشاف" في تفسير القرآن أن يحترز من كلامه في باب الصفات، لكنه من حيث البلاغة، والدلالات البلاغية اللغوية جيد، يُنْتَفع بكتابه كثيراً، إلا أنه خَطَرٌ على الإنسان الذي لا يعرف في باب الأسماء والصفات شيئاً، لكن هناك علماء مشهودٌ لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة مِن أهل البدع، لكن في كلامهم شيءٌ من كلام أهل البدع؛ مثل ابن حجر العسقلاني، والنووي رحمهما الله، فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحاً تامّاً مطلقاً من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يُحْرَقَ " فتح الباري "؛ لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح، فهذان الرجلان بالذات ما أعلم اليوم أن أحداً قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدَّماه، ويدلك على أن الله سبحانه وتعالى بحوله وقوته - ولا أَتَأَلَّى على الله - قد قبلها: ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس، لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب " رياض الصالحين " يُقرأ في كل مجلس , ويُقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعاً عظيماً، وأتمنى أن يجعل الله لي كتاباً مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته، وفي مسجده، فكيف يقال عن هذين: إنهما مبتِدعان ضالان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما! ويجب إحراق " فتح الباري "، و " شرح صحيح مسلم "؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال، وبلسان المقال:
أَقِلُّوا عليهمُ لا أبا لأبيكمُ مِن اللومِ أو سدوا المكان الذي دوا
من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان، إلا أن يشاء الله، فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين، وأمِّنوا على ذلك " انتهى.
"لقاءات الباب المفتوح" (43/السؤال رقم 9) .
3- وسئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله:
لقد ظهر بين طلاب العلم اختلاف في تعريف المبتدع، فقال بعضهم: هو من قال أو فعل البدعة، ولو لم تقع عليه الحجة، ومنهم من قال لابد من إقامة الحجة عليه، ومنهم من فرَّق بين العالم المجتهد وغيره من الذين أصلوا أصولهم المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وظهر من بعض هذه الأقوال تبديع ابن حجر والنووي، وعدم الترحم عليهم؟
فأجاب:
" أولاً: لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق؛ لأن ذلك أمر خطير وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضاً هذا يُحدث العداوة والبغضاء بينهم، فالواجب عليهم الاشتغال بطلب العلم، وكف ألسنتهم عما لا فائدة فيه، بل فيه مضرة عليهم، وعلى غيرهم.
ثانياً: البدعة: ما أحدث في الدين مما ليس منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) - رواه البخاري -، وإذا فعل الشيء المخالف جاهلاً: فإنه يعذر بجهله، ولا يحكم عليه بأنه مبتدع، لكن ما عمله يعتبر بدعة.
ثالثاً: من كان عنده أخطاء اجتهادية تأوَّل فيها غيره، كابن حجر، والنووي، وما قد يقع منهما من تأويل بعض الصفات: لا يُحكم عليه بأنه مبتدع، ولكن يُقال: هذا الذي حصل منهما خطأ، ويرجى لهما المغفرة بما قدماه من خدمة عظيمة لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما إمامان جليلان، موثوقان عند أهل العلم " انتهى.
"المنتقى من فتاوى الفوزان" (2/211، 212) .
4- وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:
" مثل النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهم، من الظلم أن يقال عنهم: إنهم من أهل البدع، أنا أعرف أنهما من " الأشاعرة "، لكنهما ما قصدوا مخالفة الكتاب والسنَّة، وإنما وهِموا، وظنُّوا أنما ورثوه من العقيدة الأشعرية: ظنوا شيئين اثنين:
أولاً: أن الإمام الأشعري يقول ذلك، وهو لا يقول ذلك إلاَّ قديماً؛ لأنه رجع عنه.
وثانياً: توهموه صواباً، وليس بصواب.
انتهى من (شريط رقم 666) "من هو الكافر ومن هو المبتدع ".
فرحم الله الإمامين: النووي وابن حجر، وغفر لهما ما أخطآ فيه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/69)
الموقف الشرعي من كتابات سيد قطب أخذاً وردّاً
[السُّؤَالُ]
ـ[هل نأخذ من كتابات سيد قطب العديدة على الرغم من تحذير بعض العلماء منه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الأستاذ " سيد قطب " ليس من العلماء، فلا يُعرف له ترجيحات في الحديث، أو الفقه، أو التفسير، وإنما هو كاتب أديب، أحب الإسلام ودافع عنه، ودعا إليه وقد مات في سبيله ـ فيما يظهر لنا ـ ونسأل الله أن يكون من الشهداء.
وله كتابات متنوعة، فيها الصواب وفيها الخطأ، والعلماء الذين وقعوا في أخطاء في العقيدة أو الحديث أو الفقه: لم نرَ أحداً من أهل العلم حرَّم الأخذ منهم بالكلية، ولا من هجر النقل عنهم مطلقاً، هذا مع أن منهم دعاة لمذاهبهم العقيدية، ومتعصبة لمذاهبهم الفقهية، وهذا من إنصاف أهل السنَّة مع المخالفين.
والأستاذ سيد قطب ليس بعيداً عن هذا الإنصاف من أهل السنَّة، ولذا رأينا رؤوس أهل السنَّة في زماننا هذا ينقلون عنه مواضع من كتبه موافقة لاعتقاد ومنهج أهل السنَّة، ومن ذلك:
1. نقل عنه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في مقدمة كتابه " مختصر العلو " حوالي ثلاث صفحات، بدأها بقوله: " فها هو الأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله ... ".
ومجرد النقل عنه لا يعد تزكية، لكن التزكية في الأوصاف التي مدحه بها الشيخ الألباني رحمه الله: "الأستاذ" "الكبير" "رحمه الله ".
2. نقل عنه الشيخ صالح الفوزان حفظه الله أربع نقولات (من ص 21 – 24) وذلك في كتابه " التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية ".
ثانياً:
علماؤنا الأجلاء تعلموا الإنصاف من شرع الله تعالى المطهَّر، وعلَّموه غيرهم، وربُّوهم على التخلق به، ومن الإنصاف عدم هجر كتابات سيد قطب بالكلية، كما أنه من الدِّين بيان ما أخطأ فيه لئلا يغتر بخطئه من يقرأ كلامه، وليس هذا خاصّاً بسيد قطب، بل حتى من انتسب للسنَّة فإن علماءنا الأجلاء قد حذَّروا من تقليده فيما أخطأ به، وقد صدرت فتاوى متعددة من علماء اللجنة الدائمة تحذَِّر من خطأ بعض أولئك المنتسبين للسنَّة، وأنهم وقعوا في اعتقاد مخالف.
وإن تعجب فعجبٌ ما نراه من بعض المنتسبين للسنَّة ممن طاروا بنقد إمام أو عالم لبعض كتابات سيد قطب، بينما خالفوا أولئك العلماء والأئمة عندما حذَّروا من خطأ شيوخهم! فقبلوا كلام العلماء في أناس وتركوه في آخرين، ومن أراد مثالاً لاتباع الهوى فليتأمل هذا المثال.
وهذه طائفة من أقوال العلماء في كتابات سيد قطب، يجمعها أمر واحد: أنه يؤخذ منها ما وافق الحق، ويُترك منها ما خالفه، وليس هذا الأمر خاصّاً بكتب سيد قطب دون غيره.
1. قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:
الرجل له كتاب " العدالة الاجتماعية " لا قيمة له، لكن كتاب " معالم على الطريق " له بحوث قيمة جدّاً.
شريط رقم: (784) من " سلسلة الهدى والنور ".
- وفي الشريط ذاته قال الشيخ الألباني رحمه الله:
"أنا أعتقد أن الرجل ليس عالماً، لكن له كلمات في الحقيقة - خاصة في السجن - كأنها من الإلهام" انتهى.
- وفيه – أيضاً – قوله:
"الرجل ليس عالماً، لكن له كلمات عليها نور، وعليها علم، مثل " ... منهج حياة "، أنا أعتقد أن هذا العنوان كثير من إخواننا السلفيين ما تبنوا معناه، أن " لا إله إلا الله منهج حياة "، هذا الكلام الذي تكلمتُ عنه" انتهى.
2. وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" سيد قطب " رجل ظهر على العالم الإسلامي بفِكر، واختلف فيه الناس بين ممجد، وقادح قدحاً شديداً جدّاً، فنود أن يبين شيخُنا لنا بياناً وافياً عن هذا الموضوع، وكيف يكون موقف المسلم نحو الرجل؛ لأن سيداً له أثر في العالم الإسلامي، وله آثار من كتب ومؤلفات، فنريد بياناً من فضيلتكم.
فأجاب:
"لا أرى أن يكون النزاع والخصومة بين الشباب المسلم في رجل معين، لا سيد قطب، ولا غير سيد قطب، بل النزاع يكون في الحكم الشرعي، فمثلاً: نعرض قولاً من الأقوال لقطب، أو لغير قطب، ونقول: هل هذا القول حق أو باطل؟ ثم نمحصه إن كان حقّاً: قبلناه، وإن كان باطلاً: رددناه، أما أن تكون الخصومة والنزاع بين الشباب، والأخذ والرد في رجل معين: فهذا غلط، وخطأ عظيم.
فسيد قطب ليس معصوماً، ومَن فوقه من العلماء ليسوا معصومين، ومَن دونه من العلماء ليسوا معصومين، وكل شخص يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيجب قبول قوله على كل حال.
فلذلك أنا أنهى الشباب أن يكون مدار نزاعهم وخصوماتهم على شخص معين أيّاً كان؛ لأنه إذا كانت الخصومات على هذا النحو: فربما يُبْطل الخصم حقّاً قاله هذا الشخص، وربما يَنْصُر باطلاً قاله هذا الشخص، وهذا خطر عظيم؛ لأنه إذا تعصب الإنسان للشخص وتعصب آخر ضده، فالذي يتعصب ضده سوف يقول عنه ما لم يقله، أو يؤول كلامه، أو ما أشبه ذلك، والثاني ربما يُنْكِر عنه ما قاله، أو يوجه ما قاله من الباطل.
فأنا أقول: لا نتكلم في الأشخاص، ولا نتعصب لأشخاص، وسيد قطب انتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والله تعالى حسيبه، وكذلك غيره من أهل العلم.
أما الحق: فيجب قبوله سواء جاء من سيد قطب، أو من غيره، والباطل يجب رده سواء كان من سيد قطب أو من غيره، ويجب التحذير من أي باطل كُتِب أو سُمِع سواء من هذا، أو من هذا، من أي إنسان.
هذه نصيحتي لإخواننا، ولا ينبغي أن يكون الحديث والمخاصمة والأخذ والرد في شخص بعينه.
أما سيد قطب: فرأيي في آثاره: أنه مثل غيره، فيه حق وباطل، ليس أحد معصوماً، ولكن ليست آثاره مثلاً كآثار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني فبينهما كما بين السماء والأرض، فآثار الرجل الأول هي عبارة عن أشياء أدبية وثقافية عامة، وليس عنده كما عند الشيخ الألباني في التحقيق والعلم.
ولذلك أنا أرى أن الحق يؤخذ من كل إنسان، والباطل يُرَد من كل إنسان، وأنه لا ينبغي لنا بل ولا يجوز لنا أن نجعل مدار الخصومة والنزاع والتفرق والائتلاف هو أسماء الرجال" انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " (130 / السؤال رقم 1) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/70)
الطعن في صحابي بأنه كان لا يعرف شيئا في السياسة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من يقول في حق الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه لا يعرف شيئاً عن السياسة، مع العلم أن هذه الكلمة فيها نبز لهذا الصحابي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"عبد الله بن عمر بن الخطاب صحابي جليل، من أكابر الصحابة المهاجرين وعلمائهم وفضلائهم، تجب محبته ومحبة سائر الصحابة، والترضي عنهم، ولا يجوز تنقصهم أو تنقص أحد منهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ... الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/44) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/71)
قصة ثعلبة (حمامة المسجد) غير صحيحة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل قصة ثعلبة ونزول قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله ... الآيات) صحيحة؟ علماً بأنهم كانوا يسمونه حمامة المسجد.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ) التوبة/74، أنه ثعلبة بن حاطب – لا يصح سنده، وثعلبة بن حاطب أنصاري معدود في البدريين، استشهد يوم أحد، كما حقق ذلك جماعة من أهل العلم، منهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ صالح الفوزان ... الشيخ بكر أبو زيد.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/49) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله....) الآيات نزلت في بيان حال بعض المنافقين. وأما ما اشتهر من أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب في قصة طويلة ذكرها كثير من المفسرين وروجها كثير من الوعاظ فضعيف لا صحة له، وهي مخالفة لما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن الله يقبل توبة التائب من أي ذنب كان " انتهى من شرح رسالة "أصول في التفسير"
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/72)
يسأل عن مقولة إبراهيم عليه السلام لإسماعيل: غيّر عتبة بابك
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك حديث يخص رجلا أخبر بأن يغير عتبة داره إذا نطقت زوجته بعبارة مهينة؟ رجاء ساعدوني في إيجاد هذا الحديث (إذا كان موجودا) وفهم السياق الذي قيل فيه إن شاء الله.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فالحديث الذي أشار إليه السائل هو ما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم من قصة إبراهيم عليه السلام مع أم إسماعيل عليه السلام، وترك إبراهيم الخليل لها ولولدها عند بيت الله المحرم، وما تبع ذلك من أحداث.
والقصة رواها البخاري في صحيحة بطولها، وقد أخبرنا الله في القرآن عن بعض تفاصيل هذه القصة، كما في سورة إبراهيم؛ فقد أخبرنا سبحانه أن إبراهيم ترك زوجته وولده في مكة ورجع إلى الشام، كما أمره الله ثم رجع إلى مكة وقد كبر إسماعيل، فيقص علينا النبي خبر رجوعه إلى مكة:
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ.
وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا.
ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ فَشَكَتْ إِلَيْهِ!!
قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ!!
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟!
قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا، شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ؟!!
قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟
قَالَتْ: نَعَمْ؛ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ!!
قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ؛ الْحَقِي بِأَهْلِكِ.
فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا.
قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ، وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ؟
فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ.
فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ الْمَاءُ.
قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ.
قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ!! فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ!! قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ!!
ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ، قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ؟!!
قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ.
قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا.
قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوُِهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ".
قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
رواه البخاري في صحيحة: كتاب أحاديث الأنبياء، باب واتخذ الله إبراهيم خليلا رقم (3113) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قوله عتبة بابك: كناية عن المرأة، وسماها بذلك لما فيها من الصفات الموافقة لها، وهو حفظ الباب وصون ما هو داخله.
وفي القصة دروس وعبر منها
1- أن شكر الله سبب للمزيد من نعمه، وكفر النعم بعكس ذالك، وهذا واضح من عاقبة حال المرأتين.
2- الإشارة إلى ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من القناعة والرضى بما يسره الله لزوجها من الرزق دون تبرم أو تضجر.
3- الاعتناء باختيار الزوجة الصالحة التي تعين على أمر الآخرة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/73)
عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية وثناء الأئمة عليه وموقف ابن حجر منه
[السُّؤَالُ]
ـ[رجاءً الإجابة على سؤالي عن عقيدة الشيخ ابن تيمية، حيث قرأت أنه انحرف عن العقيدة الصحيحة، وأنه وصف الله بصفات البشر، أيضاً قرأت أن علماء مثل ابن حجر العسقلانى لا يقدرونه، هل يمكنكم توضيح هذه المسألة لي؟ . شكراً لكم، والسلام عليكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يُعدُّ شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية من المجددين البارزين في الإسلام، وقد وُلد – رحمه الله – عام 661 هـ وتوفي عام 728 هـ، وإذا كان أثر المجدد عادة في زمانه وقرنه فإن أثر شيخ الإسلام ابتدأ في زمانه ولا يزال أثره إلى الآن على العلماء وطلاب العلم والجماعات الإسلامية التي تنتسب للسنَّة، ولا يزال أهل العلم ينهلون من علمه في الرد على أعداء الدين من اليهود والنصارى، والفرق المنسبة للإسلام كالرافضة والحلولية والجهمية، والفرق المبتدعة كالأشعرية والمرجئة.
وتحقيقاته في مسائل الفقه والحديث والتفسير والسلوك أشهر من أن نذكر نماذج لها، فكتبه ومؤلفاته شاهدة عليها، وليس هو – رحمه الله – بحاجة لمن يزكيه من أمثالنا، بل علمه وفقهه حاضر شاهد لا ينكره إلا جاهل أو جاحد.
ثانياً:
وشهادات الأئمة في عصره، وبعد عصره تبين للمنصف كذب الادعاءات التي يفتريها أعداء الملة، وأعداء السنَّة على هذا الإمام العلَم، وفي ثنايا هذه التزكيات بيان علم وفقه وقوة حجة هذا الإمام، وبه يُعرف السبب الذي حاربه من أجله أهل الكفر والبدعة، وهو أنه هدم أصولهم فخرَّ عليهم السقف من فوقهم، وسنذكر في بعض هذه الشهادات صحة اعتقاد شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصرته للسنَّة، ورده على أهل البدع والخرافات.
وهذه التزكيات والشهادات لهذا الإمام لم تكن من تلامذته وأصحابه فحسب، بل شهد له حتى مخالفوه بالإمام والتقدم في العلم والفقه، وقوة الحجة، بل وشهدوا له بالشجاعة والسخاء والجهاد في سبيل الله لنصرة الإسلام، وهذه بعض الشهادات والتزكيات:
1. قال الإمام الذهبي – رحمه الله - في " معجم شيوخه ":
هو شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علماً، ومعرفة، وشجاعة، وذكاء، وتنويراً إلهيّاً ً، وكرماً، ونصحاً للأمَّة، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرج، ونظر في الرجال، والطبقات، وحصَّل ما لم يحصله غيره.
برَع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه، بطبع سيَّال، وخاطر إلى مواقع الإِشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث، وحفِظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوّاً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده، وأتقن العربيَّة أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَرَدَّ عليهم، وَنبَّه على خطئهم، وحذَّر منهم، ونصر السنَّة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنَّة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، أحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولى الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأَب النفاق وأبدى صفحته.
ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: إني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
انظر " ذيل طبقات الحنابلة " لابن رجب الحنبلي (4 / 390) .
2. وقال الحافظ عماد الدين الواسطي – رحمه الله -:
والله، ثم والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية، علماً، وعملاً، وحالاً، وخلُقاً، واتِّباعاً، وكرماً، وحلْماً، وقياماً في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، أصدق النَّاس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همةً، وأسخاهم كفّاً، وأكملهم اتباعاً لسنَّة محمد صلى الله عليه وسلّم، ما رأينا في عصرنا هذا مَن تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة.
" العقود الدرية " (ص 311) .
3. وقال الحافظ جلال الدين السيوطي – رحمه الله -:
ابن تيمية، الشيخ، الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، الفقيه، المجتهد، المفسر البارع، شيخ الإسلام، علَم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني.
أحد الأعلام، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وسمع ابن أبي اليسر، وابن عبد الدائم، وعدّة.
وعني بالحديث، وخرَّج، وانتقى، وبرع في الرجال، وعلل الحديث، وفقهه، وفي علوم الإسلام، وعلم الكلام، وغير ذلك.
وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد، والأفراد، ألَّف ثلاثمائة مجلدة، وامتحن وأوذي مراراً.
مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
" طبقات الحفاظ " (ص 516، 517) .
وقد طعن ابن حجر الهيتمي [من كبار فقهاء الشافعية، توفي 974هـ، وهو شخص آخر غير ابن حجر العسقلاني، صاحب فتح الباري، المتوفي 852هـ] في شيخي الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كثيراً، واتهمهما بالقول بالتجسيم والتشبيه وقبائح الاعتقادات، وقد ردَّ عليه كثيرون، وبينوا زيف قوله، وأظهروا براءة الإمامين من كل اعتقاد يخالف الكتاب والسنة، ومن هؤلاء:
4. الملا علي قاري – رحمه الله – حيث قال – بعد أن ذكر اتهام ابن حجر لهما وطعنه في عقيدتهما -:
أقول: صانهما الله – أي: ابن القيم وشيخه ابن تيمية - عن هذه السمة الشنيعة، والنسبة الفظيعة، ومن طالع " شرح منازل السائرين " لنديم الباري الشيخ عبد الله الأنصاري قدس الله سره الجلي، وهو شيخ الإسلام عند الصوفية: تبيَّن له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة، بل ومن أولياء هذه الأمة، ومما ذكر في الشرح المذكور ما نصه على وفق المسطور:
" وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنَّة، ومقداره في العلم، وأنه بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل، على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنَّة بذلك، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب، والناصبة بأنهم روافض، والمعتزلة بأنهم نوابت حشوية، وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه، ورمي أصحابه بأنهم صبأة، قد ابتدعوا ديناً محدثاً، وهذا ميراث لأهل الحديث والسنة من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة.
وقدس الله روح الشافعي حيث يقول وقد نسب إلى الرفض:
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي العباس بن تيمية حيث يقول:
إن كان نصباً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي
وعفا الله عن الثالث – وهو ابن القيم - حيث يقول:
فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته ... وتنزيهها عن كل تأويل مفتر
فإني بحمد الله ربي مجسم ... هلموا شهوداً واملئوا كل محضرِ ".
" مرقاة المفاتيح " لملا علي القاري (8 / 146، 147) .
وما بين علامتي التنصيص " " نقله الملا علي قاري عن الإمام ابن القيم من كتابه " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " (2 / 87، 88) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة:
يقول الناس: إن ابن تيمية ليس من أهل السنة والجماعة، وإنه ضال مضل، وعليه ابن حجر، وغيره، هل قولهم صدق أم لا؟ .
فأجابوا:
إن الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، يدعو إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، قد نصر الله به السنَّة، وقمع به أهل البدعة والزيغ، ومن حكم عليه بغير ذلك: فهو المبتدع، الضال، المضل، قد عميت عليهم الأنباء، فظنوا الحق باطلاً، والباطل حقّاً، يَعرف ذلك من أنار الله بصيرته، وقرأ كتبه، وكتب خصومه، وقارن بين سيرته وسيرتهم، وهذا خير شاهد وفاصل بين الفريقين.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 451، 254) .
ثالثاً:
كلام الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي - رحمه الله – في شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحافظ ابن حجر العسقلاني إمام مشهور، توفي عام 852 هـ، وهو صاحب التصانيف النافعة، مثل " فتح الباري شرح صحيح البخاري "، و " التلخيص الحبير "، و " تهذيب التهذيب " وغيرها، وكان للحافظ ابن حجر كلمات متفرقات في شيخ الإسلام ابن تيمية، شهد له بها بالعلم والفضل والدفاع عن السنَّة، وما ينتقده الحافظ ابن حجر – رحمه الله – على شيخ الإسلام قابل للنقض، وهو نفسه – رحمه الله – هناك من تعقبه في بعض المسائل العقيدية، ولا يهمنا هنا عرض ذلك، والبحث فيه، وإنما يهمنا نقل كلامه – رحمه الله – في شيخ الإسلام ثناء ومدحاً؛ ليتبين خطأ من قال إن الحافظ – رحمه الله – لا يقدِّر شيخ الإسلام ابن تيمية! .
وهذه نُبذ من كلام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في حق شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
1. ألَّف الشيخ ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه " الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر " ردّاً على واحدٍ متعصبي الأحناف زعم أنه لا يجوز تسمية ابن تيمية بـ " شيخ الإسلام "، وأنه من فعل ذلك فقد كفر! ، وقد ذكر فيه خمساً وثمانين إماماً من أئمة المسلمين كلهم وصف ابن تيمية بـ " شيخ الإسلام "، ونقل أقوالهم من كتبهم بذلك، ولما قرأ الحافظ بن حجر رحمه الله هذا الكتاب – " الرد الوافر " - كتب عليه تقريظاً، وهذا نصه:
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وقفتُ على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرَّفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس، وتلقيبه بـ " شيخ الإسلام " في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية، ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، أو تجنب الإنصاف، فما أغلط من تعاطى ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤو أن يقينا شرور أنفسنا، وحصائد ألسنتنا بمنِّه وفضله، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا ما نبَّه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في " تاريخه ": أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جدّاً شهدها مئات ألوف، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد أو أضعاف ذلك: لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة ذلك الوقت إذا ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية فكان أمير البلد حين مات غائباً، وكان أكثر مَن بالبلد مِن الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس، تأخروا خشية على أنفسهم من العامة.
ومع حضور هذا الجمع العظيم: فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته، لا بجمع سلطان، ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم شهداء الله في الأرض) - رواه البخاري ومسلم -.
ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً، بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة، وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه، وكثرة ورعه، وزهده، ووصفه بالسخاء، والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا يُنكر على مَن أطلق " أنه كافر "، بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام: الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك؛ فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي، ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم، والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه - وهو الأكثر - يستفاد منه، ويترحم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني، يشهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين بن الوكيل، الذي لم يثبت لمناظرته غيره.
ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض، والحلولية، والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا بكفره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره، فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما يُنكر، فيحذِّر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك، كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف: لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم، فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر، أو على من سمَّاه " شيخ الإسلام ": لا يلتفت إليه، ولا يعوَّل في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله، ونعم الوكيل.
صفة خطه أدام الله بقاءه.
قاله، وكتبه: أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي، عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول، عام خمسة وثلاثين وثمانمائة، حامداً لله، ومصليّاً على رسوله محمد، وآله ومسلماً.
" الرد الوافر " للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي (ص 145، 146) ، ونقل الحافظ السخاوي – تلميذ ابن حجر – كلام شيخه في كتابه " الجواهر والدرر " (2 / 734 – 736) .
02 ترجم الحافظ ابن حجر لشيخ الإسلام ابن تيمية، عليهما رحمة الله، ترجمة حفيلة في كتابه " الدرر الكامنة "، قال في أولها:
".. وتحول به أبوه من حران سنة 67، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل، وتفقه وتمهر، وتميز وتقدم، وصنف ودرس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والإطالة على مذاهب السلف والخلف.. " انتهى.
الدرر الكامنة، في أعيان المائة الثامنة "1/168) .
وقد نقل في هذه الترجمة كثيرا من نصوص الأئمة، في الثناء على شيخ الإسلام رحمه الله، والإقرار بإمامته في علوم المعقول والمنقول، ومن ذلك قوله:
03 " وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي، في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل، ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى، شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه أحسن طريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقت الأمم كافة أن هممها عن حصرها قاصرة، ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني، إمام الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، حجة الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتعلمين، قامع المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق، علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة، أبو العباس ابن تيمية!! "
الدرر الكامنة (186-187) .
رابعاً:
إذا كانت هذه النصوص التي نقلناها أو أشرنا إليها، من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله، أو مما نقله الحافظ عن غيره، ناطقة بتقدير شيخ الإسلام، والإشادة بمنزلته من العلم والدين؛ فإن ذلك لا يعني أن الحافظ لم يخالف شيخ الإسلام البتة في مسألة من المسائل العلمية، أو لم ينتقده قط؛ فما زال أهل العلم يردون بعضهم على بعض؛ من غير أن يلزم من ذلك أن يكون الراد لا يقدر المردود عليه قدره، فضلا عن أن يبدعه أو يضلله، وقديما قال الإمام مالك رحمه الله قولته الشهيرة: " كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر "، أو نحوا من ذلك، ـ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ.
وهذا بغض النظر عما إذا كان الصواب، في المسألة المعينة، مع شيخ الإسلام، أو مع مخالفه ومن يرد عليه، الحافظ ابن حجر أو غيره. فكيف إذا كان الصواب في عامة ما أنكروه عليه، أو معظمه في جانب شيخ الإسلام، رحم الله الجميع.
ويمكن مراجعة كثير من هذه المسائل التي انتقدت على شيخ الإسلام، ولا سيما من قبل ابن حجر الهيتمي، المشار إلى موقفه آنفا، فيما كتبه الشيخ نعمان خير الدين ابن الآلوسي رحمه الله، في كتابه النافع: " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين "، يعني: أحمد بن تيمية، وأحمد بن حجر الهيتمي، عليهما رحمة الله.
وينظر أيضا كتاب: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو بحث أكاديمي من إعداد الدكتور: عبد الله بن صالح الغصن.
خامساً:
ما ورد في السؤال من أن شيخ الإسلام انحرف عن العقيدة الصحيحة ووصف الله تعالى بصفات خلقه، هو من أفرى الفرى، وأبين الكذب على شيخ الإسلام ومنهجه وعقيدته، ومن يطالع شيئا من مصنفاته الكبار أو الصغار يتحقق ذلك، ومن هذه النصوص والقواعد التي يشق الإشارة إلى جميعها هنا، فضلا عن نقلها، قوله رحمه الله:
" اتفق سلف الأمة وأئمتها أن الله ليس كمثله شيء، لا فى ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقال من قال من الأئمة: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها " اهـ
فتاوى شيخ الإسلام (2/126) .
وقال رحمه الله:
" ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون؛ لا يُتجاوز القرآن والحديث.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله؛ لا يتجاوز القرآن والحديث. ٍ
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجى، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد.
وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة؛ وهو ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة؛ فانه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث؛ لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدَث إلى محدِث، ولوجوب وجوده بنفسه، سبحانه وتعالى.
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل؛ فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته.
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل؛ أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل؛ مثلوا أولا، وعطلوا آخرا؛ وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.. "
فتاوى شيخ الإسلام (5/26-27) .
ونصوص شيخ الإسلام في هذا المعنى كثيرة جدا، كما أشرنا، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/74)
دفاع عن الشيخ أحمد ديدات رحمه الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أطمئن بخصوص الداعية " أحمد ديدات " يرحمه الله، حيث علت أصوات تتهمه بأنه كان من طائفة الأحمدية والتي مقرها الرئيس باكستان، ويستشهدون بما قد يورده الشيخ أحيانا في مناظراته من النظرية التي تقول بأن المسيح صلب ولكنه لم يمت على الصليب، وإنما أغمي عليه فحسب، ولكنه مات بعد ذلك في حادث عرضي ثم رفعت روحه إلى السماء.
أود أن أعرف ما هي وجهة نظر الداعية المعروف " أحمد ديدات "؟ وهل تلك الاتهامات صحيحة؟ حيث إني من محبي الشيخ عليه رحمة الله، وأتابع بشغف مناظراته، ومؤلفاته، ولكم جزيل الشكر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ولد الشيخ أحمد حسين ديدات في مدينة " سيرات " بالهند عام 1918 م , وقد هاجر والده إلى دولة " جنوب أفريقيا " بعد وقت قصير من ولادته، وعندما بلغ تسع سنوات ماتت والدته، فلحق بأبيه إلى جنوب أفريقيا حيث عاش هناك بقية عمره.
وفي جنوب أفريقيا خرج الشيخ أحمد ديدات إلى العالم في أول مناظرة عالمية عام 1977 م بقاعة ألبرت هول في " بريطانيا "، وقد ناظر كبار رجال الدين النصراني أمثال: كلارك –، وجيمي سواجارت، وأنيس شروش، وغيرهم، وقد انتفع بها المسلمون فثبت اعتقادهم بالإسلام والقرآن، وعرفوا التحريف والكذب في الأديان المحرفة، كما انتفع بها بعض من منَّ الله عليه بالهداية من النصارى.
وفي يوم الاثنين الثامن من أغسطس 2005 م توفي الداعية والشيخ المجاهد أحمد ديدات، وقد لاقى ربَّه عن عمر يناهز (87) عاماً بمنزله في منطقة " فيرولام " بإقليم " كوازولو ناتال " بجنوب إفريقية بعد صراع طويل مع المرض.
ثانياً:
وأما اعتقاد المسلمين في المسيح عليه السلام: فهو اعتقاد دليله الكتاب والسنَّة، فالمسيح عيسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، ويعتقد المسلمون بأن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إلى السماء حياً، وأنه لم يصلب ولم يُقتل، وأنه باقٍ حيّاً فيها إلى قرب قيام الساعة، وأنه سينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويحكم بالشريعة الإسلامية، ثم يموت – عليه السلام – كسائر البشر.
قال الإمام أبو محمد عبد الحق بن عطية - رحمه الله -:
وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل، ويظهر هذه الملة - ملة محمد - ويحج البيت ويعتمر،......ثم يميته الله تعالى.
" المحرر الوجيز " (3 / 143) .
ويقول السفاريني – رحمه الله -:
فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل، ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس ينزل بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء.
" لوامع الأنوار البهية " (2 / 94، 95) .
ثالثاً:
القاديانية حركة نشأت سنة 1900 م بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص.
ويعتقد القاديانية أن النبوة لم تختم بمحمد صلى الله عليه وسلم بل هي مستمرة، والله يرسل الرسول حسب الضرورة، وأن " غلام أحمد " – مؤسس القاديانية ولد عام 1839 م، وتوفي عام 1908 م - هو أفضل الأنبياء جميعا!!
ويعتقدون أن جبريل كان ينزل على " غلام أحمد "، وأنه كان يوحى إليه، وأن إلهاماته كالقرآن.
وانظر تفصيل اعتقادهم وبيان كفرهم في جواب السؤال رقم (4060) .
رابعاً:
أما قول الأحمدية - القاديانية – في المسيح عليه السلام: فهو أنهم يعتقدون أن المسيح عليه السلام صُلِب ولم يمت على الصّليب، لكنه أُغمِي عليه، ودُفن، ثم هرب من قبره إلى " كشمير "! ومات هناك ميتة طبيعية، وقبره هناك موجود.
وهم يؤولون الرفع على أنه مجازي لا حقيقي , أي: رفع المكانة والمنزلة لا رفع البدن.
وقد جاء اعتقادهم هذا في رسالتين لهم الأولى بعنوان: " المسيح الناصري في الهند "، وهي من تأليف ميرزا غلام أحمد نفسه، والثانية بعنوان " وفاة المسيح ابن مريم والمراد من نزوله "، وهي من نشر " الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية "، وقد وضعوا على غلافها صورة مزعومة لقبر عيسى عليه السلام في " سري نغر " بكشمير الهند.
وقد قالوا في (ص 2) : إن عيسى عليه السلام لم يُرفع حيّاً، ولم يُلق شبهه على أحد، وإنما عُلق على الصليب بضع ساعات، ولما أُنزل كان في حالة إغماء شديد حتى خُيل إليهم أنه قد مات، ثم بعد واقعة الصلب هاجر من فلسطين إلى البلاد الشرقية: العراق، وإيران، وأفغانستان، وكشمير، والهند، وعاش عشرين ومائة سنة.
وقد ادعى ميرزا غلام أحمد القادياني كذباً وزوراً بأن الله أوحى له بهذا التفسير، وهو قول بعض النصارى من قبله، والظاهر أنه سرق الفكرة منهم.
وغرض القاديانية من نشر هذا الاعتقاد في المسيح عيسى عليه السلام: تسهيل ادعاء أن الأحاديث الواردة في نزول المسيح وخروج المهدي آخر الزمان هي في خروج القادياني الكذاب ميرزا غلام أحمد.
وقد صرحت الرسالة المشار إليها بذلك إذ جاء فيها (ص 6) :
فالمراد من نزول عيسى ابن مريم: بعثة رجل آخر من أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يشبه عيسى ابن مريم في صفاته وأعماله وحالاته، وقد ظهر هذا الموعود في قاديان الهند باسم: ميرزا غلام أحمد ... إماماً مهديّاً، وجعله الله مثيل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فكان هو المسيح الموعود، والإمام المهدي للأمة المحمدية الذي وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثته قائلا: (لا المهدي – كذا، والصواب: مهدي - إلا عيسى) ابن ماجه، كتاب الفتن. انتهى.
وفي اعتقاد المسلمين: أن عيسى عليه السلام نبي مرسل، وأن المهدي مسلم مصلح لا نبي ولا رسول، وأن خروج المهدي من علامات الساعة الصغرى، ونزول عيسى عليه السلام من علامات الساعة الكبرى، وبينهما فرق لا يخفى على أحدٍ.
والحديث الذي استدلوا به: (لا مهدي إلا عيسى) لا يصح، بل هو حديث منكر، حكم بنكارته جمع من الأئمة، منهم النسائي والذهبي والألباني، وضعفه الحاكم والبيهقي والقرطبي وابن تيمية، بل حكم بوضعه الصغاني.
وانظر: " منهاج السنة " (8 / 256) ، و " الصواعق المحرقة " للهيتمي (2 / 476) ، و " السلسلة الضعيفة " (77) .
خامساً:
وأما أن الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله – كان يقول بقول القاديانية: فهذا أبعد ما يكون عن الحق، وهو محض افتراء على الشيخ، وذلك من وجوه كثيرة:
1. مناظرات الشيخ وكتبه ومقالاته أكثر من أن تحصى، وليس فيها دعوة للدين القادياني ولا ثناء على زعيمه ولا أتباعه، ولو كان على طريقتهم لم تخلُ كتبه من ذلك.
2. والقاديانية ألغت الجهاد من دينها، فمن دعا إلى مثل ما دعا إليه القاديانيون فهو منهم، وحاشا الشيخ أحمد ديدات أن يكون واحداً منهم، بل كان ينادي بالجهاد، ويرى أن السيف والقرآن هما سبيل عزة هذه الأمة.
قال الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله -:
سلاحنا الوحيد في مواجهة هذا الخطر الداهم المفزع المروع المسمى بالتبشير: هو القرآن، وحمل السيف في سبيل الله لمواجهة هذا الخطر الداهم، إنها مقولة مصيرية بين الإيمان والإلحاد , بين الإسلام وقوى الطغيان , بين العدل والجور , بين النور والظلمات , بين الحق والضلال , فلا ينفع ولا يجدي في هذه المعركة إلا السيف والقرآن يتعانقان حتى يقيم السيف ما تُرك من القرآن، ويسود الإسلامُ العالمَ أجمع، ويعود المسلمون إلى رشدهم لمواجهة هذا الخطر الكامن في الصليبية والصهيونية العالمية.
" حوار مع مبشر " (ص 30) المختار الإسلامي.
3. لا ترى القاديانية الصلاة والصوم والحج على ما جاءت به شريعتنا، بل لها عندهم معانٍ أُخر، كما أنهم يرون أن كل من ليس قاديانيا فهو كافر، ولا يبيحون للقادياني أن يتزوج من غيرهم، كما أنهم يبيحون الخمر والمسكرات، فهل كان الشيخ أحمد ديدات على مثل ما كان عليه أولئك الكفار؟ اللهم لا.
أ. فالشيخ له كتاب نافع بعنوان " مفهوم العبادة في الإسلام " طبعة " المختار الإسلامي "، وقد ذكر فيه ما يتعلق بعبادات المسلم من صلاة وزكاة وصيام وحج , بآيات وأحاديث، تدل على سعة علمه، وعلى حسن اعتقاده.
ب. وقد كان الشيخ متزوجاً من امرأة مسلمة فاضلة، تخدم الإسلام، وتعينه على الدعوة إلى الله، وهي الأخت " حواء " , ولو صحَّ ما نسب للشيخ من كونه قاديانيا لكان متزوجاً من كافرة، وهو لا يجوز عندهم، بل يراه بعضهم كفراً.
ج. وأما بالنسبة لحرمة الخمر والمخدرات: فالشيخ له كتاب نافع قوي، وهو بعنوان " الخمر بين المسيحية والإسلام " وقد نصر فيه الإسلام وأحكامه بنقله لتحريم الخمر والمسكرات من الكتاب والسنَّة.
ومما جاء في الكتاب:
" الإسلام هو الدين الوحيد على وجه الأرض الذي يحرم المسكرات بالكامل , وقد قال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام) , فلا يوجد عذر في دار الإسلام لمن يرشف رشفة، أو يتناول جرعة من أي شراب مسكر , إن القرآن الكريم - كتاب الحق - حرم بأشد العبارات ليس فقط الخمر وما تجلبه من شرور: بل إنه حرم الميسر " القمار " و " الأنصاب " - التي كانوا يذبحون عندها - و " الأزلام " - التي كانوا يقتسمون بها -، أي: أنه حرم الخمر، وعبادة الأوثان والأصنام، والعرافة - أو معرفة البخت -، وقراءة الطالع في آية واحدة , قال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة/90.. .
إن هذا التوجيه الصريح البسيط قد جعل من الأمة الإسلامية أكبر تجمع من الممتنعين امتناعاً تامّاً عن المسكرات في العالم ".
" الخمر بين المسيحية والإسلام " (ص 18) طبعة " المختار الإسلامي ".
4. ويعتقد القاديانيون بموت المسيح عليه السلام بعد أن صُلب بمدة، وهم يعتقدون أن الميرزا غلام أحمد هو المسيح وهو المهدي – كما سبق -، فهل كان الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله – على هذه العقيدة؟ اللهم لا.
وهذا سؤال وجِّه للشيخ من رجل قادياني حول ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعقيدة القاديانية، ولنقرأ ماذا قال الشيخ – رحمه الله -:
لأخ يسأل هل أؤمن بأنّ نبيّنا الكريم محمَّداً صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيّين؟ هل هو آخر الأنبياء وخاتم الأنبياء؟ أقول: نعم , لكنّ اقاديانية يقولون بأنّ المسيح يعود في آخر الزّمان , ولذلك فإنّ محمَّداً ليس خاتم الأنبياء , هذا هو السّؤال؟ فكيف نجيب؟ .
إنّ الذي أخذ لقب خاتم الأنبياء لا يمكن أن يُنزَع هذا اللّقب منه أبداً , فلو أنّني قلتُ إنّني سأعطي لآخر مائة رجل هديّةً , فيأتي الواحد تلو الآخر , ثمّ يأتي آخر رجل ويأخذ هديّته وجائزته , الآن عندما يرجع أحد الرّجال مرّة أخرى بعد أن يأخذ الأخير جائزته: فإنّه لا يمكنه أن يأخذها منه.
نبيّنا محمّد صلّى عليه وسلّم أخذ لقبه , وهو آخر الأنبياء، وخاتم المرسلين , والقرآن آخر الكتب المنزّلة من عند الله , لا نحتاج أيّ إضافة , فلا نحتاج رسولاً آخر , ولا نحتاج كتاباً آخر , ذاك الرّجل – وهو السائل القادياني - لأنّه يريد أن يجعل صاحبه " ميرزا غلام أحمد " هو المسيح في رجوعه الثّاني: فلهذا السّبب كلّ هذا يثار الآن , يريد أن يربط ميرزا غلام أحمد مع ديدات!! من أجل أن يأخذ مكانة المسيح عليه السّلام في عودته الثّانية , من أجل أن يعتبر " ميرزا غلام أحمد " هو المسيح عليه السّلام , فلذلك يريد أن يقتل المسيح - أي: يقول بأنه قد مات - , ويريد أن يثير كلّ هذا , الآن ماذا يريد من كلّ هذا؟ إذا أردتَ أن تعمل من أجل الإسلام , حسنًا , انظر، النّصارى حولك بالملايين، لكنّ الظّاهر أنّه ليس مهتمًّا بالنّصارى , هو مهتمّ بكم أنتم – أي: بالمسلمين - , إذا أردت أن تمارس الدّعوة: اذهب ومارس الدّعوة على اليهود والنّصارى والهندوس , إنّهم بالملايين حول العالم , لماذا تريد فتح صراع معي؟ إنّني مسلم، أؤمن بالله، وبرسوله، وبالقرآن الكريم , إنّك تضيّع وقتك معي.
" محاضرة في مسجد جامعة " ألقاها خلال زيارته إلى كينيا سنة 1993 م.
5. ومما يؤكد ما قلناه من نفي اتهام الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله – بالقاديانية: كتابته لشهادة يثبت فيها إسلامه، ويكفِّر فيها الميرزا غلام أحمد القادياني، بل ويكفِّر أتباعه، وينفي فيه توزيعه أو توزيع مركزه لبعض تفاسيرهم.
فقد راجت إشاعات في بلده - جنوب إفريقيا - بأنه قادياني، وأنه كان يوزع تفسير القرآن للمدعو " محمد أسد "، مما اضطر الشيخ أحمد ديدات أن يصدر توضيحاً حول هذا الأمر بتاريخ 23 / 7 / 1987 م أكد فيه تكفيره لميرزا غلام أحمد القادياني، كما أعلن تكفيره لكل أتباعه.
وهنا تجدون صورة البراءة من القاديانية وتكفير زعيمها وأتباعه:
http://www.ahmed-deedat.net/Files/Articles/Website/B01.jpg
وهذا نص ترجمتها:
مركز الدعوة الإسلامي العالمي
إشهار
أنا " أحمد حسين ديدات " , رئيس مجلس الدعوة الإسلامية , أشهد هنا أمام الله , وأنا في كامل الأهلية التامة لشهادة أن لا اله الا الله , محمد رسول الله.
إنني أومن أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو النبي والرسول الخاتم، وأنه لا نبي ولا رسول بعده.
إنني أومن أن ميرزا غلام أحمد القاديانى ما هو إلا دجال كافر.
إنني أومن أن أولئك الذين يقبلونه كنبي أو رسول أو مجدد أو حتى إنه رجل عظيم: أنهم كافرون وخارجون عن حظيرة الإسلام.
إن كتابي " crucifixion or crucifiction " يحوي كلمة أخيرة (الخاتمة) توضح موقفي فيما أعتقده من عودة المسيح مرة ثانية.
إن مركز الدعوة الإسلامية لم ينشر - مطلقًا - ولم يوزع ولم يبع أو يشجع على بيع ترجمة محمد أسد لمعاني القرآن الكريم.
أسأل الله أن يحمينا من مروجي الإشاعات المتاجرين، ومن يعضون من الخلف ومروجي الفساد.
أحمد ديدات.
وما سبق يؤكد أن اتهام الشيخ أحمد ديدات بالقاديانية لم يأتِ إلا من كافر أراد تشويه دين الشيخ وصد الناس عنه بعد أن نجح بإدخال الآلاف في الإسلام، أو من حاسد ساءه ما رأى من تعظيم الناس – خاصتهم وعامتهم – للشيخ، أو من جاهل قرأ أو سمع شيئا من كلام الشيخ – رحمه الله – وأساء الفهم وغلَّب سوء الظن على حسنه.
سادساً:
ما هو موقف الشيخ أحمد ديدات من صلب المسيح عليه السلام وقتله؟.
مما لا شك فيه عندنا أن الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله - ينفي الصلب والقتل معاً عن المسيح عليه السلام، ولا يتجاوز ما جاء في قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) النساء/ من الآية 157.
أ. قال الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله -:
لا أتوقع أن يسألني أي شخص عن عقيدتي كمسلم فيما يتعلق بموضوع الصلب، عقيدتي هي عقيدة القرآن كما وردت بدقة في الآية 157 من سورة النساء.
" مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء " (ص 88) دار الفضيلة.
ويجب أن ننبه إلى أن المدعو " على الجوهري " هو مترجم الكتاب السابق – وغيره كذلك – وهو يرى نظرية " الإغماء " التي يقول بها القاديانيون، ويدافع عنها بشدة في تعليقاته على الكتاب، بل ويعيب على المسلمين عدم تبنيها، ويراها غير مخالفة لما جاء في القرآن!
ب. وقال الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله -:
فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن بدا لهم كأنهم فعلوا ذلك، فقد ظنوا أنهم فعلوا ولكنهم لم يصلبوا ولم يقتلوا المسيح.. لأنه من المؤكد أنهم لم يقتلوه، هذا هو مفهوم المسلمين لشبهة صلب المسيح وقتله، هي أنهم لم يقتلوه، ولكن هذا ما ظنوه في عقولهم أنهم فعلوه.
" عيسى إله أم بشر أم أسطورة؟ " (ص 112) ترجمة محمد مختار.
ج. وقال – رحمه الله -:
إن الذي صُلب هو شخص آخر يشبهه، أما إنجيل " برنابا " فيؤيد النظرية التي تقول إن شخصاً آخر قتل محله على الصليب، وهذا يتفق مع وجهة نظرنا نحن المسلمين، فهنا الشبهة التي حصلت بقتلهم شخصاً آخر يشبهه.
" عيسى إله أم بشر أم أسطورة؟ " (ص 138) .
والقاديانيون يرون أن المسيح عليه السلام صُلب، بينما نجد النص في كتاب الله تعالى على نفيه، وهو ما يقول به الشيخ أحمد ديدات، وهو إن كان يخالفهم في الصلب فكيف سيوافقهم في الموت أو القتل؟! .
د. وفي بداية مناظرة الشيخ – رحمه الله - مع " فلويد كلارك " والتي كانت بعنوان " هل صلب المسيح؟ " بيَّن الشيخ عقيدته الصحيحة في المسيح عليه السلام بذكر الآيات من سورة النساء، ثم أخذ في استخدام أدلتهم ليقيم الحجة عليهم في بطلان عقيدتهم.
ومما جاء في تلك المناظرة قوله:
" بالنسبة للمسلمين: فإن الأمر محسوم، إن المسيح لم يُقتل ولم يُصلب، فهي نقطة لا يختلف عليها المسلمون، وإن المسيحيين يتبعون الظن، وما قتلوه يقيناً.
وقال:
سنثبت أن المسيح عليه السلام لم يمت على الصليب كما يدعى النصارى لأنه لم يصلب أصلا , وذلك من خلال كتبهم تماشياً مع قول الله تعالى: (قل هاتوا برهانكم) .
وقال:
ومهما يكن: فهو لم يُقتل ولم يُصلب , وذلك وفقاً لكتاب الله.
هـ. وفي بداية مناظرته - رحمه الله - مع " روبرت دوجلاس " والتي كانت بعنوان " صلب المسيح حقيقة أم خيال؟ " بيَّن الشيخ - رحمه الله – اعتقاده وفق القرآن الكريم.
و. وقال – رحمه الله -:
وهذا يعني أن هؤلاء القوم – أي: اليهود - اعتقدوا أن عيسى كان مدعيّاً للنبوة، وأنهم قتلوه، وتخلصوا منه , ولكن الله سبحانه وتعالى بيَّن لهم أنهم ما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبِّه لهم , فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه ولكن بدا لهم كأنهم فعلوا ذلك , فقد ظنوا أنهم فعلوا ذلك , ولكنهم لم يصلبوا ولم يقتلوا المسيح ... .
وقال:
(وما قتلوه يقينا) لأنه من المؤكد أنهم لم يقتلوه، هذا هو مفهوم المسلمين لشبهة صلب المسيح وقتله، وهي أنهم لم يصلبوه، ولم يقتلوه، ولكن هذا ما ظنوا في عقولهم أنهم فعلوه، وهم لم يفعلوا ذلك، هذا ما نؤمن به نحن المسلمين.
" هل عيسى إله أم بشر أم أسطورة " (ص 111، 112) طبعة " المختار الإسلامي ".
ز. وقال – رحمه الله -:
وهو قوله تعالى (بل رفعه الله إليه) ، وهذا يعنى أن المسيح عيسى عليه السلام لم يذق الموت بل رفعه الله إليه، وأنا أؤمن بعودة المسيح عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة.
" هل عيسى إله أم بشر أم أسطورة؟ " (ص 118) طبعة " المختار الإسلامي " ص 118.
والخلاصة:
أنه لا يستغرب اتهام الشيخ أحمد ديدات – رحمه الله – من الكفار بأنه قادياني، وهو الذي يرى كفرهم كلهم، لكن المستغرب أن يأتي حاسد أو جاهل فيأخذ بعض كلام الشيخ ويحمله على أسوء المحامل، وفي أحسن صور ذلك الكلام أنه يكون من المتشابه، وقد نقلنا كثيراً من كلامه المحكم فيما يتعلق بدينه، وموقفه من القاديانية، واعتقاده في صلب المسيح عليه السلام، فكل من يأتي بكلام خلاف هذا فليتق الله تعالى، وليعلم أنه متشابه، فليحمله على المحكم، أو لينتبه فقد يكون الشيخ – رحمه الله – قاله على سبيل التنزل مع الخصم، أو كان يريد محاججة القوم بما عندهم من اعتقاد ليلزمهم به.
ونسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ أحمد ديدات، وأن يُكرمه، ويعلي منزلته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/75)
هل دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الذين لم يروه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإخوانه الذين يأتون بعده بدعوةٍ تخصهم بالخير؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
أولا:
لقد كان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأرقَّهم، يحب الخير لهم، ويحرص على سعادتهم ونجاتهم، ولن نجد أصدق من كلمات الله تعالى دليلا على ذلك:
يقول الله عز وجل:
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة/128
وكان يحب أمته كثيرا، يحمل هَمَّ نجاتها يوم القيامة، ويرجو أن يكرمها الله سبحانه وتعالى بجنته، حتى كان يبكي من شدة خوفه عليهم ورحمته بهم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه:
(أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الْآيَةَ وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ - فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ) رواه مسلم (202)
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/78-79) :
" هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة - زادها الله تعالى شرفا - بما وعدها الله تعالى بقوله (سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها " انتهى.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لجميع أمته، ويستغيث الله تعالى أن يجعلها أمةً مكرَّمةً مرحومةً، حتى استجاب اللَّه له فجعل شطر أهل الجنة من أمته، أو يزيد، ورزقهم شفاعته يوم القيامة.
ثانيا:
من رحمته صلى الله عليه وسلم وحبه لأمته أنه خص مَن آمن به واتبعه ولم يره بمزيد فضل وخير:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(طُوبَى لِمَن آمَنَ بِي وَرَآنِي مَرَّةً، وُطُوبَى لِمَن آمَنَ بِي وَلَم يَرَنِي سَبعَ مِرَارٍ)
رواه أحمد في "المسند" (3/155) وقال المحققون: حسن لغيره. وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1241) ، وقد جاء نحو هذا الحديث عن جماعة من الصحابة.
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (2/176) :
" وأما معنى طوبى: فاختلف المفسرون فى معنى قوله تعالى: (طوبى لهم وحسن مآب) فروي عن ابن عباس رضى الله عنهما أن معناه: فرح وقرة عين. وقال عكرمة: نِعم ما لهم. وقال الضحاك: غبطةٌ لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وعن قتادة أيضا: معناه أصابوا خيرا. وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة. وقال ابن عجلان: دوام الخير. وقيل: الجنة. وقيل: شجرة فى الجنة. وكل هذه الأقوال محتملة فى الحديث والله اعلم " انتهى.
ثم بشر صلى الله عليه وسلم المؤمنين بعده ممن لم يره بأنه ينتظرهم عند الحوض الشريف:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ فَقَالَ:
(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ بُهْمٍ دُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ)
(أنا فرطهم) أي أنا أتقدمهم على الحوض، (دهم) سود. "شرح النووي" (3/139)
رواه مسلم (249) والنسائي (150) واللفظ له، وانظر "السلسلة الصحيحة" (2888)
فمن أراد أن يحصل هذه الفضائل فعليه أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتمسك بسنته، حتى يفوز بصحبته في الجنة.
نسأل الله تعالى أن يكرمنا وإياكم بذلك من فضله، إنه جواد كريم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/76)
هل يأتي فيمن بعد الصحابة من هو أكثر منهم أجرا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يمكن الموازنة بين الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) والحديث الذي يقول فيه: إن لنا خمسين مثلا من الأجر الذي لهم، لأننا لم نره ولكننا صدقنا به بالغيب والأحاديث ووجود الأجيال المتتابعة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أما الحديث الأول فهو حديث متفق على صحته بين أهل العلم، رواه البخاري (3673) ومسلم (2541) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)
وأما الحديث الثاني فقد جاء بسياقات متقاربة عن ثمانية من الصحابة، هم أبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن مسعود وأبو أمامة وعتبة بن غزوان وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل، ومحل الشاهد الذي ذكره السائل هو قدر مشترك بين هذه السياقات، ولفظه من حديث أبي ثعلبة عند الترمذي (3058) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (َإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟! قَالَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)
وقد تبين بعد البحث أن في جميع طرق الحديث وشواهده ما يضعفه عن الاحتجاج به، ولا يسلم منها طريق من مطعن، إلا أن بعض أهل العلم ذهب إلى تحسين الحديث لكثرة طرقه وشواهده، فقد قال الترمذي في حديث أبي ثعلبة هذا: حديث حسن غريب. وصححه أيضا بمجموع طرقه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (494)
ثانيا:
على القول بتصحيح الحديث الثاني يبدو أن فيه معارضة للحديث الأول، فإن مقتضى الأول أن الأجر الذي يكتبه الله لعمل الصحابة السابقين أعظم من أجر العمل نفسه إذا قام به مَن بعدهم، والحديث الثاني فيه أن أجر مَن بعد الصحابة في زمن الفتنة والشدة أكثر من أجر الصحابة؟
وقد سلك أهل العلم في التوفيق بين هذين الحديثين وحل هذا التعارض الظاهري مسلكين اثنين:
الأول: قالوا بأن جميع أعمال السابقين من الصحابة أكثر أجورا وأعظم ثوابا إلا عملا واحدا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المتأخرين من المسلمين من الذين يعيشون زمان الغربة لهم عليه من الأجور ما يفوق أجر الصحابة عليه، لأنهم لا يجدون على الحق أعوانا.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
" الإنفاق في أول الإسلام أفضل لقوله عليه السلام لخالد بن الوليد رضي الله عنه: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي مد الحنطة.
والسبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها.
وكذلك الجهاد بالنفوس، لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين، لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها، ولذلك قال عليه السلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) جعله أفضل الجهاد ليأسه من حياته.
وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين وإظهار شعائر الإسلام فإن ذلك شاق على المتأخرين لعدم المعين، وكثرة المنكر فيهم، كالمنكر على السلطان الجائر، ولذلك قال عليه السلام: (يكون القابض كالقابض على الجمر) لا يستطيع دوام ذلك لمزيد المشقة، فكذلك المتأخر في حفظ دينه، وأما المتقدمون فليسوا كذلك لكثرة المعين وعدم المنكر، فعلى هذا يُنَزَّل الحديث " انتهى. نقلا عن "عون المعبود" (11/333)
فهذا المسلك يخصص نوع العمل، فيجعل جميع أعمال الصحابة فاضلة في أجورها على من بعدهم إلا عملا واحدا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المسلك الثاني: أن أعمال الصحابة أجرها أعظم وثوابها أكبر من أعمال من بعدهم، إلا في أيام الفتنة وغربة الدين، فإن أعمال من بعدهم أفضل من أعمال الصحابة في زمن الطمأنينة وانتشار الإسلام، فالتخصيص هنا في زمان العمل وليس في أنواع العمل.
يقول الشوكاني في "نيل الأوطار" (89/368) :
" أعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد لحالة مخصوصة، كما يدل عليه: (لو أنفق أحدكم مثل أحد) الحديث. إلا أن هذه المزية للسابقين منهم.
وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يَرِد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق، إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدِّين، حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة، فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة، فأعمال الصحابة فاضلة، وأعمال من بعدهم مفضولة، إلا في مثل تلك الحالة " انتهى.
ثالثا:
وعلى جميع الأحوال فإن أحدا من أهل العلم لم يقل بأن مِن المتأخرين مِن المسلمين مَن يفوق السابقين مِن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بدر وأحد وبيعة الرضوان، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل غاية ما فيه – إن سلَّمنا بصحته – أنَّ أجورَ بعض الأعمال في زمن الفتنة والغربة تضاعف لهم على أجور من لم يدرك غربة الإسلام الأولى من الصحابة رضي الله عنهم.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (7/7) :
" على أن حديث (للعامل منهم أجر خمسين منكم) لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد " انتهى.
فالفضل والقدر والمنزلة الأعلى ثابتة لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أكرمهم الله بمشاهدة ومصاحبة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الفضل لن يدركه بحال أحد ممن جاء بعدهم، وزيادة أجور مَن بعدهم في بعض الأعمال أو الأحوال لا يلزم منه أبدا التقدم عليهم في الفضل والمنزلة، خاصة وأن أجور مَن بعد الصحابة تؤول في محصَّلها إلى موازين حسنات الصحابة الذين نقلوا لنا الدين والشريعة، وحملوا لنا هذا الفضل العظيم، فبلغوا الأمانة على وجهها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) رواه مسلم (1893)
وقد سبق تفصيل ذلك في موقعنا في جواب السؤال رقم (3374)
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/77)
الحكمة من ابتلاء الأنبياء
[السُّؤَالُ]
ـ[نعرف أن المصائب تكون بسبب الذنوب، وأنها تكفر الذنوب، لكن ما الحكمة من المصائب التي كانت تصيب الأنبياء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من أسباب المصائب: الذنوب، ولكنها ليست السبب الوحيد، فقد يبتلي الله تعالى بعض عباده الذين لم يذنبوا، لينالوا أجر الصابرين، وترتفع بذلك درجاتهم، كما قد يبتلي الله بعض الأطفال، وهم لا ذنب لهم. وانظر لمعرفة الحكمة من حصول الابتلاءات جواب السؤال رقم (35914) .
ثانياً:
أشد الناس بلاء الأنبياء
روى الترمذي (2398) عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ , ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ , فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143) .
وقد ذكر الله تعالى في كتابه صوراً من الابتلاء الذي تعرض له الأنبياء:
قال تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) البقرة/87.
وقال تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) البقرة/91.
وقال تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) آل عمران/184.
وقال تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف/5.
وقال تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) التوبة/61.
وابتلي إبراهيم عليه السلام بمعاداة أبيه وقومه له، وبالإلقاء في النار.
قال الله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ) الأنبياء/68-70.
وابتلي بالأمر بذبح ابنه إسماعيل
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الصافات/102-107.
قال ابن القيم في الفوائد ص (42) :
" الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضْجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب ... وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى.
وأُخبر نبيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالابتلاء في أول يوم من النبوة:
قال ورقة بن نوفل: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا , لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ , لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ , وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) رواه البخاري (4) .
ثالثاً:
وأما الحكمة في ابتلاء الأنبياء؛ فقد قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (2/452) :
" فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم:
1- ليستوجبوا كمال كرامته.
2- وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم.
3- ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم.
فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه " انتهى.
وقال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (1/299–301) :
" وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات وأكمل النهايات اتي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان. . . وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله مِن نعمة جسيمة ومنَّة عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان.
فتأمل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة. . .
وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم وما آلت إليه محنته وصبره على قومه تلك القرون كلها حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض بدعوته، وجعل العالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل , وأمَر رسولَه ونبيه محمَّداً أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشكر فقال: (إنه كان عبداً شكوراً) فوصفه بكمال الصبر والشكر.
ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وعمود العالم وخليل رب العالمين من بني آدم، وتأمل ما آلت إليه محنته وصبره وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلاً لنفسه. . . وضاعف الله له النسل وبارك فيه وكثر حتى ملؤوا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله عليه وسلم وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم. . .
ثم تأمل حال الكليم موسى عليه السلام وما آلت إليه محنته وفتونه من أول ولادته إلى منتهى أمره حتى كلَّمه الله تكليما، وقرَّبه منه، وكتب له التوراة بيده، ورفعه إلى أعلى السموات، واحتمل له ما لا يحتمل لغيره، فإنه رمى الألواح على الأرض حتى تكسرت، وأخذ بلحية نبي الله هارون وجرَّه إليه، ولطم وجه ملك الموت ففقأ عينه، وخاصم ربه ليلة الإسراء في شأن رسول الله، وربه يحبه على ذلك كله، ولا سقط شيء منه من عينه، ولا سقطت منزلته عنده، بل هو الوجيه عند الله القريب، ولولا ما تقدم له من السوابق وتحمل الشدائد والمحن العظام في الله ومقاسات الأمر الشديد بين فرعون وقومه ثم بنى إسرائيل وما آذوه به وما صبر عليهم لله: لم يكن ذلك.
ثم تأمل حال المسيح صلى الله عليه وسلم وصبره على قومه واحتماله في الله وما تحمله منهم حتى رفعه الله إليه وطهره من الذين كفروا وانتقم من أعدائه، وقطَّعهم في الأرض ومزَّقهم كل ممزق وسلبهم ملكهم وفخرهم إلى آخر الدهر. . .
فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتأملت سيرتَه مع قومه وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه مِن سِلْم وخوف، وغنى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله يدعو إلى الله فلم يؤذ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يعط نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفا وفضلا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/78)
من هم العشرة المبشرون بالجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم العشرة المبشرون بالجنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العشرة المبشّرون بالجنّة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المذكورون في الحديث الذي رواه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ. رواه الترمذي 3680 وسعد هو ابن أبي وقاص وسعيد هو سعيد بن زيد، وهناك عدد غيرهم من الصحابة قد بُشّر بالجنّة كخديجة بنت خويلد وعبد الله بن سلام وعكاشة بن محصن وغيرهم ولكن إنما سمي أولئك بالعشرة المبشرين بالجنّة لأنّ تبشيرهم جاء في حديث واحد، والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/79)
فضل ماء زمزم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي منزلة ماء زمزم وما هو فضلها؟ لماذا يحرص المسلمون على ماء زمزم. .]ـ
[الْجَوَابُ]
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
ماء زمزم سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً وأجلها إلى النفوس وأغلاها ثمناً وأنفسها عند الناس وهو هَزْمَة جبريل - أي: حفْره - وسقيا الله إسماعيل.
وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة ليس له طعام غيره قال له: متى كنت ههنا؟ ، قال: قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال صلى الله عليه وسلم: فمن كان يطعمك قال: قلت: ما كان لي إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عُكن بطني (أي انثنى لحم البطن من السِّمَن) ، وما أجد على كبدي سُخفة جوع (أي رِّقة الجوع وضعفه وهزاله) ، قال صلى الله عليه وسلم: "إنها مباركة، إنها طعام طعم" رواه الإمام مسلم (2473) .
وزاد غير مسلم بإسناده: "وشفاء سقم" أخرجه البزار (1171) و (1172) والطبراني في الصغير (295) ، وفي سنن ابن ماجه في المناسك (3062) من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له"، (وقد عمل السَّلف والعلماء بهذا الحديث فهذا) عبد الله بن المبارك لما حج أتى زمزم فقال: "اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له" وإني أشربه لظمأ يوم القيامة. أهـ وابن أبي الموالي ثقة فالحديث حسن..
قال ابن القيم رحمه الله: وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مراراً. أ. هـ
زاد المعاد (4 / 319، 320) .
وقال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله تعالى:
إذاً ينبغي أن تنوي ما تحب أن يحصل بهذا الماء ويتضلع منه أي: يملأ بطنه حتى يمتلئ ما بين أضلاعه لأن هذا الماء خير وقد ورد حديث في ذلك هو: " أن آية ما بين أهل الإيمان والنفاق التضلع من ماء زمزم " أخرجه ابن ماجه في المناسك (1017) والحاكم (1/472) وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح ورجاله موثقون.
وذلك لأن ماء زمزم ليس عذباً حلواً بل يميل إلى الملوحة والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيمانا بما فيه من البركة فيكون التضلع منه دليلاً على الإيمان. أ. هـ الشرح الممتع (7/377 و 378و 379)
ولعلّ الله عزّ وجلّ لم يجعله عذبا حتى لا تُنْسي العذوبة معنى التعبّد عند شُربه ولكنّ طعمه على أية حال مقبول ولا بأس به، نسأل الله أن يسقينا من حوض نبيه يوم العطش الأكبر وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/80)
فضائل عائشة رضي الله عنها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي فضائل عائشة رضي الله عنها، هل لكم أن تعرّفونا بشيء من ذلك لعلنا نقتدي بها نحن معشر النساء، هذا أمر يهمني وصاحباتي ونحن ندرس الدّين.]ـ
[الْجَوَابُ]
قال ابن القيم رحمه الله:
ومن خصائصها: أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه كما ثبت عنه ذلك في البخاري وغيره وقد سئل أي الناس أحب إليك قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها
ومن خصائصها أيضا: أنه لم يتزوج امرأة بكرا غيرها.
ومن خصائصها: أنه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها.
ومن خصائصها: أن الله عز وجل لما أنزل عليه آية التخيير بدأ بها فخيرها فقال: " ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك فقالت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة فاستنّ بها (أي اقتدى) بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم وقلن كما قالت.
ومن خصائصها: أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك وأنزل في عذرها وبراءتها وحيا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة وشهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرا لها ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شرا لها ولا عائبا لها ولا خافضا من شأنها بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها وصار لها ذكرا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء فيا لها من منقبة ما أجلها ...
ومن خصائصها رضي الله عنها: أن الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم كان إذا أشكل عليهم أمر من الدين استفتوها فيجدون علمه عندها.
ومن خصائصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها وفي يومها وبين سحرها ونحرها ودفن في بيتها.
ومن خصائصها: أن الملَك أَرى صورتَها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في سرقة حرير فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن يكن هذا من عند الله يمضه.
ومن خصائصها: أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقربا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيتحفونه بما يحب في منزل أحب نسائه إليه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن أجمعين. أ. هـ " جلاء الأفهام " (ص 237 - 241)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/81)
المقصود بالكمال في حديث لم يكمل من النساء إلا أربعة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لكم أن تزودوني بمعلومات إضافية عن الحديث التالي، جزاك الله خيرا،
"حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) صحيح البخاري، المجلد 5 (كتاب 62) .]ـ
[الْجَوَابُ]
أولاً:- اختلف العلماء في معنى كمال النساء، فقال بعضهم: يعني: كمال النبوة.
قال ابن حجر في " الفتح ":
.. فكأنه قال: لم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة. " الفتح " (6 / 447) .
وهذا القول خطأ!
والرد عليه:
أنه وقع في بعض الروايات " وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ". أخرجه الطبراني.
وقد علمنا يقيناً أن خديجة وفاطمة ليستا نبيتين، وهما ممن كمل من النساء، فيكون المراد بـ " كمل من النساء " كمال الولاية وليس كمال النبوة.
قال النووي:
قال القاضي: هذا الحديث يستدل به من يقول بنبوة النساء ونبوة آسية ومريم!!
والجمهور: على أنهما ليستا نبيتين , بل هما صدِّيقتان ووليَّتان من أولياء الله تعالى.
ولفظة (الكمال) تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه.
والمراد هنا: التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى.
.. والله أعلم. " شرح مسلم " (15 / 198، 199) .
قال شيخ الإسلام:
وقد ذكر القاضي أبو بكر، والقاضي أبو يعلى، وأبو المعالي، وغيرهم: الإجماع على أنه ليس في النساء نبيَّة.
والقرآن والسنة دلا على ذلك، كما في قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} ، وقوله {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدِّيقة} .
ذكر أن غاية ما انتهت إليه أمه: الصدِّيقيَّة. " مجموع الفتاوى " (4 / 396) .
ثانياً: حديث " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران ". رواه احمد (11347) ، وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناده في " الفتح " (7 / 111) .
فقد ثبت بهذا أن فاطمة خير من آسية ولو كانت آسية نبية: لما كانت فاطمة خيراً منها؛ لاٌن فاطمة ليست نبيَّة.
ثالثاً: قال الكرماني:
لا يلزم من لفظة الكمال ثبوت نبوتها لأنه يطلق لكمال الشيء أو تناهيه في بابه فالمراد بلوغها النهاية في جميع الفضائل التي للنساء. " الفتح " (6 / 447) . وهذا هو الراجح في كمال النساء المقصود في الحديث.
رابعاً: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام:
قال ابن القيم:
الثريد مركَّب من لحم وخبز واللحم سيد الآدام، والخبز سيد الأقوات، فإذا اجتمعا لم يكن بعدها غاية. زاد المعاد (4 /271) .
وقال النووي:
قال العلماء: معناه أن الثريد من كلّ الطعام أفضل من المرق , فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد , وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه , والمراد بالفضيلة نفعه , والشبع منه , وسهولة مساغه , والالتذاذ به , وتيسر تناوله , وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة , وغير ذلك , فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة، وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية ; لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة. " شرح مسلم " (15 / 199) .
قال ابن القيم - في مبحث التفضيل بين عائشة وفاطمة -:
فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم، فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل: فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص؛ لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح وكم من عاملين أحدهما أكثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة.
وإن أريد بالتفضيل التفضيل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدّت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها.
وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب: فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها.
وإن أريد السيادة: ففاطمة سيدة نساء الأمة.
وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل.
وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يُفصِّل جهات الفضل ولم يوازن بينهما فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضِّله تكلم بالجهل والظلم. " بدائع الفوائد " (3 / 682، 683) .
وأما خصائص عائشة فكثيرة (يظر السؤال رقم 7878) والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/82)
لماذا خص الصوم بقوله تعالى: (الصيام لي وأنا أجزي به) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا خص الله جزاء الصوم به سبحانه وتعالى؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روى البخاري (1761) ومسلم (1946) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. . . الحديث) .
ولما كانت الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، اختلف العلماء في قوله: (الصيام لي وأنا أجزي به) لماذا خص الصوم بذلك؟
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله من كلام أهل العلم عشرة أوجه في بيان معنى الحديث وسبب اختصاص الصوم بهذا الفضل، وأهم هذه الأوجه ما يلي:
1- أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه ولهذا قال في الحديث: (يدع شهوته من أجلي) . وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ (يعني قد يخالطه شيء من الرياء) بخلاف الصوم.
2- أن المراد بقوله: (وأنا أجزى به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا رواية مسلم (1151) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) .
3- أن معنى قوله: (الصوم لي) أي أنه أحب العبادات إلي والمقدم عندي. قال ابن عبد البر: كفى بقوله: (الصوم لي) فضلا للصيام على سائر العبادات. وروى النسائي (2220) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ) . صححه الألباني في صحيح النسائي.
4- أن الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله. قال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" وَهَذَا الحديثُ الجليلُ يدُلُّ على فضيلةِ الصومِ من وجوهٍ عديدةٍ:
الوجه الأول: أن الله اختصَّ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال، وذلك لِشرفِهِ عنده، ومحبَّتهِ له، وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: (يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي) . وتظهرُ فائدةُ هذا الاختصاص يوم القيامَةِ كما قال سَفيانُ بنُ عُييَنة رحمه الله: إِذَا كانَ يومُ القِيَامَةِ يُحاسِبُ الله عبدَهُ ويؤدي ما عَلَيْه مِن المظالمِ مِن سائِر عمله حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلاَّ الصومُ يتحملُ اللهُ عنه ما بقي من المظالِم ويُدخله الجنَّةَ بالصوم.
الوجه الثاني: أن الله قال في الصوم: (وأَنَا أجْزي به) فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ؛ لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ، وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/10. . . " انتهى.
"مجالس شهر رمضان" (ص 13) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/83)
ما هي فوائد ماء زمزم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي فوائد ماء زمزم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ماء زمزم ماء عظيم نبع لما ضرب جبريل عليه السلام بجناحه (صحيح البخاري 3364) وكانت سقيا الله لإسماعيل عليه السلام وأمه، وقد غُسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، وجاء في فضله وفوائده أحاديث صحيحة ومنها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم طعم من الطعم وشفاء من السقم) صحيح الجامع 3302.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب وتوضأ منه وسكب على رأسه، وكان عليه السلام يحمل ماء زمزم في الأداوى والقرب يصب على المرضى ويسقيهم (السلسلة الصحيحة 883) .
وقال الصحابي: كما نسميها شَبَّاعة وكنا نجدها نعم العون على العيال (أي تُشبع وتُغني عن الطعام وتكفي الأولاد) (السلسلة الصحيحة للألباني 2685) .
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ) رواه ابن ماجة 3062 وهو حديث حسن وقد جرّب ذلك العلماء والصالحون وشربوه بنية قضاء حاجات وطلب حصول أمور من شفاء مريض أو زوال فقر وكربة فيسّرها الله لهم
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/84)
فضل ماء زمزم وخصائصه
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يحمل ماء زمزم أي قيمة؟ وهل هناك أي حديث يدل على أن له أثر فعال في الشفاء أو أن شرابه يجب أن تسبقه نيّة؟ جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
زمزم اسم للبئر المشهورة في المسجد الحرام، بينها وبين الكعبة المشرفة ثمان وثلاثون ذراعاً.
وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، التي سقاه الله تعالى منها حين ظمي وهو رضيع، فالتمست له أمه الماء فلم تجده، فقامت إلى الصفا تدعوا الله تعالى وتستغيثه لإسماعيل، ثم أتت المروة ففعلت مثل ذلك، وبعث الله جبريل فهمز بعقبه في الأرض فظهر الماء.
الشرب من ماء زمزم:
اتفق أهل العلم رحمهم الله إلى أنه يستحب للحاج والمعتمر خصوصاً وللمسلم في جميع الأحوال عموماً أن يشرب من ماء زمزم، لما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: " شرب من ماء زمزم " رواه البخاري 3/492. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: " إنها مباركة إنها طعام طعم " رواه مسلم 4/1922 زاد الطيالسي 61 في رواية له: " وشفاء سقم ". أي شرب مائها يغني عن الطعام ويشفي من السّقام لكن مع الصدق كما ثبت عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه أقام شهراً بمكة لا قوت له إلا ماء زمزم.
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: تنافس الناس في زمزم في زمن الجاهلية حتى كان أهل العيال يفِدون بعيالهم فيشربون فيكون صبوحاً لهم (شرب أول النهار) ، وقد كنا نعدّها عوناً على العيال، قال العباس: وكانت تسمى زمزم في الجاهلية (شباعة) .
قال العلامة الأبّي رحمه الله:
هو لما شرب له، جعله الله تعالى لإسماعيل وأمه هاجر طعاماً وشراباً،
ودخل ابن المبارك زمزم فقال: اللهم إن ابن المؤمّل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ماء زمزم لما شرب له " فاللهم إني أشربه لعطش يوم القيامة.
وقد غسل الملكان قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره بعدما استخرجاه ثمّ ردّاه، قال الحافظ العراقي رحمه الله: حكمة غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ليقوى به صلى الله عليه وسلم على رؤية ملكوت السموات والأرض والجنة والنار؛ لأنّ من خواص ماء زمزم أنه يقوّي القلب ويسكّن الرّوع. وخبر غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ثبت من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرج سقفي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا " رواه البخاري 3/429.
ويسنّ للشارب أن يتضلّع من ماء زمزم، والتضلّع: الإكثار من شربه حتى يمتلئ، ويرتوي منه يشبع ريّاً.
وقد ذكر الفقهاء آداباً تستحب لشرب ماء زمزم، منها استقبال الكعبة، والتسمية، والتنفس ثلاثاً، والتضلع منها، وحمد الله بعد الفراغ، والجلوس عند شربه كغيره وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم وهو قائم " رواه البخاري 3/492. فمحمول على أنه لبيان الجواز، وأن النهي عن الشرب قائماً للكراهة، واستحبوا أيضاً لمن يشرب من زمزم نضحه الماء على رأسه ووجهه وصدره، والإكثار من الدعاء عند شربه، وشربه لمطلوبه من أمر الدنيا والآخرة لما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " ماء زمزم لما شرب له " رواه ابن ماجه 2/1018 وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 359.
وروي عن ابن عباس: أنه إذا شرب من ماء زمزم قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً وشفاء من كل داء.
وحكى الدينوري عن الحميدي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث ماء زمزم لما شُرب له، فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال: يا أبا محمد: أليس الحديث الذي حدثتنا في ماء زمزم صحيحاً؟ قال: نعم. قال الرجل: فإني شربت الآن دلواً من زمزم على أنك تحدثني بمائة حديث، فقال سفيان: اقعد فقعد، فحدّثه بمائة حديث.
واستحب بعض الفقهاء التزود من ماء زمزم وحمله إلى البلاد لأنه شفاء لمن استشفى، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها حملت من ماء زمزم في القوارير، وقالت: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وكان يصبّ على المرضى ويسقيهم " رواه الترمذي 4/37.
واتفق الفقهاء على أن التطهير بماء زمزم صحيح، لكن نصوا على عدم استعماله في مواضع الامتهان كإزالة النجاسة ونحو ذلك. قال العلامة البهوتي رحمه الله في كتابه كشاف القناع: (و) كذا يكره (استعمال ماء زمزم في إزالة النجس فقط) تشريفاً له، ولا يكره استعماله في طهارة الحدث، لقول علي: «ثم أفاضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بسجلٍ من ماءِ زمزم فشربَ منهُ وتوضَّأ» رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح. انتهى ويُنظر نيل الأوطار: كتاب الطهارة: باب طهورية ماء البحر
قال الحافظ السخاوي رحمه الله في المقاصد الحسنة:
يذكر على بعض الألسنة أن فضيلته ما دام في محله فإذا نقل يتغيّر وهو شيء لا أصل له، فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو: " إن وصل كتابي ليلاً فلا تصبحن أو نهاراً فلا تمسين حتى تبعث إليّ بماء زمزم، وفيه أنه بعث بمزادتين وكان حينئذ بالمدينة قبل أن يفتح مكة، وهو حديث حسن لشواهده، وكذا كانت عائشة رضي الله عنها تحمل وتخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله وأنه كان يحمله في الأداوي والقرب فيصب منه على المرضى ويسقيهم، وكان ابن عباس إذا نزل به ضيف أتحفه بماء زمزم، وسئل عطاء عن حمله فقال: قد حمله النبي صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين أ. هـ.
والله تعالى أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/85)
أهمية القدس بالنسبة للمسلمين وهل لليهود حقٌّ فيها
[السُّؤَالُ]
ـ[حيث أني مسلم فإنني أسمع باستمرار أن مدينة القدس مهمة لنا. لكن ما هو السبب؟ أعلم أن النبي يعقوب (عليه السلام) بنى المسجد الأقصى في تلك المدينة، وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمّ الأنبياء السابقين في الصلاة مما يؤكد على وحدة الرسالة والوحي الإلهي؛ فهل يوجد أي سبب رئيسي آخر لأهمية هذه المدينة، أم أنه بسبب أننا نتعامل مع اليهود فحسب؟ يبدوا لي أن اليهود لهم حصة أكثر مما لنا في هذه المدينة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: أهمية بيت المقدس: فاعلم - يرحمك الله - أن فضائل بيت المقدس كثيرة جداً منها:
- أن الله تعالى وصفه في القرآن بأنه مبارك قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) (سورة الإسراء / 1) والقدس هي مما حول المسجد وبهذا تكون مباركة.
- أن الله تعالى وصفها بأنها مقدسة في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: (يا قومِ ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) (سورة المائدة /21) .
- فيها المسجد الأقصى والصلاة فيه تعدل مائتين وخمسين صلاة.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مِثْل شطن فرسه من الأرض حيث يَرى منه بيت المقدس ; خير له من الدنيا جميعاً ". رواه الحاكم (4 / 509) وصححه ووافقه الذهبي والألباني كما في " السلسلة الصحيحة " في آخر الكلام على حديث رقم (2902) .
والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، فتكون الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة.
وأما الحديث المشهور أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة: فضعيف. انظر " تمام المنة " للشيخ الألباني رحمه الله (ص 292) .
- أن الأعور الدجال لا يدخلها لحديث " وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس " رواه أحمد (19665) ، وصححه ابن خزيمة (2 / 327) وابن حبان (7 / 102) .
- والدجال يقتل قريباً من هناك يقتله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كما جاء في الحديث " يَقتل ابنُ مريم الدجالَ بباب لُدّ " رواه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان.
و" لدّ ": هي مكان قرب بيت المقدس.
- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) (الإسراء /1) .
- أنه قبلة المسلمين الأولى، كما جاء عن البراء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً.. رواه البخاري (41) - واللفظ له - ومسلم (525) .
- أنه مهبط الوحي وموطن الأنبياء وهذا معلوم مقرر.
- أنه من المساجد التي تُشد الرحال إليها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى ". رواه البخاري (1132) . ومسلم (827) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ " لا تشدوا الرحال إلا …".
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمّ الأنبياء في صلاة واحدة في الأقصى في حديث طويل ".. فحانت الصلاة فأممتهم " رواه مسلم (172) من حديث أبي هريرة.
فلا يجوز السَّفر إلى بقعة في الأرض بقصد التعبّد فيها إلا هذه المساجد الثلاثة.
ثانياً:
وبناء يعقوب عليه السلام للمسجد الأقصى لا يعني أن اليهود أحق بالمسجد من المسلمين حيث إن يعقوب كان موحداً واليهود مشركون فلا يعني أن أباهم يعقوب إن بنى المسجد فهو لهم بل هو بناه ليصلي فيه الموحدون ولو كانوا غير أبنائه، ويمنع منه المشركون ولو كانوا أبناءً له؛ لأن الأنبياء دعوتهم ليست عرقية بل قائمة على التقوى.
ثالثاً:
أما قولك: وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمّ الأنبياء السابقين في الصلاة مما يؤكد وحدة الرسالة والوحي الإلهي فهذا صحيح من جهة أصل دين الأنبياء وعقيدتهم لأن الأنبياء كلهم يستقون من مصدر واحد وهو الوحي وعقيدتهم جميعا هي عقيدة التوحيد وإفراد الله بالعبادة وإن اختلفت أحكام شرائعهم من جهة التفاصيل، ويؤكد هذا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لِعَلاَّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد " رواه البخاري (3259) ومسلم (2365)
ومعنى " إخوة لِعلاَّت ": الإخوة لأب غير الأشقاء وهم الإخوة من الضرائر.
وهنا نحذِّر من اعتقاد أن اليهود والنصارى والمسلمين على مصدر واحد الآن؛ لأن اليهود بدلوا دين نبيهم بل إن من دين نبيهم أن يتبعوا نبينا ولا يكفروا به، وهاهم يكفرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويُشركون بالله.
رابعاً:
ليس لليهود حصة في القدس؛ لأن الأرض وإن سكنوها من قبل فإنها قد صارت للمسلمين من وجهين:
1- أنّ اليهود كفروا ولم يعودوا على دين المؤمنين من بني إسرائيل ممن تابعوا وناصروا موسى وعيسى عليهما السلام.
2- أننا نحن المسلمين أحقّ بها منهم، لأن الأرض ليست لمن يعمرها أولاً، ولكن لمن يقيم فيها حكم الله لأن الله خلق الأرض وخلق الناس ليعبدوا الله عليها ويُقيموا فيها دين الله وشرعه وحكمه، قال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (سورة الأعراف /128) .
ولذلك لو جاء قوم من العرب ليسوا على دين الإسلام فحكموها بالكفر يُقاتلون حتى يرضخوا فيها لحكم الإسلام أو يُقتلوا.
فليست القضية قضية شعوب وأعراق وإنما قضية توحيد وإسلام.
وللفائدة ننقل ما يلي من كلام بعض الباحثين:
" يقرر التاريخ أن أول من سكن فلسطين الكنعانيون قبل الميلاد بستة آلاف سنة، وهم قبيلة عربية قدمت إلى فلسطين من الجزيرة العربية وسميت فلسطين بعد قدومهم إليها باسمهم. " الصهيونية، نشأتها، تنظيماتها، أنشطتها: أحمد العوضي " (ص 7) .
: وأما اليهود فكان أول دخولهم فلسطين بعد دخول إبراهيم بما يقارب ستمائة عام، أي أنهم دخلوها قبل الميلاد بحوالي ألف وأربعمائة عام، فيكون الكنعانيون قد دخلوا فلسطين وقطنوها قبل أن يدخلها اليهود بما يقارب أربعة آلاف وخمسمائة عام. " المرجع السابق " (ص 8) .
فيتقرر بهذا أنه لا حق لليهود بأرض فلسطين لا حقاً شرعياً دينيأً ولا حقاً بأقدمية السكنى ومُلْك الأرض، وأنهم مغتصبون معتدون ونسأل الله أن يكون خلاص بيت المقدس منهم عاجلا غير آجل إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/86)
من هي رابعة العدوية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تعطيني ملخص لحياة رابعة العدوية وبعض معجزاتها؟
هل كانت مسلمة ملتزمة في بداية عمرها؟ لماذا أصبحت زاهدة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد كانت رابعة العدوية زاهدة عابدة خاشعة كما قال الذهبي في السير (8/241) ونقل عن أبي سعيد بن الأعرابي قوله:
أما رابعة العدوية فقد حمل الناس منها حكمة كثيرة وحكى فيها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها من اعتقاد الحلول والدعوة إلى الإباحة.
قال الذهبي: وهذا غلو وجهل ولعل من نسبها إلى ذلك مُباحي حلولي ليحتج بها على كفرها كاحتجاجهم بخبر " كنت سمعه الذي يسمع به "
ولم يُعرف عن رابعة العدوية معجزات أو كرامات إلا ما نقل عنها من كلام الزهد والحكمة من مثل قولها لسفيان الثوري: إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، يوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم، فاعمل
ومن مثل قولها: استغفر الله من قلة صدقي في قولي: أستغفر الله
وقالت عبدة بنت أبي شوال وكانت من خيار إماء الله، وكانت تخدم رابعة قالت كانت رابعة تصلي بالليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر فكنت أسمعها تقول: إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟ إلى كم تقولين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تفوقين منها إلا ليوم النشور
قالت فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت
قيل عاشت ثمانين سنة وتوفيت سنة ثمانين ومائة
انظر شذرات الذهب " 1/193 وصفة الصفوة (4/27) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/87)
أهمية الحجر الأسود
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي أهمية الحجر الأسود؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
.جاء في الحجر الأسود أحاديث ومسائل، نذكرها للأخ السائل لعل الله أن ينفعه بها:
1. الحجر الأسود أنزله الله تعالى إلى الأرض من الجنة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل الحجر الأسود من الجنة ".
رواه الترمذي (877) والنسائي (2935) والحديث: صححه الترمذي.
2. وكان الحجر أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم ".رواه الترمذي (877) وأحمد (2792) ، وصححه ابن خزيمة (4 / 219) ، وقوَّاه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (3 / 462) .
أ. قال المباركفوري:
قال في " المرقاة ": أي: صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببا لسواده، والأظهر حمل الحديث على حقيقته إذ لا مانع نقلاً ولا عقلاً. " تحفة الأحوذي " (3 / 525) .
ب. قال الحافظ ابن حجر:
اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي فقال " كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد "؟
وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان كذلك وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ، على العكس من البياض.
ج. وقال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد.انظر لهما: " فتح الباري " (3 / 463) .
3. ويأتي الحجر الأسود يوم القيامة ويشهد لمن استلمه بحق.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الحجر -: " والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ". رواه الترمذي (961) وابن ماجه (2944) . والحديث: حسَّنه الترمذي، وقواه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (3 / 462) .
4. واستلام الحجر أو تقبيله أو الإشارة إليه: هو أول ما يفعله من أراد الطواف سواء كان حاجا أو معتمراً أو متطوعاً.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعاً. رواه مسلم (1218) .
واستلام الحجر: مسْحه باليد.
5. وقد قبَّله النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه على ذلك أمته.
عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلُك ما قبلتك. رواه البخاري (1520) ومسلم (1720) .
6. فإن عجز عن تقبيله فيستلمه بيده أو بشيء وله أن يقبل هذا الشيء.
أ. عن نافع قال رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه مسلم (1268) .
ب. عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمِحْجَن معه ويقبِّل المحجن. رواه مسلم (1275) .
والمحجن: عصا مِعْوجّة الطَّرف.
7. فإن عجز: أشار إليه بيده وكبَّر.
عن ابن عباس قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعيره وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبَّر. رواه البخاري (4987) .
8. ومسح الحجر مما يكفِّر الله تعالى به الخطايا.
فعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن مسحهما كفارة للخطايا. رواه الترمذي (959) . والحديث: حسنه الترمذي وصححه الحاكم (1 / 664) ووافقه الذهبي.
ولا يجوز للمسلم أن يؤذي المسلمين عند الحجر فيضرب ويُقاتل فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الحجر أنه يشهد لمن استلمه بحقّ وليس لمن استلمه بإيذاء عباد الله.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/88)
من هو الخليفة الأول وما قصة غدير خُم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يعتقد الشيعة أن سيدنا عليّاً رضي الله عنه هو الخليفة الأول ونحن السنيُّين نقول إن سيدنا أبا بكر هو الخليفة الأول، فأرجو أن تخبرني من هو الخليفة الأول وما هي الوصية التي أراد النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعطيها لقريبه، وما هو الحادث الذي وقع في غدير خم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الخليفه الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع من يُعْتدّ بقوله من أهل العلم، لإجماع الصحابة على البيعة له بعد خلافٍ بين المهاجرين والأنصار، ثم اقتنع الأنصار فبايعوا أبا بكر، ولم يختلفوا فيما بينهم، ولم يترددوا بين أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما، وكذلك لم يطلب أحد من الصحابه البيعه لعليّ بعد أبي بكر وقبل عمر رضي الله عنه، وكذلك لم تطلب البيعة لعليّ بعد عمر رضي الله عن الجميع، وإنما وقعت الفتن والاختلافات بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه، فرضي الصحابة رضوان الله عليهم لدنياهم من رضيه رسول الله لدينهم وهو نيابته عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وأما ما يتعلق بالغدير، فالغدير ماء في مكانٍ بين مكة والمدينة يسمّى خم، والحديث أخرجه الامام مسلم في صحيحه رقم (2408) من حديث زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا ً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر، ثم قال: وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله، فحث على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بيتي، قال زيد: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده وهم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، كل هؤلاء حُرم الصدقة. باختصار.
فوصيته بأهل بيته من أجل احترامهم وتوقيرهم وعدم التعرض بسبهم وأذاهم، ولايلزم من ذلك تقديمهم على غيرهم ممن هو أفضل منهم بالمنصوص كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
[الْمَصْدَرُ]
كتبه: الشيخ عبد الكريم الخضير(9/89)
من هو السيوطي
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو السيوطي؟ وهل صحيح أن استخدام المسبحة أفضل من الأصابع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السيوطي: هو الحافظ عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر بن عثمان السيوطي، ويلقب بجلال الدين وكنيته أبو الفضل ولد سنة 849 هـ، ونَشَأَ يَتِيماً، وحفظ القرآن دون سن الثامنة، واشْتَغَلَ بالعلم من صِغَرِه، وَكَثُرَت رحلاته في طلب العلم، فرحل إلى بلاد الشام والحجاز والهند والمغرب، وله مصنفات كثيرة في شتى الفنون فألف في التفسير والحديث والفقه والسير والتاريخ وقد اشتغل بالجمع والتأليف ولكثرة جمعه يوجد في كتبه الصحيح والضعيف والموضوع والحق والباطل
ويقال إن مصنفاته تقارب600 كتاب تقريبا، وكانت وفاته رحمه الله سنة 911 هـ.
أما بشأن استخدام المسبحة فيراجع سؤال رقم 3009.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/90)
فضل علي بن أبي طالب وحكم تخصيصه بالصلاة عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم أن نقول علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم هل هذا يصحّ أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:
[عن] رجل قال في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه ليس من أهل البيت ولا تجوز الصلاة عليه، والصلاة عليه بدعة؟
فأجاب:
أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت، فهذا مما لا خلاف بين المسلمين فيه، وهو أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى دليل، بل هو أفضل أهل البيت، وأفضل بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أدار كساه على علي وفاطمة وحسن وحسين، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم وطهرهم تطهيرا ".
وأما الصلاة عليه منفردا فهذا ينبني على أنه هل يصلَّى على غير النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الانفراد منفردا مثل أن يقول: اللهم صلِّ على عمر أو علي، وقد تنازع العلماء في ذلك فذهب مالك والشافعي وطائفة من الحنابلة إلى أنه لا يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم منفردا، كما روي عن ابن عباس أنه قال: " لا أعلم الصلاة تنبغي على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم "، وذهب الإمام أحمد وأكثر أصحابه إلى أنه لا بأس بذلك، لأن علي بن أبي طالب قال لعمر بن الخطاب: صلَّى الله عليك، وهذا القول أصح وأولى، ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلاة عليه دون غيره مضاهاة للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجعل ذلك شعاراً معروفاً باسمه، هذا هو البدعة.
[الْمَصْدَرُ]
" الفتاوى الكبرى " (1 / 56) .(9/91)
حقيقة الشيخين الجيلاني وابن عبد الوهاب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيك في الشيخ عبد القادر الجيلاني؟
لقد سمعت بعض القصص السيئة عن عبد الوهاب وكيف خزى الإسلام. ما رأيك فيه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الواجب عند الكلام في الناس أن يكون بعلم وعدل. والرجل الذي له في الدين مقامات محمودة ينبغي أن يُعرف له فضله، ولا يمنع ذلك من تخطئته إن أخطأ. وهذه القاعدة العامة المذكورة تنطبق على الشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره من علماء المسلمين.
والشيخ عبد القادر - رحمه الله - من أئمة الإسلام الذين انتهت إليهم الرئاسة على مسلمي زمانه علما وعملا وإفتاء وغير ذلك من مقامات الدين. وقد كان رحمه الله من أعظم مشايخ زمانه أمرا بالالتزام بالشرع والأمر والنهي وتقديم ذلك على كل شيء. وكان زاهداً واعظا يتوب في مجالسه الخلق الكثير من الناس. وقد أجمل الله ذكره ونشر بين العالمين فضله - رحمه الله رحمة واسعة -.
والشيخ عبد القادر كان متبعا لا مبتدعا، وكان على طريقة السلف الصالح يحث في مؤلفاته على اتباع السلف، ويأمر أتباعه بذلك. وكان يأمر بترك الابتداع في الدين، ويصرح بمخالفته للمتكلمين من الأشاعرة ونحوهم.
والشيخ موافق لأهل السنة والجماعة - أهل الحق - في جميع مسائل العقيدة من مسائل التوحيد والإيمان والنبوات واليوم الآخر.
وقد وقع في مؤلفاته بعض الغلطات والهفوات والبدع التي تنغمر في بحار فضائله. وللتعرف عليها مع بيان وجه الخطأ فيها يمكن مراجعة كتاب (الشيخ عبد القادر الجيلاني وآراؤه الاعتقادية والصوفية) للشيخ الدكتور: سعيد بن مسفر القحطاني:440-476.
ثم إنه لايصح أن يجعل رجل من علماء المسلمين فضلا عن غيرهم مصدرا كاملا للحق والصواب، فيكون ما قاله هو الحق وما خالفه هو الباطل، لا الشيخ عبد القادر ولا غيره. ولكن الحق ما وافق الكتاب والسنة مهما يكن القائل به، وما خالف الكتاب والسنة فإنه ينبغي تركه واجتنابه وإن قاله عبد القادر الجيلاني أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو أي شخص كان.
وهنا ملاحظة لا بد من التنبيه عليها وهي أن تزكية الشيخ عبد القادر لا تعني تزكية كل من انتسب إليه فليس كل من انتسب إلى شيخ أو طريقة أو أي أمر يُسلم له ذلك. فكم ممن يظن صحة انتسابه إلى أمر يكون هو من أبعد الناس عنه فيكون ظنه في غير محله، وكم من مضلل يلبس رداء الزهد والتقوى وهي منه براء. ولذلك فإن الطريقة الصوفية المعروفة اليوم باسم الطريقة القادرية ليست على الطريقة السوية التي كان عليها الشيخ - رحمه الله -، بل هي طريقة صوفية منحرفة عن هدي الكتاب والسنة، كثيرة الغلو في الشيخ عبد القادر، ولربما زعمت له مقامات لا تجوز إلا لله جل جلاله، وقد وقع منهم غلو في قبره، وفي الاستغاثة به، والمبالغة في أوصافه وكراماته.
وبالمقارنة بين أفعال هؤلاء المنتسبين للشيخ مع ما ورد بالكتاب والسنة وما ورد عن السلف الصالحين بل وما ورد عن الشيخ - يرحمه الله - يتبين بُعد الهوة بين الطائفتين، وانحراف الطائفة القادرية عن طريقة شيخها الذي تنتسب إليه وذلك بإدخالهم للكثير من البدع في دين الله مما لم يكن يرتضيه الشيخ رحمه الله. وقد ورد في كلام أهل العلم المعتبرين عد هذه الطائفة من الغلاة كما في كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - في رده على البكري في مسألة الزيارة: 1/228. وورد في فتاوى الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ما يدل على وقوعهم في بعض الشركيات.
انظر فتاوى ابن إبراهيم: 1/276، 109،
وفي فتاوى اللجنة الدائمة:2/250-252. والدرر السنية:1/74.
وأما عبد الوهاب المذكور في السؤال فلعل المقصود به: الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله - وإذا أردنا التعريف به فإنا لن نجد من يعرفنا بالرجل مثل تعريفه هو بنفسه؛ وذلك أن الرجل من الناس إذا تباينت كلمات الناس فيه بالمدح أو القدح فإنه يُنظر إلى كلامه في مؤلفاته وكتبه، وينظر فيما صح من المنقول عنه، ثم يُوزن ذلك كله بميزان الكتاب والسنة. ومما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله معرِّفا بنفسه:" أُخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي وديني الذي أدين الله به: مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة؛ لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم في ما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خالف عادة نشؤوا عليها. وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسك، وأنواع من المنكرات،فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسنا عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم في ما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبَّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدا ... " انتهى المقصود منه من الدرر السنية: 1/64-65،79-80.
والمنصف إذا اطلع على كتب هذا الرجل علم أنه من الداعين إلى الله على بصيرة، وأنه قد تحمل الصعوبات والمشاق الكثيرة في سبيل إرجاع الإسلام إلى صورته الصافية النقية، التي تبدلت كثيرا في عصره. وأنه بسبب مخالفته لأهواء الكبراء والمطاعين ألّب عليه هؤلاء الغوغاء والعامة لتسلم لهم دنياهم، وتسلم لهم مناصبهم وعوائدهم.
وأنا أدعوك أخي السائل أن لا تكون إمعة معتمدا على غيرك فيما تسمع وتعتقد، وإنما كن طالبا للحق مدافعا عنه مهما يكن القائل به، وأدعوك إلى مجانبة الباطل والخطأ مهما يكن قائله. وعليه فلو أنك اطلعت على كتاب من كتب الشيخ - رحمه الله - وأرشح لك (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لعلمت مقدار علم الشيخ، ومدى أهمية دعوته، وحجم المغالطات والافتراءات المختلقة عليه.
ويمكنك مراجعة بعض المغالطات المفتراة على الشيخ ومعرفة الجواب عنها على هذا الرابط للغة الانجليزية وهذا الرابط للغة العربية.
وأهم من ذلك كله أدعوك إلى تدبر القرآن والسنة، وسؤال الثقات من أهل العلم عن ما أشكل عليك منهما، واحذر من اتباع الأهواء المختلفة، والشرك بجميع صوره. فإذا فعلت ذلك فلا عليك إن علمت أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - كان مصيبا أم مخطئا.واعلم أن أعراض المسلمين يحرم الكلام فيها على وجه التنقص ولو كان الكلام حقا، فكيف إذا كان كلاما غلطا.
وفقنا الله وإياك لاتباع الهدى ودين الحق، وأخذ بنواصينا لما يحب ويرضى.
والله أعلم..
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/92)
هل مازال الخضر حياً على وجه الأرض
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ما زال الخضر حيّاً على وجه الأرض حتى يومنا هذا وأنه سيظل حيّاً إلى يوم القيامة؟ ..]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشنقيطي:
وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنَة، ويروون عنهما بعض الأدعية، كل ذلك معروف، ومستند القائلين بذلك ضعيف جدّاً؛ لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح، ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره وكلها ضعيف لا تقوم به حجة. . .
الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الخضر ليس بحي بل توفي وذلك لعدة أدلة:
الأول: ظاهر عموم قوله تعالى: (وما جعلنا لأحدٍ من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون) الأنبياء/34.…
الثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " رواه مسلم …
الثالث: إخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه على رأس مائة سنَة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة فلو كان الخضر حيّاً لما تأخر بعد المائة المذكورة، قال مسلم بن الحجاج … أن عبد الله بن عمر قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: " أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. " …
الرابع: أن الخضر لو كان حيّاً إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن …
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 178 – 183) .(9/93)
حكم الاستنجاء بماء زمزم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز الاستنجاء بماء زمزم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ماء زمزم ماء شريف مبارك، وقد ثبت في صحيح مسلم (2473) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زمزم:" إنها مباركة إنها طعام طعم " وزاد في رواية عند أبي داود [أي الطيالسي] (1/364) بسند جيد:" وشفاء سقم " فهذا الحديث الصحيح يدل على فضل ماء زمزم، وأنه طعام طعم، وشفاء سقم، وأنه مبارك، والسنة: الشرب منه، كما شرب النبي صلى الله عليه وسلم منه، ويجوز الوضوء منه والاستنجاء، وكذلك الغسل من الجنابة إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نبع الماء من بين أصابعه، ثم أخذ الناس حاجتهم من هذا الماء؛ ليشربوا وليتوضئوا، وليغسلوا ثيابهم، وليستنجوا، كل هذا واقع. وماء زمزم إن لم يكن مثل الماء الذي نبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فوق ذلك، فكلاهما ماء شريف، فإذا جاز الوضوء، والاغتسال، والاستنجاء، وغسل الثياب من الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فهكذا يجوز من ماء زمزم. وبكل حال فهو ماء طهور طيب يستحب الشرب منه، ولا حرج في الوضوء منه، ولا حرج في غسل الثياب منه، ولا حرج في الاستنجاء إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما تقدم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ماء زمزم لما شرب له" [أخرجه ابن ماجه (3062) ] وفي سنده ضعف، ولكن يشهد له الحديث الصحيح المتقدم، والحمد لله.ا. هـ
[الْمَصْدَرُ]
من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ ابن باز (10 / 27) .(9/94)
آسية زوجة فرعون
[السُّؤَالُ]
ـ[أجده من الصعب الحصول على معلومات عن آسية زوجة فرعون، فهل يمكن أن تعطيني بعض المعلومات؟ وهل كانت عبادتها لله سراً ولا يعلم بها فرعون؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس عندنا كثير معلومات عن المرأة الصالحة " آسية بنت مزاحم " – امرأة فرعون -، وكل ما ورد عنها من تفصيلات فمن الإسرائيليات والتي لم تثبت بنص صحيح فيما نعلم.
لكن يظهر – والله تعالى أعلم – أنها ممن كان يخفي إيمانه عن فرعون ثمَّ عُرف أمرها، وهذا بعض ما ورد فيها، مع بعض الشروحات:
1- قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} التحريم / 11.
2- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
رواه البخاري (3230) ومسلم (2431) .
3- عن ابن عباس قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط قال تدرون ما هذا فقالوا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران رضي الله عنهن أجمعين.
رواه أحمد (2663) . وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (1135) .
4- عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حسبك من نساء العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون.
رواه الترمذي (3878) وصححه.
5- قال الحافظ ابن حجر:
ومن فضائل آسية امرأة فرعون أنها اختارت القتل على الملك والعذاب في الدنيا على النعيم الذي كانت فيه وكانت فراستها في موسى عليه السلام صادقة حين قالت قرة عين لي.
" فتح الباري " (6 / 448) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/95)
من هم أهل الحديث؟ وما هي صفاتهم ومميزاتهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم أهل الحديث؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كان مصطلح " أهل الحديث " ممثلاً للفرقة التي تعظم السنة وتقوم على نشرها، وتعتقد عقيدة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وترجع في فهم دينها إلى الكتاب والسنة على فهم خير القرون دون ما يفعله غيرها من اعتقاد غير عقيدة السلف الصالح ومن الرجوع إلى العقل المجرد والذوق والرؤى والمنامات.
فكانت هذه الفرقة هي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، والتي ذكر كثير من الأئمة أنها المقصودة في قوله عليه الصلاة والسلام " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " رواه مسلم (1920)
وقد جاء في أوصافهم الشيء الكثير من كلام الأئمة المتقدمين والمتأخرين، ويمكن أن نختار منها ما يلي:
1. قال الحاكم:
أحسن الإمام أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يُرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم " أصحاب الحديث "، ومَن أحق بهذا التأويل من قومٍ سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين. " معرفة علوم الحديث " للحاكم النيسابوري (ص 2، 3) .
2. قال الخطيب البغدادي:
وقد جعل الله تعالى أهله - يعني: أهل الحديث - أركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه أو تستحسن رأياً تعكف عليه سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم، والسنَّة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع، ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير.
" شرف أصحاب الحديث " (ص 15) .
3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية " أهل الحديث والسنة " الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحبّاً وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يرون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنَّة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنَّة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الانفس؛ فإن اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم.
" مجموع الفتاوى " (3 / 347، 348) .
ومما ينبغي ذكره أن أهل الحديث يشمل كل من عمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقدمه على كل ما سواه، سواء كان من العلماء الحفاظ أو من عامة المسلمين.
قال شيخ الإسلام:
(ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً واتباعه باطناً وظاهراً وكذلك أهل القرآن.
وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجًبهما.
مجموع الفتاوى 4 /95
وكلام الأئمة كثير، ويمكنك الاستزادة منه في المراجع السابقة، وكذا الجزء الرابع من " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ".
وانظر إجابة السؤال رقم (206) ، و (10554) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/96)
نبذة عن تاريخ المسجد الحرام في مكة
[السُّؤَالُ]
ـ[مطلوب مني بحث عن تاريخ المسجد الحرام، أرجو مساعدتي في ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقع المسجد الحرام في مكة وهي مدينة في جزيرة العرب ترتفع عن سطح البحر بنحو 330متراً ويرجع تاريخ عمارتها إلى عهد إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام، وفيها ولد نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وفيها مهبط الوحي أول ما نزل، ومنها شع نور الإسلام وبها المسجد الحرام وهو أول مسجد وضع للناس في الأرض لقوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} (آل عمران: 96) وثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما قال: أربعون عاماً. وتقع الكعبة - وهي قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها - وسط المسجد الحرام تقريباً ويبلغ ارتفاعها خمسة عشر متراً وهي على شكل حجرة كبيرة مربعة البناء على وجه التقريب وقد بناها إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر من الله تعالى: قال عز وجل: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) سورة الحج، ومعنى بوأنا: أي أرشده إليه وسلّمه له وأذن له في بنائه: تفسير ابن كثير، وقال تعالى: {وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} البقرة:127.
وعن وهب بن منبه قال:.. بناها إبراهيم عليه السلام ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي بن كلاب وأما بنيان قريش له فمشهور.. وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً..، وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان عن أبي الطفيل وذكر عن معمر عن الزهري: حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تريد رفعه؟ حتى شجر بينهم فقالوا تعالوا نحكّم أول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكّموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم. تاريخ مكة للأزرقي (1/161-164)
وروى مسلم (2374) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنْ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ.
وقد تعرضت الكعبة قبل الإسلام (في عام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم) للغزو من قبل أبرهة الحبشي وذلك عندما بنى القُليس وهي الكنيسة التي أراد أن يصرف إليها حج العرب فخرج بجيش ومعهم الفيل فلما وصلوا إلى مكة أرسل الله عليهم طيراً أبابيل مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجرين في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحداً إلا هلك ففني الجيش وهلكوا بأمر الله عزّ وجلّ.
وقد ذكر الله تعالى هذه الحادثة في كتابه فقال عزّ وجلّ: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول} انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/44-58) .
ولم يكن هناك سور يحيط بمسجد الكعبة حتى صارت الحاجة تدعو إلى ذلك، قال ياقوت الحموي في "معجم البلدان" (5/146) . ما يحيط بالكعبة كان أول من بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يكن له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر جدار يحيط به وذاك أن الناس ضيّقوا على الكعبة وألصقوا دورهم بها فقال عمر: إن الكعبة بيت الله ولا بد للبيت من فناء وإنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم، فاشترى تلك الدور وهدمها وزادها فيه وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد، واتخذ للمسجد جداراً دون القامة فكانت المصابيح توضع عليه، ثم كان عثمان فاشترى دوراً أُخَر وأغلى في ثمنها.. ويقال إن عثمان أول من اتخذ الأروقة حين وَسّع المسجد.. فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه لا في سعته وجعل فيه عَمَداً من الرخام وزاد في أبوابه وحسنها فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد وحمل إليه السواري من مصر في البحر إلى جدة واحتملت من جدة على العجل إلى مكة وأمر الحجّاج بن يوسف فكساها ولما ولي الوليد بن عبد الملك زاد في حليتها وصرف في ميزابها وسقفها.. فلما ولي المنصور وابنه المهدي زاد أيضاً في إتقان المسجد وتحسين هيئته. وهكذا
وفي المسجد من الآثار الدينية مقام إبراهيم وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه إبراهيم الخليل عليه السلام أثناء بناء الكعبة. وكذلك بئر زمزم وهي نبع من الماء أخرجه الله تعالى لهاجر وولدها إسماعيل عليه السلام لما عطش، ولا يُنسى أيضا الحجر الأسود والركن اليماني وهما ياقوتتان من يواقيت الجنة. كما روى الترمذي وأحمد عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرٍو قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " سنن الترمذي 804
ويجاور المسجد الحرام جبلي الصفا والمروة، ومن خصائص المسجد الحرام أنّه المسجد الوحيد الذي يُحجّ إليه في الأرض، قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) سورة البقرة، ومن خصائصه أنَ الله جعله آمنا والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، قال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) سورة البقرة، وقال تعالى: (فِيهِ ءايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) سورة آل عمران. انظر "أخبار مكة" للأزرقي وأخبار مكة للفاكهي. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/97)
حاتم الطائي في السنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن حاتم الطائي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء في " حاتم الطائي " عدة أحاديث منها الحسن ومنها الضعيف ومنها الموضوع.
أ. عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك - يعني: من أجر -؟ قال: " إن أباك طلب شيئاً فأصابه ".
رواه أحمد (32 / 129) ، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط.
ب. عن عدي بن حاتم قال: قلت: " يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان يفعل ويفعل، قال: إن أباك أراد أمراً فأدركه - يعني: الذِّكر -.
رواه أحمد (30 / 200) ، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط، وصححه ابن حبان (1 / 41) .
ج. عن سهل بن سعد الساعدي أن عدي بن حاتم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله إن أبي كان يصل القرابة ويحمل الكلَّ ويطعم الطعام، قال: هل أدرك الإسلام؟ قال: لا، قال: إن أباك كان يُحبُّ أن يُذكر ".
رواه الطبراني في " الكبير " (6 / 197) ، وفيه: رشدين بن سعد، وهو ضعيف، لكن يشهد له ما قبله.
ومعنى: (يحمل الكلّ) أي ينفق على الضعيف والفقير واليتيم والعيال وغير ذلك.
د. عن ابن عمر قال: ذُكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ذاك رجلٌ أراد أمراً فأدركه ".
قال الهيثمي:
رواه البزار، وفيه عبيد بن واقد العبسي ضعفه أبو حاتم.
" مجمع الزوائد " (1 / 119) .
لكن يشهد له ما قبله.
قال ابن كثير:
وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيء أيام الجاهلية عند ذكرنا من مات من أعيان المشهورين فيها وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم والإحسان، إلا أن نفع ذلك في الآخرة أي: (مشروط) بالإيمان، وهو ممن لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
" البداية والنهاية " (5 / 67) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/98)
المفاضلة بين أعمال الصحابة وأعمال أهل آخر الزمان
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في صحيح الجامع حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة أن أقواماً من المسلمين في زمن ضعف الدين يكون أجر العامل منهم أجر خمسين من الصحابة. وسبب حيرتي هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال أيضاً: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ ذلك مد أحد الصحابة أو نصيفه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لفهم المسألة لا بد من العلم بأن الأجر أجران أجر العلم وأجر الصحبة فقد يعمل بعض المتأخرين من الأمة أعمالاً أجرها أكبر من أجر من عمل مثلها من بعض الصحابة لقلى الناصر وضعف المعين والفتنة والبلاء ولكنهم لا يبلغون أجر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولقائه.
قال الحافظ ابن حجر:
حديث " للعامل منهم أجر خمسين منكم ": لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية.
وأيضاً: فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به مَن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم مِن زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد.
فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة. " فتح الباري " (7 / 7)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
وقد يكون لهم – أي: للمتأخرين - من الحسنات ما يكون للعامل منهم – أي: من الصحابة - أجر خمسين رجلاً يعملها في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا يجدون من يعينهم على ذلك، وهؤلاء المتأخرون لم يجدوا مَن يعينهم على ذلك لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة فإن الذي سبق إليه الصحابة من الإيمان والجهاد ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول وتصديقه وطاعته فيما يخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقي يحصل مثله لأحد كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه ". " مجموع الفتاوى " (13 / 65، 66)
وقال:
ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها.
وأما قوله " لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون على الخير أعوانا ": فهذا صحيح إذا عمل الواحد من المتأخرين مثل عملٍ عَمِلَه بعضُ المتقدمين كان له أجر خمسين لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين كأبي بكر وعمر فإنه ما بقي يبعث نبيٌّ مثل محمدٍ يُعمل معه مثلما عَملوا مع محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله " أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره " - مع أن فيه ليناً - فمعناه: في المتأخرين مَن يشبه المتقدمين ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة لا يدري الذي ينظر إليه أهذا خير أم هذا، وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيراً.
فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين كما جاء في الحديث الآخر " خير أمتي أولها وآخرها وبين ذلك ثبج أو عوج، وددت أنى رأيت إخواني، قالوا: أوَلَسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي ": هو تفضيل للصحابة فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الأُخُوَّة. " مجموع الفتاوى " (11 / 370، 371)
ومما هو جدير بالتنبيه أن لفظ الحديث الوارد في السؤال وهو " خير القرون قرني ": لا أصل له بهذا اللفظ، وإن كثر استعماله في كتب أهل السنة، ثم هو خطأ من حيث المعنى، إذ لو كان هذا لفظه لقال بعده " ثم الذي يليه "! لكن لفظ الحديث " ثم الذين يلونهم "، ولفظ الحديث الصحيح: " خير الناس قرني " و " خير أمتي قرني ".
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/99)
كتاب تقريب التهذيب
[السُّؤَالُ]
ـ[لابن حجر العسقلاني كتاب بعنوان تقريب التهذيب ما معنى هذا العنوان وما قصة الكتاب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الكتاب مختصر مختصر مختصر لكتاب كبير في أسماء رواة الحديث وأحوالهم.
فقد ألف الحافظ المقدسي رحمه الله كتابه (الكمال في أسماء الرجال) وأودع فيه أقوال الأئمة في رجال الصحيحين والسنن الأربعة , معتمداً على تواريخ البخاري وكتاب ابن أبي حاتم وكتاب ابن معين أصحابه وأمثال ذلك.
ثم جاء الحافظ المزَّي فاختصره وسماه (تهذيب الكمال) وجاء الحافظ ابن حجر العسقلاني من بعد , فاختصره وزاد عليه أشياء فاتتهما وهي كثيرة وعقب عليهما , وسمى مختصره: (تهذيب التهذيب) ثم اختصره في كتاب (تقريب التهذيب) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/100)
إطلاق " كرم الله وجهه " على علي بن أبي طالب
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعلم بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو أحد عظماء الصحابة، ورابع خليفة للمؤمنين، وأنه لم يسجد لصنم، ولذلك نقول عند ذكره: كرّم الله وجهه.
والسؤال: من أول من استخدم عبارة (كرّم الله وجهه) عند ذكر علي بن أبي طالب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الظاهر أن أول من استعمل عبارة " كرم الله وجهه " في حق عليٍّ رضي الله عنه: هم الشيعة وقد تبعهم بعض الكتَّاب ممن انطلى عليهم قول الشيعة، وكثير من النُّساخ الجهلة.
1. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى:
قلت: وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال " عليه السلام " من دون سائر الصحابة أو " كرم الله وجهه "، وهذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم والشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم.
" تفسير ابن كثير " (3 / 517 – 518) .
2. وقالت اللجنة الدائمة:
تلقيب علي بن أبي طالب بتكريم الوجه وتخصيصه بذلك من غلو الشيعة فيه، ويقال إنه من أجل أنه لم يطَّلع على عورة أحد أصلاً، أو لأنه لم يسجد لصنم قط.
وهذا ليس خاصّاً به بل يشاركه غيره من الصحابة الذين وُلدوا في الإسلام.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/101)
ادعاء أن علياً حارب الجن كذب لا أصل له
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الإمام علي رضي الله عنه حارب الجن حيث ورد في كتاب غزوات الإمام علي ذلك وأنه حاربهم حتى أوصلهم الأرض السابعة، فما هو رأيكم في هذا الكتاب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كل هذا لا أصل له. فلم يحارب الجن ولم يقع شيء من ذلك بل هذا باطل ومن الكذب والموضوعات التي أحدثها الناس , وقد نص أبو العباس: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ذلك وقال: إنه كذب لا أصل له وهو من الأباطيل التي افتراها الكذابون.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/9 ص/277.(9/102)
أيام التشريق
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي أيام التشريق؟ وما هي المزايا التي تتميز بها عن غيرها من سائر الأيام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وقد ورد في فضلها آيات وأحاديث منها:
1- قول الله عز وجل: (واذكروا الله في أيام معدودات) ، الأيام المعدودات: هي أيام التشريق، قاله ابن عمر رضي الله عنه واختاره أكثر العلماء.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أيام التشريق: " إنها أيام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله عز وجل "، وذكر الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق أنواع متعددة:
منها: ذكر الله عزَّ وجل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في أدبارها، وهو مشروعٌ إلى آخر أيام التشريق عند جمهور العلماء.
ومنها: ذُكره بالتسمية والتكبير عند ذبح النُسك، فإن وقت ذبح الهدايا والأضاحي يمتدُّ إلى آخر أيَّام التشريق.
ومنها: ذكر الله عزَّ وجل على الأكل والشرب، فإن المشروع في الأكل والشرب أن يُسمي الله في أوله، ويحمده في آخره، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزَّ وجل يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشَّربة فيحمده عليها " رواه مسلم (2734) .
ومنها: ذِكره بالتكبير عند رمي الجمار أيام التشريق، وهذا يختصُّ به الحجاج.
ومنها: ذكر الله تعالى المطلق، فإنه يُستحب الإكثار منه في أيام التشريق، وقد كان عُمر رضي الله عنه يُكبر بمنىً في قبته، فيسمعه الناس فيُكبرون فترتج منىً تكبيراً، وقد قال تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكراً. فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) .
وقد استحب كثيرٌ من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عزَّ وجل " إشارةٌ إلى أنَّ الأكل في أيام الأعياد والشُّرب إنما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته وذلك من تمام شكر النعمة أن يُستعان بها على الطاعات.
وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله وبدَّلها كُفراً، وهو جدير أن يُسلبها، كما قيل:
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشُكر الإله فشُكر الإله يُزيل النِّقم
3- نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامها " لا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل " رواه أحمد (10286) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3573) .
انظر لطائف المعارف لابن رجب ص500
اللهم وفقنا لفعل الصالحات، وثبتنا عند الممات، وارحمنا برحمتك يا جزيل العطايا والهبات. والحمد لله رب العالمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/103)
إذا لبس خفا على خف أو جوربا على جورب فعلى أيهما يمسح؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز المسح على جوربين على بعضهما؟ وإن جاز ذلك ومسح ولكنه خلع الجورب الأول ثم انتقض عليه الوضوء هل له أن يمسح أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجوز أن يلبس الإنسان خفا على خف أو جوربا على جورب، فإن مسح على الأعلى – في الحال التي يجوز فيها ذلك كما سيأتي – ثم خلعه، وانتقض وضوؤه، جاز له أن يمسح على الأسفل، في قول بعض أهل العلم.
وقد لخص الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أحوال لبس الخف على الخف أو الجورب على الجورب كما يلي:
1- إذا لبس جوربا أو خفا ثم أحدث، ثم لبس عليه آخر قبل أن يتوضأ، فالحكم للأول.
أي إذا أراد أن يمسح بعد ذلك مسح على الأول، ولم يجز أن يمسح على الأعلى.
2- إذا لبس جوربا أو خفا، ثم أحدث، ومسحه، ثم لبس عليه آخر، فله مسح الثاني على القول الصحيح. قال في الفروع: ويتوجه الجواز وفاقاً لمالك. اهـ. وقال النووي: إن هذا هو الأظهر المختار لأنه لبسه على طهارة، وقولهم إنها طهارة ناقصة غير مقبول. اهـ. وإذا قلنا بذلك كان ابتداء المدة من مسح الأول.
وله في هذه الحالة مسح الأول أيضا من غير شك.
3- إذا لبس خفا على خف أو جورب، ومسح الأعلى ثم خلعه، فهل يمسح بقية المدة على الأسفل؟ لم أر من صرح به، لكن ذكر النووي عن أبي العباس بن سريج فيما إذا لبس الجُرموق على الخف ثلاثة معان، منها: أنهما يكونان كخف واحد، الأعلى ظهارة، والأسفل بطانة. قلت: وبناء عليه يجوز أن يمسح على الأسفل حتى تنتهي المدة من مسحه على الأعلى، كما لو كشطت ظهارة الخف فإنه يمسح على بطانته ". انتهى من "فتاوى الطهارة" (ص 192) .
والجُرموق: خف يلبس فوق الخف المعتاد، لاسيما في بلاد الباردة. "كشاف القناع" (1/130) .
والمقصود بالظهارة والبطانة، فيما لو كان هناك خف مكون من طبقتين، فالعليا تسمى الظهارة، والسفلى تسمى البطانة. "الشرح الممتع" (1/211) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/104)
البخاري ومسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تخبرنا بتاريخ الإمامين البخاري ومسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نذكر لك ترجمة مختصرة لهذين الإمامين الكبيرين، فنقول:
1- الإمام البخاري رحمه الله
هو الإمام الكبير، العَلَم، أمير المؤمنين في الحديث، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري
ولد في بخارى، في شوال سنة 194 هـ، ونشأ يتيما، وأصيب ببصره في صغره، ثم رد الله عليه بصره، وقد ألهم حفظ الحديث في صغره، وكان آية في ذلك رحمه الله.
وقد شهد له الأئمة بالحفظ والإتقان والعلم والزهد والعبادة، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: ما أخرجت خراسان مثله.
وقال ابن خزيمة رحمه الله: لم أر تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ من البخاري.
وقال الترمذي رحمه الله: لم أر في العراق ولا في خراسان في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري.
وكان للبخاري رحمه الله أكثر من ألف شيخ التقى بهم في البدان والأمصار التي رحل إليها، ومن هؤلاء:
الإمام أحمد بن حنبل، وحماد بن شاكر، ومكي بن إبراهيم، وأبو عاصم النبيل.
وممن روى عن البخاري:
مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، والترمذي، والنسائي، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم كثير.
وللبخاري مؤلفات عدة أشهرها: الجامع الصحيح، والتاريخ الكبير، والأدب المفرد، وخلق أفعال العباد.
وقد توفي رحمه الله ليلة عيد الفطر سنة 256 هـ
2- الإمام مسلم رحمه الله
هو الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق، أبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري، ولد سنة 204 هـ وقيل سنة 206 هـ
انشغل بالحديث، ورحل في طلبه، وجد واجتهد، حتى فاق أقرانه، وشهد له بالفضل معاصروه. قال شيخه محمد بن بشار (بندار) : حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.
وقال أحمد بن سلمه النيسابوري: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.
وقال عنه ابن عبد البر: أجمعوا على جلالته وإمامته وعلو مرتبته، وأكبر الدلائل على ذلك كتابه الصحيح الذي لم يوجد كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص طرق الحديث.
ومن شيوخه رحمه الله: أحمد بن حنبل، والبخاري، ويحيى بن يحيى التيمي، وإسحاق بن راهوية، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم كثير.
ومن تلاميذه: أبو حاتم الرازي، وأبو عيسى الترمذي، وابن خزيمة، وأبو عوانة الإسفراييني، ومكي بن عبدان.
ومن أشهر مؤلفاته: الجامع الصحيح، والكنى والأسماء، والطبقات، والتمييز، والمنفردات والوحدان.
وقد توفي رحمه الله في رجب سنة 261 هـ.
ولمعرفة المزيد عن حياة هاذين الإمامين، انظر ترجمتهما في سير أعلام النبلاء: 12/391-471، 557-580
انظر السؤال رقم (21523) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/105)
هل يجوز تعيين شخص بأنه من أولياء الله؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز تعيين شخص بأنه ولي لله مع صلاحه وتقواه سواء كان حيّاً أو ميتاً كأن أقول مثلا: العالم الفلاني من أولياء الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر الله تعالى علاماتٍ يُعرف بها أولياؤه، وهي: الإيمان والتقوى، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يونس / 62، 63، ولا يمكن أن نجزم بتعيين شخص أنه ولي من أولياء الله؛ لأن تحقيق الإيمان والتقوى فيهما أمور قلبية خفية، ولا يمكن للناس الاطلاع عليها، لذا يمكن للإنسان أن يُغلِّب الظن على شخص معين لكن دون جزم.
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -:
ويجب على جميع المسلمين أن يَزِنوا أعمال مَن يدَّعي الولاية بما جاء في الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنَّة: فإنه يُرجى أن يكون من أولياء الله، وإن خالف الكتاب والسنَّة: فليس من أولياء الله، وقد ذكر الله في كتابه ميزاناً قسطاً عدلاً في معرفة أولياء الله حيث قال: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون} ، فمَن كان مؤمناً تقيّاً كان لله وليّاً، ومَن لم يكن كذلك فليس بولي لله، وإن كان معه بعض الإيمان والتقوى كان فيه شيءٌ من الولاية.
ومع ذلك فإننا لا نجزم لشخص بعينه بشيءٍ، ولكننا نقول على سبيل العموم: كل من كان مؤمناً تقيّاً كان لله وليّاً.
" فتاوى مهمَّة " (ص 83، 84) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/106)
ما هما المكانان المقدسان
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هما المكانان المقدسان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول ابن تيمية رحمه الله: (وليس في الدنيا حرم، ولا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان (أي مكة والمدينة) ولا يسمى غيرهما حرماً كما يسمي الجهال حرم المقدس، وحرم الخليل فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين ... ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في (وجٍّ) وهو وادي بالطائف ... ) مجموع الفتاوى 26/118 وصحح الشيخ ابن عثيمين أنه ليس بحرم الشرح الممتع 7/248 والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/107)
هل يجوز بيع الحرير الخالص
[السُّؤَالُ]
ـ[في رد الشيخ على السؤال رقم 164 الخاص ببيع الخمر لغير المسلمين، قال ما معناه أن تحريم الله للشيء يعني تحريم قبض ثمنه.
لدي خدمة إنترنت يمكن لأي إنسان أن يشترك فيها بإرسال رسالة إلكترونية على العنوان: xxxx ويتم في هذه الخدمة إرسال حديث واحد مترجم إلى الإنكليزية في صحيح البخاري. وقد وصلني حديث صحيح البخاري رقم 11، المجلد 8، المروي عن ابن عمر (رضي الله عنهما) الذي ذكر فيه قصة أبيه واللباس الحريري الذي أعطاه لأخيه المشرك (قبل إسلامه) الذي كان يسكن مكة. ويبدو لي من ذلك الحديث أن بيع الملابس الحريرية أو إعطائها لغير المسلمين جائز.
أرجو منكم توضيح هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
النصيحة باستمرار عند قراءة الأحاديث المُشكلة جمع طرق وروايات هذه الأحاديث والرجوع إلى كلام أهل العلم من الشّراح لأنّ عندهم من الفقه والفهم ما يُزيل اللبس والإشكال، وفيما يلي جمع لبعض ألفاظ الحديث من الروايات التي ساقها البخاري رحمه الله للقصة ثم تلخيص لشرح الحديث من كلام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في كتابه العظيم فتح الباري شرح صحيح البخاري، ومن كلام الإمام النووي رحمه الله في تعليقه على صحيح مسلم في شرح الحديث المذكور:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ (اسم البائع) مَا قُلْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا " صحيح البخاري 837
وفي رواية: تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا حَاجَتَكَ " البخاري 896
وفي رواية: " فَقَالَ إِنِّي لَمْ أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا يَعْنِي تَبِيعَهَا " البخاري 1962
وفي رواية.. " فَقَالَ عُمَرُ كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ قَالَ إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ " البخاري 2426
وفي رواية: " فَقَالَ تَبِيعُهَا أَوْ تُصِيبُ بِهَا بَعْضَ حَاجَتِكَ " البخاري 2826
وفي رواية: " قَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِهَا مَالا " البخاري 5617
قال ابن حجر رحمه الله:
قوله: (لو ابتعتها فلبستها) وكأن عمر أشار بشرائها وتمناه قوله: (إنما يلبس هذه) في رواية جرير بن حازم " إنما يلبس الحرير ". قوله: (من لا خلاق له) زاد مالك في روايته " في الآخرة ". والخلاق النصيب وقيل: الحظ وهو المراد هنا، ويحتمل أن يراد من لا نصيب له في الآخرة أي مِن لُبس الحرير
قوله: (كساها إياه) .. قد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث إليه بها ليلبسها , أو المراد بقوله كساه أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة , وفي رواية مالك.. " ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر حلة " وفي رواية.. " فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة "
قوله: (تبيعها وتصيب بها حاجتك) (أي) تصيب بثمنها , (أو) المراد المقايضة أو أعم من ذلك
(تنبيه) : وجه إدخال هذا الحديث في " باب الحرير للنساء " يؤخذ من قوله لعمر " لتبيعها أو تكسوها " لأن الحرير إذا كان لبسه محرما على الرجال فلا فرق بين عمر وغيره من الرجال في ذلك فينحصر الإذن في النساء , وأما كون عمر كساها أخاه فلا يشكل على ذلك عند من يرى أن الكافر مخاطب بالفروع ويكون أهدى عمر الحلة لأخيه ليبيعها أو يكسوها امرأة.
(و) في بعض طرق الحديث.. عن ابن عمر قال: " أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عطارد حلة فكرهها له ثم أنه كساها عمر مثله " الحديث , وفيه " إني لم أكسكها لتلبسها إنما أعطيتكها لتُلْبِسها النساء " واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصِّرف من حرير محض
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: لَبِسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ لَهُ ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاِ فَقِيلَ لَهُ قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ فَجَاءه عُمَرُ يَبْكِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَمَا لِي قَالَ إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ إِنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ تَبِيعُهُ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ رواه مسلم 3861
قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم:
وفي حديث عمر في هذه الحلة دليل لتحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء , (و) إباحة هديته , وإباحة ثمنه , وجواز إهداء المسلم إلى المشرك ثوبا وغيره.
قوله: (فكساها عمر أخا له مشركا بمكة) هكذا رواه البخاري ومسلم , وفي رواية البخاري في كتاب قال: أرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم , فهذا يدل على أنه أسلم بعد ذلك. .. وفي هذا دليل لجواز صلة الأقارب الكفار والإحسان إليهم , وجواز الهدية إلى الكفار , وفيه جواز إهداء ثياب الحرير إلى الرجال لأنها لا تتعين للبسهم , وقد يتوهم متوهم أن فيه دليلا على أن رجال الكفار يجوز لهم لبس الحرير , وهذا وهم باطل , لأن الحديث إنما فيه الهدية إلى كافر، وليس فيه الإذن له في لبسها , وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى عمر وعلي وأسامة رضي الله عنهم , ولا يلزم منه إباحة لبسها لهم , بل صرح صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أعطاه لينتفع بها بغير اللبس , والمذهب الصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع , فيحرم عليهم الحرير كما يحرم على المسلمين. والله أعلم.
وقد روى البخاري رحمه الله تعالى حديثا آخر يتعلّق بالمسألة المذكورة عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَخْرَمَةَ قَالَ لَهُ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ فَهُوَ يَقْسِمُهَا فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ فَذَهَبْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي يَا بُنَيِّ ادْعُ لِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَدْعُو لَكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ بِالذَّهَبِ فَقَالَ يَا مَخْرَمَةُ هَذَا خَبَأْنَاهُ لَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ". رواه البخاري: كتاب اللباس: باب المزرر بالذهب
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قوله " فخرج وعليه قباء من ديباج مزرر بالذهب " هذا يحتمل أن يكون وقع قبل التحريم , فلما وقع تحريم الحرير والذهب على الرجال لم يبق هذا حجة لمن يبيح شيئا من ذلك , ويحتمل أن يكون بعد التحريم فيكون أعطاه لينتفع به بأن يكسوه النساء أو ليبيعه. انتهى
وملخص الجواب عن الإشكال المطروح في السّؤال أن حلّة الحرير ما دام لها استعمالات مباحة كلبسها من قِبَل النّساء جاز بيعها وأخذ ثمنها والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/108)
عدد أسماء النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم كان له تسعة وتسعون اسما، مثل: أحمد، والصديق، والأمين. وإن لم يكن الأمر كذلك فمن ذا الذي قال بهذا الأمر ونشر تلك الأفكار؟ أرجو أن تعطوني دليلا من القرآن والسنة. جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ثبت في الكتاب والسنة بعض الأسماء الصريحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمي في القرآن الكريم بـ: " محمد "، و " أحمد "، وجاء في أحاديث صحيحة أنه له أسماء عدة، هي: (إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ)
البخاري (4896) ومسلم (2354)
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ)
رواه مسلم (2355) .
وفي بعض الأحاديث ما ظاهره تحديد عدد الأسماء، ففي صحيح البخاري (3532) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ لِي خَمْسَة أَسْمَاء أَخْتَصّ بِهَا، لَمْ يُسَمَّ بِهَا أَحَد قَبْلِي , أَوْ مُعَظَّمَة، أَوْ مَشْهُورَة فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة , لَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَصْر فِيهَا.
وَقِيلَ: الْحِكْمَة فِي الِاقْتِصَار عَلَى الْخَمْسَة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهَا أَشْهَر مِنْ غَيْرهَا مَوْجُودَة فِي الْكُتُب الْقَدِيمَة وَبَيْن الْأُمَم السَّالِفَة. انتهى. مختصرا.
ثانيا:
صنف العلماء في جمع أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مصنفات كثيرة، تزيد على الأربعة عشر مصنفا، وخصص المصنفون في السير والشمائل أبوابا لبيان أسمائه صلى الله عليه وسلم، كما فعل القاضي عياض في " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " (1/228) في " فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته " انتهى. وأفرد لها الحافظ ابن عساكر بابا في " تاريخ دمشق "
قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله:
" أُلِّف في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم عدة مؤلفات، وفي " كشف الظنون " و "ذيليه " تسمية أربعة عشر كتاباً، كما في " معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي " للشيخ عبد الله بن محمد الحبشي اليماني (ص/ 435 – 436) وهي: لابن دحية، والقرطبي، والرصاع، والسخاوي، والسيوطي، وابن فارس. وغيرهم.
وتبحث مستفيضة في كتب السير، والخصائص النبوية، والشروح الحديثية، كما في " عارضة الأحوذي " (10/281) ، وقد طبع منها: " الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة " للسيوطي. " انتهى.
" معجم المناهي اللفظية " (ص/361)
ثالثا:
وقد اختلف العلماء في أسماء كثيرة، هل تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو لا، فأدى ذلك إلى اختلافهم في تعداد هذه الأسماء.
وقد كان من أهم أسباب الخلاف أن بعض العلماء رأى كل وصف وُصف به النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم من أسمائه، فعد من أسمائه مثلا: الشاهد، المبشر، النذير، الداعي، السراج المنير، وذلك لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) الأحزاب/45-46.
في حين قال آخرون من أهل العلم: إن هذه أوصاف وليست أسماء أعلام.
يقول الإمام النووي رحمه الله:
" بعض هذه المذكورات صفات، فإطلاقهم الأسماء عليها مجاز " انتهى.
" تهذيب الأسماء واللغات " (1/49)
ويقول السيوطي رحمه الله:
" وأكثرها صفات " انتهى.
" تنوير الحوالك " (1/727)
يقول العلامة بكر أبو زيد رحمه الله:
" جعلها بعضهم كعدد أسماء الله الحسنى تسعة وتسعين اسماً، وجعل منها نحو سبعين اسماً من أسماء الله تعالى.
وعد منها الجزولي في " دلائل الخيرات " مائتي اسمٍ.
وأوصلها ابن دحية في كتابه " المستوفى في أسماء المصطفى " نحو ثلاثمائة اسم.
وبلغ بها بعض الصوفية ألف اسم فقال: لله ألف اسم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ألف اسم " انتهى.
" معجم المناهي اللفظية " (ص/361)
فيقال: في هذه الأعداد كثير من المبالغات، والصحيح أن أسماءه صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك بكثير، ولا يجوز اعتبار كل وصف ثبت له في الكتاب والسنة من أسمائه الأعلام، فضلا عن أن أساءه توقيفية، لا يجوز الزيادة عليها بما لم يرد في الكتاب والسنة الصحيحة.
يقول العلامة بكر أبو زيد رحمه الله:
" الذي له أصل في النصوص إما اسم، وهو القليل، أو وصف، وهو أكثر، وما سوى ذلك فلا أصل له، فلا يطلق على النبي صلى الله عليه وسلم حماية من الإفراط والغلو، ويشتد النهي إذا كانت هذه الأسماء والصفات التي لا أصل لها فيها غلو، وإطراء، وهذا القسم هو الذي يعنينا ذكره في هذا " المعجم " للتحذير من إطلاق ما لم يرد عن الله ولا رسوله، وهي كثيرة جداً، ومظنتها كتب الطُّرقية والأوراد والأذكار البدعية، مثل: " دلائل الخيرات " للجزولي، ومنها: أحيد. وحيد. منح. مدعو. غوث. غياث. مقيل العثرات. صفوح عن الزلات. خازن علم الله. بحر أنوارك. معدن أسرارك. مؤتي الرحمة. نور الأنوار. السبب في كل موجود. حاء الرحمة. ميم الملك. دال الدوام. قطب الجلالة. السر الجامع. الحجاب الأعظم. آية الله.
وقد كانت هذه الأسماء يطبع منها (99) اسماً في الغلاف الأخير للمصحف، ويثبت في غلافه الأول (99) اسماً من أسماء الله تعالى، وذلك في الطبعة الهندية، ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: فضل في التنبيه على تجريد القرآن منها، فجرد منها، جزاه الله خيراً. وهي أيضاً مكتوبة على الحائط القبلي للمسجد النبوي الشريف، وفَّق الله من شاء من عباده لتجريد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يرد عنه والله المستعان.
وبعد هذا وقفت على كلام في غاية النفاسة، ورد فيه الخاطر على الخاطر - فلله الحمد وحده - وذلك للعلامة اللغوي ابن الطيب الفاسي في " شرح كفاية المتحفظ " لابن الأجدابي فقال ص/ 51 ما نصه:
ثم - أي مؤلف كفاية المتحفظ - وصفه - أي وصف النبي صلى الله عليه وسلم - بما وصفه الله تعالى به في القرآن العظيم من كونه خاتم النبيين سيْراً على جادة الأدب؛ لأن وصفه بما وصفه الله به - مع ما فيه من المتابعة التي لا يرضى صلى الله عليه وسلم بسواها - فيه اعتراف بالعجز عن ابتداع وصف من الواصف، يبلغ به حقيقة مدحه - عليه الصلاة والسلام -، ولذا تجد الأكابر يقتصرون في ذكره - عليه السلام - على ما وردت به الشريعة الطاهرة كتاباً وسنة، دون اختراع عبارات من عندهم في الغالب " انتهى باختصار.
" معجم المناهي اللفظية " (ص/362-363)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(9/109)
بعض المحن والصعوبات التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية الدعوة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي المحن والصعوبات التي واجهت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما بدأ في دعوة أهل قريش لرسالة التوحيد؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المحن والصعوبات التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت بسبب ما واجهه به كفار قريش من وسائل وأساليب متنوعة في محاربة دعوته، " إذ عندما رأت قريش أن أثر دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن محدوداً كما كان الحال مع من دعا إلى نبذ الأصنام قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وورقة، قامت في وجه محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، وأخذت تمارس شتى أساليب ووسائل الترغيب والترهيب لصدهم عن هذا الطريق الذي هدد مصالحهم التي يجنونها من وجود الحرم في أرضهم، وحط من تكبرهم على غيرهم، ووقف أمام شهواتهم في السيطرة واقتراف السيئات والموبقات، ومن أبرز تلك الأساليب:
الأسلوب الأول:
كان أول أسلوب لجؤوا إليه هو محاولة التأثير على عمه أبي طالب حتى يكفه عن الدعوة، أو تجريده من جواره – أي حمايته -، فقد ذهبت مجموعة من أشرافهم إلى عمه أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا ... فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه.
نقل ذلك ابن هشام (1/328) من رواية ابن إسحاق.
الأسلوب الثاني: التهديد بمنازلة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمه أبي طالب.
ولما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، غضبت منه قريش وعادوه وحقدوا عليه، فمشوا إلى عمه مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب! إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وأقسموا بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفه عنهم أو ينازلوه وإياه في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. عند هذا عظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه، ولذا أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بالذي قالوه، وطلب منه أن يبقي عليه وعلى نفسه، ولا يحمله من الأمر ما لا يطيق.
" سيرة ابن إسحاق " (ص/145)
الأسلوب الثالث: الاتهامات الباطلة لصد الناس عنه.
ومن تلك الاتهامات:
1- اتهموه بالجنون: وفي ذلك نزل قول الله تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) الحجر/6.
2- اتهموه بالسحر، وفي ذلك نزل قوله تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) ص/4.
3- واتهموه بالكذب، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) الفرقان/4.
4- واتهموه بالإتيان بالأساطير، قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الفرقان/5.
5- وقالوا إن القرآن ليس من عند الله وإنما هو من عند البشر: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) النحل/103.
6- واتهموا المؤمنين بالضلالة ... (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) المطففين/32.
الأسلوب الرابع: السخرية والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي على المؤمنين.
يقول الله تعالى عن سخريتهم من الذين آمنوا: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الأنعام/53.
وروى البخاري أن أبا جهل قال مستهزئاً: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) ، فنزلت: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الأنفال/32-33.
الأسلوب الخامس: التشويش.
كان المشركون يتواصون بينهم بافتعال ضجة عالية وصياح منكر عندما يقرأ القرآن، حتى لا يصل إلى سمع أحد وقلبه فيؤثر فيه، وفي ذلك قال الله عز وجل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فصلت/26.
الأسلوب السادس: طلبهم أن تكون للرسول معجزات ومزايا ليست عند البشر العاديين.
من ذلك قولهم: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا. أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) الفرقان/7-9.
وقولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) الإسراء/90-93.
الأسلوب السابع: المساومات.
لقد حاولت قريش من خلال هذا الأسلوب أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، وذلك بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه، قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) القلم/9.
وعندما قالوا له: اعبد آلهتنا يوماً، ونعبد إلهك يوماً، أنزل الله تعالى سورة "الكافرون": (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وحسم هذه المساومة الهزلية.
الأسلوب الثامن: سب القرآن ومنزله ومن جاء به.
روى البخاري ومسلم وغيرهم في قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) الإسراء/110، أن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن: (ولا تخافت بها) عن أصحابك فلا تسمعهم، (وابتغ بين ذلك سبيلاً) .
الأسلوب التاسع: الاتصال باليهود للإتيان منهم بأسئلة تعجيزية للرسول صلى الله عليه وسلم.
أوفدت قريش نفراً منهم إلى المدينة، على رأسهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ليأتوا من اليهود بأسئلة تعجيزية فيطرحوها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم يهود: سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين والروح، ولكن الله أبطل كيدهم عندما أنزل قرآنا في شأن الإجابة عن أسئلتهم.
الأسلوب العاشر: الترغيب.
أرادت قريش أن تجرب أسلوب الترغيب، فأرسلت عتبة بن ربيعة الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها: إن كنت تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوَّدناك – أي جعلناك سيداً - علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً – من الجن - تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.
فلما فرغ من قوله تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة " فصلت " إلى قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) .
الأسلوب الحادي عشر: الترهيب.
كان أبو جهل إذا سمع عن رجل قد أسلم وله شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك ولنضعفن رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجراً قال له: لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به.
"سيرة ابن هشام " (1/395) .
الأسلوب الثاني عشر: الاعتداء الجسدي.
عندما لم تثمر كل الأساليب السابقة في صد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دينهم، لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء الجسدي والتصفية الجسدية.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ. قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ شَيْءٌ بَلَغَهُ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى. أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى. كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ. فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ. كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) .
وروى البخاري بسنده إلى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) .
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:
بينما النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَع رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
ونال أبا بكر رضي الله عنه نصيبه من الأذى حتى فكر في الهجرة إلى الحبشة فراراً بدينه.
وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود، على الرغم من تحذير المسلمين من عدوان المشركين وخشيتهم عليه، فعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه.
الأسلوب الثالث عشر: ملاحقة المسلمين خارج مكة والتحريض عليهم.
فعندما هاجر بعض المسلمين إلى النجاشي أرسلوا خلفهم من حاول اللحاق بهم قبل العبور إلى الحبشة، وعندما استقروا بالحبشة وكثر عددهم أرسلوا في طلبهم، واستخدموا في ذلك الرشوة والحيلة للوقيعة بين المسلمين والنجاشي، ولكنهم فشلوا في ذلك.
الأسلوب الرابع عشر: المقاطعة العامة – وذلك في شعب أبي طالب -.
الأسلوب الخامس عشر: محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم شن الحرب عليه.
إن أعداء الإسلام في كل زمان ومكان لم يكفوا ولن يكفوا عن استخدام كافة الوسائل والأساليب لإطفاء نور الإسلام ومحاربة دعاته، وربما تتجدد الأساليب والوسائل، ولكنها لا تخرج في مضمونها عن تلك الأساليب التي مارسها كفار قريش ضد المسلمين المستضعفين بمكة" انتهى باختصار من كتاب " السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية " للدكتور مهدي رزق الله (ص/165-194) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/110)
كيف ينتسب الأشراف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن له ولد ذكر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد سمعت أن الأسياد من نسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من فضلك: اشرح لي كيف أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، وأنا أعرف أن النسب يكون من الابن وليس من البنت؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم وذريته الموجودون الآن كلهم من نسل ابنته فاطمة رضي الله عنها، ولكون الرسول صلى الله عليه وسلم سيد البشر وأشرفهم والنسبة إليه شرف بلا شك، صارت ذريته ينتسبون إليه، ولا ينسبون إلى آبائهم، وقد ذكر العلماء أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي) رواه البخاري (3714) ومسلم (2449) .
قال الشريف السمهودي:
"معلوم أن أولادها بضعة منها، فيكونون بواسطتها بضعة منه صلى الله عليه وسلم، وهذا غاية الشرف لأولادها" انتهى.
نقله الألوسي في "روح المعاني" (26/165) .
ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِين) رواه البخاري (2704) .
فسمَّاه "ابنه" وهو ابن بنته فاطمة رضي الله عنهما.
قال ابن القيم رحمه الله:
"المسلمون مجمعون على دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب لهم من الله الصلاة؛ لأن أحدا من بناته لم يعقب غيرها، فمن انتسب إليه صلى الله عليه وسلم من أولاد ابنته فإنما هو من جهة فاطمة رضي الله عنها خاصة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته: (إن ابني هذا سيد) فسماه ابنه، ولما أنزل الله سبحانه آية المباهلة: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) آل عمران/61، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا وخرج للمباهلة....
إلى أن قال:
وأما دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم فلشرف هذا الأصل العظيم والوالد الكريم، الذي لا يدانيه أحد من العالمين، سرى ونفذ إلى أولاد البنات لقوته وجلالته وعظيم قدره، ونحن نرى من لا نسبة له إلى هذا الجناب العظيم من العظماء والملوك وغيرهم تسري حرمة إيلادهم وأبوتهم إلى أولاد بناتهم، فتلحظهم العيون بلحظ أبنائهم، ويكادون يضربون عن ذكر آبائهم صفحا، فما الظن بهذا الإيلاد العظيم قدره، الجليل خطره؟ " انتهى باختصار.
" جلاء الأفهام " (ص/299-301) .
وجاء في "مغني المحتاج" (3/63) :
"فَائِدَةٌ: مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ، وَهُمْ الْأَشْرَافُ الْمَوْجُودُونَ، وَمِنْهُمْ الْهَاشِمِيُّونَ" انتهى.
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (2/640) :
"ممّا اختصّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم دون النّاس جميعاً أنّ أولاد بناته ينتسبون إليه في الكفاءة وغيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ ابني هذا سيّد) " انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي:
"ثم معنى الانتساب إليه الذي هو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم: أنه يطلق عليه أنه أب لهم، وأنهم بنوه، حتى يعتبر ذلك في الكفاءة، فلا يكافىء شريفة هاشمية غير شريف. [وهذا عند من اعتبر الفاءة في النسب في النكاح، فلا تتزوج شريفة بغير شريف إلا برضاها ورضا جميع أوليائها. [وقد سبق الكلام على الكفاءة في النسب في جواب السؤال رقم (65510) وبيَّنَّا أن الصحيح من أقوال العلماء أنها غير معتبرة] .
ثم قال ابن حجر: وقولهم: "إن بني هاشم والمطلب أكفاء" محله فيما عدا هذه الصورة.
وحتى يدخلوا في الوقف على أولاده والوصية لهم، [وهذه مسألة افتراضية، لو أوقف الرسول صلى الله عليه وسلم مالاً أو أوصى به وقال: هذا لأولادي، دخل في أولاده صلى الله عليه وسلم أولاد فاطمة وأولاد الحسن والحسين رضي الله عنهم، وهذا من فوائد أنهم ينسبون إليه] .
وأما أولاد بنات غيره فلا تجري فيهم مع جدهم لأمهم هذه الأحكام.
نعم، يستوي الجد للأب والأم في الانتساب إليهما من حيث تطلق الذرية والنسل والعقب عليهم. ومن فوائد ذلك أيضاً: أنه يجوز أن يقال للحسنين: أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أب لهما اتفاقا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد) " انتهى باختصار.
"الصواعق المرسلة" (4/462) لابن حجر الهيتمي.
وقد استدل السيوطي رحمه الله على ذلك بأحاديث أخرى في كتابه "الخصائص الكبرى" (2/381) ، غير أنها ضعيفة، كما بَيَّن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في "التلخيص" (3/142) ، والألباني في "السلسلة الضعيفة" (801، 4104، 4324) .
ثانياً:
هذا الحكم، وهو أن أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم ينسبون إليه، إنما هو لأولاد بناته، ثم أولاد الحسن والحسين، أما أولاد بنات بناته فإنهم لا ينسبون إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما ينسبون إلى آبائهم.
قال السيوطي رحمه الله:
"هل يشاركون – يعني أولاد زينب بنت فاطمة - أولاد الحسن والحسين في أنهم ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلّم؟
والجواب: لا. وإن كانوا جميعاً يدخلون في "ذرية النبي صلى الله عليه وسلم" وفي "أولاده".
وقد فَرَّق الفقهاء بين مَن يُسَمَّى ولداً للرجل، وبين مَن ينسب إليه:
ولهذا قالوا: لو قال: وقفت على أولادي: دخل ولد البنت.
ولو قال: وقفت على مَن يُنسب إلي مِن أولادي: لم يدخل ولد البنت.
وقد ذكر الفقهاء من خصائصه صلى الله عليه وسلّم: أنه ينسب إليه أولاد بناته، ولم يذكروا مثل ذلك في أولاد بنات بناته، فالخصوصية للطبقة العليا فقط، فأولاد فاطمة الأربعة ينسبون إليه، وأولاد الحسن والحسين ينسبون إليهما فينسبون إليه، وأولاد زينب وأم كلثوم [بنات فاطمة] ينسبون إلى أبيهم عمر وعبد الله، لا إلى الأم، ولا إلى أبيها صلى الله عليه وسلّم؛ لأنهم أولاد بنت بنته، لا أولاد بنته، فجرى الأمر فيهم على قاعدة الشرع في أن الولد يتبع أباه في النسب لا أمه، وإنما خرج أولاد فاطمة وحدها للخصوصية التي ورد الحديث بها، وهو مقصور على ذرية الحسن، والحسين....
ولهذا جرى السلف والخلف على أن ابن الشريفة لا يكون شريفاً، ولو كانت الخصوصية عامة في أولاد بناته وإن سفلن لكان ابن كل شريفة شريفاً تحرم عليه الصدقة وإن لم يكن أبوه كذلك كما هو معلوم.
ولهذا حكم صلى الله عليه وسلّم بذلك لفاطمة دون غيرها من بناته، لأن أختها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم تعقب ذكراً حتى يكون كالحسن والحسين في ذلك، وإنما أعقبت بنتاً، وهي أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع، فلم يحكم لها صلى الله عليه وسلّم بهذا الحكم مع وجودها في زمنه، فدل على أن أولادها لا ينسبون إليها لأنها بنت بنته، وأما هي فكانت تنسب إليه بناء على أن أولاد بناته ينسبون إليه، ولو كان لزينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولدٌ ذكر لكان حكمه حكم الحسن والحسين في أن ولده ينسبون إليه صلى الله عليه وسلّم.
هذا تحرير القول في هذه المسألة" انتهى باختصار.
"الحاوي" (2/31) .
ومثل ذلك قاله الحافظ ابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي في "الفتاوى الحديثة" (ص 67) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/111)
هل صح حديث: (لقد جئتكم بالذبح) ، وما توجيه معناه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن من فضلك أن تعلق لي على هذا الحديث وعلى إسناده؟ هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش إنه جاءهم ليذبحهم؟ وكيف لنا أن نفهم هذا الحديث؟ وما هو معنى الحديث؟ أرجو منكم أن تشرحوا لأنني أجد الحديث محيراً جداً بالنسبة إلي. ونص الحديث يقول: (لقد جئتكم بالذبح) وقد ترجم الحديث من قبل الشيخ: عبد السلام الشامي: قال يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله فيما كانت تظهر من عداوته؟ قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال: تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح؛ فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً. فانصرف صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا - لِما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم – قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أنا الذي أقول ذلك. قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه. قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دونه يقول - وهو يبكي -: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط. رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث رواه أحمد في " المسند " (11/609) طبعة مؤسسة الرسالة من رواية الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحسنه المحققون، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند أيضا، وحسنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6/19) ، وكذا الشيخ الألباني في " صحيح الموارد " (1403) .
وجاء في رواية الإمام البخاري (3678) لأصل القصة أن عروة بن الزبير رحمه الله قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) .
وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أما والله لا تنتهوا حتى يحل بكم عقابه عاجلاً. – وبعد ذلك قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم -: أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه، ومتم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون ممن يذبح الله بأيديكم عاجلاً) .
عزاه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (7/168) للزبير بن بكار، والدارقطني في " الأفراد " وأشار إلى ضعف هذه الرواية.
وانظر "فتح الباري" (7/166-170) للوقوف على روايات الحديث.
وهذا اللفظ: (جئتكم بالذبح) له معنى صحيح بلا شك، ولا ينبغي أن يثير الحيرة في نفس السائل ولا في نفس أي عاقل، فالمقصود بالذبح هم أشخاص معينون محدودون، وهم أولئك الذين يصرون على الكفر بالله، وعلى حرب الإسلام وأهله، واضطهاد المستضعفين، والتسلط على النساء والشيوخ من المؤمنين، لفتنتهم عن دينهم، وفرض مبادئهم وأفكارهم بالدم والتعذيب والتنكيل، هؤلاء هم الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شر تقتيل، طعنوا سمية زوجة ياسر في عفتها، وقتلوا ياسر في شيخوخته، وعذبوا بلالاً بالرمضاء، وهموا بقتل خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتركوا أسلوباً من أساليب التعذيب والظلم إلا مارسوه على هذه الفئة المؤمنة، حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى الحبشة، مكفكفين جراحهم، ومتحملين آلامهم، لعلهم يجدون لدى ملك الحبشة طعم الراحة والأمان.
هذا بعض ما فعلته هذه الفئة من مجرمي كفار قريش مع المؤمنين، أما عن تطاولهم على رب العباد فذلك شأن آخر، حكاه الله عنهم في عشرات الآيات في القرآن الكريم. ألا يستحق هؤلاء – بعدئذ - القتل دفعا لشرهم، وتخليصا للعباد من آذاهم.
أليس من الحكمة والعقل مجابهتهم – في بعض الأحيان – بالقوة والتهديد والوعيد، وذلك حين يطفح الكيل من مكرهم وظلمهم؟
لماذا يحتار العاقل في قبول تهديد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالعقوبة العاجلة من الله عز وجل، وهم أجدر بها، وأحق بها من قوم عاد وثمود وسائر الأنبياء الذين عرفنا عدوانهم على الأنبياء والمؤمنين في القرآن الكريم؟!
ألهذا الحد ينسى العاقل ما فعله هؤلاء المجرمون بالمؤمنين المستعضفين، وينسى أيام العذاب والهوان التي ذاقوها مما يتقطع له قلب كل إنسان وهو يقرأ صفحاتها، ثم يتعاطف مع الجلادين – وهم صناديد كفار قريش – لأن النبي صلى الله عليه وسلم هددهم بالقتل والذبح مرة من المرات.
أهكذا تقاس الأمور في موازين العقول؟!
وإذا لبَّس الحاقدون على الناس، فاجتزؤوا هذه الكلمة من سياقها، وأرادوا أن يظهروا النبي صلى الله عليه وسلم سفاكاً للدماء، محباً للموت والقتل، فلا يجوز أن ينطلي ذلك على العقلاء من المسلمين ومن غير المسلمين، بل الواجب التعامل مع هذه الحادثة، وكذلك كل حادثة بمقياسين مهمين رئيسيين:
1- السياق الذي جاءت به، ونوع المخاطبين بها، والحادثة التي تفسرها وتبين المقصود منها.
2- النظر في جميع النصوص المتعلقة بالموضوع، والتي من خلالها يمكن الوصول إلى فهم نظرة الإسلام إلى المسألة، وليس من خلال نص واحد فقط.
ومن لم يفعل ذلك ضلَّ وتاه، وباع عقله وفكره لكل ناعق بشبهة، ولكل من يحسن الوسوسة بالشر والفساد.
ونقول أيضاً:
كيف تُصَدَّقُ دعوى مَن يدَّعي أن الإسلام جاء بقتل من لم يتبعه مطلقاً، وقد علم الناس جميعاً علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن أهل مكة بعد أذاهم الشديد له فجاءه ملك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين (جبلان بمكة) ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) رواه البخاري (3231) ومسلم (1795) ، وعفا أيضاً صلى الله عليه وسلم عن كفار قريش الذين ظلموا المؤمنين وأكلوا أموالهم بعد فتح مكة، بل وأكرم بعض كبرائهم رجاء حسن إسلامهم، وذلك حين قال – يوم فتح مكة -: (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ) رواه مسلم (331) ؟!
كيف تُصدَّق هذه الدعوى وقد شرع الله تعالى لنا قبول الجزية من أهل الأديان الأخرى، والموافقة على بقائهم في حماية دولة الإسلام وكفالتها؟!
كيف تُصدَّق هذه الدعوى وقد علمنا يقيناً كيف قبل النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع يهود المدينة، وتعايش معهم رجاء أن يحفظوا العهد ولا يخونوا، ولم يقاتل أحداً منهم حتى كانوا هم البادئين بالغدر والخيانة؟!!
ألم يقل رب العزة شارحاً مقاصد البعثة والرسالة في كلمة واحدة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/107.؟!!
بل قال عز وجل أيضاً: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الأنعام/147.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"يقول تعالى: فإن كذّبك - يا محمد - مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم، فقل: (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) ، وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله، (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (3/357)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ! قَالَ: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً) رواه مسلم (2599) .
نرجو أن يكون في هذه الكلمات ذكرى نافعة يزيل الله بها عن الأخ السائل حيرته في معنى هذا الحديث.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/112)
علام تدل المصاهرة بين علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب
[السُّؤَالُ]
ـ[زَوَّج علي ابن أبي طالب رضي الله عنه اثنتين من بناته إلى خليفتين من الخلفاء الراشدين من هما؟ وعلام تدل هذه المصاهرة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أهل السنَّة والجماعة يتولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وآل بيته , ويتقربون إلى الله تعالى بمحبتهم، والذود عنهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وكذلك "أهل بيت رسول الله" تجب محبتهم، وموالاتهم، ورعاية حقهم.
"مجموع الفتاوى" (28/491) .
وانظر جوابي السؤالين (10055) و (121948) .
ثانياً:
العلاقة بين الصحابة، وآل بيت النبوة: كانت تقوم على المحبة، والمودة، وتبادل الاحترام، والتقدير، بل تعدت إلى المصاهرة، والتزويج.
ومن ذلك: أن عليّاً رضي الله عنه زوَّج ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
قال الذهبي رحمه الله:
وروى عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أن عمر تزوَّجها فأصدقها أربعين ألفاً.
قال أبو عمر بن عبد البر: قال عمر لعلي: زوجنيها أبا حسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصد أحد ... .
"سير أعلام النبلاء" (3/501) ، وانظر " الإصابة في تمييز الصحابة " (4 / 119) .
وهذه هي المصاهرة التي تمَّت بين علي وبين الخليفة الراشد عمر رضي الله عنهما , وهذا متفق عليه حتى لا ينكره الشيعة أنفسهم، ولم تحدث بين علي وبين الخلفاء الراشدين إلا هذه المصاهرة.
وأما بين أولاده وأولاد الخلفاء الراشدين: فقد تمَّت كثير من المصاهرات:
فقد تزوج الحسين بن علي رضي الله عنهما حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وأم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق هي أم جعفر الصادق , وأمها هي أسماء بنت عبد الرحمن بنت أبي بكر الصديق، وزوجها هو محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، فكان جعفر الصادق يفتخر ويقول: ولدني أبو بكر مرتين، فهو ينتسب من جهة الأب والأم إلى أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه.
وأما بين علي رضي الله وذريته وبين الصحابة: فهي كثيرة، فقد تزوج علي من أمامة بنت أبي العاص بن الربيع الأموي , وأمها: زينب بنت رسول الله، وتزوج الحسين بن علي رضي الله عنه من عاتكة بنت زيد، وهي بنت عم عمر بن الخطاب، وتزوجت رملة بنت علي بن أبي طالب من معاوية بن مروان بن الحكم الأموي، وتزوجت فاطمة بنت علي بن أبي طالب من عبد الرحمن بن عبد الله المخزومي، وتزوجت سكينة بنت الحسين من مصعب بن الزبير , وفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب تزوجها الحسن المثنى، ثم عبد الله بن عمرو بن عثمان الأموي، وتزوجت أم القاسم بنت الحسن المثنى من مروان بن أبان بن عثمان الأموي.
ولمزيد من الفائدة انظر كتاب " الأسماء والمصاهرات بين أهل البيت والصحابة رضوان الله عليهم" لأبي معاذ السيد بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي.
وهذه المصاهرات تدل قطعا على روابط الصلة، والمحبة، والتواد، والتراحم بين آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الصحابة الأجلاء , ولا التفات إلى ما تزعمه الرافضة من محاولة إبراز شقاق، وخلاف , وتقطع لأواصر الأخوَّة بينهم، وهم على ما وصفهم ربهم تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح/29.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يقول: (وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِى) رواه البخاري (3508) .
فالعداء المزعوم بين الصحابة وأهل بيت النبوة لا وجود له، والصحابة رضي الله عنهم أعظم وأجل من ذلك، ولكن الكذب والنفاق هو دين الشيعة الذي به يتمسكون.
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (125890) .
نسأل الله تعالى أن يحشرنا مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار ويجمعنا بهم في جنات النعيم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/113)
هل كان لحليمة السعدية خصوصية معينة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كان للسيدة حليمة خصوصية معينة لأنها كانت ترضع النبي صلى الله عليه وسلم وهل أسلمت حليمة بعد ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حليمة السعدية مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلف العلماء في إسلامها، وكأن ابن القيم رحمه الله توقف في ذلك، فقد قال في "زاد المعاد" (1/81) " واختلف في إسلام أبويه [يعني: النبي صلى الله عليه وسلم] من الرضاعة، فالله أعلم " انتهى.
ولكن جزم كثير من الحفاظ بإسلامها وعدوها من الصحابة، فقد ذكرها الحافظ في "الإصابة" (7/584) وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/85) ، وقال ابن عبد البر:
" روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنها عبد الله بن جعفر " انتهى.
قال الألباني:
" يستبعد جدا أن يدرك عبد الله بن جعفر حليمة مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عبد الله ابن عشر سنين، وهي وإن لم يذكروا لها وفاة فمن المفروض عادة أنها توفيت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم " انتهى
"دفاع عن الحديث النبوي" (ص/39) .
وفي "الأعلام" للزركلي (2 / 271) :
" وقدمت مع زوجها بعد النبوة فأسلما " انتهى.
وقال ابن الجوزي:
" قدمت عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت، وأسلم زوجها الحارث بن عبد العزى " انتهى.
"صفة الصفوة" (1 / 62) .
وأما قول السائلة: هل كان للسيدة حليمة خصوصية معينة لأنها كانت ترضع النبي صلى الله عليه وسلم؟
فلا شك أن إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم من تفضُّل الله عليها وهي منقبة عظيمة لها، وقد حصل لها من الخير والبركة بمقدمه صلى الله عليه وسلم عليها ما هو مشهور معلوم.
وقال ابن كثير:
" والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلّت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير، ثم عادت على هوازن بكمالهم فواضلُه حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر.
فمنّوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم وأحسن إليهم " انتهى.
"السيرة النبوية" (1/233) .
روى البيهقي (18536) بسند حسن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَنَا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلاَءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.
وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا فِى الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالاَتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللاَّتِى كُنَّ يَكْفُلْنَكَ وَذَكَرَ كَلاَمًا وَأَبْيَاتًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا مَا كَانَ لِى وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا وَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا سَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ) . فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ الظُّهْرَ قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ) . وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
راجع: "صحيح السيرة" للألباني (ص/22) .
وقال ابن كثير في "السيرة النبوية" (1/234) :
" وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية، وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاما وأناسي كثيرا، حتى قال أبو الحسين بن فارس: فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ: خمسمائة ألف ألف درهم.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟ "
انتهى.
فهذه الخصوصية، وهذه البركة، إنما هي بسبب رضاعه وحضانته صلى الله عليه وسلم.
ولكن.. لا نعلم من الأحاديث شيئاً خاصاً يدل على فضلها ومنقبتها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/114)
تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم وتكفينه والصلاة عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف غُسل النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كان تكفينه والصلاة عليه ودفنه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الرسول صلى الله عليه وسلم غُسل في ثيابه، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما اختلفوا هل يجردونه أم لا؟ سمعوا منادياً من داخل البيت يقول: غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم في ثيابه، فصبوا الماء عليه وغسلوه في ثيابه عليه الصلاة والسلام، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ـ يعني من قطن ـ ليس فيها قميص ولا عمامة، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، ثم صلى عليه الناس عليه الصلاة والسلام فرادى، وما أمَّهم عليه إمام، بل صلى عليه الناس، الكل يدخل ويصلي عليه في المسجد عليه الصلاة والسلام" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/350) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/115)
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[جاء في سورة النجم أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قد رأى سيدنا جبريل مرتين، فما هي المرتان؟ وهل كانت المرة الأولى في الأفق الأعلى في أول نزول الوحي، والثانية في سدرة المنتهى؟ وإذا كان وقعت رؤية الروح الأمين مرتين، فكيف نفسر سورة المدثر، بأنه رأى الروح الأمين جالسا على كرسي بين السماء والأرض؟ لعلها لم تكن هذه الهيئة هي هيئة سيدنا جبريل الحقيقية! والصورة التي تصورها الآيات من 5 إلى 12 في سورة النجم تصور سيدنا جبريل بأنه جالس ويملأ الأفق، ثم يقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل فهمي للآية هكذا صحيح؟ أم أن المرة الأولى حين نزل الوحي كانت قبل بلوغ الأفق الأعلى. أنا طالب لعلم التفسير، وأريد ردا على هذا السؤال.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي تقرره الأدلة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها مرتين اثنتين فقط، وقد عد السيوطي رحمه الله هذا الأمر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما في " الخصائص الكبرى " (1/197) ، وهاتان الرؤيتان هما:
الرؤية الأولى: كانت في الأرض في بداية الوحي، ونزلت عليه بعدها سورة المدثر.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ – أي انقطاع - الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – إلى – والرجز فَاهْجُر) رواه البخاري (4641) ومسلم (161) .
وهذه الرؤية هي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) التكوير/23.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"يعني: ولقد رأى محمدٌ جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، (بِالأفُقِ الْمُبِينِ) أي: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء (موضع بمكة) ، وهي المذكورة في قوله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) النجم/5 –10، كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريره، والدليلُ أن المرادَ بذلك جبريل عليه السلام.
والظاهر- والله أعلم - أن هذه السورة – يعني سورة التكوير - نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية، وهي الأولى.
وأما الثانية وهي المذكورة في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) النجم: 13 -16، فتلك إنما ذكرت في سورة " النجم "، وقد نزلت بعد سورة الإسراء " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (8/339) .
والرؤية الثانية: كانت في السماء، ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى.
وقد نصت الآية في سورة النجم على الرؤية الثانية، وأشارت إلى الرؤية الأولى، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) النجم/13-14.
قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: رأى جبريل له ستمائة جناح.
رواه البخاري (3232) ومسلم (174) .
قال النووي رحمه الله:
"وهكذا قاله أيضا أكثر العلماء، قال الواحدي: قال أكثر العلماء: المراد رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها" انتهى.
"شرح النووي على مسلم" (3/7) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"هذه الرؤية – يعني الأولى - لجبريل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح.
ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء" انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (7/445) .
ولم يثبت وقوع رؤية ثالثة حقيقية لجبريل عليه السلام، وقد قالت عائشة رضي الله عنها:
(وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ) رواه البخاري (4855) ، وهو عند الإمام مسلم (177) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/116)
كيف كان يكتسب النبي صلى الله عليه وسلم قوته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أرغب في معرفة كيفية اكتساب النبي صلى الله عليه وسلم قُوته؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من عمل يده، فقد اشتغل برعي الأغنام في أول عمره.
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ) ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) .
رواه البخاري (2143) .
والقراريط: جزء من الدينار، أو الدرهم.
وكذلك عمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالتجارة مع عمِّه أبي طالب , وكذلك عمل لخديجة رضي الله عنها، كما هو مشهور في السيرة.
ثم كفاه الله بعد ذلك بما أحل له من الفيء، والغنيمة، وهو أشرف المكاسب.
والفيء: ما أُخذ من الكفار بدون قتال.
والغنيمة: ما أخذ من الكفار بقتال.
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي) رواه أحمد (9/126) وصححه العراقي في " تخريج إحياء علوم الدين " (2 / 352) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (5142) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وفي الحديث إشارة إلى فضل الرمح، وإلى حل الغنائم لهذه الأمة، وإلى أن رزق النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها لا في غيرها من المكاسب، ولهذا قال بعض العلماء: إنها أفضل المكاسب" انتهى.
" فتح الباري " (6 / 98) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/117)
الأسباب الواردة في هبة سودة ليلتها لعائشة وبيان الراجح منها
[السُّؤَالُ]
ـ[ذُكر أن النبي صلى الله عليه عرض على " سودة بنت زمعة " الطلاق عندما كبرت في العمر، ولكنها رفضت، ومن ثَمَّ أعطت يومها لعائشة رضي الله عنها. يبدو لي أن هذا الفعل على إطلاقه هكذا لا يمكن أن يكون صدر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنه لا بد من أن يكون هناك خلفية لهذه القصة، وهو الأمر الذي أريد أن تشرحوه لي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ثبت في الصحيحين أن أم المؤمنين " سودة بنت زمعة " رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله، وهذا المقدار لا شك فيه من حيث الثبوت، ولكن ما هو سبب هذا الفعل من أم المؤمنين سودة رضي الله؟ جاء ذلك على وجوه متعددة:
1. قيل: إن ذلك كان بعد تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لها.
2. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم همَّ بتطليقها.
3. وقيل: إنها ظنَّت أنه سيطلقها، ولذا تنازلت عن ليلتها لعائشة؛ لتبقى في عصمته صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وتكون زوجة له في الآخرة، فقبل منها ذلك صلى الله عليه وسلم.
4. وقيل: إنها أرادات بتلك الهبة رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانت تعلم محبته لعائشة رضي الله عنها، وهذان السببان هما أصح ما ورد من الأسباب لذلك الفعل منها رضي الله عنها.
أ. أما ما ورد أنها رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة بعد أن طلقها النبي صلى الله عليه وسلم: فهي رواية ضعيفة.
قال ابن الملقِّن – رحمه الله -:
وَهَذِه رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه: " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طلَّق سودةَ، فلمَّا خرج إِلَى الصَّلَاة أمسكتْهُ بِثَوْبِهِ، فقالتْ: مَا لي فِي الرِّجال حَاجَة، وَلَكِنِّي أُرِيد أَن أُحْشَرَ فِي أَزوَاجك، قَالَ: فراجَعَهَا، وَجعل يَوْمهَا لعَائِشَة، فَكَانَ يِقَسْم لَهَا بيومها، وَيَوْم سَوْدَة ".
وَهَذَا مَعَ إرْسَاله: فِيهِ أَحْمد العطاردي، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ ابْن عدي: رَأَيْتهمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضعفه، وَقَالَ مُطيَّن: كَانَ يكذب.
" البدر المنير " (8 / 48) .
وكذبه رحمه الله ليس في الحديث، وإلا كان حديثه موضوعاً، وقد بيَّنه الإمام الذهبي رحمه الله فقال إنه كذب في لهجته، لا في روايته.
قال رحمه الله:
قُلْت: يَعنِي فِي لَهْجَتِهِ، لاَ أَنَّه يَكْذِبُ في الحَديثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَد مِنهُ، وَلاَ تَفَرَّدَ بِشَيْءٍ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّهُ صَدوقٌ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ: أَنَّه رَوَى أَوْرَاقاً مِنَ " المَغَازِي " بِنُزُولٍ، عَن أَبِيهِ، عَن يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ، وَقَد أَثنَى عَلَيهِ الخَطِيبُ، وَقَوَّاهُ، وَاحتَجَّ بِهِ البَيْهَقِيُّ فِي تَصَانِيْفِهِ.
" سير أعلام النبلاء " (25 / 55) .
وثمة رواية أخرى نحوها قال عنها الحافظ ابن كثير في " التفسير " (2 / 427) : غريب، مرسل.
ب. وأما القول بأن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنهما لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم بطلاق سودة: فلم نره في حديث، بل كان فهماً من بعض المفسرين، والعلماء، ومن ذلك:
قال الماوردي – رحمه الله – في بيان سبب نزول قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) -:
أحدهما: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همَّ بطلاق سودة بنت زمعة، فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها، فنزلت هذه الآية فيها، وهذا قول السدِّي.
" تفسير الماوردى " (1 / 533) .
ج. وأما ما ورد أنها رضي الله عنها خشيت من تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لها فقد ثبت في أحاديث صحيحة:
عَنْ عروة بن الزبير قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ، وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، قَالَتْ: نَقُولُ: فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا - أُرَاهُ قَالَ -: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً) .
رواه أبو داود (2135) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: " لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) .
رواه الترمذي (3040) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
د. وأما ما ورد أن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها ساعية لرضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت ـ أيضا ـ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: " غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري (2453) .
هذه الآثار واضحة من كلام عائشة رضي الله عنها أن " سودة " إنما خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم بسبب كبر سنِّها، وليس أنه باشر طلاقها فعلاً، وما ورد أنه فعل ذلك: مرسل ضعيف لا يصح، ولم يرد أنه همَّ بطلاقها لأجل كبر سنِّها.
وأمر آخر: أن النبي صلى الله عليه لم يتزوجها أصلاً من أجل صغر سنِّها، ولا من أجل الشهوة، فقد كانت كبيرةً في السنِّ حين تزوجها، وكل نسائه لمَّا تزوجهن كنَّ ثيبات، وذوات أولاد، إلا عائشة رضي الله عنها، فلم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب شهوة يبحث عن أبكار وصغيرات ليتزوجهن، ثم إن كبرن طلَّقهن، وكل من علم شيئا من سيرته وحاله: قطع بذلك، ونزهه عن إفك الأفاكين.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: (إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ وَأَهْدَاهُ وَأَتْقَاهُ) .
رواه ابن ماجة في مقدمة سننه (20) ، وقال البوصيري: "هذا إسناد صحيح، ورجاله محتج بهم في الصحيحين". انتهى. "مصباح الزجاجة" (1/47) .
وروي ذلك ـ أيضا ـ عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
قال السندي رحمه الله: " أَيْ الَّذِي هُوَ أَوْفَق بِهِ مِنْ غَيْره، وَأَهْدَى وَأَلْيَق بِكَمَالِ هُدَاهُ، وَأَتْقَاهُ: أَيْ وَأَنْسَب بِكَمَالِ تَقْوَاهُ " انتهى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/118)
الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته ولم يروه يسمون "المخضرمون"
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يُسَمَّى الناس الذين كانوا أحياء في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلموا لكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من لم يتشرف بلقيا النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة فليس من الصحابة، ولذلك فقد عد المحدثون جميع من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يروه من التابعين، وأطلقوا عليهم اسم " المخضرمون من التابعين ". لأنهم أدركوا الجاهلية والإسلام.
قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله:
" فأما المخضرمون من التابعين ـ هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست لهم صحبة ـ فهم: أبو رجاء العطاردي، وأبو وائل الأسدي، وسويد بن غَفَلَة، وعثمان النهدي، وغيرهم من التابعين " انتهى.
" معرفة علوم الحديث " (ص/44) .
وقال الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله:
" المخضرمون من التابعين: هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرَم - بفتح الراء - كأنه خُضْرِم: أي قُطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم (مسلم) فبلغ بهم عشرين نفسا منهم:
أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وعبد خير بن يزيد الخَيْوَانِي، وأبو عثمان النهدي، وعبد الرحمن بن مل، وأبو الحَلَال العَتَكي ربيعة بن زرارة " انتهى.
" المقدمة " (179)
والمخضرم مأخوذ من الشيء المتردد بين أمرين.
قال الحافظ العراقي رحمه الله:
" المخضرم متردد بين الصحابة لإدراكه زمن الجاهلية والإسلام، وبين التابعين لعدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متردد بين أمرين " انتهى باختصار.
" التقييد والإيضاح " (ص/323)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/119)
الحكمة من تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نساء
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من النساء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لله الحكمة البالغة، ومن حكمته: أنه سبحانه أباح للرجال في الشرائع السابقة وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع في عصمته أكثر من زوجة، فلم يكن تعدد الزوجات خاصا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان ليعقوب عليه الصلاة والسلام زوجتان، وجمع سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام بين مائة امرأة إلا واحدة، وطاف عليهن في ليلة واحدة؛ رجاء أن يرزقه الله من كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله.
وليس هذا بدعا في التشريع، ولا مخالفا للعقل، ولا لمقتضى الفطرة، بل هو مقتضى الحكمة، فإن النساء أكثر من الرجال حسب ما دل عليه الإحصاء المستمر، وإن الرجل قد يكون لديه من القوة ما يدعوه إلى أن يتزوج أكثر من واحدة لقضاء وطره في الحلال بدلا من قضائه في الحرام، أو كبت نفسه، وقد يعتري المرأة من الأمراض أو الموانع؛ كالحيض والنفاس، ما يحول بين الرجل وبين قضاء وطره معها، فيحتاج إلى أن يكون لديه زوجة أخرى يقضي معها وطره بدلا من الكبت، أو ارتكاب الفاحشة، وإذا كان تعدد الزوجات مباحا ومستساغا عقلا وفطرة وشرعا، وقد وجد العمل به في الأنبياء السابقين، وقد توجبه الضرورة، أو تستدعيه الحاجة أحيانا، فلا عجب أن يقع ذلك من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهناك حكم أخرى لجمعه بين زوجات، ذكرها العلماء،
منها: توثيق العلاقات بينه وبين بعض القبائل، وتقوية الروابط عسى أن يعود ذلك على الإسلام بالقوة، ويساعد على نشره؛ لما في المصاهرة من زيادة الألفة، وتأكيد أواصر المحبة والإخاء.
ومنها: إيواء بعض الأرامل وتعويضهن خيرا مما فقدن، فإن في ذلك تطييبا للخواطر، وجبرا للمصائب، وشرع سنة للأمة في نهج سبيل الإحسان إلى من أصيب أزواجهن في الجهاد ونحوه.
ومنها: رجاء زيادة النسل؛ مسايرة للفطرة، وتكثيرا لسواد الأمة، ودعما لها بمن يؤمل أن ينهض بها في نصر الدين ونشره.
ومنها: تكثير المعلمات والموجهات للأمة مما تعلمنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمنه من سيرته الداخلية.
وليس الداعي إلى جمعه صلى الله عليه وسلم مجرد الشهوة؛ لما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا ولا صغيرة إلا عائشة رضي الله عنها وبقية نسائه ثيبات، ولو كانت شهوته تحكمه، والغريزة الجنسية هي التي تدفعه إلى كثرة الزواج وتصرفه- لتخير الأبكار الصغيرات، لإشباع غريزته، وخاصة بعد أن هاجر وفتحت الفتوح، وقامت دولة الإسلام، وقويت شوكة المسلمين، وكثر سوادهم، ومع رغبة كل أسرة في أن يصاهرها، وحبها أن يتزوج منها، ولكنه لم يفعل، إنما كان يتزوج لمناسبات كريمة، ودواع سامية، يعرفها من تتبع ظروف زواجه بكل واحدة من نسائه.
وأيضا: لو كان شهوانيا لعرف ذلك في سيرته أيام شبابه وقوته يوم لم يكن عنده إلا زوجته الكريمة خديجة بنت خويلد وهي تكبره سنا، ولعرف عنه الانحراف والجور في قسمه بين نسائه وهن متفاوتات في السن والجمال، ولكنه لم يعرف عنه إلا كمال العفة والأمانة في عرضه وصيانته لنفسه، وحفظه لفرجه في شبابه وكبر سنه، مما يدل على كمال نزاهته، وسمو خلقه، واستقامته في جميع شؤونه، حتى عرف بذلك، واشتهر بين أعدائه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود، الشيخ عبد الله بن غديان.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (19/171-173) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/120)
من الذي نقض صلح الحديبية؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[ي عن صلح الحديبية، من الذي نقض العهد في هذا الصلح؟ لأنه دار بيني وبين أحد النصارى نقاش حول ذلك، فقال إن الذي نقض العهد هم المسلمون، حيث يقول إن المسلمين كانوا على تعاهد مع القبائل الوثنية آنذاك، وأن قريشا أتت لحرب بعض هؤلاء القبائل فقام المسلمون بمساعدة هؤلاء القبائل، فخرقوا بذلك المعاهدة التي كانت بينهم وبين قريش، فهل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ملخص ما حدث: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة ومعه ألف وأربعمائة، متوجهًا إلى مكة يريد العمرة، فلما كان بذي الحُلَيفة ـ ميقات أهل المدينة ـ قَلَّد الهَدْي وأشْعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عينًا له من خُزاعة يخبره عن قريش، فلما كان بعُسْفان أتاه عينه وأخبره أن قريشًا قد جمعوا له جموعًا، وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: خلأت القصواء، خلأت القصواء [أي: حرنت وأبت السير] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) ثم قال: (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا عطيتهم إياها) ثم زجرها فوثبت به، فعدل بها حتى نزل بأقصى الحديبية على حوض قليل الماء، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فتمضمض في ماء ومج فيه، وألقى فيه سهمًا من كنانته، فلم يزل يجيش لهم بالرِّي حتى صدروا عنه.
وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: (أخبرهم أنا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا عمّارًا، وادعهم إلى الإسلام) ، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش، فبلّغ الرسالة، وقد أجاره أحد بني عمه، وحمله على فرس حتى دخل مكة.
ثم إنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة على أن لا يفروا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان) ، ولما تمت البيعة رجع عثمان إلى المسلمين.
وسارت الرسل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين لأجل الصلح، حتى جاء سهيل بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد سهل لكم من أمركم.
ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش، وهي::
. - وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات
. - من جاء المسلمين من قريش يردّونه، ومن جاء قريشًا من المسلمين لا يلزمون بردّه
- أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلا السيف في القراب والقوس.
- من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
ودخلت قبيلة خُزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بنو بكر في عهد قريش.
وقد كانت الحروب والعداوات بين خزاعة – التي دخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين بني بكر – التي دخلت في عهد قريش - منذ غابر الأزمان , فأضحت كل واحدة في أمن من الأخرى , ولكن حصل غدر من بني بكر , فخرج نوفل بن معاوية في جماعة معه في شهر شعبان للسنة الثامنة من الهجرة فأغاروا على خزاعة ليلاً , وهم على ماء يقال له الوتير , فأصابوا منهم رجالاً , وتناوشوا واقتتلوا , وأعانت قريش بني بكر بالسلاح , بل وقاتل رجال منهم مع بني بكر مستترين بظلمة الليل , حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فقالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم، إلهك! إلهك! فقال: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم , فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم , أفلا تصيبو ثأركم فيه؟!
وانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله في المدينة مستغيثًا ومستنجدًا فقال له عليه السلام: (نصرت يا عمرو بن سالم) .
وسرعان ما أحست قريش بخطئها وغدرها , فخافت من عواقبه الوخيمة , فبعثت قائدها أبا سفيان ليجدد الصلح , لكنه لم يفلح , فعاد أدراجه إلى مكة.
ثم تجهز النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الصحابة بالجهاز , وأعلمهم أنه سائر إلى مكة , ثم تم بعد ذلك الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
والشاهد من هذا كله: أن قريشا لما أعانت بني بكر بالسلاح، وقاتلت معهم خزاعة التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ذلك نقضا للصلح الذي أبرمته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية. وقد علمت قريش ذلك، ومن ثَمّ جاء أبو سفيان ليجدد الصلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من واجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصر المتحالفين معه من خزاعة، كما أن قريشا نصرت، بل وحاربت مع حلفائها من بني بكر.
فهم الغادرون الناقضون العهد، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبعد خلق الله عن تلك النقيصة، وهذه سيرته، وهذه سنته حاضرة بين أيدينا لمن أراد أن يعرف ذلك عنه.
راجع:
- تفسير الطبري (22/239-250)
- تفسير ابن كثير (7/344-360)
- صحيح البخاري (2734)
- سنن أبي داود (2765)
- مسند الإمام أحمد (18449)
- فتح الباري (5/334-350)
- البداية والنهاية (4/317-325)
- سيرة ابن هشام (2/389-397)
- عيون الأثر (2/181-190)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/121)
تحقيق في عمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[بينما أتصفح بعض المنتديات قرأت موضوعا عجيباً وغريباً أريد من له علم في السيرة أن يوضح لي هذا الأمر، وبارك الله فيكم. وخلاصة هذا الموضوع أن بعض الصحفيين انتهى في بحث له إلى الطعن فيما ورد في صحيح البخاري من أن سن عائشة، حين عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم كان ست سنين، وأنه بنى بها وهي بنت تسع سنين. ولم يقنع الباحث بأن يفند ذلك بمنطق الأرقام ومراجعة التواريخ، ولكنه أيضًا نقد سند الروايات التي روي بها أشهر الأحاديث الذي جاء في البخاري ومسلم، وأثبت في الحالتين ذكاءً، وأصاب نجاحًا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
تحديد سن عائشة رضي الله عنها حين عقد النبي صلى الله عليه وسلم عليها بـ (ست سنين) ، وحين بنى بها بـ (تسع سنين) لم يكن اجتهاداً للعلماء حتى ينظر في صوابه من خطئه، وإنما هو نقل تاريخي ثبت بما يؤكد صحته وضرورة التسليم به، وذلك من أوجه:
1- ورد من قول صاحبة الشأن نفسها عائشة رضي الله عنها، وليس من كلام أحد عنها، ولا من وصف مؤرخ أو محدث، بل في سياق حديثها عن نفسها رضي الله عنها حيث قالت:
(تَزَوَّجَنِى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ، فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي فَوَفَى جُمَيْمَةً، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لأَنْهَجُ، حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ)
رواه البخاري (3894) ومسلم (1422) .
2- هذه الرواية عن عائشة رضي الله عنها وردت في أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وهما صحيحا البخاري ومسلم.
3- وقد جاءت عن عائشة رضي الله عنها من طرق عدة، وليس من طريق واحدة فقط كما يدعي بعض الجاهلين:
- فالطريق المشهورة هي من رواية هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، وهي من أصح الروايات، فعروة بن الزبير من أعرف الناس بعائشة، لأنها خالته رحمه الله.
- وطريق أخرى من رواية الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة عند مسلم (1422) .
- وطريق أخرى من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: (تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وبنى بها وهي بنت تسع، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة) رواه مسلم (1422) .
- وطريق أخرى عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة رضي الله عنها. رواه أبو داود (4937) .
وقد جمع فضيلة الشيخ أبو إسحاق الحويني أسماء المتابعين لعروة بن الزبير، وهم: الأسود بن يزيد، والقاسم بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعمرة بنت عبد الرحمن، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب.
كما جمع أسماء المتابعين لهشام بن عروة في رواية هذا الحديث، وهم: ابن شهاب الزهري، وأبو حمزة ميمون مولى عروة.
ثم سمى الرواة عن هشام بن عروة من أهل المدينة، ليعلم القارئ أن هذا الحديث مما حدث به هشام في المدينة أيضا، وهم: أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وابنه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة.
ومن أهل مكة سفيان بن عيينة.
وجرير بن عبد الحميد الضبي من أهل الري.
ومن أهل البصرة: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ووهيب بن خالد وغيرهم.
انظر ذلك في محاضرة ألقاها الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله في تبيين جهالة كاتب المقال الوارد في السؤال، والجواب عليه، وهذا رابطها:
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=86106
والرابط الآتي أيضا:
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=86495
وهذا التعداد كله من أجل دفع شبهة بعض الجاهلين أن هشام بن عروة تفرد بروايته، وعلى فرض التسليم بأن هشاما اختلط في آخر عمره، ولكن الصواب أن هذه التهمة لم يقل بها إلا أبو الحسن بن القطان في " بيان الوهم والإيهام "، وقد أخطأ فيها:
يقول الذهبي رحمه الله:
" هشام بن عروة، أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبداً، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبى صالح اختلطا، وتغيرا، نعم الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسى بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان! ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط، وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين، فهشام شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان، وكذا قول عبد الرحمن بن خراش: كان مالك لا يرضاه، نقم عليه حديثه لأهل العراق " انتهى.
" ميزان الاعتدال " (4/301-302) .
4- كما روى قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي بنت تسع سنين غيرُ عائشة رضي الله عنها، ممن أدركوها وكانوا أعرف بها من غيرهم:
فقد روى الإمام أحمد في " المسند " (6/211) عن محمد بن بشر، قال حدثنا محمد بن عمرو، قال ثنا أبو سلمة ويحيى قالا: (لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله! ألا تزوج. قال: مَن؟ قالت: إن شئت بكراً، وإن شئت ثيباً. قال: فمَن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله عز وجل إليك: عائشة بنت أبي بكر....) وذكر تفاصيل القصة، وفيها أنها كانت بنت ست سنين عند العقد، ثم بنت تسع عند البناء.
5- وهذا الذي تحكيه عائشة عن نفسها، ويحكيه الرواة عنها، هو ما أطبقت عليه المصادر التاريخية التي ترجمت لعائشة رضي الله عنها، ليس بينها اختلاف في ذلك، ولم يكن الأمر فيها محل اجتهاد، فليس بعد كلام المرء عن نفسه اجتهاد لأحد.
6- وقد اتفقت المصادر التاريخية أيضا أن عائشة رضي الله عنها ولدت في الإسلام، بعد المبعث بأربع سنين أو خمس سنين.
يقول الإمام البيهقي رحمه الله – في تعليقه على حديث: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين) -:
" وعائشة رضي الله عنها وُلدت على الإسلام؛ لأن أباها أسلم في ابتداء المبعث، وثابت عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي ابنة ست، وبنى بها وهي ابنة تسع، ومات عنها وهي ابنة ثمان عشرة، لكن أسماء بنت أبي بكر ولدت في الجاهلية ثم أسلمت بإسلام أبيها ... وفيما ذكر أبو عبد الله بن منده حكاية عن ابن أبي الزناد أن أسماء بنت أبي بكر كانت أكبر من عائشة بعشر سنين، وإسلام أم أسماء تأخر، قالت أسماء رضي الله عنها: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة. في حديث ذكرته، وهي قتيلة، مِن بني مالك بن حسل، وليست بأم عائشة، فإن إسلام أسماء بإسلام أبيها دون أمها، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فكأنه كان بالغا حين أسلم أبواه، فلم يتبعهما في الإسلام حتى أسلم بعد مدة طويلة، وكان أسن أولاد أبي بكر " انتهى باختصار.
" السنن الكبرى " (6/203) .
ويقول الذهبي رحمه الله:
" عائشة ممن ولد في الإسلام، وهي أصغر من فاطمة بثماني سنين، وكانت تقول: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (2/139) .
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" ولدت – يعني عائشة – بعد المبعث بأربع سنين أو خمس " انتهى.
" الإصابة " (8/16) .
وعليه يكون عمرها عام الهجرة ثماني سنين أو تسع سنين، وهذا ما يتفق مع حديثها السابق عن نفسها.
7- وقد اتفقت المصادر التاريخية أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وعائشة عمرها (18) سنة، فتكون في أول الهجرة لها (9) سنوات.
8- كما تروي كتب السيرة والتاريخ والتراجم أن عائشة رضي الله عنها ماتت وعمرها (63) سنة، وذلك عام (57هـ) ، فيكون عمرها قبل الهجرة (6) سنوات، فإذا جبرت الكسور – كما هي عادة العرب في حساب السنين - أنهم يجبرون كسور السنة الأولى والأخيرة، فيكون عمرها عام الهجرة (8) سنوات، ويكون عمرها عند زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بعد الهجرة بثمانية أشهر (9) سنوات.
9- وما سبق يتوافق أيضا مع ما ينقله العلماء عن الفرق بين عمر أسماء بنت أبي بكر، وعائشة رضي الله عنها، فقد قال الذهبي رحمه الله: " وكانت – يعني أسماء - أسن من عائشة ببضع عشرة سنة " انتهى. " سير أعلام النبلاء " (2/188) .
وعائشة ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس سنين، وقد قال أبو نعيم في " معجم الصحابة " عن أسماء أنها ولدت: " قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين " انتهى.
فيكون الفرق بين عمر عائشة وأسماء أربع عشرة أو خمس عشرة سنة. وهو قول الذهبي السابق: " كانت – يعني أسماء – أسن من عائشة ببضع عشرة سنة ".
10- ونحن وإن كنا ننقل هذه الأرقام المثبتة في كتب السيرة والتاريخ والتراجم، غير أن اعتمادنا في الأساس على ما ينقل بالسند الصحيح، وليس ما نجده في الكتب منقولاً من غير سند، ولكن هذه النقول كلها جاءت متوافقة مع ما ذكرناه في بداية الجواب من أحاديث بأسانيد صحيحة كالشمس، ولذلك أوردنا ما يؤيدها من كتب التاريخ.
ثانياً:
أما الجواب عن استدلال كاتب المقال المتعدي بما ورد في بعض المراجع أن الفرق بين سن أسماء وعائشة عشر سنين فنقول:
إن ذلك لم يثبت من حيث السند، ولو ثبت سنده فيمكن فهمه بما يتوافق مع الأدلة القطعية السابقة.
أما من حيث السند، فقد ورد ذلك عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أنه قال: (كانت أسماء بنت أبي بكر أكبر من عائشة بعشر سنين) .
وردت هذه الرواية من طريقين عن الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد:
الطريق الأول: رواه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (69/10) قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد المالكي، أنا أحمد بن عبد الواحد السلمي، أنا جدي أبو بكر، أنا أبو محمد بن زبر، نا أحمد بن سعد بن إبراهيم الزهري، نا محمد بن أبي صفوان، نا الأصمعي، عن ابن أبي الزناد قال: فذكره.
والطريق الثاني: رواه ابن عبد البر في " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " (2/616) قال: أخبرنا أحمد بن قاسم، حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا إبراهيم بن موسى بن جميل، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا الأصمعي قال: حدثنا ابن أبي الزناد، قال: قالت أسماء بنت أبي بكر، وكانت أكبر من عائشة بعشر سنين أو نحوها.
وإذا تأمل الباحث المنصف في هذا الأثر ظهر له أن الأخذ بظاهره وهدم جميع ما ثبت من أدلة بخلافه جناية على العلم والتحقيق، وذلك لما يلي:
1- انفراد عبد الرحمن بن أبي الزناد (100هـ - 174هـ) بتحديد الفرق بين عمري أسماء وعائشة رضي الله عنهما بعشر سنين، وأما الأدلة السابقة فهي أدلة كثيرة جاءت عن غير واحد من التابعين، ومعلوم أن الكثرة تقدم على القلة.
2- تضعيف أكثر أهل العلم لعبد الرحمن بن أبي الزناد نفسه: فقد جاء في ترجمته في " تهذيب التهذيب " (6/172) قول الإمام أحمد فيه: مضطرب الحديث. وقول ابن معين: ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث. وقول علي بن المديني: ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون، ورأيت عبد الرحمن - يعنى ابن مهدى - خطط على أحاديث عبد الرحمن بن أبى الزناد، وكان يقول فى حديثه عن مشيختهم، ولقنه البغداديون عن فقهائهم، عدهم، فلان وفلان وفلان. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: لا يحتج بحديثه. وقال أبو أحمد بن عدى: وبعض ما يرويه، لا يتابع عليه.
أما توثيق الترمذي له في سننه تحت حديث رقم: (1755) فهو معارض بالجرح المفسر السابق، وهو مقدم على التعديل، خاصة حين ينفرد عبد الرحمن بن أبي الزناد بكلمة يخالف فيها المعروف في كتب السنة والتاريخ.
3- قوله في رواية ابن عبد البر: (وكانت أكبر من عائشة بعشر سنين أو نحوها) ، وهذه الرواية أصح من رواية ابن عساكر، لأن نصر بن علي الراوي عن الأصمعي في سند ابن عبد البر ثقة حافظ كما في " تهذيب التهذيب " (10/431) ، أما محمد بن أبي صفوان الراوي عن الأصمعي في سند ابن عساكر لم يوثقه أحد.
فقوله في رواية ابن عبد البر (أو نحوها) دليل على أنه لم يضبط التحديد بعشر سنوات، وهذا يضعف روايته، ولا يجيز للباحث المنصف رد الأدلة السابقة لأجل هذا الشك.
4- ثم إن من الممكن التوفيق بين هذه الرواية وباقي الروايات بأن يقال: إن مولد أسماء كان قبل البعثة بست سنوات أو خمس سنوات، وعائشة بعد البعثة بأربع سنوات أو خمس سنوات، ولما توفيت أسماء عام (73هـ) كان عمرها إحدى وتسعين سنة أو اثنتين وتسعين سنة، وهو ما ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (3/380) : " قال ابن أبي الزناد: كانت أكبر من عائشة بعشر سنين. قلت – أي الذهبي -: فعلى هذا يكون عمرها إحدى وتسعين سنة، وأما هشام بن عروة فقال: عاشت مائة سنة ولم يسقط لها سن" انتهى.
5- كما يحتمل أن يقال إن أسماء ولدت قبل البعثة بنحو أربع عشرة سنة – وذلك ما يقرره الكاتب نفسه في مقاله السابق - وكان عمرها عام الهجرة سبعة وعشرين عاما، وعمرها عند وفاتها عام (73هـ) مائة سنة، ليتفق ذلك مع ما اتفقت عليه المصادر التاريخية بالنسبة لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أن وفاتها في العام الذي قتل فيه ابنها عبد الله بن الزبير (73هـ) ، وأنها توفيت وعمرها مائة عام: قال هشام بن عروة عن أبيه: بلغت أسماء مائة سنة لم يسقط لها سن ولم ينكر لها عقل.
وهذه أسماء المراجع التي ذكرت ذلك: " حلية الأولياء " (2/56) ، و" معجم الصحابة " لأبي نعيم الأصبهاني، " الاستيعاب " لابن عبد البر (4/1783) ، " تاريخ دمشق " لابن عساكر (69/8) ، " أسد الغابة " لابن الأثير (7/12) ، " الإصابة " لابن حجر (7/487) ، " تهذيب الكمال " (35/125)
أما كونها ولدت قبل البعثة بعشر سنين فهذا إنما قاله أبو نعيم الأصبهاني، بعبارة يقول فيها:
" كانت – يعني أسماء - أخت عائشة لأبيها، وكانت أسن من عائشة، ولدت قبل التأريخ بسبع وعشرين سنة، وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وولدت ولأبيها الصديق يوم ولدت أحد وعشرون سنة، توفيت أسماء سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير بأيام، ولها مائة سنة وقد ذهب بصرها " انتهى.
فكأن أبا نعيم يقصد أن مدة الفترة المكية بلغت (17) عاما، وهذا قول بعض أهل السيرة، وهو قول ضعيف، ولكن ينبغي التنبه له عند محاولة فهم كلام أبي نعيم.
وانظر في حكمة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رغم فارق السن جواب رقم: (44990) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/122)
الرد على فرية زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة ولها 18 سنة
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت بإحدى الصحف مقالاً بعنوان "صحفي شاب يصحح للأئمة الأعلام خطأ ألف عام" ويتلخص ما ورد بالمقال في النقاط الآتية: 1. قضية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج بأم المؤمنين عائشة في سن السادسة وبني بها في سن التاسعة بناءً علي ما جاء في البخاري هو خطأ والخطأ في تحديد عمر السيدة عائشة رضي الله عنها آنذاك. 2. أنه من خلال بحث المصادر التاريخية (بحسب قول كاتب المقال) تبين أن العمر الحقيقي للسيدة عائشة رضي الله عنها حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان 18 سنة وليس 9 سنين. 3. وأن هذا الخطأ قد فات على جميع علماء الأمة ولم يكتشفه إلا هذا الصحفي. أرجو من فضيلتكم توضيح هذا الأمر لعامة المسلمين وتقديم الرد الشرعي في هذا الشأن.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
جاءت الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي تسع سنين، ومن ذلك:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ [أي: أصابتها حمى] ... فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لَأُنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ. فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ) رواه البخاري (3894) ومسلم (1422) .
وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ [أي: يتخفين] مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي) رواه البخاري (7130) ومسلم (2440) .
وروى أبو داود (4932) عَنْها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ فَقَالَ:مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ فَقَالَ:
مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ قَالَ: وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟! قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ) وصححه الألباني في "آداب الزفاف" (ص203) .
قال الحافظ:
"قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَة فِيهَا [أي: اللعب] لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْر بَالِغ. قُلْت: وَفِي الْجَزْم بِهِ نَظَرٌ لَكِنَّهُ مُحْتَمَل ; لِأَنَّ عَائِشَة كَانَتْ فِي غَزْوَة خَيْبَر بِنْت أَرْبَع عَشْرَة سَنَة إِمَّا أَكْمَلْتهَا أَوْ جَاوَزْتهَا أَوْ قَارَبْتهَا. وَأَمَّا فِي غَزْوَة تَبُوك فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا فَيَتَرَجَّح رِوَايَة مَنْ قَالَ فِي خَيْبَر" انتهى، وخيبر كانت سنة سبع.
وروى مسلم (1422) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَزُفَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَلُعَبُهَا مَعَهَا، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانَ عَشْرَةَ) .
قال النووي:
"الْمُرَاد هَذِهِ اللُّعَب الْمُسَمَّاة بِالْبَنَاتِ [العرائس] الَّتِي تَلْعَب بِهَا الْجَوَارِي الصِّغَار , وَمَعْنَاهُ التَّنْبِيه عَلَى صِغَر سِنّهَا" انتهى.
وفي هذه لرواية قالت: (وأنا بنت سبع سنين) وفي أكثر الروايات: (بنت ست) والجمع بينهما: أنها كان لها ست وكسر، فمرة اقتصرت على السنين، ومرة عَدَّت السنة التي دخلت فيها. أفاده النووي في شرح مسلم.
وقد نقل ابن كثير رحمه الله أن هذا أمر متفق عليه بين العلماء، ولم يُذكر عن أحد منهم خلافه، فقال رحمه الله:
"قوله: (تزوجها وهي ابنة ست سنين، وبنى بها وهي ابنة تسع) مما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في الصحاح وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة" انتهى من "البداية والنهاية" (3 / 161) .
ومن المعلوم أن الإجماع معصوم من الخطأ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فقد روى الترمذي (2167) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1848) .
ثانياً:
كاتب المقال المذكور أوقعه جهله وتعصبه لقوله الباطل في كثير من الكذب والتدليس، يريد بذلك أن ينصر باطله.
فمن ذلك مثلا: ما ذكره عن ابن كثير في البداية والنهاية أنه قال عن الذين سبقوا بإسلامهم: "ومن النساء: أسماء بنت أبي بكر وعائشة وهي صغيرة فكان إسلام هؤلاء في ثلاث سنين"
ولم نقف على هذا الكلام في "البداية والنهاية"، وإنما قال ابن كثير (3/25) : "فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق. ومن الغلمان: علي بن أبي طالب. ومن النساء: خديجة بنت خويلد" انتهى. ولم يذكر أسماء ولا عائشة رضي الله عنهما.
وعائشة رضي الله عنها إنما ولدت بعد النبوة بنحو أربع سنين.
ومن ذلك أيضاً قوله:
" وكما ذكرت جميع المصادر بلا اختلاف أنها - يعني أسماء - أكبر من عائشة بـ10 سنوات ".
والأمر ليس كذلك، فقد ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (3/522) : "أن أسماء كانت أسن من عائشة ببضع عشر سنة" انتهى.
والبضع في العدد ما بين ثلاثة والعشر.
ثالثا:
ليس في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وهي تسع سنوات شيء يستنكر، فمن المعلوم أن سن بلوغ المرأة يختلف حسب العرق وحسب المناخ، ففي المناطق الحارة تبلغ الجارية مبكرا، بينما في المناطق القطبية الباردة قد يتأخر البلوغ حتى سن 21 سنة.
قال الترمذي: قالت عائشة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
"سنن الترمذي" (2/409) .
وقال الإمام الشافعي: " رأيت باليمن بنات تسع يحضن كثيرا ".
"سير أعلام النبلاء" (10 / 91) .
وروى البيهقي (1588) عَنِ الشَّافِعِىِّ قَالَ: " أَعْجَلُ مَنْ سَمِعْتُ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ يَحِضْنَ نِسَاءٌ بِتِهَامَةَ يَحِضْنَ لِتِسْعِ سِنِينَ ".
وقَالَ الشَّافِعِىُّ أيضا: " رَأَيْتُ بِصَنْعَاءَ جَدَّةً بِنْتَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، حَاضَتْ ابْنَةَ تِسْعٍ وَوَلَدَتْ ابْنَةَ عَشْرٍ، وَحَاضَتِ الْبِنْتُ ابْنَةَ تِسْعٍ وَوَلَدَتْ ابْنَةَ عَشْرٍ ".
"السنن الكبرى للبيهقي" (1 / 319) .
فعلى هذا؛ فقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وهي بالغة أو قد قاربت البلوغ.
ولمزيد الفائدة راجع السؤال رقم (44990)
والواجب على من يتكلم في علم من العلوم أن يكون كلامه بعلم وإنصاف، بعيداً عن الجهل والتعصب واتباع الهوى.
وحسب امرئ من الشر أن يخترع قولا لم يقل به أحد من العلماء على مدار مئات السنين، وهذا دليل على خطأ هذا القول، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فإنه يكون خطأ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (21/291) .
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/123)
نشيد: " طلع البدر علينا "
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة النشيد المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم " طلع البدر علينا "، وهل يجوز ترديده؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ورد إنشاد هذه الأبيات - ذات المعاني الصادقة – في كتب السيرة، وفي بعض كتب الأثر.
أما المأثور من ذلك فهو ما يرويه عبيد الله بن محمد بن عائشة رحمه الله (228هـ) قال:
"لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع "
رواه أبو الحسن الخلعي في "الفوائد" (2/59) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (رقم/752، 2019) ، وعزاه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/261) لأبي سعيد في "شرف المصطفى": جميعهم من طريق العلامة الأخباري الثقة أبو خليفة الفضل بن الحباب (ت 305هـ) ، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (14/7) ، عن ابن عائشة به.
وهذا إسناد ضعيف، فيه انقطاع كبير؛ فإن ابن عائشة متأخر الوفاة، وهو من شيوخ الإمام أحمد وأبي داود، فكيف يروي حدثا من أحداث السيرة النبوية من غير إسناد.
ولهذا قال الحافظ العراقي رحمه الله: " معضل " انتهى.
"تخريج الإحياء" (1/571) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وهو سند معضل " انتهى.
"فتح الباري" (7/262) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: " وهذا إسناد ضعيف، رجاله ثقات، لكنه معضل، سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر، فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله ... فالقصة برمتها غير ثابتة " انتهى باختصار.
"السلسلة الضعيفة" (2/63) .
وقد أعل العلامة ابنُ القيم أصل القصة التي تروي أن ذلك كان عند مقدمه من مكة إلى المدينة، فقال: " هو وهم ظاهر؛ لأن " ثنيات الوادع " إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام " انتهى.
"زاد المعاد" (3/551) .
ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك " انتهى.
"فتح الباري" (7/262) .
غير أن هذه العلة غير مسلمة، فقد اشتهر عند رواة هذه القصة أنها حصلت حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كما قال الإمام البيهقي رحمه الله: " هذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة، لا أنه لما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك " انتهى.
"دلائل النبوة".
وقد ذكر كثير من المؤرخين أن ثنية الوداع من جهة مكة، وأنها قد تكون هناك ثنية أخرى من جهة الشام بالاسم نفسه.
كما ذكر آخرون أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة مر بدور الانصار، حتى مر ببني ساعدة، ودارهم شامي المدينة قرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها.
انظر: "معجم البلدان" ياقوت الحموي (2/86) ، "طرح التثريب" للعراقي (7/239-240) ، "سبل الهدى والرشاد" للصالحي الشامي (3/277) ، و"الأثر المقتفى لقصة هجرة المصطفى" أبو تراب الظاهري (ص/155-162) .
ثانيا:
ضعف سند هذه الأبيات لا يعني عدم جواز ذكرها أو حكايتها أو إنشادها، فمعانيها صحيحة حسنة، وشهرتها بين المسلمين شهرة ذائعة واسعة، وليس فيها شيء منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُتشدد في إسنادها، إنما هي من كلام الصحابة رضوان الله عليهم.
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى التساهل والتخفيف في مرويات السيرة، والقصص، وأقوال الصحابة والتابعين التي لا ينبني عليها عقيدة أو شريعة، جاء في "شرح علل الترمذي" (1/372) للحافظ ابن رجب رحمه الله: " يقول سفيان الثوري رحمه الله:
لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ.
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي نا عبدة قال:
قيل لابن المبارك - وروى عن رجل حديثاً - فقيل: هذا رجل ضعيف! فقال: يحتمل أن يروي عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء.
قلت لعبدة: مثل أي شئ كان؟ قال: في أدب في موعظة في زهد.
وقال ابن معين في موسى بن عيينة: يُكتب من حديثه الرقاق.
وقال ابن عيينة: لا تسمعوا من بقية – اسم واحد من الرواة - ما كان في سُنَّة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره.
وقال أحمد في ابن إسحاق: يكتب عنه المغازي وشبهها.
وقال ابن معين في زيادٍ البكائي: لا بأس في المغازي، وأما في غيرها فلا " انتهى.
ولا شك أن هذه الأبيات مِن أَوْلى ما يستحق التسمح في حكايته وروايته.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري:
" أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير، والخطر الناجم عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث، بل تم التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع.. لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة، آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة " انتهى.
"دراسات تاريخية" (ص/27) .
فالخلاصة أنه لا حرج في إنشاد هذه الأبيات، والاستئناس بها، وحفظها، وتعليمها الأولاد الصغار، وإن لم تثبت بالأسانيد الصحيحة، فإن مثل هذه الأحداث تكفي روايتها وشهرتها بين أهل العلم، ثم إن القصة لم تتضمن نسبة هذه الأبيات إلى معين من الصحابة، وإنما تنسبها للنساء والصبيان والولائد [يعني: الجواري الصغار] ؛ فهذا أسهل لشأنها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/124)
استشكل تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه لابني أبي لهب وهو عدو الله!
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الحكمة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم زوَّج ابنتيه أبناء عدو الله أبي لهب؟ ألم يكن أبو لهب عدواً للإسلام والمسلمين؟ ألم يكن ابناه كافرين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
بنات الرسول صلى الله عليه وسلم هنَّ: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهنَّ، وهكذا هو ترتيبهنَّ.
قال أبو عمر بن عبد البر – رحمه الله -:
" والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء " انتهى.
" الاستيعاب " (ص 612) .
فأمَّا " رقية ": فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد زوَّجها من " عتبة بن أبي لهب ".
وأما " أم كلثوم " - وهي أصغر من رقية -: فقد زوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم من " عتيبة بن أبي لهب ".
والذي جاء في " السير " أنهما طلقا بنتي النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخولهما عليهما، وذلك بأمرٍ من عدو الله أبي لهب، وكان ذلك بعد نزول سورة " المسد ".
قال ابن عبد البر – رحمه الله -: " وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وكانت أختها أم كلثوم تحت عتبة بن أبي لهب، فلما نزلت: (تبت يدا أبي لهب) : قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد، وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما " انتهى.
" الاستيعاب في معرفة الأصحاب " (ص 594) .
ثم إن " عثمان بن عفان " تزوج " رقية " بمكة، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له هناك ولدًا فسماه: " عبد اللَّه "، وكان عثمان يُكنى به.
ولما سار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى " بدر " في السنة الأولى للهجرة: كانت ابنته " رقية " مريضة بالحصبة، فتخلَّف عليها عثمان بأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم إنها ماتت بسببها في العام نفسه.
ثم زوَّج النبي صلى اللَّه عليه وسلم عثمان رضي الله عنه " أم كلثوم "، وكان نكاحه إياها في ربيع الأول من سنة ثلاث، وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة، ولم تلد منه ولداً، وتوفيت سنة تسع، وصلَّى عليها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
ثانياً:
أما استشكال تزوج ابني أبي لهب من بنات النبي صلى الله عليه وسلم: فليس له وجه؛ وذلك أن تزوج المسلم بكافرة، وتزويج المسلم لكافر: لم يكن محرما أول الأمر، وإنما نزل تحريم ذلك متأخراً، ولما أنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الممتحنة/ 10، فارق المسلمون نساءهم الكافرات.
وتأصل المنع من ابتداء نكاح الكافرات في قوله تعالى (وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ) البقرة/ 221، ولم يُبح لهم من الكافرات، إلا نساء أهل الكتاب من اليهوديات والنصرانيات فقط، وقد وردت تلك الإباحة فيما بعد، في قوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة/ 5.
قال القرطبي – رحمه الله -:
" وكان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك في هذه الآية، فطلق عمرُ بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين:
قريبة بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة.
وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية - أم عبد الله بن المغيرة -؛ فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما " انتهى.
" تفسير القرطبي " (18 / 65) .
فالخلاصة:
1. كان زواج المسلم بالكافرة، والمسلمة بالكافر مباحاً في أول الأمر.
2. كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم لابني أبي لهب في أول الدعوة.
3. لمَّا أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة: اغتاظ أبو لهب فأساء للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن العداوة له، فأنزل الله في حقه وحق زوجته سورة (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ، فطلب أبو لهب وأم جميل من ابنيهما تطليق بنتي النبي صلى الله عليه وسلم.
4. كان الطلاق قبل الدخول؛ غيظاً لأبي لهب؛ وإكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
5. كانت " زينب " ابنة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي العاص، وفرَّق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم بسبب كفره، ثم لما أسلم: أرجع له النبي صلى الله عليه وسلم زوجته.
6. كان التزوج من كافرات، وتزويج الكفار أمراً عامّاً، فليس ثمة نص يمنع أحداً منه، فلم يكن مجال لاستشكال الأمر عند من يعلم هذا.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/125)
لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد التمتع بما أحل الله له
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تزوج النبي صلى الله عليه وسلم لغرضين: أحدهما: مصلحة الدعوة، والثاني: التمشي مع ما فطره الله عليه من التمتع بما أحل الله له؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَشَر، أكرمه الله تعالى بالنبوة والرسالة إلى الناس كافة، وأن اتصافه بما تقتضيه الطبيعة البشرية من الحاجة إلى الأكل، والشرب، والنوم، والبول، والغائط ومدافعة البرد، والحر، والعدو، ومن التمتع بالنكاح، وأطايب المأكول والمشروب وغيرها من مقتضيات الطبيعة البشرية لا يقدح في نبوته ورسالته، بل قد قال الله له: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الأنعام/50، وقال هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) .
وانتفاء علم الغيب، وطرو النسيان على العلم قصور في مرتبة العلم من حيث هو علم، لكن لما كان من طبيعة البشر الذي خلقه الله ضعيفاً في جميع أموره، لم يكن ذلك قصوراً في مقام النبوة، ونقصاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن شهوة النكاح من طبيعة الإنسان، فكمالها فيه من كمال طبيعته، وقوتها فيه تدل على سلامة البنية واستقامة الطبيعة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كنا نتحدث أنه ـ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم ـ أعطي قوة ثلاثين) .
يعني على النساء، وهذا والله أعلم، ليتمكن من إدراك ما أحل الله منهن بلا حصر ولا مهر، ولا ولي، فيقوم بحقوقهن، ويحصل بكثرتهن ما حصل من المصالح العظيمة الخاصة بهن والعامة للأمة جميعاً، ولولا هذه القوة التي أمده الله بها ما كان يدرك أن يتزوج بكل هذا العدد، أو يقوم بحقهن من الإحصان والعشرة.
ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة والتمشي مع ما تقتضيه الفطرة بل الطبيعة لم يكن في ذلك قصور في مقام النبوة، ولا نقص في حقه صلى الله عليه وسلم، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين) . بل قد قال الله له: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) الأحزاب/51. لكننا لا نعلم حتى الآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة، ولو كان كذلك لاختار الأبكار الباهرات جمالاً، الشابات سنّاً، كما قال لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج ثيباً، قال: (فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) ؟ . وفي رواية: (وتضاحكها وتضاحكك) . وفي رواية: (مالك وللعذارى ولعابها) ، رواه البخاري، وإنما كان زواجه صلى الله عليه وسلم إما تأليفاً، أو تشريفاً، أو جبراً أو مكافأة، أو غير ذلك من المقاصد العظيمة. وقد أجملها في "فتح الباري" (9/115) حيث قال: "والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: الزيادة في تألفهم لذلك.
رابعها: الزيادة في التكليف، حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ.
خامسها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
سابعها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة. فقد تزوج أم حبيبة وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكملَ الخَلْق في خُلُقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: ما تقدم مبسوطاً من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال. وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم.
تاسعها وعاشرها: ما تقدم عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن" اهـ.
قلت (ابن عثيمين) : الثامنة حاصلة لأن الله أعطاه قوة ثلاثين رجلاً كما سبق.
وثَمَّ وجه حادي عشر: وهو إظهار كمال عدله في معاملتهن، لتتأسى به الأمة في ذلك.
وثاني عشر: كثرة انتشار الشريعة، فإن انتشارها من عدد أكثر من انتشارها من واحدة.
وثالث عشر: جبر قلب من فات شرفها، كما في صفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق.
ورابع عشر: تقرير الحكم الشرعي وانتشال العقيدة الفاسدة التي رسخت في قلوب الناس من منع التزوج بزوجة ابن التبني، كما في قصة زينب، فإن اقتناع الناس بالفعل أبلغ من اقتناعهم بالقول، وانظر اقتناع الناس بحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في الحديبية ومبادرتهم بذلك حين حلق بعد أن تباطؤوا في الحلق مع أمره لهم به.
وخامس عشر: التأليف وتقوية الصلة، كما في أمر عائشة وحفصة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شد صلته بخلفائه الأربعة عن طريق المصاهرة، مع ما لبعضهم من القرابة الخاصة، فتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، وزَوَّج بناته الثلاث بعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، فسبحان من وهب نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحكم، وأمده بما يحققها قدراً وشرعاً، فأعطاه قوة الثلاثين رجلاً، وأحل له ما شاء من النساء يرجي من يشاء منهن، ويؤوي إليه من يشاء، وهو سبحانه الحكيم العليم.
وأما عدم تزوجه بالواهبة نفسها، فلا يدل على أنه تزوج من سواها لمجرد الشهوة، وقضاء وطر النكاح.
وأما ابنة الجون فلم يعدل عن تزوجها بل دخل عليها وخلا بها، ولكنها استعاذت بالله منه، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد عذت بعظيم فالحقي بأهلك) . ولكن هل تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد جمالها وقضاء وطر النكاح أو لأمر آخر؟ إن كان لأمر آخر سقط الاستدلال به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وإن كان لأجل قضاء الوطر فإن من حكمة الله تعالى أن حال بينه وبين هذه المرأة بسبب استعاذتها منه.
وأما سودة رضي الله عنها فقد خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنها فوهبت يومها لعائشة، وخوفها منه لا يلزم منه أن يكون قد هم به. وأما ما روي أنه طلقها بالفعل فضعيف لإرساله.
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فليس لجمالها بل هو لإزالة عقيدة سائدة بين العرب، وهي امتناع الرجل من تزوج مفارقة من تبناه، فأبطل الله التبني وأبطل الأحكام المترتبة عليه عند العرب، ولما كانت تلك العقيدة السائدة راسخة في نفوس العرب كان تأثير القول في اقتلاعها بطيئاً، وتأثير الفعل فيها أسرع، فقيض الله سبحانه بحكمته البالغة أن يقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه بمفارقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان تبناه من قبل ليطمئن المسلمون إلى ذلك الحكم الإلهي، ولا يكون في قلوبهم حرج منه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحكمة بقوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) الأحزاب/37. ثم تأمل قوله تعالى: (زَوَّجْنَاكَهَا) . فإنه يشعر بأن تزويجها إياه لم يكن عن طلب منه، أو تشوف إليه، وإنما هو قضاء من الله لتقرير الحكم الشرعي وترسيخه وعدم الحرج منه، وبهذا يعرف بطلان ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة فرأى زينب فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال: (سبحان الله مقلب القلوب) . فأخبرت زينب زيداً بذلك ففطن له فكرهها وطلقها بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (أمسك عليك زوجك واتق الله) . فهذا الأثر باطل مناقض لما ذكر الله تعالى من الحكمة في تزويجها إياه، وقد أعرض عنه ابن كثير رحمه الله فلم يذكره، وقال: أحببنا أن نضرب عنها أي عن الآثار الواردة عن بعض السلف صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها، ويدل على بطلان هذا الأثر أنه لا يليق بحال الأنبياء فضلاً عن أفضلهم وأتقاهم لله عز وجل وما أشبه هذه القصة بتلفيق قصة داود عليه الصلاة والسلام، وتحيله علي التزوج بزوجة من ليس له إلا زوجة واحدة، على ما ذكر في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى: (وهل أتاك نبأ الخصم) ... إلى آخر القصة فإن من علم قدر الأنبياء وبعدهم عن الظلم والعدوان والمكر والخديعة علم أن هذه القصة مكذوبة على نبي الله داود عليه الصلاة والسلام.
والحاصل: أنه وإن جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج لمجرد قضاء الوطر من النكاح وجمال المرأة وأن ذلك لا يقدح في مقامه، فإننا لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زواجاً استقرت به الزوجة وبقيت معه من أجل هذا الغرض. والله أعلم" انتهى.
"المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين" (3/79-86) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/126)
حديث المرأة التي رغبت عن اقتراب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي استفسار بخصوص حديث من أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة الجون، ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك. فقال: لقد عذت بعظيم , الحقي بأهلك. فما صحة هذا الحديث؟ وما سبب تعوذها من الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تعلم بأنه رسول الله؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلقها مِن تعوذها فقط، أم هناك حكم أخرى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
هذه القصة صحيحة، وردت في أحاديث عدة وسياقات يكمل بعضها بعضا:
فروى البخاري رحمه الله في صحيحه (5254) عن الإمام الأوزاعي قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِي أَي أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟
قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِى بِأَهْلِكِ) .
وروى البخاري أيضا في صحيحه (5255) عَنْ أَبِى أُسَيْدٍ رضى الله عنه قَالَ:
(خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسُوا هَا هُنَا. وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِىَ بِالْجَوْنِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتٍ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ، وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَبِي نَفْسَكِ لِي.
قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ. فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا)
وروى أيضا رحمه الله (رقم/5256) عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِى أُسَيْدٍ قَالاَ: (تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ) ثياب من كتان بيض طوال.
وروى أيضا رحمه الله (رقم/5637) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضى الله عنه قَالَ:
(ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّى. فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ. قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِنَا يَا سَهْلُ. فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ) ورواه مسلم أيضا (2007) ، الأجم: الحصون.
ثانيا:
اختلف العلماء في اسم هذه المرأة على أقوال سبعة، ولكن الراجح منها عند أكثرهم هو: " أميمة بنت النعمان بن شراحيل " كما تصرح رواية حديث أبي أسيد. وقيل اسمها أسماء.
ثالثا:
لماذا استعاذت المرأة الجونية من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يمكن توجيه ذلك ببعض الأجوبة الآتية:
1- قد يقال إنها لم تكن تَعرِفُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، بدليل الرواية الأخيرة من الروايات المذكورة أعلاه، وفيها: (. فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ. قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فخاطبته بذلك.
وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال.
نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد – فذكر الرواية الأخيرة، ثم قال: –
فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب: (ألحقها بأهلها) ، ولا قوله في حديث عائشة: (الحقي بأهلك) تطليقا، ويتعين أنها لم تعرفه.
وإن كانت القصة متعددة – ولا مانع من ذلك – فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب " انتهى.
"فتح الباري" (9/358)
2- ويذكر بعض أهل العلم أن سبب استعاذتها من النبي صلى الله عليه وسلم ما غرها به بعض أزواجه صلى الله عليه وسلم، حيث أوهموها أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذه الكلمة، فقالتها رغبة في التقرب إليه، وهي لا تدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعيذها من نفسه بالفراق إن سمعها منه.
جاء ذلك من طرق ثلاثة:
الطريق الأولى:
يرويها ابن سعد في "الطبقات" (8/143-148) ، والحاكم في "المستدرك" (4/39) ، من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف في الحديث.
والطريق الثانية:
يرويها ابن سعد في الطبقات (8/144) بسنده عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: (الجونية استعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لها: هو أحظى لك عنده. ولم تستعذ منه امرأة غيرها، وإنما خدعت لما رؤي من جمالها وهيئتها، ولقد ذكر لرسول الله من حملها على ما قالت لرسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهن صواحب يوسف) .
الطريق الثالثة:
رواها ابن سعد أيضا في "الطبقات" (8م145) قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن بن عباس قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان، وكانت من أجمل أهل زمانها وأشبهم، قال فلما جعل رسول الله يتزوج الغرائب قالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنا. وكان خطبها حين وفدت كندة عليه إلى أبيها، فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وسلم حسدنها، فقلن لها: إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك. فلما دخل وألقى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك. فقال: أمن عائذ الله! الحقي بأهلك)
وروى أيضا قال: أخبرنا هشام بن محمد، حدثني ابن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد الساعدي، عن أبيه - وكان بدريا – قال: (تزوج رسول الله أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلن، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي، صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول أعوذ بالله منك. فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك. فتال بكمه على وجهه فاستتر به وقال: عذت معاذا، ثلاث مرات. قال أبو أسيد ثم خرج علي فقال: يا أبا أسيد ألحقها بأهلها ومتعها برازقيتين، يعني كرباستين، فكانت تقول: دعوني الشقية) .
وهذه الطرق قد يعضد بعضها بعضا ويستشهد بمجموعها على أن لذلك أصلا.
3- وذكر آخرون من أهل العلم أن سبب استعاذتها هو تكبرها، حيث كانت جميلة وفي بيت من بيوت ملوك العرب، وكانت ترغب عن الزواج بمن ليس بِمَلِك، وهذا يؤيده ما جاء في الرواية المذكورة أعلاه، وفيها: (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَبِي نَفْسَكِ لِي. قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ. فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" (السُّوقة) قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه، ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي. قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكا نبيا، فاختار أن يكون عبدا نبيا، تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لربه، ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها، معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها " انتهى.
"فتح الباري" (9/358)
هذا ما تحصَّل ذكرُه من أسباب جاءت بها الروايات وكلام أهل العلم، وكله يدل على كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن يرضى أن يتزوج مَن يشعر أنها لا ترغبه، وكان يأبى صلى الله عليه وسلم أن يصيب أحدا من المسلمين بأذى في نفسه أو ماله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/127)
دعوى الشيعة أن الصحابة لم يحضروا جنازة النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[يدَّعي الشيعةُ أنَّ الصحابةَ لم يحضروا جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذا صحيح؟ وأين كانوا؟ وهل هناك أحاديث تدعم هذا الادعاء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من أقبح الخصال التي يتصف بها الإنسان: الكذب، ولهذا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) رواه البخاري (6134) ومسلم (2607) .
ولا يعلم من الطوائف المنتسبة إلى الأمة المحمدية من هو أكثر كذباً من الشيعة، وهذا أمر معلوم عنهم من قديم، وقد سطره الأئمة في كتبهم من مئات السنين، ولا يزالون يتخلقون بهذا الخلق الذميم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة (الشيعة) أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
فقد سئل الإمام مالك عن الرافضة فقال: لا تكلمهم، ولا ترو عنهم، فإنهم يكذبون.
وقال الإمام الشافعي: لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة.
وقال يزيد بن هارون: يُكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة، فإنهم يكذبون.
وقال شريك القاضي: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث، ويتخذونه دينا.
وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي، قاضى الكوفة، من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة، وهذه شهادته فيهم.
وهذه آثار ثابتة رواها أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة الكبرى " هو وغيره " انتهى باختصار من "منهاج السنة النبوية" (1/26-27) .
وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 12/ ربيع الأول/11هـ بعد الزوال، ودفن ليلة الأربعاء، بعد أن صلى عليه جميع أهل المدينة، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ثم يخرجون، ثم يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون ثم يخرجون، حتى يدخل الناس) رواه الترمذي في "الشمائل" (ص/338) وصححه الألباني في تحقيقه.
ولا يظن بأحد من هؤلاء الصحابة الذين صلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا بالمدينة يومئذ، إلا أنه حضر جنازته صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر أوضح من أن يبحث في دلائله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أزواجهم وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم، بل وأحب إليهم من أنفسهم، كما قال أنس رضي الله عنه: (لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه الترمذي (2754) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
غير أن قوماً امتلأت قلوبهم بالحقد والغل على الإسلام وأهله، صاروا يفترون عليهم الأكاذيب ويطعنون فيهم بالباطل، وهم خير الناس بعد أنبياء الله تعالى ورسله، بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) رواه البخاري (2652) ومسلم (2532) .
فمن طعن فيهم وانتقصهم وسبهم، فإنما طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم صحابته وتلاميذه، وأنصاره، وأحب الناس إليه.
وقد ورد ما يدل على شهودهم جنازته صلى الله عليه وسلم ـ والأمر أوضح من أن يحتاج إلى دليل كما سبق ـ كما قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا) . رواه الترمذي (3618) . وصححه ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/239) .
وقالت فاطمة رضي الله عنها لما رجع الناس من دفن أبيها صلى الله عليه وسلم: (يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ) . رواه البخاري (4462) .
فمن أين جاء هؤلاء بهذا الإفك؟
ولكن لا عجب من هؤلاء الذين أنكروا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وأنكروا أن يكون القرآن محفوظاً، وزعموا أنه حُرِّف ونقص منه أشياء، وطعنوا في عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبوا أصحابه أقبح السب، مع أن فضائلهم خَلَّد الله ذكرها في القرآن الكريم، والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليها الأمة، لا عجب على من أنكر ذلك أن يأتي بمثل هذه الفرية، والله من ورائهم محيط، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل الباطل وأهله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/128)
الأسباب الحقيقية لغزوة بدر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم عن الأسباب الحقيقية لغزوة بدر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يظهر للمتتبع لأحداث السيرة النبوية السابقة لغزوة بدر الكبرى، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد وقوع المعركة، ولم يتهيأ للخروج لها أصلا، وإنما خرج هو والصحابة الكرام رضوان الله عليهم ليستردوا بعض ما نهبه كفار قريش منهم في مكة، من خلال اعتراض قافلة من القوافل التجارية المحملة بالبضائع والأموال لقريش، فكان السبب الحقيقي والمباشر لخروجه صلى الله عليه وسلم هو استرداد شيء من الحقوق المالية التي نهبها منهم كفار قريش، ويدلك على ذلك قول الله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الأنفال/5-7.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام، ندب إليهم المسلمين، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفِّلكموها!
فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا) رواه ابن إسحاق في "السيرة" (2/295) ، وعبد الرزاق في "المصنف" (5/348) ، والطبري في "جامع البيان" (13/394) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/32) بسند صحيح، وصححه الشيخ الألباني في تحقيق "فقه السيرة" (ص/218) .
يقول الدكتور علي الصلابي: " من المؤكد أنه حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة لم يكن في نيته قتال، وإنما كان قصده عير قريش، وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدو ودماؤهم مباحة، فكيف إذا علمنا أن جزءًا من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشية كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكة، قد استولى عليها المشركون ظلمًا وعدوانا " انتهى.
فلما أفلتت القافلة جمعت قريش جموعها الظالمة المشركة تريد أن تستأصل الإسلام، وتقضي على المسلمين، فرد الله كيدهم في نحرهم، وهزم الجمع وولوا الأدبار والحمد لله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/129)
حكم جعل مدح النبي صلى الله عليه وسلم تجارة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم جعل مدح النبي صلى الله عليه وسلم تجارة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"حكم هذا محرم، ويجب أن يعلم بأن المديح للنبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون مدحاً فيما يستحقه صلى الله عليه وسلم بدون أن يصل إلى درجة الغلو، فهذا لا بأس به، أي: لا بأس أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أهله، من الأوصاف الحميدة الكاملة في خلقه وهديه صلى الله عليه وسلم.
والقسم الثاني: من مديح الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يخرج بالمادح إلى الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) . فمن مدح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غياث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وأنه مالك الدنيا والآخرة، وأنه يعلم الغيب وما شابه ذلك من ألفاظ المديح فإن هذا القسم محرم، بل قد يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يجوز أن يمدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما يصل إلى درجة الغلو لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ثم نرجع إلى اتخاذ المديح الجائز حرفة يكتسب بها الإنسان فنقول أيضاً: إن هذا حرام ولا يجوز، لأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما يستحق وبما هو أهل له صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة، والهدي المستقيم مدحه بذلك من العبادة التي يتقرب بها إلى الله، وما كان عبادة فإنه لا يجوز أن يتخذ وسيلة إلى الدنيا، لقول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هود/15، 16. والله الهادي إلى سواء الصراط" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (1/258) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/130)
رعاية النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته ببناته في حياتهن إلى بعد موتهن
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل بناته في الفترة قبل بلوغهن سن 17؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يصعب جداً معرفة كيفية معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبناته في هذه الفترة من أعمارهن، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها وكان عمره 25 سنة، وأوحي إليه وعمره أربعون سنة، ثم ماتت خديجة رضي الله عنها بعد عشر سنوات من النبوة تقريباً.
وبنات النبي كلهن من خديجة رضي الله عنها [زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن] ، ومعنى ذلك أن أكثرهن بلغ هذه السن (أي: 17 سنة) في مكة، ففاطمة رضي الله عنها وهي أصغرهن – على ما اختاره ابن عبد البر رحمه الله في "الاستيعاب" (4/178) – ولدت قبل المبعث بقليل، وقد كان المسلمون في مكة قلة مضطهدين معذبين، فلم يمكنهم في ذلك الوقت نقل أشياء تفصيلية عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما ولم يكن متزوجاً في ذلك الوقت إلا بخديجة رضي الله عنها فقط، وقد توفيت قبل الهجرة بسنوات.
ولكن يمكننا أن نتكلم عن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبناته على سبيل العموم في هذه الفترة من أعمارهن وغيرها.
ثانياً:
مما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة للمسلمين، وحياته صلى الله عليه وسلم فيها نماذج عالية لكيفية تعامل الحكام مع شعوبهم، وتعامل الأزواج مع زوجاتهم، والآباء مع أولادهم وأحفادهم، والدعاة مع المدعوين، والعلماء مع طلاب العلم، وتعامل القادة مع جنودهم، وهكذا في جميع جوانب الدين، والدنيا، وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب/ 21.
قال ابن كثير رحمه الله:
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، في أقواله، وأفعاله، وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
" تفسير القرآن العظيم " (6 / 391) .
وأما بخصوص معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبناته فقد كانت غاية في الرحمة والحكمة، وقد كان له من البنات أربع، وكلهن من خديجة رضي الله عنها، وهنَّ: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وكلهن أدركن الإسلام، وأسلمن، وكلهن توفين قبله إلا فاطمة، فإنها تأخرت بعده بستة أشهر.
وتتمثل جوانب الرحمة والحكمة في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لهن في صور متعددة، وأمثلة متنوعة، منها:
1. دعوته لهنَّ للإسلام بالحسنى، رحمةً بهن.
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِى عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مالِي لاَ أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) .
رواه البخاري (2602) ومسلم (206) .
قال ابن إسحاق: وأما بناته: فكلهن أدركن الإسلام، فأسلمن، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
" الروض الأنف " السهيلي (2 / 157) .
2. عنايته صلى الله عليه وسلم بهن في مرضهن حتى في أشد الأوقات.
فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج لبدر أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يبقى عند زوجته رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها كانت مريضة.
فعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ – أي: عثمان بن عفان - عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – وهي: رقية - وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ) رواه البخاري (3495) .
3. حسن الاستقبال والترحيب.
4. ائتمانهن على أسراره صلى الله عليه وسلم.
5. إدخال السرور على قلوبهن.
ويجمع ذلك كلَّه حديث صحيح:
عن عَائِشَة أُمِّ الْمُؤْمِنِيِنَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام تَمْشِي، لَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ: (مَرْحَبًا بِابْنَتِي) ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا: سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ، فَقُلْتُ لَهَا أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ، قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنْ الْحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِي قَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ، فَأَخْبَرَتْنِي قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ (جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أَرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدْ اقْتَرَبَ فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ) قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، قَالَ: (يَا فَاطِمَةُ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ) رواه البخاري (5928) ومسلم (2450) .
7. ومن عظيم عنايته وتربيته صلى الله عليه وسلم لبناته أن سارع بتزويجهن لمن رأى فيه رجاحة عقل، أو دين متين، فزوَّج زينبَ رضي الله عنها من أبي العاص بن الربِيع القرشي رضي الله عنه، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد.
وزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم رقيةَ من عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما توفيت رقيةُ رضي الله عنها زوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم.
وزوَّج فاطمةَ رضي الله عنها من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
8. أمرهن بالحجاب والستر في اللباس.
وذلك استجابةً لأمر الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الأحزاب/ 59.
9. حل مشكلاتهن بينهن وبين أزواجهن، والتدخل للإصلاح.
فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟) قَالَتْ: كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي [القيلولة هي النوم وسط النهار] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِنْسَانٍ: (انْظُرْ أَيْنَ هُوَ) ، فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: (قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) رواه البخاري (430) ومسلم (2409) .
10. رقة النبي صلى الله عليه وسلم لابنته الغائبة عنه، والشفاعة في إطلاق زوجها المأسور عند المسلمين، والاشتراط عليه إرسالها للمدينة.
وكل ذلك يدل على عطف النبي صلى الله عليه وسلم على بناته، وشدة تعلقه بهن، وهو مع هذا يريد لهن الخير والنجاة من بيئة الكفر خشية الافتتان، ويحب لبناته ما يحببن لأنفسهن من الخير، وخاصة إن تعلق الأمر بزوج لها، أو ولد.
وكل ما سبق يجمعه حديث واحد صحيح:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بَعَثَتْ زَيْنَبُ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا، فَقَالُوا: نَعَمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ [موضع على مشارف مكة] حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا. رواه أبو داود (2629) وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله:
(رقَّ لها) أي: لزينب، يعني: لغربتها، ووحدتها، وتذكر عهد خديجة، وصحبتها، فإن القلادة كانت لها، وفي عنقها.
" عون المعبود العظيم " (7 / 254) .
11. المشاركة في عقيقة أولاده من بناته.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا. رواه أبو داود (2841) ، وفي رواية النسائي (كبشين كبشين) وقال الشيخ الألباني عنها: إنها الأصح.
12. متابعة بناته رضي الله عنهن عند أزواجهن، والتوجيه نحو عدم الركون لمتاع الدنيا.
عنْ علي رضي الله عنْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنْها شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَقَالَ: (عَلَى مَكَانِكُمَا) فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: (أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَتُسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) رواه البخاري (3502) ومسلم (2727) .
13. وتستمر عناية النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته ببناته حتى بعد وفاتهن، وتمثل ذلك في:
أ. الاهتمام بغسلهن ووضع شيء من ثيابه مع إحداهن.
فعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي) ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ – أي: إزاره - فَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) رواه البخاري (1195) ومسلم (939) .
(أشعرنها) : هو من الإشعار، وهو إلباس الثوب الذي يلي بشرة الإنسان، ويسمَّى شعاراً لأنه يلامس شعر الجسد.
وابنته هي: زينب، كما جاء مصرحاً به في رواية مسلم.
ب. شهود جنازتهن، ودفنهن.
ولو أردنا الوقوف عند كل موقف لنبينا صلى الله عليه وسلم من المواقف السابقة لطال بنا المقام، ولعلَّ السائل يرجع لكتب السيرة، وشروح الأحاديث، ويقف بنفسه على فوائد تلك المواقف، وأهميتها في حياة المسلم أن يأتسي بها، ويقتدي بهديها.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/131)
هل ذكرت أم المؤمنين صفية بنت حيي في قصة الشاة المسمومة التي أهديت إلى النبي صلى لله عليه وسلم في خيبر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل للسيدة صفية أم المؤمنين دخل من قريب أو بعيد فى سم الشاة التي قدمت إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قصة الشاة المسمومة التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر ثابتة في السيرة الصحيحة، وقد جاءت في سياقات متعددة، أشهرها سياقان اثنان:
الأول: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِىءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لاَ. فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِى لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري (2617) ومسلم (2190) كلاهما من طريق خالد بن الحارث، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس به. يقول النووي: (لهوات) : جمع لهاة، هي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك، كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره.
والثاني: رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (رقم/3169) : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ:
(لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: اجْمَعُوا إِلَىَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ. فَجُمِعُوا لَهُ: فَقَالَ: إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْهُ. فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلاَنٌ. فَقَالَ: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ. قَالُوا: صَدَقْتَ. قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ. فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا.
فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ. قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ)
وليس في هاتين الروايتين – كما ترى – أي ذكر لأم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها.
وإنما ورد ذكرها في سياق آخر يرويه ابن شهاب الزهري فيقول:
(لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وقتل من قتل منهم، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية - وهي ابنة أخي مرحب - لصفية شاة مصليَّةً وسمَّتها وأكثرت في الكتف والذراع؛ لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف وانتهش منها، وتناول بشر بن البراء عظما فانتهش منه، فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم، فإن كتف هذه الشاة يخبرني أن قد بُغِيتُ فيها. فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما في فيك، لم أكن أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغي. فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان، وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلى ما حول)
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (4/360) قال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو جعفر البغدادي، قال: حدثنا أبو علاثة، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير.
وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل، قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب، قال: حدثنا القاسم الجوهري، قال: حدثنا ابن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عمه موسى بن عقبة.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثنا موسى بن عقبة
- وهذا الإسناد مرسل، فالزهري من أئمة التابعين، توفي سنة (125هـ) ، ولا يُدرى عمن يروي القصة بهذا السياق، وهو كثير الإرسال، وقد استضعف العلماء مراسيله حتى كان يحيى بن سعيد القطان لا يعدها شيئا.
- ثم إن في الطريق إلى الزهري بعض الضعفاء كابن لهيعة، ومحمد بن فليح، واسماعيل بن أبي أويس، وكلهم في تراجمهم من الطعن والتضعيف ما يوجب الشك والتردد.
- ومما يدل على عدم الوثوق بالتفاصيل المذكورة هنا أيضا الاختلاف الواقع في مرويات الزهري لهذه القصة، مما يغلب على الظن أن الوهم فيها من شيوخ الزهري الذين أخذها عنهم وطوى ذكرهم، ويمكن مراجعة جميع روايات الزهري في هذا الأمر في كتاب "مرويات الإمام الزهري في المغازي" للدكتور محمد العواجي (2/636-646)
وعلى كل حال، فلو ثبت هذا السياق فمعناه أن المرأة اليهودية أهدت الشاة المسمومة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليأكل منها في بيت أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها، ولو كان لها رضي الله عنها علم بما فعلته تلك المرأة لجاء الوحي بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما جاءه بخبر السم الموجود في كتف الشاة، ولكنها رضي الله عنها كانت راغبة في الإسلام، مقبلة على الدين الجديد، مستبشرة بزواج النبي صلى الله عليه وسلم منها، وفي سيرتها من كتب التراجم ما يدل على عظيم غبطتها بزواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بعد إسلامها مباشرة، يمكن مراجعتها في "الإصابة" لابن حجر (7/739)
وتأمل معي، أخي السائل، ذلك المقام العالي، الذي أنزلها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه أدب الذبّ عن أهل بيت رسول الله وحريمه، ومن تكون صفيّة الحسيبة النسيبة:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكِ ابْنَةُ نَبِيٍّ وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا حَفْصَةُ) رواه أحمد (11984) والترمذي (3894) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/132)
تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالشاة المسمومة التي أكلها في خيبر
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك شك عند البعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يكون مات مسموماً، أو من أثر السم الذي قدمته له اليهودية، فهل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"ثبت عند أهل العلم بأيام النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وسيره أنه أكل من شاة مسمومة لامرأة من يهود خيبر، ثم نطقت الذراع وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة، فامتنع من الاستمرار في أكلها، ولما كان في المرض الذي مات فيه كان يقول عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم) رواه البخاري في صحيحه، فلا وجه للتشكيك في تأثير ذلك السم في جسده صلى الله عليه وسلم بعد ثبوته في الصحيح وغيره.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ صالح الفوزان ... الشيخ بكر أبو زيد.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/36) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/133)
كيف تكون العزة للمؤمنين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف تكون العزة للمؤمنين وهم الآن ضعفاء في العالم الذي فسد جوانبه وأوسطه، والنصارى واليهود هم الذين يسيطرون في العالم كيف يشاؤون؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لا تحصل العزة للمؤمنين والنصر على الأعداء والتمكين في الأرض إلا بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بالإسلام والإيمان ظاهراً وباطناً، وقد جاء في القرآن والسنة وعن السلف الصالح من الآثار ما فيه عظة وادِّكار، قال الله تعالى: (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) النساء/138، 139 وقال سبحانه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الحج/40، 41، وقال جل وعلا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) النور/55، وقال جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد/7، إلى غيرها من الآيات الكريمات التي بينت ووضحت: أن تمكين المؤمنين وعزهم في هذه الحياة مشروط بقيامهم بما أوجب الله عليهم، من توحيده وتعظيمه وإجلاله، والعمل بكتابه واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومحبة أولياء الله المؤمنين، وبغض أعدائه من المنافقين والكافرين، ومجاهدتهم؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وغير ذلك من لوازم الإيمان.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل من خالف أمره فله نصيب من الذلة والصغار بحسب مخالفته ومعصيته، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الحديث: "ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله، فمن سلك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد عَزَّ، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذَلَّ، وقد سبق حديث: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله ـ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من رقابكم حتى تراجعوا دينكم) .
فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة –حصل له الذل، فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟ " انتهى كلامه رحمه الله.
ولقد عرف السلف الصالح من الصحابة، ومن بعدهم هذه الحقيقة، وهي: أن العزة في التمسك بالإسلام، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد في طاعة الله ورسوله، والحذر من معصية الله ورسوله، فصدرت منهم كلمات، منها: ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة من دونه أذلنا الله) ، وثبت عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أنه لما فتح المسلمون قبرص وبكى أهلها وأظهروا من الحزن والذل ما أظهروا، جلس أبو الدرداء رضي الله عنه يبكي، فقال له جبير بن نفير: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال رضي الله عنه: (ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى) .
والحاصل: أن على كل مسلم مسئولية تحقيق العزة للمؤمنين بحسب قدرته، واستطاعته فيكون بنفسه قائماً بأمر الله تعالى، عاملاً بالإسلام والإيمان، ظاهراً وباطناً ناصحاً لإخوانه المسلمين، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، حتى تصلح أحوال المسلمين، أو يلقى الله على تلك الحال، وقد اتقاه حسب وسعه والله المستعان" انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/46) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/134)
الجمع بين آية (والله يعصمك من الناس) وموته صلى الله عليه وسلم بالسم
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نوفق بين الآية (والله يعصمك من الناس) أي: من القتل، وبين الحديث الذي ترويه عائشة في صحيح البخاري (يا عائشة، ما أزال أجد الم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نص الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة/ 67.
نص الحديث:
قالت عَائِشَةُ رضى الله عنها: كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِى أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِى مِنْ ذَلِكَ السَّمِّ. رواه البخاري (4165) .
" الطعام ": هو الشاة المسمومة.
" أوان ": وقت، وحين.
" أبهَري ": عرق مرتبط بالقلب، إذا انقطع مات الإنسان.
وأصل القصة:
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ. رواه البخاري (2474) ومسلم (2190) .
ثانياً:
يجب أن يَعلم المسلم أنه ليس ثمة تعارض بين نصوص الوحي، وما يظنه بعض الناس من وجود تعارض بين نصوص الوحي بعضها مع بعض: فهو تعارض في ظاهر الأمر بالنسبة له، وليس تعارضاً في واقع الأمر، ولذا فإن علماء الإسلام الراسخين لا يعجزهم – بفضل الله وتوفيقه – من بيان أوجه التوفيق بين ما ظاهره التعارض بالنسبة لمن يرى ذلك ممن يخفى عليه وجه الجمع بين تلك النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به.
" المسودة " (306) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر: فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق.
" زاد المعاد " (4 / 149) .
وقال ابن القيم - رحمه الله – أيضاً -:
فصلوات الله وسلامه على مَن يصدّق كلامُه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، فالاختلاف، والإشكال، والاشتباه إنما هو في الأفهام، لا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام، والواجب على كل مؤمن أن يَكِلَ ما أشكل عليه إلى أصدق قائل، ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم.
" مفتاح دار السعادة " (3 / 383) .
وقال الشاطبي – رحمه الله -:
كل مَن تحقق بأصول الشريعة: فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل مَن حقق مناط المسائل: فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة، فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ: أمكن التعارض بين الأدلة عندهم.
" الموافقات " (4 / 294) .
وقد برز طوائف من العلماء يتحدون من يزعم وجود تعارض بين نصوص الوحي؛ ومنهم الإمام ابن خزيمة رحمه الله حيث كان يقول – كما في " تدريب الراوي " (2 / 176) -: " لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما ".
ثالثاً:
ما ذكره الأخ السائل مما ظاهره التعارض بين قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) مع قوله صلى الله عليه وسلم (وهذا أوان انقطاع أبهري) وأنه مات بالسم الذي وضعه له اليهود: فليس بينهما تعارض – بتوفيق الله -؛ لأن " العصمة " في الآية هي: العصمة من الفتنة، ومن الضلال، ومن القتل قبل تبليغ الرسالة، وكل ذلك قد تحقق له صلى الله عليه وسلم، وقد عصمه ربه تعالى من كل ذلك، ولم يمت صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أبلغ رسالة ربه تعالى، وقد قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) المائدة/ من الآية 3، وقد ذكر بعض العلماء معنى لطيفاً ها هنا، وهو أن الله تعالى أبى إلا أن يجمع لنبينا صلى الله عليه وسلم بين النبوة والشهادة.
وقد عصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من كفار قريش عندما أرادوا قتله في مكة، وعصمه ربه من القتل في المدينة فيما حضره من غزوات، بل وحتى محاولة اليهود قتله بالسم: فإن الله تعالى قد عصمه منها، فأخبرته الشاة أنها مسمومة، ومات الصحابي الذي كان معه، وأكل منها – وهو بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور - ولم يمت صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا وجوده أثر ذلك السم، واعتقاده أنه سيموت بسببه، وما قاله صلى الله عليه وسلم ليس فيه أن السم هو سبب موته، بل فيه أنه يشعر به، ونه قد يكون هذا هو الموافق لانتهاء أجله.
وبكل حال: فإن العصمة من القتل هي فيما كان قبل تبليغ رسالة ربه، ولم يمت صلى الله عليه وسلم إلا وقد أبلغها على أكمل وجه، وسياق الآية يدل على ذلك، حيث أمره ربه تعالى بتبليغ الرسالة، وأخبره أنه يعصمه من الناس.
ومما يدل على ذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم لليهودية (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ) بعد أن أخبرته أنها أرادت قتله، وهو نص إما في عصمته من القتل بالسم حتى فارق الدنيا، أو هو نص في ذلك قبل تبليغ الرسالة.
وخلاصة الكلام: أنه إما أن يُقال بأن النبي صلى الله عليه سلم عُصم من القتل بالسم – كما سيأتي في كلام ابن كثير والنووي وغيرهما -، وقد أوحى الله بوجود السم فيها، وهذا من عصمته له، أو يقال: إن العصمة هي في أثناء التبليغ لرسالة الإسلام، ولا ينافي ذلك وقوع القتل بعد التبليغ لها – كما سيأتي في كلام القرطبي وابن حجر والعثيمين -، وأن الله تعالى جمع بذلك القتل لنبينا صلى الله عليه وسلم بين النبوة والشهادة، وجعل ذلك تذكيراً لنا على الدوام بعداوة اليهود لنا ولديننا.
وهذه بعض أقوال علماء الأمة فيما ذكرناه، وهو يوضح المقصود إن شاء الله.
1. قال ابن كثير – رحمه الله -:
ومِن عصمة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: حفْظُه له من أهل مكة، وصناديدها، وحسَّادها، ومُعَانديها، ومترفيها، مع شدة العداوة، والبِغْضة، ونصب المحاربة له ليلاً، ونهاراً، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره، وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شرعيَّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر، هابوه، واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً، ثم قيض الله عز وجل له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة -، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء: كاده الله، ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر: حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر: أعلمه الله به، وحماه الله منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدّاً، يطول ذِكْرها.
" تفسير ابن كثير " (3 / 154) .
2. وقال النووي – في شرحه لحديث الشاة المسمومة -:
فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله: (والله يعصمك من الناس) وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته مِن السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذراع تخبرني أنها مسمومة) .
" شرح مسلم " (14 / ص 179) .
3. وقال ابن الجوزي – رحمه الله –:
قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) قال ابن قتيبة: أي: يمنعك منهم، وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع.
فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟ : فعنه جوابان:
أحدهما: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى: فلا تمنع عصمة الجملة.
والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك؛ لأن " المائدة " من أواخر ما نزل.
" زاد المسير " (2 / 397) .
4. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء: فإنه لم يُعصم منه عليه الصلاة والسلام , بل أصابه شيء من ذلك , فقد جُرح يوم أحد , وكُسرت البيضة على رأسه , ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر , وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك , وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقاً شديداً , فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل , ومما كتبه الله عليه , ورفع الله به درجاته , وأعلى به مقامه , وضاعف به حسناته , ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله، ولا منعه من تبليغ الرسالة , ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ، فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (8 / ص 150) .
5. وقال القرطبي - رحمه الله -:
ليس في الآية ما ينافي الحراسة، كما أن إعلام الله نصر دينه وإظهاره، ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العدد.
" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " (6 / 280) .
6. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله - بعد أن ساق كلام القرطبي هذا -:
وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتنة، والإِضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم.
" فتح الباري " (6 / 82) .
رابعاً:
من الشواهد العملية على عصمته صلى الله عليه وسلم من القتل قبل تبليغ الرسالة:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَجُلاً أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، قَالَ: فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رواه البخاري (2753) ومسلم (843) .
وفي رواية: فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك، ضع السيف، فوضعه.
قال النووي:
ففيه بيان توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله، وعصمة الله تعالى له من الناس، كما قال الله تعالى (والله يعصمك من الناس) .
" شرح مسلم " (15 / 44) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/135)
قصة الغرانيق
[السُّؤَالُ]
ـ[قصة الغرانيق المذكورة في تفسير سورة الحج هل ثبت منها شيء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أصل هذه القصة حادثة وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة في بداية الدعوة، أنه حين أوحيت إليه سورة النجم قرأها على جمعٍ من المسلمين والمشركين، فلما بلغ آخرَها حيث يقول الله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) النجم/59-62 سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وسجد معه جميعُ مَن حضر من المسلمين والمشركين، إلا رجلين اثنين: أمية بن خلف، والمطلب بن وداعة.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ) رواه البخاري (1071)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ (وَالنَّجْمِ) قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ، إِلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَف) رواه البخاري (3972) وأيضا برقم (4863) ورواه مسلم (576)
ثانيا:
جاءت بعض الروايات تفسِّرُ سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسببَ استجابتهم لأمر الله تعالى، حاصلُها أن الشيطان ألقى في أثناء قراءته كلماتٍ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فيها الثناء على آلهتهم، وإثبات الشفاعة لها عند الله، وهذه الكلمات هي: " تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لَتُرتَجَى " وأن المشركين لما سمعوا ذلك فرحوا واطمأنوا وسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
والغرانيق: جمع غرنوق: وهو طير أبيض طويل العنق. قال ابن الأنباري: " الغرانيق: الذكور من الطير، واحدها غِرْنَوْق وغِرْنَيْق، سمي به لبياضه، وقيل هو الكُرْكيّ، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من الله عز وجل، وتشفع لهم إليه، فشبهت بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء " انتهى. لسان العرب (10/286)
قالوا: فكانت هذه القصة سبب نزول قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحج/52
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا القول في "منهاج السنة النبوية" (2/243) :
" على المشهور عند السلف والخلف مِن أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله " انتهى
وبعد تتبع الآثار الواردة في هذه القصة، تبين أن مجموع السلف الذين يُحكى عنهم هذا القول يبلغ نحو ثلاثة عشر، وتبين أنه لم يثبت بالسند الصحيح إلا عن خمسةٍ منهم، وهم: سعيد بن جبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبو العالية، وقتادة، والزهري.
أما الباقون فلا تصح نسبته إليهم، لما في الأسانيد إليهم من ضعف ونكارة، وهم: ابن عباس، وعروة بن الزبير، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وأبو صالح، والضحاك، ومحمد بن فضالة، والمطلب بن حنطب.
انظر تخريج هذه الآثار والحكم عليها في رسالة الشيخ الألباني "نصب المجانيق" (10-34)
ثانيا:
إلا أن طائفة كبيرة من المحققين من أهل العلم، نفوا وقوع هذه القصة، ولم يأخذوا بإثبات مَن ذكرها من السلف، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: مَن ذكرها مِن السلف لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا مصادرهم للحادثة، فدخل الشك فيها، وساعد عليه ما في ظاهرها من طعن في النبوة، إذ كيف يُدخل الشيطان في الوحي كلماتِه الباطلة، مع أن الله تعالى حفظ وحيَه من التحريف والتبديل والزيادة، وعَصَمَه من الخطأ والزلل.
يقول القاضي عياض في "الشفا" (2/126) :
" فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إمَّا مِن تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسوَّرَ عليه الشيطان ويشبِّهَ عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا - وذلك كفر -، أو سهوا وهو معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان
الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) الآية، وقال تعالى (إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) الآية " انتهى باختصار.
وقد عد الشيخ الألباني في رسالته "نصب المجانيق" (46-48) أسماء عشرة من العلماء المتقدمين والمتأخرين في نفي صحة هذه الحادثة، أكثرها يؤكد نفي وجود السند المتصل المرفوع بها، ومنافاتها لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا:
والمسألة فيها نوع اشتباه، يصعب الجزم فيها بأمر، ولكن يمكننا القول بأن الجزم بنفي هذه الحادثة فيه نظر، وأن اعتبارها منافية لأصول العقيدة ومهمات الدين فيه نظر، أيضا، فقد صحت القصة من طريق جماعة من السلف مِن قولهم، وهي وإن كانت مرسلة، فكثرتها تبعث على الاطمئنان بوقوعها، ولو كان فيها شيء مناقض لعصمة الوحي لَما نطق بها كبار أئمة التابعين كسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم.
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/439) في تخريجه لهذه القصة:
" كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا ... - ثم نقل تضعيف ابن العربي والقاضي عياض القصة ثم قال -: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يَحتجُّ بمثلها مَن يحتجُّ بالمرسل، وكذا من لا يحتج به، لاعتضاد بعضها ببعض " انتهى.
وليس في القصة أي طعن في عصمة التبليغ والرسالة، لأن النسخ والتصحيح جاء بوحي من الله، وسواء كان الخطأ من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإيهام الشيطان على أسماع المشركين، فإن المآل واحد، هو وقوع الحق وزهوق الباطل، والإخلال بمقتضى الرسالة لا يكون إلا باستمرار الباطل واختلاطه بكلام الله تعالى، وذلك ما لم يكن ولن يكون.
يقول شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (10/290) :
" وهذه العصمة الثابته للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ... فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.
ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان: والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك.
والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى " وقالوا: إن هذا لم يثبت.
ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول.
ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) هو حديث النفس.
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا: هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه، والقرآن يدل عليه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الحج/52-54
فقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ الله لما يُلقي الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها، وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس، والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ، من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ، وهذا النوع أدل على صدق الرسول وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه - وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك - فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك، كان أدل على اعتماده للصدق، وقوله الحق، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها: (لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) .
ألا ترى أن الذي يُعَظِّمُ نفسَه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ، فبيان الرسول أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة، فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب " انتهى.
والخلاصة أن إثبات أصل القصة قول متجه، وهو أقرب إلى التحقيق العلمي إن شاء الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/136)
كتب في السيرة النبوية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تعطيني أسماء الكتب التي تتحدث عن السيرة الذاتية للنبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان يتعامل في حياته، مع أهله وزوجاته وأصحابه رضي الله عن الجميع؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الكلام عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته الدعوية والجهادية والعائلية مما يستهوي الأفئدة؛ وذلك لأن حياته عليه الصلاة والسلام كانت مليئة بالجوانب المشرقة والأخلاق الكاملة التي يعجز أن يسطرها قلم، أو ينطق بها لسان، ولكن حسبنا ما قاله الله تعالى فيه ممتدحاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم /4، فهو عليه الصلاة والسلام عظيم الخلق مع أهله، وأصحابه حتى مع أعدائه.
وانظر جواب السؤال رقم (11575) .
ثانياً:
قد ألف العلماء رحمهم في القديم والحديث كتباً في بيان السيرة العطرة له عليه الصلاة والسلام، وذكروا فيها سيرته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومع أهله وزوجاته، ومع جيرانه، ومع أعدائه، وغزواته التي غزاها، ووفاته عليه الصلاة والسلام.
ومن تلك المؤلفات:
1- سيرة ابن هشام رحمه الله.
2- زاد المعاد لابن القيم الجوزية رحمه الله.
3- الرحيق المختوم للمباركفوري رحمه الله.
4- مختصر السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
5- هذا الحبيب يا محب لأبي بكر الجزائري حفظه الله.
6- السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي رحمه الله.
7- السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري حفظه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/137)
حديث طويل مكذوب في سياق قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أفيدونا عن صحة الحديث المروي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" عن جابر في قوله: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) قال: لما نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قال: " يا جبريل نفسي قد نعيت ". قال جبريل عليه السلام: (وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى) ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي بـ (الصلاة جامعة) ، فاجتمع المهاجرون والأنصار، ثم صلى بهم عليه الصلاة والسلام، ثم صعد المنبر، فحمد الله عز وجل، وأثنى عليه، ثم خطب خطبة وجلت منها القلوب، وبكت منها العيون، ثم قال: أيها الناس! أي نبي كنت لكم؟ قالوا: جزاك الله من نبي خيراً، كنت لنا كالأب الرحيم، وكالأخ الناصح الشفيق، أديت رسالات الله عز وجل، وأبلغتنا وحيه، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبياً عن أمته.....، فذكر الحديث بطوله) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث الطويل يرويه الإمام الطبراني في "المعجم الكبير" (3/58) وعنه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/74) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/295)
قال: حدثنا محمد بن أحمد بن البراء ثنا عبد المنعم بن إدريس بن سنان عن أبيه عن وهب بن منبه: عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما به.
قال الهيثمي بعد إيراده هذا الحديث (8/605) :
" رواه الطبراني، وفيه عبد المنعم بن إدريس: وهو كذاب وضاع " انتهى.
وقال ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/301) :
" هذا حديث موضوع محال، كافأ الله من وضعه، وقبَّح من يشين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد، والكلام الذى لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالصحابة.
والمتهم به عبد المنعم بن إدريس: قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على وهب. وقال يحيى: كذاب خبيث. وقال ابن المدينى وأبو داود: ليس بثقة. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. وقال الدارقطني: هو وأبوه متروكان." انتهى.
وكذا ذكره في الموضوعات السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (1/257) وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/330) والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (324)
وقد احتوى هذا الحديث المكذوب جملا من الأمور:
1- فيه ذكر قصة وفاته صلى الله عليه وسلم واستئذان ملك الموت عليه، وذكر تفاصيل غير ثابتة في تلك الحادثة العظيمة، ومن المعلوم لدى أهل العلم أن قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر المواضيع التي كذب فيها الكذابون، وتناقل الناس فيها أشياء لا تثبت.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله "البداية والنهاية" (5/256) :
" وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارًا كثيرةً فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحا لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، ولا سِيَّما ما يورده كثير من القُصَّاص المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع لا محالة، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة المروية في الكتب المشهورة غُنيةٌ عن الأكاذيب وما لا يعرف سنده، والله أعلم " انتهى.
ولم يصح في استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم لقبض روحه أي حديث وأي خبر، وكل ما ورد في ذلك إما منكر أو موضوع، وانظر جواب السؤال رقم (71400)
2- أما قصة طلب عكاشة القصاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء ما يشبهها من طريق صحيح؛ لكن فيها أن الذي طلب القصاص هو أسيد بن حضير رضي الله عنه، فقد روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ:
(بَيْنَمَا هُوَ – يعني أسيد بن حضير - يُحَدِّثُ الْقَوْمَ - وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ - بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ، فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ. فَقَالَ: أَصْبِرْنِي. فَقَالَ: اصْطَبِرْ. قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ. فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَمِيصِهِ، فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ، قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ)
رواه أبو داود (5224) ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/102) ، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/205) والحاكم في "المستدرك" (3/327) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (9/76) .
وهذا الحديث سنده صحيح، صححه الحاكم وكذا الذهبي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
جاء في "عون المعبود" (14/90) :
" (فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم) أي ضربه على سبيل المزاح (فقال) أي أسيد (أصبرني) أي: أقدرني ومكني من استيفاء القصاص حتى أطعن في خاصرتك كما طعنت في خاصرتي. (اصطبر) أي: استوف القصاص.
(فاحتضنه) أي اعتنقه وأخذه في حضنه وهو ما دون الإبط إلى الكشح.
(وجعل يقبل كشحه) هو ما بين الخاصرة إلى الضلع الأقصر من أضلاع الجنب.
(قال إنما أردت هذا) أي: ما أردت بقولي أصبرني إلا هذا التقبيل، وما أردت حقيقة القصاص " انتهى.
3- وفي الحديث جمل منكرة شنيعة:
منها: (فإن أول من يصلي علي الرب عز وجل من فوق عرشه) وهل يصلي الله على الناس صلاة الجنازة؟! هذا من شنيع كذب الوضاعين.
ومنها قوله: (فلما بلغ الروح الركبتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوه. فلما بلغ الروح السرة نادى النبي صلى الله عليه وسلم: واكرباه. فلما بلغ الروح إلى الثندؤة نادى النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل! ما أشد مرارة الموت)
ووجه النكارة أن فيه إشعارا بتسخط النبي صلى الله عليه وسلم وجزعه عند الموت، وحاشاه من ذلك.
ومنها قوله: (فكبرنا بتكبير جبريل عليه السلام، وصلينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل عليه السلام) ولا يعرف أن الملائكة تؤم المسلمين وتصلي بهم، إنما هذا من منكر ما يرويه الرواة المتهمون.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/138)
هل الرسول صلى الله عليه وسلم أول رائد فضاء؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[طرح لنا أحد الأساتذة سؤالا وقال فيه: من هو أول رائد للفضاء؟ فأجبنا على سؤاله بأنه سوفيتي الجنسية. وقال لنا الأستاذ: الإجابة خطأ. وقال: إن أول رائد للفضاء هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عندما عرج به إلى السماوات، وكانت مركبته البراق. فهل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا نعلم أحدا عرج به إلى السماء وفرضت عليه صلوات خمس سوى نبينا عليه الصلاة والسلام، فإنه عرج به إلى السماء السابعة حتى كان فوقها، وحتى سمع كلام الرب عز وجل. فإذا عبر عنه بأنه رائد فضاء فهذا له بعض الوجاهة، لكن ليس بصحيح أنه رائد فضاء، بل إنما عرج به إلى السماء، إلى ربه عز وجل ليفيض عليه بما يشاء سبحانه وتعالى، وليس المقصود من هذه الرحلة أن يجوب الفضاء، وأن ينظر في الفضاء، بل المقصود من هذه الرحلة مع الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام أن يرتفع إلى الله، ويجوب السماوات حتى يصل إلى ما فوق السماء السابعة، وحتى يسمع كلام ربه، وليس المقصود أن يجوب الفضاء.
وهذا الكلام الذي قاله هذا المجيب له بعض الوجاهة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم شق الفضاء كله حتى جاوز السبع الطباق، فله وجه من هذه الحقيقة، لكن ليس هو المعنى المقصود عند الدول الموجودة اليوم أمريكا والسوفيت وغيرهم؛ فإن مقصودهم هو اختبار الفضاء، واختبار ما فيه من العجائب وهو ما دون السماء الدنيا، وليس المقصود هذا المعنى الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم. فالمجيب الذي قال السوفيتي له وجه، وكلام الأستاذ أيضاً له وجه، ولكن ليس منطبقا على مراد الناس اليوم، وعلى مقصود الناس اليوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرتحل ليجوب الفضاء، وإنما ارتحل بأمر ربه، ليتصل بالله عز وجل فوق السماء السابعة، وليسمع كلامه سبحانه وتعالى، وليمتثل أمره جل وعلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يرتحل هذه الرحلة العظيمة، ويسمع كلام ربه، وليفرض الله عليه هذه الصلوات العظيمة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، والله ولي التوفيق.
فتاوى نور على الدرب للشيخ عمر بن عبد العزيز (1/116) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/139)
النبي صلى الله عليه وسلم وبناء المجتمع الإسلامي
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف وإلى أي حد نجح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في إنشاء مجتمع مستقر في المدينة عام 632 ميلادي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لاشك أن المجتمع الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو مثال للمجتمعات الآمنة المستقرة، وقد ظهر ذلك جليّاً منذ أن وطىء النبي صلى الله عليه وسلم بقدمه المدينة وبدأ في تكوين الدولة، ويرجع أمن واستقرار المجتمع هذا إلى عدة أسباب وعوامل، منها:
أولاً:
بناؤه صلى الله عليه وسلم للمسجد في المدينة أوّل قدومه مما ساعد في إيجاد مرجع يُلجأ إليه حين النوازل، ومكان يجتمع فيه المسلمون يسأل بعضهم عن بعض، ويعرف بعضهم أحوال بعض، فيعاد مريضهم، وتتبع جنازة ميتهم، ويعان مسكينهم، ويزوج أعزبهم.
وهذه بعض الأحاديث في ذلك:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر ببناء المسجد، وقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. رواه البخاري (2622) ومسلم (524) .
عن البراء بن عازب: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان الرجل يأتي بالقِنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة – وفي رواية ابن ماجه " فقراء المهاجرين " - ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تبارك تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. رواه الترمذي (2987) وابن ماجه (1822) . وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2389) .
القِنو: العذق الذي فيه الرطب. الشيص: النخل غير الملقح. الحَشَف: تمر يابس فاسد.
ثانياً:
إيخاؤه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرن والأنصار، وقد قوَّى هذا الفعل بين أفراد المجتمع المدني بما لم يُسمع بمثله، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين العجمي والعربي، وبين الحر والمولى، وبين القرشي ومن دونه من أهل القبائل، فصار المجتمع لحمة واحدة، وجسداً واحداً، فلم يستغرب بعدها أن يطلب الأنصاري من المهاجر أن يتقاسم معه ماله نصفين، وأن يعرض الأنصاري على المهاجر إحدى نسائه ليطلقها له ويتزوجها، وكان المهاجر يرثُ الأنصاريَّ لقوة ما بينهم من العلاقة، ثم نسخ التوارث بينهما بآية المواريث، ورُغِّب الأنصار أن يوصوا لهم بشيء، فبمثل هذا المجتمع تضرب الأمثال.
وهذه بعض الأحاديث في ذلك:
1- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لمَّا قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقْسِم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويتَ نزلتُ لك عنها، فإذا حلَّت تزوجتَها، قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوجتَ؟ قال: نعم، قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار، قال: كم سقت؟ قال: زنة نواة من ذهب – أو نواة من ذهب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوْلِم ولو بشاة. رواه البخاري (1943) .
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المهاجرون لمَّا قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت {ولكل جعلنا موالي} نسخت ثم قال {والذين عقدت أيمانكم} إلا النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له. رواه البخاري (2170) .
ثالثاً:
شرعت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، فصارت المواساة بين الأغنياء للفقراء مما جعل اللحمة تزداد بين المجتمع المدني، وأواصر الأخوة في الله تقوى أكثر من ذي قبل، بل تعدى الأمر من إيتاء الزكاة إلى صدقة التطوع.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه " بيرحاء "، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي " بيرحاء " وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ ذلك مال رابح، ذلك مال ربح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. رواه البخاري (1392) ومسلم (998) .
وقد ظهرت علامات التآلف بين المسلمين في المدينة، وعرف المهاجرون حق إخوانهم الأنصار عليهم، وفي ذلك بعض الأحاديث ومنها:
عن أنس قال: لما قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوماً أبذلَ مِن كثيرٍ ولا أحسنَ مواساةً مِن قليلٍ من قومٍ نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنإ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم. رواه الترمذي (2487) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2020) .
وقد ألّف الله بين قلوب أهل المجتمع المدني، وكان الحب في الله تعالى من شعارات القوم، وقد أوجبه الله عليهم، وجعله من علامات كمال الإيمان.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". رواه البخاري (13) ومسلم (45) .
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ".
رواه البخاري (5665) ومسلم (2586) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/140)
حول سيف النبي صلى الله عليه وسلم " البتار " وآثاره في المتاحف
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد شاهدت صوراً لسيف يسمى " البتَّار "، ويقال إنه كان للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنه منقوش عليه أسماء الأنبياء، وصورة للنبي داود عليه السلام وهو يقطع رأس جالوت، وقد شاهدت هذه الصور وقرأت هذا الكلام في الموقع:
http://www.usna.edu/Users/humss/bwheeler/swords/batar.html
وسؤالي هو:
إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم صور الأشخاص والحيوانات، فكيف يمتلك سيفاً عليه صور؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ورد في كتب السيرة أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عدة أسياف، وقد ذكر بعض العلماء أنها تسعة أسياف، وليس يثبت من ذلك في السنة الصحيحة إلا واحد فقط! .
قال ابن القيم – رحمه الله -:
كان له – صلى الله عليه وسلم - تسعة أسياف:
" مأثور "، وهو أول سيف ملكه، ورثه من أبيه، و " العضب " و " ذو الفقار " - بكسر الفاء وبفتح الفاء - وكان لا يكاد يفارقه، وكانت قائمته، وقبيعته، وحلقته، وذؤابته، وبكراته، ونعله من فضة، و " القلعي "، و " البتار "، و " الحتف "، و " الرسوب "، و " المخذم "، و " القضيب "، وكان نعل سيفه فضة، وما بين حلق فضة.
وكان سيفه " ذو الفقار " تنفله يوم بدر، وهو الذي أُري فيها الرؤيا.
ودخل يوم الفتح مكة وعلى سيفه ذهب وفضة [ضعفه الألباني في مختصر الشمائل (87) ]
" زاد المعاد " (1 / 130) . وانظر: التراتيب الإدارية، للكتاني (1/343) .
ومما ثبت من ذلك في السنَّة الصحيحة " ذو الفقار ":
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ.
رواه الترمذي (1561) وابن ماجه (2808) وحسنه الألباني في " صحيح ابن ماجه ".
وقوله: (تنفل سيفه) أي: أخذه زيادة عن السهم.
ورواه أحمد (2441) – وحسنه الأرناؤط - بأتم من هذا، وفيه بيان الرؤيا:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: (رَأَيْتُ فِي سَيْفِي ذِي الْفَقَارِ فَلًّا فَأَوَّلْتُهُ فَلا يَكُونُ فِيكُمْ، وَرَأَيْتُ أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا فَأَوَّلْتُهُ كَبْشَ الْكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ فَبَقَرٌ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَبَقَرٌ وَاللَّهِ خَيْرٌ) فَكَانَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسمِّي سيف النبي صلى الله عليه وسلم " ذا الفقار " لأنه كانت فيه حفر صغار حسان، ويقال للحفرة فقرة، وهو أشهر سيوفه.
وأما سيفه " البتَّار " فقد جاء ذِكره عند ابن سعد في " الطبقات " (1 / 486) لكنه مرسل – وهو من أقسام الضعيف -، وفي سنده الواقدي، وأحاديث غير صحيحة.
قال الحافظ العراقي – رحمه الله -:
ولابن سعد في " الطبقات " من رواية مروان بن أبي سعيد ابن المعلى مرسلاً قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيف " قلعي "، وسيف يدعى " بتَّارا "، وسيف يدعى " الحتف "، وكان عنده بعد ذلك " المخذم "، و " رسوب "، أصابهما من الفلْس.
وفي سنده الواقدي.
" تخريج أحاديث الإحياء " (2471) .
و" القلعي " نسبة إلى " مرج القلعة " موضع بالبادية.
وإذا كان لم يثبت في السنَّة الصحيحة وجود سيف بهذا الاسم للنبي صلى الله عليه وسلم: فكيف نصدق وجوده على تلك الصورة التي ينشرها من يزعم أنها صورة سيف النبي صلى الله عليه وسلم؟! .
ثانياً:
قد ورد في السنة الصحيحة وصف سيف النبي صلى الله عليه " ذو الفقار "، وليس فيه أنه يحوي صوراً لأحدٍ، وكيف يمكن أن يقتني النبي صلى الله عليه وسلم سيفاً كهذا، وهو الذي نهى عن الصور وأمر بطمسها؟! .
وعندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة لم يدخل الكعبة إلا بعد أن أمر بطمس ما كان فيها من صور.
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَنَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ أَنْ يَأْتِيَ الْكَعْبَةَ فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا، فَلَمْ يَدْخُلْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مُحِيَتْ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا.
رواه أبو داود (4156) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وقد ثبت في السنَّة أن مقبض سيفه " ذو الفقار " كان من فضة.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِضَّةٍ.
رواه النسائي (5373) وصححه الألباني في " صحيح النسائي ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
والسيف يباح تحليته بيسير الفضة فإن سيف النبي كان فيه فضة.
" مجموع الفتاوى " (25 / 64) .
ثالثاً:
يردُّ على ما ورد في الموقع – من وجه آخر - من زعمهم أن هذا سيف النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يثبت بقاء شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم على وجه اليقين، فقد زُعم وجود نعل وشعر وثياب وأحجار تخص النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة في العالم، وكل دولة تزعم أنها المحقة وغيرها ليس محقّاً، وثبت في القديم والحديث زيف ادعاءات كثيرين بنسبة ما يملكونه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من التكسب من أموال الناس.
وقد ذكر ابن طولون في كتابه " مفاكهة الخلان في حوادث الزمان " في حوادث سنة تسع عشرة وتسعمائة أن بعضهم زعم أنه يملك قدحاً وبعض عكاز للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه " تبيَّن أنهما ليسا من الأثر النبوي، وإنما هما من أثر الليث بن سعد "!!
وقد حافظ بعض الخلفاء والكبراء على بعض آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ذهب كثير منها في الفتن التي تعاقبت على دولة الإسلام.
ومن ذلك: إحراق التتار عند غزوهم بغداد (سنة 656 هـ) بردة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فتنة تيمورلنك في دمسق (سنة 803 هـ) ذهب نعلان ينسبان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولذا شكك الأئمة بثبوت شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم باقٍ إلى الآن، بل إن منهم من جزم بعدم ثبوته.
1. قال ابن كثير – رحمه الله – وهو يتحدث عن أثواب النبي صلى الله عليه وسلم -:
قلت: وهذه الأثواب الثلاثة لا يدرى ما كان من أمرها بعد هذا.
" البداية والنهاية " (6 / 10) ، و" السيرة النبوية " (4 / 713) .
2. وقال السيوطي – رحمه الله -:
وقد كانت هذه البردة عند الخلفاء يتوارثونها ويطرحونها على أكتافهم في المواكب جلوساً وركوباً، وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم، وأظن أنها فقدت في فتنة التتار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
" تاريخ الخلفاء " (ص 14) .
3. ويقول العلامة أحمد تيمور باشا - بعد أن سرد الآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقسطنطينية في (إسطنبول) ـ:
لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة؛ غير أنّا لم نرَ أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها في الشكوك.
" الآثار النبوية " (ص 78) .
وقال في (ص 82) - بعد أن ذكر أخبار التبرك بشعرات الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه رضي الله عنهم -:
فما صح من الشعرات التي تداولها الناس بعد بذلك: فإنما وصل إليهم مما قُسم بين الأصحاب رضي الله عنهم، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها. انتهى
4. وقال الشيخ الألباني – رحمه الله -:
هذا ولا بد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ولا ننكره، خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا، ولكن لهذا التبرك شروطاً، منها:
الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلماً صادق الإسلام: فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا.
كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ويستعمله.
ونحن نعلم أن آثاره من ثياب، أو شعر، أو فضلات: قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين.
" التوسل " (1 / 145) .
5. وقال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله – في مقال " تعقيب على ملاحظات الشيخ محمد المجذوب بن مصطفى -:
وأما ما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم أو لامسه: فهذا يُتَبَرَّك إذا وُجد وتحقق في حال حياته وبعد موته إذا بقي، لكن الأغلب أن لا يبقى بعد موته، وما يدَّعيه الآن بعض الخرافيين من وجود شيء من شعره أو غير ذلك: فهي دعوى باطلة لا دليل عليها ... .
لا وجود لهذه الآثار الآن؛ لتطاول الزمن الذي تبلى معه هذه الآثار وتزول؛ ولعدم الدليل على ما يُدَّعى بقاؤه منها بالفعل.
" البيان لأخطاء بعض الكتَّاب " (ص 154) .
6. وتحت عنوان " هل يوجد شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر " بيَّن الدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع في " التبرك، أنواعه وأحكامه " - (ص 256 - 260) - أنه يشك في ثبوت نسبة ما يوجد الآن من هذه الآثار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن فقدان الكثير من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم على مدى القرون والأيام بسبب الضياع، أو الحروب والفتن. انتهى
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/141)
كيف شرح الله صدر رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف شرح الله تعالى صدر رسوله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (ألم نشرح لك صدرك) ؟.....وهل صحيح ما قيل: إنه كان على يد سيدنا جبريل عليه السلام مرتين في عمره؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على أنبيائه ورسله بنعم عظيمة جليلة، أولاها فضلا، وأوفاها مِنَّةً، وأعلاها قدرا نعمةُ النبوة، حيث اصطفاهم لقربه، واجتباهم لرحمته.
يقول الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ) آل عمران/179
ويقول سبحانه: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) الأنعام/87
وقد خص الله سبحانه وتعالى نبيه وخليله محمدا صلى الله عليه وسلم بمزيد فضل، وحباه بعظيم قدر، حتى قال سبحانه وتعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) النساء/113
ومن هذا الفضل أنه سبحانه شرح صدر الرسول الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وامتن عليه بهذه النعمة العظيمة في سورة من القرآن الكريم تتلى إلى يوم القيامة، تسمى سورة "الشرح".
يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الشرح/1
وشَرْحُ صدر النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن معاني كثيرة عظيمة:
1- شرح الله صدره للإسلام دينا وشريعة، وهذا أعظم ما يمكن أن ينشرح له الصدر، وهو تفسير ابن عباس، علقه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير / باب سورة الشرح، ص 982)
2- وشرح الله صدر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن ملأه حكمة وعلما وإيمانا، كما فسره الحسن البصري، ويذكر العلماء في تفسير ذلك حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم، والتي تكررت مرتين في حياته صلى الله عليه وسلم:
الأولى: كانت وهو صغير في بني سعد.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرْئِي أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ) رواه مسلم (162)
الثانية: كانت ليلة الإسراء.
كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ) رواه البخاري (349) ومسلم (163)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى "فتح الباري" (7/204) :
" وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء، وقال إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به ... وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في "المفهم": لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير " انتهى.
وقد جاءت حادثة شق الصدر أيضا في بعض الروايات في أوقات أخرى، في عمر العشر سنوات، وعند البعثة، لكنها روايات ضعيفة. انظر "السيرة النبوية الصحيحة" (1/103)
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (4/677) :
" يقول تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) يعني: أما شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا، كقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)
وقيل: المراد بقوله: (ألم نشرح لك صدرك) شرح صدره ليلة الإسراء، ولكن لا منافاة، فإنه من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا فالله أعلم " انتهى.
3- وجاء في "روح المعاني" (30/166) :
" وقيل: المعنى: ألم نزل همك وغمك بإطلاعك على حقائق الأمور وحقارة الدنيا، فهان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى.
ونقل عن الجمهور أن المعنى: ألم نفسحه بالحكمة ونوسعه بتيسيرنا لك تلقي ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك " انتهى.
4- وقال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (1/4850) :
" وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر " انتهى.
وانظر "سبل الهدى والرشاد" (2/59) .
5- ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير سورة الشرح" (ص/1) :
" وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحاً حسيًّا، وشرح الصدر أن يكون متسعاً لحكم الله عز وجل بنوعيه، حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان " انتهى باختصار.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/142)
هل دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الذين لم يروه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإخوانه الذين يأتون بعده بدعوةٍ تخصهم بالخير؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
أولا:
لقد كان الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأرقَّهم، يحب الخير لهم، ويحرص على سعادتهم ونجاتهم، ولن نجد أصدق من كلمات الله تعالى دليلا على ذلك:
يقول الله عز وجل:
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة/128
وكان يحب أمته كثيرا، يحمل هَمَّ نجاتها يوم القيامة، ويرجو أن يكرمها الله سبحانه وتعالى بجنته، حتى كان يبكي من شدة خوفه عليهم ورحمته بهم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه:
(أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الْآيَةَ وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ - فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ) رواه مسلم (202)
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/78-79) :
" هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم، ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة - زادها الله تعالى شرفا - بما وعدها الله تعالى بقوله (سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها " انتهى.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لجميع أمته، ويستغيث الله تعالى أن يجعلها أمةً مكرَّمةً مرحومةً، حتى استجاب اللَّه له فجعل شطر أهل الجنة من أمته، أو يزيد، ورزقهم شفاعته يوم القيامة.
ثانيا:
من رحمته صلى الله عليه وسلم وحبه لأمته أنه خص مَن آمن به واتبعه ولم يره بمزيد فضل وخير:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(طُوبَى لِمَن آمَنَ بِي وَرَآنِي مَرَّةً، وُطُوبَى لِمَن آمَنَ بِي وَلَم يَرَنِي سَبعَ مِرَارٍ)
رواه أحمد في "المسند" (3/155) وقال المحققون: حسن لغيره. وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1241) ، وقد جاء نحو هذا الحديث عن جماعة من الصحابة.
يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (2/176) :
" وأما معنى طوبى: فاختلف المفسرون فى معنى قوله تعالى: (طوبى لهم وحسن مآب) فروي عن ابن عباس رضى الله عنهما أن معناه: فرح وقرة عين. وقال عكرمة: نِعم ما لهم. وقال الضحاك: غبطةٌ لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وعن قتادة أيضا: معناه أصابوا خيرا. وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة. وقال ابن عجلان: دوام الخير. وقيل: الجنة. وقيل: شجرة فى الجنة. وكل هذه الأقوال محتملة فى الحديث والله اعلم " انتهى.
ثم بشر صلى الله عليه وسلم المؤمنين بعده ممن لم يره بأنه ينتظرهم عند الحوض الشريف:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ فَقَالَ:
(السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ بُهْمٍ دُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ)
(أنا فرطهم) أي أنا أتقدمهم على الحوض، (دهم) سود. "شرح النووي" (3/139)
رواه مسلم (249) والنسائي (150) واللفظ له، وانظر "السلسلة الصحيحة" (2888)
فمن أراد أن يحصل هذه الفضائل فعليه أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتمسك بسنته، حتى يفوز بصحبته في الجنة.
نسأل الله تعالى أن يكرمنا وإياكم بذلك من فضله، إنه جواد كريم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/143)
من الذي اعتنى برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه
[السُّؤَالُ]
ـ[من الذي اعتنى بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بعدما مات أبواه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي اعتنى به هو جده عبد المطلب ثم بعد وفاة جده اعتنى به عمّه أبو طالب، وكلاهما مات كافراً، أما عبد المطلب فمات قبل النبوة، وأما أبو طالب فمات بعد النبوة بنحو عشر سنين بعد أن أبى الدخول في الإسلام.
قال ابن كثير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وكان يجلس على فراشه وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول علي بابني فيؤتى به إليه فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب لوصية عبد المطلب له به ولأنه كان شقيق أبيه عبد الله أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم قال فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو طالب لا مال له وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده وكان لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج فيخرج معه وكان يخصه بالطعام.
البداية والنهاية ج/ 2 ص/ 282.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/144)
هل كانت زوجاته صلَّى الله عليه وسلَّم تسع أم إحدى عشرة
[السُّؤَالُ]
ـ[في كتاب " الرحيق المختوم " لصفي الرحمن المباركفوري يقول المؤلف في باب " بيت النبوة" أنه صلي الله عليه وسلم كان عنده إحدى عشرة زوجة وهناك أيضا اثنتان لم يدخل بهما بالإضافة إلي أربع مما ملكت يمينه فهل هذه المعلومات صحيحة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اختلف أهل العلم في عدد نسائه صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب الجمهور منهم – وهو الصواب – أنهنَّ إحدى عشر امرأة دخل بهن صلى الله عليه وسلم، وقد مات عن تسعٍ منهن، وماتت خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة – رضي الله عنهما – قبله صلى الله عليه وسلَّم.
وهو قول أصحابه كما رواه عنهم الأئمة في كتبهم الصحيحة:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة، وله تسع نسوة. رواه البخاري 280.
وقد تفرد معاذ بن هشام عن أبيه في رواية عند البخاري (265) أنهن " إحدى عشر " وهو وهم، والصواب أنه كان يطوف على تسع نسوة.
قال ابن حجر:
قال ابن خزيمة: تفرد بذلك معاذ بن هشام عن أبيه، ورواه سعيد بن أبي عروبة وغيره عن قتادة فقالوا " تسع نسوة "، انتهى، وقد أشار البخاري إلى رواية سعيد بن أبي عروبة فعلقها هنا، ووصلها بعد اثني عشر باباً بلفظ " كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة ". " فتح الباري " 1/377
وعن عطاء قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا فإنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم تسع كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة. رواه البخاري (4780) ومسلم (1465)
والتي كان لا يقسم لها هي: سودة بنت زمعة حيث تنازلت عن ليلتها لعائشة – رضي الله عنها -.
قال ابن القيم:
ولا خلاف أنه توفي عن تسع وكان يقسم منهن لثمان عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وصفية وأم حبيبة وميمونة وسودة وجويرية وأول نسائه لُحُوقا به بعد وفاته زينب بنت جحش سنة عشرين وآخرهن موتا أم سلمة سنة اثنتين وستين في خلافة يزيد. " زاد المعاد " (1 / 114)
وأما إماؤه فقد كان له صلى الله عليه وسلم أربع إماء.
قال ابن القيم:
قال أبو عبيدة: كان له أربع: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة، وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. " زاد المعاد " (1 / 114) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/145)
الرد على من زعم أن الإسراء والمعراج خرافة
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد تجرأ أحد المتعالمين منا في ليبيا على حادثة الإسراء والمعراج، فقال في مقالة نشرتها إحدى الصحف: إن حادثة المعراج هي محض خرافات، ولا يمكن أن تحدث لبشر، واستدل بذلك بالآية الكريمة في سورة الإسراء التي يقول الله عزل وجل فيها: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) الإسراء/93؛ فقال إن القرآن ينفي إمكانية رقي الرسول صلى الله عليه سلم للسماء، وقال: إن ذلك يخالف القران بنص الآية، وأن المعراج مجرد رؤية مناميه واستدل بالآية: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الإسراء/60. وفي النهاية أقول لفضيلتكم: إن هذا الموضوع أدخل علي شبهة، ولكني مؤمن بأنها معجزة؛ أرجو الإجابة والتوضيح، بحيث ينتفي التعارض بين الآية التي تنفي رقي البشر، وبين معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ علما بأنني مؤمن بأنه لا تعارض في القرءان. أفيدونا جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا ريب أن الإسراء والمعراج من آيات الله العظيمة الدالة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى عظم منزلته عند الله عز وجل، كما أنها من الدلائل على قدرة الله الباهرة، وعلى علوه سبحانه وتعالى على جميع خلقه، قال الله سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء/1.
وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماوات، وفتحت له أبوابها حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه سبحانه بما أراد، وفرض عليه الصلوات الخمس، وكان الله سبحانه فرضها أولا خمسين صلاة، فلم يزل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يراجعه ويسأله التخفيف، حتى جعلها خمسا، فهي خمس في الفرض، وخمسون في الأجر , لأن الحسنة بعشر أمثالها، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.
وقد اختلف الناس في الإسراء والمعراج، فمنهم من قال: إنه كان مناما، والصحيح أنه أسري وعرج به يقظة؛ لأدلة كثيرة يأتي ذكرها.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " والمعراج حق، وقد أسري بالنبي وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى؛ فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى " انتهى.
وقال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" رحمه الله: " اختلف الناس في الإسراء:
فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يُفْقد جسدُه، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال كان الإسراء مناما وبين أن يقال كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناما، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين أن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج إلى السماء وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب؛ وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناما، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها؛ ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.
وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة، ومرة مناما ... ، وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده؛ وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق، وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر ...
وكان من حديث الإسراء أنه أسري بجسده في اليقظة على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكبا على البراق صحبة جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقه باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل بيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.
ثم عرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية ... "
إلى أن قال رحمه الله: " ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الإسراء /1؛ والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح؛ هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح؛ فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلا، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة؛ وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر " انتهى من "شرح الطحاوية" (1/245) .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (3/33) : " ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه، أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناماً، ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً، ثم رآه بعد يقظة، لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) الاسراء/ 1، فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقال تعالى: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الاسراء /60، قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، رواه البخاري [2888] ، وقال تعالى:
(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) النجم/17، والبصر من آلات الذات لا الروح.
وأيضاً فإنه حمل على البراق، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن، لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه، والله أعلم " انتهى.
وقال الشيخ حافظ الحكمي في "معارج القبول" (3/1067) : " ولو كان الإسراء والمعراج بروحه في المنام لم تكن معجزة، ولا كان لتكذيب قريش بها وقولهم: كنا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس، شهرا ذهابا وشهرا إيابا، ومحمد يزعم أنه أسرى به اللية وأصبح فينا إلى آخر تكذيبهم واستهزاءهم به صلى الله عليه وسلم لو كان ذلك رؤيا مناما لم يستبعدوه ولم يكن لردهم عليه معنى؛ لأن الإنسان قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس ولا يكذبه أحد استبعاد لرؤياه، وإنما قص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرى حقيقة يقظة لا مناما فكذبوه واستهزؤوا به استبعاد لذالك واستعظاما له مع نوع مكابرة لقلة علمهم بقدرة الله عز وجل وأن الله يفعل ما يريد ولهذا لما قالوا للصديق وأخبروه الخبر قال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا وتصدقه بذلك؟ قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء يأتيه بكرة وعشيا أو كما قال " انتهى.
وقال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) : " وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس، وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة، وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء، وصهيب الرومي وأم هانىء، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " انتهى نقلا عن "تفسير ابن كثير" (3/36) .
ثانيا:
لا ينقضي العجب من هذا المسلك الذي سلكه الكاتب المذكور في الاستدلال، فإنه اقتصر على ذكر مطلب واحد من مطالب الكفار، فأوهم أن الجواب القرآني: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) منصب على هذا المطلب، وهو الرقي في السماء، وأن هذا يدل على عدم إمكانه. والحق أن هذا الجواب وارد على مجموع ما طلبه المشركون تعنتا وتفننا في الجحود والإنكار، وإليك هذه المطالب كما بينها القرآن: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) الاسراء/90- 93 فتأمل في هذه المطالب التي لا يحسن في جوابها إلا الجواب القرآني: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) .
فهل بإمكان من هو بشر أن يفجر الأرض، والأنهار، ويسقط السماء، ويأتي بالله! وبالملائكة! ويرقى في السماء فيأتي منها بكتاب موجه إلى كل كافر! كما جاء في التفسير عن مجاهد وغيره، وهو موافق لقوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) المدثر /52. لا شك أن ذلك ليس من خصائص البشر، ولا هو في إمكانهم، فهذا الاستبعاد منصب على مجموع هذه المطالب، لا على آحاد كل منها، وإلا ففيها مطالب مما هو ممكن عادة، فقد ثبت أن الماء نبع من بين أصبعيه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري (3576) ، وغيره، فكيف بتفجير نبع من الأرض، ولا استحالة ـ أيضا ـ في أن يكون له جنة من نخيل..، على نحو ما طلبوا، إلا أن هؤلاء لم يكن له غرض في حصول هذه الأشياء حقيقة، إنما هي من باب المبالغة في العناد، والتعنت مع الرسول، من أجل التمادي في طغيانهم.
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: " ولما كان اقتراحهم اقتراح مُلاجّة [المبالغة في الخصومة] وعناد، أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة (سبحان ربي) التي تستعمل في التعجب.. ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرا إضافيا، أي لست ربا متصرفا أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة، وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها ". انتهى.
"التحرير والتنوير" (15/210-211) .
ثالثا:
احرص على قلبك يا عبد الله، وكن على دينك أحرص منك على الدرهم والدينار؛ فلا تدع لشياطين الإنس والجن سبيلا أن يسترقوا اليقين من قلبك، أو يزعزعوا الإيمان فيه؛ وما دمت لم تحصل من العلم الشرعي، ما يحصنك ضد شبهات المشككين، ففر من هؤلاء، ومجالسهم، ومنتدياتهم، ولا تسمع لزخارف قولهم، فإنك لا تدري إذا نزلت الشبهة في قلبك متى تخرج منه، وإذا عرضت الفتنة، هل أنت ناج منها أم من المفتونين.
نسأل الله تعالى لنا ولجميع عباده الموحدين الهداية والتوفيق والسداد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/146)
هل شرب أحد الصحابة دم النبي صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صَحَّ أنه لما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم.. أنَّ أحد الصحابة شرب الدم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (سَرَت فِيكَ النُّبُوَّة) ؟
ذكرته إحدى الطالبات في حديثنا عن نجاسة الدم وحرمة شربه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الدم المسفوح من المحرمات النجسة، وقد جاء الدليل من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك.
يقول الله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام/145
قال الطبري رحمه الله "جامع البيان" (8/53) :
" الرجس: النجس والنتن " انتهى.
أما السنة: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:
(جَاءَت امرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: إِحدَانَا يُصِيبُ ثَوبَهَا مِن دَمِ الحَيضَةِ كَيفَ تَصنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقرُصُهُ بِالمَاءِ ثُمَّ تَنضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ)
رواه البخاري (227) ومسلم (291)
وقد بوب عليه البخاري (باب غسل الدم) ، كما بوب عليه النووي (باب نجاسة الدم وكيفية غسله)
وأما الإجماع:
فقال النووي رحمه الله: " الدم نجس، وهو بإجماع المسلمين " انتهى.
ونقله أيضا القرطبي في تفسيره (2/210) وابن رشد في بداية المجتهد (1/79)
ثانيا:
جاء في بعض الأحاديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم شربوا دم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه أقرهم على ذلك، وفي بعضها أنه أنكر عليهم، ولم أجد في شيء من الروايات اللفظ المذكور في السؤال: (سرت فيك النبوة) ، ونذكر هنا هذه الأحاديث وحكم العلماء عليها:
1- عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
(أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحتَجِمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا عَبدَ اللَّهِ اذهَب بِهَذَا الدَّمِ فَأَهرِقهُ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ.
فَلَمَّا بَرَزَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَمَدَ إِلَى الدَّمِ فَشَرِبَهُ.
فَقَالَ: يَا عَبدَ اللَّهِ مَا صَنَعتَ؟
قَالَ: جَعَلتُهُ فِي أَخفَى مَكَانٍ ظَنَنتُ أَنَّهُ يَخفَى عَلَى النَّاسِ.
قَالَ: لَعَلَّكَ شَرِبتَهُ.
قَالَ: نَعَم.
قَالَ: وَلِمَ شَرِبتَ الدَّمَ؟! وَيلٌ لِلنَّاسِ مِنكَ وَوَيلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ)
رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/414) ، والبزار في مسنده (6/169) ، والحاكم في المستدرك (3/638) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/67) ، ولكن بلفظ: (ما تلقى أمتك منك!) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (28/163)
جميعهم من طريق هنيد بن القاسم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه به.
وهنيد بن القاسم: ترجمته في "التاريخ الكبير" (8/249) وفي "الجرح والتعديل" (9/121) ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/515) ولم يعرف روى عنه إلا موسى بن إسماعيل.
ومثل هذا الراوي يعتبر في عداد المجاهيل، ولكن يحسن حديثه إن تابعه أو شهد له ما يقويه، وقد جاء عن بعض أهل العلم ما يدل على توثيقه وقبول حديثه:
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/30) :
" وفي إسناده الهنيد بن القاسم، ولا بأس به، لكنه ليس بالمشهور بالعلم " انتهى.
وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (3/366) :
" ما علمت في هنيد بن القاسم جرحة " انتهى.
وللحديث طريق أخرى رواها الدارقطني (1/228) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (28/162) من طريق:
محمد بن حميد ثنا علي بن مجاهد ثنا رباح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها ذكرت قصة شرب عبد الله بن الزبير ابنها دم النبي صلى الله عليه وسلم أمام الحجاج، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: لا تمسك النار.
قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/31) :
" وفيه علي بن مجاهد وهو ضعيف " انتهى.
وعلي بن مجاهد هذا هو الكابلي، كذبه يحي بن الضريس، ويحي بن معين، كما في الميزان، وقال فيه الحافظ في التقريب: " متروك، من التاسعة، وليس في شيوخ أحمد أضعف منه "
وفيه أيضا رباح النوبي، قال الحافظ: " لينه بعضهم، ولا يُدْرَى من هو " [لسان الميزان 2/443] .
وبهما أعله العظيم آبادي في التعليق المغني، قال (1/425) : (قوله: " علي بن مجاهد، حدثنا رباح النوبي "، هما ضعيفان لا يحتج بهما) .
وفيه أيضا: محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، كما في التقريب وغيره.
كما رواه في جزء الغطريف ـ كما قال ابن حجر في الإصابة (4/93) والتلخيص الحبير (1/32)) ـ ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (28/162) :
عن أبي خليفة الفضل بن الحباب نا عبد الرحمن بن المبارك نا سعد أبو عاصم مولى سليما بن علي عن كيسان مولى عبد الله بن الزبير قال أخبرني سلمان الفارسي ... وذكر القصة، وفيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن الزبير: لا تمسك النار إلا قسم اليمين.
فيظهر من مجموع هذه الروايات أن قصة شرب عبد الله بن الزبير دم النبي صلى الله عليه وسلم لها أصل، والله أعلم.
2- سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن بُرَيه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده قال:
(احتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير، أو قال: الناس والدواب. قال: فتغيبت به فشربته. قال: ثم سألني فأخبرته أني شربته، فضحك)
رواه البخاري في التاريخ الكبير (4/209) ، وابن عدي في الكامل (2/64) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/67) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (7/81)
كلهم من طريق ابن أبي فديك عن بُرَيه بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده.
قال ابن كثير في "الفصول في السيرة" (300) :
" فإنه حديث ضعيف لحال بُريه هذا، واسمه إبراهيم؛ فإنه ضعيف جدا " انتهى.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله "السلسلة الضعيفة" (1074) :
" وهذا سند ضعيف، وله علتان:
الأولى: عمر بن سفينة، قال الذهبي في "الميزان": لا يعرف، وقال أبو زرعة: صدوق، وقال البخاري: إسناده مجهول.
وأورده العقيلي في الضعفاء (282) وقال: " حديث غير محفوظ ولا يعرف إلا به "
والأخرى: ابنه بُرَيه – مصغرا -، واسمه إبراهيم، أورده العقيلي أيضا (61) وقال: لا يتابع على حديثه. وقال ابن عدي في "الكامل" (2/64) : له أحاديث يسيرة غير ما ذكرت، ولم أجد للمتلكمين في الرجال لأحد منهم فيه كلاما، وأحاديثه لا يتابعه عليها الثقات، وأرجو أنه لا بأس به "
وقال الذهبي في الميزان: ضعفه الدارقطني، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. وقال أيضا: وتفرد بُرَيه عن أبيه بمناكير "
والحديث ضعفه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام"، وسكت عليه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" فلم يُجِد " انتهى كلام الألباني.
3- سالم أبو هند الحجام رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/30) :
" رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث سالم أبي هند الحجام قال:
حجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت شربته، فقلت: يا رسول الله شربته. فقال: ويحك يا سالم، أما علمت أن الدم حرام! لا تَعُد)
وفي إسناده أبو الحجاف، وفيه مقال " انتهى.
4- غلام لبعض قريش.
عن نافع أبي هرمز عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
(حجم النبيَّ صلى الله عليه وسلم غلامٌ لبعض قريش، فلما فرغ من حجامته أخذ الدم، فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينا وشمالا، فلما لم ير أحدا تحسى دمه حتى فرغ، ثم أقبل، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، فقال: ويحك ما صنعت بالدم؟ قلت: غيبته من وراء الحائط. قال: أين غيبته؟ قلت: يا رسول الله! نفست على دمك أن أهريقه في الأرض، فهو في بطني. قال: اذهب فقد أحرزت نفسك من النار)
ذكره ابن حبان في المجروحين (3/59) في ترجمة نافع أبي هرمز وقال: روى عن عطاء نسخة موضوعة، وذكر منها هذا الحديث.
5- مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/31) :
" وفي الباب حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور (2/221) من طريق عمر بن السائب أنه بلغه أن مالكا والد أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مُجَّهُ. فقال: لا والله لا أمُجُّهُ أبدا. ثم أدبر فقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فاستشهد " انتهى.
الخلاصة أن أصح ما ورد في شرب الصحابة بعض دم النبي صلى الله عليه وسلم، هو ما جاء من شرب عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، على ما مر من الكلام في سنده، ولم يصح عن أحد غيره.
ثالثا:
فكيف يوفق العلماء بين ما تقرر من نجاسة الدم، وبين شرب عبد الله بن الزبير دم النبي صلى الله عليه وسلم الشريف؟
قالوا: ذلك من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بها في الحكم عن سائر الأمة، وهي خصوصيات كثيرة جمعها أهل العلم في مجلدات، مثل الإمام السيوطي في كتابه "الخصائص الكبرى"، فقد نص بعض أهل العلم على طهارة دمه الشريف صلى الله عليه وسلم اعتمادا على قصة عبد الله بن الزبير.
انظر الشفا (1/55) ومغني المحتاج (1/233) وتبين الحقائق (4/51) وإن كان نقل في المجموع (1/288) عن جمهور الشافعية القول بنجاسة دم النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الدماء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/147)
تخريج حديث استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ليقبض روحه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (دخل الملك جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ملك الموت بالباب، ويستأذن أن يدخل عليك، وما استأذن من أحد قبلك، فقال له: ائذن له يا جبريل. ودخل ملك الموت وقال: السلام عليك يا رسول الله، أرسلني الله أخيرك بين البقاء في الدنيا وبين أن تلحق بالله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى. فوقف ملك الموت عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم (كما سيقف عند رأس كل واحد منا) وقال: أيتها الروح الطيبة، روح محمد بن عبد الله، اخرجي إلى رضى من الله ورضوان ورب راضٍ غير غضبان) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أحداثٌ كثيرةٌ، روى فيها الرواةُ الشيءَ الكثير، ولكن خُلِطَ الصحيح فيه بالمكذوب، وتساهل الكثيرون في ذكر ما ليس له أصل، وما لم يأت إلا من طريق منكر متروك، والذي يبتغي السلامة في هذا الباب عليه بالأحاديث الصحيحة، إذ فيها الغنية والكفاية، وفيها من وصف أحداث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه العبرة والعظة والحكمة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله "البداية والنهاية" (5/256) :
" وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارًا كثيرةً فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحا لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، ولا سِيَّما ما يورده كثير من القُصَّاص المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع لا محالة، وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة المروية في الكتب المشهورة غُنيةٌ عن الأكاذيب وما لا يعرف سنده، والله أعلم " انتهى.
وبعد البحث في مرويات قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم نقف على الحديث الذي ذكره السائل بهذا اللفظ لكن رويت أحاديث في استئذان ملك الموت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ قريب مما ذكره السائل، ولكنها أحاديث ضعيفة حكم عليها العلماء بالنكارة والوضع، فمن ذلك:
حديث يرويه علي بن الحسين عن أبيه في قصة طويلة فيها ذكر استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطبته له.
وهذه قصة رواها الطبراني في المعجم الكبير (3/129) وفي كتاب الدعاء (1/367) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/35) : فيه عبد الله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث.
وكذلك حكم عليه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/560) والحافظ ابن حجر في "أجوبة بعض تلامذته" (1/87) وابن كثير في البداية والنهاية (5/290) وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (5384) : موضوع.
وحديث آخر يرويه ابن عباس رضي الله عنها، وفيه ذكر استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه.
رواه الطبراني في المعجم الكبير (12/141) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/36) : وفيه المختار بن نافع وهو ضعيف.
وقال العراقي في تخريج الإحياء (4/560) : وفيه المختار بن نافع منكر الحديث.
وأما تخييره صلى الله عليه وسلم بين الموت والبقاء في الدنيا، وكذلك قوله: (بل الرفيق الأعلى) فهذا ثابت عنه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد سبق ذكره في جواب السؤال رقم (45841) فليرجع إليه.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين بالنسبة لقصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرت بعض كتب التاريخ أن ملك الموت أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه على شكل أعرابي، ما صحة هذا الكلام؟
فأجاب رحمه الله:
" هذا غير صحيح ... لم يأته ملك الموت ولم يستأذن منه، بل خطب – صلى الله عليه وسلم – في آخر حياته خطبة وقال: (إن عبدا خيَّره الله تعالى بين الخلد في الدنيا ما شاء الله، وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه) هكذا قال في آخر حياته، فبكى أبو بكر، فتعجب الناس كيف يبكي أبو بكر من هذه الكلمات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المُخيَّر، وكان أبو بكر أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ورد، أما أن ملك الموت جاء يستأذنه فهذا غير صحيح " انتهى. "لقاء الباب المفتوح" (2/340)
ومن أراد المزيد من الأحاديث الصحيحة في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع إلى كتاب "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير (5/248) باب احتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك كتاب "صحيح السيرة النبوية" تأليف إبراهيم العلي، الباب السادس: مرض الرسول – صلى الله عليه وسلم – ووفاته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/148)
أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بركوع
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أول مرة أدخل الموقع، وبعد التصفح في الموقع اعتبرته رائعا ومفيدا من المعلومات والأجوبة.
وسؤالي: ما أول صلاة ركع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
يسعدنا زيارتك للموقع، واستفادتك منه، ونرجو أن يستمر ذلك.
ثانيا:
ذكر بعض أهل العلم أن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بركوع، هي صلاة العصر بعد الإسراء والمعراج.
قال الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (1/496) :
" الركوع وهو من خصائص هذه الأمة، وأول صلاة ركع فيها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر صبيحة الإسراء. واستدل السيوطي لذلك بأنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر صبيحتها بلا ركوع , وأنه قبل ذلك كان يصلي صلاة الليل كذلك , فلو لم يكن الركوع من خصوصيات هذه الأمة لفعله فيما كان يفعله قبل الإسراء وفي ظهر صبيحتها " انتهى.
وقد رُوِي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن فيه ضعفاً.
أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: أَوَّلُ صَلاةٍ رَكَعْنَا فِيها الْعَصْرُ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْت.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/293) .
" رواه البزار والطبراني في "الأوسط" وفيه أبو عبد الرحيم، فإن كان هو خالد بن يزيد فهو ثقة من رجال الصحيح، ولم أجد أبو عبد الرحيم في رجال الكتب غيره، ولم أجد أبو عبد الرحيم في الميزان، وهو مجهول " انتهى. والحديث ذكره في كنز العمال (21779) وأشار إلى ضعفه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/149)
محمد صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لك أن تعطيني نبذة عن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اختلف بنو إسرائيل. وحرفوا وبدلوا في عقيدتهم وشريعتهم فانطمس الحق وظهر الباطل وانتشر الظلم والفساد واحتاجت الأمة إلى دين يحق الحق ويمحق الباطل ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) النحل/64.
أرسل الله جميع الأنبياء والرسل للدعوة إلى عبادة الله وحده , وإخراج الناس من الظلمات إلى النور فأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل/36.
وآخر الأنبياء والرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده قال تعالى: (ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الأحزاب/40.
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما قال سبحانه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ًونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) سبأ/28.
وقد أنزل الله على رسوله القرآن يهدي به الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) إبراهيم/1.
وقد ولد الرسول محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي بمكة عام الفيل الذي جاء أصحابه لهدم الكعبة فأبادهم الله وتوفي أبوه وهو في بطن أمه ولما ولد محمد أرضعته حليمة السعدية ثم زار أخواله في المدينة مع أمه آمنة بنت وهب وفي طريق العودة إلى مكة توفيت أمه بالأبواء وعمره ست سنين ثم كفله جده عبد المطلب فمات وعمر محمد ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب يرعاه ويكرمه ويدافع عنه أكثر من أربعين سنة وتوفي أبو طالب ولم يؤمن بدين محمد خشية أن تعيره قريش بترك دين آبائه.
وكان محمد في صغره يرعى الغنم لأهل مكة ثم سافر إلى الشام بتجارة لخديجة بنت خويلد وربحت التجارة وأعجبت خديجة بخلقه وصدقه وأمانته فتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
وقد أنبت الله محمداً صلى الله عليه وسلم نباتاً حسناً وأدبه فأحسن تأديبه ورباه وعلمه حتى كان أحسن قومه خَلقاً وخُلقاً وأعظمهم مروءة وأوسعهم حلماً وأصدقهم حديثاً وأحفظهم أمانة حتى سماه قومه بالأمين.
ثم حُبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء الأيام والليالي يتعبد فيه ويدعو ربه وأبغض الأوثان والخمور والرذائل فلم يلتفت إليها في حياته.
ولما بلغ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة شارك قريشاً في بناء الكعبة لما جرفتها السيول فلما تنازعوا في وضع الحجر الأسود حكموه في الأمر فدعا بثوب فوضع الحجر فيه ثم أمر رؤساء القبائل أن يأخذوا بأطرافه فرفعوه جميعاً ثم أخذه محمد فوضعه في مكانه وبنى عليه فرضي الجميع وانقطع النزاع.
وكان لأهل الجاهلية صفات حميدة كالكرم والوفاء والشجاعة وفيهم بقايا من دين إبراهيم كتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وإهداء البدن وإلى جانب هذا كانت لهم صفات وعادات ذميمة كالزنا , وشرب الخمور وأكل الربا وقتل البنات والظلم , وعبادة الأصنام.
وأول من غير دين إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام عمرو بن لحي الخزاعي فقد جلب الأصنام إلى مكة وغيرها ودعا الناس إلى عبادتها ومنها ود , وسواع , ويغوث , ويعوق, ونسرا.
ثم اتخذ العرب أصناماً أخرى ومنها صنم مناة بقديد واللات بالطائف والعزى بوادي نخلة وهبل في جوف الكعبة وأصنام حول الكعبة وأصنام في بيوتهم واحتكم الناس إلى الكهان والعرافين والسحرة.
ولما انتشر الشرك والفساد بهذه الصورة بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فأنكرت عليه قريش ذلك وقالت: (أجعل الآلهة ألهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) ص/5.
وظلت هذه الأصنام تعبد من دون الله حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فكسرها وهدمها هو وأصحابه رضوان الله عليهم فظهر الحق وزهق الباطل: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) الإسراء/81.
وأول ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء الذي كان يتعبد فيه حيث جاءه جبريل فأمره أن يقرأ فقال الرسول ما أنا بقارئ فكرر عليه وفي الثالثة قال له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم) العلق/1-2-3.
فرجع الرسول , وفؤاده يرجف , ودخل على زوجته خديجة ثم أخبرها وقال لقد خشيت على نفسي فطمأنته وقال: (والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم , وتحمل الكل , وتقرى الضيف , وتكسب المعدوم , وتعين على نوائب الحق) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فلما أخبره بشره وقال له هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى وأوصاه بالصبر إذا آذاه قومه وأخرجوه.
ثم فتر الوحي مدة فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فبينما هو يمشي يوماً إذ رأى الملك مرة أخرى بين السماء والأرض فرجع إلى منزله وتدثر فأنزل الله عليه: (يا أيها المدثر، قم فأنذر) المدثر/1-2 , ثم تتابع الوحي بعد ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم.
أقام النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى عبادة الله وحده سراً ثم جهراً حيث أمره الله أن يصدع بالحق فدعاهم بلين ولطف من غير قتال فأنذر عشيرته الأقربين ثم أنذر قومه ثم أنذر من حولهم ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين. ثم قال سبحانه: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) الحجر/94.
وقد آمن بالرسول قلة من الأغنياء والأشراف والضعفاء والفقراء والعبيد رجالاً ونساءً وأوذي الجميع في دينهم فعُذِّبَ بعضهم وقتل بعضهم , وهاجر بعضهم إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وأوذي معهم الرسول صلى الله عليه وسلم فصبر حتى أظهر الله دينه.
ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خمسين سنة ومضى عشر سنوات من بعثته مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه من أذى قريش ثم ماتت من بعده زوجته خديجة التي كانت تؤنسه فاشتد عليه البلاء من قومه وتجرؤا عليه وآذوه بصنوف الأذى وهو صابر محتسب. صلوات الله وسلامه عليه.
ولما اشتد عليه البلاء وتجرأت عليه قريش خرج إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام فلم يجيبوه , بل آذوه ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه , فرجع إلى مكة وظل يدعوا الناس إلى الإسلام في الحج وغيره.
ثم أسرى الله برسوله ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق بصحبة جبريل , فنزل وصلى بالأنبياء ثم عرج به إلى السماء الدنيا فرأى فيها آدم , وأرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن شماله ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها عيسى ويحيى ثم إلى الثالثة فرأى فيها يوسف ثم إلى الرابعة فرأى فيها إدريس ثم إلى الخامسة فرأى فيها هارون ثم إلى السادسة فرأى فيها موسى ثم إلى السابعة فرأى فيها إبراهيم ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم كلمه ربه فأكرمه وفرض عليه وعلى أمته خمسين في اليوم والليلة ثم خففها إلى خمس في العمل وخمسين في الأجر واستقرت الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة إكراماً منه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة قبل الصبح فقص عليهم ما جرى له فصدقه المؤمنون وكذبه الكافرون: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء/1.
ثم هيأ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ينصره فالتقى في موسم الحج برهط من المدينة من الخزرج فأسلموا ثم رجعوا إلى المدينة , ونشروا فيها الإسلام فلما كان العام المقبل صاروا بضعة عشر فالتقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن , ويعلمهم الإسلام فأسلم على يديه خلق كثير , منهم زعماء الأوس سعد بن معاذ , وأسيد بن حضير.
فلما كان العام المقبل وجاء موسم الحج خرج منهم ما يزيد على سبعين رجلاً من الأوس والخزرج فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن هجره وآذاه أهل مكة , فواعدهم الرسول في إحدى ليالي التشريق عند العقبة فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس ولم يؤمن إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه فتكلم العباس , والرسول , والقوم بكلام حسن ثم بايعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يهاجر إليهم في المدينة على أن يمنعوه , وينصروه ويدافعوا عنه , ولهم الجنة فبايعوه واحداً, واحدا ً, ثم انصرفوا ثم علمت بهم قريش فخرجوا في طلبهم , ولكن الله نجاهم منهم , وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى حين: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) الحج/40.
ثم أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى المدينة فهاجروا أرسالاً إلا من حبسه المشركون ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله وأبو بكر وعلي فلما أحس المشركون بهجرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خافوا أن يلحق بهم فيشتد أمره فتآمروا على قتله فأخبر جبريل رسول الله بذلك فأمر الرسول علياً أن يبيت في فراشه , ويرد الودائع التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها وبات المشركون عند باب الرسول ليقتلوه إذا خرج فخرج من بينهم وذهب إلى بيت أبي بكر بعد أن أنقذه الله من مكرهم وأنزل الله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال/30.
ثم عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة , فخرج هو وأبو بكر إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاث ليال واستأجرا عبد الله بن أبي أريقط وكان مشركاً ليدلهما على الطريق , وسلماه راحلتيهما فذعرت قريش لما جرى وطلبتهما في كل مكان , ولكن الله حفظ رسوله فلما سكن الطلب عنهما , ارتحلا إلى المدينة فلما أيست منهما قريش بذلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما مائتين من الإبل فجد الناس في الطلب وفي الطريق إلى المدينة , علم بهما سراقة بن مالك وكان مشركاً فأرادهما فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض فعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع , وطلب من الرسول أن يدعوا له ولا يضره فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم , فرجع سراقة , ورد الناس عنهما ثم أسلم بعد فتح مكة.
فلما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كبر المسلمون فرحاً بقدومه واستقبله الرجال والنساء والأطفال فرحين مستبشرين فنزل بقباء وبنى هو والمسلمون مسجد قباء وأقام بها بضع عشرة ليلة ثم ركب يوم الجمعة فصلاها في بني سالم بن عوف ثم ركب ناقته ودخل المدينة والناس محيطون به , آخذون بزمام ناقته لينزل عندهم , فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها مأمورة فسارت حتى بركت في موضع مسجده اليوم.
وهيأ الله لرسوله أن ينزل على أخواله قرب المسجد فسكن في منزل أبي أيوب الأنصاري , ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بأهله وبناته وأهل أبي بكر من مكة فجاءوا بهم إلى المدينة.
ثم شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء مسجده في المكان الذي بركت فيه الناقة وجعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد ثم حولت القبلة إلى الكعبة بعد بضعة عشر شهراً من مقدمه المدينة.
ثم آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووادع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وكتب بينه وبينهم كتاباً على السلم والدفاع عن المدينة وأسلم حبر اليهود عبد الله بن سلام وأبى عامة اليهود إلا الكفر وفي تلك السنة تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها.
وفي السنة الثانية شرع الأذان وصرف الله القبلة إلى الكعبة، وفرض صوم رمضان.
ولما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وأيده الله بنصره والتف المهاجرون والأنصار حوله واجتمعت القلوب عليه عند ذلك رماه المشركون , واليهود والمنافقون عن قوس واحدة فآذوه وافتروا عليه وبارزوه بالمحاربة والله يأمره بالصبر والعفو والصفح فلما اشتد ظلمهم وتفاقم شرهم , أذن الله للمسلمين بالقتال , فنزل قوله تعالى: (أذن للذين يُقاتِلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير) الحج/39.
ثم فرض الّله على المسلمين قتال من قاتلهم فقال: (وقاتلوا في سبيل الّله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الّله لا يحب المعتدين) البقرة/190.
ثم فرض الله عليهم قتال المشركين كافة فقال: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) التوبة/36.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ورد كيد المعتدين ودفع الظلم عن المظلومين وأيده الله بنصره , حتى صار الدين كله لله فقاتل المشركين في بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان فنصره الله عليهم وفرق جموعهم وفي السنة الثالثة غدر يهود بني قينقاع فقتلوا أحد المسلمين فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة إلى الشام ثم ثأرت قريش لقتلاها في بدر , فعسكرت حول أحد في شوال من السنة الثالثة ودارت المعركة وعصى الرماة أمر الرسول , فلم يتم النصر للمسلمين وانصرف المشركون إلى مكة ولم يدخلوا المدينة.
ثم غدر يهود بني النضير وهموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بإلقاء الحجر عليه فنجاه الله , ثم حاصرهم في السنة الرابعة وأجلاهم إلى خيبر.
وفي السنة الخامسة غزا الرسول صلى الله عليه وسلم بني المصطلق لرد عدوانهم , فانتصر عليهم وغنم الأموال والسبايا ثم سعى زعماء اليهود في تأليب الأحزاب على المسلمين للقضاء على الإسلام في عقر داره. فاجتمع حول المدينة المشركون والأحباش وغطفان اليهود ثم أحبط الله كيدهم ونصر رسوله والمؤمنين: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً) الأحزاب/25.
ثم حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة لغدرهم , ونقضهم العهد فنصره الله عليهم فقتل الرجال وسبى الذرية وغنم الأموال.
وفي السنة السادسة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت والطواف به فصده المشركون عنه، فصالحهم في الحديبية على وقف القتال عشر سنين، يأمن فيها الناس ويختارون ما يريدون فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
وفي السنة السابعة غزا الرسول خيبر للقضاء على زعماء اليهود الذين آذوا المسلمين، فحاصرهم ونصره الله عليهم وغنم الأموال والأرض وكاتب ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام.
وفي السنة الثامنة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً بقيادة زيد بن حارثه لتأديب المعتدين ولكن الروم جمعوا جيشاً عظيماً فقتلوا قواد المسلمين وأنجى الله بقية المسلمين من شرهم.
ثم غدر كفار مكة فنقضوا العهد فتوجه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم وفتح مكة، وطهر بيته العتيق من الأصنام، وولاية الكفار.
ثم كانت غزوة حنين في شوال من السنة الثامنة لرد عدوان ثقيف وهوازن فهزمهم الله وغنم المسلمون مغانم كثيرة ثم واصل الرسول صلى الله عليه وسلم مسيره إلى الطائف وحاصرها، ولم يأذن الله بفتحها فدعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وانصرف، فأسلموا فيما بعد ثم رجع ووزع الغنائم، ثم اعتمر هو وأصحابه ثم خرجوا إلى المدينة.
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك في زمان عسرة وشدة وحر شديد فسار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لرد كيد الروم فعسكر هناك، ولم يلق كيداً وصالح بعض القبائل، وغنم ثم رجع إلى المدينة وهذه آخر غزوة غزاها عليه الصلاة والسلام وجاءت في تلك السنة وفود القبائل تريد الدخول في الإسلام ومنها وفد تميم ووفد طيء ووفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة وكلهم أسلموا ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يحج بالناس في تلك السنة وبعث معه علياً رضي الله عنه وأمره أن يقرأ على الناس سورة براءة للبراءة من المشركين وأمره أن ينادي في الناس فقال علي يوم النحر: (يا أيها الناس لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته) .
وفي السنة العاشرة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الحج , ودعا الناس إلى ذلك فحج معه من المدينة وغيرها خلقٌ كثير فأحرم من ذي الحليفة , ووصل إلى مكة في ذي الحجة وطاف وسعى وعلم الناس مناسكهم وخطب الناس بعرفات خطبة عظيمة جامعة , قرر فيها الأحكام الإسلامية العادلة فقال: (أيها الناس اسمعوا قولي , فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا , أيها الناس إن دماءكم , وأموالكم , وأعراضكم حرام عليكم , كحرمة يومكم هذا , في شهركم هذا , في بلدكم هذا , ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع , ودماء الجاهلية موضوعة , وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث , كان مسترضعاً في بني سعد , فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع , وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب , فإنه موضوع كله , فاتقوا الله في النساء , فإنكم أخذتموهن بأمان الله , واستحللتم فروجهن بكلمة الله , ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه , فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح , ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف , وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله , وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون , قالوا نشهد أنك قد بلَّغت , وأديت , ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد , اللهم اشهد ثلاث مرات) .
ولما أكمل الله هذا الدين , وتقررت أصوله , نزل عليه وهو بعرفات: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) المائدة/3.
وتسمى هذه الحجة حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودع فيها الناس , ولم يحج بعدها ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من حجه إلى المدينة.
وفي السنة الحادية عشرة في شهر صفر بدأ المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما اشتد عليه الوجع أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلى بالناس وفي ربيع الأول , زاد عليه المرض فقبض صلوات الله وسلامه عليه ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة فحزن المسلمون لذلك حزناً شديداً ثم غُسل وصلى عليه المسلمون يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء ودفن في بيت عائشة والرسول قد مات ودينه باق إلى يوم القيامة.
ثم اختار المسلمون صاحبه في الغار ورفيقه في الهجرة أبا بكر رضي الله عنه خليفة لهم ثم تولى الخلافة من بعده عمر ثم عثمان ثم علي وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون المهديون رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد امتنّ الله على رسوله محمد بنعم عظيمة وأوصاه بالأخلاق الكريمة كما قال سبحانه: (ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث) الضحى/6-11.
وقد أكرم الله رسوله بأخلاق عظيمة لم تجتمع لأحدٍٍ غيره حتى أثنى عليه ربه بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم/4.
وبهذه الأخلاق الكريمة , والصفات الحميدة , استطاع عليه السلام أن يجمع النفوس ويؤلف القلوب بإذن ربه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران/159.
وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأنزل عليه القرآن وأمره بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) الأحزاب/46.
وقد فضل الله رسوله محمداً على غيره من الأنبياء بست فضائل كما قال صلى الله عليه وسلم: (فضلت على الأنبياء بست , أعطيت جوامع الكلم , ونصرت بالرعب , وأحلت لي الغنائم , وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً , وأرسلت إلى الناس كافة , وختم بي النبيون) . رواه مسلم/523.
فيجب على جميع الناس الإيمان به , واتباع شرعه , ليدخلوا جنة ربهم: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) النساء/13.
وقد أثنى الله على من يؤمن بالرسول من أهل الكتاب وبشرهم بالأجر مرتين كما قال سبحانه: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون) القصص/52 -54. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران. الخ) .
ومن لم يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر , والكافر جزاؤه النار كما قال سبحانه: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً) الفتح/13 , وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار) . رواه مسلم/154.
والرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم إلا ما علمه الله ولا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً كما قال سبحانه: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاَّ نذير وبشير لقوم يؤمنون) الأعراف/188.
وقد أرسله الله بالإسلام ليظهره على الدين كله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً) الفتح/28.
ومهمة الرسول هي إبلاغ ما أرسل به , والهداية بيد الله: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ) الشورى/48.
ولما للرسول صلى الله عليه وسلم من فضل عظيم على البشرية , بدعوتها إلى هذا الدين وإخراجها من الظلمات إلى النور , فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمرنا بالصلاة عليه في حالات كثيرة فقال سبحانه: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب/21.
وقد جاهد النبي عليه الصلاة والسلام في سبيل نشر هذا الدين وجاهد أصحابه معه فعلينا الاقتداء به واتباع سنته والسير على هديه كما قال سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) الأحزاب/21.
والإسلام دين الفطرة والعدل دين ارتضاه الله للناس كافة وهو يشتمل على أصول وفروع وآداب وأخلاق وعبادات ومعاملات ولن تسعد الأمة إلا باتباعه والعمل به ولن يقبل الله من الناس غيره كما قال سبحانه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران/85.
اللهم صلّ على محمد , وعلى آل محمد , كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.(9/150)
فضل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن فاطمة وعلي رضي الله عنهما كان لهما طفلة بالاضافة إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما، لكني لا أعرف أي شيء عنها. أرجو أن تخبرنا بشيء عنها، مثلا كيف كانت حياتها، وما إذا كان لها أي دور في التاريخ الإسلامي.. الخ.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فاطمة بنت سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرشية الهاشمية، وأم الحسنين.
مولدها قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، وتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موقعة بدر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها ويكرمها، وكانت صابرة ديِّنة خيِّرة صيِّنة قانِعة شاكِرة لله.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حزِنت عليه، وبكت عليه، وقالت: يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه في جنة الخلد مثواه.
وكانت فاطمة أشبه الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبَّلها ورحَّب بها، وكذلك كانت هي تصنع به.
وعاشت فاطمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، ودفنت ليلاً. قال الواقدي: هذا أثبت الأقوال عندنا. قال: وصلى عليها العباس. ونزل في حفرتها هو وعليّ والفضل.
وكان لها من البنين، الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومن البنات، أم كلثوم، التي تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزينب التي تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ. فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلا أُرَاهُ إِلا حَضَرَ أَجَلِي. وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي. فَبَكَيْتُ. فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ) رواه البخاري (المناقب/3353) .
ومن المواقف التي ظهر فيها فضلها ما ثبت في الصحيحين عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ. فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ....) رواه البخاري (233) ومسلم (3349) ، ومن فضائلها ما ثبت أيضاً في الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي) رواه البخاري (3437) ومسلم (4483)
والله أعلم.
انظر نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء 1/116
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/151)
أول ما بدء برسول الله من الوحي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعرف بداية الإسلام (عندما ذهب للكهف ولم يستطع القراءة) إذا كنت تعلم فأرجو أن تساعدني. الرجاء الإجابة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عن عروة بن الزبير: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
ثم حبب إليه الخلاء
فكان يلحق بغار حراء فيتحنث فيه - والتحنث: التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك
ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها
حتى فجئه الحق وهو في غار حراء
فجاءه الملك فقال: اقرأ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد
ثم أرسلني
فقال: اقرأ
قلت: ما أنا بقارئ
فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد
ثم أرسلني
فقال: اقرأ
قلت: ما أنا بقارئ
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد
ثم أرسلني
فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم} الآيات إلى قوله {علَّم الإنسان ما لم يعلم}
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زملوني، زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع
قال لخديجة: أي خديجة، ما لي لقد خشيت على نفسي
فأخبرها الخبر
قالت خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل - وهو ابن عم خديجة أخي أبيها - وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي
فقالت خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك
قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى
فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟
قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك حيّاً أنصرك نصراً مؤزراً
ثم لم ينشب ورقة أن توفي
وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يحدِّث عن فترة الوحي -: بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ففرقت منه فرجعت فقلت: زملوني، زملوني، فدثروه، فأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر}
قال أبو سلمة: وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون
قال: ثم تتابع الوحي.
رواه البخاري (4671) ومسلم (160) .
ما أنا بقارئ: أي: لا أُحسن القراءة
الجَهد: الشدة والمشقة
أرسلني: أطلقني
بوادره: اللحمة بين الكتف والعنق
زملوني: غطوني ولفوني
الرَّوْع: الفزع
الكلّ: العاجز الفقير
تُكسب المعدوم: تعين المعدم العاجز
جَذعاً: شابّاً فتيّاً.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/152)
كم مرة اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كم مرة اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عن قتادة أن أنسا رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة.
رواه البخاري (الحج/1654) ومسلم (الحج / 1253) .
قال ابن القيم:
اعتمر بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة.
الأولى: عمرة الحديبية وهي أولاهن سنة ست فصدَّه المشركون عن البيت فنحر البُدْن (أي هديه من الإبل) حيث صُدَّ بالحديبية وحلق هو وأصحابه رؤوسهم وحلّوا من إحرامهم ورجع من عامه إلى المدينة.
الثانية: عمرة القضية في العام المقبل دخل مكة فأقام بها ثلاثا ثم خرج بعد إكمال عمرته.
الثالثة: عمرته التي قرنها مع حجته.
الرابعة: عمرته من الجعرانة لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها....
قال: ولا خلاف أن عُمَرَهُ لم تَزِدْ على أربع.
يراجع " زاد المعاد " ج/2 ص/90-93
وقال النووي:
قال العلماء: وإنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العُمَر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر ولمخالفة الجاهلية في ذلك فإنهم كانوا يرونه (أي الإعتمار في ذي القعدة) من أفجر الفجور كما سبق ففعله صلى الله عليه وسلم مرات في هذه الأشهر ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه، والله أعلم.
" شرح مسلم " (8 / 235) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/153)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الركوب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي المراكب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ركب النبي صلى الله عليه وسلم الخيل والإبل والبغال والحمير، وركب الفرس مسرجةً تارة وعرياً أخرى، وكان يُجريها في بعض الأحيان، وكان يركب وحده وهو الأكثر وربما أردف خلفه على البعير، وربما أردف خلفه وأركب أمامه وكانوا ثلاثة على بعير، وأردف الرجال وأردف بعض نسائه، وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل، وأما البغال فالمعروف أنه كان عنده منها بغلة واحدة أهداها له بعض الملوك، ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب بل لما أهديت له البغلة قيل: ألا نُنزي الخيل على الحمر: فقال: " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " (رواه أبو داوود (2565) صححه الألباني في صحيح أبي داوود (2236))
[الْمَصْدَرُ]
زاد المعاد (1/159) .(9/154)
أصهار النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم أصهار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذين تزوجوا من بناته؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بنات النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهن من خديجة رضي الله عنها:
1- زينب رضي الله عنها، وهي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وقد تزوجت من أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه، وولدت له عليا وأمامة، وتوفيت سنة ثمان من الهجرة.
2- رقية رضي الله عنها، وقد تزوجها أولا ابن عمها عتبة بن أبي لهب، ثم طلقها قبل الدخول بها، حين أنزل الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) ، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وقد مرضت في وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة بدر، فأمر عثمانَ رضي الله عنه أن يقيم معها، وضرب له بسهمه من الغنائم، وأجره على الغزوة كأنه شهدها، ولما أن جاء البشير بنصر المسلمين في بدر، وجدهم قد فرغوا من دفنها رضي الله عنها، وقد ولدت لعثمان رضي الله عنه عبد الله، مات وله ست سنوات.
3- أم كلثوم رضي الله عنها، تزوجت أولا من عُتَيْبة بن أبي لهب، وطلقها قبل الدخول كما فعل أخوه عتبة برقية رضي الله عنها. ولما توفيت رقية، زَوَّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أم كلثوم لعثمان رضي الله عنه، وماتت عنده سنة تسع من الهجرة، ولم تلد له.
4- فاطمة رضي الله عنها، وهي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم، تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفر سنة اثنتين من الهجرة، وولدت له الحسن والحسين، وأم كلثوم وزينب. وتوفيت فاطمة رضي الله عنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فهي أول أهله لحوقا به، كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
ينظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (5/321) ، "زاد المعاد" لابن القيم (1/100) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/155)
هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الحكم في قوم يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه، ويقولون أن الصحابة رضي الله عنهم تآمروا عليه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا القول لا يُعرف عن أحد من طوائف المسلمين سوى طائفة الشيعة، وهو قول باطل لا أصل له في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما دلت الأدلة الكثيرة على أن الخليفة بعده هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على ذلك نصاً صريحاً ولم يُوص به وصية قاطعة، ولكنه أمر بما يدل على ذلك حيث أمره بأن يؤم الناس في مرضه، ولما ذكر له من أمر الخلافة بعده، قال عليه الصلاة والسلام: (يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر) ولهذا بايعه الصحابة رضي الله عنهم وأجمعوا على أن أبا بكر أفضلهم وثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان) ، ويُقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتواترت الآثار عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) وكان يقول رضي الله عنه: (لا أوتى بأحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري) ، ولم يدِّع لنفسه أنه أفضل الأمة، ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة، ولم يقل أن الصحابة رضي الله عنهم ظلموه وأخذوا حقه، ولما توفيت فاطمة رضي الله عنها، بايع الصديق بيعة ثانية تأكيداً للبيعة الأولى وإظهاراً للناس أنه مع الجماعة وليس في نفسه شيء من بيعة أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً، ولما طُعن عمر وجعل الأمر شورى بين ستة من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن جملتهم علي رضي الله عنه لم ينكر على عمر ذلك لا في حياته ولا بعد وفاته، ولم يقل أنه أولى منهم جميعاً فكيف يجوز لأحد من الناس أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أنه أوصى لعلي بالخلافة، وعلي نفسه لم يدِّع ذلك ولا أدّعاه أحد من الصحابة له، بل قد أجمعوا على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، واعترف بذلك علي رضي الله عنه، وتعاون معهم جميعاً في الجهاد والشورى وغير ذلك، ثم أجمع المسلمون بعد الصحابة على ما أجمع عليه الصحابة؟ فلا يجوز بعد هذا لأي واحد من الناس ولا لأي طائفة لا الشيعة لا غيرهم أن يدّعوا أن علياً هو الوصي، وأن الخلافة التي قبله باطلة كما لا يجوز لأي أحد من الناس أن يقول أن الصحابة ظلموا علياً وأخذوا حقه، بل هذا من أبطل الباطل ومن سوء الظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جملتهم علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقد نزه الله هذه الأمة المحمدية وحفظها من أن تجتمع على ضلالة، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الكثيرة أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) فيستحيل أن تجتمع الأمة في أشرف قرونها على باطل، وهو خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر، كما لا يقوله من له أدنى بصيرة بحكم الإسلام.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ ابن باز في كتاب فتاوى إسلامية 1/46.(9/156)
لماذا كان يوجد يهود في المدينة على العهد النبوي
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وكانت درعه مرهونة عند يهودي.. السؤال هل كان هذا اليهودي في المدينة؟ وإن كانت الإجابة نعم، فكيف يكون ذلك وقد أجلاهم عنها صلى الله عليه وسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، والنبي عليه الصلاة والسلام أجلى بعض اليهود، وأمر بل أوصى بإجلائهم في مرض موته من جزيرة العرب، وانه لا يجتمع فيها دينان، ثم نفّذ عمر رضي الله عنه وصية النبي عليه الصلاة والسلام.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ: عبد الكريم الخضير.(9/157)
عدد أبناء وبنات النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[كم بنت كان للرسول صلى الله عليه وسلم؟ ومن أي أزواجه رضي الله عنهم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد وبنات أولهم القاسم وبه كان يُكنى مات طفلاً وقيل عاش إلى أن ركب الدابة وسار على النجيبة، ثم زينب وقيل هي أسن من القاسم، ثم رقية، وأم كلثوم، وفاطمة وقد قيل في كل واحدة منهن إنها أسن من أختيها وقد ذكر عن ابن عباس أن رقية أسن الثلاث وأم كلثوم أصغرهن، ثم ولد له عبد الله، وهل ولد بعد النبوة أو قبلها فيه اختلاف وصحح بعضهم أنه ولد بعد النبوة وهل هو الطيب والطاهر أو هما غيره على قولين، والصحيح أنهما لقبان له والله أعلم وهؤلاء كلهم من خديجة ولم يولد له من زوجة غيرها، ثم ولد له إبراهيم من سريته مارية القبطية سنة ثمان من الهجرة) زاد المعاد 1/103.
فأولاد النبي وبناته كلهم من زوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلا إبراهيم فهو من سرية النبي مارية رضي الله عنها والتي أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم المقوقس ملك الإسكندرية وعظيم القبط، وأولاده على الصحيح سبعة ثلاث ذكور وأربع إناث فالذكور:
1- القاسم.
2- عبد الله.
3- إبراهيم.
والإناث:
1- زينب.
2- رقية.
3- أم كلثوم.
4- فاطمة.
وكل أولاده صلى الله عليه وسلم مات في حياته إلا فاطمة فإنها قبضت بعده رضي الله عنها.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/158)
مبيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر في غار ثور
[السُّؤَالُ]
ـ[أبحث عن الحديث الذي روى قصة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر لمكة واختبأ في الكهف وكانت الملائكة تغطي بأجنحتها على مدخل الكهف حتى لا يراه من كان يبحث عنه من الكفار.
ما يعرفه أغلب الناس أن عنكبوتاً بنى بيته على مدخل الكهف ولكنني وجدت أن هذه الرواية ضعيفة أو ملفقة وأن الرواية التي تخبر أن الملائكة غطت بأجنحتها مدخل الكهف هي الرواية الصحيحة.
هل يمكن أن تخبرني باسم الراوي وفي أي كتاب حديث أو سيرة أجد هذه الرواية؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر مبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله في الغار في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليك بيانها:
أولاً: من كتاب الله..
ورد في كتاب الله قصة المبيت في الغار قال تعالى: " إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " المائدة / 40.
فالآية نص واضح على ائتمار المشركين على قتله صلى الله عليه وسلم، وأنهما باتا في الغار.
ثانياً: السنة..
أما ما صح من السنة النبوية في قصة المبيت في الغار:
1 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: ... ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ (أي حاذق سريع الفهم) ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ (أي يخرج من عندهما آخر الليل) فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ ... الحديث.
رواه البخاري (3905) في قصة طويلة بوب عليها: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
2 - عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. رواه البخاري (3653) .
وأما قصة نسج العنكبوت فقد رواها الإمام أحمد (3241) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ.
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، فحسن إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وابن كثير في "البداية والنهاية" (3/222) . وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (3251) : في إسناده نظر اهـ. وقال محققو المسند (3251) : إسناده ضعيف اهـ. والله أعلم.
وأما قصة الحمامتين فقد ذكرها ابن كثير في "البداية والنهاية" (3/223) وقال رواها ابن عساكر ثم قال: هذا حديث غريب جداً من هذا الوجه اهـ وضعفها كذلك محققو المسند في الموضع المشار إليه سابقاً.
وقال الألباني في " السلسلة الضعيفة " (3/339) : واعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين على كثرة ما يذكر ذلك في عض الكتب والمحاضرات التي تلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكن من ذلك على علم اهـ.
وأما ستر الملائكة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر فقد رواه الطبراني في "الكبير" (24/106-108) من حديث أسماء بنت أبي بكر. وهو حديث طويل وفيه: (فقال أبو بكر لرجل يراه مواجه الغار: يا رسول الله إنه ليرانا، فقال: كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها ... الحديث) .
وهذا الحديث في سنده يعقوب بن حُمَيْد بن كاسِب المدني، وقد اختلف فيه أهل العلم. انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (32/318-323) .
فضعفه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، ووهَّاه أبو زرعة الرازي.
وقال أبو داود السجستاني رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كانت مراسيل، فأسندها وزاد فيها.
وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته، وهو كثير الحديث، كثير الغرائب.
وقال الذهبي: كان من علماء الحديث لكنه له مناكير وغرائب.
ووثقه ابن حبان. وقال عنه الحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام.
والألباني رحمه الله يحسن حديثه غير أنه توقف في تحسين هذا الحديث،
قال رحمه الله في "السلسلة الضعيفة" (3/263) :
المتقرر في يعقوب هذا أنه حسن الحديث. . . فإن لم يكن في الإسناد علة أخرى فهو حسن. . . ثم قال: وشيخ الطبراني أحمد بن عمرو الخلال المكي لم أقف له على ترجمة، وقد أخرج له في "المعجم الأوسط" نحو 16 حديثا، مما يدل على أنه من شيوخه المشهورين، فإن عرف أو توبع فالحديث حسن اهـ.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/159)
من هم كتبة رسائل الرسول صلى الله علية وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم كتبة رسائل الرسول صلى الله علية وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن القيم:
فقد ذكر أهل السيرة أسماء الصحابة الذين كانوا يكتبون الوحي أو الرسائل للرسول صلى الله عليه وسلم وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وأبي بن كعب، وعبد الله بن الأرقم، وثابت بن قيس بن شماس، وحنظلة بن الربيع الأسيدي، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وخالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنه أول من كتب له، ومعاوية ابن أبي سفيان، وزيد بن ثابت - وكان ألزمهم لهذا الشأن وأخصهم به – آهـ.
" زاد المعاد " (1 / 117) .
وقال ابن مفلح الحنبلي:
وقد كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعلي وعثمان وحنظلة الأسدي ومعاوية وعبد الله بن الأرقم، وكان كاتبه المواظب على الرسائل والأجوبة، وهو الذي كتب الوحي كله وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتاب السريانية ليجيب عنه من كتب إليه بها، فتعلمها في ثمانية عشر يوما.
" الآداب الشرعية " (2 / 161) .
وقال ابن حجر:
وقال القضاعي: " كان زيد بن ثابت يكتب عنه للملوك، مع ما كان يكتب من الوحي، وكان الزبير وجهم يكتبان أموال الصدقات ".
" التلخيص الحبير " (4 / 346، 347) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/160)
تسريح الشعر
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف كان شكل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وما هي تسريحات الشعر المحرمة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء وصف شَعر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة، وفيها من الأوصاف:
1- لم يكن ملتوياً مقبوضاً (ليس بجَعد) ولا مسترسلاً (ولا سَبْط) .
عن أنس بن مالك - يصف النبي صلى الله عليه وسلم - قال: كان رَبعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير أزهر اللون ليس بأبيض أمْهَق ولا آدم ليس بجَعْدٍ قَطَط ولا سَبْط رَجِل أنزل عليه وهو ابن أربعين (يعني القرآن) ... رواه البخاري (3354) ومسلم (2338) .
أمهق: شديد البياض.
آدم: السمرة الشديدة.
2- وكان شعره يبلغ شحمة أذنه.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعاً بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه. رواه البخاري (3358) ومسلم (2337) .
3- وكان يصل أحياناً إلى منكبه أو عاتقه.
عن قتادة قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجِلا ليس بالسبط ولا الجعد بين أذنيه وعاتقه. رواه البخاري (5565) ومسلم (2337) .
وفي رواية: " كان يضرب شعرُه منكبيه ". رواه البخاري (5563) ومسلم (2338) .
وأحيانا يصل إلى أقل من ذلك، وكل ذلك محمول على تعدد الأحوال، وكل واحد من الصحابة حدَّث بما رأى.
4- وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يخضب شعره.
عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلتُ على أم سلمة فأخرجت إلينا شَعْراً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً. رواه البخاري (5558) .
زاد أحمد (25328) : (مخضوباً بالحناء والكتم)
الكتم: نبات يضبغ به الشعر إذا خُلط بالحناء جعل لون الشعر بين الأسود والأحمر. انظر: عون المعبود شرح حديث (4205)
5- وكان يَفرق شعره.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَسدل شعره وكان المشركون يَفرقون رؤوسَهم، فكان أهل الكتاب يَسدلون رءوسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه. رواه البخاري (3365) ومسلم (2336) .
السدل: الإرسال على الجبين.
الفرْق: فصل الشعر بعضه عن بعض، يميناً وشمالاً من الوسط.
وقد بحث العلماء في فقه هذا الحديث، وخلاصة القول ما قاله الإمام النووي:
والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق، وأن الفرق أفضل. " شرح مسلم " (15 / 90) .
6- وحج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهو ملبد شعره
والتلبيد أن: يُلصق الشعر بعضه ببعض بصمغ أو نحوه حتى يجتمع الشعر ويكون أبعد عن الوسخ ولا يحتاج على غسل فيكون أرفق بالمحرم لاسيما فيما سبق من الزمن مع كثرة تعرض المحرم للوسخ وقلة المياه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبِّداً. رواه البخاري (5570) ومسلم (1184) .
والإهلال: رفع الصوت بالتلبية.
7- وكان صلى الله عليه وسلم ربما جعل شعره ضفائر لاسيما في السفر ليكون أبعد عن الغبار.
عن أم هانئ قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وله أربع غدائر - تعني: عقائص -. رواه الترمذي (1781) وأبو داود (4191) وابن ماجه (3631) وعند ابن ماجه: تعني: ضفائر. والحديث: حسنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (10 / 360) .
وأما التسريحات المحرمة: فيجمعها أمور، منها:
1- القزع، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القَزَع. رواه البخاري (5466) ومسلم (3959) .
وقد فسَّر أحد رواة الحديث القزع بأنه حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه.
قال ابن القيم رحمه الله:
وأما كحلق بعضه وترك بعضه فهو مراتب:
أشدها: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعل شمامسة النصارى.
ويليه: أن يحلق جوانبه ويدع وسطه كما يفعل كثير من السفلة وأسقاط الناس.
ويليه: أن يحلق مقدم رأسه ويترك مؤخره.
وهذه الصور الثلاث داخلة في القزع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها أقبح من بعض. " أحكام أهل الذمة " (3 / 1294)
2- التشبه بالكفار أو الفساق
وهي تسريحات كثيرة، يدخل بعضها في " القزع " – كتسريحة " المارينز " فتمنع لسببين القزع، والتشبه بالكفار -، وبعضها لا قزع فيه غير أنه يختص بالكفار كنصب بعض الشعر وسبل الآخر أو ما شابه ذلك.
ويجمعها كل تسريحة تختص بالكفار أو الفساق فإنه لا يجوز للمسلم التشبه بهم فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم)
رواه أبو داود (4031) .
والحديث: حسَّنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (10 / 271) وجوَّد إسناده شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 82) .
قال شيخ الإسلام:
وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} . " اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 83) .
التشبه بسفلة الناس
وهي تسريحات يخترعها بعض السفلة، وقد تدخل فيما سبق ذكره.
يراجع سؤال رقم (14051)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/161)
حديث الهجرة
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد بعض المعلومات عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لما اشتد الأذى من أهل مكة على المسلمين أمرهم الله تعالى أن يهاجروا ليقيموا دين الله تعالى في الأرض التي يقدرون على عبادته فيها.
فاختار الله تعالى المدينة النبويَّة داراً للهجرة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه يهاجر إليها.
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي [أي ظني] إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ. . . الحديث.
رواه البخاري (3352) ومسلم (4217) .
وروى البخاري (3906) عن عائشة قالت:. . . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قال الحافظ:
وَالْحَرَّة أَرْضٌ حِجَارَتُهَا سُودٌ , وَهَذِهِ الرُّؤْيَا غَيْر الرُّؤْيَا السَّابِقَة في حَدِيث أَبِي مُوسَى الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ اِبْن التِّين: كَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ دَار الْهِجْرَة بِصِفَةٍ تَجْمَع الْمَدِينَة وَغَيْرهَا , ثُمَّ أُرِيَ الصِّفَة الْمُخْتَصَّة بِالْمَدِينَةِ فَتَعَيَّنَتْ اهـ
وأما عن أول من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
فعن البراء رضي الله عنه قال: " أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء. . . ".
رواه البخاري (4560) .
وفي الحديث التالي مختصر لكثير من أحداث الهجرة النبوية:
عن عائشة قالت:. . . . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ -وَهُوَ الْخَبَطُ- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. . . ثم قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ [أي: أريد المصاحبة] بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالثَّمَنِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ [أي: حاذق سريع الفهم] فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ [أي يخرج من عندهما آخر الليل] فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ. وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيَا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ. . . وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَخَطَطْت بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا [المراد أنه خرج خفيةً] فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي [أي لم يأخذا مما معي شيئاً] وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا. فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ مِنْ الشَّأْمِ فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ [أي حص] مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ [هو الموضع الذي يجفف فيه التمر] لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ فَارْحَمْ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ.
رواه البخاري (3906) .
ولكن هناك شبهة يقول بها بعض المشككين في الدين، يقولون: تروي السيرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر هو وأبو بكر بناقتين ودخلوا الغار ولحقتهم قريش تطلبهم فلو كان معهما ناقتان لعرف أهل قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم وصاحبه قد دخلا الغار، فأين الناقتان؟
وهؤلاء المشككين يريدون الطعن في الدين من أجل ألا يثق الناس بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحسبونها ضرباً من الخيال والكذب.
والجواب على هذه الشبهة في غاية السهولة واليسر. . فالرواية السابقة التي جهلها - أو تجاهلها – هؤلاء ترد عليهم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ هادياً يدلهم على الطريق وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما. . .
ففي هذا الحديث من الرد ما يلقمهم الحجر، والحمد لله على الهدى بعد الضلال.
ومما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في طريقهما إلى المدينة:
عن أبي بكر رضي الله عنهم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ـ وأنا في الغار ـ: " لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ".
رواه البخاري (3380) ومسلم (4389) .
وهذا مختصر لأحداث الهجرة، ومن أراد الاستزادة فليراجع كتاب البداية والنهاية لابن كثير (4/168-205) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/162)
هل قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من المشركين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تخبرني هل قتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم أحداً من أعدائه أثناء الغزوات التي شارك بها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روى البخاري (4073) ومسلم (1793) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
قال النووي:
قَوْله: (فِي سَبِيل اللَّه) اِحْتِرَاز مِمَّنْ يَقْتُلهُ فِي حَدّ أَوْ قِصَاص ; لأَنَّ مَنْ يَقْتُلهُ فِي سَبِيل اللَّه كَانَ قَاصِدًا قَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ
ولا يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل أحداً من المشركين بيده إلا أبي بن خلف.
روى ذلك ابن جرير والحاكم عن سعيد بن المسيب والزهري رحمهما الله تعالى. قال ابن كثير في التفسير (2/296) : سنده صحيح اهـ
وقال ابن القيم – في سياق غزوة أُحُد -:
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، وكان أول مَن عرفه تحت المِغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته: " يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فأشار إليه أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشِّعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصِّمَّة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلىالجبل أدرك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُبَيُّ بن خلف على جواد له يقال له " العوذ " زعم عدو الله أنه يَقتل عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصِّمَّة فطعنه بها، فجاءت في تَرقوته، فكرَّ عدوُّ الله منهزماً، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، وكان يعلف فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمَّداً، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: " بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى "، فلمَّا طعنه تذكر عدوُّ الله قوله أنا قاتله، فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه بسَرِف مرجعه إلى مكة اهـ
" زاد المعاد " (3 / 199) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/163)
هل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم وقفاً لتميم الداري في فلسطين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى الخليل في فلسطين وقف لبني تميم وكتب لهم عقدا" بهذا وكان من الشهود عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنهم ما يزالون يعيشون بالخليل ويتمسكون بحقهم في الوقف، فهل هذا صحيح؟ مع أن فلسطين لم تكن للمسلمين في ذلك الوقت؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء في عدة روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع تميماً الداري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " بيت حبرون " وهي " الخليل " الآن.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
تميم بن أوس بن خارجة أبو رقية الداري.
انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان ونزل بيت المقدس وكان إسلامه سنة تسع.
قال يعقوب بن سفيان: لم يكن له ذَكَر، وإنما كانت له ابنة تسمى رقية.
وجاء من وجوه عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه بيت حبرون.
" تهذيب التهذيب " (1 / 449) مختصراً.
وجاء في معجم البلدان (2/212) :
" حَبْرُون اسم القرية التي فيها قبر إبراهيم الخليل عليه السلام بالبيت المقدس، وقد غلب على اسمها الخليل.
وقدم على النبي تميم الداري في قومه وسأله أن يقطعه حبرون فأجابه وكتب له كتابا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه: إني أعطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم بذمتهم وجميع ما فيهم، عطية بت، ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم بعدهم، أبد الآبدين، فمن آذاهم فيه آذى الله، شهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب " اهـ باختصار.
ولم تكن " فلسطين " يومئذٍ بأيدي المسلمين، بل كانت بأيدي الروم، فأقطعهم الرسول صلى الله عليه وسلم إياها بعد أن يفتحها الله عليه. فيكون هذا كالبشارة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتحها.
ولما فتحت في عهد عمر وفّى بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقفها تميم على ذريته وعلى خيرات حددها، فهو أول وقف في الإسلام في أرض فلسطين، وقد ذكر المقدسي في كتابه " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ": " ... وجود دار ضيافة دائمة مع خباز وطباخ وخدام يقدمون العدس بالزيت لكل حاجّ أو زائر يمر بمدينة الخليل، وهذه الضيافة والإطعام من وقف تميم الداري رضي الله عنه ".
وقال القلقشندي:
قال الحمداني: وبلد الخليل عليه السلام معمور من بني تميم الداري رضي الله عنه وبيد بني تميم هؤلاء الرقعة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لتميم وإخوته بإقطاعهم بيت حبرون التي هي بلد الخليل عليه السلام وبعض بلادها.
" صبح الأعشى " (1 / 47) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/164)
حِجر إسماعيل، تسمية لا أصل لها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل دفنَ إسماعيل عليه السلام والدته هاجر في "حِجْرِ إسماعيل"؟ فقد سمعت ذلك من أحد شيوخنا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ننبه أولا إلى أن تسمية الناس للحِجر بحِجر إسماعيل تسمية لا أصل لها، ولا علم لإسماعيل عليه السلام بهذا الحجر، فقد بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الكعبة بناء كاملا مشتملا على هذا الحجر، ثم إن جدران الكعبة تصدعت من أثر حريق وسيل جارف حدث قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهدمت قريش ما بقي من جدرانها، ثم أعادت بناءها، فقصرت بها النفقة الطيبة عن إتمام البناء على قواعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فأخرجوا منها الحِجر، وبنوا عليه جدارا قصيرا دلالة على أنه منها، وكانوا قد شرطوا على أنفسهم ألا يدخلوا في بنائها إلا نفقة طيبة، لا يدخلها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجَدْر أمن البيت هو؟ قال نعم. قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال إن قومك قصرت بهم النفقة "
رواه البخاري 1584 ومسلم 1333.
والجَدر: لغة في الجدار، والمراد به الحِجر.
فالصواب أن يقال: الحجر، دون أن ينسب إلى إسماعيل عليه السلام.
ولم يثبت في حديث مرفوع أن هذا الحجر دفن فيه إسماعيل عليه السلام، أو دفنت فيه هاجر. لكن وردت آثار موقوفة بأسانيد واهية تفيد أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر.
وانظر في ذلك: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد للشيخ اللأباني رحمه الله ص 75، 76
وكون إسماعيل عليه السلام يدفن أمه داخل الكعبة، أو يدفنه أبناؤه فيها أمر مستبعد غاية الاستبعاد، والقول به فرع عن ثبوته، ولم يثبت شيء من ذلك ولله الحمد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/165)
كم رمضان صام الرسول صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كم رمضان صام الرسول صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أجمع العلماء على أن صوم شهر رمضان فرض في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات، لأنه صلى الله عليه وسلم توفي في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة.
قال في "الإنصاف":
فُرِضَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إجْمَاعًا , فَصَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ إجْمَاعًا اهـ.
وقال النووي في المجموع:
صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ تِسْعَ سِنِينَ ; لأَنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ , وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ اهـ.
وانظر أيضاً "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/20) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/166)
أم حرام وأم سليم من محارم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم سليم وأم حرام؟ اعتاد الرسول صلى الله عليه وسلم الذهاب لبيوتهم ويستريح عندهم، هل كانتا صحابيات من محارم الرسول؟ وما صلة القرابة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أم سليم هي سهلة أو رميلة أو مليكة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية رضي الله عنها، وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنه، مشهورة بكنيتها، واختلف في اسمها. الإصابة 8/227
وأم حرام: هي بنت ملحان رضي الله عنها، وهي أخت أم سليم. قال ابن عبد البر: لا أقف لها على اسم صحيح.
وهما من محارم النبي صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري (2789) ومسلم (1912) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ شَكَّ إِسْحَاقُ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنْ الأَوَّلِينَ فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ.
وروى مسلم (2331) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا وَلَيْسَتْ فِيهِ قَالَ فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ فِي بَيْتِكِ عَلَى فِرَاشِكِ قَالَ فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا فَفَزِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا قَالَ أَصَبْتِ.
قال النووي رحمه الله:
قال رحمه الله: (اتفق العلماء على أن أم حرام كانت محرما له صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة. وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده لأن عبد المطلب كانت أمه من بنى النجار) اهـ.
وقال أيضاً:
أُمّ حَرَام أُخْت أُمّ سُلَيْمٍ، وقد كَانَتَا خَالَتَيْنِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْرَمَيْنِ إِمَّا مِنْ الرَّضَاع , وَإِمَّا مِنْ النَّسَب, فَتَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَة بِهِمَا , وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا خَاصَّةً , لا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرهمَا مِنْ النِّسَاء إِلا أَزْوَاجه اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/167)
صفة خاتم النبوة
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد رأيت ورقة مرسوماً عليها شكل خاتم النبوة حيث يدعى بأن هذا الشكل هو ما كان موجودا بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكتوب عليه عبارات باللغة العربية مثل لفظ الجلالة واسم سيدنا محمد وعبارات أخرى. أرجو توضيح ذلك، وإعطاء الوصف الصحيح للخاتم، وتنبيه المسلمين لذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من الصفات التي وصف بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتب المتقدمة أنه بين كتفيه خاتم النبوة، فكان ذلك علامة على صدقه، وأَنَّهُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد وردت صفة خاتم النبوة في السنة الصحيحة أنه كان بارزاً في حجم بيضة الحمامة، بين كتفي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حوله خِيلان [جمع خال: نقطة تضرب إلى السواد وتسمى شامة] ، وعليه شعرات مجتمعات.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ:
اتَّفَقَتْ الأَحَادِيث الثَّابِتَة عَلَى أَنَّ خَاتَم النُّبُوَّة كَانَ شَيْئًا بَارِزًا عِنْد كَتِفه الأَيْسَر، قَدْره قَدْر بَيْضَة الْحَمَامَة اهـ. بتصرف.
ولم يثبت أن الخاتم كان مكتوباً عليه لفظ الجلالة أو (محمد) أو غير ذلك من الكلمات.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/650) :
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ كَأَثَرِ مِحْجَم , أَوْ كَالشَّامَةِ السَّوْدَاء أَوْ الْخَضْرَاء , أَوْ مَكْتُوب عَلَيْهَا "مُحَمَّد رَسُول اللَّه" أَوْ "سِرْ فَأَنْتَ الْمَنْصُور" أَوْ نَحْو ذَلِكَ , فَلَمْ يَثْبُت مِنْهَا شَيْء. . . وَلا تَغْتَرّ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا فِي صَحِيح اِبْن حِبَّانَ فَإِنَّهُ غَفَلَ حَيْثُ صَحَّحَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
وهذه بعض الأحاديث الواردة في خاتم النبوة:
1- روى مسلم (2344) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "رأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده ".أَيْ: يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ سَائِرِ أَعْضَائِهِ.
2- وروى مسلم أيضاً (2346) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ قَالَ ثَرِيدًا. . . قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ.
(نَاغِض كَتِفه) هو أَعْلَى الْكَتِف , وَقِيلَ: هُوَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي أَعْلَى طَرَفه.
(جُمْعًا) مَعْنَاهُ: عَلَى هَيْئَة جَمْع الْكَفّ أي بعد أَنْ تَجْمَعَ الأَصَابِع وَتَضُمَّهَا , لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي قَدْر بَيْضَة الْحَمَامَة.
(الْخِيلَان) جَمْع (خَال) , وَهُوَ الشَّامَة فِي الْجَسَد. انظر شرح مسلم للنووي.
(الثآليل) : قال ابن الأثير في "النهاية":
جَمْع ثُؤلُول، وهُو هذه الحبَّة التي تَظْهر في الجِلد كالحِمَّصَة فما دُونها اهـ.
3- وروى الترمذي في الشمائل عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال: فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. وسئل: ما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات. صححه الألباني في "مختصر الشمائل " ص 31.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/168)
هل " مارية القبطية " من أمهات المؤمنين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إنه مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بنى بمارية القبطية والتي كانت ملك يمينه، وأنجبت له ولده إبراهيم، فهل يطلق على مارية القبطية لقب " أم المؤمنين " أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية، بل كانت أمَة له، وكان قد أهداها له المقوقس صاحب مصر، وذلك بعد صلح الحديبية، وقد كانت مارية القبطيَّة نصرانيَّة ثم أسلمت رضي الله عنها.
قال ابن سعد:
فأنزلها – يعني مارية القبطية - رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأختها على أم سليم بنت ملحان فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلمتا فوطئَ مارية بالملك وحولها إلى مال له بالعالية … وكانت حسنة الدِّين.
" الطبقات الكبرى " (1 / 134 – 135) .
وقال ابن عبد البر:
وتوفيت مارية في خلافة عمر بن الخطاب، وذلك في المحرم من سنة ست عشرة، وكان عمر يحشر النَّاس بنفسه لشهود جنازتها، وصلى عليها عمر، ودفنت بالبقيع. " الاستيعاب " (4 / 1912) .
ومارية رضي الله عنها من إمائه صلَّى الله عليه وسلَّم، لا من أزواجه وأمهات المؤمنين هن أزوج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، قال الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) الأحزاب/6.
وقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أربع إماء، منهم مارية.
قال ابن القيم:
قال أبو عبيدة: كان له أربع: مارية وهي أم ولده إبراهيم، وريحانة، وجارية أخرى جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
" زاد المعاد " (1 / 114) .
وانظر في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمهات المؤمنين رضي الله عنهن – جواب السؤال رقم: (47072)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/169)
أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
[السُّؤَالُ]
ـ[كم عدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وما أسماؤهن؟ أرجو الجواب بدليل واضح مع ذكر رقم الحديث واسم الكتاب ورقم الصفحة. حيث يوجد كثير من الخلط في هذا الموضوع.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما يلي:
1- خديجة بنت خويلد رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
وهي أول أزواجه عليه الصلاة والسلام، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم.
عقد البخاري رحمه الله باباً في صحيحه فقال: بَاب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ وَفَضْلِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وروى فيه حديثا عن عائشة رضي الله قَالَتْ: (مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ (أي: ماتت) قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا) رواه البخاري (3815) .
2- سودة بنت زمعة بن قيس:
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من النبوة، طبقات ابن سعد من طريق الواقدي 8/52-53، وابن كثير في البداية والنهاية 3/149.
3- عائشة بنت أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما:
عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة العاشرة من النبوة. ابن سعد 8/58-59. قالت هي نفسها: (تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين) . رواه البخاري (3894) ومسلم (1422) . وروى البخاري (5077) أيضا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا.
4- حفصة بنت عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما:
عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ (أي: مات زوجها خنيس) وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا. قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا. رواه البخاري (4005) .
5- زينب بنت خزيمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة. طبقات ابن سعد 8/115.
6- أم سلمة بنت أبي أمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
روى مسلم (918) عن أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا) . قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي رواية: (فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
7-جويرة بنت الحارث رضي الله عنها:
وقعت أسيرة في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه أن يعينها في مكاتبتها لعتق رقبتها، فعرض عليها قضاء كتابته وزواجه بها فقبلت. فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها. فلما علم الناس بذلك أعتقوا مَنْ بأيديهم من السبي (الأسرى) إكراما لأصهار الرسول صلى الله عليه وسلم. فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها. رواه ابن إسحاق بإسناد حسن، سيرة ابن هشام 3/408-409.
8- زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
وفيها نزل قول الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) الأحزاب/37.
وبهذا كانت تفتخر على نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول: (زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ) رواه البخاري (7420) .
9- أم حبيبة بنت أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما:
روى أبو داود (2107) عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، فَمَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلافٍ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ. صححه الألباني.
10- ميمونة بنت الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. رواه البخاري (1837) ومسلم (1410) .
وقوله: (وهو محرم) وهم، والصواب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها بعد أن تحلل من عمرة القضاء.
انظر: "زاد العاد" (1/113) ، "فتح الباري" حديث رقم (5114) .
11- صفية بنت حيي بن أخطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها بعد غزوة خيبر. رواه البخاري (371) .
فهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهن، وتوفيت منهن اثنتان في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهما: خديجة، وزينب بنت خزيمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التسع البواقي من غير خلاف بين أهل العلم.
وانظر: "زاد المعاد" (1/105-114) .
وقيل: ومن أزواجه ريحانة بنت عمرو النضرية، وقيل: القرظية، سبيت يوم غزوة بني قريظة، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فأعتقها وتزوجها، ثم طلقها تطليقة ثم راجعها. طبقات ابن سعد عن الواقدي 8/130.
وقيل: بل كانت أمَتَه، وكان يطؤها بملك اليمين. ورجحه ابن القيم في "زاد المعاد".
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/170)
آخر كلام تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو آخر حديث نطق به الرسول صلي الله عليه وسلم قبل أن يودع عليه الصلاة والسلام الدنيا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
آخر ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يودع الدنيا: (اللهم الرفيق الأعلى) وعلى ذلك بوب البخاري في كتاب المغازي من صحيحه، باب: آخر ما تكلم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وساق حديث عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى فَقُلْتُ إِذًا لا يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَتْ فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى ٌ) رواه البخاري (4463) ومسلم (2444)
وأما ما رواه أحمد (1691) من حديث أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، صححه الألباني في الصحيحة برقم (1132) وما رواه أبو داود (5156) وابن ماجه (2698) من حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ آخِرُ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ الصَّلاةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) صححه الألباني في صحيح أبي داود، ونحو ذلك من الأحاديث فالمراد بها أن ذلك من آخر ما تكلم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو أن ذلك آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم ـ من الذي كان يوصي به أهله وأصحابه وولاة الأمور من بعده. فهذه الأحاديث آخريتها نسبية، وأما حديث عائشة فآخريته مطلقة.
انظر فيض القدرير للمناوي (5/250-251) .
فائدة: قال السهيلي: الحكمة من اختتام كلام المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الكلمة (اللهم الرفيق الأعلى) كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منه الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان، لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره، إذا كان قلبه عامرا بالذكر.
نقله الحافظ في الفتح (8/138) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/171)
نظرة واقعية للزواج من الكتابيات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يحق للرجل المسلم الزواج من امرأة نصرانية أو يهودية كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية، بل كانت أمَة له، وكان قد أهداها له المقوقس صاحب مصر، وذلك بعد صلح الحديبية.
والأمة يجوز الاستمتاع بها ومعاشرتها حتى لو لم تكن مسلمة لأنها من ملك اليمين والله تعالى أباح ملك اليمين من غير شرط الإسلام قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) سورة المؤمنون/5-6
أما الزواج من نصرانية أو يهودية فهو جائز بنص القرآن بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) المائدة / 5.
قال ابن القيم:
ويجوز نكاح الكتابية بنص القرآن، قال تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} ، والمحصنات هنا هن العفائف، وأما المحصنات المحرمات في سورة النساء فهن المزوجات، وقيل: المحصنات اللاتي أُبحن هن الحرائر، ولهذا لم تحل إماء أهل الكتاب، والصحيح: الأول لوجوه – وذكرها -.
والمقصود: أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب، وفعله أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، فتزوج عثمان نصرانية، وتزوج طلحة بن عبيد الله نصرانية، وتزوج حذيفة يهودية.
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية، فقال: ما أحب أن يفعل ذلك، فإن فعل فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
" أحكام أهل الذمة " (2 / 794، 795) .
ونحن وإن قلنا بالجواز، ولا نشك بذلك للنص الواضح فيه، إلا أننا لا نرى أن يتزوج المسلم كتابية، وذلك لأمور:
الأول: أن من شروط التزوج من الكتابية أن تكون عفيفة، وقلَّ أن يوجد في تلك البيئات من هن عفيفات.
والثاني: أن من شروط التزوج من الكتابية أن تكون الولاية للمسلم، والحاصل في هذا الزمان أن من يتزوج من بلد كافر فإنه يتزوجهن وفق قوانينها، فيطبقون عليه نصوص قوانينهم وفيها من الظلم والجور الشيء الكثير، ولا يعترفون بولاية المسلم على زوجته وأولاده، وإذا ما غضبت المرأة من زوجها هدمت بيته وأخذت أولادها بقوة قانون بلدها، وبإعانة سفاراتها في كافة البلاد، ولا يخفى الضعف والعجز في مواجهة تلك البلاد وسفاراتها في بلدان المسلمين.
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رغَّبنا بذات الدين من المسلمات، فلو كانت مسلمة توحد الله لكنها ليست ذات دين وخلق فإنه لا يرغب بزواجها، لأن الزواج ليس هو الاستمتاع بالجماع فقط، بل هو رعاية لحق الله وحق الزوج، وحفظ لبيته وعرضه وماله، وتربية لأولاده، فكيف يأمن من يتزوج كتابية على تربية أبنائه وبناته على الدين والطاعة، وهو تارك لهم بين يدي تلك الأم التي تكفر بالله تعالى وتشرك معه آلهة؟ .
لذا وإن قلنا بجواز التزوج من كتابية إلا أنه غير محبَّذٍ ولا يُنصح به، لما يترتب عليه من عواقب، فعلى الإنسان المسلم العاقل أن يتخيّر لنطفته أين يضعها. وأن ينظر نظراً مستقبلياً لحال أولاده ودينهم، وألا يعميه عن النظر الواعي شهوة جارفة، أو مصلحة دنيوية عاجلة أو جمال ظاهري خادع، فإنما الجمال جمال الدين والأخلاق.
وليعلم أنه إن ترك مثل هذه الزيجات ابتغاء الأفضل لدينه ودين أبنائه فإن الله تعالى يعوِّضه خيراً، إذ أن " من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه " كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. انظر جواب السؤال رقم: (2527) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/172)
من خصائصه صلى الله عليه وسلم: جواز الخلوة بالمرأة الأجنبية والنظر إليها
[السُّؤَالُ]
ـ[قد سمعت أن هناك رأياً بإجماع الأمة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر محرما لكل نساء المسلمين لما قد أمره الله في الكتاب (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) وبهذا قد حرم عليه الله كل النساء فهل أصبح بذلك محرما أي يجوز التكشف أمامه كأحد المحارم بالنسبة للنساء الأوائل من قبل بالطبع أو كان رسول الله بعد هذا الأمر يبيت في بيوت المسلمين لأنه محرم لنسائهم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذهب كثير من أهل العلم إلى من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز خلوته بنساء أمته ونظره إليهن وإركابهن خلفه على الدابة.
قال الحطاب المالكي: "ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام جواز خلوته بالأجنبية كما نقل الدماميني في حاشيته على البخاري في أول كتاب الجهاد في دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام بنت ملحان وقال الشيخ جلال الدين في المباحات: واختص صلى الله عليه وسلم بإباحة النظر للأجنبيات والخلوة بهن وإردافهن (أي إركابهن خلفه) " انتهى من مواهب الجليل 3/402
وقال البجيرمي الشافعي في حاشيته على الخطيب: (أما هو – صلى الله عليه وسلم- فقد اختص بإباحة النظر إلى الأجنبيات والخلوة بهن وإردافهن على الدابة خلفه ; لأنه مأمون لعصمته ; وهذا هو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية , وأما الجواب بأنها كانت محرمة من رضاع فرده الدمياطي بعدم ثبوته) انتهى من حاشية البجيرمي 3/372
وقال الحافظ ابن حجر في شرح حديث الرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قالت: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ: (دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ) رواه البخاري (4750)
قال الحافظ: (والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية) انتهى من الفتح 9/203.
وقد اختار كثير من العلماء أن أم حرام كانت من محارم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل حكاه النووي اتفاقاً للعلماء.
وقال في مطالب أولي النهى (5/34) – من كتب الحنابلة-: (وله أن يردف الأجنبية خلفه لقصة أسماء. وروى أبو داود عن امرأة من غفار: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبته. وله أن يخلو بها لقصة أم حرام) اهـ.
وحديث أسماء الذي أشار إليه رواه البخاري (4823) ومسلم (4050) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ (والفرسخ ثلاثة أميال) فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ (كلمة تقال للبعير لمن أراد أن ينيخه) لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي.
وأما حديث المرأة التي من غفار فقد رواه أبو داود (313) عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَتْ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ. . . الحديث. ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.
والرحل ما يركب عليه على البعير، وحقيبة الرحل زيادة تجعل في مؤخرة الرحل.
وليست هذه المسألة من المسائل التي أجمع عليها العلماء، بل في كلام بعضهم تصريح بخلاف ذلك، قال العراقي في "طرح التثريب" (5/167) في شأن دخول النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير: (دخوله عليه الصلاة والسلام على ضباعة عيادة أو زيارة وصلة فإنها قريبته كما تقدم وفيه بيان تواضعه وصله وتفقده صلى الله عليه وسلم، وهو محمول على أن الخلوة هناك كانت منتفية فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يخلو بالأجنبيات ولا يصافحهن وإن كان لو فعل ذلك لم يلزم منه مفسدة لعصمته , لكنهم لم يعدوا ذلك من خصائصه فهو في ذلك كغيره في التحريم) اهـ.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/173)
حكمة زواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعائشة رُغم فارق السنّ
[السُّؤَالُ]
ـ[سألني زميل لي نصراني عن حكمة زواج الرسول صلي الله عليه وسلم من السيدة عائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين وقد كان قارب الستين. وهل عاشرها معاشرة الأزواج وهي في هذه السن أم ماذا؟؟ وللحقيقة.. أنا لا أعرف الرد عن ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بعد زواجه من سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وهي – أي عائشة - البكر الوحيدة التي تزوجها صلى الله عليه وسلم. وقد دخل بها وهي بنت تسع سنين.
وكان من فضائلها رضي الله عنها أنه ما نزل الوحي في لحاف امرأة غيرها، وكانت من أحب الخلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وكانت من أفقه نسائه وأعلمهن، بل أفقه نساء الأمة وأعلمهن على الإطلاق، وكان الأكابر من أصحاب النبي يرجعون إلى قولها ويستفتونها.
أما قصة زواجها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حزن على وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، إذ كانت تؤويه وتنصره، وتعينه وتقف إلى جنبه، حتى سمي ذلك العام الذي توفيت فيه بعام الحزن، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعدها سودة، وكانت مسنة، ولم تكن ذات جمال، وإنما تزوجها مواساة لها، حيث توفي زوجها، وبقيت بين قوم مشركين، وبعد أربع سنوات تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، وكان عمره صلى الله عليه وسلم فوق الخمسين، ولعل من الحكم في زواجه ما يلي:
أولا: أنه رأى رؤيا في زواجه صلى الله عليه وسلم منها، فقد ثبت في البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أُريتك في المنام مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقال: هذه امرأتك، فاكشف عنها فإذا هي أنت فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه) رواه البخاري برقم 3682، وهل هي رؤيا نبوة على ظاهرها، أم لها تأويل، فيه خلاف بين العلماء ذكره الحافظ في فتح الباري (9/181)
ثانيا: ما رآه صلى الله عليه وسلم في عائشة رضي الله عنها من أمارات ومقدمات الذكاء والفطنة في صغرها، فأحب الزواج بها لتكون أقدر من غيرها على نقل أحواله صلى الله عليه وسلم وأقواله، وبالفعل فقد كانت رضي الله عنها – كما سبق – مرجعا للصحابة رضي الله عنهم في شؤونهم وأحكامهم.
ثالثا: محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيها أبي بكر رضي الله عنه، وما ناله رضي الله عنه في سبيل دعوة الحق من الأذى الذي صبر عليه، فكان أقوى الناس إيمانا، وأصدقهم يقينا على الإطلاق بعد الأنبياء.
ويلاحظ في مجموع زواجه صلى الله عليه وسلم أن من بين زوجاته الصغيرة، والمسنة، وابنة عدو لدود، وابنة صديق حميم، ومنهن من كانت تشغل نفسها بتربية الأيتام، ومنهن من تميزت على غيرها بكثيرة الصيام والقيام.... إنهن نماذج لأفراد الإنسانية، ومن خلالهن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين تشريعا فريدا في كيفية التعامل السليم مع كل نموذج من هذه النماذج البشرية. انظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص711
أما مسألة صغر سنها رضي الله عنها، واستشكالك لهذا، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في بلاد حارة وهي أرض الجزيرة، وغالب البلاد الحارة يكون فيها البلوغ مبكرا، ويكون الزواج المبكر، وهكذا كان الناس في أرض الجزيرة إلى عهد قريب، كما أن النساء يختلفن من حيث البنية والاستعداد الجسمي لهذا الأمر وبينهن تفاوت كبير في ذلك.
وإذا تأمّلت ـ رعاك الله ـ في أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتزوّج بكراً غير عائشة رضي الله عنها، وكلّ زوجاته سبق لهنّ الزواج قبله زال عنك ما يشيعه أكثر الطاعنين من أن زواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعثه الأساسي هو الشهوة والتنعّم بالنساء، إذ من كان هذا مقصده فإنّه لا يتخيّر في كلّ زوجاته أو معظمهن من توفرت فيها صفات الجمال والترغيب من كونها بكراً فائقة الجمال، ونحو ذلك من المعايير الحسية الزائلة.
ومثل هذه المطاعن في نبي الرحمة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكفّار ونحوهم تدلّ على تمام عجزهم من أن يطعنوا في الشرع والدين الذي جاء به من عند الله تعالى، فحاولوا أن يبحثوا عن مطاعن لهم في أمور خارجة، ولكن يأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
وبالله التوفيق
للمزيد انظر (زاد المعاد 1 / 106) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/174)
يسأل عن جمل النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما أسم جمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في فصل عن دواب النبي صلى الله عليه وسلم وما الذي كان له منها قال:
(ومن الإبل القصواء، قيل وهي التي هاجر عليها، والعضباء والجدعاء.. وهل العضباء والجدعاء واحدة أو اثنتان؟ فيه خلاف، والعضباء هي التي كانت لا تسبق، ثم جاء أعرابي على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حقا على الله ألا يرفع من الدنيا شيئا إلا وضعه) وغنم صلى الله عليه وسلم يوم بدر جملا مهريا لأبي جهل في أنفه برة من فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ به المشركين) زاد المعاد 134.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/175)
مطلوب منه بحث عن الإسلام وأثره على أوربا
[السُّؤَالُ]
ـ[ناقش ظهور الإسلام وانتشاره بدراسة حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأفكاره الدينية وتاريخ القرن الذي بعد وفاته. اشرح بالتفصيل أفكار محمد الدينية مقسماً إياها إلى ثلاث أقسام: كيف انعكست هذه الأفكار على حياة محمد الشخصية، على معتقداته وخلفياته، وعلى مجتمع القرن السابع عموماً. ثم اشرح متى وكيف انتشر الإسلام من جزيرة العرب ووصل أوروبا. ووضح أثر الإسلام على النصارى في الغرب وفي بلاد العرب والمناطق المجاورة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لم يأتِ نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم بأفكارٍ من عند نفسه، بل ما جاء به إنما هو من عند الله تعالى، وهو وحي أوحاه الله له.
ثانياً:
أما حياته صلى الله عليه وسلم:
فهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق فلنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم: قومه، وأشرف القبائل: قبيلته، وأشرف الأفخاذ: فخذه، فهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان … بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
بعثه الله على رأس أربعين، وهي سن الكمال، وأول ما بدئ به رسول الله من أمر النبوة: الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، قيل وكان ذلك ستة أشهر ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة فجاءه الملك وهو بغار حراء وكان يحب الخلوة فيه فأول ما أنزل عليه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} العلق/1.
وكان لدعوته مراتب: المرتبة الأولى: النبوة، الثانية: إنذار عشيرته الأقربين، الثالثة: إنذار قومه، الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر.
وأقام بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا ثم نزل عليه {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} الحجر/94.
ينظر " زاد المعاد " لابن القيم (1 / 71 فما فوق) ، ومنه استفدنا ما سبق.
ثالثاً:
وأما ما كان يدعو إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكفي منه ما ورد على لسان أبي سفيان – وكان كافراً وقت قوله – قال هرقل – عظيم الروم - لأبي سفيان: فماذا يأمركم به؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة.
وقد علَّق هرقل على كلام أبي سفيان بقوله: وهذه صفة النبي، قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم، وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدميَّ هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه ولو كنت عنده لغسلت قدميه.
رواه البخاري (2782) ومسلم (1773) .
رابعاً:
وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد تولَّى أبو بكر الصدِّيق الخلافة، وقد وقع في أيامه من الأمور الكبار: تنفيذ جيش أسامة، وقتال أهل الردة وما نعى الزكاة ومسيلمة الكذاب، وجمع القرآن.
ثم عمر بن الخطاب، وهو أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم، وكثرت الفتوح في أيامه: ففتحت دمشق والأردن والعراق وبيت المقدس ومصر وهو الذي كتب التاريخ من الهجرة بمشورة علي. واستشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين على يد قاتله الكافر المجوسي أبي لؤلؤة.
ثم عثمان بن عفان، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأسلم قديماً، وهو ممن دعاه الصدِّيق أبو بكر إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة، وتزوج رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم توفيت، فتزوج أختها أم كلثوم، وقد مكث في الخلافة ثنتي عشرة سنة، واستشهد سنة خمس وثلاثين وله بضع وثمانون سنة.
ثم علي بن أبي طالب، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين رضي الله عنها، وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العلماء الربانيين، والشجعان المشهورين، والزهاد المذكورين، والخطباء المعروفين، وأحد من جمع القرآن وعرضه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
خامساً:
وقد كان صلى الله عليه وسلم مهتديا بهدي القرآن، بل كان خُلقه القرآن كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وما كان نبينا صلى الله عليه وسلم عليه في الإسلام هو ما كان عليه من خلق قبل الإسلام لكن الله تعالى كمَّل له أخلاقه وزينها، وعند أول نزول الوحي قالت خديجة رضي الله عنها وهي تعدد أخلاقه:
كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصِل الرحم، وتحمل الكلَّ – أي: الضعيف العاجز - وتُكسب المعدوم – أي: الفقير -، وتقري – أي: تكرم - الضيف، وتعين على نوائب الحق – كما رواه البخاري (4) ومسلم (160) -.
وقد وصفه أصحابه وأعداؤه بما هو أهل له صلى الله عليه وسلم: من الكرم والشجاعة والرحمة وحسن الكلام وكثرة العبادة والصدق والأمانة … الخ.
ويلخص ذلك كله قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم/4.
وقد كان لحسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر وأعظمه، حتى كان ذلك سبباً في دخول بعض المشركين في الإسلام.
عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له " ثمامة بن أثال " فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ". رواه البخاري (4114) ومسلم (1764) .
سادساً:
أما بالنسبة لوصول الإسلام إلى أوربا فقد وصلها من عدة طرق، منها:
1. حرص المسلمين على إيصال دعوة الحق إلى جميع الناس، ففتحت الأندلس على يد طارق بن زياد عام 92 هـ /711 م واستمرت الفتوحات في غرب أوربا حتى وصلت انتهت إلى شرق جنوب فرنسا في عام 114 هـ.
2. القادمون من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا بحثاً عن عمل وأمل.
3. استقدام الغربيين لشعوب بعض الدول مثل استقدام الألمان للأتراك للعمل في بلادهم.
4. وجود دعاة الإسلام في تلك البلاد.
5. نفوذ الدولة العثمانية في أوربا.
6. إسلام أهل أوربا الأصليين وتحولهم إلى دعاة للإسلام.
7. التواصل التجاري بين المسلمين وأوربا.
8. دخول أناس من الأوربيين في الإسلام.
9. تغير أنماط التفكير الأوربي.
10. نبذ خرافات الكنيسة المخالفة للوحي واعتماد العلم التجريبي الذي وضع أسسه وطوره المسلمون.
11. مشاركة الجاليات الإسلامية في تطوير الأبحاث والمخترعات والشركات في أوربا من خلال أصحاب الشهادات والكفاءات من المسلمين ثم زيادة عدد الجاليات الإسلامية في أوربا وما تتطلب من مساجد ومدارس ومراكز.. الخ واتسع تأثيرهم حتى خشي من ذلك أعداء الإسلام كاليهود فكتبت صحيفة " هآرتس " الإسرائيلية تقول في عددها الصادر في آخر يونيو عام 2001م: " كما هو الحال في غرب أوروبا كذلك أدت الزيادة الكبيرة في الولايات المتحدة في عدد المسلمين إلى ازدياد نفوذهم السياسي ... بيد أن الزيادة في عدد المسلمين وتعاظم وتزايد وعيهم السياسي وخاصة الطلاب العرب والذين يلاحظ أنهم من أكثر العرب نشاطاً وحركية من الناحية السياسية وكذلك التضاؤل في عدد اليهود نتيجة لزيجاتهم المختلطة وذوبانهم في المجتمع الأمريكي، كل ذلك سوف يلعب مستقبلاً دوراً في ميزان القوى المتنافسة على النفوذ بواشنطن، وقد أصبح ذلك ملموساً ومحسوساً في نشاطات جماعات الضغط العربية بالكونجرس …
1. تزايد عدد المسلمين في البلاد الأوربية، فقبل أكثر من عشر سنوات كان عدد المسلمين في أوربا حوالي (12) مليون مسلماً.
2. انتشار المساجد والمراكز الإسلامية والمدارس.
3. انتشار الحجاب واللباس الشرعي في عواصم الدول الأوربية.
4. إقامة المعارض والندوات الإسلامية، وتأسيس شركات تعنى بالذبح الحلال ودفن الموتى على الطريقة الشرعية.
وغير ذلك كثير.
والله الهادي والموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/176)
الصفات الخَلْقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيته في المنام
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أقرأ مؤخراً وصفاً للصفات البدنية للنبي صلي الله عليه وسلم، وكونت صورة في ذهني ثم رأيت في منامي رجلاً يشبه الصورة التي كونتها في ذهني. ولا أتذكر بوضوح ما قال، غير أنني أخشى أنه ربما قال أن بعض الأخوة المسلمين الذين أحبهم سوف يرون مناماً وأنا فيه. وقد ارتكبت إثماً في بيتهم من قبل، وقبل ذلك المنام، وكنت أخشى دائماً أنهم ربما يكتشفون الأمر عن طريق رؤية في منامهم. كيف لي أن أتأكد أنني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المنام؟ فهذا الأمر يقلقني كثيراً. وقد رأيت أيضاً مناماً قريباً، وأظن أنه كان النبي صلي الله عليه وسلم مرة أخرى خلال تلاوته القرآن على جبريل عليه السلام في رمضان. وكان هناك أيضاً زيد رضي الله عنه، وكذلك حمزة رضي الله عنه. وأنا أعلم أن حمزة رضي الله عنه لم يكن هناك حقيقة لأنه استشهد في أحد. فهل كان هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي رأيته في هذا المنام؟ وكيف يمكن أن نتأكد من ذلك؟ والسلام عليكم ورحمة الله.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سنذكر لك فيما يلي أيها الأخ المسلم طائفة من الأحاديث المشتملة على صفة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان ما رأيته في منامك مطابقا لها فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّا لأنّه عليه الصلاة والسلام قد قال: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي. " رواه البخاري 5729.
روى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَصِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ (معتدل الطّول) لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ (أي شديد البياض) وَلا آدَمَ (أي الأسمر) لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ (الشعر الذي فيه التواء وانقباض) وَلا سَبْطٍ رَجِلٍ (الشعر المسترسل) أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَقُبِضَ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعَرَةً بَيْضَاءَ
البخاري 3283
وعن البراء بن عازب قال: " كان رسول الله صلى الله علية وسلم.. بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجُمّة (وهي ما سقط من شعر الرأس ووصل إلى المنكبين) إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء (الحلة: إزار ورداء) ما رأيت شيئا قط أحسن منه " رواه مسلم: كتاب الفضائل / باب: صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم رقم 2338
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ (أي غليظ الأصابع والراحة) ضَخْمَ الرَّأْسِ ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ (وهي رؤوس العظام) طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ (الشعر الدقيق الذي يبدأ من الصدر وينتهي بالسرة) إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا (مال إلى الأمام) كَأَنَّمَا انْحَطَّ مِنْ صَبَبٍ (ما انحدر من الأرض) لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مثله. رواه الترمذي 3570 وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وعن جابر بن سمرة قال: " كان رسول الله صلى الله علية وسلم ضليع الفم، أشكل العين، منهوس العقب ". قال شعبة: قلت لمالك: ما "ضليع الفم "؟ قال: عظيم الفم. قلت: ما " أشكل العين "؟ قال: طويل شق العين. قلت ما " منهوس العقب " قال: قليل لحم العقب. صحيح مسلم: كتاب الفضائل 2339
أمّا بالنسبة للمعصية التي فعلتها في بيت إخوانك فتب إلى الله منها، وإن كنت أخذت شيئا من حقوقهم فردّه إليهم والله غفور رحيم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/177)
هديه صلى الله عليه وسلم في الطّعام والحمية
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف كانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأكل والحمية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. أما هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل فأكمل هدي، وقد بيَّنه الإمام ابن القيم، فقال:
أ. كان إذا وضع يده في الطعام قال: "بسم الله"، ويأمر الآكل بالتسمية، ويقول: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله وآخره" حديث صحيح. - رواه الترمذي (1859) وأبو داود (3767) -.
والصحيح: وجوب التسمية عند الأكل،.. وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة ولا معارض لها.
ب. وكان إذا رفع الطعام من بين يديه يقول: "الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفيٍّ ولا مودَّع ولا مستغنى عنه ربَّنا عز وجل ذكره البخاري. - البخاري (5142) -.
ج. وما عاب طعاماً قط، بل كان إذا اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، وسكت. - رواه البخاري (3370) ومسلم (2064) -.
وربما قال: "أجدني أعافه إني لا أشتهيه". - رواه البخاري (5076) ومسلم (1946) -.
د. وكان يمدح الطعام أحياناً، كقوله لما سأل أهلَه الإدام، فقالوا: ما عندنا إلا خلّ، فدعا به فجعل يأكل منه، ويقول: "نِعْم الأُدْم الخل". - رواه مسلم (2052) -.
هـ. وكان يتحدث على طعامه كما تقدم في حديث الخل.
وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله: "سمِّ الله وكُلْ مما يليك". - رواه البخاري (5061) ومسلم (2022) -.
و. وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مراراً، كما يفعله أهل الكرم، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن وقوله له مراراً: "اشرب"، فما زال يقول: "اشرب" حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً. - رواه البخاري (6087) -.
ز. وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم، فدعا في منزل عبد الله بن بسر، فقال: "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم" ذكره مسلم. - رواه مسلم (2042) -.
ح. وكان يأمر بالأكل باليمين وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول: "إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" - رواه مسلم (2020) - ومقتضى هذا تحريم الأكل بها، وهو الصحيح؛ فإن الآكل بها إما شيطان، وإما مشبه به.
وصح عنه أنه قال لرجل أكل عنده فأكل بشماله: "كل بيمينك"، فقال لا أستطيع فقال: "لا استطعت"، فما رفع يده إلى فيه بعدها. - رواه مسلم (2021) - فلو كان ذلك جائزاً لما دعا عليه بفعله، وإن كان كِبره حمله على ترك امتثال الأمر: فذلك أبلغ في العصيان، واستحقاق الدعاء عليه.
ط. وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون "أن يجتمعوا على طعامهم، ولا يتفرقوا وأن يذكروا اسم الله عليه يبارك لهم فيه". - رواه أبو داود (3764) وابن ماجه (3286) -.
انظر لما سبق: " زاد المعاد " (2/ 397 - 406) .
ك. وصح عنه أنه قال: "لا آكل متكئاً". - رواه البخاري (5083) .
ل. وكان يأكل بأصابعه الثلاث وهذا أنفع ما يكون من الأكلات.
انظر: " زاد المعاد " (220 - 222) ، والله أعلم.
2. وأما هديه صلى الله عليه وسلم في الحمية:
أ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يأكل.
ب. ويأكل ما ينفع.
ج. ويجعل من قوته قياماً لصلبه لا تكثيراً لشحمه، لذلك روى لنا ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء". رواه البخاري (5081) ومسلم (2060) .
د. وعلَّم أمته أمراً يحتمون به مِن أمراض الطعام والشراب فقال: "ما ملأ آدمي وعاء شرّاً من بطنٍ بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسه". رواه الترمذي (1381) وابن ماجه (3349) وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2265) .
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/178)
لا ينتقض وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالنوم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الدليل على أن النوم يبطل الوضوء؟ وكيف يفسر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر بعد نومه بدون وضوء في حديث قيام الليل مع ابن عباس رضي الله عنه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أما الدليل على أن النوم ناقض للوضوء، فقد ثبت في ذلك حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ) رواه الترمذي (89) وحسنه الألباني , فذكر النوم من نواقض الوضوء.
وقد سبق في جواب السؤال (36889) بيان اختلاف العلماء في نقض الوضوء بالنوم، وبيان أن الراجح: أن النوم ينقض الوضوء إذا كان مستغرقاً، أما النوم اليسير فلا ينقض الوضوء.
ثانياً:
وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه السائل فقد رواه البخاري (698) ومسلم (763) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
فقد نام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام يصلي ولم يتوضأ، وذكر أهل العلم أن هذا الحكم (عدم نقض الوضوء بالنوم) خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، فإذا حدث لشعر بذلك.
قال النووي:
"قَوْله: (ثُمَّ اِضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ) هَذَا مِنْ خَصَائِصه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نَوْمه مُضْطَجِعًا لا يَنْقُض الْوُضُوء ; لأَنَّ عَيْنَيْهِ تَنَامَانِ وَلا يَنَام قَلْبه , فَلَوْ خَرَجَ حَدَث لأَحَسَّ بِهِ، بِخِلافِ غَيْره مِنْ النَّاس " انتهى.
وقال الحافظ:
" قَوْله: (فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ) كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَام عَيْنه وَلا يَنَام قَلْبه فَلَوْ أَحْدَثَ لَعَلِمَ بِذَلِكَ , وَلِهَذَا كَانَ رُبَّمَا تَوَضَّأَ إِذَا قَامَ مِنْ النَّوْم وَرُبَّمَا لَمْ يَتَوَضَّأ , قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا مُنِعَ قَلْبه النَّوْم لِيَعِيَ الْوَحْي الَّذِي يَأْتِيه فِي مَنَامه " انتهى.
وروى البخاري (3569) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تَنَامُ عَيْنِي، وَلا يَنَامُ قَلْبِي) . ورواه أحمد (7369) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني (696) .
وروى ابن ماجه (474) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ حَتَّى يَنْفُخَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي وَلا يَتَوَضَّأُ. صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
قال السندي في "حاشية ابن ماجه":
" قَوْله (حَتَّى يَنْفُخ) هو الصوت الذي يُسْمَع مِنْ النَّائِم.
قَوْله (فَيُصَلِّي وَلا يَتَوَضَّأ) لأَنَّهُ تَنَام عَيْنه وَلا يَنَام قَلْبه، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا فِي الصِّحَاح، فَنَوْمه غَيْر نَاقِض، لأَنَّ النَّوْم إِنَّمَا يَنْقَضِ الْوُضُوء لَمَّا خِيفَ عَلَى صَاحِبه مِنْ خُرُوج شَيْء مِنْهُ وَهُوَ لا يَعْقِل، وَلا يَتَحَقَّق ذَلِكَ فِيمَنْ لا يَنَام قَلْبه، ثم قال: فلا يَنْبَغِي ذِكْر أَحَادِيث نَوْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَاب أَصْلا (يعني باب نقض الوضوء بالنوم) إِلا مَعَ بَيَان أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْحُكْم، فَلْيُتَأَمَّلْ " انتهى باختصار.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/179)
هل أسلم والدا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كان جد النبي صلى الله عليه وسلم ووالده ووالدته مؤمنين بالله وبجميع الرسل الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الكلام في جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرع عن الكلام في حكم أهل الفترة، والفترة معناها كما قال ابن كثير: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم (تفسير القرآن العظيم 2 / 35، وانظر: جمع الجوامع للسبكي 1 / 63 وروح المعاني للآلوسي 6 / 103) .
وقد قسّمهم أهل العلم إلى قسمين:
القسم الأول من بلغته الدعوة، والقسم الثاني من لم تبلغه الدعوة وبقي على حين غفلة، ويشمل القسم الأول نوعين:
1- من بلغته الدعوة ووحّد ولم يشرك كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل (انظر: البداية والنهاية 2 / 230 وفتح الباري 7 / 147)
2- من بلغته الدعوة ولكنه غيّر وأشرك كعمرو بن لحي الذي غيّر دين إبراهيم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجرّ قصبه في النار) رواه البخاري (3521) ومسلم (2856)
وقد جاء النص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن والديه في النار، روى مسلم (203) أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قضى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)
وفي شأن أمه قال عليه الصلاة والسلام: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) رواه مسلم (976) .
يقول النووي رحمه الله – شارحاً الحديث الأول -: " فيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم "
(شرح صحيح مسلم 3 / 79) .
هذا وقد حاول بعض أهل العلم الدفاع عن والدي النبي صلى الله عليه وسلم والحكم بنجاتهما، وأن الله تعالى أحياهما بعد موتهما، فأسلما وآمنا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ماتا على ذلك، واستدل على هذا بأحاديث موضوعة وضعيفة جداً لا يصح الاستدلال بها.
(انظر: الحاوي للفتاوى 2 / 202)
وقد ردّ العلماء ذلك.
قال العظيم آبادي: " كل ما ورد بإحياء والديه صلى الله عليه وسلم وإيمانهما ونجاتهما أكثره موضوع مكذوب مفترى، وبعضه ضعيف جداً لا يصح بحالٍ، لاتفاق أئمة الحديث على وضعه وضعفه كالدارقطني والجوزقاني وابن شاهين والخطيب وابن عساكر وابن ناصر وابن الجوزي والسهيلي والقرطبي وجماعة " (عون المعبود12/494 باختصار، وانظر: مجموع الفتاوى4/324) .
ويجب علينا أن ندرك أن النسب لا ينجي الإنسان من عذاب الله تعالى، يقول النووي رحمه الله: " من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين " (شرح صحيح مسلم 3 / 79) .
ولم يكن حكم والدي النبي صلى الله عليه وسلم وجده بدعاً في ذلك، فقد أصرّ والد إبراهيم عليه السلام على الكفر حتى مات على ذلك فتبرأ منه إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) التوبة / 114، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرّر هذا الأمر بجلاء، وذلك حين نزلت عليه الآية الكريمة (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) الشعراء / 214، قال: (يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) رواه البخاري (2753) ومسلم (206)
وينبغي على كل مسلم أن لا يحكّم عاطفته في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته دونما حجةٍ وبينةٍ من علم فيبوء بالخسارة في الدنيا والآخرة، والله المستعان.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/180)
" الحاشر " من أسماء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس من أسماء الله
[السُّؤَالُ]
ـ[من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم الحاشر لان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا الحاشر تحشر الناس على قدمي) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. نرجو شرح هذا الحديث من فضلكم فانا اعلم أن الله تعالى يسمى الحاشر وهو الذي يحشر الناس للحساب يوم القيامة فنرجو منكم التوضيح وجزاكم الله خيرا وجعل هذا في ميزان حسناتكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
حديث (أنا الحاشر تحشر الناس على قدمي) هو مما اتفق عليه الشيخان، ولفظ كامل الحديث أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ) رواه البخاري (4896) ومسلم (2354)
فأما قوله: ((أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي)) فمعناه على أثري أي أنه يحشر قبل الناس، وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى: ((يُحشر الناس على عقبي)) .
ويحتمل أن يكون المراد بالقدم الزمان، أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر، إشارة إلى أنه ليس بعده نبي. هذا مجمل ما ذكره الحافظ في الفتح (6 / 557) .
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1 / 94) فكأنه بعث ليحشر الناس.
ثانياً: قولك: إن الله يسمى "بالحاشر" غير صحيح؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها، والواجب الوقوف على ما ورد في الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص:
1. لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
2. ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص.
3. صفات الله سبحانه وتعالى أوسع من أسماءه؛ لأن كل اسم متضمن لصفة.
مثال: من أسماء الله "السميع " هذا الاسم يتضمن إثبات السميع اسما لله تعالى، واثبات صفة السمع لله.
وأما صفات الله الفعلية فلا تتضمن أسماء الله؛ لأنها متعلقة بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها مثال: من صفات الله المجيء، والإتيان والأخذ والإمساك والبطش، قال تعالى: (وجاء ربك) ، (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) ، (فأخذهم الله بذنوبهم) ، (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) , (إن بطش ربك لشديد) ...
فَنَصِفُ الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها فلا نقول إن من أسمائه (الجائي) و (الآتي) و (الآخذ) و (الممسك) و (الباطش) .. وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به.
انظر رسالة القواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/283) من مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/181)
مراسلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للملوك
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف أسماء أشهر الملوك والرؤساء الذين أسلموا بعد أن دعاهم للإسلام الرسول صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أُمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبلغ الدين للناس كافة، قال الله سبحانه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ) سبأ /28.
فصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمر به، ودعا قومه ومَنْ حوله أولاً، وعندما استتب له الأمر، ودخل العرب في دين الله أفواجاً قام بدعوة غيرهم وأرسل الرسل وبعث البعوث للملوك والأمراء.
روى مسلم (1774) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإِلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الحافظ في الفتح:
وَكَاتَبَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيّ الَّذِي أَسْلَمَ وَصَلَّى عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ , ثُمَّ كَاتَبَ النَّجَاشِيّ الَّذِي وَلِيَ بَعْده وَكَانَ كَافِرًا اهـ.
فَبَعَثَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللَّه بْن حُذَافَة إِلَى كِسْرَى , , وَدِحْيَة إِلَى قَيْصَر ملك الروم، وَسَلِيط بْن عَمْرو إِلَى هَوْذَة بْن عَلِيّ بِالْيَمَامَةِ , وَالْعَلاء بْن الْحَضْرَمِيّ إِلَى الْمُنْذِر بْن سَاوَى بِهَجَر , وَعَمْرو بْن الْعَاصِ إِلَى جَيْفَر وَعَبَّاد اِبْنَيْ الْجَلَنْدِيّ بِعَمَّان, وَشُجَاع بْن وَهْب إِلَى اِبْن أَبِي شَمِر الْغَسَّانِيّ , وَحَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِس. وكتب إِلَى النَّجَاشِيّ فأسلم، ولما مات صلى عليه، ثم كتب إِلَى النَّجَاشِيّ الذي تملك بعده وبعث إليه عَمْرو بْن أُمَيَّة.
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده.
وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/688-697) فقد ذكر نصوص كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما رد به أولئك الملوك.
وكان نص كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل ملك الروم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ (أي أتباعه ورعاياه الذين يتابعونه على الكفر) . وَ [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ) . رواه البخاري (7) ومسلم (1773) .
ولم يؤمن من هؤلاء الملوك إلا النجاشي ملك الحبشة الأول، وملك عمان وأخوه.
وكاد هرقل أن يسلم، لولا أنه خاف على نفسه من قومه، وخاف على ذهاب ملكه، وهكذا فعل الآخرون آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، فخابوا وخسروا.
فقد ثبت في البخاري ومسلم في الحديث السابق أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن صفات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يدعو إليه عرف أنه رسول الله حقا، وقال: (فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ، وسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ) .
(لَتَجَشَّمْت) أَيْ: تَكَلَّفْت الْوُصُول إِلَيْهِ.
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّق أَنَّهُ لا يَسْلَم مِنْ الْقَتْل إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ورُوي عنه أنه قال: (أَعْرِف أَنَّهُ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ لا أَسْتَطِيع أَنْ أَفْعَل , إِنْ فَعَلْت ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّوم) ورُوي عنه أيضاً: (وَاَللَّه إِنِّي لأَعْلَم أَنَّهُ نَبِيّ مُرْسَل , وَلَكِنِّي أَخَاف الرُّوم عَلَى نَفْسِي , وَلَوْلا ذَلِكَ لاتَّبَعْتُهُ) .
وذكر ابن القيم في "زاد المعاد" (3/694) أن هرقل لما بلغه إسلام النجاشي قال: والله لولا الضَنُّ بملكي (أي لولا التمسك به) لصنعتُ كما صنع.
فمنعه خوفه على نفسه وملكه من الإسلام والهجرة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَاب الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ (أَسْلِمْ تَسْلَم) وَحَمَلَ ذلك عَلَى عُمُومه فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلّ مَا يَخَافهُ. وَلَكِنَّ التَّوْفِيق بِيَدِ اللَّه تَعَالَى. وقد أسلم النجاشي ملك الحبشة ولم يزل ملكه عنه.
انظر "فتح الباري" شرح حديث رقم (7) . شرح مسلم للنووي حديث رقم (1773) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/182)
كيف تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة
[السُّؤَالُ]
ـ[سألني الكثير من أصدقائي عن الزنى بالجنس الآخر فقلت لهم بأنه محرم في الإسلام فقالوا بأن خديجة رضي الله عنها كانت تحب الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوجته، قرأت الكثير من الكتب ومواقع على الإنترنت فلم أجد معلومات عن طريقة زواجهما وكل ما أعلمه أن خديجة رضي الله عنها أرسلت رسالة مع إحدى الإماء وكانت قريبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي طالب عم الرسول بأنها وافقت على عرض الزواج وتزوجته.
الذي أريد أن أعرفه هو: هل قابل الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة قبل الزواج (حصل بينهما جماع) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تشير روايات السيرة النبوية إلى أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كانت امرأة حازمة وذكية، وكانت كذلك غنية، ولها تجارات متعددة، وكان رجال قومها يحرصون على الزواج منها، ولم تكن تعمل في التجارة بنفسها، وإنما كانت تستأجر رجالا يعملون لها في مالها.
ووصل إلى خديجة رضي الله عنها خبر الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم وسمعت من أخبار صدقه وأمانته الكثير، فرغبت في أن تستأجره ليعمل لها في تجارتها، فأرسلت له من يعرض عليه الأمر، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم متاجرا بمال خديجة رضي الله عنها وكان معه غلام لخديجة يدعى: ميسرة، وقد رأى ميسرة من الآيات التي حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم في رحلته ما بهره، وجعله يخبر سيدته خديجة بكل ما رآه.
فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قدم مدينة بصرى بالشام نزل في ظل شجرة، فقال أحد الرهبان لميسرة: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، وكان ميسرة يرى ملكين يظلان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت حرارة الشمس.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من رحلته تلك، وقد ربحت تجارة خديجة أضعاف ما كانت تربح من قبل، فأعجبت خديجة رضي الله عنها بشخص النبي صلى الله عليه وسلم ورغبت في الزواج منه، فأرسلت صديقتها نفيسة بنت منية تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر، فوافق صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتولى أمر زواج خديجة رضي الله عنها أبوها خويلد، في أصح الروايات كما ذكر أصحاب السير.
ومما سبق يعلم أنه لم تكن هناك علاقة تخدش الحياء بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين خديجة رضي الله عنها قبل الزواج بها.
فأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن سيرته وحفظ الله تعالى له قبل كل شيء منعه من كل ما يخدش الرسالة أو ينافي الحياء والمروءة.
ولو حصل هذا - وحاشاه صلى الله عليه وسلم - لما سكت عنه كفار قريش، ولعدوا ذلك عيبا عظيما، ولتخذوه ذريعة في رد دينه، وتشويه سمعته صلى الله عليه وسلم ولكن شيئاً من ذلك لم يكن، بل كانوا يلقبونه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بـ (الصادق) و (الأمين) ولم يطعنوا في عفته صلى الله عليه وسلم قط.
هذا؛ ولتعلم يا أخي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام –جميع الأنبياء- هم أكمل البشر وأفضلهم فإن الله تعالى لا يختار للرسالة إلا من هو أهل لها، قال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/124.
قال ابن كثير رحمه الله:
أي: هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ. . . الآية) . الزخرف/31، يعنون لو نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم (من القريتين) أي مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً، كقوله تعالى مخبراً عنه: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون) ، وقال تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً) ، وقال تعالى: (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) . هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى اللهُ وملائكتُه والمؤمنون عليه، حتى إنهم يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه "الأمين"، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار (أبو سفيان) حين سأله هرقل ملك الرو م: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.. الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به اهـ.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الأنبياء معصومون من الكبائر ومن كل الذنوب التي تدل على دناءة فاعلها.
قال ابن العربي: " فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربه، لا في حال الجاهلية ولا بعدها، تكرمة من الله وتفضلا وجلالا، أحله به المحل الجليل الرفيع …. وما زالت الأسباب الكريمة، والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه " اهـ
وقال النووي رحمه الله:
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْمَعَاصِي علَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ , وَقَدْ لَخَصَّ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى مَقَاصِد الْمَسْأَلَة فَقَالَ:. . . وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلا خِلاف أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كُلّ كَبِيرَة. . .
وَكَذَلِكَ لا خِلاف أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الصَّغَائِر الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطّ مَنْزِلَته وَتُسْقِط مُرُوءَته , وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوع غَيْرهَا مِنْ الصَّغَائِر مِنْهُمْ , فَذَهَبَ مُعْظَم الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى جَوَاز وُقُوعهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتهمْ ظَوَاهِر الْقُرْآن وَالأَخْبَار وَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّحْقِيق وَالنَّظَر مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتهمْ مِنْ الصَّغَائِر كَعِصْمَتِهِمْ مِنْ الْكَبَائِر , وَأَنَّ مَنْصِب النُّبُوَّة يَجِلّ عَنْ مُوَاقَعَتهَا وَعَنْ مُخَالَفَة اللَّه تَعَالَى عَمْدًا , وَتَكَلَّمُوا عَلَى الآيَات وَالأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِكَ وَتَأَوَّلُوهَا , وَأَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى تَأْوِيل أَوْ سَهْو أَوْ مِنْ إِذْن مِنْ اللَّه تَعَالَى فِي أَشْيَاء أَشْفَقُوا مِنْ الْمُؤَاخَذَة بِهَا وَأَشْيَاء مِنْهُمْ قَبْل النُّبُوَّة , وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ الْحَقّ. . . هَذَا آخِر كَلام الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَاَللَّه أَعْلَم اهـ
وإجلالاً لمنصب النبوة قال العلماء: إن من قذف نبياً من الأنبياء كفر ووجب قتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/123) :
اتفق الأئمة على أن من سب نبيا قتل اهـ والرمي بالزنى من أعظم السب. وراجع سؤال (22809) .
وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني (12/405) :
أن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولو تاب، مسلماً كان أو كافراً، غير أنه إن تاب فتوبته مقبولة عند الله تعالى، ولا يسقط عنه القتل بالتوبة، لحق النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال:
والحكم في قذف النبي صلى الله عليه وسلم كالحكم في قذف أمه لأن قذف أمه إنما أوجب القتل لكونه قذفاً للنبي صلى الله عليه وسلم وقدحاً في نسبه اهـ
والله أعلم
انظر: زاد المعاد (1/77) ، السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري (1/112-114) ، السيرة النبوية للدكتور مهدي رزق الله (ص 132) ، أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد سليمان الأشقر (1/139-165) ، أحكام القرآن الكريم (3/576) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/183)
محاولات اليهود لقتل النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت الآتي: حاول اليهود قتل الرسول 3 مرات, آخر مرة كانت قبل وفاة الرسول ب 6 سنوات بشاة مسمومة. مضغ منها الرسول مضغتين ثم أنطق الله الشاة لتخبر الرسول أنها مسمومة. وعند وفاة الرسول قال إنه: كأنه يشعر بطعم الشاه فهل هذا صحيح؟ لو صح هذا فمعناه أن لنا ثأُُُُُرا شديدا عندهم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما بعد: فقد أراد اليهود قتل الرسول صلى الله عليه وسلم مرات عدة، منها:
1- ما كان في صغره، فقد روى ابن سعد في الطبقات بالسند إلى إسحاق بن عبد الله أن أم النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعته إلى السعدية التي أرضعته، قالت لها: احفظي ابني وأخبرتها بما رأت. فمرت باليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا، فإني حملته كذا ووضعته كذا ورأيت كذا، كما وصفت أمه. قال: فقال بعضهم لبعض اقتلوه. فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا، هذا أبوه وأنا أمه. فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه. قال: فذهبت به حليمة وقالت: كدت أخرب أمانتي.
وهذا مرسل، ورجاله ثقات.
2- وحاولوا قتله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، فأرسل بنو النضير إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، ولنخرج في ثلاثين حبرا حتى نلتقي في مكان كذا وكذا، نِصْف بيننا وبينك، فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. ثم قالوا: كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلا؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا فليسمعوا منك، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى ابن أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع، فلما كان الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم. وتم إجلاء يهود بني النضير. وهذه القصة رواها عبد الرزاق في مصنفه، ورواها أبو داود في سننه (3004) من طريق عبد الرزاق، غير أنه لم يذكر تفاصيل القصة، بل جاء فيه " ... يسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك فقص خبرهم فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم ". والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
3- وذكر ابن إسحاق سببا آخر لإجلاء بني النضير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ليستعين بهم على دفع دية رجلين معاهدين قتلهما خطأ عمرو بن أمية الضمري، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جدار لبني النضير فهموا بإلقاء حجر عليه وقتله، فأخبره الوحي بذلك فانصرف عنهم مسرعا إلى المدينة ثم أمر بحصارهم.
4- ثم كانت حادثة السم، بعد فتح خيبر، فقد روى البخاري (2617) ومسلم (2190) عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت أردت لأقتلك قال ما كان الله ليسلطك على. قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا. قال فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أقصى الحنك.
قال النووي: كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره.
واسم هذه المرأة: زينب بنت الحارث، امرأة سلام ابن مشكم أحد زعماء اليهود.
وقد اختلفت الروايات في قتلها، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها أولا، فلما مات بشر بن البراء بن معرور متأثرا بهذا الطعام، قتلها قصاصاً.
وروى البخاري (5777) عن أبي هريرة أنه قال لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود فجمعوا له فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا نعم فقال هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا نعم فقال ما حملكم على ذلك؟ فقالوا أردنا إن كنت كذابا نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاوده المرض من هذه الأكلة، وكان يحتجم لذلك.
روى أحمد (2784) عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأرسل إليها فقال ما حملك على ما صنعت قالت أحببت أو أردت إن كنت نبيا فإن الله سيطلعك عليه وان لم تكن نبيا أريح الناس منك قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئا احتجم قال فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئا فاحتجم". وصححه محققو المسند.
وأثر ذلك عليه في وفاته، فمات شهيدا صلى الله عليه وسلم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:
لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ تِسْعًا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ قَتْلا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً، وَذَلِك بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا، وَجَعَلَهُ شَهِيدًا. رواه أحمد (3617) . وقال المحقون: إسناده صحيح على شرط مسلم اهـ
قال السندي: قوله: (قتل قتلا) بسُمِّ ما تناول من الذراع بأن ظهرت آثاره عند الوفاة اهـ. نقلا من حاشية المسند 6/116.
روى البخاري في صحيحه معلقا والحاكم في مستدركه موصولا عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان وجدت انقطاع أَبهري من ذلك السم".
والأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه.
وفتح خيبر كان في المحرم أو ربيع الأول من السنة السابعة من الهجرة، فيكون هذا الحادث قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربع سنوات.
وهذا يضاف إلى سجل جرائم اليهود التي لا حصر لها في القديم والحديث، وستبقى العدواة بيننا وبينهم حتى نقاتلهم ونقتلهم في آخر الزمان كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ينظر: اليهود في السنة المطهرة، د. عبد الله بن ناصر الشقاري، وزاد المعاد 3/279
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/184)
النبي الأمي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك دليل على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر على القراءة والكتابة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:
قوله تعالى: "الأمي".. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب ; قال الله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " [العنكبوت: 48] .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الأخيرة:
ثم قال تعالى "وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك" أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب وهكذا صفته في الكتب المتقدمة كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر" الآية وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده بل كان له كُتّاب يكتبون بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم. .. قال الله تعالى "وما كنت تتلو" أي تقرأ "من قبله من كتاب" لتأكيد النفي "ولا تخطه بيمينك" تأكيد أيضا.. وقوله تعالى "إذا لارتاب المبطلون" أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا".
وقال عزّ وجلّ:
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) الجمعة
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية:
قيل: الأميون الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال: الأمي الذي يقرأ ولا يكتب. "رسولا منهم" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.. وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم. قال الماوردي: فإن قيل ما وجه الامتنان في أن بعث نبيا أميا؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء. الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم , فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. قلت: وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته. انتهى ملخصا من تفسير القرطبي رحمه الله
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/185)
هل ولد الرسول صلى الله عليه وسلم مختوناً
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ولد الرسول صلى الله عليه وسلم مختوناً أم ختن كسائر الناس؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في ختان النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال، فقال:
وقد اختلف فيه على أقوال:
أحدها: أنه ولد مختونا
والثاني: أن جبريل ختنه حين شق صدره
الثالث: أن جده عبد المطلب ختنه على عادة العرب في ختان أولادهم.
" تحفة المولود " (ص 201) .
أما الرأي الأول: فقد أورد ابن القيم في كتابه المذكور أحاديث كثيرة تدل على ذلك ولكنه حكم عليها كلها بالضعف، ثم ذكر أن الصبي إذا ولد مختوناً: فإن هذه نقيصة وليست منقبة لصاحبها كما يظنه بعض الناس.
قال رحمه الله تعالى:
وقيل: إن قيصر ملك الروم الذي ورد عليه امرؤ القيس وُلد كذلك [يعني غير مختون] ، ودخل عليه امرؤ القيس الحمَّام فرآه كذلك فقال يهجوه:
إني حلفت يمينا غير كاذبة لأنت أغلف إلا ما جنى القمر
يعيره أنه لم يختتن، وجعل ولادته كذلك نقصا، وقيل: إن هذا البيت أحد الأسباب الباعثة لقيصر على أن سمَّ امرء القيس فمات.
وكانت العرب لا تعتد بصورة الختان من غير ختان وترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به.
قال ابن القيم: وقد بعث الله نبيَّنا من صميم العرب، وخصَّه بصفات الكمال من الخلق، والنسب فكيف يجوز أن يكون ما ذكره من كونه مختوناً مما يميز به النبي ويخصص، وقيل: إن الختان من الكلمات التي ابتلى الله بها خليله فأتمهن وأكملهن وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وقد عد النبي الختان من الفطرة، ومن المعلوم: أن الابتلاء به مع الصبر مما يضاعف ثواب المبتلى به وأجره، والأليق بحال النبي أن لا يسلب هذه الفضيلة وأن يكرمه الله بها كما أكرم خليله فإن خصائصه أعظم من خصائص غيره من النبيين وأعلى.
" تحفة المولود " (205 – 206) .
أما الرأي الثاني فقد قال فيه:
وحديث شق الملك قلبه قد روي من وجوه متعددة مرفوعاً إلى النبي وليس في شيء منها أن جبريل ختنه إلا في هذا الحديث فهو شاذ غريب.
" تحفة المولود " (ص 206) .
وأما الرأي الثالث فقد قال فيه:
قال ابن العديم: وقد جاء في بعض الروايات أن جده عبد المطلب ختنه في اليوم السابع، قال: وهو على ما فيه أشبه بالصواب، وأقرب إلى الواقع.
" تحفة المولود " (ص 206)
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/82) :
وقد وقعت هذه المسألة بين رجلين فاضلين صنف أحدهما مصنفا في أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام، وهو كمال الدين بن طلحة، فنقضه عليه كمال الدين بن العديم وبين فيه أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب، وكان عموم هذه السنة للعرب قاطبة مغنيا عن نقل معين فيها والله أعلم اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/186)
لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخافون من ربهم مع تبشيرهم بالجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا كان الصحابة المبشَّرون بالجنة يخافون الله أشد الخوف، على الرغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة، بل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان أخوفهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير هذه الأمة وأفضلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ومِن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنَّة , وما اتفق عليه أهل السنَّة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال، والأقوال، والاعتقاد , وغيرها من كل فضيلة: أن خيرها: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه , وأنهم أفضل من الخلَف في كل فضيلة، من علم وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة , وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا مَن كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام , وأضله الله على علم، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " مَن كان منكم مستنّاً فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ".
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: " هم فوقنا في كل علم، وعقل، ودين، وفضل، وكل سبب ينال به علم، أو يدرك به هدى ".
" مجموع الفتاوى " (4 / 157، 158) .
ثانياً:
عبادة الله تعالى تتضمن الخوف، والرجاء، والمحبة له سبحانه تعالى؛ وهذا هو كمال الإيمان.
قال ابن القيم رحمه الله:
وسبب هذا: اقتران الخوف من الله تعالى بحبِّه، وإرادته , ولهذا قال بعض السلف: " مَن عبد الله تعالى بالحب وحده: فهو زنديق , ومن عبده بالخوف وحده: فهو حروري – أي: من الخوارج - , ومن عبده بالرجاء وحده: فهو مرجئ , ومن عبده بالحب والخوف والرجاء: فهو مؤمن.
وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه) الإسراء/ 57، فابتغاء الوسيلة هو محبته، الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف , فهذه طريقة عباده، وأوليائه.
" بدائع الفوائد " (3 / 522) .
ثالثاً:
لا يستغرب أن يكون الصحابة أشد الناس خوفاً من الله، فكلما ازداد العبد إيماناً: ازداد خوفه من الله، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على أنبيائه، ورسله بهذه الصفة، قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) الأحزاب/ 39،
وقال عن الملائكة الكرام: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء/ 28، وقال: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل/ 50.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِالمَلإ الأَعْلَى وَجِبْريلُ كَالحِلْسِ البَالِي ِنْ خَشْيَةِ الله عزَّ وَجَلَّ) رواه الطبراني في " الأوسط " (5 / 64) ، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2289) .
والحلس البالي: الثوب البالي.
وهكذا كان حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال عن نفسه: (إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) رواه البخاري (20) ومسلم (1108) .
قال ابن القيم رحمه الله:
والمقصود: أن الخوف من لوازم الإيمان، وموجباته، فلا يتخلف عنه، وقال تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المائدة/ 44 , وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) الأنبياء/ 90، فالرغَب: الرجاء , والرغبة، والرهَب: الخوف، والخشية.
وقال عن ملائكته الذين قد أمَّنهم من عذابه: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل/ 50، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) ، وفي لفظ آخر: (إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي) – رواه مسلم -، وكان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء – رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " -.
وقد قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/ 28، فكلما كان العبد بالله أعلم: كان له أخوف، قال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علماً.
ونقصان الخوف من الله: إنما هو لنقصان معرفة العبد به؛ فأعرف الناس: أخشاهم لله , ومن عرف الله: اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له , وكلما ازداد معرفة: ازداد حياء، وخوفاً، وحبّاً، فالخوف من أجلِّ منازل الطريق , وخوف الخاصة: أعظم من خوف العامَّة , وهم إليه أحوج، وهم بهم أليق، ولهم ألزم.
" طريق الهجرتين " (423، 424) .
فعلى ذلك فلما كان الصحابة أعلم، وأتقى لله، وأعرف به: استلزم ذلك عظم خوفهم منه تعالى، مع الرجاء، والمحبة، وهكذا حال الأنبياء الذين هم أعرف، وأعلم، وأتقى لله تعالى من غيرهم من الناس.
ويمكن تلخيص أسباب خوف النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام ممن بشِّر بالجنة، بما يلي:
1. أنهم عرفوا معنى عبادة ربهم تعالى، وكان خوفهم من الله تعالى هو تحقيق لركن من أركانها، مع تحقيق ركني الرجاء، والمحبة.
2. أنهم كانوا علماء بالله تعالى، ومن كان بالله أعلم كان منه أخوف.
3. بحثاً عن مزيد ثواب، وعظيم أجر، من ربهم تعالى، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن/ 46.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الخوف، والرجاء، والمحبة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/187)
هل ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأد ابنته في الجاهلية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أردت السؤال عن صحة قصه وأد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنته؟ أفيدونا تفصيلاً جزيتم الجنة، ونفع بعلمكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يمكننا تأكيد عدم ثبوت القصة التي تروى حول وأد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنته في الجاهلية، وذلك للأسباب الآتية:
1-عدم ورودها في كتب السنة والحديث أو كتب الآثار والتاريخ، ولا يعرف من مصادرها إلا ما يكذبه الرافضة الحاقدون من غير دليل ولا حجة.
2-إذا كان وأد البنات منتشراً في بني عدي، فكيف ولدت حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما له في الجاهلية قبل البعثة بخمس سنوات ولم يئدها؟! لا شك أن ذلك دليل على أن وأد البنات لم يكن من عادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الجاهلية. انظر ترجمة أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها في " الإصابة " للحافظ ابن حجر (7/582)
3-وقد وقفنا على ما يشير إلى عدم وقوع الوأد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ما يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: وسئل عن قوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) التكوير/8، قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية. قال: أعتق عن كل واحدة منها رقبة. قلت: إني صاحب إبل. قال: (أهد إن شئت عن كل واحدة منهن بدنة) رواه البزار (1/60) ، والطبراني في "المعجم الكبير " (18/337) وقال الهيثمي: " ورجال البزار رجال الصحيح غير حسين بن مهدي الأيلي وهو ثقة " انتهى. " مجمع الزوائد " (7/283) ، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/3298) ، يشير هذا الحديث – وهو من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه – إلى كفارة من وقع منه الوأد في الجاهلية، ولما لم يذكر عمر بن الخطاب عن نفسه ذلك، وإنما رواه من فعل قيس بن عاصم، دل على عدم وقوع الوأد المنسوب إليه رضي الله عنه.
4- ثم على فرض صحة ذلك فأمر الجاهلية مغفور، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يغفر الشرك وعبادة الأوثان الذي كان عليه كثير من الصحابة في الجاهلية، فكيف بأمر وأد البنات؟
يقول الدكتور عبد السلام بن محسن آل عيسى:
" وأما عمر رضي الله عنه فقد ذكر عنه أنه وأد ابنة له في الجاهلية، ولم أجد من روى ذلك عن عمر فيما اطلعت عليه من المصادر، ولكني وجدت الأستاذ عباس محمود العقاد أشار إليها في كتابه " عبقرية عمر " (ص/221) فقال:
وخلاصتها: أنه رضي الله عنه كان جالساً مع بعض أصحابه، إذ ضحك قليلاً، ثم بكى، فسأله مَن حضر، فقال: كنا في الجاهلية نصنع صنماً من العجوة، فنعبده، ثم نأكله، وهذا سبب ضحكي، أما بكائي، فلأنه كانت لي ابنة، فأردت وأدها، فأخذتها معي، وحفرت لها حفرة، فصارت تنفض التراب عن لحيتي، فدفنتها حية.
وقد شكك العقاد في صحة هذه القصة؛ لأن الوأد لم يكن عادة شائعة بين العرب، وكذلك لم يشتهر في بني عدي، ولا أسرة الخطاب التي عاشت منها فاطمة أخت عمر، وحفصة أكبر بناته، وهي التي كني أبو حفص باسمها، وقد ولدت حفصة قبل البعثة بخمس سنوات فلم يئدها، فلماذا وأد الصغرى المزعومة..! لماذا انقطعت أخبارها فلم يذكرها أحد من إخوانها وأخواتها، ولا أحد من عمومتها وخالاتها " انتهى.
" دراسة نقدية في المرويات في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية " (1/111-112)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/188)
الرد على مَن زعم مِن الرافضة أن أبا بكر وعمر وابنتيهما حاولا قتل النبي!
[السُّؤَالُ]
ـ[يا إخوان، أنا مسلم، سنَّي، ذات يوم جعلت أقلب في موقع " اليوتيوب "، ورأيت مقاطع فيديو لأحد علماء الشيعة، وكان حديثه عن أن عائشة هي مَن قتلت النبيَّ صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله!! -: وأن هناك ثلاث محاولات لقتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم! من أبي بكر، وعمر بن الخطاب، رضوان الله عليهم عن طريق ابنتيهما حفصة، وعائشة، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم المحاولات الثلاثة مذكورة في أحد المنتديات الخاصة بهم على الرابط التالي: (تم حذف الرابط) . وأكثر ما جعلني خائفاً هو حديث عائشة: لددنا رسولَ الله، في معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن لدِّه، ولكنهم لدوه، وحينما استفاق سألهم، أو وبخهم، وغضب من عائشة، وبعدها مرض النبي، وتوفي، فيقول الشيعة: إن عائشة سممته!! لا حول ولا قوة إلا بالله.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قبل الإجابة على سؤالك أخي الفاضل لا بد من التنبه لأمرين:
1. اعلم أن الرافضة أكذب الفرق المنتسبة للإسلام، وأن دينهم بُني على ذلك الكذب، وأنه ليس لهم أعداء يحقدون عليهم، ويسبونهم الليل والنهار أكثر من الصحابة رضي الله عنهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وقد اتفق أهل العلم بالنقل، والرواية، والإسناد، على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
قال الشافعي: لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكاً يقول: احمل العلم عن كل من لقيتَ إلا الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث، ويتخذونه ديناً.
" منهاج السنّة " (1 / 59) .
2. واعلم أنه لا يجوز للمسلم أن ينظر في مواقع أهل البدع عموماً، وأهل الرفض خصوصاً، ولا أن يقرأ كتبهم، إلا أن يكون متمكناً من دينه، وعلى علم بمداخل، ومخارج أهل الضلال.
وانظر في ذلك جواب السؤال رقم: (126041) .
ثانياً:
ما في الرابط المحال عليه في السؤال يؤكد ما قلناه من كون هذه الطائفة أكذب الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وقد جمعوا مع كذبهم على دين الله: حقدهم العظيم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسبهم، وشتمهم، وتكفيرهم، وقذفهم لعائشة الطاهرة رضي الله عنها، فلا يعجب من يعلم ذلك عنهم عندما يقرأ مثل ذلك المقال المبني على الجهل، والكذب، والافتراء، فقد زعم كاتبه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وقتله! وأنه فشل في محاولتين، ونجح في الثالثة! بالاشتراك مع أبي بكر الصدِّيق، وحفصة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً، والرد على هذا الزعم الضال يكون من وجوه إجمالية، وأخرى تفصيلية.
أما الرد من الوجوه الإجمالية:
1. ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه قد توفرت فرص كثيرة للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الخلوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهما وزيراه، وصاحباه، وقد زوجاه من ابنتيهما، وصاحبه الصدِّيق في الهجرة من مكة إلى المدينة في رحلة استغرقت عشرة أيام، وقد كان هذا معروفاً عند المسلمين والكفار، ولذا فقد اختارهما الصحابة الأجلاء أمراء عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنَّى لعاقل أن يزعم أنه لم تتوفر لمثل هؤلاء الصحابة إلا فرصة أو فرصتان لقتل النبي صلى الله عليه وسلم! بل هي فرص كثيرة؛ فالزعم بأن أبا بكر وعمر أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم زعم باطل، يعلم قائله أنه سيصير أضحوكة بين العالَمين بسبب قوله الخبيث هذا، لكن لأنهم فقدوا الدين، والعقل، والحياء: فلم يعد يهمهم ما يقال عنهم، وكل همهم تفريغ حقدهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والسعي في تشويه صورتهم، وأنَّى لعاقل يرى هؤلاء الرافضة وما فعلوه في المسلمين قتلاً وتشريداً، وما فعله سلفهم من الكيد والمكر في أهل السنَّة، أنَّى لعاقل أن يصدِّق ترهاتهم، وتنطلي عليه أكاذيبهم؟!.
2. وقد كانت الفرص لقتله صلى الله عليه وسلم من قبَل نسائه أكثر، وخاصة عائشة رضي الله عنها، والتي كان لها ليلتان مع النبي صلى الله عليه وسلم كل تسع ليالٍ؛ فقد وهبتها سودة رضي الله عنها ليلتها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان زوجاً لهن، يختلي بهن، وينام على فراشهن، وكل تلك السنين لم تتوفر فرصة لهن لقتله صلى الله عليه وسلم؟! هكذا يفكر الرافضة، وهذه هي عقولهم التي رضوا بتأجيرها لأشياخهم الفرس، فراحوا يعبثون بها ذات اليمين، وذات الشمال، وراحوا يزينون لهم الباطل لتصديقه، والخرافة لجعلها حقيقة، والشرك لجعله توحيداً، والحمد لله الذي نزَّه عقول المسلمين من أن تتلوث بمثل هذه الأفكار، وقد أكرم الله عبيده بدين مطهَّر، وخصَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الناس بعد الأنبياء عليهم السلام لصحبته، وخصَّ أطهر النساء ليكنَّ زوجاتٍ له، وأمهات للمؤمنين، وإن مجرد التفكير بمثل تلك الترهات التي يزعمها الرافضة يبعث على الغثيان، فكيف أن تكون اعتقاداً ينام معها الواحد منهم ويقوم؟! .
وأما وجوه الرد التفصيلية:
1. فقد ذكر الكاتب الرافضي، والذي رضي لنفسه بكنية أخيه وشبيهه: " أبو لؤلؤة "! أن أول محاولة اغتيال للنبي صلى الله عليه وسلم من قبَل عمر كانت قبل أن يُسلم! فهل هذا الكاتب المجوسي يعي ما يقول ويكتب؟! إذ كيف يعد نية عمر – حال شركه - قتل النبي صلى الله عليه وسلم من " محاولات اغتياله "؟! لقد كان على دين مضاد للإسلام، وهو لمَّا يسلم بعد، فماذا تنتظر ممن هذا حاله؟ لقد اجتمع المشركون على قتاله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، وفي أكثر من غزوة، وهذا من الطبيعي أن يفعله من كان متلبساً بالشرك، وله أرباب كثيرون، مع من يدعو إلى التوحيد، ويسفِّه تلك الأرباب والآلهة.
وهذا كله على فرض صحة القصة الواردة في مقاله! والتي فيها خروج عمر متهددا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب المقطوع به: أنها قصة منكرة، ليس لها إسناد صحيح سالم من علَّة، وأنَّى للرافضة أن يكون لهم نصيب من علم التحقيق والأسانيد؟! .
فالقصة المذكورة المشهورة في إسلام عمر بعد أن كان يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم: رواها ابن سعد في " الطبقات " (3 / 267 – 269) ، والدارقطني في " السنن " (1 / 123) مختصرة، والحاكم في " المستدرك " (4/59 - 60) من طريق إسحاق بن الأزرق، عن القاسم بن عثمان البصري، عن أنس به.
والقاسم بن عثمان البصري هذا هو علَّة الحديث.
قال الذهبي – رحمه الله - في ترجمته -:
القاسم بن عثمان البصري، عن أنس، قال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها.
قلت: حدَّث عنه إسحاق الأزرق بمتن محفوظ، وبقصة إسلام عمر؛ وهي منكرة جدّاً.
" ميزان الاعتدال " (3 / 375) .
2. والمحاولة الثانية لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعم الرافضي: حدثت بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من " تبوك "، حيث تعرَّض له مجموعة من المنافقين، وأرادوا قتله صلى الله عليه وسلم بإلقائه من مكانٍ عالٍ، وقد نجَّاه الله تعالى من هذا، وكان المكان الذي تم فيه تلك المحاولة يقال له " العقَبة ".
قال ابن الجوزي – رحمه الله -:
هذا الحديث يشكل على المبتدئين؛ لأن أهل العقبة إذا أطلقوا: فإنما يشار بهم إلى الأنصار المبايعين له، وليس هذا من ذاك، وإنما هذه عقبة في طريق تبوك، وقف فيها قوم من المنافقين ليفتكوا به.
" كشف المشكل من حديث الصحيحين " (1 / 257) .
والقصة صحيحة، لا إشكال فيها، لكن الرافضة الكذَبة زعموا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا من أولئك المنافقين الذين حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم، وهو زعم تافه، والوقت أنفس من أن يضيع في الرد عليه، لولا أننا نطمع بإسلام بعض من اغتر بالدين الرافضي، ونطمع بأن نثبت قلوب عامة أهل السنَّة على الحق الذي وفقهم الله لاتباعه.
روى مسلم (2779) من طريق الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ ثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ؛ كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَكَ، قَالَ - يعني حذيفة -: كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلاثَةً، قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، وَقَدْ كَانَ فِي حَرَّةٍ، فَمَشَى، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ فَلا يَسْبِقْنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَوَجَدَ قَوْمَاً قَدْ سَبَقُوهُ، فَلَعَنَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
انتهى
هذه خلاصة القصة، كما رواها مسلم رحمه الله، فهل يمكن لعاقل أن يصدِّق أن يترك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفقة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يتلثمان، ويحاولان قتله؟! ولماذا لم يفعلا هذا قبل ذهابهما معه لـ " تبوك "؟ ولماذا لم يفعلا هذا أثناء خلوتهما بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو عليهما يسير؟! وقد أوحى الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأسماء أولئك، وقد عذر منهم ثلاثة، فكيف يكون أولئك الأجلاء منهم ولا ينبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين منهم؟! وكيف يثني عليهما، ويأمر بتقديمهما، ويرضى صحبتهما ونسبهما؟! وكيف يبايع حذيفة رضي الله عنه ذينك الإمامين أبي بكر وعمر وهو يعلم أنهما من المنافقين؛ بل جزم لعمر رضي الله عنه أنه ليس من المنافقين، وقد كان عنده خبر المنافقين من النبي صلى الله عليه وسلم؟!
أسئلة كثيرة ترد إلى القلب الطاهر، والعقل الصريح، ولا جواب عليها إلا أن ما زُعم من الرافضة هو محض كذب، وافتراء، وإن عقلية المؤامرة التي يعيشون معها، ونفسية المريض التي يحيون بها، والعقيدة الخربة التي يعتقدونها، كل ذلك يدفعهم إلى إنشاء مثل تلك الخرافة غير المحبوكة، والتي يضحك منها العقلاء.
إن ناقل هذه القصة هو حذيفة رضي الله عنه، وهو يخبر بأن من قام بتلك الفعلة الشنيعة هم " أهل العقبة "، وأين أبو بكر وعمر منهم؟! وكيف يفعل الرافضة في الروايات التي صرَّحت بأسماء أولئك المنافقين وليس بينهم من ذكروا من الصحابة الأجلاء؟! .
قال ابن كثير – رحمه الله -:
وقد ترجم الطبراني في " مسند حذيفة " تسمية أصحاب " العقبة "، ثم روى عن علي بن عبد العزيز عن الزبير بن بكار أنه قال: هم مُعَتِّب بن قشير، ووديعة بن ثابت، وجد بن عبد الله بن نَبْتَل بن الحارث من بني عمرو بن عوف، والحارث بن يزيد الطائي، وأوس بن قَيْظِي، والحارث بن سُوَيْد، وسعد بن زرارة، وقيس بن فهد، وسويد وداعس من بني الحبلي، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللصيت، وسلالة بن الحمام، وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام.
" تفسير ابن كثير " (4 / 182، 183) .
وقد لبَّس صاحب المقال على الناس بالنقل عن " ابن حزم " رحمه الله مرتين:
الأولى: زعمه أن " الوليد بن جُميع " له رواية يذكر فيها أسماء الصحابة الذين شاركوا في مؤامرة الاغتيال تلك، وبما أن ابن حزم يضعف هذا الرواي: فإنه يلزم قبول الرواية عند من يوثقه، ويحسن حديثه! .
والثانية: ذِكر كتاب ابن حزم المسمى بـ " المحلى " كأحد مصادر وجود تلك الرواية التي احتوت على أسماء أولئك الصحابة.
وهذا نص كلامه:
ابن حزم في " المحلى بالآثار " ج12 ح 2203 كتاب الحدود يقول:
" وأما حديث حذيفة: فساقط؛ لأنه من طريق الوليد بن جميع، وهو هالك! ولا نراه يعلم من وضع الحديث؛ فإنه قد روى أخباراً فيها أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم: أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله، وإلقاءه من " العقبة " في " التبوك "!! ".
نرى أن ابن حزم يُسقط الحديث لوليد بن جميع، والحال: أن وليد من رجال البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، وصحيح ترمذي، وسنن نسائي، والحال: أن كثيراً من كتب الرجال صرحوا بواقة! وليد بن جميع.
انتهى
والرد على ذلك من وجوه:
1. " الوليد بن جُميع " ليس من رجال البخاري؛ إذ لم يرو له في الصحيح حديثاً واحداً، بل روى له خارجه، ومثله لا يقال عنه " من رجال البخاري ".
2. أخطأ ابن حزم رحمه الله في وصف الوليد بالهلاك، وأعدل الأقوال فيه أنه " صدوق يهم " كما وصفه به الحافظ ابن حجر في التقريب.
وفي " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم (9 / 8) :
عن الإمام أحمد وأبي زرعة أنهما قال فيه: " ليس به بأس "، وأن يحيى بن معين وثقه، وقال أبو حاتم الرازي: " صالح الحديث ".
3. لا يُعرف في الدنيا إسناد فيه ذِكر أولئك الصحابة الأجلاء أنهم اشتركوا في محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وابن حزم يضعف ذلك الراوي أصلاً، قبل هذا الحديث، والمفهوم من كلامه رحمه الله أن وضع أسماء أولئك الصحابة كان مقحماً في إسناد الوليد الأصلي للحديث، وأنه لا دخل له به، ومما قاله ابن حزم رحمه الله في هذا الصدد: " ولا نراه يَعلم مَن وضع الحديث "، فالحديث بذكر أولئك الصحابة مكذوب قطعاً على الوليد بن جُمَيع رحمه الله، ومن هنا كان لا بدَّ من تبيه المسلمين على ما حذفه ذلك الرافضي من كلام ابن حزم رحمه الله، فإنه قال بعدها مباشرة:
" وهذا هو الكذب الموضوع، الذي يَلعن الله تعالى واضعَه، فسقط التعلق به، والحمد لله رب العالمين ".
" المحلى " (11 / 224) .
فانظر كيف دلَّس، ولبَّس، في نقله عن ابن حزم رحمه الله، وهذا الدعاء الذي دعا به ابن حزم رحمه الله لا يمكن إلا أن يصيب رافضيّاً؛ لأنهم هم الذين يكذبون مثل هذه الأكاذيب، ويركبونها على أسانيد صحيحة، مشهورة.
4. ولو أننا جعلنا ذِكر أسماء المنافقين الذين ذكرهم الزبير بن بكار، والواردة أسماؤهم في رواية البيهقي في " دلائل النبوة " من الضعيف غير المقبول: فإننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم استأمن حذيفة رضي الله عنه على أسمائهم، وهو أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم، وكاتمه، فمِن أين عرفوا أسماء أولئك الملثمين من المنافقين الذين هموا بقتله صلى الله عليه وسلم؟! وللإجابة على هذا السؤال كذب الرافضة فزعموا أن حذيفة رضي الله عنه أخبر بأسمائهم! فانظر إليهم كيف جعلوا حذيفة خائناً للسر، وليس المهم عندهم إلا تحقيق مأربهم من الطعن في أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، ولا يهمهم الثمن الذي يبذلونه من أجل ذلك.
قال ذلك الرافضي المجوسي في مقاله:
" وفي زمن حكم عثمان بن عفان صرَّح حذيفة بن اليمان رضوان الله عليه بأسماء الذين حاولوا قتل النبي في العقبة، وكان منها أسماء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبا موسى الاشعري، وأبو سفيان بن حرب، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف.
المصدر: " المحلى " لابن حزم الأندلسي ج 11 ص 225، و" منتخب التواريخ " ص 63 ".
انتهى كلامه بما فيه من أخطاء نحوية وركاكة.
والرد على هذا من وجوه مختصرة:
أ. أنتم بذلك جعلتم حذيفة رضي الله خائناً لسر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان كذلك فهو حري أن لا يُقبل كلامه! وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم عموماً بكتم أسماء المنافقين، وتحديداً أسماء هؤلاء، فكيف تترضون عنه مع خيانته للأمانة؟! وأما نحن فننزه حذيفة رضي الله عنه عن خيانة الأمانة، ونجزم بأنه لم يفعل ما تفترونه عليه.
ب. أين الرواية التي فيها إخبار حذيفة بأسماء من نوى قتل النبي صلى الله عليه وسلم؟! وما هو إسنادها؟ .
ج. ما ذكروه هنا يؤكد ما قلناه من براءة " الوليد بن جمَيع " من الكذب، وذِكر أسماء أولئك الأجلاء من الصحابة، فروايته للحديث كانت خالية من الأسماء، والرافضة قد نسبوا الإخبار بتلك الأسماء لحذيفة رضي الله عنه! فليس توثيق الوليد يعني قبول الرواية التي فيها أسماء أولئك الصحابة – كما سبق ذِكره – فهو ليس موجوداً في إسنادها، بل الرواية نفسها ليست موجودة أصلاً! .
د. إحالتهم على " المحلى " من التدليس، والتلبيس، فابن حزم رحمه الله كذَّب الرواية التي فيها ذِكر تلك الأسماء، وغير خافٍ على أحد عظيم كذب الرافضة.
هـ. إحالتهم على " منتخب التواريخ " ليس بنافعهم؛ لسبيين:
الأول: الكتاب مؤلفه محمد هاشم الخراساني، وهو رافضي خبيث، متأخر الوفاة (ت: 1352هـ) ، فهو قريب العهد جدا من ذلك الكذاب الذي نناقشه.
الثاني: لا يقبل كلام أحد غير مسنَد، ولو كان ثمة إسناد لنقلوه فرحين.
5. لا يلزم من مخالفة الأئمة لابن حزم في الحكم على " الوليد بن جُميع " أن تكون الرواية التي فيها أسماء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومن معهم: صحيحة؛ إذ لا وجود لها أصلاً، وإنما يلزم الأئمة قبول رواية مسلم التي فيها ذِكر الحادثة من طريق " الوليد "، ولا نعلم أحداً من المشتغلين بالحديث يقدِّم ابن حزم على مَن ذكرنا مِن أئمة الشأن مِن أهل الحديث.
6. وعليه: فثمة أمران:
الأول: الرواية الأصلية التي في صحيح مسلم من غير ذِكر أسماء أحد من المنافقين الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم: ضعيفة عند ابن حزم؛ لضعف الوليد بن جُميع عنده، وقد سبق أن ضعفه في حديث حذيفة وأبيه عندما عاهدوا المشركين على عدم قتالهم في " بدر "، والحديث رواه مسلم أيضاً.
والثاني: الرواية التي فيها ذِكر أسماء من قام بتلك المحاولة، والتي فيها ذِكر أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وغيرهم: موضوعة، مكذوبة موضوعة، كما قال ابن حزم رحمه الله! وقد دعا رحمه الله على من افتراها، وجزم بكذبها، وليست علة الرواية هذه وجود الوليد بن جميع، وإنما افتراها كذاب مجهول، وألصقها برواية الوليد، وقد جزم ابن حزم رحمه الله بأن الوليد لا يعلم من وَضعها، وهو الذي نجزم به.
7. والعجيب عندنا هو أنه لا توجد رواية عند الرافضة في إثبات أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم حاولوا اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم في " عقبة تبوك "، ولم يجدوا ما يتعلقوا به غير كلام ابن حزم رحمه الله، ولنسمل عيونهم، ونرغم أنوفهم بهذا النقل عنه، لعلهم يكفوا عن الاستدلال بكلامه.
قال – رحمه الله -:
وأما قولهم – أي: النصارى - في دعوى الروافض تبديل القرآن: فإن الروافض ليسوا من المسلمين! إنما هي فرَقة حدثَ أولُّها بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وكان مبدؤها: إجابة ممن خذله الله تعالى لدعوة مَن كاد الإسلام، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب، والكفر!!
وهي طوائف، أشدهم غلوّاً: يقولون بإلهية علي بن أبي طالب، وإلهية جماعة معه، وأقلهم غلوّاً: يقولون إن الشمس رُدَّت على علي بن أبي طالب مرتين، فقومٌ هذا أقل مراتبهم في الكذب: أيُستشنع منهم كذب يأتون به؟! .
وكل مَن لم يزجره عن الكذب ديانة، أو نزاهة نفس: أمكنه أن يكذب ما شاء، وكل دعوى بلا برهان: فليس يَستدل بها عاقل، سواء كانت له، أو عليه، ونحن إن شاء الله تعالى نأتي بالبرهان الواضح الفاضح لكذب الروافض فيما افتعلوه من ذلك.
" الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل " (2 / 65) ط الخانجي، و (2 / 213) ط الجيل.
فسقط – بفضل الله – تعلق الرافضة المجوس بتلك الرواية غير الموجودة أصلاً، وتبين للناس أن ابن حزم رحمه الله يجزم بكذبها، فما نراه في مواقع الرافضة من تعلقهم بكلام ابن حزم رحمه الله قد تبين لهم وجهه، وأنه لا يفيدهم في إثبات دعواهم، والحمد لله رب العالمين.
ثالثاً:
أما المحاولة الثالثة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، والتي نجحت بزعم الرافضة: فهي زعمهم أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما قد وضعتا السم في فم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مات نتيجة لذلك! وأن ذلك الفعل منهما كان بتحريض أبويهما: أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما.
وكان مما قاله ذلك الأفاك الأثيم:
" وهذه الروايات الموثق في كتب الحديث عند أهل السنة تكشف أن هناك مؤامرة كبرى دبرها المخططون لقلب النظام الإسلامي، والسيطرة على دفة الحكم، وذلك لاغتيال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتجريعه سمّاً على أنه دواء للشرب! ".
انتهى
وقال:
" والأرجح! أنَّ من نفذ هذه العملية هي عائشة وحفصة! زوجتا النبي صلى الله عليه وآله، وبتخطيط من عمر بن الخطاب، وأبي بكر، وأمرٍ منهما؛ حيث إن المستفيد الأكبر: هما، وهما اللذان تحققت أهدافهما، ومصالحهما بقتل النبي صلى الله عليه وآله ".
انتهى
وهذا نص الرواية، وكلام العلماء فيها، وأوجه الرد على الرافضة في زعمهم الكاذب:
عن عَائِشَة قالت: لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا (لَا تَلُدُّونِي) ، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ بِالدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: (أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي) ، قُلْنَا: كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ، إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) .
رواه البخاري (6501) ومسلم (2213) .
وعن أَبي بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَتَشَاوَرَ نِسَاؤُهُ فِي لَدِّهِ، فَلَدُّوهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: (مَا هَذَا؟) ، فَقُلْنَا: هَذَا فِعْلُ نِسَاءٍ جِئْنَ مِنْ هَاهُنَا - وَأَشَارَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ - وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ فِيهِنَّ قَالُوا: كُنَّا نَتَّهِمُ فِيكَ ذَاتَ الْجَنْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (إِنَّ ذَلِكَ لَدَاءٌ مَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيَقْرَفُنِي بِهِ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا الْتَدَّ، إِلَّا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَعْنِي: الْعَبَّاسَ -) .
قَالَ: فَلَقَدْ الْتَدَّتْ مَيْمُونَةُ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّهَا لَصَائِمَةٌ، لِعَزْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رواه أحمد (45 / 460) وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (3339) .
اللّدود: هو الدواء الذي يُصب في أحد جانبي فم المريض، أو يُدخل فيه بأصبع وغيرها ويحنك به، وأما الوُجور: فهو إدخال الدواء في وسط الفم، والسُّعوط: إدخاله عن طريق الأنف.
وذات الجنب: ورمٌ حار يَعْرِضُ فى نواحى الجَنب فى الغشاء المستبطن للأضلاع.
ويلزم ذاتَ الجنب الحقيقى خمسةُ أعراض، وهى: الحُمَّى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النَّفَس، والنبضُ المنشاري.
ينظر: " زاد المعاد في هدي خير العباد " (4 / 81 – 83) .
ولنا مع هاتين الروايتين وقفات:
1. إن مَن نقل هذه الحادثة للعالَم هو عائشة رضي الله عنها! فكيف تنقل للناس قتلها لنبيها، وزوجها، وحبيبها، صلى اله عليه وسلم؟! وكذلك روت الحادثةَ أم سلمة، وأسماء بنت عُمَيس، رضي الله عنهما، وكل أولئك متهمات في دينهن عند الرافضة، ومشاركات في قتله صلى الله عليه وسلم! ومع ذلك قبلوا روايتهن لهذا الحديث؛ فاعجبوا أيها العقلاء!
2. كيف عرف الرافضة المجوس مكونات الدواء الذي وضعته عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم؟! .
3. النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يوضع الدواء نفسه في فم كل من كان في الغرفة، إلا العباس رضي الله عنه، فلماذا مات هو صلى الله عليه وسلم منه، ولم يموتوا هم؟! .
4. لماذا لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمَّه العباس رضي الله عنه بما فعلوه من وضع السم في فمه صلى الله عليه وسلم حتى يقتص ممن قتله؟! إذا قلتم أخبره: فأين الدليل على إخباره، وإن قلتم: لم يخبره: فكيف علمتم أنه سمٌّ وليس دواء، والعباس نفسه لم يعلم؟! .
5. السم الذي وضعته اليهودية في الطعام الذي قُدِّم للنبي صلى الله عليه وسلم كُشف أمره من الله تعالى، وأخبرت الشاةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنها مسمومة، فلماذا لم يحصل معه صلى الله عليه وسلم الأمر نفسه في السمّ! الذي وضعته عائشة في فمه؟! .
6. لم يُعط الدواء للنبي صلى الله عليه وسلم من غير علَّة، بل أعطيه من مرضٍ ألمَّ به.
7. لم يُعط النبي صلى الله عليه وسلم الدواء إلا بعد أن تشاور نساؤه رضي الله عنهن في ذلك الإعطاء.
8. لا ننكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مات بأثر السم! لكن أي سم هذا؟ إنه السم الذي وضعته اليهودية للنبي صلى الله عليه وسلم في طعام دعته لأكله عندها، وقد لفظ صلى الله عليه وسلم اللقمة؛ لإخبار الله تعالى بوجود السم في الطعام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه أنه يجد أثر تلك اللقمة على بدنه، ومن هنا قال من قال من سلف هذه الأمة إن الله تعالى جمع له بين النبوة والشهادة.
والعجيب أن بعض الرافضة يُنكرون هذه الرواية، ويبرؤون اليهود من تلك الفعلة الدنيئة، مع تواتر الرواية، وصحة أسانيدها، ومع إخبار الله تعالى أن اليهود يقتلون النبيين، ومع ذلك برأتهم الرافضة! وغير خاف على مطلع سبب ذلك الدفاع عن اليهود من قبَل الرافضة، وما ذاك إلا لأن مؤسس هذا المذهب هو " عبد الله بن سبأ " اليهودي! فصار من الطبيعي أن يُبرَّأ اليهود مع صحة الرواية، وتلصق التهمة بأجلاء الصحابة مع عدم وجود مستند صحيح، ولا ضعيف! .
9. من الواضح في الرواية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهمن من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بعدم لدِّه أنه نهي شرعي، بل فهموا أنه من كراهية المريض للدواء، وفهمهم هذا ليس بمستنكر في الظاهر، وقد صرَّحوا بهذا، وإن لم يكن لهم عذر عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأصل هو الاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم، قد أخطؤوا في تشخيص دائه صلى الله عليه وسلم، لذا فقد ناولوه دواء لا يناسب علته.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
وإنما أنكر التداوى لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به " ذات الجنب "، فداووه بما يلائمها، ولم يكن به ذلك، كما هو ظاهر في سياق الخبر، كما ترى.
" فتح الباري " (8 / 147، 148) .
10. وهل اقتص منهم صلى الله عليه وسلم، أم أراد تأديبهم؟ الظاهر أن ما فعله صلى الله عليه وسلم من إلزامهم بتناول ذلك اللدود أنه من باب التأديب، ومما يدل على أنه ليس من باب القصاص: أنه لم يلزمهم بالكمية نفسها التي وضعوها له.
قال أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله -
فإن قال قائل: فهل كان ما أمر أن يُفعل قصاصاً ممن أمر أن يفعل ذلك به مما فعلوه به؟ قيل له: قد يحتمل أن يكون ذلك كان منه على العقوبة، والتأديب , حتى لا يَعُدن إلى مثله , ومما يدل على أن ذلك ليس على القصاص: أنه لم يَأمر أن يُلدُّوا بمقدار ما لَدُّوه به من الدواء؛ لأنه لو كان قصاصاً: لأمر أن يُلدوا بمقدار ما لَدوه به، لا بأكثر منه.
" شرح مشكل الآثار " (5 / 198) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم؛ لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديباً، لا قصاصاً، ولا انتقاماً.
" فتح الباري " (8 / 147) .
11. الاشتباه بنوع مرضه صلى الله عليه وسلم: محتمل؛ لأن كلاًّ منهما – أي: ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من مرض، وما ظنوه – له الاسم نفسه، فكلاهما يُطلق عليه " ذات الجنب "، وكلاهما له مكان الألم نفسه، وهو " الجنب ".
قال ابن القيم – رحمه الله -:
وذاتُ الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي، وغيرُ حقيقي، فالحقيقي: ورمٌ حار يَعْرِضُ في نواحي الجَنب، في الغشاء المستبطن للأضلاع، وغير الحقيقي: ألم يُشبهه يَعْرِضُ في نواحي الجنبِ، عن رياح غليظة، مؤذيةٍ، تحتقِن بين الصِّفاقات – وهي الأغشية التي تغلف أعضاء البطن -، فتُحْدِث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقي، إلا أن الوجعَ فى هذا القسم ممدودٌ، وفي الحقيقي ناخسٌ.
وقال:
والعلاج الموجود في الحديث: ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة، فإنَّ القُسْطَ البحري - وهو العود الهندى على ما جاء مفسَّراً فى أحاديث أُخَر - صِنفٌ من القُسْط، إذا دُقَّ دقاً ناعماً، وخُلِط بالزيت المسخن، ودُلِكَ به مكانُ الريح المذكور، أو لُعِق: كان دواءً موافقاً لذلك، نافعاً له، محلِّلاً لمادته، مُذْهِباً لها، مقويّاً للأعضاء الباطنة، مفتِّحاً للسُّدد، والعودُ المذكور فى منافعه كذلك.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (4 / 81، 82) .
فهنَّ رضي الله عنهن اعتقدن أن مرضه صلى الله عليه وسلم هو الأول الحقيقي، وهو الذي استبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتليه الله به، وقد ناولوه دواء المرض الآخر، وكان الدواء هو " القُسط الهندي " وقد دقوه وخلطوه بزيت – كما في رواية الطبراني -، وهو مفيد لمن تناوله حتى لو لم يكن به مرض، لذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من شارك في إعطائه له، ومن رضي به: أمر أن يلد به! ولو كان فيه ضرر لم يكن ليأمر بذلك صلى الله عليه وسلم.
12. ليس في الروايتين – ولا في غيرها – ذِكرٌ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإنما الذي تشاور في الأمر هم نساؤه رضي الله عنهن، ولا فيهما أن عائشة وحفصة استشارتا أبويهما في ذلك التصرف.
وبما سبق يتبين – بفضل الله وتوفيقه – عدم ثبوت أيٍّ من مزاعم ذلك الرافضي، ومثله ما زعمه من سمِّي " نجاح الطائي " في كتابه الهالك " هل اغتيل النبي محمَّد ".
ولقد تبين لنا، كلما رددنا على الرافضة شبهة من شبهاتهم، ضحالة تفكيرهم، وسوء معتقدهم، كما تبين لنا قوة أهل السنَّة في حجتهم، وصحة أدلتهم، واستدلالاتهم، وهي نعمة عظيمة منَّ الله بها أن أخرجنا من الظلمات إلى النور، وأن رزقنا منهجاً سليماً، وطريقاً مستقيماً، وأبان لنا المحجة، وأنار لنا الدرب، فلا يزيغ عن الطريق بعد ذلك إلا هالك.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/189)
الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته ولم يروه يسمون "المخضرمون"
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يُسَمَّى الناس الذين كانوا أحياء في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلموا لكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من لم يتشرف بلقيا النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة فليس من الصحابة، ولذلك فقد عد المحدثون جميع من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يروه من التابعين، وأطلقوا عليهم اسم " المخضرمون من التابعين ". لأنهم أدركوا الجاهلية والإسلام.
قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله:
" فأما المخضرمون من التابعين ـ هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست لهم صحبة ـ فهم: أبو رجاء العطاردي، وأبو وائل الأسدي، وسويد بن غَفَلَة، وعثمان النهدي، وغيرهم من التابعين " انتهى.
" معرفة علوم الحديث " (ص/44) .
وقال الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله:
" المخضرمون من التابعين: هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرَم - بفتح الراء - كأنه خُضْرِم: أي قُطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم (مسلم) فبلغ بهم عشرين نفسا منهم:
أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وعبد خير بن يزيد الخَيْوَانِي، وأبو عثمان النهدي، وعبد الرحمن بن مل، وأبو الحَلَال العَتَكي ربيعة بن زرارة " انتهى.
" المقدمة " (179)
والمخضرم مأخوذ من الشيء المتردد بين أمرين.
قال الحافظ العراقي رحمه الله:
" المخضرم متردد بين الصحابة لإدراكه زمن الجاهلية والإسلام، وبين التابعين لعدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متردد بين أمرين " انتهى باختصار.
" التقييد والإيضاح " (ص/323)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/190)
وجوب الكف عما شجر بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن علي بن أبي طالب وعثمان رضي عنهما قتلهما أشخاص مسلمون؟ وهل يمكن توضيح ما المشكلة التي دارت بين الصحابة في تلك الحقبة وما هي الكتب التي تحدثت عن هذا الموضوع؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعلم يا أخي – وقانا الله وإياك الفتن، ما ظهر منها وما بطن – أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم أفضل أصحاب لأفضل نبي، وخاصة الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين.
قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) التوبة/100.
قال ابن كثير رحمه الله:
" قد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (4/203) .
وقال الله تعالى عن المهاجرين: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحشر/8،
وقال سبحانه عن الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر/9.
وقال عن الذين جاءوا من بعدهم من المؤمنين: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
الحشر/10.
أما ما حصل بين الصحابة من الاختلاف والاقتتال: فيجب علينا الكف عنه، مع اعتقاد أنهم أفضل الأمة، ومحبتهم والترضي عنهم، وعلى هذا تتابعت كلمة أهل السنة والجماعة.
سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن علي وعثمان والجمل وصفين وما كان بينهم؟
فقال: (تلك دماء كف الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها) .
"الطبقات الكبرى" (5/394) .
وسأل رجل الإمام أحمد بن حنبل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله، هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص126) .
وقال الإمام أحمد أيضا بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال: (
ما أقول فيهم إلا الحسنى) .
"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص164) .
وقال الميموني: " قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن، إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام. وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟ فقال إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء " انتهى.
"البداية والنهاية" (8/139) .
وقال أبو زرعة الرازي:
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة " انتهى.
"الكفاية في علم الرواية" (ص 49) .
وقال القرطبي:
" لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم " انتهى.
"تفسير القرطبي" (16/321) .
وقال ابن أبي زيد القيرواني وهو بصدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به قال: " وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب " انتهى.
"عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام" (2/734) .
وقال أبو عبد الله بن بطة - رحمه الله - أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: " ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل، فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفور لهم ".
"كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة" (ص/268) .
وقال أبو عثمان الصابوني وهو بصدد عرض عقيدة السلف وأصحاب الحديث:
" ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم ".
"عقيدة السلف وأصحاب الحديث - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية" (1/129) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) الحشر/10.
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ) .
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم.
ولا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور لهم؟
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى " انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (3/152- 156) .
وقال الحافظ ابن حجر:
" اتَّفَقَ أَهْل السُّنَّة عَلَى وُجُوب مَنْع الطَّعْن عَلَى أَحَد مِنْ الصَّحَابَة بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَرَفَ الْمُحِقّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوب إِلَّا عَنْ اِجْتِهَاد، وَقَدْ عَفَا اللَّه تَعَالَى عَنْ الْمُخْطِئ فِي الِاجْتِهَاد , بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَر أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ الْمُصِيب يُؤْجَر أَجْرَيْنِ " انتهى.
"فتح الباري" (13/34) .
ومثل هذا كثير في كلام أهل العلم، وهو المتعين الأخذ به؛ لأن فيه العصمة من الزلل، والتعريف بحق أفضل الناس بعد النبيين.
أما عن مقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلا شك أنهما قتلا مظلومين، ونشهد لهما بالجنة، ونشهد على من تلبس بهذا الأمر أو شارك فيه أو رضيه، أو علمه ولم ينكره بأنه ضال مضل خبيث الطوية، متبع غير سبيل المؤمنين، والله يحاسبه يوم القيامة على صنيعه، وسيحكم الله تعالى بينهم يوم القيامة. (قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/191)
سنيَّة ودخلت مواقع الرافضة وحضرت مناقشاتهم مع أهل السنة وحصل عندها اضطراب
[السُّؤَالُ]
ـ[عقيدتي في خطر؛ فأرجوك: إن كان وقتك ضيقا، ولا تستطيع الجواب على رسالتي، فدلني على إيميل شيخ، أو مشايخ، أو أرسلها أنت لمن ينقذني، لا تهملها، أرجوك. دعني أخبرك في البداية عن مذهبي حتى لا تعتقد غيره: أنا فتاة سنيَّة من أسرة متدينة؛ ولكن مشكلتي أني أدخل " النت " في مسائل المذهبين: السني، والشيعي، ودخلت في متاهات الحوارات القائمة دون علم كافي يسندني، وللأسف الشديد وقعت في المتاهة، أنا مقتنعة جدّاً بمذهبي، وأمقت المذهب الشيعي، ولكني أصبت بسهام التجريح لشخصيات أعتبرها أعلاماً شامخة في حياتي، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، دون علم يكفيني. سأكون صريحة معك للغاية في طريقة طرحي، فأنا أريد أجوبة مقنعة لي، فأرجوك لا تهملني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نسأل الله أن يثبتك على الحق، وأن يرزقك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبَّلاً، وقد رأينا ذِكر بعض الملاحظات لكِ قبل البدء بنقض شبهات أولئك الرافضة، فنقول ـ أيتها السائلة الكريمة ـ:
1. ثمة مواقع متخصصة بالفتاوى، وإجابة السائلين – وموقعنا هذا منها -، فمراسلة هذه المواقع أنفع لك وأجدى، وأسرع في حصول المأمول، فاحرصي – في المستقبل – على مراسلتها لتري جواباً على سؤالك في أسرع وقت إن شاء الله ويسَّر، وندلك على موقع " الشبكة الإسلامية " فهو من المواقع الموثوقة عندنا.
2. لم يكن ينبغي لك مراسلة المواقع على اختلاف دين أهلها ومناهجهم؛ فإن من شأن هذا أن يزيد في حيرتك، ويولِّد لديك شكوكاً في قواعد دينك، وأصوله، وهو ما حصل من إجابات ذلك الرافضي، والتي كان لها أسوأ الأثر عليك بما فيها من انحراف وضلال.
4. ولم يكن جائزاً لك ـ من الأصل ـ الدخول في نقاشات أهل السنة مع الرافضة، لا كتابة، ولا صوتاً؛ وقد حذَّر العلماء – قديماً وحديثاً – من السماع والقراءة لأهل البدع، والضلال؛ خشية التأثر بكلامهم، فضلاً عن عدم جواز الدخول معهم في نقاش وجدال في الشرع، وإنما يجوز ذلك – وقد يجب أحياناً – على المتخصصين في الشرع، ممن يعرفون دينهم، ويعرفون مداخل الشبَه على فرق الضلال تلك.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -:
الذي كنَّا نسمع، وأدركنا عليه مَن أدركنا مِن أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام، والجلوس، مع أهل الزيغ , وإنما الأمور في التسليم، والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع، والزيغ، لترد عليهم , فإنهم يلبِّسون عليك، ولا هم يرجعون , فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم، والخوض معهم في بدعتهم، وضلالتهم.
" الإبانة الكبرى " لابن بطة (2 / 471، 472) .
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني - رحمه الله – في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة -:
ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالأذان، وقرّتْ في القلوب: ضرَّت، وجرَّت إليها من الوساوس، والخطرات الفاسدة ما جرَّت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الأنعام/ من الآية 68.
" عقيدة السلف أصحاب الحديث " (ص 99، 100) .
وقال الذهبي - رحمه الله:-
أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبَه خطَّافة.
" سيَر أعلام النبلاء " (7 / 261) .
وينظر – لمزيد فائدة – جوابي السؤاليْن: (92781) و (96231) .
ثانياً:
الرافضة قومٌ بهت، كذبوا على الله، وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى آل البيت، وهم يزعمون تعظيمهم، فكيف سيَصْدُقون في أعدائهم، وهم الصحابة رضي الله عنهم؟! ولذلك كانوا شرَّ أهل الأهواء، وأضلهم، بل وأحمقهم، وهم ـ في حقيقة أمرهم، وآخر مذهبهم ـ أعداء للدين الذي ينتسبون إليه؛ إذ لا دين إلا ما نقله أولئك الصحابة، ولا قرآن إلا ما قرؤوه وأقرؤوه، ولا سنَّة نبوية إلا ما بلغوها، وهذا هو الإسلام الذي طعنوا فيه، وكفروا بتشريعاته بتكفيرهم للصحابة، وتكذيبهم فيما نقلوه، ولم يسمِّهم السلف أهل أهواء عبثاً، بل هو لفظ مطابق لحالهم.
قال الإمام الشعبي – رحمه الله -:
يا مالك – وهو: ابن مغول - إني قد درستُ الأهواء، فلم أرَ فيها أحمق من " الخشبية " - فلو كانوا من الطير لكانوا رَخَماً، ولو كانوا من الدواب لكانوا حُمُراً، يا مالك لم يدخلوا في الإسلام رغبة فيه لله، ولا رهبة من الله، ولكن مقتاً من الله عليهم، وبغياً منهم على أهل الإسلام، يريدون أن يغمصوا دين الإسلام كما غمص بولص بن يوشع ـ ملك اليهود ـ دينَ النصرانية، ولا تجاوز صلاتُهم آذانَهم، قد حرقهم علي ن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم من البلاد، مِنهم: عبد الله بن سبأ، يهودي من يهود صنعاء، نفاه إلى ساباط، وأبو بكر الكروس، نفاه إلى الجابية، وحرَّق منهم قوماً أتوه فقالوا: أنت هو، فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت ربُّنا، فأمر بنار فأججت، فأُلقوا فيها، وفيهم قال علي رضي الله عنه:
لما رأيتُ الأمر أمراً منكرا ... أججتُ ناري ودعوتُ قنبرا
انظري " منهاج السنَّة النبوية " لابن تيمية (1 / 29، 30) .
و" الخشبية " هم الرافضة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كما كانوا يسمَّون " الخشبية " لقولهم: " إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم، فقاتلوا بالخشب ". " منهاج السنة " (1 / 36) .
واسمعي ما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما رووه هم في كتاب نهج البلاغة، الذي يثقون فيه، ويتلقونه بالقبول، ويسنبونه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه، يقول:
" لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، فما أرى أحدا يشبههم منكم؛ لقد كانوا يُصْبحون شُعْثا غُبرا، وقد باتوا سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى، من طول سجودهم، إذا ذكر الله هَملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفا من العقاب، ورجاء للثواب ". انتهى.
نهج البلاغة، بشرح ابن أبي الحديد (7/77) .
ويقول أيضا:
" أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، وهُيِّجوا إلى الجهاد فولِهوا ولَهَ اللِّقاح إلى أولادها، وسَلبوا السيوف أَغْمادَها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا، وصفا وصفا، بعضٌ هلك، وبعضٌ نجا، لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون عن الموتى، مُرْه العيون من البكاء، خُمص البطون من الصيام، ذُبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غُبرة الخاشعين، أولئك إخوانى الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إإليهم، ونعض الأيدى على فراقهم ". انتهى.
وننصحك بقراءة كتاب: صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم، للعالم الهندي الكبير: الشيخ أبو الحسن الندوي، رحمه الله.
وانظري – لمزيد فائدة – أجوبة الأسئلة: (113676) و (1148) و (4569) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/192)
وقفات مهمة مع حديث الحوض، وبيان الطوائف التي تردهم الملائكة عنده
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير الحديث القدسي في ما معناه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرِد المسلمون إلى حوضه، يُرجع الله طائفة من الناس فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رب، أمتي، أمتي) فيقول عز وجل: إنك لا تدري ما فعلوا بعدك؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اصطلح المحدثون على تسمية الحديث الوارد هنا: " حديث الحوض "، وللحديث ألفاظ وروايات متعددة، ليس بينها – بفضل الله – اختلاف.
وهذه بعض الروايات بألفاظها المختلفة:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي) .
رواه البخاري (6212) ومسلم (2290) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا) قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ؛ أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا) .
رواه مسلم (249) .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُهُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، فَلَيُقَطَّعَنَّ رِجَالٌ دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) .
رواه أحمد (41 / 388) وصححه المحققون.
عن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) .
رواه البخاري (6211) ومسلم (2304) .
عن عَبْد اللَّهِ بنِ مسعود قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي يَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) .
رواه البخاري (6642) ومسلم (2297) .
ثانياً:
عند التأمل في الأحاديث السابقة نجد أن الكلام قد انحصر في مجموعات ترِد حوض النبي صلى الله عليه وسلم لتشرب منه، فتردهم الملائكة، ويناديهم النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ هي " أمتي "، " أصحابي "، " أصيحابي "، وليس بينها اختلاف تضاد، بل هي محمولة على أناس تشملهم معاني تلك الكلمات، ويمكننا أن نجملهم بهذه الطوائف:
1. مرتدون عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا أسلموا في حياته ورأوه وهم على الإسلام.
2. مرتدون عن الإسلام في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعلم بكفرهم.
3. أهل النفاق ممن أظهر الإسلام، وأبطن الكفر.
4. أهل الأهواء الذين غيَّروا سنَّة النبي صلى الله وسلم وهديه، كالروافض، والخوارج.
5. وبعض العلماء يُدخل فيهم: أهل الكبائر، وله ما يؤيد من السنَّة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده (9 / 514) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَأْمُرُونَكُمْ بِمَا لَا يَفْعَلُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يَرِدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ) وصححه المحققون.
ولفظ " أمتي " في الأحاديث يصدق على أهل القول الرابع، والخامس، ولفظ " أصحابي " و " أصيحابي " على الأقوال الثلاثة الأوَل.
ومما يدل على أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم: أنه عرفهم بالغرة والتحجيل، وهي سيما خاصة بهذه الأمة، ويكون تعرف النبي صلى الله عليهم وسلم هناك بصفاتهم، لا بأعيانهم؛ لأنهم جاءوا بعده.
ومما يدل على دخول المنافقين في اسم " أصحابي ": قوله صلى الله عليه وسلم (لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) رواه البخاري (3518) ، وهذا معنى لغوي بحت للصحبة، ليس أنهم استحقوا شرفها؛ لأن تعريف الصحابي الاصطلاحي لا يصدق على هؤلاء.
وهذه طائفة من أقوال أهل العلم في تلك الأحاديث:
1. قال النووي - رحمه الله – في شرح الحديث -:
هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال:
أحدها: أن المراد به المنافقون، والمرتدون، فيجوز أن يُحشروا بالغرة والتحجيل، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مما وُعدتَ بهم، إن هؤلاء بدَّلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.
والثاني: أن المراد من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد بعده، فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك.
والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام.
" شرح مسلم " (3 / 136، 137) .
2. وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
وقال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة العرب، ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل قوله: (أصيحابي) بالتصغير على قلة عددهم.
" فتح الباري " (11 / 385) .
3. وقال الشيخ عبد القاهر البغدادي – رحمه الله -:
أجمع أهل السنَّة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كِندة، وحنيفة، وفزارة، وبني أسد، وبني بكر بن وائل، لم يكونوا من الأنصار، ولا من المهاجرين قبل فتح مكة، وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، وأولئك بحمد الله ومنِّه درجوا على الدين القويم، والصراط المستقيم.
وأجمع أهل السنة على أن من شهد مع رسول الله بدراً: من أهل الجنة، وكذلك كل مَن شهد معه بيعة الرضوان بالحديبية.
" الفَرْق بين الفِرق " (ص 353) .
4. وقال الشاطبي – رحمه الله -:
والأظهر: أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة؛ لأجل ما دل على ذلك فيهم، وهو الغرة والتحجيل؛ لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض، كان كفرهم أصلاً، أو ارتداداً.
ولقوله: (قد بدلوا بعدك) ، ولو كان الكفر: لقال: " قد كفروا بعدك "، وأقرب ما يحمل عليه: تبديل السنة، وهو واقع على أهل البدع، ومن قال: إنه النفاق: فذلك غير خارج عن مقصودنا؛ لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقيةً، لا تعبداً، فوضعوها غير مواضعها، وهو عين الابتداع.
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنَّة والعمل بها حيلةً وذريعةً إلى نيل حطام الدنيا، لا على التعبد بها لله تعالى؛ لأنه تبديل لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي.
" الاعتصام " (1 / 96) .
5. قال القرطبي – رحمه الله -:
قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكلُّ مَن ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله: فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طرداً: مَن خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدِّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور، والظلم، وتطميس الحق، وقتل أهله، وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر، المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ، والأهواء، والبدع.
ثم البعد قد يكون في حال، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال، ولم يكن في العقائد، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء، يُعرفون به، ثم يقال لهم (سحقاً) ، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهرون الإيمان، ويُسرون الكفر: فيأخذهم بالظاهر، ثم يكشف له الغطاء فيقول لهم: (سحقاً سحقاً) ، ولا يخلد في النار إلا كافر، جاحد، مبطل، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
" التذكرة في أحوال الموتى والدار الآخرة " (ص 352) .
ثالثاً:
مما يبين كذب الروافض في زعمهم أن الصحابة الأجلاء أبا بكر وعمر وعثمان من أولئك المرتدين: أنه قد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه قد حصلت ردة، وقتال للمرتدين، فمَن قاتل مَن؟ إن الذي ارتد هم الذين ذكرنا وصفهم، من بعض قبائل العرب، وإن الذي قاتلهم هو أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وإخوانه من المهاجرين والأنصار - وقد شاركهم في قتالهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسبى من بني حنيفة امرأة، أنجبت له فيما بعد الإمام العلَم " محمد بن الحنفية " -؛ فإذا كان الصحابة الكرام: أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار: مرتدين؛ فماذا يكون حال مسليمة وأتباعه، والعنسي وأتباعه؟! إلا إن هذا هو عين النفاق والشقاق، وقول الباطل وشهادة الزور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين، أتباع المرتدين، الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه، ودينه، ومرقوا من الإسلام، ونبذوه وراء ظهورهم، وشاقوا الله ورسوله وعباده المؤمنين، وتولوا أهل الردة والشقاق؛ فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم: يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصدِّيق رضي الله عنه وحزبه ـ من أصولهم ـ من جنس المرتدين الكفار، كالمرتدين الذين قاتلهم الصدِّيق رضي الله عنه.
" منهاج السنة النبوية " (4 / 490) .
وقال – رحمه الله -:
وفي الجملة: فأمر مسيلمة الكذاب، وادعاؤه النبوة، واتباع بني حنيفة له باليمامة، وقتال الصدِّيق لهم على ذلك: أمر متواتر، مشهور، قد علمه الخاص، والعام، كتواتر أمثاله، وليس هذا من العلم الذي تفرد به الخاصة، بل عِلْم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال " الجمَل " و " صفِّين "، فقد ذُكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر " الجمل "، و " صفين "، وهذا الإنكار وإن كان باطلا: فلم نعلم أحداً أنكر قتال أهل " اليمامة "، وأن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة، وأنهم قاتلوه على ذلك.
لكن هؤلاء الرافضة مِن جحدهم لهذا، وجهلهم به: بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دُفِنَا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم لموالاة أبي بكر، وعمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعواهم أنه نص على " علي " بالخلافة، بل منهم من ينكر أن تكون زينب، ورقية، وأم كلثوم من بنات النبي صلى الله عليه وسلم! ويقولون: إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافراً قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
" منهاج السنة النبوية " (4 / 492، 493) .
وقال – أيضاً -:
وهم – أي: الرافضة - يدَّعون أن أبا بكر وعمر، ومن اتبعهما ارتدوا عن الإسلام! وقد علم الخاص والعام: أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدين، فإذا كانوا يدَّعون أن أهل اليمامة مظلومون، قتلوا بغير حق، وكانوا منكرين لقتال أولئك، متأولين لهم: كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لأولئك السلف، وأن الصدِّيق وأتباعه يقاتلون المرتدين في كل زمان.
وقوله – أي: ابن المطهر الحلي الرافضي – " إنهم سمُّوا بني حنيفة مرتدين لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر ": فهذا مِن أظهر الكذب، وأبينِه؛ فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، واعتقدوا نبوته، وأما مانعو الزكاة: فكانوا قوماً آخرين، غير بني حنيفة، وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم، وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم ... .
" منهاج السنة النبوية " (4 / 493، 494) .
رابعاً:
يقال لهؤلاء الروافض: لماذا ارتد الخلفاء الثلاثة دون علي؟! وما الذي استثنى مثل " عمار بن ياسر " و " المقداد بن الأسود " و " أبا ذر " و " سلمان الفارسي " من الردة؟! أم هو التحكم والهوى؟! .
ونحن نعتقد أن المهاجرين والأنصار في الجنة خالدين فيها أبداً، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/ 100.
ونعتقد أن أبا بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وهكذا كل من سماهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هؤلاء جميعاً سيشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شراباً هنيئاً، والويل والثبور لمن لعنهم، وكفرهم، فهو أولى أن يكون يوم القيامة في صف المرتدين الذين حاربهم أولئك الأطهار.
خامساً:
هذه الأحاديث حجة على الروافض؛ حيث يثبتون فيها ردة الصحابة رضي الله عنهم إلا نفراً قليلاً، ويزعمون أنهم " أحدثوا " بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أنهم كانوا على الإيمان قبل ذلك! فأي دين اعتقدوه بعد ذلك؟ وماذا فعلوا ما استحقوا به التكفير؟! فإن قالوا: سلب الخلافة من علي رضي الله عنه: فيقال لهم هذه معصية! تكفرها الحسنات، ويكفي الصحابة سبكم ولعنكم لهم حتى توضع أوزارهم عليكم إن شاء الله.
وإن قالوا: قتل جنين فاطمة! : قلنا قد قُتل في زمن علي رضي الله عنه الآلاف! فهل تطبقون عليه القاعدة نفسها في التكفير؟! .
فتبين مما سبق: أن الصحابة الأجلاء هم الذين دافعوا عن دين الله، وهم الذين أوقفوا مدَّ الردة، والتي قام على إذكائها ونشرها سلف أولئك الروافض، من أمثال مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وأن الله تعالى قد أثنى في كتابه الكريم على المهاجرين والأنصار في قرآن يُتلى إلى قيام الساعة، وقد نزههم ربهم عن الوقوع في البدعة، فكيف يقعون في الردة، وهم الذين نشروا الإسلام في الآفاق؟! .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/193)
معنى قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... ) والرد على الرافضة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى تفسير قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) ، قرأت تفسير الشيعة لهذه الآية، وهم يرمون بها الصحابة رضوان الله عليهم، فاحترت لعدم علمي بالتفسير الصحيح، فما تفسير هذه الآية لدينا؟ وهل كان أحد ارتد بعد وفاة الرسول؟ ومن هم؟ وهل ذكر الحديث بقوله " ما تدري ماذا فعلوا من بعدك " يصلح تطبيقه على من ولدوا بعد عهد الرسول، أي: الرسول لم يشهد صلاحهم، فكيف يقال " بعدُ "؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/ 144: فإنها آية محكمة، وللوقوف على معناها بتفصيل: نذكر الآتي:
1. أن هذه الآيات أنزلها الله تعالى بعد غزوة " أُحد "، وهي مقدمة، وتهيئة لموت النبي صلى الله عليه وسلم، ففيها التذكير بأن الإسلام لا ينقطع بموت أو قتل نبيكم، كما فيها بيان ما حصل مع أنبياء سابقين حيث لم يؤثر قتلهم على أتباعهم، ولم يستفد من هذا التنبيه والتذكير من ارتدَّ على عقبه من القبائل، فخسروا الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
وقعةَ " أُحُدٍ " كانت مُقَدِّمَةً، وإرهاصاً، بين يدي موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم إنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه، وتوحِيدهِ، ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حيٌّ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ: لا ينبغي لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد، لا هُوَ، ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ، والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بَقِيَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ، فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران/ 144، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها، حتى ماتوا، أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله، وأعزَّهم، وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم.
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفسٍ أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا، وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقيَ منهم لِما أصابهم في سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ، مستكينين، أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً، كِراماً، مقبلينَ، غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (3 / 224، 225) .
2. هذه الآية تدل على تزكية أبي بكر الصدِّيق خاصة، والصحابة الأجلاء عامة؛ حيث وصف الله تعالى من يثبت في مثل هذه المصيبة، ويعلم أن نبيه ما هو إلا بشر يبلغ ما أرسله الله تعالى به، ثم يغادر هذه الدنيا، وصفهم الله تعالى بـ " الشاكرين "، وأما ما في الآية من تزكية الصدِّيق: فمن جهتين:
الأولى: استدلاله بها – مع قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) - عند موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية: أنه قاتل من ارتد على عقبه.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم، أو عن بعض لوازمه فقدُ رئيسٍ، ولو عظم؛ وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدِّين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم.
وفي هذه الآية أيضاً أعظم دليل على فضيلة الصدِّيق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين.
" تفسير السعدي " (ص 150) .
وبمعرفة ما مضى يتبين أن الصحابة الأجلاء قد استفادوا من درس " أحد "، وأن ما أصاب بعضهم من صدمة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ليست صدمة أعقبتها ردَّة، بل لعدم تحملهم عظَم الخبر، حتى ثبتهم الله تعالى بما تلاه على مسامعهم أبو بكر الصدِّيق من الآيات البينات، وأخبرهم بثبات المؤمن:
( ... فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَقَالَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وَقَالَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ ... )
رواه البخاري (3670) .
فرجعوا إلى صوابهم، وكأنهم لأول مرة تطرق هذه الآية مسامعهم، وقد عصم الله تعالى المهاجرين والأنصار من الردة، وسقط فيها طوائف من العرب تصدَّى لهم الصدِّيق وأصحابه، فعاد من عاد، وبقي منهم على الكفر جماعات.
وانظر جواب السؤال رقم (125919) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/194)
البيعة والميراث بين أبي بكر وعمر من جهة وعلي وفاطمة من جهة أخرى
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي حقيقة الخلاف الذي وقع ما بين " علي " وزوجته رضي الله عنهما، مع عمر، وعائشة رضي الله عنهما؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لم يكن بين الصحابة خلاف في الاعتقاد، بل ولا في منهج الاستدلال، فهم خير القرون، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولقد كانت علاقتهم بعضهم مع بعض أسمى، وأعلى مما يكذب بضده الرافضة، ومن أدل شيء على ذلك: ما بينهم من مصاهرة، وما حصل من تسمية أبنائهم بأسماء الكبار العظماء من الصحابة الأجلاء.
فإذا انتقلنا إلى موضوع السؤال، قلنا: لقد تزوج عمر بن الخطاب من ابنة علي بن أبي طالب وفاطمة، وهي " أم كلثوم "! ، وفي أسماء أبناء الحسين: أبو بكر، وعمر! ، فهذا هو الحال، وما حصل من خلافٍ بين فاطمة رضي الله عنها، وبين أبي بكر الصدِّيق: فإن الحق فيه مع أبي بكر رضي الله عنها، فقد كانت تريد فاطمة رضي الله عنها أن ترث من أبيها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرها أبو بكر أن الأنبياء لا يورثون، وهكذا سمع هو من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأبي بكر حظ نفس في هذا، فقد أغناه الله تعالى بالمال، وقد منع فاطمة أن ترث، كما منع ابنته عائشة – وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم – أن ترث هي كذلك، فلم يكن له هوى في ذلك، ولا كان بينه وبين فاطمة ما يجعله يولِّد العداء بينه وبينها، وقد وقف علي رضي الله عنه بجانب زوجه فاطمة؛ ليخفف عنها بوفاة والدها، ويسليها في موقفها من العتب على أبي بكر في منعه إعطاءها من ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم،
وقد امتنع عن الذهاب لأبي بكر رضي الله عنه لبيعته طيلة حياة فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ستة أشهر، لهذا السبب، ولسبب آخر: وهو أنه رأى استعجال الصحابة في الخلافة والبيعة، وأنه كان ينبغي أن يُشاور، ويحضر في الأمر، وكان رأي الصحابة على خلافه، فلما ماتت فاطمة رضي الله عنها، ودفنها: راجع نفسه، وطلب حضور أبي بكر لبيته، فحضر فأخبره عذره في التأخر عن البيعة، ثم أصرَّ أبو بكر على صحة موقفه من منع ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فاطمأن قلب علي رضي الله عنه، وتواعدا على البيعة في اليوم نفسه ظهراً، وبايعه، ففرح المسلمون فرحاً عظيماً.
هذا ملخص ما جرى، وقد روى هذا البخاري ومسلم، ولم يكن علي رضي الله عنه نازعاً يده من طاعة أبي بكر، ولا شاقّاً عصا المسلمين، وليس شرطاً في صحة بيعة الخليفة أن يبايعه كل المسلمين.
وهذا نص الحديث كاملاً بحروفه:
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام بِنْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، وَ " فَدَكٍ "، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ " خَيْبَرَ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَالِ) وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنْ النَّاسِ وَجْهٌ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ: اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ تِلْكَ الْأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ " أَنْ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ " - كَرَاهِيَةً لِمَحْضَرِ عُمَرَ - فَقَالَ عُمَرُ: " لَا وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَيْتَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي؛ وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَقَالَ: " إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصيبًا "، حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ: فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: أَصَبْتَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ. رواه البخاري (3998) ومسلم (1759) .
وهذه وقفات مع الحديث من كلام أهل العلم:
أ. قال النووي – رحمه الله -:
أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة: فقد ذكره علي في هذا الحديث، واعتذر أبو بكر رضي الله عنه، ومع هذا: فتأخره ليس بقادح في البيعة، ولا فيه، أما البيعة: فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه: فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده، ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له، وأن لا يظهر خلافاً، ولا يشق لعصا، وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته، فإنه لم يُظهر على أبي بكر خلافاً، ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره، فلم يَجب عليه الحضور لذلك، ولا لغيره، فلما لم يجب: لم يحضر، وما نُقل عنه قدحٌ في البيعة، ولا مخالفة، ولكن بقي في نفسه عتب، فتأخر حضوره إلى أن زال العتب، وكان سبب العتب: أنه مع وجاهته، وفضيلته في نفسه في كل شيء، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك: رأى أنه لا يُستبد بأمر إلا بمشورته، وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف، ونزاع، تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة؛ لكونها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه، أو كفنه، أو غسله، أو الصلاة عليه، أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء. " شرح مسلم " (12 / 77، 78) .
ب. وليس معنى هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكرٍ رضي الله عنه الهجران المحرَّم، فهي أجنبية عنه أصلاً.
قال بدر الدين العيني – رحمه الله -:
معنى هجرانها: انقباضها عن لقائه، وعدم الانبساط، لا الهجران المحرَّم مِن ترك السلام، ونحوه. " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " (17 / 258) .
وقال – رحمه الله -:
قال المهلب: إنما كان هجرها انقباضاً عن لقائه، وترك مواصلته، وليس هذا من الهجران المحرم، وأما المحرَّم من ذلك: أن يلتقيا، فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يَروِ أحدٌ أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك: لم يكونا متهاجريْن، إلا أن تكون النفوس مظهرة للعداوة، والهجران، وإنما لازمت بيتها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران. " عمدة القاري " (15 / 20) .
ج. وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
وكأنهم كانوا يعذرونه في التخلف عن أبي بكر في مدة حياة فاطمة، لشغله بها، وتمريضها، وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها فيما سألته من الميراث: رأى على أن يوافقها في الانقطاع عنه. " فتح الباري " (7 / 494) .
هـ. وقال – رحمه الله – أيضاً -:
قوله " كراهية ليحضر عمر " في رواية الأكثر: " لمحضر عمر "، والسبب في ذلك: ما ألِفوه من قوة عمر، وصلابته، في القول، والفعل، وكان أبو بكر رقيقاً، ليِّناً، فكأنهم خشوا من حضور عمر كثرة المعاتبة التي قد تفضي إلى خلاف ما قصدوه من المصافاة. " فتح الباري " (7 / 494) .
و. وقال – رحمه الله -
قوله " ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك " بفتح الفاء من ننفس، أي: لم نحسدك على الخلافة.
وقوله " استبددت " أي: لم تشاورنا، والمراد بالأمر: الخلافة.
ز. قوله " لقرابتنا " أي: لأجل قرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً " أي: لنا في هذا الأمر. " فتح الباري " (7 / 494) .
هذا ما جرى بين فاطمة وأبي بكر، وعلي وأبي بكر، رضي الله عنهم جميعاً، ومن يسمع ويقرأ للرافضة ير عجباً، وكذباً، فها هو علي يعتذر لأبي بكر، ويعظمه، وعترف له بالخلافة، ويبايعه على رؤوس الأشهاد، وقد سبق من أبي بكر زيارة علي في بيته، والثناء عليه، وعلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته، وتفضيلهم على قرابته هو، فأين الحقد، واللعن، والتقية، والخبث، والسوء، والبغض؟! إنه لا وجود له إلا في عقول وقلوب شيعة المجوس، وحلفاء هولاكو، وإخوان العلقمي، وهذه الرواية أصح الروايات في المسألة، وقد اتفق على إخراجها البخاري ومسلم رحمهما الله، ولسنا نخفي شيئاً من ديننا، وقد نقلنا فيها عدم رغبة علي رضي الله عنه أن يأتي مع أبي بكر أحد، ولم تُخف عائشة – أو غيرها – أنه لعله المقصود به عمر رضي الله عنه، وقد وافق أبو بكر رضي الله عنه على هذا، ورأى أنه أمر لا ضير فيه، ولا مخافة من ورائه.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
قال القرطبي: " مَن تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة، ومن الاعتذار، وما تضمن ذلك من الإنصاف: عَرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام، والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحياناً، لكن الديانة ترد ذلك، والله الموفق ".
وقد تمسك الرافضة بتأخر علي عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة، وهذيانهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع في حجتهم. " فتح الباري " (7 / 495) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/195)
تقصير المناهج الدراسية في بيان محبة ومنزلة آل البيت
[السُّؤَالُ]
ـ[آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا يقل ذِكرُ فضائلِهم لدينا، حتى إني لم أعرف عن اختصاصهم بالمحبة إلا من خلال تصفحي للإنترنت؟ وأنا فتاة أعيش في بلد مسلم سنِّي يدرس علوم الدين، وبكثافة، لم نفرغ لتعليم حبهم إلا درساً واحداً فقط في الثانوية، فهل هذا يكفي؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذا من تقصير القائمين على المناهج الدراسية في العالَم العربي والإسلامي، ومحبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم دِين يُدان الله به، وينبغي الإكثار من بيان ذلك في شرعنا حتى لا يُفتح الباب للرافضة للتلاعب والافتراء، كما هو دأبهم في تلقيب أهل السنَّة، واتهامهم بأنهم " نواصب " – أي: نصبوا العداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن أهل السنة يرون أن النواصب الذين يبغضون أهل البيت من فرق الزيغ والضلال، كما أن الرافضة الذين يكذبون على أهل البيت ويغلون في شأنهم: هم أشد زيغا وضلالا، وأعظم كذبا.
عن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ) فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: (وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
رواه مسلم (2408) .
وإنما عظمُ حق أهل بيته لعظم حقه صلى الله عليه وسلم علينا، كما أنه ليس المراد به من أولئك إلا من عُرف بالاستقامة والدِّين، وأما من كان ضالاًّ أو مخرِّفاً: فليس له حق علينا؛ لأنه ليس من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى لنوح عن ابنه الكافر: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) هود/ من الآية 46.
وعَن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: (إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) .
رواه أحمد (29 / 340) وصححه المحققون.
وقد نصَّ العلماء على هذه المحبة في كتب العقائد، ومن ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ويحبُّون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير " خُم " - مكان فيه ماء بين مكة والمدينة -: (أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) ، وقال أيضا للعباس عمِّه - وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم - فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ، وقال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) .
" مجموع الفتاوى " (3 / 154) .
غير أننا ننبه هنا إلى أن أهل البيت يدخل فيهم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا، وأولهن: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد صرح القرآن الكريم بذلك. قال الله عز وجل: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) . سورة الأحزاب /32-33، والخطاب هنا موجه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويصفهن بأنهن (أهل البيت) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح ". انتهى. تفسير ابن كثير (6/410) .
فأين هذا من قول الرافضة في أمهات المؤمنين، وبالأخص: عائشة، الصديقة بنت الصديق؟!
ثانياً:
تتجلى محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنَّة في صور، منها:
1. اعتقاد أنهم أشرف النَّاس نسباً.
وأين هذا في دين الرافضة: حيث أنكروا نسب رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم! ، وزعموا أنهما ابنتاه بالتبني! ، وأخرجوا العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده، والزبير ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجوهم من آل البيت، ونفوا عنهم النسب الشريف، وهم يبغضون كثيراً من أولاد فاطمة رضي الله عنها، كزيد بن علي، وبنه يحيى، وأيضاً يبغضون إبراهيم، وجعفر ابنيْ موسى الكاظم.
2. أن تُعظم منزلتهم بما يستحقون، وخاصة: إن كانوا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأين هذا من فعل الروافض، حيث صرّحوا بتكفير بعض كبار أهل البيت وعلمائهم من الصحابة! كالعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ادعوا أنه نزل فيه قوله تعالى (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) الإسراء/ 72، وكابنه عبد الله بن عباس العالِم الإمام، فقد جاء في " أصول الكافي " (1 / 247) من وصفه بأنه " جاهل سخيف العقل! "، وفي كتاب " رجال الكشي " (ص 53) قوله: " اللهم العن ابني فلان وأعمِ أبصارهما، كما عميت قلوبهما! ، وقد فسَّر ذلك شيخهم حسن المصطفوي فقال: " هما عبد الله بن عباس، وعبيد الله بن عباس ".
3. أن يقدَّموا في المجالس، ويُكرموا.
4. أن ينصروا فيما عندهم من حق، وأن تُحفظ لهم كرامتهم، وذلك بكفايتهم من أموال الفيء والغنائم، وإن لم يوجد من هذه المصادر شيء: فيُدفع لهم من الزكاة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
لو فرض أنه لا يوجد لإنقاذ حياة هؤلاء من الجوع إلا زكاة الهاشميين، فزكاة الهاشميين أولى من زكاة غير الهاشميين.
وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يعطوا من الزكاة إذا لم يكن خمس، أو وجد ومنعوا منه.
والخُمس: هو أن الغنائم تقسم خمسة أسهم، أربعة أسهم للغانمين، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً:
الأول: لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، يكون في مصالح المسلمين، وهو ما يعرف بالفيء، أو بيت المال.
الثاني: لذي القربى، هم قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب؛ لأن بني عبد المطلب يشاركون بني هاشم في الخمس.
الثالث: لليتامى.
الرابع: للمساكين.
الخامس: لابن السبيل.
فإذا مُنعوا، أو لم يوجد خمس - كما هو الشأن في وقتنا هذا -: فإنهم يعطون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
وأما صدقة التطوع: فتدفع لبني هاشم، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الراجح؛ لأن صدقة التطوع كمال، وليست أوساخ الناس، فيعطون من صدقة التطوع.
" الشرح الممتع " (6 / 253، 254) .
5. حمايتهم، وصون أعراضهم، عن كل ما يسيء إليهم.
وأين هذا من الطعن في عرض عائشة، واتهامها بالفاحشة، وهي زوجة صاحب البيت، وإمام أهله وغيرهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المبرأة من الله في قرآن يتلونه، رغم أنوفهم؟! .
وأين هذا مما فعله الرافضي ابن العلقمي، والطوسي، من جلب التتار إلى بغداد، وقتل الخليفة العباسي، وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وسبي النساء الهاشميات، والاعتداء عليهن، من قبَل جنود هولاكو، فهؤلاء الذين يزعمون محبة آل البيت تسببوا في هذا، وفي غيره مما يُبكي العيون دماً، لا دمعاً.
وينظر في تحديد من هم آل البيت: جواب السؤال رقم: (10055) .
وينظر في بيان فضائلهم: جواب السؤال رقم: (121948) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/196)
هل ثبت وقوع المغيرة بن شعبة في الزنا؟ وما حكم من يفعل مقدماته في الشرع؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في موقعكم تحت عنوان: (الشهود الأربعة في حد الزنى فقط) : " أن الشهود على المغيرة بن شعبة بالزنا لما شهدوا به عند عمر رضي الله عنه، وهم أبو بكرة، ونافع، ونفيع، وزياد، فصرح بذلك أبو بكرة، ونافع، ونفيع، فأما زياد فقال له عمر: قل ما عندك، وأرجو أن لا يهتك الله صحابيّاً على لسانك، فقال زياد: " رأيت نفساً تعلو، أو استاً تنبو، ورأيت رجليها على عنقه كأنهما أذنا حمار، ولا أدري يا أمير المؤمنين ما وراء ذلك، فقال عمر: الله أكبر، فأسقط الشهادة ولم يرها تامة ". وإني أحب الله، ورسوله، وصحابته، ولكني صدمت بهذا الكلام، فهل يعقل أن صحابيّاً راويا للأحاديث كالمغيرة بن شعبة يقوم بهذا الأمر، وإن لم يثبت أنه زنا، ولكن ثبت أنه قام بمقدمات الزنا على الأقل، كما وصف الشاهد الرابع زياد، أفلا يقدح ذلك بعدالته؟ وضحوا لنا الأمر جزيتم خيراً، فإن الكلام في صحابة رسولنا الكريم قد كثر هذه الأيام كي لا تشوه صورتهم في أعيننا. وثانياً: هل ثبوت مقدمات الزنا عليه عقاب في الإسلام؟ وإن كان نعم فما فعل عمر رضي الله عنه بالمغيرة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الصحابي الجليل " المغيرة بن شعبة " هو أحد أصحاب " بيعة الرضوان " الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، والذين أثنى الله عليهم بالخير، وأخبر أنه رضي عنهم، قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا. وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) الفتح/18، 19.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
" يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض " الحديبية ".
وقوله: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) أي: من الصدق، والوفاء، والسمع، والطاعة.
(فَأَنزلَ السَّكِينَةَ) : وهي الطمأنينة، (عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر، وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد، والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز، والنصر، والرفعة في الدنيا، والآخرة، ولهذا قال: (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (7/339، 340) .
وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالخيرية، وأخبر أنهم من أهل الجنة:
أ. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: (أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ) رواه البخاري (2923) ومسلم (1856) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: " هذا صريح في فضل " أصحاب الشجرة "، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكة، وبالمدينة، وبغيرهما " انتهى.
" فتح الباري " (7 / 443) .
ب. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ) رواه مسلم (2495) .
ج. عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قال: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا. قَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) رواه مسلم (2496) .
قال النووي – رحمه الله -: " ال العلماء: معناه: لا يدخلها أحدٌ منهم قطعاً، كما صرح به في الحديث الذي قبله - حديث حاطب - وإنما قال: (إن شاء الله) للتبرك لا للشك، وأما قول حفصة بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها ... فيه دليل للمناظرة، والاعتراض والجواب، على وجه الاسترشاد، وهو مقصود حفصة؛ لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون " انتهى.
" شرح مسلم " (16 / 58) .
وقد أسلم " المغيرة بن شعبة " رضي الله عنه عام الخندق، وأول مشاهده: الحديبية، ثم شهد اليمامة، وفتوح الشام، والقادسية، ونهاوند، وهمدان، وغيرها.
قال عنه الحافظ الذهبي – رحمه الله -: " من كبار الصحابة، أولي الشجاعة والمكيدة، شهد بيعة الرضوان، كان رجلا طِوالاً، مهيبا، ذهبت عينه يوم اليرموك، وقيل: يوم القادسية " انتهى.
"سير أعلام النبلاء" (3/21) .
وما جاء في روايات عدة من شهادةٍ عليه رضي الله عنه بالزنا: لم يثبت نصاب الشهادة فيها، ولا يمكن لأحدٍ أن يتهمه رضي الله عنه بتلك الفاحشة البغيضة من غير اعتراف، أو شهادة أربعة رجال، وكلا الأمرين معدوم، وقد جلد عمر رضي الله عنه الثلاثة الذين اتهموه بالزنا؛ لعدم اكتمال نصاب الشهادة، بعد تردد الرابع، وعدم شهادته، ولم يصنع شيئاً مع المغيرة لعدم ثبوت أصل الواقعة شرعاً.
وأما بخصوص المروي في وصف فعله رضي الله مع تلك المرأة: فالجواب عنه من وجوه:
1. سقوط ذلك كله شرعاً، وعدم ثبوت شيء منه؛ لتخلف نصاب الشهادة.
2. أن كثيراً من تلك الروايات لم تصح أصلاً من حيث إسنادها.
3. أن ذلك الأمر الذي حصل – إن جزمنا بحصوله واقعاً، وهو ما سبب إشكالاً عند كثيرين – لم يكن مع امرأة أجنبية، بل كان مع زوجةٍ من نسائه تشبه تلك التي ادُّعي عليها فعل الفاحشة مع ذلك الصحابي الجليل.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -: " يظهر لنا في هذه القصة أن المرأة التي رأوا المغيرة رضي الله عنه مخالطاً لها عندما فتحت الريح الباب عنهما: هي زوجته، ولا يعرفونها، وهي تشبه امرأة أخرى أجنبية كانوا يعرفونها تدخل على المغيرة وغيره من الأمراء، فظنوا أنها هي، فهم لم يقصدوا باطلاً، ولكن ظنهم أخطأ، وهو لم يقترف - إن شاء الله - فاحشة؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فيهم الوازع الديني الزاجر عما لا ينبغي في أغلب الأحوال، والعلم عند الله تعالى " انتهى.
"مذكرة في أصول الفقه" (ص 152) .
4. وأمر آخر يخص الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة، وهو أنه كثير الزواج، فأي حاجة ليفعل الحرام، وهو يجد من الحلال الكثير؟! .
قال الذهبي – رحمه الله -: " عن المغيرة بن شعبة قال: لقد تزوجت سبعين امرأة، أو أكثر.
أبو إسحاق الطالقاني: حدثنا ابن المبارك قال: كان تحت المغيرة بن شعبة أربع نسوة، قال: فصفهن بين يديه، وقال: أنتن حسَنات الأخلاق، طويلات الأعناق، ولكني رجل مطلاق، فأنتن الطلاق.
ابن وهب: حدثنا مالك قال: كان المغيرة نكَّاحا للنساء، ويقول: صاحب الواحدة إن مرضت مرض، وإن حاضت حاض، وصاحب المرأتين بين نارين تشعلان، وكان ينكح أربعا جميعاً، ويطلقهن جميعاً " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (3 / 31) .
5. ومعروف غيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على حرمات الله، وقوته في دينه، ومعروف ـ أيضا ـ تشدده مع ولاته، وقد ولَّى المغيرةَ بعد تلك الحادثة إمرة " الكوفة "! ولو أنه ثبت عنده شبهة تلك المعصية فلعله لا يوليه ولاية قط، وهذا يعني اقتناع عمر بعدم حصول تلك الواقعة أصلاً، أو اقتناعه بأنها كانت زوجته، ولعل الثاني هذا هو الأقرب.
وبما قلناه يسقط السؤال من أصله، وليس ثمة حاجة للبحث في حكم فعله رضي الله عنه؛ لأن ذلك السؤال مبني على كون تلك المرأة أجنبية.
ثانياً:
أما من حيث الحكم الشرعي ابتداءً: فإن مقدمات الزنى من الفواحش، وقد سمَّاها الشرع " زنى "، لكن الزنى الذي تترتب عليه الأحكام، ويوجب الحدود: هو زنى الفرج، لا زنى الأعضاء الأخرى.
وقد روى البخاري (6243) ومسلم (2657) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُكَذِّبُهُ) .
وقد نهى الله تعالى عن مقدمات الزنى، فقال: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) الإسراء/32، وقال: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الأنعام/151.
وللحاكم إن ثبت عنده فعل أحد من المسلمين مثل تلك المقدمات أن يعزره بما يراه مناسباً لحاله، وفعله، فليس في تلك الأفعال حدود، بل فيها التعزير.
وينظر النقل في ذلك عن الأئمة، مع شيء من التفصيل في أصل المسألة: جواب السؤال رقم: (27259) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/197)
هل يبحث في عدالة الصحابة عند دراسة الأسانيد؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤال: في علم الحديث النبوي الشريف، هل ينظر إلى عدالة الرواة دون الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أم يبحث أيضا في عدالة الصحابي، وتطبق عليه الشروط التي وضعها علماء الحديث للتأكد من الحديث النبوي الشريف.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
إذا أردت البحث في عدالة الصحابة رضوان الله عليهم – بمعنى توفر الدين والتقوى المانع من الكذب في الحديث - فما عليك إلا أن تفتح كتاب الله تعالى، وتقرأ فيه العشرات من الآيات التي جاءت في تزكيتهم والثناء عليهم.
يقول سبحانه وتعالى:
(فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف/157
(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/88-89
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح/29
(لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر/8-9
(لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) النساء/95
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفتح/18
وكذلك فإن كتب السنة مليئة بالأحاديث التي جاءت في فضائل أعيانهم تارة، وفضائل مجموعهم تارة أخرى، وأسانيدها من أصح الأسانيد على وجه الأرض، ولا يخلو كتاب من كتب الجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم منها، وقد جمع بعض أهل العلم ما روي في فضائلهم مجلدات كثيرة، يمكن الرجوع إليها، فإن المقام لا يتسع هنا لذكرها.
إذن فعدالة الصحابة الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم مسجلة من السماء، في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت عدالة الراوي تقبل بتزكية واحد من أهل الجرح والتعديل المعتدلين، فمن باب أولى أن تقبل تزكية القرآن والسنة القطعية.
على أنا لو سلكنا في تقرير عدالة عامة الصحابة الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم مسلك النظر في صفاتهم وأحوالهم، لوجدنا فيهم ما يستوجب الحكم بالعدالة والديانة، بغض النظر عن الآيات التي جاءت في تزكيتهم، فالقرآن الكريم إنما هو كاشف عن عدالتهم وثقتهم، وليس منشئا لها، والعدالة تقوم في النفس أولا، ثم تظهر في شهادة المزكين.
يقول الخطيب البغدادي:
" على أنّه لو لم يَرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدَّلين والمزكين الذين يجيؤون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء " انتهى.
"الكفاية" (ص/49)
ثايا:
إذا ثبت ما سبق تبين أن البحث في عدالة كل صحابي عند دراسة إسناد أي رواية إنما هو ضرب من العبث الذي لا طائل تحته، فقد كفانا القرآن الكريم هذه المؤونة، كما كفانا العلماء هذا العمل، وأثبتوا بالدراسات الاستقرائية التامة عدالة جميع من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وخاصة المكثرين منهم.
ونحن ننقل هنا مجموعة من نصوص أهل العلم، من المحدثين والحفاظ والفقهاء في هذا الشأن:
يقول الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
" لا فرق بين أن يسمي التابعُ الصاحبَ الذي حدثه أو لا يسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأن الصحابة كلهم عدول مرضيون ثقات أثبات، وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث " انتهى.
"التمهيد" (22/47)
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله:
" (باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم)
كل حديث اتصل إسناده بين مَن رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم: لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن " انتهى.
"الكفاية" (ص/46)
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله:
" الصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله.
هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة.
وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم.
ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود " انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (16/299)
ويقول الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله:
" للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق مُعَدَّلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة، قال الله تبارك وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية. قيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) . وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ. وقال سبحانه وتعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) الآية، وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة منها: حديث أبي سعيد المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)
ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة.
ومن لابس الفتن منهم: فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة. والله أعلم " انتهى.
"مقدمة ابن الصلاح" (ص/171)
ويقول الإمام النووي رحمه الله:
" اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم، ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين " انتهى.
"شرح مسلم" (15/149)
وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث صحيح؟ قال: نعم.
وروى أيضا رحمه الله بسنده إلى الحسين بن إدريس قال: وسألته ـ يعني محمد بن عبد الله بن عمار ـ: إذا كان الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أيكون ذلك حجة؟ قال: نعم، وإن لم يسمه؛ فإن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم حجة " انتهى.
"الكفاية" (ص/415)
وانظر جواب السؤال رقم: (83121)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/198)
عدد الصحابة
[السُّؤَالُ]
ـ[كم عدد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يمكن القطع بتحديد عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لتفرقهم في البلدان والقرى والبوادي، ولأن لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كتاب جامع يكتب فيه اسم من أسلم، ومن ولد في الإسلام. كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في سياق قصة تخلفه عن غزوة تبوك: (وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ) رواه البخاري (4418) ومسلم (2769) .
وقد جزم الحافظ أبو زرعة الرازي (شيخ الإمام مسلم) بأن عدد الصحابة (114000) مائة وأربعة عشر ألفاً. رواه عنه الخطيب البغدادي في "الجامع" (2/293) .
وقال السفاريني رحمه الله في "غذاء الألباب":
"فائدة: ذكر أبو زرعة الرازي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون على المائة ألف.....
وروى أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وجزم بهذا العدد الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الكبرى" انتهى بتصرف.
وهذا العدد (مائة وأربعة عشر ألفاً، أو مائة وأربعة وعشرون ألفاً) ليس بعيداً عن الصواب، فإن وقائع السنة تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا نحو هذا العدد.
ففي غزوة تبوك (وكانت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة، أي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين إلا شهرين تقريباً) .
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثون ألف مقاتل، ومعهم عشرة آلاف فرس. "زاد المعاد" (3/526- 529) .
ولم يتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ممن يستطيع الجهاد إلا كعب بن مالك وصاحباه.
فإذا انضم إلى هذا العدد النساء والصبيان والعجزة وأهل البوادي والأماكن البعيدة عن المدينة [كمكة والطائف] الذين لم يخرجوا في تلك الغزوة، فلا يبعد أن يتجاوز عدد الصحابة مائة ألفٍ.
وقد وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كثرة من حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع من المدينة فقال: (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) رواه مسلم (1218) .
وهؤلاء هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وما حولها، وقد انضم إليهم بشر كثير من الطريق، ومن أهل مكة وما حولها.
وقد نقل السخاوي كلام أبي زرعة أنهم مائة ألف وأربعة عشر ألفاً، واختاره، بعد أن ذكر أقوالاً أخرى للعلماء في ذلك.
وانظر: "فتح المغيث" (4/49- 54) .
فرضي الله عن الصحابة أجمعين، وجعلنا من أتباعهم بإحسان.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/199)
قول كرم الله وجهه لعلي بن أبي طالب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم عبارة (كرم الله وجهه) لعلي بن أبي طالب؟ هل في ذلك تفضيل له عن الصحابة؟ وإذا قلت: (كرم الله وجوه الصحابة أجمعين) فهل في ذلك بأس؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالدعاء له بـ: (كرم الله وجهه) – هو من صنيع الرافضة الغالين فيه، فالواجب على أهل السنة: البعد عن مشابهتهم في ذلك، وعدم تخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الدعاء دون سائر إخوانه من الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، رضي الله عن الصحابة أجمعين.
وأما استعمال هذا الدعاء لجميع الصحابة فلا بأس به، لكنه ليس من الأدعية المأثورة، والجاري بين المسلمين الترضي عنهم، رضي الله عنهم، كما جاء في القرآن الكريم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ صالح الفوزان ... الشيخ بكر أبو زيد.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/43) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/200)
يحب أبا سعيد الخدري وأبا هريرة فوق محبته للخلفاء الراشدين
[السُّؤَالُ]
ـ[من بين أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري وأحبه حبا جما، وهذا والله لا دخل لي في حبه، فقط من تواتر واستمرار قراءتي للأحاديث النبوية يميل قلبي كثيرا له ويأتي الدور الثاني لأبي هريرة ومن بعد الخلفاء الراشدون وسؤالي ما حكم ما أقوم به من تفضيل صحابي على آخر؟ وجزاكم الله تعالى كل خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حب الصحابة رضي الله عنهم دين وإيمان وإحسان، كما قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم. ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان " انتهى.
والصحابة متفاضلون، وأفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم، هذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
قال الذهبي رحمه الله: " تواتر عن علي رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؛ وخيرهم بعد أبى بكر عمر، انتهى؛ ثم بعد هؤلاء الأربعة في الفضلية، عند أهل السنة: الستة، بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة، رضي الله عنهم " انتهى نقلا عن "الدر السنية" (1/203) .
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: " والصحابة يتفاضلون، فأفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عن الجميع، الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة وهم: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان، قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفتح/18.
ثم الذين آمنوا وجاهدوا قبل الفتح، فهم أفضل من الصحابة الذين آمنوا وجاهدوا بعد الفتح، قال تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) الحديد/10، والمراد بالفتح: صلح الحديبية.
ثم المهاجرون عموماً، ثم الأنصار؛ لأن الله قدّم المهاجرين على الأنصار في القرآن، قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) التوبة/100، وقال سبحانه: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحشر/8، وهؤلاء هم المهاجرون.
ثم قال سبحانه في الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر/9.
فقدّم المهاجرين وأعمالهم على الأنصار وأعمالهم، مما دل على أن المهاجرين أفضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله، فدل على صدق إيمانهم، فجميع الصحابة يجب حبهم وموالاتهم " انتهى من "شرح الطحاوية".
وكونك تحب الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه حبا جما كما ذكرت، لا حرج فيه، لكن لا تعتقد أفضليته على الخلفاء الراشدين والعشرة.
وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه ممن شهد غزوة الخندق ثم بيعة الرضوان، وهو أنصاري رضي الله عنه.
قال عنه الذهبي رحمه الله: " الإمام المجاهد، مفتي المدينة " وقال:" كان أحد الفقهاء المجتهدين " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (3/168) .
وننصحك أخي الكريم بمطالعة سير الصحابة وأخبارهم، وما ورد في السنة من فضائلهم، وأن تعيش مع ذلك طويلاً، لاسيما سيرة الخلفاء الراشدين، ومناقبهم، فإنك لو قرأت ذلك لأحببتهم أعظم من حبك لأبي سعيد ولأبي هريرة، فإن هؤلاء خيار الأمة، وسادة الصحابة، وصفوة الخلق بعد الأنبياء، اختارهم الله تعالى ليكونوا أقرب الناس إلى نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم جاهد نفسك أن تكون محبتك وهواك تبعاً لما جاء به الشرع وصحّت به السنة، وشهد له التاريخ، وقد جعل الله لكل شيء قدراً!!
نسأل الله أن يزيدنا وإياك حبا لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يثبتنا على طريقهم، ويحشرنا معهم، بمنه وكرمه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/201)
تفصيل القول في قوله تعالى (وتُخفي في نفسك ما الله مبديه)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما رأى زوجة زيد بن حارثة أعجبته، فطلب من زيد أن يطلقها حتى يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الرجاء توضيح هذه القصة واستغفر الله لي ولكم، ولكم جزيل الشكر والتقدير]ـ
[الْجَوَابُ]
أولاً:
تقدمة:
إن مقام النبوة مقام شريف، وقد اختار الله تعالى أنبياءه على علم على العالَمين، وما تتناقله كتب الإسرائيليات، وبعض كتب التفسير – للأسف – يحط من ذلك المقام الشريف للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ومن أمثلة ذلك ما روي عن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع حب زينب بنت جحش في قلبه، وأنه كان يقول لزوجها – زيد بن حارثة – أمسك عليك زوجك، مع أنه يخفي في قلبه حبها، وهذا لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم أن يروى وينسب له صلى الله عليه وسلم.
وكل ما روي في كتب التفسير عن أحدٍ من السلف مثل هذا أو قريباً منه: فلا يصح عنهم، ويوجد من اغتر بهذه الروايات فجعلها تفسيراً للآيات الواردة في المسألة.
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -:
ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا آثاراً عن بعض السلف - رضي الله عنهم - أحببنا أن نضرب عنها صفحاً؛ لعدم صحتها، فلا نوردها.
" تفسير ابن كثير " (6 / 424) .
وقد جاء عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما ما يبين شدة هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فقه هذين الصحابيين رضي الله عنهما أنهما أخبرا أنه صلى الله عليه وسلم لو كان كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ.
رواه البخاري (6984) .
روى مسلم (177) عن عائشة رضي الله عنها مثل قول أنس رضي الله عنه.
ثانياً:
ذِكر الآية وسبب نزولها ومجمل معناها:
قال تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) الأحزاب/37.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
وكان سبب نزول هذه الآيات أن الله تعالى أراد أن يشرع شرعاً عامّاً للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة، من جميع الوجوه، وأن أزواجهم لا جناح على من تبناهم في نكاحهن.
وكان هذا من الأمور المعتادة التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير، فأراد أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله، وفعلاً، وإذا أراد الله أمراً جعل له سبباً، وكان زيد بن حارثة يُدعى " زيد بن محمد " قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار يدعى إليه حتى نزل (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ) فقيل له: " زيد بن حارثة ".
وكانت تحته زينب بنت جحش - ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان قد وقع في قلب الرسول لو طلقها زيد لتزوَّجها، فقدَّر الله أن يكون بينها وبين زيد ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في فراقها.
قال الله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أي: بالإسلام.
(وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق، حين جاءك مشاوراً في فراقها، فقلت له ناصحاً له ومخبراً بمصلحته مع وقوعها في قلبك: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أي: لا تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، (وَاتَّقِ اللَّهَ) تعالى في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى تحث على الصبر، وتأمر به.
(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) والذي أخفاه: أنه لو طلقها زيد: لتزوجها صلى الله عليه وسلم.
(وَتَخْشَى النَّاسَ) في عدم إبداء ما في نفسك، (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) فإن خشيته جالبة لكل خير، مانعة من كل شر.
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً) أي: طابت نفسه، ورغب عنها، وفارقها: (زَوَّجْنَاكَهَا) وإنما فعلنا ذلك لفائدة عظيمة، وهي: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ) حيث رأوك تزوجت زوج زيد بن حارثة، الذي كان من قبل ينتسب إليك.
" تفسير السعدي " (ص 665، 666) .
وثمة فرق كبير بين أن يكون ما أخفاه صلى الله عليه وسلم في قلبه هو محبة زينب، وبين أن يكون المخفي زواجه منها، ولذا كانت زينب رضي الله عنها تفخر بأن الذي زوَجها هو الله تعالى – كما سبق وذكرنا الرواية في ذلك في " صحيح البخاري " -، وهو يؤكِّد صحة القول الصحيح الذي لا ينبغي غيره، وأن الذي كان يخفيه صلى الله عليه وسلم هو زواجه بها، وأنه يخشى من كلام الناس في ذلك.
ثالثاً:
تفصيل الكلام حول الآية:
1. قال الإمام القرطبي – رحمه الله -:
وروي عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلمَّا تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: " اتق الله في قولك، وأمسك عليك زوجك " وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يُرد أن يأمره بالطلاق؛ لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدْر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له، بأن قال: " أمسك " مع علمه بأنه يطلِّق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي: في كل حال.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين، والعلماء الراسخين، كالزهري، والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم.
والمراد بقوله تعالى: (وتخشى الناس) : إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوَّجَ بزوجة ابنه.
فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المُجَّان لفظ " عشق ": فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته.
" تفسير القرطبي " (14 / 190، 191) .
2- وقال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله –:
التحقيق إن شاء اللَّه في هذه المسألة: هو ما ذكرنا أن القرآن دلَّ عليه، وهو أن اللَّه أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن زيداً يطلّق زينب، وأنه يزوّجها إيّاه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: " أمسك عليك زوجك واتق اللَّه "، فعاتبه اللَّه على قوله: " أمسك عليك زوجك " بعد علمه أنها ستصير زوجته هو صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس أن يقولوا: لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.
والدليل على هذا أمران:
الأول: هو ما قدّمنا من أن اللَّه جلَّ وعلا قال: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) ، وهذا الذي أبداه اللَّه جلَّ وعلا، هو زواجه إياها في قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا) ، ولم يبدِ جلَّ وعلا شيئًا ممّا زعموه أنه أحبَّها، ولو كان ذلك هو المراد: لأبداه اللَّه تعالى، كما ترى.
الأمر الثاني: أن اللَّه جلَّ وعلا صرّح بأنه هو الذي زوّجه إياها، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ) ، فقوله تعالى: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) : تعليل صريح لتزويجه إياها، لما ذكرنا، وكون اللَّه هو الذي زوّجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبّته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد لها - كما زعموا، ويوضحه قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً) الآية؛ لأنه يدلّ على أن زيداً قضى وطره منها، ولم تبقَ له بها حاجة، فطلّقها باختياره، والعلم عند اللَّه تعالى.
" أضواء البيان " (6 / 582، 583) .
3. سئل علماء اللجنة الدائمة:
ما هي قصة زيد بن حارثة وزواجه من زينب التي تزوجها بعده النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف بدأ زواجهما؟ وكيف انتهى؟ حيث إننا سمعنا من بعض الناس في بعض الدول العربية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عشق زينب وغير ذلك، ولا تسمح نفسي بأن أكتب لكم ما سمعت، فأفيدوني؟ .
فأجابوا:
زيد هو ابن حارثة بن شراحيل الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعتقه وتبنَّاه، فكان يُدعى " زيد بن محمد "، حتى أنزل الله قوله (ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ) ، فدَعوه زيد بن حارثة، أما زينب فهي بنت جحش بن رباب الأسدية، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما قصة زواج زيد بزينب: فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى ذلك له، لكونه مولاه ومُتبنّاه، فخطبها من نفسها على زيد، فاستنكفت وقالت: أنا خير منه حسباً، فروي أن الله أنزل في ذلك قوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ، فاستجابت طاعةً لله، وتحقيقًا لرغبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد عاشت مع زيد حوالي سنة، ثم وقع بينهما ما يقع بين الرجل وزوجته، فاشتكاها زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكانتهما منه؛ فإنه مولاه ومتبناه، وزينب بنت عمته " أميمة "، وكأن زيداً عرَّض بطلاقها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساكها، والصبر عليها، مع علمه صلى الله عليه وسلم بوحيٍ من الله أنه سيطلقها، وستكون زوجة له - صلى الله عليه وسلم -، لكنه خشي أن يُعيّره الناس بأنه تزوج امرأة ابنه، وكان ذلك ممنوعاً في الجاهلية، فعاتب الله نبيه في ذلك بقوله (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) ، يعني - والله أعلم -: تخفي في نفسك ما أعلمك الله بوقوعه من طلاق زيد لزوجته زينب وتزوجك إياها، تنفيذاً لأمره تعالى، وتحقيقًا لحكمته، وتخشى قالةَ الناس وتعييرهم إياك بذلك، والله أحق أن تخشاه، فتُعلن ما أوحاه إليك من تفصيل أمرك وأمر زيد وزوجته زينب، دون مبالاة بقالة الناس، وتعييرهم إياك.
أما زواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب: فقد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، بعد انتهاء عدتها من طلاق زيد، وزوّجه الله إياها بلا ولي ولا شهود؛ فإنه صلى الله عليه وسلم، وليّ المؤمنين جميعاً، بل أولى بهم من أنفسهم، قال الله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، وأبطل الله بذلك عادة التبنّي الجاهلي، وأحلَّ للمسلمين أن يتزوجوا زوجات مَن تبنوه بعد فراقهم إياهن بموتٍ أو طلاقٍ، رحمة منه تعالى بالمؤمنين، ورفعًا للحرج عنهم.
وأما ما يُروى في ذلك من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم زينب من وراء الستار، وأنها وقعت من قلبه موقعاً بليغاً ففُتن بها وعشقها، وعلم بذلك زيد فكرهها وآثر النبي صلى الله عليه وسلم بها فطلقها ليتزوجها بعده: فكله لم يثبت من طريق صحيح، والأنبياء أعظم شأناً، وأعف نفساً، وأكرم أخلاقاً، وأعلى منزلةً وشرفًا من أن يحصل منهم شيء من ذلك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خطبها لزيد رضي الله عنه، وهي ابنة عمته، فلو كانت نفسه متعلقة بها لاستأثر بها من أول الأمر، وخاصة أنها استنكفت أن تتزوج زيداً، ولم ترض به حتى نزلت الآية فرضيت، وإنما هذا قضاء من الله وتدبير منه سبحانه لإبطال عاداتٍ جاهلية، ولرحمة الناس والتخفيف عنهم، كما قال تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا. مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) .
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى إسلامية " (18 / 137 – 141) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/202)
هل قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة كي يتزوج امرأته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أسأل عن مادة قرأتها في موقع للشيعة وقد ذكر فيه: أن خالدا رأى امرأة مالك - وكانت فائقة الجمال - فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتني. يعني: سأقتل من أجلك، وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفدا والزبيدي: إن مالك بن نويرة رضي الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن وليد: أقتلتني؟ أسأل عن مدى صحة هذه الرواية.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الصحابي الجليل خالد بن الوليد سيف الله المسلول على المشركين، وقائد المجاهدين، القرشي المخزومي المكي، أسلم سنة سبع للهجرة بعد فتح خيبر وقيل قبلها، وتوفي سنة 21هـ، وله من الفضائل الشيء الكثير، ومن أهم ما جاء في فضائله:
1- عن أنس رضي الله عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال:
(أَخَذَ الرَّايَةَ زَيدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ) وَعَينَاهُ تَذرِفَانِ (حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيهِم)
رواه البخاري (4262)
2- وعَنْ عَمْرِو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ:
(مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدِ بن الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ مُنْذُ أَسْلَمْنَا) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/515) وأبو يعلى في "المسند" (13/274) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/350) : ورجاله ثقات.
ثانيا:
قد تعرض هذا الصحابي الجليل لحملات من الطعن والتشويه قام عليها بعض المستشرقين الذين يتلقفون كل رواية من غير بحث ولا تدقيق، وقام عليها طوائف من الشيعة حقدا وغيظا من هذا الصحابي الذي أبلى بلاء حسنا في قتال الكفار، وحماية الدولة المسلمة في عهود الخلافة الراشدة.
ومن بعض تلك الطعون القصة المشهورة في قتل مالك بن نويرة وتزوج خالد من امرأته ليلي بنت سنان.
ومالك بن نويرة يكنى أبا حنظلة، كان شاعرا فارسا من فرسان بني يربوع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله على صدقات قومه.
وقد اتفقت الروايات التاريخية على قدر مشترك، فيه أن مالك بن نويرة قتله بعض جند خالد بن الوليد، وأن خالدا تزوج بعد ذلك زوجته ليلى بنت سنان.
وأما سبب قتل مالك بن نويرة وذكر بعض ملابسات ذلك الحادث فقد تفاوتت الروايات في بيانه، إلا أن معظم قدامى المؤرخين الذين سجلوا تلك الحادثة، مثل الواقدي وابن إسحاق ووُثَيمة وسيف بن عمر وابن سعد وخليفة بن خياط وغيرهم، ذكروا امتناع مالك بن نويرة من أداء الزكاة وحبسه إبل الصدقة، ومنعه قومه من أدائها، مما حمل خالدا على قتله، من غير التفات إلى ما يُظهره من إسلام وصلاة.
قال ابن سلام في "طبقات فحول الشعراء" (172) :
" والمجمع عليه أن خالدا حاوره ورادَّه، وأن مالكا سمح بالصلاة والتوى بالزكاة " انتهى.
وقال الواقدي في كتاب "الردة" (107-108) :
" ثم قدَّم خالدٌ مالكَ بن نويرة ليضرب عنقه، فقال مالك: أتقتلني وأنا مسلم أصلي للقبلة؟! فقال له خالد: لو كنتَ مسلما لما منعت الزكاة، ولا أمرت قومك بمنعها." انتهى.
كما تواتر على ذكر ذلك من بعدهم من المؤرخين كالطبري وابن الأثير وابن كثير والذهبي وغيرهم.
وتتحدث بعض الروايات عن علاقة بين مالك بن نويرة وسجاح التي ادعت النبوة، وتشير أيضا إلى سوء خطابٍ صدر من مالك بن نويرة، يفهم منه الردة عن دين الإسلام، كما ذكر ذلك ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/322) فقال:
" ويقال: بل استدعى خالد مالك بن نويرة، فأنَّبَه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك. فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار اضرب عنقه، فضربت عنقه." انتهى.
إذن فلماذا أنكر بعض الصحابة على خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة، كما فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو قتادة الأنصاري؟
يمكن تلمس سبب ذلك من بعض الروايات، حيث يبدو أن مالك بن نويرة كان غامضا في بداية موقفه من الزكاة، فلم يصرح بإنكاره وجوبها، كما لم يقم بأدائها، فاشتبه أمره على هؤلاء الصحابة، إلا أن خالد بن الوليد أخذه بالتهمة فقتله، ولما كان مالك بن نويرة يظهر الإسلام والصلاة كان الواجب على خالد أن يتحرى ويتأنى في أمره، وينظر في حقيقة ما يؤول إليه رأي مالك بن نويرة في الزكاة، فأنكر عليه من أنكر من الصحابة رضوان الله عليهم.
جاء في البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (6/322) :
" فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس، فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان من مالك بن نويرة، فكأنه متحير في أمره، متنح عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية فيهم، فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا." انتهى.
ولما كان مالك بن نويرة من وجهاء قومه وأشرافهم، واشتبه موقفه في بداية لأمر، شكا أخوه متمم بن نويرة ما كان من خالد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعاد ذلك بالعتاب على خالد، وتخطئته في إسراعه إلى قتل مالك بن نويرة، قبل رفع أمره إلى أبي بكر الصديق وكبار الصحابة رضوان الله عليهم.
روى خليفة بن خياط (1/17) قال:
" حدثنا علي بن محمد عن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قدم أبو قتادة على أبي بكر فأخبره بمقتل مالك وأصحابه، فجزع من ذلك جزعا شديدا، فكتب أبو بكر إلى خالد فقدم عليه. فقال أبو بكر: هل يزيد خالد على أن يكون تأول فأخطأ؟ ورد أبو بكر خالدا، وودى مالك بن نويرة، ورد السبي والمال." انتهى.
وقال ابن حجر في "الإصابة" (5/755) :
" فقدم أخوه متمم بن نويرة على أبي بكر، فأنشده مرثية أخيه، وناشده في دمه وفي سبيهم، فرد أبو بكر السبي. وذكر الزبير بن بكار أن أبا بكر أمر خالدا أن يفارق امرأة مالك المذكورة، وأغلظ عمر لخالد في أمر مالك، وأما أبو بكر فعذره." انتهى.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في شأن قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة، أنه إما أن يكون أصاب فقتله لمنعه الزكاة وإنكاره وجوبها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إنه أخطأ فتسرع في قتله وقد كان الأوجب أن يتحرى ويتثبت، وعلى كلا الحالين ليس في ذلك مطعن في خالد رضي الله عنه.
يقول ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة " (5/518) :
" مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم، ولم يثبت ذلك عندنا، ثم يقال: غاية ما يقال في قصة مالك بن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالداً قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ " فأنكر عليه قتله، ولم يوجب قوداً ولا دية ولا كفارة.
وقدر روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية: قوله تعالى:
(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) نزلت في شأن مرداس، رجل من غطفان، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى قومه، عليهم غالب الليثي، ففر أصحابه ولم يفر. قال: إني مؤمن، فصبحته الخيل، فسلم عليهم، فقتلوه وأخذوا غنمه، فأنزل الله هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولاً، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ". ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولاً؛ فإذا كان النبي لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك بن نويرة بطريق الأولى والأحرى." انتهى.
أما اتهام خالد بن الوليد رضي الله عنه بأنه قتل مالك بن نويرة من أجل أن يتزوج امرأته لهواه السابق بها، فيبدو أنها تهمة مبكرة رماه بها مالك نفسه وبعض أتباعه بها، وليس لهم عليها دليل ظاهر، إنما يبدو أنه أطلقها ليغطي بها السبب الحقيقي الذي قتل لأجله وهو منع الزكاة، يدل على ذلك: الحوار الذي نقله الواقدي بين خالد ومالك.
قال الواقدي في "كتاب الردة" (107-108) :
" فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته، فنظر إليها ثم قال: يا خالد بهذا تقتلني.
فقال خالد: بل لله أقتلك، برجوعك عن دين الإسلام، وجفلك – يعني منعك - لإبل الصدقة، وأمرك لقومك بحبس ما يجب عليهم من زكاة أموالهم. قال: ثم قدمه خالد فضرب عنقه صبرا.
فيقال إن خالد بن الوليد تزوج بامرأة مالك ودخل بها، وعلى ذلك أجمع أهل العلم." انتهى.
يقول الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (5/755) :
" وروى ثابت بن قاسم في "الدلائل" أن خالدا رأى امرأة مالك - وكانت فائقة في الجمال - فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتِني! يعني: سأقتل من أجلك.
وهذا قاله ظنا، فوافق أنه قتل، ولم يكن قتله من أجل المرأة كما ظن." انتهى.
ويقول ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" (1/91) :
" الحق عدم قتل خالد؛ لأن مالكا ارتد ورد على قومه صدقاتهم لما بلغه وفاة رسول الله، كما فعل أهل الردة، وقد اعترف أخو مالك لعمر بذلك.
وتزوُّجُه امرأتَه: لعله لانقضاء عدتها بالوضع عقب موته، أو يحتمل أنها كانت محبوسة عنده بعد انقضاء عدتها عن الأزواج على عادة الجاهلية، وعلى كل حال فخالد أتقى لله من أن يظن به مثل هذه الرذالة التي لا تصدر من أدنى المؤمنين، فكيف بسيف الله المسلول على أعدائه، فالحق ما فعله أبو بكر، لا ما اعترض به عليه عمر رضي الله تعالى عنهما، ويؤيد ذلك أن عمر لما أفضت إليه الخلافة لم يتعرض لخالد، ولم يعاتبه، ولا تنقصه بكلمة في هذا الأمر قط، فعلم أنه ظهر له أحقية ما فعله أبو بكر، فرجع عن اعتراضه، وإلا لم يتركه عند استقلاله بالأمر؛ لأنه كان أتقى لله من أن يداهن في دين الله أحدا " انتهى.
ويقول الدكتور علي الصلابي في كتابه "أبو بكر الصديق" (219) :
" وخلاصة القصة أن هناك من اتهم خالدا بأنه تزوج أم تميم فور وقوعها في يده، لعدم صبره على جمالها، ولهواه السابق فيها، وبذلك يكون زواجه منها - حاش لله - سفاحا، فهذا قول مستحدث لا يعتد به، إذ خلت المصادر القديمة من الإشارة إليه، بل هي على خلافه في نوصها الصريحة، يذكر الماوردي في "الأحكام السلطانية" (47) أن الذي جعل خالدا يقدم على قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه، وبذلك فسد عقد المناكحة بينه وبين أم تميم، وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار الحرب أن يسبين ولا يقتلن، كما يشير إلى ذلك السرخسي في المبسوط (10/111) ، فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه، فلما حلت بنى بها كما "البداية والنهاية".
ويعلق الشيخ أحمد شاكر على هذه المسألة بقوله: إن خالدا أخذها هي وابنها ملك يمين بوصفها سبية، إذ إن السبية لا عدة عليها، وإنما يحرم حرمة قطعية أن يقربها مالكها إن كانت حاملا قبل أن تضع حملها، وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة، ثم دخل بها وهو عمل مشروع جائز لا مغمز فيه ولا مطعن، إلا أن أعداءه والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم، فانتهزوها وذهبوا يزعمون أن مالك بن نويرة مسلم، وأن خالدا قتله من أجل امرأته وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته. ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم. والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة: هل تجب للكافر؟ على قولين. وكذلك تنازعوا: هل يجب على الذمية عدة وفاة؟ على قولين مشهورين للمسلمين، بخلاف عدة الطلاق، فإن تلك سببها الوطء، فلا بد من براءة الرحم. وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا؟ فيه نزاع. وكذلك إن كان دخل بها،وقد حاضت بعد الدخول حيضة.
هذا إذا كان الكافر أصلياً. وأما المرتد إذا قتل، أو مات على ردته، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة، لأن النكاح بطل بردة الزوج، وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد، وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة، ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة، بل عدة فرقة بائنة، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها، كما ليس عليها عدة من الطلاق.
ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتداً، فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة، لا بعدة كاملة، في أحد قوليهم، وفي الآخر: بثلاث حيض، وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم. وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت. ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم.
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد، والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرمه الله ورسوله) " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/203)
قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة الحديث عندما اعتنق نصراني الإسلام، فحكى للرسول صلى الله عليه وسلم عن قصة إسلامه، فأخبره أنه التقى عدة رهبان، كل واحد منهم يوصيه بالذهاب للآخر، فكان آخرهم رجل صالح يخرج مرة في العام، يشفي الناس، فلما أدركه نصحه بالذهاب لمكة، وأعطاه أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إن صدقت القول فهو المسيح عيسى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحديث الذي يعنيه السائل هو حديث طويل في قصة إسلام الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان على الديانة المجوسية ثم انتقل إلى النصرانية ثم انتقل إلى الإسلام،
وذلك بعد أن التقى عدة رهبان من رهبان النصارى، وكان آخرهم رجل صالح عنده علم عن نبي آخر الزمان، فنصح الراهب سلمان أن يذهب إلى بلاد العرب التي سيخرج فيها ووصفها له، فكانت هي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن هذا الراهب إنه المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، بل عيسى عليه السلام في السماء، رفعه الله إليه إلى أجل مسمى، حتى ينزله الله تعالى فيقيم به الدين في آخر الزمان.
وقصة إسلام سلمان قصة عظيمة، فيها العبرة والعظة والفائدة، وأترك السائل الكريم ليقرأ الحديث بكماله، ويستفيد مما فيه:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ
(كُنْتُ رَجُلا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ، مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ (أي رئيسها) ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلازِمَ النَّارِ، كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ (أي خادمها) الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً، قَالَ وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ (أي بستان) عَظِيمَةٌ، قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ قُلْتُ: يَا أَبَتِ! مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ قُلْتُ: كَلا وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، قَالَ وَبَعثَتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى، قَالَ فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ، قَالَ فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ. قَالَ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: فَادْخُلْ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ، قَالَ وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، قَالَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلا لا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ وَلا أَدْأَبُ لَيْلا وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ، وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلا رَجُلا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ.قَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ! إِنَّ فُلانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ! إِنَّ فُلانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلا بِنِصِِّيبِينَ، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ. وَقَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نِصِِّيبِينَ، فَجِئْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ! إِنَّ فُلانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلا رَجُلا بِعَمُّورِيَّةَ، فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ قَالَ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا، قَالَ فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ، قَالَ وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ، قَالَ ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ! إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلانٍ، فَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ (الحرة: الأرض ذات الحجارة السود) ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلامَاتٌ لا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ استَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ. قَالَ ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ، فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا، فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ، لا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلانُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَالَ فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ (برد الحمى) حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي، قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا؟! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ قُلْتُ: لا شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ. وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ، قَالَ فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ، فَقُلْتُ إِنِّي رَأَيْتُكَ لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا، قَالَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ، قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَاتَانِ اثْنَتَانِ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَحَوَّلْ. فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ وَأُحُدٌ، قَالَ ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ. فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ (حفرة الفسيلة التي تغرس فيها) وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ. فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً (أي صغار النخل) ، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا (أي احفر لها موضع غرسها) ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ، فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعِي إِلَيْهَا: فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ، مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ. قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ. قَالَ فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعُتِقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ)
رواه أحمد في المسند (5/441) وقال المحققون: إسناده حسن.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/204)
حكم تسمية الابن معاوية وذِكر من تسمى بهذا الاسم
[السُّؤَالُ]
ـ[زوجتي مسلمة سعودية، وأصلها من فارس، وبعض أهلها لهم حساسية من خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فاتفقت أنا وهي أن نسمي مولودنا القادم (معاوية) انتصارا ًله، وحتى يحبوه فيحبوا خال المؤمنين رضي الله عنه , وذلك أن بعض أقاربها من فارس لهم ميول للتشيع المذموم فيقدحون في معاوية، أما أبوها وأمها فلا رأي لهم فيه , فما حكم تسمية الابن بـ (معاوية) ؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نشكر لك ولزوجتك حبَّكما للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ونشكر لكما جهودكما في تبليغ حبه للآخرين الذين تأثروا بشائعات الروافض حوله.
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغيِّر الاسم القبيح لاسم حسن، وقد كان معاوية رضي الله عنه من كتبة الوحي، ولو كان اسمه قبيحاً لغيَّره النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه: فلا مانع من تسمية ابنكما " معاوية " وخاصة أنكما تقصدان تحبيب هذا الصحابي لبعض أهل زوجتك، فلعلها مناسبة لكما أن تلمَّا بحياة هذا الصحابي الجليل، وأن تقرآ ما كتبه أهل السنَّة في فضائله والدفاع عنه؛ لتستطيعا مواجهة الخصوم، ونشر فضائل هذا الصحابي الجليل.
والروافض – الشيعة – يكذبون ويفترون على الشرع والتاريخ وحتى اللغة، وهم يتندرون باسم الصحابي الجليل " معاوية " ويتخذونه هزواً، ويزعمون أن معنى اسمه " الكلبة "!
والرد عليهم:
1. أنه حتى لو كان معناه " الكلبة " فإن العرب تسمي بأسماء الحيوانات نظراً إلى ما عندها من صفات لا لكونها بهيمة، فيسمون " جحش " و " صقر " و " ذئب " وهكذا، ولاسم الكلب نصيب كبير من تسمية أبنائهم وقبائلهم وديارهم.
2. أنهم كذبوا في زعمهم أن اسم " معاوية " يعني " الكلبة "؛ لأن " المعاوية " بأل التعريف هي التي تعني " الكلبة "، وأما من دونها فمعناه " قوة اليد "، و " أبو معاوية " هو الفهْد، وهذا يفسد عليهم – كذلك – الطعن بوالده أبو سفيان رضي الله عنه.
قال ابن منظور – رحمه الله -:
وعوى الرجل: بلغ ثلاثين سنة فقَوِيت يدهُ، فعوى يد غيرهِ، أي: عطفها شديداً.
" لسان العرب " (15 / 107) .
وقال الفيروزآبادي:
و" المُعاوَيةُ " الكَلْبَةُ وجِرْوُ الثْعْلَبِ، وبِلا لام: ابنُ أبي سفيانَ الصَحابِيُّ، وأبو مُعاوِيَةَ: الفَهْد.
" القاموس المحيط " (ص 1697) .
ثانياً:
وأما إطلاق لقب " خال المؤمنين " – باعتبار أن أخته أم حبيبة أم المؤمنين – فقد ثبت هذا عن بعض أئمة أهل السنَّة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
عن أبي طالب أنه سأل أبا عبد الله – أحمد بن حنبل - أقول: " معاوية خال المؤمنين " و " ابن عمر خال المؤمنين "؟ قال: نعم، معاوية أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما، وابن عمر أخو حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما، قلت: أقول معاوية خال المؤمنين؟ قال: نعم.
" السنَّة " للخلال (2 / 433) طبعة دار الراية.
وعن هارون بن عبد الله أنه قال لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل -: جاءني كتاب من " الرقة " أن قوماً قالوا: لا نقول معاوية خال المؤمنين، فغضب، وقال: ما اعتراضهم في هذا الموضع؟ يُجْفَوْن حتى يتوبوا.
" السنَّة " للخلال (2 / 434) .
وعن محمد بن أبي هارون ومحمد بن أبي جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال: وجهنا رقعة إلى أبي عبد الله – أحمد بن حنبل - ما تقول رحمك الله فيمن قال لا أقول إن معاوية كاتب الوحي ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس.
" السنَّة " للخلال (2 / 434) .
وعن أبي بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل - أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: معاوية أفضل، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم " خير الناس قرني الذي بُعثت فيهم ".
" السنَّة " للخلال (2 / 434) .
وكل أسانيد هذه الآثار صحيحة كما تجده في تحقيق الكتاب للدكتور عطية الزهراني.
ثالثاً:
وهذه قائمة في ذِكر من اسمه " معاوية " من الصحابة – وفي بعضهم بحث - من كتاب " الإصابة في تمييز الصحابة " وهو يدل على شهرة التسمي بهذا الاسم:
معاوية بن أنس السلمي، معاوية بن ثور بن عبادة بن البكاء العامري البكائي، معاوية بن جاهمة بن العباس بن مرداس السلمي، معاوية بن الحارث بن المطلب بن عبد المطلب، معاوية بن حديج، معاوية بن حزن القشيري، معاوية بن الحكم السلمي، معاوية بن حيدة بن معاوية بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة القشيري، معاوية بن أبي ربيعة الجرمي، معاوية بن سفيان بن عبد الأسد، معاوية بن سويد بن مقرن المزني، معاوية بن صعصعة التميمي، معاوية بن عبادة بن عقيل، معاوية بن عبد الله، معاوية بن عروة الدئلي، معاوية بن عفيف المزني، معاوية بن عمرو، معاوية بن قرمل، معاوية بن محصن بن علس، معاوية بن مرداس بن أبي عامر، معاوية بن معاوية المزني، معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية الأموي، معاوية بن مقرن المزني، معاوية بن نفيع، معاوية الثقفي، معاوية العذري، معاوية الليثي، معاوية الهذلي.
" الإصابة " للحافظ ابن حجر (6 / 145 - 164) طبعة دار الجيل.
وفي كتاب " سير أعلام النبلاء " جملة من التابعين والسلف ممن تسمى باسم معاوية، فلينظر فهرس " السير " (25 / 448) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/205)
فضل الصحابة رضوان الله عليهم
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو توضيحاً في فضل الصحابة، وما هي مميزاتهم عن غيرهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعتقاد عدالةِ الصحابة وفضلهم هو مذهبُ أهلِ السنة والجماعة، وذلك لما أثنى اللهُ تعالى عليهم في كتابه، ونطقت به السنَّةُ النبويةُ في مدحهم، وتواتر هذه النصوص في كثير من السياقات مما يدل دلالة واضحة على أن الله تعالى حباهم من الفضائل، وخصهم من كريم الخصال، ما نالوا به ذلك الشرف العالي، وتلك المنزلة الرفيعة عنده؛ وكما أن الله تعالى يختار لرسالته المحل اللائق بها من قلوب عباده، فإنه سبحانه يختار لوراثة النبوة من يقوم بشكر هذه النعمة، ويليق لهذه الكرامة؛ كما قال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/ 124.
قال ابن القيم رحمه الله: " فالله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالاته أصلا وميراثا؛ فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة، وتعظيم المرسل والقيام بحقه، والصبر على أوامره والشكر لنعمه، والتقرب إليه، ومن لا يصلح لذلك، وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم، وحمل ما بلغوه عن ربهم " طريق الهجرتين، ص (171) .
وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الأنعام/53.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: " الذين يعرفون النعمة، ويقرون بها، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح، فيضع فضله ومنته عليهم، دون من ليس بشاكر. فإن الله تعالى حكيم، لا يضع فضله، عند من ليس له أهل. "
وكما جاءت الآيات والأحاديث بفضلهم وعلو منزلتهم، جاءت أيضا بذكر الأسباب التي استحقوا بها هذه المنازل الرفيعة، ومن ذلك قوله تعالى:
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح/29
ومن أعظم موجبات رفعة مكانة الصحابة، ما شهد الله تعالى لهم من طهارة القلوب، وصدق الإيمان، وتلك – والله - شهادة عظيمة من رب العباد، لا يمكن أن ينالها بَشَر بعد انقطاع الوحي.
اسمع قوله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفتح/18
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (4/243) :
" فعلم ما في قلوبهم: أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة " انتهى.
وما أحسن ما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " رواه ابن عبد البر في الجامع، رقم (1810) .
وقد وعد الله المهاجرين والأنصار بالجنات والنعيم المقيم، وأحَلَّ عليهم رضوانه في آيات تتلى إلى يوم القيامة، فهل يعقل أن يكون ذلك لمن لا يستحق الفضل!؟
يقول سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100
وقد شهد لهم بالفضل سيد البشر وإمام الرسل والأنبياء، فقد كان شاهدا عليهم في حياته، يرى تضحياتهم، ويقف على صدق عزائمهم، فأرسل صلى الله عليه وسلم كلمات باقيات في شرف أصحابه وحبه لهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَسُبُّوا أَصحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَنَّ أَحَدَكُم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ) رواه البخاري (3673) ومسلم (2540)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيرُ النَّاسِ قَرنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم) رواه البخاري (2652) ومسلم (2533)
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله في "الكفاية" (49) :
" على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤون من بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء " انتهى.
ولو ذهبنا نسرد مواقفهم التي نصروا فيها الدين، وأعمالهم التي استحقوا بها الرفعة والمنزلة العالية، لما كفتنا المجلدات الطوال، فقد كانت حياتهم كلها في سبيل الله تعالى، وأي قرطاس يسع حياة المئات من الصحابة الذين ملؤوا الدنيا بالخير والصلاح.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه:
" إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ " انتهى
رواه أحمد في "المسند" (1/379) وقال المحققون: إسناده حسن.
وسبق التوسع أيضا في تقرير ذلك في جواب السؤال رقم (13713) (45563)
ثانيا:
لا بدَّ أن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا بمعصومين، وهذا هو مذهبُ أهل السنة والجماعة، وإنما هم بشرٌ يجوزُ عليهم ما يجوز على غيرهم.
وما صدر من بعضهم من المعاصي أو الأخطاء، فهو إلى جانبِ شرفِ الصحبة وفضلِها مُغْتَفَرٌ ومَعْفُوٌّ عن صاحبه، والحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات، ومقامُ أَحَدِ الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم لحظة من اللحظات في سبيل هذا الدين لا يعدلها شيء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " وأهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله، ومن سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) الاحقاف/16 الآية، وفضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها لا بصورها " [مجموع الفتاوي 4/434] .
وقد قرر ذلك الكتاب والسنة في أكثر من موقف:
فقد تجاوزَ الله سبحانه وتعالى عمن تولى يوم أُحُدٍ من الصحابة، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) آل عمران/155
ولما أذنب بعض الصحابة حين أخبر قريشا بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش عام الفتح، وهَمَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتله، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ قَد شَهِدَ بَدرًا، وَمَا يُدرِيكَ؟ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهلِ بَدرٍ فَقَالَ: اعمَلُوا مَا شِئتُم، فَقَد غَفَرتُ لَكُم) رواه البخاري ومسلم (2494)
وغير ذلك من المواقف التي وقع فيها بعض الصحابة بالمعصية والذنب، ثم عفا الله تعالى عنهم، وغفرها لهم، مما يدل على أنهم يستحقون الفضل والشرف، وأنه لا يقدح في ذلك شيء مما وقعوا فيه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، فإن الآيات السابقة في فضلهم وتبشيرهم بالجنة، أخبار لا ينسخها شيء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/206)
كيف يوفق المسلمون بين العمل للآخرة والعمل للدنيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في هذا العالم إذا كرس المسلمون جميع أوقاتهم وأفعالهم لما ينفع في اليوم الآخر ولم ينخرطوا في أي من الأعمال الدنيوية، فكيف سيساهمون فيما فيه نفع الحضارة والإنسانية مثل التكنولوجيا والعلم والاختراع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دين الإسلام هو خاتم الأديان، وإن مِن أهم خصائص هذا الدين أنه دين ينظم الحياة كلها , فالإسلام دين الدنيا والآخرة , قال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام/162، وفي دعاء المسلمين في مواضع متفرقة يقولون: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ، فهذا دين الله الكامل والشامل والجامع، جمع بين حق الله وحق العبد، وبين أمر الدنيا وأمر الآخرة.
وإن ادِّعاء أن الإسلام جاء بالرهبانية ادعاء باطل، بل الرهبانية في دين النصارى المحرَّف، وأخذها عنهم بعض مبتدعة المسلمين كالصوفية، أما أهل السنة والجماعة الذي أخذوا الدين من نبعه الصافي، وفهموه على وجهه الصحيح فإنهم يعتقدون أن الدنيا معبر إلى الآخرة، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يتعلق بالدنيا على حساب الآخرة، فهم جعلوا الآخرة هي محط أنظارهم لأنها الحياة الأبدية الخالدة، فالعمل ينبغي أن يكون من أجلها لا من أجل حياة قصيرة فانية، وليس معنى هذا أن لا يعملوا في الدنيا ولا يعمروا الأرض، بل إن المسلمين بلغوا في مجالات العلم النظرية والعملية أعلى المنازل، وكانت الحضارات تتبع المسلمين في تقدمهم وعلومهم، ولا تزال بعض الجامعات الغربية العريقة تعترف بهذا وتدرِّس كتاباً للمسلمين في مناهجهم.
قال الفيلسوف الفرنسي " جوستاف لوبون " في كتابه " حضارة العرب ":
هل يتعين أن نذكر أن العرب - والعرب وحدهم - هم الذين هدونا إلى العالم اليوناني والعالم اللاتيني القديم، وأن الجامعات الأوربية ومنها جامعة باريس عاشت مدة ستمئة عام على ترجمات كتبهم وجرت على أساليبهم في البحث، وكانت الحضارة الإسلامية من أعجب ما عرف التاريخ " انتهى.
والمسلمون ليسوا كغيرهم، فإنهم لما كانوا متمسكين بدينهم كانوا سابقين – أيضاً – في الدنيا، ولما تركوا دينهم وتخلوا عنه صاروا تبعاً لغيرهم وعالة عليهم، والنصارى لما كانوا متمسكين بدينهم المحرَّف كانوا متخلفين في دنياهم، ولما قاموا على كنائسهم حرقاً وعلى رهبانهم قتلاً وفصلوا الدين عن الدنيا تقدموا في دنياهم وعلومها، فالمسلمون يدفعهم دينهم إلى التقدم، ويتأخرون بتأخرهم عن دينهم، والنصارى تخلفوا لما تمسكوا بدينهم المحرَّف، لأنه لا يمكن لدين حرفه العباد أن يؤدي إلى التقدم، وتقدموا لما تخلوا عنه، فأي المنهجين يدعو لعمارة الدنيا ويسعى في تقدمه في العلوم وإسعاد الناس في الدنيا والآخرة؟
والآيات والأحاديث التي تحث المسلم على عمارة الأرض بالزراعة والصناعة كثيرة، وقد فهم المسلمون ذلك فسارعوا إلى العمل على هذه العمارة دون أن يؤثر ذلك على عبادتهم وطاعتهم، ودون أن يروا أن بين الدين والدنيا تضادّاً وتنافراً، والمحذور في هذه العمارة هو أن ينشغل المسلم بها عن واجبات دينه وطاعة ربه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) رواه البخاري (2195) ومسلم (1553) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وفي الحديث: فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض , ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة، وحُمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين , فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا) الحديث , قال القرطبي: يجمع بينه وبين حديث الباب بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين , وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها.
"فتح الباري" (5/4) .
والحديث الذي ذكره الحافظ ابن حجر: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا) رواه الترمذي (2328) وحسَّنه.
قال المباركفوري رحمه الله:
(الضيعة) هي: البستان والقرية والمزرعة.
(فترغبوا في الدنيا) أي: فتميلوا إليها عن الأخرى , والمراد: النهي عن الاشتغال بها وبأمثالها مما يكون مانعاً عن القيام بعبادة المولى وعن التوجه كما ينبغي إلى أمور العقبى. وقال الطيبي: المعنى لا تتوغلوا في اتخاذ الضيعة فتلهوا بها عن ذكر الله قال تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) .
"تحفة الأحوذي" (6/511) .
وقد رأينا إنصاف المسلمين ودينهم من بعض الباحثين الغربيين، فاعترفوا بسبق المسلمين في مجالات العلوم الدنيوية المختلفة، وهاهي بعض أقوالهم ليعلم السائل – وغيره – موقع الإسلام من الحضارات الأخرى، وليعلم منهج الإسلام في حثه أتباعه على النظر والتأمل والعمل والإبداع، وسنحرص على تنويع بلدان القائلين واختلاف ثقافاتهم.
1. يقول المفكر الفرنسي " جوستاف لوبون " في كتابه المعروف " حضارة العرب " - ترجمة " عادل زعيتر " -:
" لو أن العرب استولوا على فرنسا: إذن لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مركزاً للحضارة والعلم؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ، بل ويقرض الشعر أحياناً، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم "! .
2. وقالت المستشرقة الألمانية " زيغريد هونكة " - في كتابها المعروف " شمس الله تشرق على الغرب" - انتشار المكتبات في العالم العربي والإسلامي:
" نمت دور الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة، ففي عام 891 م يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مئة، وبدأت كل مدينة تبني لها داراً للكتب يستطيع عمرو وزيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس في قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد، كما يجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية ".
وكتاب " شمس الله تشرق على الغرب " في النص الألماني معناه: نور الإسلام يضيء الحضارة الغربية، والكتاب مليء بأسماء مبدعين مسلمين عرب وغير عرب.
3. واقرأ هذا الكلام لحكيم روسي وهو يبين أن هذا الدين فيه ما خدم الإنسانية، وقاد إلى الرقي والمدنية.
وقال تولستوي الحكيم الروسي:
" ومما لا ريب فيه أن النبي محمداً كان من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام ".
4. وقال الدكتور النمساوي شبرك:
" إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمّته ".
5. وفي باب الطب والجراحة كان للمسلمين دورٌ لا يُنكر.
يقول الكاتب البريطاني هـ. ج. ويلز في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية ":
" وتقدموا في الطب أشواطا بعيدة على الإغريق، ودرسوا علم وظائف الأعضاء، وعلم تدبير الصحة، ... ولا يبرح كثير من طرق العلاج عندهم مستعملا بين ظهرانينا إلى اليوم، وكان لجراحيهم دراية باستعمال التخدير، وكانوا يجرون طائفة من أصعب الجراحات المعروفة، وفي ذات الوقت التي كانت الكنيسة تحرم فيه ممارسة الطب انتظاراً منها لتمام الشفاء بموجب المناسك الدينية التي يتولاها القساوسة: كان لدى العرب علم طبي حق " انتهى.
بل ويقول – أيضاً -:
"كل دين لا يسير مع المدنية فاضرب به عرض الحائط، ولم أجد ديناً يسير مع المدنية أنَّى سارت سوى دين الإسلام " انتهى.
والشهادات أكثر من أن تحصى، وأردنا بذكر بعضها التدليل على ما قلناه من كلام غير المسلمين، وقد اخترنا أناساً لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فهم من دول مختلفة، ومن ثقافات مختلفة، بل ومن أديان وحضارات مختلفة، وفي كل ما ذكرناه عنهم بيان لما كان عليه المسلمون – ويجب أن يبقوا عليه – من تقدم وازدهار في العلوم المدنية ومن السعي في الإنسانية للرقي بحياتها في مختلف المجالات، وكان المسلمون مع بروزهم في هذه المجالات متقدمين – كذلك – في العلوم الدينية والعبادات والطاعات لربهم عز وجل، وتاريخ هذا الدين يشهد بالحركة العظيمة في التأليف في المجال الشرعي المتعلق بالقرآن والسنة، ويشهد بنماذج عالية لعبَّاد وزهَّاد لم تمنعهم عبادتهم ولم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا علماء في الشرع أو علماء في علوم دنيوية.
وثمة أسماء لامعة لعلماء مسلمين في مجالات متعددة لا يُنكِر علمَهم وتقدمَهم إلا جاهل أو مكابر، ومنهم: ابن النفيس والزهراوي في الطب، وابن الهيثم في الرؤية والضوء، والخوارزمي في الرياضيات، وغيرهم كثير كثير.
وفي نهاية الجواب نتمنى أن تطلع على هذه المحاضرة والتي هي بعنوان " عمل الدنيا لا ينافي عمل الآخرة " وستجد فيها المزيد مما تستفيد منه وتفيد غيرك به، وهي مفرغة تحت هذا الرابط:
http://www.islamdoor.com/k/364.htm
ونسأل الله أن يهدي المسلمين لدينهم، وأن يوفقهم للعمل بما أمروا به، وأن يهدي كل باحث عن الحقيقة ساعٍ في طلبها، راغبٍ في الهداية.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/207)
هل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم وقفاً لتميم الداري في فلسطين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى الخليل في فلسطين وقف لبني تميم وكتب لهم عقدا" بهذا وكان من الشهود عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنهم ما يزالون يعيشون بالخليل ويتمسكون بحقهم في الوقف، فهل هذا صحيح؟ مع أن فلسطين لم تكن للمسلمين في ذلك الوقت؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء في عدة روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع تميماً الداري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " بيت حبرون " وهي " الخليل " الآن.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
تميم بن أوس بن خارجة أبو رقية الداري.
انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان ونزل بيت المقدس وكان إسلامه سنة تسع.
قال يعقوب بن سفيان: لم يكن له ذَكَر، وإنما كانت له ابنة تسمى رقية.
وجاء من وجوه عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه بيت حبرون.
" تهذيب التهذيب " (1 / 449) مختصراً.
وجاء في معجم البلدان (2/212) :
" حَبْرُون اسم القرية التي فيها قبر إبراهيم الخليل عليه السلام بالبيت المقدس، وقد غلب على اسمها الخليل.
وقدم على النبي تميم الداري في قومه وسأله أن يقطعه حبرون فأجابه وكتب له كتابا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه: إني أعطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم بذمتهم وجميع ما فيهم، عطية بت، ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم بعدهم، أبد الآبدين، فمن آذاهم فيه آذى الله، شهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب " اهـ باختصار.
ولم تكن " فلسطين " يومئذٍ بأيدي المسلمين، بل كانت بأيدي الروم، فأقطعهم الرسول صلى الله عليه وسلم إياها بعد أن يفتحها الله عليه. فيكون هذا كالبشارة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتحها.
ولما فتحت في عهد عمر وفّى بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقفها تميم على ذريته وعلى خيرات حددها، فهو أول وقف في الإسلام في أرض فلسطين، وقد ذكر المقدسي في كتابه " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ": " ... وجود دار ضيافة دائمة مع خباز وطباخ وخدام يقدمون العدس بالزيت لكل حاجّ أو زائر يمر بمدينة الخليل، وهذه الضيافة والإطعام من وقف تميم الداري رضي الله عنه ".
وقال القلقشندي:
قال الحمداني: وبلد الخليل عليه السلام معمور من بني تميم الداري رضي الله عنه وبيد بني تميم هؤلاء الرقعة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لتميم وإخوته بإقطاعهم بيت حبرون التي هي بلد الخليل عليه السلام وبعض بلادها.
" صبح الأعشى " (1 / 47) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/208)
حكم من قذف عائشة رضي الله عنها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من قذف عائشة رضي الله عنها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين داخلات في عموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكل نص نهى عن سب الأصحاب فعائشة داخلة فيه ومن ذلك:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نصيفه. " رواه البخاري: فتح رقم 3379.
ثم إن علماء الإسلام من أهل السنة أجمعوا قاطبة على أن من طعن في عائشة بما برأها الله منه فهو كافر مكذب لما ذكره الله من براءتها في سورة النور.
وقد ساق الإمام ابن حزم بسنده إلى هشام بن عمار قال: سمعت مالك بن أنس يقول: من سب أبا بكر وعمر جلد ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم يقتل في عائشة؟ قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) .
قال مالك فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل.
قال ابن حزم: قول مالك ههنا صحيح وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها.
قال أبو بكر ابن العربي: (لأن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ومن كذب الله فهو كافر فهذا طريق مالك وهي سبيل لائحة لأهل البصائر) .
قال القاضي أبو يعلى: (من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم) .
وقال ابن أبي موسى: (ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة) .
وقال ابن قدامة: (ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم) .
وقال الإمام النووي رحمه الله: (براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين) .
وقال ابن القيم رحمه الله: (واتفقت الأمة على كفر قاذفها) .
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن) .
وقال بدر الدين الزركشي: (من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها) .
وقد بنى العلماء كلامهم في حكم من قذف عائشة على عدد من الأدلة ومنها:
1- الاستدلال بما جاء في سورة النور من التصريح ببراءتها فمن اتهمها بذلك بعدما برأها الله فإنما هو مكذب لله عز وجل وتكذيب الله كفر لا شك فيه.
2- أن في الطعن في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء له صلى الله عليه وسلم ولا شك أن إيذاءه صلى الله عليه وسلم كفر إجماعا ومما يدل على تأذي النبي بقذف زوجه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث الإفك عن عائشة قالت: ".. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا …" الحديث.
فقوله صلى الله عليه وسلم "من يعذرني" أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي. فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تأذّى بذلك تأذيا استعذر منه.
قال الإمام القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) : يعني في عائشة.. لما في ذلك من أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله، وذلك كفر من فاعله) .
3- كما أن الطعن في عائشة يستلزم الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم لأنّ الله سبحانه قد قال: (الخبيثات للخبيثين) ، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيّبة، لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا.
ثم ليعلم ختاما أن أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة بنت الصديق كما صح عن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ فَأَتَيْتُهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ عَائِشَةُ قَالَ قُلْتُ فَمِنْ الرِّجَالِ قَالَ أَبُوهَا إِذًا قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ عُمَرُ قَالَ فَعَدَّ رِجَالًا.
فمن أبغض حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حريّ أن يكون بغيضه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
(انظر عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة الكرام ناصر الشيخ 2/871، اعتقاد أهل السنة في الصحابة: محمد الوهيبي ص: 58)(9/209)
هل طلبت عائشة أن تُدفن ليلا
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت أن عائشة رضي الله عنها طلبت أن تُدفن بالليل، فما السبب إذا كان هذا صحيحاً؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هكذا ذكره محمد بن عمر الواقدي كما أخرجه الحاكم في المستدرك 4/6-7 وابن سعد في طبقاته 8/76-77، وسير أعلام النبلاء 2/192 وغيرها من المصادر.
والظاهر والله أعلم إما لئلا يؤخر دفنها لأنها كما ورد أنها ماتت ليلة السابع عشر من رمضان بعد الوتر، أو لأنّ ذلك أستر لها أو لعله ظهر في زمنها لا سيما في أواخر عمرها من يكره الدفن ليلا فأرادت أن تبيّن الحكم.. أو لغير ذلك. وعموما فإن الدفن بالليل جائز للحاجة والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/210)
من هم آل البيت
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم أهل النبي؟
في حديث الثقلين أن فاطمة وعلي والحسن والحسين هم أهل البيت.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في تحديد آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أقوالا، فمنهم من قال: أن أهل بيت النبي هم أزواجه وذريته وبنو هاشم وبنو عبد المطلب ومواليهم، ومنهم من قال أن أزواجه ليسوا من أهل بيته، وقال البعض أنهم قريش، ومنهم من قال أن آل محمد هم الأتقياء من أمته، وقال البعض أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم جميعاً.
أما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فالقول الراجح أنهم يدخلن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. لقول الله تعالى بعد أن أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) . وقول الملائكة لسارة زوج إبراهيم عليه السلام: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) , ولأنه استثنى امرأة لوط من آل لوط عليه السلام في قوله تعالى: (إلا آل لوط فإنا لمنجوهم أجمعون * إلا امرأته) فدل على دخولها في الآل.
وأما آل المطلب فقد جاء في رواية عن الإمام أحمد أنهم منهم وهو قول الإمام الشافعي أيضاً، وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام مالك أن آل المطلب لا يدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا رواية عن الإمام أحمد أيضاً. والقول الراجح في المسألة أن بنو عبد المطلب من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل ما جاء عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: " مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ " رواه البخاري برقم 2907، والنسائي برقم 4067 وغيرهما.
ويدخل في آل البيت بنو هاشم بن عبد مناف، وهم آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب. جاء ذلك فيما رواه الإمام أحمد عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا فِينَا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ أَلَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَأُجِيبُ؛ وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ - فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ - قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي " فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: " هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ " قَالَ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ! قَالَ: نَعَمْ. رواه أحمد برقم 18464.
وأما الموالي فلما جاء عن مهران مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله عليه وسلم: " إِنَّا آلُ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ وَمَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ " رواه أحمد برقم 15152.
فيصبح آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم: أزواجه وذريته وبنو هاشم وبنو عبد المطلب ومواليهم، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(9/211)
أين دفن رأس الحسين
[السُّؤَالُ]
ـ[أهل مصر يدعون أن رأس الحسين عندهم، وأهل العراق يدعون مسجداً يسمونه المشهد الحسيني ولا أدري، ما صحة ذلك، وأين يوجد قبر الحسين على أرجح أقوال العلماء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحسين رضي الله عنه قتل في العراق في المحرم سنة 61هـ ودفن جسده في العراق، أما دعوى أن رأسه نقل إلى مصر ودفن هناك فلا نعلم له أصلاً، وقد أنكر ذلك بعض المحققين من أهل العلم ولا يضرك جهلك بذلك، وإنما المشروع لك ولغيرك من المسلمين الترضي عنه وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم جميعاً.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى اللجنة الدائمة 3/70(9/212)
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه من عائشة
[السُّؤَالُ]
ـ[رداً على سؤال قرأته بخصوص زواج النبي عليه السلام من السيدة عائشة رضي الله عنها أنني أعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه يتزوج عائشة أي أن الله هو الذي أمره بهذا وهي ابنة 6 أو 7 سنوات فإن كان الأمر كذلك فعندنا إجابة منطقية ولكن ألا يوجد حديث أو آية تعضد هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحديث الذي أشرت إليه في سؤالك قد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ (أي رأى صورتها في قطعة من حرير أو رآها في ثوب من حرير) وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ". صحيح البخاري 3606
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح الحديث أنّ هذه الرؤيا كانت بعد البعثة فهي رؤيا وحي لها تعبير، (وتعبيرها هو وقوعها بعد ذلك بزواجه صلى الله عليه وسلم منها) .
وظاهر قوله " فإذا هي أنت " مشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك. انظر فتح الباري.
وليس في الحديث ما يدلّ على أنّ زواجه صلى الله عليه وسلم حصل بتلك الرؤيا بل إنّه صلى الله عليه وسلم خطبها من أبيها كما تُخطب النّساء وزوّجه إياها أبو بكر الزّواج المعتاد كما يدلّ عليه الحديث الآتي: عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلالٌ رواه البخاري 4691
قال ابن حجر رحمه الله في الشّرح: وروى ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة , فقال لها أبو بكر: وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه , فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ارجعي فقولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي , فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: ادعي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجاء فأنكحه "
.. وقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب " أنت أخي في دين الله وكتابه " إشارة إلى قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) ونحو ذلك ,.. وقوله " وهي لي حلال " معناه وهي مع كونها بنت أخي يحل لي نكاحها لأن الأخوة المانعة من ذلك أخوة النسب والرضاع لا أخوة الدين. انتهى
أما المرأة التي تزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم بعقد عُقد في السّماء من الله تعالى ولم يجر على طريقة عقود الزّواج المعتادة فهو زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها كما دلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه قال: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ البخاري 6870
فليس غير زينب من زوجاته صلى الله عليه وسلم التي تزوّجت بتلك الطّريقة الخاصّة، فنرجع في زواج عائشة إلى الجواب المتقدّم في السّؤال المذكور من قبل، وجزاك الله خيرا يا أخي على سؤالك هذا، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/213)
حديث حجاب نساء الأنصار
[السُّؤَالُ]
ـ[ابحث عن الحديث الذي يذكر أن النساء المسلمات ظهرن كالغربان بعد نزول آية الحجاب، وهذا يدل على أن لون الحجاب أسود. هل يمكن إرشادي إلى مكان الحديث بالمرجع والجزء والصفحة؟ . .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحديث الذي تشيرين إليه رواه أبو داود رحمه الله تعالى في سننه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنْ الْأَكْسِيَةِ. سنن أبي داود: كتاب اللباس: باب في قوله تعالى (يدنين عليهن من جلابيبهن) .
قال صاحب عون المعبود في شرح سنن أبي داود في شرح عبارة:
(كأن على رءوسهن الغربان) : جمع غراب (من الأكسية) : جمع كساء شبهت الخُمُر [جمع خمار] في سوادها بالغراب.
هذا ولا يُشترط اللون الأسود في حجاب المرأة ولكنه قد يكون أجود في السّتر من غيره. يراجع شروط حجاب المرأة المسلمة سؤال رقم (214) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/214)
قصة أبي محجن رضي الله عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أحد المشائخ يتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه يجب على كل مسلم حتى الواقع في الذنب فانه يجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقال انه لا يشترط العدالة في الآمر كما هو مشهور من قصة أبي محجن السؤال فضيلة الشيخ من هو أبو محجن وما هي قصته؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أهنئك أخي على حرصك على الفائدة، وأسأل الله أن يرزقنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح.
وأما أبو محجن فهو صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
وكان هذا الصحابي مبتلى بشرب الخمر، فكان يجاء به فيجلد، ثم يجاء به فيجلد، ولكنه كان يعلم أن هذا لا يعفيه من العمل لدينه أو القيام بنصرته، فإذا به يخرج مع المسلمين إلى القادسية جنديا يبحث عن الشهادة في مظانها، وفي القادسية يجاء به إلى أمير الجيش سعد بن أبي وقاص وقد شرب الخمر، فيحبسه سعد حتى تنق المعركة؟!.
وكان الحبس عقوبة قاسية آلمت أبا محجن أشد الألم حتى إذا سمع ضرب السيوف ووقع الرماح وصهيل الخيل وعلم أن سوق الجهاد قد قامت، وأبواب الجنة قد فتحت جاشت نفسه وهاجت أشواقه إلى الجهاد فنادى امرأة سعد بن أبي وقاص قائلا: خليني فلله علي، إن سَلِمْتُ أن أجيء حتى أضع رجلي في القيد، وإن قُتِلتُ استرحتم مني. فرحمت أشواقه، واحترمت عاطفته وخلت سبيله، فوثب على فرس لسعد يقال لها: البلقاء، ثم أخذ الرمح وانطلق لا يحمل على كتيبة إلا كسرها، ولا على جمع إلا فرقه، وسعد يشرف على المعركة ويعجب ويقول: الكرُّ كَرُّ البلقاء، والضرب ضرب أبي محجن، وأبو محجن في القيد.
حتى إذا انهزم العدو عاد أبو محجن فجعل رجله في القيد، فما كان من امرأة سعد إلا أن أخبرته بهذا النبأ العجاب وما كان من أمر أبي محجن، فأكبر سعد - رضي الله عنه - هذه النفس، وهذه الغيرة على الدين، وهذه الأشواق للجهاد وقام بنفسه إلى هذا الشارب الخمر يحل قيوده بيديه الطيبتين ويقول: " قم فوالله لا أجلدك في الخمر أبدا، وأبو محجن يقول: وأنا والله لا أشربها أبداً "
انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 4/173-174، والبداية والنهاية 9/632-633.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/215)
حكم تخصيص علي رضي الله عنه بعبارة كرّم الله وجهه
[السُّؤَالُ]
ـ[نسمع ونقرأ كثيرا عبارة تطلق على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا وهي " كرمَ اللهُ وجههُ ". فهل إطلاقها صحيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن كثير في التفسير (3/517) :
وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه وهذا وإن كان معناه صحيحا لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين.ا. هـ.
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة (3/289) نصه:
لم لقب علي بن أبي طالب بتكريم الوجه؟
فأجابت اللجنة:
تلقيب علي بن أبي طالب بتكريم الوجه وتخصيصه بذلك من غلو الشيعة فيه، ويقال أنه من أجل أنه لم يطلع على عورة أحد أصلا أو لأنه لم يسجد لصنم قط، وهذا ليس خاصا به بل يشاركه غيره من الصحابة الذين ولدوا في الإسلام.ا. هـ.
وقال بعضهم: وإنما خص علي رضي الله عنه بقول: كرم الله وجهه، لأنه ما سجد لصنم قط،.
قلت: أما وقد اتخذته الرافضة أعداء علي ـ رضي الله عنه ـ والعترة الطاهرة ـ فلا منعا لمجاراة أهل البدع. والله أعلم.
ولهم في ذلك تعليلات لا يصح منها شيء ومنها: لأنه لم يطلع على عورة أحد أصلا، ومنها: لأنه لم يسجد لصنم قط. وهذا يشاركه فيه من ولد في الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم علماً أن القول بأي تعليلات لابد له من ذكر طريق الإثبات.
تنبيه:
في مسند أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها ثم قال: " من يأخذها بحقها " فجاء فلان، فقال: أنا، قال: " أمط " ثم جاء رجل. فقال: " أمط " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر، هاك يا علي.." الحديث.
وفي مسند سلمة بن الأكوع أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل.
وفي سياق بعض الأحاديث تجد قولهم ـ كرم الله وجه ـ عند ذكر علي رضي الله عنه ولا نعرف هذا في شيء من المرفوع، ولا أنه من قول ذلك الصحابي، ولعله من النساخ.ا. هـ
[الْمَصْدَرُ]
معجم المناهي اللفظية: الشيخ بكر أبو زيد (ص454) .(9/216)
فضل أبي موسى الأشعري
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو الصحابي الذي أعطاه الله مزمارا من مزامير النبي داود وبماذا اشتهر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الصحابي هو أبو موسى الأشعري.
فقد روى البخاري عن بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) (فضائل القرآن/4660) . قال ابن حجر: والمراد بالمزمار الصوت الحسن، وأصله الآلة أطلق على الصوت للمشابهة
وأبو موسى من حفَّاظ القرآن، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً ومعلِّماً، واشتهر بكثرة قراءة القرآن، وقيام الليل، رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/217)
من الأفضل والأعلم أبو بكر وعمر أم علي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا أردنا أن نكون حياديين بالنسبة لسيدنا على بن أبي طالب فهو أعلى منزلة من الصحابة، فالحديث يمتدحه ليس فقط كمجاهد ولكن كشخص مثالي وبعلمه وفقهه، حتى إن أبا بكر وعمر دائماً يسألانه عما يشكل عليهما ولا يعرفان إجابته، فكيف تكون مرتبتهما أعلى من مرتبته؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا شك أن الصحابي الجليل على بن أبي طالب رضي الله عنه كان من أعقل الناس وأحزمهم، وقد اشتهر بالشجاعة والإقدام، وهو أول من أسلم من الصبيان، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وعند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بصحبة أبي بكر رضي الله عنه خلَفه فنام على فراشه، ومن مناقبه رضي الله عنه ما ثبت عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: (لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى، فقال: أين علي؟ فقيل يشتكي عينيه، فأمر فدعي له، فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء) رواه البخاري 2942، ومسلم 2406.
وكما أن لعلي رضي الله عنه فضائل ومناقب، فلغيره من الصحابة رضوان الله عليهم فضائل أخرى ومناقب، فمن مناقب أبي بكر رضي الله عنه ما ثبت عن أبي سعيد الخدري قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ، إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر، لا تبك، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر) رواه البخاري 466، ومسلم 2382.
ومن مناقبه صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما قال تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} التوبة / 40.
ومنها ما ثبت عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: (فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، فقلت من الرجال فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالا) رواه البخاري 3662، ومسلم 2384
ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه في آخر حياته للصلاة بالناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وشدد على من اعترض عليه وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) رواه البخاري 683، ومسلم 418
ومن مناقبه ما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) رواه البخاري 3675، وغير ذلك.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فله مناقب وفضائل ثابتة أيضا، فمن ذلك ما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين) رواه البخاري 23، ومسلم 2390
ومن ذلك ما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم) رواه البخاري 82، ومسلم 2391
ومنه ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) رواه مسلم 2398
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على فضائل الصحابة رضوان الله عليهم ومناقبهم، إلا أن تفضيل بعضهم على بعض وارد عقلا وثابت شرعا، وليس ذلك بالتشهي أو الهوى، وإنما مرد ذلك إلى الشرع، كما قال تعالى {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} القصص / 68.
ولنرجع إلى الأدلة الشرعية التي تبين مراتب الصحابة رضوان الله عليهم ومنازلهم، فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم " رواه البخاري 3655، وفي رواية قال: " كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم " البخاري 3697
فهذه شهادة الصحابة كلهم ينقلها عبد الله بن عمر على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على سائر الصحابة، ثم تفضيل عمر رضي الله عنه بعده، ثم عثمان.
ولندع المجال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نفسه ليدلي بشهادته، فعن محمد بن الحنفية - وهو ابن علي بن أبي طالب - قال: (قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) رواه البخاري 3671
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد تواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر روى ذلك عنه من أكثر من ثمانين وجها ورواه البخاري وغيره ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر كما ذكر ذلك غير واحد " منهاج السنة 1 / 308
وعن أبي جحيفة: " أن عليا رضي الله عنه صعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، والثاني عمر رضي الله عنه، وقال يجعل الله تعالى الخير حيث أحب " رواه الإمام أحمد في مسنده 839، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: " إسناده قوي "
فهذه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة رضي الله عنهم كلها شاهدة على عقيدة أهل السنة والجماعة والتي لا خلاف بينهم عليها، أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عن الصحابة أجمعين.
أما كون أبي بكر وعمر يسألان عليا دائما ولا يعرفان، فلم يثبت هذا في أثر مطلقا، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يصلي أبو بكر رضي الله عنه بالناس في مرض موته، ولا يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بأحكام الصلاة، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا بكر رضي الله عنه على الحج قبل حجة الوداع، ولا يولي النبي صلى الله عليه وسلم رجلا على هذا المقام إلا وهو أعلمهم به، بل ثبت أن عليا تعلم بعض الأحاديث من أبي بكر رضي الله عنهما عن بعض المسائل، فعن أسماء بن الحكم الفزاري قال: " سمعت عليا يقول: إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} إلى آخر الآية) رواه الترمذي 406، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
وروى الترمذي (3682) عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) . صححه الألباني في صحيح الترمذي (2908) .
وقد سبق قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم)
فالحاصل أن اعتقاد أهل السنة والجماعة، والذي أجمعوا عليه، أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهم أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين: إن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر بل ولا من أبي بكر وحده، ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم، بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي، منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروذي، أحد أئمة السنة من أصحاب الشافعي ذكر في كتابه: " تقويم الأدلة على الإمام " إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي، وما علمت أحدا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك، وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي ويأمر وينهي ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يقره على ذلك ويرضى بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه: يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول عليه السلام على سائر أصحابه، مثل قصة مشاورته في أسرى بدر، فأول من تكلم في ذلك أبو بكر وعمر، وكذلك غير ذلك ………. وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال: (إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا) ، وقد ثبت عن ابن عباس: أنه كان يفتي من كتاب الله، فإن لم يجد فبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي، وابن عباس حبر الأمة وأعلم الصحابة وأفقههم في زمانه، وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
مجموع الفتاوى 4 / 398
انظر
الفصل في الملل والنحل 4 / 212، بل ضللت ص 252، الشيعة الإمامية الإثنى عشرية ص 120.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/218)
قصة القِرْدة التي زنت فرجمتها القِرَدة
[السُّؤَالُ]
ـ[أولا: ما هو الشرح الصحيح للحديث الذي رواه الصحابي عمرو بن ميمون في صحيح البخاري: (رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم) ثانيا: هل نستنتج من هذا الحديث أن بعض الحيوانات تتزوج من بعضها البعض، وترتكب الزنا بالمثل؟ وكيف يكون الشرح لمن يسأل عن طبيعة وشكل زواج الحيوانات من بعضها البعض؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذه القصة رواها الإمام البخاري (3849) عن عمرو بن ميمون قال: (رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ، قَدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة، من طريق عيسى بن حطان، عن عمرو بن ميمون قال:
كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف، فجاء قرد من قردة فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه فغمزها، فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رفيقا وتبعته، فوقع عليها وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق، فاستيقظ فزعا، فشمها فصاح، فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة، فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم" انتهى.
"فتح الباري" (7/160) .
هذه الرواية ـ كما هو ظاهر ـ ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كلام أحد من أصحابه رضي الله عنهم، وإنما رواها البخاري رحمه الله حكاية عما شاهده عمرو بن ميمون، وهو الأودي، أبو عبد الله الكوفي، توفي سنة (74هـ) ، أدرك الجاهلية والنبوة وأسلم، ولكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك لم يعده العلماء من الصحابة، وإنما من المخضرمين من كبار التابعين.
انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (8/11) .
ومعلوم أن السنة النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي يجب الإيمان بها والتسليم بما جاء فيها، أما ما يحكيه أحد التابعين عن مشاهدته فلا يرتقي إلى منزلة السنة النبوية بأي حال من الأحوال.
فإذا أدركنا أن الرواية إنما هي كلامٌ ساقه أحد التابعين عما شاهده، أمكننا إدراك الاحتمالات الواردة عليها، وعرفنا أنه لا حرج على من تشكك في حقيقة ما جرى بين القردة، أو نسب إلى عمرو بن ميمون توهم وقوع الرجم عقوبة على السفاد بين القردة، فمن المقطوع به أن عمرو بن ميمون لم يكن يفهم منطق القردة، وإنما هو ظنه، وذلك ما يمكن مخالفته فيه، وعدم التسليم به.
قال ابن قتيبة الدينوري رحمه الله:
"قالوا – يعني المستهزئين بالسنة الطاعنين عليها -: رَويتم أن قرودا رجمت قردة في زنا..
ونحن نقول في جواب هذا الاستهزاء: إن حديث القرود ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، وإنما هو شيء ذكر عن عمرو بن ميمون ... وقد يمكن أن يكون رأى القرود ترجم قردة فظن أنها ترجمها لأنها زنت، وهذا لا يعلمه أحد إلا ظنا؛ لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن، هذا ظن، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه، فإن القرود أزنى البهائم، والعرب تضرب بها المثل فتقول: أزنى من قرد، ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه، والبهائم قد تتعادى ويثب بعضها على بعض، ويعاقب بعضها بعضا، فمنها ما يعض، ومنها ما يخدش، ومنها ما يكسر ويحطم، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله لها كما يرجم الإنسان، فإن كان إنما رجم بعضها بعضا لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس هذا ببعيد، وإن كان الشيخ استدل على الزنا منها بدليل وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضا ببعيد، لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة، وأقربها من بني آدم أفهاما" انتهى.
"تأويل مختلف الحديث" (255-256) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله:
"هذا عند جماعة أهل العلم منكر: إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم" انتهى.
"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (3/1206) .
وقال القرطبي رحمه الله:
"إن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية، ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية" انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (1/442) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
"هذا أثرٌ منكرٌ، إذ كيف يمكنُ لإنسان أن يعلم أن القردة تتزوج، وأن مِن خُلقهم المحافظةَ على العرضِ، فمن خان قتلوهُ؟! ثم هبّ أن ذلك أمرٌ واقعٌ بينها، فمن أين علم عمرو بن ميمون أن رجمَ القردةِ إنما كان لأنها زنت؟! " انتهى.
"مختصر صحيح البخاري" للألباني (2/535) طبعة مكتبة المعارف.
ثم.. لا يمتنع أن تكون القصة حقيقية، والظن الذي ظنه عمرو بن ميمون صحيحاً، فعالم الحيوان عالم مليء بالعجائب والبدائع، وقد قال العرب قديما: "ليس شيء يجتمع فيه الزواج والغيرة إلا الإنسان والقرد" انتهى. " عيون الأخبار "لابن قتيبة" (172) .
بل قال ابن تيمية رحمه الله:
"ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا في غير القرود، حتى الطيور" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (11/545) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في " كتاب الخيل " له من طريق الأوزاعي: أن مهرا أُنزي على أمه فامتنع، فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأُنزي عليها فنزى، فلما شم ريح أمه عمد إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد في الفطنة من القرد فجوازها في القرد أولى" انتهى.
"فتح الباري" (7/161) .
وقد ذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه "العقيدة في الله" (ص/129) عن نملة قطَّعها النمل بسبب "الكذب"! حيث كان رجل يضع لها " حبَّة " ثم تنادي قومها لرفعها، فيرفعها الرجل فلا يرون شيئا، وتكرر هذا منه، ومنها، فاجتمعوا عليها فقطعوها.
وقد رأينا مقاطع " فيديو " عن الحيوانات ما لا يمكن تصديقه لو نُقلت لنا نظريا، ومنها: عطف "نمر" على مولود "قردة" قتلها، وسحبها لشجرة ليفترسها، ثم لما نزل جنينها من بطنها: تركها وانشغل بمولودها يعطف عليه، ويحرسه من الضباع، ورفعه معه إلى الشجرة!
ولمزيد من هذه العجائب يمكن مراجعة كتاب الدكتور عمر الأشقر "العقيدة في الله" (ص/111-168) .
وأما الجواب عن اعتراض ابن عبد البر على تسمية ما وقع بين القردة زنا، والحيوانات لا تكليف عليها، فأجاب عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:
"لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدا، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان" انتهى.
"فتح الباري" (7/160) .
ثانياً:
أما السؤال عن زواج الحيوانات من بعضها فهذا مرجعه إلى علماء الأحياء المتخصصين في عالم الحيوانات.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/219)
لماذا تعددت اللغات والأصل واحد
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا تعددت اللغات في العالم مع العلم أن جميع الأمم من أصل واحد هو أبونا آدم وأمنا حواء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الله أعلم. ربك هو الحكيم العليم. ليس عندنا يقين بالحكمة في هذا، ولكننا نعلم أن ربنا حكيم عليم، يقول جل وعلا: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الأنعام/83، ويقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء/11.
فمن حكمته البالغة جعل اللغات متعددة، وجعل الناس ألواناً كذلك كما قال عز وجل: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) الروم/22.
فقد يكون من الحكمة الدلالة على قدرته العظيمة، وأنه سبحانه قادر على أن يجعل لهؤلاء لغة ولهؤلاء لغة؛ فإن هذا أبين للقدرة العظيمة.
وقد يكون من الحكم أشياء أخرى لا نعقلها ولا نفهمها، وقد يفهمها غيرنا من أهل العلم.
فالحاصل أن مِنْ أوضح الحِكَم في ذلك أنه سبحانه وتعالى قدير؛ ولهذا جعل لغات الناس متعددة وأخبر أن هذا من آياته: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) الروم/22، وألسنتكم: أي لغاتكم.
فكما جعلهم ألواناً فيهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، وجعلهم أيضاً مختلفين في الأحجام؛ هذا طويل، وهذا قصير، وهذا بين ذلك، وجعلهم مختلفين في الأخلاق والعقول، هكذا مسألة اللغات، كلها تدل على قدرته العظيمة، وأنه يتصرف كما يشاء سبحانه وتعالى، وقد تكون هناك حكم كبيرة لا نفهمها" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/314) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/220)
هل القرآن يدل على وجود مخلوقات في الفضاء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[احتوي القرآن على العديد من الحقائق العلمية. وقد مررت بآيتين - الآية 44 من سورة الإسراء والآية 29 من سورة الشورى – وهما يدلان على وجود مخلوقات (دواب) في السموات كوجودها على الأرض. وقد حصلت على هذه المعلومات من الإنترنت. وأرجو أن تؤكد ما إذا كانت الآيتان تدلان على وجود حياة في الفضاء، أم إذا كان يراد بهما شيء آخر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الآية 44 من سورة الإسراء هي قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) .
والآية 29 من سورة الشورى هي قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) .
والله تعالى هو خالق كل شيء، فما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا الله هو الذي خلقها، ونحن نعلم بما في الأرض ونشاهد ما في البرّ والبحر من هذه الدواب صغيرها وكبيرها من الطيور التي تطير في الأجواء وتطلب رزقها، وكذلك نعلم أن في السماء ملائكة لا يحصي عددهم إلا الله، قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) فنؤمن بذلك كلّه ولكن لا نعلم بتفاصيل هذه المخلوقات ولا عددها ولا نعلم كيفية المخلوقات العلوية. ويمكن أن يكون في السماء دواب الله أعلم بكيفيتها وعددها، يتكفلّ الله برزقها، كما في الأرض دواب لا يعلم عددها إلا الله تكفّل تعالى برزقها وهو على كلّ شيء قدير.
والله أعلم
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله.
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(9/221)
هل كان أولاد آدم يتزوج الأخ من أخته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أطرح هذا السؤال نيابة عن عمتي التي أقلقها الموضوع. (وهو) بداية البشرية. فقد ورد في القرآن بوضوح أمر نبي الله آدم وسبب نزوله إلى الأرض. لكن لا يوجد أي توضيح محدد يبين أن آدم وحواء كانا الوالدين الوحيدين للبشرية. أي، إذا كانا هما الشخصين الوحيدين على كوكب الأرض، وكان عندهما أطفال – فكيف تكاثر جنس الإنسان بعدهما – أي – هل كان جائزا وقتها – للأخوات والإخوة أن يتزوجوا وأن يكون لهم أبناء من بعضهم البعض؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قد ذكر الله أن جميع البشر وُجدوا من آدم وزوجه، قال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساءا) وقال تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها فلما تغشّاها حملت حملا خفيفا فمرّت به) . فهذه أدلة صريحة في أن آدم أبو البشر، وأنه الذي خُلق البشر كلهم من ذريته، وأن جميع من في الأرض من جنس الناس يرجعون إلى آدم وزوجه.
وقد ذكر في بعض الأحاديث أن آدم وامرأته كان يولد لهما في كل بطن ذكر وأنثى، فإذا كبروا فإنه يزوج ذكر هذا البطن بأنثى البطن الذي قبله، وأنثى البطن الثاني بذكر البطن الأول فيكون ذلك جائزا ولو كانوا إخوة من أب وأم فكانت للحاجة، وبعد أن كثروا حُرّم أن يتزوج الأخ بأخته ولو كانت في بطن غير بطنه.
والله أعلم
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله.
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(9/222)
حقيقة قصة " هاروت وماروت "
[السُّؤَالُ]
ـ[من هما هاروت وماروت ? هل هما بشر أم ملكان؟ وإن كانا ملكين هل هما معصومان بالرغم من تعليم السحر للناس ?]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد ذِكر اسمي " هاورت وماروت " في القرآن الكريم في موضع واحد فقط، وبتأمل هذا الموضع يعرف المرء الحقائق التالية:
1. أنهما من الملائكة، لا من البشر.
2. أنهما مرسَلان من الله؛ تعليماً لأناس شيئاً يقيهم من الشر، لا أنها معاقبان على ذنب.
وعليه: فمن ادَّعى أنهما من البشر، أو أنهما ملكان وقعا في معصية فمسخهما الله تعالى: فقد تكلم في أمر الغيب بلا علم، وادعى أمرا يتنقص به ملائكة الرحمن المكرمين، واعتقد بما في كتب بني إسرائيل، بغير شاهد صدق له من الوحي المعصوم.
قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) البقرة/ 102.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
وكذلك اتبع اليهودُ السحرَ الذي أُنزل على الملَكين، الكائنين بأرض " بابل "، من أرض العراق، أنزل عليهما السحر؛ امتحاناً وابتلاءً من الله لعباده، فيعلمانهم السحر.
(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى) ينصحاه، و (يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته.
فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس، والإضلال، ونسبته، وترويجه، إلى مَن برَّأه الله منه، وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحاناً مع نصحهما: لئلا يكون لهم حجة.
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تُعلِّمه الشياطين، والسحر الذي يعلمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين، وأقبلوا على علم الشياطين، وكل يصبو إلى ما يناسبه.
ثم ذكر مفاسد السحر فقال: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما؛ لأن الله قال في حقهما: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ، وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدَري، وهو المتعلق بمشيئة الله، كما في هذه الآية، وإذن شرعي، كما في قوله تعالى في الآية السابقة: (فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وفي هذه الآية وما أشبهها: أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير: فإنها تابعة للقضاء والقدر، ليست مستقلة في التأثير، ولم يخالف في هذا الأصل مِن فِرَق الأمَّة غير " القدرية " في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة، فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله، وسنَّة رسوله، وإجماع الصحابة، والتابعين.
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة، ليس فيه منفعة، لا دينية ولا دنيوية، كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) فهذا السحر مضرة محضة، فليس له داع أصلا، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة، أو شرها أكبر من خيرها، كما أن المأمورات إما مصلحة محضة، أو خيرها أكثر من شرها.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي: اليهود، (لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة: (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي: نصيب، بل هو موجب للعقوبة، فلم يكن فعلهم إياه جهلاً، ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) علماً يثمر العمل: ما فعلوه.
" تفسير السعدي " (ص 61) .
وكل ما عدا ظاهر القرآن في حال هذين الملَكين: فهو من الإسرائيليات، يردها ما ثبت من عصمة الملائكة، على وجه العموم، دون ورود استثناء لهذا لأصل العام: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء/26-28.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
وقد روي في قصة " هاروت وماروت " عن جماعة من التابعين، كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن: إجمال القصة من غير بسط، ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
" تفسير ابن كثير " (1 / 360) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/223)
هل نقض نظرية التطور الدارونية تشمل تطور الحيوان والنبات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب سنة أولى في الجامعة، وأدرس " كورس " في علم الأحياء، وتعلمنا من خلال هذا " الكورس " نظرية التطور التي تقول إن الإنسان كان في الأصل قرداً، ولكني لا أؤمن بهذه الخزعبلات، لكن ماذا بالنسبة للنباتات، والحيوانات، هي تنطبق عليها نظرية التطور فعلاً، لأن بعض الطلاب هنا، والدكاترة: يجرون البحوث، تلو البحوث في إثبات أن بعض فصائل النبات، وبعض فصائل الطيور: مرت بمراحل تطور مختلفة. أنا في شك من هذا الموضوع بالكلية؛ لأني لا أريد أن أصدق شيئاً إلا بدليل من الشرع، فهل هناك دليل على هذا الكلام من الكتاب أو السنَّة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قد تبين اليوم لكثير من العقلاء أن نظرية دارون الإلحادية قد أصبحت في مزبلة التاريخ، وقد فنَّدها علماء الغرب الكافر قبل علماء الإسلام؛ لمخالفتها للمعقول، وللأديان.
وقد جاء في " الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة " – بعد الكلام عن تلك نظرية – (2 / 940، 941) :
ويتضح مما سبق:
أن نظرية " داروين " دخلت متحف النسيان بعد كشف النقاب عن قانون " مندل " الوراثي، واكتشاف وحدات الوراثة – الجينات - باعتباره الشفرة السرية للخلق، واعتبار أن " الكروموسومات " تحمل صفات الإنسان الكاملة، وتحفظ الشبه الكامل للنوع.
ولذا يرى المنصفون من العلماء أن وجود تشابه بين الكائنات الحية دليل واضح ضد النظرية؛ لأنه يوحي بأن الخالق واحد، ولا يوحى بوحدة الأصل، والقرآن الكريم يقرر بأن مادة الخلق الأولى للكائنات هي الماء، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء) النور/ 45، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء/ 30.
وقد أثبت العلم القائم على التجربة: بطلان النظرية بأدلة قاطعة، وأنها ليست نظرية علمية على الإطلاق.
والإسلام، وكافة الأديان السماوية تؤمن بوجود الله، الخالق، البارىء، المدبِّر، المصور، الذي أحسن صنع كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم خلقه من نطفة في قرار مكين، والإنسان يبقى إنساناً بشكله، وصفاته، وعقله، لا يتطور، ولا يتحول، (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) .
انتهى
ثانياً:
لا يختلف نقض تلك النظرية في الحيوان والنبات، وقد نقض أهل الاختصاص القول بالتطور في الحيوان والنبات بما يجعل تلك النظرية غير قابلة للاستمرار بها بحثاً، فضلاً عن تصديقها، واعتقادها.
ومن هذه الأدلة – فيما يتعلق بالحيوان والنبات موضوع السؤال -:
أولاً: إن الواقع الذي نشاهده يتنافى مع ما أسماه " داروين " بـ " البقاء للأصلح "، فالأرض بما قطعته من مراحل في عمرها المديد، تعج بـ " الأصلح، وغير الصالح "، من شتى أصناف الحيوانات، ولو كان قانونه صحيحاً: لكان من أبسط مقتضياته الواضحة: أن يتجاوز موكب السباق بين الكائنات الحية نقطة البدء على أقل تقدير مهما فرضنا حركة التطور بطيئة، ولكن ها هي ذي نقطة البدء لا تزال تفور بكائناتها الضعيفة المختلفة، ولا تزال تتمتع بحياتها، وخصائصها، كما تمتعت بها الكائنات الحية السابقة، مِثلاً بمِثل، وعلى العكس من ذلك نجد حيوانات عليا كالديناصورات انقرضت، بينما ظلت الحشرات الدنيا كالذباب والبرغوث باقية، وبقي من هم أضعف من هؤلاء، يقول البروفسور الفرنسي " Etienme Rebaud " في كتابه: " هل يبقى الصالح أم غير الصالح " (ص 40) : " لا وجود للانتخاب الطبيعي في صراع الحياة بحيث يبقى الأقوياء ويزول الضعفاء، فمثلاً: ضب الحدائق يستطيع الركض بسرعة؛ لأنه يملك أربعة أرجل طويلة، ولكن هناك في نفس الوقت أنواع أخرى من الضب لها أرجلٌ قصيرة حتى لتكاد تزحف على الأرض، وهي تجر نفسها بصعوبة ... وهذه الأنواع تملك البنية الجسدية نفسها حت بالنسبة لأرجلها، وتتناول الغذاء نفسه، وتعيش في البيئة نفسها، فلو كانت هذه الحيوانات متكيفة مع بيئتها: لوجب عدم وجود مثل هذه الاختلافات بين أجهزتها ".
وعلى عكس مفهوم الانتخاب الطبيعي فإن كل هذه الأنواع ما تزال حية، وتتكاثر، وتستمر في الحياة، وهناك مثال: الفئران الجبلية التي تملك أرجلاً أمامية قصيرة، وهي لا تنتقل إلا بالطفر في " حركات غير مريحة "، ولا تستطيع كثير من الحشرات الطيران رغم امتلاكها لأجنحة كبيرة، فالأعضاء لم توجد في الأحياء كنتيجة لتكيف هذه الأحياء مع الظروف، بل على العكس فإن ظروف حياتها هي التي تتشكل وفقاً لهذه الأعضاء ووظائفها.
ثانياً: إذا كان التطور يتجه دائماً نحو الأصلح: فلماذا لا نجد القوى العاقلة في كثير من الحيوانات أكثر تطوراً وارتقاءً من غيرها، ما دام هذا الارتقاء ذا فائدة لمجموعها؟ ولماذا لم تكتسب القردة العليا من القوى العاقلة بمقدار ما اكتسبه الإنسان مثلاً؟ فالحمار منذ أن عُرف إلى الآن ما زال حماراً.
لقد عرض " داروين " لهذه المشكلة في كتابه، ولكنه لم يُجب عليها، وإنما علَّق بقوله: " أصل الأنواع " (ص 412) :
" إننا لا ينبغي لنا أن نعثر على جواب محدود ومعين على هذا السؤال، إذا ما عرفنا أننا نعجز عن الإجابة عن سؤال أقل من هذا تعقيداً ".
ثالثاً: وقد ثبت لدى الدراسة أن كثيراً من نباتات " مصر "، وحيواناتها، لم تتغير عن وضعيتها خلال قرون عديدة متطاولة، ويتضح ذلك من الأنسال الداجنة المنحوتة في بعض الآثار المصرية القديمة، أو التي حفظت بالتحنيط، وكيف أنها تشبه كل الشبَه الصور الباقية اليوم، بل ربما لا تكاد تفترق عنها بفارق ما.
والأمثلة كثيرة في هذا الموضوع.
رابعاً: هذه النظرية لا تخضع لتجربة، أو مشاهدة: المشاهدة الإنسانية لم ترصد أي ارتقاء أو أدنى اعتلاء.
لم ترصد البشرية في أي وقت عبر الزمن أي كائن ما قد تحول إلى كائن آخر بالترقي، أو بالتطور، خاصة وأنه يوجد العلماء المتخصصون الذين يراقبون أدنى تغيير حديث في المظهر الخارجي لتلك الكائنات أو تركيبها الداخلي - انظر كتاب الأسترالي Denton ... ".
انتهى
من مقال بعنوان " نقد نظريات التطور " بقلم: الدكتور محمد برباب.
http://www.55a.net/firas/arabic/print_details.php?page=show_det&id=1366
وفي المقال زيادة بيان، ونقدٌ للدارونية الجديدة، وأنه قد اكتشفت من الحفريات ما " أوقع الداروينية الجديدة في ما يسمَّى بـ " أزمة الداروينية الجديدة "، خصوصاً وأن هذه الأخيرة تلح على أن جميع الأنواع النباتية والحيوانية تتطور وبدون استثناء ".
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/224)
الإجماع على كروية الأرض
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك إجماع على كروية الأرض؟ وإذا كان فما هي الأدلة من القرآن أو السنة أن الأرض كروية أو بيضاوية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على كروية الأرض، ومن ذلك:
ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أبي الحسين ابن المنادي رحمه الله، حيث قال " وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة......
قال: وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة. قال: ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب " انتهى من "مجموع الفتاوى" (25/195) باختصار.
وسئل رحمه الله: عن رجلين تنازعا في " كيفية السماء والأرض " هل هما " جسمان كريان "؟ فقال أحدهما كريان؛ وأنكر الآخر هذه المقالة وقال: ليس لها أصل وردها فما الصواب؟ فأجاب: " السموات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء أئمة الإسلام: مثل أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف، وحكى الإجماع على ذلك الإمام أبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية، وإن كان قد أقيم على ذلك أيضا دلائل حسابية، ولا أعلم في علماء المسلمين المعروفين من أنكر ذلك، إلا فرقة يسيرة من أهل الجدل لما ناظروا المنجمين قالوا على سبيل التجويز: يجوز أن تكون مربعة أو مسدسة أو غير ذلك، ولم ينفوا أن تكون مستديرة، لكن جوزوا ضد ذلك، وما علمت من قال إنها غير مستديرة - وجزم بذلك - إلا من لا يؤبه له من الجهال ... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (6/586) .
وقال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: " مطلب بيان كروية الأرض:
قال أبو محمد وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به، وذلك أنهم قالوا: إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: أن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها ... " وساق جملة من الأدلة على ذلك "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (2/78) .
ومن الأدلة على كروية الأرض:
قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) الزمر/5.
وقد استدل ابن حزم وغيره بهذه الآية.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الأرض كروية بدلالة القرآن، والواقع، وكلام أهل العلم، أما دلالة القرآن، فإن الله تعالى يقول: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) ، والتكوير جعل الشيء كالكور، مثل كور العمامة، ومن المعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، وهذا يقتضي أن تكون الأرض كروية؛ لأنك إذا كورت شيئاً على شيء، وكانت الأرض هي التي يتكور عليها هذا الأمر لزم أن تكون الأرض التي يتكور عليها هذا الشيء كروية.
وأما دلالة الواقع فإن هذا قد ثبت، فإن الرجل إذا طار من جدة مثلاً متجهاً إلي الغرب خرج إلى جدة من الناحية الشرقية إذا كان على خط مستقيم، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان.
وأما كلام أهل العلم فإنهم ذكروا أنه لو مات رجل بالمشرق عند غروب الشمس، ومات آخر بالمغرب عند غروب الشمس، وبينهما مسافة، فإن من مات بالمغرب عند غروب الشمس يرث من مات بالمشرق عند غروب الشمس إذا كان من ورثته، فدل هذا على أن الأرض كروية، لأنها لو كانت الأرض سطحية لزم أن يكون غروب الشمس عنها من جميع الجهات في آن واحد، وإذا تقرر ذلك فإنه لا يمكن لأحد إنكاره، ولا يشكل على هذا قوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) لأن الأرض كبيرة الحجم، وظهور كرويتها لا يكون في المسافات القريبة، فهي بحسب النظر مسطحة سطحاً لا تجد فيها شيئاً يوجب القلق على السكون عليها، ولا ينافي ذلك أن تكون كروية، لأن جسمها كبير جداً، ولكن مع هذا ذكروا أنها ليست كروية متساوية الأطراف، بل إنها منبعجة نحو الشمال والجنوب، فهم يقولون: إنها بيضاوية، أي على شكل البيضة في انبعاجها شمالاً وجنوباً " انتهى من "فتاوى نور على الدرب".
وبهذا تعلم أن كون الأرض كروية، لا ينافي كونها كالبيضة، وإنما القول الباطل هو الزعم بأنها مسطحة كما كانت تعتقد الكنيسة، ولهذا كانت تلعن وتحرق من يقول بكرويتها من العلماء، وينظر: "العلمانية نشأتها وتطورها" (1/130) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/225)
الأشياء التي خلقها الله بيده
[السُّؤَالُ]
ـ[يروي الإمام الذهبي رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان) تفسير ابن جابر (23/185) ، الدارمي في رد على المريسي (ص90) ، الأسماء والصفات للبيهقى (ص233) فأرجو توضيح هذا الأمر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي ثبت لنا – بعد الجمع والدراسة – أن الله سبحانه وتعالى قد خص أشياء معينة بأنه خلقها أو عملها بـ " يده " سبحانه وتعالى دون سائر المخلوقات، وهذه الأمور هي:
أولاً: خلق آدم.
دليل ذلك قوله عز وجل: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) ص/75.
ثانياً: غرس جنة عدن بيده سبحانه.
دليله ما ورد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ: غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) رواه مسلم برقم (312) .
ثالثاً: كتب الألواح لموسى عليه السلام بيده.
دليله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ! أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ.
فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَابْنِ عَبْدَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا: خَطَّ، وقَالَ الْآخَرُ: كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ)
رواه مسلم برقم (2652) .
رابعاً: القلم.
دليله أثر مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله موقوفا عليه – وهو الأثر الوارد في السؤال - قال: (خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان) رواه الطبري في "جامع البيان" (20/145) ، والدارمي في "نقضه على المريسي" (ص/261) ، وأبو الشيخ الأصفهاني في "العظمة" (2/579) ، والآجري في "الشريعة" (رقم/750) ، والحاكم في "المستدرك" (2/349) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/126) .
جميعهم من طرق عن عُبيد المُكْتِب عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما به.
وهذا إسناد صحيح، عبيد هو ابن مهران المكتب الكوفي وثقه النسائي وابن معين، انظر "تهذيب التهذيب" (7/68) .
لذلك قال الحاكم بعد إخراجه للأثر: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " انتهى. ووافقه الذهبي.
وجاء نحوه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن ميسرة ووردان بن خالد وغيرهم من التابعين.
انظر "الدر المنثور" للسيوطي (3/549) (7/207) ، فقد جمع كثيراً من هذه الآثار المتعلقة بالموضوع نفسه.
وقد تلقى أهل السنة هذا الأثر بالقبول وأوردوه في مصنفاتهم، وردوا به على الجهمية في إنكارهم صفة اليد لله سبحانه.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، بعد روايته للأثر: " أفلا ترى أيها المريسي كيف ميز ابن عمر وفرق بين آدم وسائر الخلق في خلقه اليد أفأنت أعلم من ابن عمر بتأويل القرآن وقد شهد التنزيل وعاين التأويل وكان بلغات العرب غير جهول ".
"نقض الدارمي على بشر المريسي" (35) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها، فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه....، ثم نقل رحمه الله – أي: شيخ الإسلام - أثر الدارمي " انتهى.
"بيان تلبيس الجهمية" (1/513) .
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا أمران:
1- ورد في ذكر هذه الأشياء التي خلقها الله بيده أحاديث مرفوعة تجمعها في سياق واحد، ولكنها أحاديث ضعيفة، فلا حاجة لذكرها هنا.
2- المفهوم المتفق عليه من هذا التخصيص أنه لمزيد تكريم وتشريف وتعظيم، لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، خص هذه الأربعة بأنه خلقها بيده ولم يجعل خلقها بكلمة كن كسائر المخلوقات، فلا يجوز الخوض في تفصيل معاني هذا التخصيص، وكيفيته، بل يجب التسليم به، مع تنزيه الله تعالى عن كل نقص وعيب وتشبيه.
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله: " ثم إنا ما عرفنا لآدم من ذريته ابنا أعق ولا أحسد منه؛ إذ ينفي عنه أفضل فضائله وأشرف مناقبه، فيسويه في ذلك بأخس خلق الله لأنه ليس لآدم فضيلة أفضل من أن الله خلقه بيده من بين خلائقه، ففضله بها على جميع الأنبياء والرسل والملائكة؛ ألا ترون موسى حين التقى مع آدم في المحاورة: احتج عليه بأشرف مناقبه فقال: أنت الذي خلقك الله يده، ولو لم تكن هذه مخصوصة لآدم دون من سواه ما كان يخصه بها فضيلة دون نفسه " انتهى.
"نقض الدارمي على بشر المريسي" (1/255) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/226)
روايات مكذوبة أن الأرض موضوعة على ظهر ثور
[السُّؤَالُ]
ـ[مررت برواية مفادها أن الأرض موضوعة على ظهر ثور، وعندما يحرك الثور رأسه يحدث زلزالا. أظن أنني رأيت هذا في ابن كثير (2/29 و 1/50) . هل يمكنكم تفسير هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما ذكره السائل هنا لم يرد بإثباته دليل من القرآن الكريم، ولا من السنة النبوية الصحيحة، وغاية ما ورد فيه آثار عن بعض الصحابة والتابعين.
فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق " النون " – يعني الحوت - فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، قال: وقرأ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)
أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/307) وابن أبي شيبة (14/101) وابن أبي حاتم – كما في تفسير ابن كثير (8/210) – والطبري في "جامع البيان" (23/140) والحاكم في "المستدرك" (2/540) ، وغيرهم كثير، جميعهم من طريق الأعمش، عن أبي ظبيان حصين بن جندب، عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم. كما ورد ذلك عن مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي. وانظر: "الدر المنثور" (8/240) ، وتفسير ابن كثير (8/185) في بداية تفسير سورة القلم.
وهذا الأثر – كما ترى – موقوف من كلام ابن عباس، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه عن كعب الأحبار، أو عن كتب بني إسرائيل التي تحتوي على كثير من العجائب والغرائب والكذب، يدل على ذلك التفاصيل التي تذكرها بعض كتب التفسير في هذا الموضوع:
يقول الإمام البغوي رحمه الله:
" وقالت الرواة: لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكًا، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثورًا له أربعون ألف قرن، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها مسيرة خمسمائة عام، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسًا، فإذا تنفس مدَّ البحر، وإذا رد نفسه جزر البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة) ، ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونًا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة. يقال: فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان، قال لها الجبار جل جلاله: كوني فكانت.
قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوِيثا – اسم الحوت - من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لوِيثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه، فعج الحوت إلى الله منها، فأذن لها الله فخرجت.
قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت " انتهى.
"معالم التنزيل" (8/186) ونحوه في تفسير القرطبي (29/442) ، وكلام كعب الأحبار رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/8) ، وعلق محققو تفسير القرطبي (1/385) : كل من الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ومحمد رضوان عرقسوسي على هذا الأثر بقولهم: " خبر إسرائيلي لا أساس له، وكان من الأولى بالمصنف أن ينزه كتابه عن مثل هذا " انتهى.
فانظر كيف أن القصة زاد فيها الرواة وفصلوا، ثم رجع الأمر إلى كعب الأحبار الذي هو مصدر كثير من العجائب المنسوبة إلى هذا الدين.
ولذلك أشار الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/15) – بعد ذكر مجموعة من الغرائب منها هذا الحديث – إلى أنها من الإسرائيليات، فقال: " هذا الإسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة، وكأن كثيرا منها متلقى من الإسرائيليات " انتهى.
وقد وردت بعض الأحاديث المرفوعة المنكرة في هذا المعنى، منها ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض على الماء، والماء على صخرة، والصخرة على ظهر حوت يلتقي حرفاه بالعرش، والحوت على كاهل ملك قدماه في الهواء) وهو حديث موضوع، انظر: "السلسلة الضعيفة" (رقم/294) .
وإذا كان مثل ذلك لم يصح فيه شيء عن الشرع المعصوم، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما غاية ما فيه آثار عن بعض السلف، ومن الظاهر أن مردها جميعا إلى الأخبار عن بني إسرائيل؛ فالواجب في مثل ذلك الإمساك عن الجزم فيه بشيء، وتفويض العلم بشأنه إلى علام الغيوب، كما أدبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْآيَةَ) , رواه البخاري (4485) .
وفي رواية أخرى بيان سبب التوقف عن تصديق أو تكذيب مثل ذلك:
(فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ) رواه أبو داود (3644) وأحمد (16774) ، وصححه الألباني في الصحيحة (2800) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/227)
لماذا الأسبوع سبعة أيام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء في ستة أيام، فلماذا يتكون الأسبوع من سبعة أيام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا يمكننا الجزم بشيء عن التقسيم السباعي لأيام الأسبوع، وعن زمن بداية هذا التقسيم، هل كان قبل خلق السماوات والأرض، أم إن خلق السماوات والأرض هو الذي أدى إلى هذا التقسيم، والسبب في ذلك أننا لم نقف على دليل صريح ينص على الجزم في هذا الشأن، لكن الذي يدل عليه النظر في التواريخ، وعادات الأمم وأخبارها: أن تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام مرتبط بأمر الدين، ومأخوذ منه، وله تعلق بأخباره وأحكامه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ مجموع الفتاوى (7/95) ـ:
" فكل أمة ليس لها كتاب ليس في لغتها أيام الأسبوع، وإنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة، لأن ذلك عرف بالحس والعقل، فوضعت له الأمم الأسماء، لأن التعبير يتبع التصور، وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع، لم يُعرف أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه، ويحفظون به الأسبوع الأول الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم؛ ففى لغة العرب والعبرانيين ومن تلقى عنهم: أيامُ الأسبوع، بخلاف الترك ونحوهم فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبروا عنه ".
ويقول الدكتور جواد علي:
" يقسم الشهر إلى أربعة أقسام، كل قسم منها هو أسبوع، ويتكون من سبعة أيام.
وتعزى فكرة هذا التقسيم إلى البابليين، ولكن ضبط الأسابيع وتتابعها على النحو المعروف حتى اليوم هو نظام ظهر بعدهم بأمد. وقد ذكر الأسبوع "شبوعة" Shagu'a في التوراة، في سفر التكوين. وعلى أساس الجمع بين السبت اليهودي وقصة الخلق نظم الأسبوع بحسب العرف الشائع اليوم ". انتهى.
"المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (16/96)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/228)
هل النظر إلى الكعبة عبادة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل النظر للكعبة عبادة أو فيه فضل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يصح حديث في فضل النظر إلى الكعبة، لكن وردت فيه بعض الآثار، يأتي ذكر شيء منها.
ومما ورد في النظر إلى الكعبة: ما رواه أبو الشيخ من حديث عائشة رضي الله عنها: (النظر إلى الكعبة عبادة) لكنه حديث ضعيف كما قال الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم (5990) .
وما رواه الديلمي في الفردوس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (خمس من العبادة: قلة الطعم [أي: الطعام] والقعود في المساجد، والنظر إلى الكعبة، والنظر في المصحف والنظر إلى وجه العالم) وهو حديث ضعيف جدا. "ضعيف الجامع الصغير" رقم (2855) .
وأما الآثار: فقد قال السيوطي في "الدر المنثور": " وأخرج الأزرقي والجندي عن ابن عباس قال: النظر إلى الكعبة محض الإيمان.
وأخرج الأزرقي والجندي عن ابن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه.
وأخرج الأزرقي والجندي من طريق زهير بن محمد عن أبي السائب المدني قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا تحاتت ذنوبه كما يتحات الورق من الشجر. قال: والجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت.
وأخرج ابن أبي شيبة والأزرقي والجندي والبيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال: النظر إلى البيت عبادة، والناظر إلى البيت بمنزلة القائم الصائم المخبت المجاهد في سبيل الله.
وأخرج الجندي عن عطاء قال: إن نظرة إلى هذا البيت في غير طواف ولا صلاة تعدل عبادة سنة، قيامها وركوعها وسجودها.
وأخرج ابن أبي شيبة والجندي عن طاوس قال: النظر إلى هذا البيت أفضل من عبادة الصائم القائم الدائم المجاهد في سبيل الله.
وأخرج الأزرقي عن إبراهيم النخعي قال: الناظر إلى الكعبة كالمجتهد في العبادة في غيرها من البلاد.
وأخرج ابن أبي شيبة والأزرقي عن مجاهد قال: النظر إلى الكعبة عبادة " انتهى.
وهذه الآثار – إن صحّت – فلا تخلو من شيء من المبالغة، وفضائل الأعمال لا تثبت بمجرد رأي أو اجتهاد، بل لا بد من ثبوت ذلك عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما لا يوجد في هذه المسألة.
ولذلك قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ومن العجيب أن الذين قالوا: ينظر إلى الكعبة [أي في الصلاة بدلا من النظر إلى موضع السجود] علل بعضهم ذلك بأن النظر إلى الكعبة عبادة، وهذا التعليل يحتاج إلى دليل، فمن أين لنا أن النظر إلى الكعبة عبادة؟ لأن إثبات أي عبادة لا أصل لها من الشرع فهو بدعة " انتهى من "الشرح الممتع" (3/41) .
لكن: إذا اقترن النظر بالتفكر في البيت، وما جعل الله له من المهابة والتعظيم، فهذا التفكر عبادة يثاب المرء عليها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/229)
هل توجد حياة على الكواكب الأخرى؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل توجد حياة علي الكواكب الأخرى أو في المجرات الأخرى غير المجرة الشمسية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما السموات السبع، فهي عامرة بالملائكة، كما قال تعالى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الشورى/ 5، وقال: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) فصلت/7.
وروى الترمذي (2312) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ) حسنه الألباني في صحيح الترمذي.
(أَطَّتْ) أي أصدرت صوتاً من كثرة الملائكة الذين عليها.
وفي الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة في قصة الإسراء والمعراج: ( ... فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ) البخاري (3207) ومسلم (164) .
هذا بالنسبة للسماوات، وأما الكواكب والمجرات الأخرى، فجوابنا فيها أن نقول: الله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/230)
هل الكرة الأرضية موجودة في السماء الدنيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الكرة الأرضية موجودة في السماء الدنيا أم تحتها مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء والعروج لا يكون إلا من الأسفل إلى الأعلى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السماء الدنيا محيطة بالأرض، وهي عالية عليها، فحيثما ذهب الإنسان في الأرض كانت السماء فوقه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض، والسماء فوق الأرض، وهذا معلوم قبل أن يُعلم كون السماء محيطة بالأرض. . . والعلو معنى معقول لا يشترط فيه الإحاطة، وإن كانت الإحاطة لا تناقضه. . . ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض، والسحاب فوق الأرض قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض" اهـ. "درء التعارض" (6 / 336، 337) .
وذكر ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (4/1308) أن القول بأن السماء ليست محيطة بالأرض، وإنما هي سقف لها فقط، ذكر أن هذا القول مخالف للإجماع ولما دل عليه العقل والحس.
وقال ابن حزم:
"فالأرض على هذا البرهان الشاهد هي مكان التحت للسموات ضرورة، فمِن حيث كانت السماء فهي فوق الأرض، ومِن حيث قابلتْها الأرض فالأرض تحت السماء ولا بد، وحيث ما كان ابن آدم فرأسه إلى السماء ورجلاه إلى الأرض" اهـ. "الفِصَل بين الملل والنِّحَل" (2 / 243) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/231)
فلينظر الإنسان مما خلق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل خلق الله الإنسان من طين أم خلقه من شيء آخر لم يتم وصفه في القرآن؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
خلق الله تعالى آدم عليه السلام من الأرض أي مما تحويه وذلك قوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} طه/55، فخلقه من ترابها وهذا قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} آل عمران/59.
وفي ذلك آيات في القرآن كثيرة.
ثم جبلت تربتها بالماء فكانت طيناً وفي ذلك يقول رب العالمين: {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون} الأنعام/2.
وفي ذلك أيضاً آيات كثيرة أيضاً.
وكان الطين لازباً - أي: لاصقاً، وقيل: لزجاً - وفي هذا يقول تعالى: {إنا خلقناهم من طين لازب} الصافات/11.
قال ابن منظور: ولَزِبَ الطينُ يَلْزُبُ لُزُوباً، ولزُبَ: لَصِقَ وصَلُب َ، وفي حديث عليّ عليه السلام: دخَل بالبَلَّةِ حتى لَزَبَتْ أَي لَصقتْ ولزمت ْ. وطينٌ لازبٌ أَي لازقٌ. قال الله تعالى: من طِينٍ لازبٍ. " لسان العرب " 1/738.
ثم صار هذا الطين اللازب منتناً فقال تعالى في ذلك: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون} الحجر/26.
قال الرازي:
الحَمَأُ: بفتحتين والحَمَأةُ بسكون الميم الطين الأسود. " مختار الصحاح " ص/64.
وقال في " لسان العرب " 1/61:
حمأ: الحَمْأَةُ، والحَمَأُ: الطين الأَسود المُنتن؛ وفي التنزيل: {من حَمَإٍ مسنون} .
وقال في " لسان العرب " (13 / 227) :
المَسْنون: المُنْتِن، وقوله تعالى {مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ} : قال أَبو عمرو: أَي متغير منتن؛ وقال أَبو الهيثم: سُنَّ الماءُ فهو مَسْنُون أَي: تغيَّر.
وحيث أن هذا الطين كان مخلوطاً بالرمل: فهذا هو الصلصال.
قال الرازي:
الصَّلْصالُ: الطين الحر خُلط بالرمل فصار يَتَصَلْصَلُ إذا جف، فإذا طُبخ بالنار فهو الفخار. " مختار الصحاح " 1/154
وقال في " لسان العرب " (11 / 382) :
والصَّلْصالُ مِن الطِّين: ما لم يُجْعَل خَزَفاً، سُمِّي به لَتَصَلْصُله؛ وكلُّ ما جَفَّ من طين أَو فَخَّار فقد صَلَّ صَلِيلاً، وطِينٌ صِلاَّل ومِصْلالٌ أَي يُصَوِّت كما يصوِّت الخَزَفُ الجديد.
ثم شبه الصلصال بالفخار وذلك قوله تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار} الرحمن/14.
وهذا كله يصدقه حديث أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب ". رواه الترمذي (2955) وأبو داود (4693) . والحديث: قال عنه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (14/29) والحاكم (2/288) والألباني في صحيح أبي داود 3926.
هذا خلق آدم عليه السلام: من الأرض - من ترابها -، ثم جُبل بالماء فكان طيناً ثم صار طيناً أسود منتناً وكون ترابه من الأرض التي بعضها رمل لما جبل كان صلصالاً كالفخار.
ولذلك لما وصف الله خلق آدم في القرآن في كل مرة وصفه بأحد أطواره التي مرَّت بها طريقة خلقه وتكوينة طينته فلا تعارض في آيات القرآن.
ثم أصبح أبناء آدم بعد ذلك يتكاثرون وصار خلقهم من الماء وهو المني الذي يخرج من الرجال والنساء وهو معروف.
وهذا يبينه القرآن في قوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهراً} النور/54، وقوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} السجدة/8.
قال ابن القيم رحمه الله:
لما اقتضى كمال الرب تعالى جل جلاله وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة وإنشاءهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن أخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدَّره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصَّلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها …
- ثم ذكر تناسل الخلق بالجماع وإنزال المني -. " التبيان في أقسام القرآن " (ص 204) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(9/232)
أيهما خلق أولا السماء أم الأرض؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل خلق الله السماوات أولا ثم الأرض؟ أسأل عن ذلك لأني حائر بسبب الآيات التالية، قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم) البقرة/29، وقوله: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها) النازعات/27-30.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دل القرآن العظيم في موضعين منه على أن الأرض مخلوقة قبل السماء، وذلك في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة/29، وقوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت/9-11.
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى في سورة النازعات: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) النازعات/27- 31
فالأرض خلقت أولا، غير مدحُوّة، ثم خلقت السماء، ثم دُحيت الأرض، وذلك بإخراج الماء منها والمرعى، أي الأشجار والزراعات ونحوها.
ومعنى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أي: أصل الأرض، مع تقدير ما سيكون عليها من أرزاق وغير ذلك. فـ (خَلَقَ) هنا بمعنى: قدّر، وهذا موافق لقوله في سورة فصلت: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) .
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: " اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة [أي آية سورة فصلت] وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحُوَّة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال: (والأرض بعد ذلك دحاها) ولم يقل: خلقها، ثم فسر دحوه إياها بقوله: (أخرج منها ماءها ومرعاها) وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم " انتهى.
ثم ذكر آية سورة البقرة، وبين أن المراد بالخلق فيها: التقدير، أو خلق أصل الأرض.
وذكر وجها آخر للجمع، وهو أن قوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) أي مع ذلك، فلفظة (بعد) بمعنى (مع) ، مثل قوله تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم) . وهذا الجمع يُستأنس له بالقراءة الشاذة، وبها قرأ مجاهد (والأرض مع ذلك دحاها) . فتكون آية النازعات لا ذكر فيها للترتيب بين خلق السموات والأرض، وحينئذ فلا تعارض بينها وبين آية البقرة وفصلت.
ينظر: "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، مطبوع مع تفسيره "أضواء البيان" (10/16- 18) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/233)
هل الزلازل الأخير سببه اختلال دوران الأرض وأنها في طريقها إلى الدوران العكسي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشرت في الآونة الأخيرة رسالة على الهاتف المحمول (الجوال) تتحدث عن أسباب الزلزال الذي حدث في قارة آسيا، ونسب هذا القول إلى الدكتور زغلول النجار وكان نص الرسالة: د. زغلول النجار: سبب زلزال آسيا هو اختلال لدوران الأرض بسبب تباطئها مما يدل على أن الأرض في طريقها إلى الدوران العكسي والدخول في العلامات الكبرى وبداية لكوارث طبيعية إلى أن تشرق الشمس من مغربها. انشر واستغفر. ما رأيكم في هذه الرسالة وهل هي صحيحة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما نسب في هذه الرسالة إلى الدكتور زغلول النجار، غير صحيح، وقد أنكره الدكتور نفسه، حين سئل عنه في برنامج "منبر الجزيرة: التجهيزات العربية لمواجهة الكوارث" على قناة الجزيرة الفضائية.
فأجاب: " والله أخي الكريم هذا الموضوع عارٍ عن الصحة تماما، جملة وتفصيلا ويبدو أن هناك شياطين من شياطين الإنس يريدون أن يروجوا بعض هذه الخرافات على لساني، لإدراكهم لمدى حب الناس لي من فضل الله وكرمه، فيصدقون هذا الكلام.
أولا: أنا أكرر كثيرا أن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغير سنن الدنيا تماما.
ثانيا: أن الآخرة كما وصفها القرآن الكريم لا تأتي إلا بغتة، يصفها ربنا تبارك وتعالى بقوله عز من قائل: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً) .
ثالثا: أن كتلة الأرض تقدر بحوالي ستة آلاف بليون مليون مليون طن، هذا الزلزال على قوته لا يمكن أن يغير من سرعة دوران الأرض أو يبطئ منها.
بعض الناس قالوا - وهذا موجود على الإنترنت - صحيح لو كان الانفجار هذا في عكس اتجاه دوران الأرض فهو يبطئ من سرعة الدوران وإذا كان في اتجاه دوران الأرض فهو يسرع من سرعة دوران الأرض حول محورها وفي الحالين التباطؤ أو التسارع لا يتجاوز واحد على المليون من الثانية فكيف يمكن أن يقال إن هذا من العلامات الكبرى للساعة، وأن العلامات الكبرى قد حددها رسولنا صلى الله عليه وسلم بدقة شديدة ولا مجال للاجتهاد بجوار أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. " انتهى.
وقد بين الدكتور في حوارات أخرى سبب الزلزال من الناحية العلمية، مع بيان أنه عقوبة على المعاصي والآثام.
قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/30.
وقال: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم/41.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/234)
أخبار الأشجار
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تعطيني أدلةً من القرآن والسنة على ما يلي:
شجرة طوبى - شجرة الخلد - شجرة المعرفة - الشجرة العظيمة - أطول شجرة في الجنة (السماء) . جزاك الله خيراً..
هذه الأشجار مذكورة عند المسلمين، وأنا أبحث عن مدى صدق ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد ورد في القرآن والسنّة ذكر لأشجار عديدة فيما يلي عرض لبعضها:
شجرة النخلة
وهي الشجرة الطيبة التي ضرب الله بها المثل لكلمة التوحيد عندما تستقر في القلب الصّادق فتثمر الأعمال المقويّة للإيمان
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) سورة إبراهيم
وهي الشجرة التي ضربها الله مثلا للمؤمن في عموم نفعها وبقائها وتنوّع فائدتها كما جاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ قَالَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ البخاري 60
شجرة الزيتون المباركة التي ضرب الله بها المثل في صفاء زيتها
اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) سورة النور
وقال تعالى في سورة المؤمنون
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (20)
وعَنْ أَبِي أَسِيدٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ رواه الترمذي 1775 وهو في صحيح الجامع
الشجرة التي أنبتها الله ليونس عليه السلام غذاء وعلاجا
كما في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ. إِلَى قَوْلِهِ: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) سورة الصافات
قال المفسّرون: اليَقْطِين هو القرع، وذكر بعضهم في القرع فوائد منها: سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا وقشره أيضا وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة. تفسير ابن كثير
الشجرة العظيمة في السماء التي رأى نبينا محمد أباه إبراهيم عليهما السلام
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة الرؤيا قال: ".. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالا نَعَمْ.. وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلادُ النَّاسِ.. " بخاري 1270
شجرة سدرة المنتهى التي رأى النبي صلى الله عليه وسلم عندها جبريل لما عرج به إلى السماء
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) سورة النجم
وجاء في تفسير قوله تعالى (إذ يغشى السدرة ما يغشى) في حديث أبي ذر عند الإمام البخاري " فغشيها ألوان لا أدري ما هي..، وفي حديث أبي سعيد وابن عباس: يغشاها الملائكة، وفي رواية مسلم " فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت , فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج المشهور لما عرج به جبريل إلى السماء ينفذ به من سماء إلى سماء بأمر الله عزّ وجلّ حتى دخل السماء السابعة قال: ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ قَالَ هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى.. " رواه البخاري 3598
وسبب تسميتها سدرة المنتهى كما جاء في حديث ابن مسعود في صحيح الإمام مسلم: " وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها , وإليها ينتهي ما يهبط فيقبض منها " وقال النووي سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها , ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهي الشجرة التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه , وقيل إليها منتهى أرواح الشهداء.
وقوله: (فإذا نبقها) النبق معروف وهو ثمر السدر. . وقوله: (مثل قِلال هَجَر) قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قُلَّة.. هي الجِرار , يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال , وكانت معروفة عند المخاطبين فلذلك وقع التمثيل بها ,.. وقوله: " هجر " اسم بلدة. وقوله: (وإذا ورقها مثل آذان الفيلة) أي ورقها في الضّخامة مثل آذان الفيلة.
شجرة طوبى في الجنة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ رواه البخاري 4502
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " رواه ابن حبان وهو في صحيح الجامع 3918
وعن عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَوْضِ وَذَكَرَ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَالَ الأَعْرَابِيُّ فِيهَا فَاكِهَةٌ قَالَ نَعَمْ وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى.. قَالَ أَيُّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ قَالَ لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيْتَ الشَّامَ فَقَالَ لا قَالَ تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ تُدْعَى الْجَوْزَةُ تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ وَيَنْفَرِشُ أَعْلاهَا قَالَ مَا عِظَمُ أَصْلِهَا قَالَ لَوْ ارْتَحَلَتْ جَذَعَةٌ مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ مَا أَحَاطَتْ بِأَصْلِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا قَالَ فِيهَا عِنَبٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ قَالَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الأَبْقَعِ وَلا يَعْثُرُ قَالَ فَمَا عِظَمُ الْحَبَّةِ قَالَ هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطُّ عَظِيمًا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ قَالَ اتَّخِذِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا قَالَ نَعَمْ قَالَ الأَعْرَابِيُّ فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ لَتُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي قَالَ نَعَمْ وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ رواه الإمام أحمد
شجرة الزّقوم وهي من طعام أهل النار
وهي التي قَالَ الله فيها (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) والتي قَالَ فيها أيضا
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) سورة الواقعة
وقال تعالى: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) سورة الدخان
وقال تعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ (68) سورة الصافات
الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أصحابه على الموت وعدم الفرار
كما وقع في غزوة الحديبية لما بلغه خيانة المشركين، وهي الشجرة المذكورة في قوله تعالى: (َلقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) . سورة الفتح
الشجرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عندها
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ قَالَ كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا البخاري 3319
الشجرة التي كلم الله عندها موسى عليه السلام وبعثه نبياً
قال تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) سورة القصص
الشجرة التي نهى الله الأبوين عن الأكل منها
قال الله تعالى: (وَيَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) سورة الأعراف
وقال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) سورة طه
وقال عزّ وجلّ: (فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) سورة الأعراف
شجرة الأَرْز التي ضرب الله بها مثل الكافر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلاءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ لا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ رواه مسلم 5024
وفي رواية: (ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة) . وقوله صلى الله عليه وسلم (الأرزة) فقال أهل اللغة والغريب: شجر معروف يقال له: الأرزن يشبه شجر الصنوبر , بفتح الصاد يكون بالشام وبلاد الأرمن وقوله صلى الله عليه وسلم (تستحصد) أي: لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يبسه.
وأما (المجذبة) فهي الثابتة المنتصبة، والانجعاف: الانقلاع.
قال العلماء: معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله , وذلك مكفر لسيئاته , ورافع لدرجاته , وأما الكافر فقليلها , وإن وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته , بل يأتي بها يوم القيامة كاملة.
مسلم بشرح النووي
الشجرة في الرؤيا الصالحة التي تكلمت بما يُقال في سجود التلاوة
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ.. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ قَالَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ رواه الترمذي 528
الشجرتان اللتان التأمتا على النبي صلى الله على النبي صلى الله عليه وسلم لستره عند قضاء حاجته
وقد جاء خبر ذلك في قصة صحيحة رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال:.. نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لأَمَ بَيْنَهُمَا يَعْنِي جَمَعَهُمَا فَقَالَ الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا قَالَ جَابِرٌ فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ فَيَتَبَعَّدَ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ.. صحيح مسلم 5328
الأشجار ذات الثمار خبيثة الرائحة التي نُهي المسلمون عن قربان المساجد إذا أكلوها
عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَالَ أَوَّلَ يَوْمٍ الثُّومِ ثُمَّ قَالَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ فَلا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسُ النسائي 700
الشجر الذي يكشف اليهود للمسلمين ليقتلوهم في الملحمة الكبرى في آخر الزمان إلا شجر الغرقد
وَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ وَرَاءَ الْحَجَرِ أَوْ الشَّجَرَةِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ " رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح
كانت تلك طائفة من أخبار الأشجار في الكتاب والسنة فيها عبر وعظات وأمثال نسأل الله أن ينفعنا بها وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/235)
من هو أول المخلوقات
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يمكن الجمع بين الأحاديث الآتية: (كان الله ولم يك شيء قبله , وكان عرشه على الماء وكتب بيده كل شيء ثم خلق السموات والأرض) . وحديث: (أول ما خلق الله القلم) . فظاهر هذه الأحاديث متعارض في أي المخلوقات أسبق في الخلق , وكذلك ما جاء أن أول المخلوقات هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الأحاديث متفقة مؤتلفة وليست بمختلفة , فأول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش واستوى عليه بعد خلق السموات , كما قال - تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) هود/7.
وأما بالنسبة للقلم فليس في الحديث دليل على أن القلم أول شيء خلق , بل معنى الحديث أنه في حين خلق القلم أمره الله بالكتابة فكتب مقادير كل شيء.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فهو كغيره من البشر , خلق من ماء أبيه عبد الله بن عبد المطلب ولم يتميز على البشر من حيث الخلقة , كما قال عن نفسه: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون) . فهو عليه الصلاة والسلام يجزع , ويعطش ويبرد ويصيبه الحر, ويمرض ويموت فكل شيء يعتري البشرية من حيث الطبيعة البشرية فإنه يعتريه , لكنه يتميز بأنه يوحى إليه وأنه أهل للرسالة كما قال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/124
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ج/1 ص 62-63.(9/236)
خلق الإنسان
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لك أن تخبرني عن بداية خلق الإنسان؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته.
وقد خلق الله آدم من تراب كما قال سبحانه: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال كن فيكون) آل عمران/59.
ولما أتم الله خلق آدم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس فقد كان حاضراً ولكنه أبى واستكبر عن السجود لآدم: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) ص/71-74.
ثم أخبر الله الملائكة بأنه سيجعل آدم خليفة في الأرض بقوله: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة/30.
وعلم آدم جميع الأسماء: (وعلم آدم الأسماء كلها) البقرة/31.
ولما امتنع إبليس من السجود لآدم طرده الله ولعنه: (قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) ص/77-78.
ولما علم إبليس بمصيره سأل الله أن ينظره إلى يوم البعث: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم) ص/79-81.
ولما أعطاه الله ذلك أعلن الحرب على آدم وذريته يزين لهم المعاصي ويغريهم بالفواحش: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين) ص/82-83.
وقد خلق الله آدم , وخلق منه زوجته وجعل من نسلهما الرجال والنساء كما قال سبحانه: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء/1.
ثم أسكن الله آدم وزوجه الجنة امتحاناً لهما فأمرهما بالأكل من ثمار الجنة ونهاهما عن شجرة واحدة: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة/35.
وقد حذر الله آدم وزوجه من الشيطان بقوله: (يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) طه/117.
ثم إن الشيطان وسوس إلى آدم وزوجه وأغراهما بالأكل من الشجرة المنهي عنها فنسي آدم وضعفت نفسه فعصى ربه وأكلا من الشجرة: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى) طه/120-121.
فناداهما ربهما وقال: (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) الأعراف/22.
ولما أكلا من الشجرة ندما على فعلهما وقالا: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف/23.
وقد كانت معصية آدم عن شهوة لا عن استكبار , لذا أرشده الله إلى التوبة وقبلها منه: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة/37.
فكانت هذه سنة جارية لآدم وذريته من عصى ثم تاب صادقاً تاب الله عليه: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) الشورى/25.
ثم أهبط الله آدم وزوجته وإبليس إلى الأرض وأنزل عليهم الوحي وأرسل إليهم الرسل فمن آمن دخل الجنة ومن كفر دخل النار: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة/38-39.
ولما أهبط الله الجميع إلى الأرض بدأ الصراع بين الإيمان والكفر بين الحق والباطل بين الخير والشر وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) الأعراف/24.
والله على كل شيء قدير خلق آدم بلا أب ولا أم وخلق حواء من أب بلا أم وخلق عيسى من أم بلا أب وخلقنا من أب وأم.
وقد خلق الله آدم من تراب ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين كما قال سبحانه: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) السجدة/7-9.
وكيفية خلق الإنسان في الرحم والمراحل التي يمر بها , في غاية الإعجاز وقد ذكرها الله بقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون/12-14.
والله وحده يخلق ما يشاء ويعلم ما في الأرحام ويقدر الأرزاق والآجال: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قير) الشورى/49-50.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكاً يقول يا رب نطفة , يا رب علقة , يا رب مضغة فإذا أراد أن يقضي خلقه: أذّكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه) رواه البخاري/318.
وقد أكرم الله بني آدم فسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) لقمان/20.
وميز الله الإنسان وأكرمه بالعقل الذي يعرف به ربه , وخالقه ورازقه ويعرف به الخير والشر وما ينفع وما يضر وما يحل وما يحرم.
وما كان الله ليخلق الإنسان ويتركه هملاً بلا منهاج يسير عليه بل أنزل الله الكتب وأرسل الرسل لهداية لبشرية إلى الصراط المستقيم.
وقد فطر الله الناس على التوحيد وكلما انحرفوا عنه بعث الله نبياً يردهم إلى الصراط المستقيم أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة/213.
وجميع الرسل يدعون إلى حقيقة واحدة هي عبادة الله وحده والكفر بما سواه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل/36.
والدين الذي بعث الله به الأنبياء والرسل واحد هو الإسلام: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران/19.
وقد ختم الله الكتب السماوية بالقرآن العظيم مصدقاً لما قبله من الكتب وهداية للناس كافة: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) إبراهيم/1.
وختم الله الأنبياء والرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم: (ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الأحزاب/40.
وأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الأعراف/158.
فالقرآن الكريم آخر الكتب السماوية وأعظمها ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء والرسل وأفضلهم.
وقد نسخ الله جميع الكتب السماوية بالقرآن فمن لم يتبع القرآن ويدخل في الإسلام , ويؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ويتبعه فلن يقبل منه عمله: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران/85.
والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مؤكد لما جاء به الأنبياء , قبله في أصول الدين ومكارم الأخلاق كما قال سبحانه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى/13.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.(9/237)
قتل الوزغ باليد
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صح قتل الوزغ باليد؟ وهل ثبت في قتله أجر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قتل الوزغ مشروع بأدلة كثيرة وذلك بآلة ونحوها وليس في شيء من الروايات تخصيص اليد أو الندب إلى قتله باليد المباشرة ولا أظن ذلك صحيحاً ولا وارداً فمثل هذا بعيد عن هدي الإسلام ومعالي الأخلاق.
وفي الصحيحين وغيرهما من طريق سعيد بن المسيب أن أم شريك أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ وفي رواية البخاري قال (كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام) .
وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسمّاه فويسقاً.
وقتل الوزغ في أول ضربة أكثر أجراً وثواباً من قتله في المرة الثانية جاء هذا في صحيح مسلم من طريق خالد بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قتل وزَغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة. ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية) .
الشيخ سليمان العلوان
وقد روى ابن ماجة رحمه الله في سننه عَنْ سَائِبَةَ مَوْلاةِ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَرَأَتْ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا فَقَالَتْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا قَالَتْ نَقْتُلُ بِهِ هَذِهِ الأَوْزَاغَ فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَكُنْ فِي الأَرْضِ دَابَّةٌ إِلا أَطْفَأَتْ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِه سنن ابن ماجة 3222 قال في الزوائد: إِسْنَاد حَدِيث عَائِشَةَ صَحِيح رِجَاله ثِقَات
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/238)
خلق الله الكون في ستة أيام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الله خلق الكون في 6 أيام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم خلق الله السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما في ستة أيام كما قال تعالى: (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لغوب) يعني تعب، وفي هذا دليل على بطلان قول اليهود عليهم لعائن الله من أنه تعالى تعب لما خلق السموات والأرض في ستة أيام فاستراح يوم السبت تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وقد ورد في القرآن الكريم مزيد من التفصيل فقال سبحانه وتعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتهافي أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم) فصلت /12
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/239)
الحكمة من خلق الله تعالى عيسى بن مريم من دون أب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الحكمة من خلق الله تعالى عيسى بن مريم من دون أب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي:
" … أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس أي علامة دالة على كمال قدرته وأنه يخلق ما يشاء كيف يشاء، إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء كما نص على ذلك بقوله: (وخلق منها زوجها) النساء/1، أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 259) .(9/240)
هل لإبليس ذرية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لإبليس ذرية؟ وإن كانت له ذرية فهل كان بطريق التزاوج، وهل له زوجة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني …) الكهف/50:
وقوله في هذه الآية الكريمة: (وذريته) دليل على أن للشيطان ذرية، فادعاء انه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى، وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك، ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزاوج أو غيره، لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها، وقال الشعبي سألني رجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله تعالى: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) الكهف/50، فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم.
وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة، قال مجاهد: إن كيفية إيجاد النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات، قال: فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا، وفي اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له في كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة.
ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة، فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية، أما كيفية ولادة هذه الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: " قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ. " وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث إنما يدل أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك، هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال، لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل، فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تغير ألفاظها.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 133 – 135) .(9/241)
هل القردة والخنازير الموجودة الآن بشر مسخوا
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لك أن تخبرني عن القردة.
هل هي عبارة عن بشر مسخوا إلى حيوانات لمعصيتهم أوامر الله؟
إذا كان الأمر كذلك: فمن هم هؤلاء الأقوام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسخ هو تغيير الصورة الظاهرة للإنسان، وقد أخبرنا الله تعالى في أكثر من موضع من القرآن أنه مسخ بعض بني إسرائيل إلى قردة عقوبة لهم على معصيتهم لله تعالى. فقال تعالى مخاطبا بني إسرائيل: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) البقرة/65-66. وذكر الله تعالى قصتهم بشيء من التفصيل في سورة الأعراف فقال: (وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) الأعراف/163-166.
وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل) المائدة/59-60.
وهذا المسخ هو عقوبة من الله تعالى لهم على ارتكابهم ما حرم الله عليهم، وهذه العقوبة ليست خاصة ببني إسرائيل، بل أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن تقوم الساعة حتى يقع في هذه الأمة مسخ، وتوعد بذلك الذين يكذبون بالقدر، والذين يشربون الخمر ويستمعون الغناء - أعاذنا الله من ذلك -.
روى ابن ماجه (4059) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ) . صحيح ابن ماجه (3280) .
والخسف هو الذهاب في الأرض بأن تنشق الأرض وتبتلع شخصا أو بيتاً أو بلدة، كما خسف اللهُ تعالى بقارون وبداره الأرض، قال الله عز وجل: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) القصص/81.
والقذف هو الرمي بالحجارة، كما فعل الله تعالى بقوم لوط، قال الله جل وعلا: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) الحجر/74.
وروى الترمذي (2152) عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ أَوْ مَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ- يعني المكذبين به -) . صحيح الترمذي (1748) .
وروى الترمذي (2212) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ) . صحيح الترمذي (1801) . والقينات هن المعنيات.
فهذه الأحاديث دليل على وقوع المسخ في هذه الأمة، عقوبةً على بعض المعاصي. فليحذر المسلم من الإقدام على ما حرم الله، فالويل ثم الويل لمن يثير غضب الله وسخطه وانتقامه. – عافانا الله جميعاً من أساب عقوبته –.
ولكن هذه القردة والخنازيز الموجودة الآن ليست مما مُسخ من الأمم السابقة، وذلك لأن الله تعالى لم يجعل لممسوخ نسلاً، بل يهلكه الله تعالى بعد مسخه ولا يكون له نسل.
روى مسلم (2663) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ) والعقب: الذرية. قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنَّ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير كَانُوا قَبْل ذَلِكَ) أَيْ: قَبْل مَسْخ بَنِي إِسْرَائِيل , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَسْخ اهـ.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/242)
حَمَام مكة والمدينة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك خصوصية لحمام مكة والمدينة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليست هناك خصوصية لحمام مكة ولا حمام المدينة، سوى أنه لا يصاد ولا ينفر مادام في حدود الحرم؛ لعموم حديث: «إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها» رواه البخاري (1349) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لا بتيها، لا يقطع عضاها، ولا يصاد صيدها» رواه مسلم (1360) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (فتاوى اللجنة 11/199)(9/243)
الحكمة مِن خَلْق البشر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لما خُلق البشر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من عظيم صفات الله تعالى " الحكمة "، ومن أعظم أسمائه تعالى " الحكيم "، وينبغي أن يُعلم أنه ما خلق شيئاً عبثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما يخلق لِحِكَمٍ بالغة عظيمة، ومصالح راجحة عميمة، عَلِمَها من عَلِمها، وجَهِلها من جهلها، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم، فبيَّن أنه لم يخلق البشر عبثاً، ولم يخلق السموات والأرض عبثاً، فقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون/115،116، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) الأنبياء/16، وقال عز وجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الدخان/38، 39، ويقول سبحانه وتعالى: (حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) الأحقاف/1 – 3.
وكما أن ثبوت الحكمة في خلق البشر ثابت من ناحية الشرع , فهو ثابت – أيضاً - من ناحية العقل، فلا يمكن لعاقل إلا أن يسلِّم أنه قد خلقت الأشياء لحكَمٍ، والإنسان العاقل ينزه نفسه عن فعل أشياء في حياته دون حكمة، فكيف بالله تعالى أحكم الحاكمين؟!
ولذا أثبت المؤمنون العقلاء الحكمة لله تعالى في خلقه، ونفاها الكفار، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران/190، 191، وقال تعالى – في بيان موقف الكفار من حكمة خلقه -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ص/27.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السموات والأرض، وأنه لم يخلقهما باطلاً، أي: عبثاً ولعباً، من غير فائدة ولا مصلحة.
(ذلك ظن الذين كفروا) بربهم، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله.
(فويل للذين كفروا من النار) فإنها التي تأخذ الحق منهم، وتبلغ منهم كل مبلغ، وإنما خلق الله السموات والأرض بالحق وللحق، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته، وسعة سلطانه، وأنه تعالى وحده المعبود، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السموات والأرض، وأن البعث حق، وسيفصل الله بين أهل الخير والشر، ولا يظن الجاهل بحكمة الله، أن يسوي الله بينهما في حكمه، ولهذا قال: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) هذا غير لائق بحِكمَتنا وحُكْمنا " انتهى.
" تفسير السعدي " (ص 712) .
ثانياً:
ولم يخلق الله تعالى الإنسان ليأكل ويشرب ويتكاثر، فيكون بذلك كالبهائم، وقد كرَّم الله تعالى الإنسان، وفضَّله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفوراً فجهلوا أو جحدوا الحكمة الحقيقية من خلقهم، وصار كل هَمِّهِم التمتع بشهوات الدنيا , وحياة هؤلاء كحياة البهائم , بل هم أضل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) محمد/12، وقال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الحجر/3 , وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف/179. ومن المعلوم عند عقلاء الناس أن الذي يصنع الشيء هو أدرى بالحكمة منه من غيره، ولله المثل الأعلى فإنه هو الذي خلق البشر، وهو أعلم بالحكمة من خلقه للناس، وهذا لا يجادل فيه أحد في أمور الدنيا، ثم إن الناس كلهم يجزمون أن أعضاءهم خُلقت لحكمة، فهذه العين للنظر، وهذه الأذن للسمع، وهكذا، أفيُعقل أن تكون أعضاؤه مخلوقةً لحكمة، ويكون هو بذاته مخلوقاً عبثاً؟! أو أنه لا يرضى أن يستجيب لمن خلقه عندما يخبره بالحكمة من خلقه؟!
ثالثاً:
وقد بيَّن الله تعالى أنه خلق السموات والأرض، والحياة والموت للابتلاء والاختبار، ليبتلي الناس , مَنْ يطيعه ليثيبه، ومَنْ يعصيه ليعاقبه، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) هود/ 7، وقال عز وجل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك/ 2.
وبهذا الابتلاء تظهر آثار أسماء الله تعالى وصفاته، مثل اسم الله تعالى " الرحمن "، و " الغفور " و " الحكيم " و " التوَّاب " و " الرحيم " وغيرها من أسمائه الحسنى.
ومن أعظم الأوامر التي خلق الله البشر من أجلها – وهو من أعظم الابتلاءات -: الأمر بتوحيده عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، وقد نصَّ الله تعالى على هذه الحكمة في خلق البشر فقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56.
قال ابن كثير رحمه الله:
" أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا ليعبدون، أي: إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس: إلا ليعبدون، أي: إلا للعبادة " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (4 / 239) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" فالله تعالى خلق الخلق لعبادته، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين، ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون، ولا بد أن يجمعهم في دار، يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم، ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء، فقال: (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) أي: ولئن قلتَ لهؤلاء، وأخبرتهم بالبعث بعد الموت، لم يصدقوك، بل كذبوك أشد التكذيب، وقدحوا فيما جئت به، وقالوا: (إن هذا إلا سحر مبين) ألا وهو الحق المبين " انتهى.
" تفسير السعدي " (ص 333) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/244)
خلق الإنسان طويلا ثم لم يزل ينقص حتى الآن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كان الإنسان زمن آدم عليه السلام قصيراً ثم أخذ بالتدرج بالطول أم العكس؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق الله تعالى آدم عليه السلام طوله ستون ذراعاً، ثم تدرج الخلق في النقص حتى استقر على ما هو عليه الآن. ودليل ذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ) رواه البخاري (3326) ومسلم (2841) . وَرَوَى اِبْن أَبِي حَاتِم بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أُبَيِّ بْن كَعْب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّه خَلَقَ آدَم رَجُلا طِوَالا كَثِير شَعْر الرَّأْس كَأَنَّهُ نَخْلَة سَحُوق) أي طويلة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:
(فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُص حَتَّى الآن) أَيْ أَنَّ كُلّ قَرْن يَكُون نَشَأْته فِي الطُّول أَقْصَر مِنْ الْقَرْن الَّذِي قَبْله , فَانْتَهَى تَنَاقُص الطُّول إِلَى هَذِهِ الأُمَّة وَاسْتَقَرَّ الأَمْر عَلَى ذَلِكَ.اهـ
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/245)
كم سنة بين آدم ومحمد عليهما الصلاة والسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[كم هي الفترة الزمنية بالسنين ما بين خلق آدم عليه السلام وخلق محمد صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يأتِ في الشريعة تحديدٌ لفترة ما بين آدم ومحمد عليهما الصلاة السلام، بل ولا يعرف مقدار ما عاش آدم عليه السلام.
لكن جاءت بعض الأحاديث والآثار متفرقة يمكن بعد جمعها الوصول إلى تقدير زمنٍ لكن ليس للفترة بأكملها، وهذه الأحاديث والآثار منها ما هو صحيح ومنها ما هو مختلف فيه، وتبقى بعض الفترات لم ترد في تحديدها آثار، فمما ورد فيه أدلة صحيحة:
1. قوله تعالى في مدة لبث نوح عليه السلام في دعوة قومه: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) .
2. المدة بين عيسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام: روى البخاري (3732) عن سلمان الفارسي قال: فترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ستمائة سنة.
ومما وردت فيه أحاديث مختلف في صحتها:
3. المدة بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام:عن أبي أمامة أن رجلا قال: (يا رسول الله أنبيٌّ كان آدم؟ قال: نعم، مكلَّم، قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون) رواه ابن حبان في " صحيحه " (14 / 69) والحاكم (2/262) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في " البداية والنهاية " (1 / 94) : هذا على شرط مسلم ولم يخرجه.
4. المدة بين نوح وإبراهيم عليهما السلام: ودليلها زيادة في حديث أبي أمامة رضي الله عنه السابق ... قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشر قرون) رواه الحاكم في " المستدرك " (2 / 288) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والطبراني في " المعجم الكبير " (8 / 118) ، وورد كلام في تضعيف بعض رواة الحديث، وصححه الألباني بشواهده.
ومما وردت فيه بعض الآثار:
5. المدة بين موسى وعيسى عليهما السلام:قال القرطبي: واختلف في قدر مدة تلك الفترة فذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقات عن ابن عباس قال كان بين موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة ولم يكن بينهما فترة وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وتسعون سنة." تفسير القرطبي " (6 / 121) . قال ابن حجر: وقد اتفق أهل النقل على أن مدة اليهود إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكثر من ألفي سنة ومدة النصارى من ذلك ستمائة." فتح الباري " (4 / 449) .
وبالنظر إلى ما سبق من الآية والأحاديث والآثار والأقوال فإن ما كان منها صحيحا أُخذ به في تحديد الفترة المعينة.
أما الجزم بتحديد إجمالي الفترة بين آدم ومحمد عليهما الصلاة والسلام فإنه إضافة إلى ما سبق يتوقف على أمور منها:
· اختلاف العلماء في تحديد القرن هل هو مائة عام أم هو الجيل، فإن كان الصحيح أنه الجيل فإن الثابت من أعمار أهل تلك الفترة هو جزء من عمر نوح وهو الذي قضاه في دعوته، ولا نعلم كم كان معدَّل أعمار بقية أهل تلك الأجيال.
· عدم ورود ما يحدد المدة بين إبراهيم وموسى عليهما السلام بالسنوات.
ويبقى أن الجزم في هذه الأمور والبحث فيها ليست مما تعبدنا الله به ولا ينبني عليها عمل، ويكفينا في ذلك قوله تعالى: (وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً) الفرقان/38، وعلى المرء أن يحرص على الاقتداء بهؤلاء الأنبياء والسير على طريقهم إذ هو المقصود الأعظم من ذرهم وذكر سيرهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام/90.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/246)
معنى حديث الأرواح جنود مجندة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسلمة جديدة وصفحتي على الإنترنت هي ……… وجدت الحديث المذكور في الأسفل وسألت الأستاذة عنه وسأسرد لك ردها، انزعجت كثيرا من الرد ومعنى الحديث، فهل يمكن أن تخبرني اكثر عن هذا الموضوع وهل هناك أي أحاديث أخرى تؤكد معنى هذا الحديث؟ جزاك الله خيرا.
الحديث في صحيح مسلم برقم 6376
(الأرواح جنود مجندة ما تعرف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)
روى أبو هريرة
الحديث لم يقل "أن الناس كانوا أحياء قبل أن يولدوا" فقط قال الأرواح في الجنة. هذه الجنة ليست الجنة التي يذهب إليها المسلمون في الآخرة وإنما مكان آخر لا نعرف أين هو، هي في اللوح المحفوظ والله وحده يعلم أين.
بمعنى بسيط هذا المكان مثل البنك حيث يخلق الله الأرواح من مكانه.
فإذا حملت المرأة وحين ينفخ الله الروح في الجنين داخل الرحم، يُعطى الجنين إما روح خبيثة أو روح طيبة، فإذا أُعطي روحا طيبة كان شخصا طيبا وإذا أُعطي روحا خبيثة كان شخصا خبيثا ومع هذا فإن هذا الشخص يستطيع أن يغير القضاء حسب أعماله وهنا يلعب الدعاء دورا مهما. الدعاء والنية]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ. " صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء: باب الأرواح جنود مجندة.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث:.. قوله: (الأرواح جنود مجندة إلخ) قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد , وأن الخيِّر من الناس يحن إلى شكله والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر , فإذا اتفقت تعارفت , وإذا اختلفت تناكرت. ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام , وكانت تلتقي فتتشاءم , فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم. وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين , ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف. قلت: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا , لأنه محمول على مبدأ التلاقي , فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب. وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء. وقوله " جنود مجندة " أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة , قال ابن الجوزي: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم , وكذلك القول في عكسه. وقال القرطبي: الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها , فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة , ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها. ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها.
ورويناه موصولا في مسند أبي يعلى وفيه قصة في أوله عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت " كانت امرأة مزاحة بمكة فنزلت على امرأة مثلها في المدينة , فبلغ ذلك عائشة فقالت: صدق حبي , سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فذكر مثله. انتهى
والحديث قد رواه مسلم رحمه الله في صحيحه 4773 وقال النووي رحمه الله في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف) قال العلماء: معناه جموع مجتمعة , أو أنواع مختلفة. وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه , وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها , وتناسبها في شيمها. وقيل: لأنها خلقت مجتمعة , ثم فرقت في أجسادها , فمن وافق بشيمه ألِفه , ومن باعده نافره وخالفه. وقال الخطابي وغيره: تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة أو الشقاوة في المبتدأ , وكانت الأرواح قسمين متقابلين. فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه , فيميل الأخيار إلى الأخيار , والأشرار إلى الأشرار. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/247)
الحيوانات المنوية هل هي حية أو لا روح فيها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل نفهم من نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر أن الحيوان المنوي المتحد مع بيضة المرأة والذي يتكون منه الجنين لا روح فيه أو ماذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لكل من الحيوان المنوي وبويضة المرأة حياة تناسلية إذا سلم من الآفات تهيّئ لكل منهما بإذن الله وتقديره الاتحاد بالآخر، وعند ذلك يتكون الجنين إن شاء الله ذلك ويكون حياً أيضاً حياة تناسبه، حياة النمو والتنقل في الأطوار المعروفة فإذا نفخ فيه الروح سرت فيه حياة أخرى بإذن الله اللطيف الخبير، ومهما بذل الإنسان وسعه ولو كان طبيباً ماهراً فلين يحيط علماً بكلّ أسرار الحمل وأسبابه وأطواره، قال تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) وقال: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) . فتاوى إسلامية: اللجنة الدائمة /488
فالحياة أنواع ولكل كائن حيّ حياة تناسبه وتخصّه بقدرة الله فللنبات حياة تخصّه وللحيوان المنوي حياة تخصّه وللإنسان حياة تخصّه وهكذا والله الخالق لكلّ ذلك وقد جعل الماء أصل كلّ الأحياء كما قال عز وجل: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) سورة الأنبياء. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/248)
نصراني يسأل عن طبيعة الروح وحدودها
[السُّؤَالُ]
ـ[بالنسبة للإسلام ما هو الروح؟ فمثلا من خلق الروح وما هي حدودها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الله خالق كل شيء، والروح مخلوقة كسائر المخلوقات، وعلم حقيقتها وكنهها من اختصاص الله عزّ وجلّ، استأثر عزّ وجلّ بعلمه كما جاء في حديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَقَالَ مَا رَأْيُكُمْ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالُوا سَلُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ مَقَامِي فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) ، رواه البخاري، وقد وصف الله تعالى في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الروح بجملة أوصاف منها: القبض والوفاة، وأنها تصفد وتكفن وتجيء وتذهب، وتصعد وتهبط وأنها تسل كما تسل الشعرة من العجين.. فالواجب إثبات هذه الصفات الواردة في الوحيين، مع أن الروح ليست كالبدن.
والله تعالى خلق آدم ونفخ فيه الرّوح كما جاء في القرآن الكريم وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلائِكَةِ إِلَى مَلإٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَقُلْ السَّلامُ عَلَيْكُمْ قَالُوا وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ.. رواه الترمذي وحسّنه: سنن الترمذي 3290
والله يرسل الملَك لنفخ الرّوح في الجنين كما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. رواه مسلم 4781
وروح الميت تُقبض من الأسفل من أصابع الرجلين إلى الأعلى فإذا وصلت الرّوح الحلقوم غرغر المحتضر ويشخص بصره ويتجّه إلى فوق: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ … رواه مسلم 1528
وتتلقاها الملائكة: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّتْ الْمَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُوسِرِ قَالَ قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ. رواه البخاري 1935
ويصعد بها إلى السماء بعد قبضها ملكان كما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا.. فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ قَالَ وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ قَالَ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ.. وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ قَالَ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا. رواه مسلم 5119
وجاء في خروج الرّوح أيضا مزيد من التفصيل في حديث الإمام أحمد رحمه الله عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلاّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ فَيَقُولانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِيَ الإِسْلامُ فَيَقُولانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ قَالَ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي قَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيَُيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لا تُقِمْ السَّاعَةَ. مسند الإمام أحمد 17803 وهو حديث صحيح.
وفي آخر الزمان يُرسل الله ريحا تقبض روح كلّ مؤمن، كما جاء في حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (وحدّث بحديث الدجال ونزول عيسى عليه السلام وطيب العيش في حياة عيسى وبعده وسعادة الناس في ذلك الوقت) قال: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. رواه مسلم 5228
وعند النوم - وهو الوفاة الصّغرى - تقبض الرّوح لكن ليس قبضا كليا ولذلك يبقى النائم على قيد الحياة، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) الزمر.
وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي المسلم: إِذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ فَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ.) رواه الترمذي 3323 وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
هذه طائفة من الآيات والأحاديث الصحيحة في وصف أحوال للروح لعلّك أيها السائل تجد فيها موعظة تهتدي بها إلى طريق الحقّ ودين الإسلام وشكرا لك على سؤالك.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/249)
من الذي حرَّك الكعبة إلى مكانها الحالي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من الذي حرك الكعبة إلى مكانها الحالي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم تكن الكعبة المشرفة في مكان ثم حرِّكت، بل تمَّ بناؤها في المكان الذي هي فيه، ولم تنتقل منذ تلك الفترة، وقد اختلف العلماء فيمن بنى الكعبة، فقيل: الملائكة، وقيل: آدم عليه السلام، وقيل: إبراهيم عليه السلام، وهو الصواب.
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} البقرة / 127.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلِّ ".
رواه البخاري (3186) ومسلم (520) .
قال علماء اللجنة الدائمة:
الكعبة المشرفة قبلة المسلمين في صلواتهم بالتوجه إليها في كل صلاة؛ امتثالا لأمر الله سبحانه في قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ... } الآية البقرة / 144، ومحل قضاء أنساكهم في حجهم وعمرتهم بالطواف حولها؛ امتثالا لقوله عز وجل: {وليطوفوا بالبيت العتيق} الحج / 29، واتباعا لما شرعه الله سبحانه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بناها إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، كما بينه الله في قوله سبحانه: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} البقرة / 127، وقد جدد بناؤها بعد ذلك مرات. انتهى
" فتاوى اللجنة الدائمة " (6 / 310) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/250)
سبب كثرة الزلازل
[السُّؤَالُ]
ـ[تعرضت العديد من الدول لبعض الزلازل مثل تركيا والمكسيك وتايوان واليابان وبلدان أخرى.. فهل لهذا أي دلالات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم فيما يقضيه ويقدره، كما أنه حكيم عليم فيما شرعه وأمر به، وهو سبحانه يخلق ما يشاء من الآيات، ويقدرها؛ تخويفا لعباده، وتذكيرا لهم بما يجب عليهم من حقه، وتحذيرا لهم من الشرك به، ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، كما قال الله سبحانه: " وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " الإسراء: 59، وقال عز وجل: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " فصلت: 53، وقال تعالى: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " الأنعام: 65.
وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قول الله تعالى: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " قال: (أعوذ بوجهك) " أو من تحت أرجلكم " قال: (أعوذ بوجهك) . صحيح البخاري 5/193.
وروى أبو الشيخ الأصبهاني عن مجاهد في تفسير هذه الآية: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " قال: الصيحة والحجارة والريح. " أو من تحت أرجلكم " قال: الرجفة والخسف.
ولا شك أن ما حصل من الزلازل في هذه الأيام في جهات كثيرة هو من جملة الآيات التي يخوف الله بها سبحانه عباده، وكل ما يحدث في الوجود من الزلازل وغيرها مما يضر العباد ويسبب لهم أنواعا من الأذى، كله بسبب الشرك والمعاصي، كما قال الله عز وجل: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " الشورى: 30، وقال تعالى: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء: 79، وقال تعالى عن الأمم الماضية: " فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " العنكبوت: 40.
فالواجب على المكلفين من المسليمن وغيرهم، التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على دينه، والحذر من كل ما نهى عنه من الشرك والمعاصي، حتى تحصل لهم العافية والنجاة في الدنيا والآخرة من جميع الشرور، وحتى يدفع الله عنهم كل بلاء، ويمنحهم كل خير، كما قال سبحانه: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " الأعراف: 96، وقال تعالى في أهل الكتاب: " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " المائدة: 66، وقال تعالى: " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف: 97-99.
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله - ما نصه: " وقد يأذن الله سبحانه للأرض في بعض الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام، فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية، والإنابة والإقلاع عن المعاصي والتضرع إلى الله سبحانه، والندم، كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: إن ربكم يستعتبكم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد زلزلت المدينة، فخطبهم ووعظهم، وقال: لئن عادت لا أساكنكم فيها " انتهى كلامه رحمه الله.
والآثار في هذا المقام عن السلف كثيرة..
فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والريح الشديدة والفيضانات - البدار بالتوبة إلى الله سبحانه، والضراعة إليه، وسؤال العافية، والإكثار من ذكره واستغفاره، كما قال صلى الله عليه وسلم عند الكسوف: " فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره " جزء من حديث متفق عليه أخرجه البخاري (2/ 30) ومسلم (2/ 628) .
ويستحب أيضا رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ارحموا ترحموا " أخرجه الإمام أحمد (2/165) ، " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " أخرجه أبو داود (13 / 285) والترمذي (6/43) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من لا يرحم لا يرحم " أخرجه البخاري (5/75) ومسلم (4/1809) ، وروي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه كان يكتب إلى أمرائه عند وجود الزلزلة أن يتصدقوا.
ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء، وإلزامهم بالحق، وتحكيم شرع الله فيهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله عز وجل: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " التوبة:71، وقال عز وجل: " ولينصن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " الحج: 40 - 41، وقال سبحانه: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " الطلاق: 2-3، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " متفق على صحته البخاري (3/98) ومسلم (4/1996) ، وقال عليه الصلاة والسلام: " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " أخرجه مسلم (4/2074) ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يمنحهم الاستقامة عليه، والتوبة إلى الله من جميع الذنوب، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين جميعا، وأن ينصر بهم الحق، وأن يخذل بهم الباطل، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، وأن يعيذهم وجميع المسلمين من مضلات الفتن، ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[الْمَصْدَرُ]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - مجلة البحوث الإسلامية العدد 51 عام 1418 هـ.(9/251)
ما هي الغاية من وجود الحيوانات والنباتات على الأرض؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الغاية من وجود الحيوانات والنباتات على الأرض؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينبغي أن يعلم أن الله تعالى خلق الإنسان لعبادته، كما قال عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات / 56.
وخلق الله تعالى للإنسان وسخر له ما في السموات وما في الأرض لينتفع ويتمتع به، وتقوم به مصالحه، ويستعين به على عبادة الله تعالى.
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) البقرة / 29.
وقال: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان/20.
وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية /13.
وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) إبراهيم /33.
وهذه بعض الحكم والغايات من وجود الحيوانات والنباتات على الأرض:
فالنباتات طعام للإنسان والحيوان، قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ) يونس /24. وقال: (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) عبس /24-32.
والنباتات تذكر الناس بزوال الدنيا
قال عز وجل: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس /24.
وضرب الله تعالى المثل للناس على إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بما يشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها.
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فصلت /39.
والنباتات يستخلص الإنسان منها الأدوية.
وأعظم ذلك الحبة السوداء التي قال فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنها شفاء من كل داء إلا السام وهو الموت. رواه البخاري (5687) .
والعسل –وأصله من رحيق الأزهار- قال الله تعالى فيه: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) . النحل/69.
والحيوانات طعام للإنسان.
قال الله تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) النحل /5. وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل /14.
والحيوانات وسيلة انتقال وزينة.
قال الله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) النحل /8.
ومن الحيوانات يعمل الإنسان الخيام التي يسكنها والثياب التي يلبسها. قال الله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) النحل /80.
والخيل آلة الجهاد إلى قيام الساعة، عليها يجاهد المسلمون، فينتصرون ويغنمون ويثابون.
قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) الأنفال /60.
وروى البخاري (2852) ومسلم (1873) عن عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ) .
هذه بعض منافع الحيوانات والنباتات، وفيها من الحكم والمنافع ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/252)
مقام إبراهيم وأثر الأقدام الموجودة عليه
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الأثر الذي في مقام إبراهيم هو أثر قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مقام إبراهيم هو " الحجر الذي كان يقف عليه لما ارتفع البناء عن قامته فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء ... وقد كانت آثار قدمي الخليل عليه السلام باقية في الصخرة إلى أول الإسلام " اهـ من البداية والنهاية (1/163) .
قال ابن حجر: الْمُرَاد بِمَقَامِ إِبْرَاهِيم الْحَجَر الَّذِي فِيهِ أَثَر قَدَمَيْهِ اهـ.
وقال ابن كثير:
"وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروفا تعرفه العرب في جاهليتها، وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا، كما قال أنس بن مالك: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه.
غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وروى ابن جرير عن قتادة أنه قال: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، وقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. ولقد ذَكَرَ لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى انمحى اهـ. من "تفسير ابن كثير" (1/117) .
وقال الشيخ ابن عثيمين:
لا شك أن مقام إبراهيم ثابت وأن هذا الذي بني عليه الزجاج هو مقام إبراهيم، لكن الحفر الذي فيه لا يظهر أنها أثر القدمين، لأن المعروف من الناحية التاريخية أن أثر القدمين قد زال منذ أزمنة متطاولة، ولكن حفرت هذه أو وضعت للعلامة فقط، ولا يمكن أن نجزم بأن هذا الحفر هو موضع قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/253)
بطلان نظرية التطور والارتقاء
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك من يقول: إن الإنسان منذ زمن بعيد كان قردا وتطور , فهل هذا صحيح , وهل من دليل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" هذا القول ليس بصحيح , والدليل على ذلك أن الله بين في القرآن أطوار خلق آدم , فقال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ثم إن هذا التراب بُلَّ حتى صار طينا لازبا يعلق بالأيدي , فقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، وقال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ثم صار حمأ مسنونا , قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) ثم لما يبس صار صلصالا كالفخار , قال تعالى: (خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) . وصوره الله على الصورة التي أرادها ونفخ فيه من روحه , قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) هذه هي الأطوار التي مرت على خلق آدم من جهة القرآن , وأما الأطوار التي مرت على خلق ذرية آدم فقال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) .
أما زوجة آدم (حواء) فقد بين الله تعالى أنه خلقها منه , فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) " اهـ
[الْمَصْدَرُ]
من "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/31) .(9/254)
هل عُثر على سفينة نوح
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن سفينة نوح قد عُثر عليها منذ سنين قليلة مضت بالرجوع إلى القرآن ومعارضة للإنجيل، هل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) سورة القمر
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة (مكان في بلاد العراق) عبرة وآية , حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة , وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا.
والظاهر أنّ المراد بذلك جنس السفن كقوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) سورة يس، وقال: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) سورة الحاقة، ولهذا قال هاهنا فهل من مدّكر أي: فهل من يتذكّر ويتعّظ. انتهى
فاشتمل كلام ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (ولقد تركناها) على ثلاثة أقوال:
الأول: أن يكون المراد تركنا هذه القصة عبرة لمن بعدهم.
الثاني: أن يكون المراد تركنا سفينة نوح لتراها الأمم من بعده فيعتبرون ويتعظون بإنجاء الله للمؤمنين وإهلاك الكافرين.
الثالث: أن يكون المراد تركنا جنس السفن في الأرض وعلّمناه للإنسان ليعتبر بنعمة الله عليه وكيف أبقى ذريّة نوح بعد إنجائه والمؤمنين بمثل هذه السفن الموجودة المعروفة.
وعلى كل حال فليس مما يُخالف الشّرع أو العقل أن يتمّ العثور على سفينة نوح وأن تراها أجيال من البشرية بعد نوح لتكون لهم آية وعبرة ولكن القضيّة في كيفية إثبات أن هذه السّفينة التي عُثِر عليها هي سفينة نوح، فإنّه ليس كلّ من يجد سفينة قديمة ويدّعي أنّها سفينة نوح تُصدّق دعواه والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(9/255)
أسئلة من معلِّم بخصوص معاصٍ وآثام يفعلها الطلاب في المدرسة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا معلم بمدرسة " ... المتوسطة "، وأرغب من شخصكم الكريم التعليق على المخالفات التي سأذكرها لكم، والتي يقع فيها طلابنا بشكل كبير، في الصلاة، وغيرها، وأكثرها تكون في الصلاة , وإليك هذه المواقف التي وقفت بنفسي على معظمها، والتي وقعت من أبنائنا الطلاب، هداهم الله، والتي سنعرض ردكم الفاضل عليها أمام طلابنا، بمشيئة الله. 1- الصلاة بغير وضوء، أو الصلاة وعليه جنابة. 2- الحديث مع زميله أثناء الصلاة. 3- أكل الفصفص، أو العلك أثناء الصلاة. 4- كثرة الكلام بعد أن كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام. 5- الحديث أثناء الأذان، ورفع الصوت. 5- الحلف باليمين الغموس الكاذبة , وكثرة الحلف. 6- تهرب بعض الطلاب عن أداء الصلاة داخل الفصول. 7- بعض الطلاب - هداهم الله - يأتي متأخراً عن الصلاة، ويتبقى له ركعة، أو ركعتان، ولا يتمها، بل يسلِّم مع الإمام. 8- وجود طلاب لا يجيدون الفاتحة، بل إن بعضهم لا يحفظها، وكذلك التشهد الأول، والأخير. 9- التجرؤ على المعلمين بكلمات نابية. 10- التعود على الألفاظ القبيحة والمستقذرة بين زملائهم. 11- الاستهانة بكتاب الله ومسه بغير وضوء. شيخنا الفاضل هناك الكثير من السلوكيات المشينة المنتشرة بين الشباب لا يتسع المجال لذكرها , بذلنا ما نستطيع للحد منها، ولكن لا حياة لمن تنادي. شيخي الفاضل أتمنى إيراد الأحكام الشرعية المتعلقة بما سبق، علماً بأني ما أرسلت لكم إلا لرغبتي في عرض ذلك على أبنائنا الطلاب، والأحكام الشرعية المتعلقة بها؛ معذرة إلى ربكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جزاك الله خيراً أخي المعلِّم السائل، وبارك فيك ,
أولاً:
المعلم في مدرسته مؤتمَن، ومسئول على ما أؤتمن عليه , مِن نصح الطلاب، وتوجيههم , والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم ونفعهم , كما جاء في حديث عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) رواه البخاري (853) ومسلم (1829) .
وسؤالك هذا وحرصك على تدوين الأسئلة: دليل على حسن قيامك بواجب هذه الأمانة , فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك لك في الأعمال الصالحة، وأن يوفقك لكل خير , ويعينك على القيام بواجبك حق القيام. ونسأله تعالى أن يصلح أحوال شبابنا، وطلابنا , وأن يوفقهم لكل خير.
ثانياً:
أما بالنسبة للمسائل المسئول عنها فهي كما يلي:
1. الصلاة بغير وضوء، أو الصلاة وعليه جنابة.
نقول: إن الوضوء للصلاة شرط من شروط الصلاة التي لا يقبل الله صلاة العبد إلا بها.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) .
رواه مسلم (224) .
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ، أَوْ ضُرَاطٌ.
رواه البخاري (135) ومسلم (225) .
وينبغي أن يعلم الطلاب - وغيرهم - أن من صلَّى بغير وضوء، أو وهو جنب: فإنه قد جاء بكبيرة من كبائر الذنوب، بل قد ذهب بعض العلماء إلى تكفيره كفراً مخرجاً عن الملَّة.
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
الطهَّارة شَرْطٌ لصِحَّةِ الصَّلاة وجَوازِها، فلا يَحِلُّ لأَحَدٍ أن يُصَلِّيَ وهو مُحدِثٌ، سواء كان حَدثاً أصغر، أو أكبر.
فإن ْصلَّى وهو مُحْدِثٌ: فإنْ كان هذا استهزاءً منه: فهو كافر؛ لاستهزائه.
وإنْ كان متهاوناً: فقد اختلف العلماء رحمهم الله في تكفيره.
فمذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يَكْفُر؛ لأن من صلَّى وهو مُحْدِثٌ مع عِلْمِهِ بإيجاب الله الوُضُوء: فهذا كالمستهزئ، والاستهزاء: كُفْرٌ، كما قال الله تعالى (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) التوبة/ 65، 66.
" الشرح الممتع " (1 / 193) .
2. الحديث مع زميله أثناء الصلاة.
أما الكلام في الصلاة: فهو محرم , كما جاء في الحديث عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِى الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ. رواه البخاري (1142) ومسلم (539) .
قال النووي - رحمه الله -:
فيه دليل على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين، وأجمع العلماء على أن الكلام فيها عامداً عالماً بتحريمه، بغير مصلحتها، وبغير إنقاذها، وشبهه: مبطل للصلاة.
" شرح مسلم " (5 / 27) .
وإذا كان الله لم يأذن بالسلام ونحوه: فكيف بالكلام الدنيوي الآخر؟! .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُود قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِى الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِي سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلاَةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا، فَقَالَ: (إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغُلاً) .
رواه البخاري (1141) ومسلم (538) .
قال ابن حجر - رحمه الله -:
أي: بقراءة القرآن، والذِّكر، والدعاء، أو للتعظيم، أي: شغلاً وأي شغل؛ لأنها مناجاة مع الله تستدعي الاستغراق بخدمته، فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره، وقال النووي: معناه: أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله، فلا ينبغي أن يعرج على غيرها، مِن رد السلام، ونحوه.
" فتح الباري " (3 / 73) .
3. أكل الفصفص، أو مضغ العلك أثناء الصلاة.
أما الأكل في صلاة الفرض - والنافلة على الصحيح -: فهو مبطل لها , فإن قصد الاستهزاء، أو الاستهانة بالصلاة: فهو كفر - والعياذ بالله -.
قال عبد الرحمن بن قدامة المقدسي - رحمه الله -:
مسألة (وإن أكل، أو شرب، عمداً: بطلت صلاته، قلَّ، أو كثر , وإن كان سهواً: لم تبطل، إذا كان يسيراً) .
إذا أكل، أو شرب، عامداً في الفرض: بطلت صلاته، لا نعلم فيه خلافاً.
قال ابن المنذر: " أجمع كل مَن نحفظ عنه مِن أهل العلم: على أن المصلي ممنوع من الأكل والشرب ".
وأجمع كل مَن نحفظ عنه مِن أهل العلم: على أن مَن أكل، أو شرب، في صلاة الفرض عامداً: أن عليه الإعادة.
وإن فعله في التطوع: أبطله في الصحيح من المذهب، وهو قول أكثر الفقهاء.
" الشرح الكبير " (1 / 670) .
4. كثرة الكلام، لمن لم يدخل في الصلاة، بعد أن كبر الإمام تكبيرة الإحرام.
وهذا أيضا مما لا ينبغي , فالمرء إذا وقف للصلاة: فعليه أن يستحضر الوقوف بين يدي الجبار سبحانه وتعالى , ولازم ذلك: السكينة، والخشوع، وخفض الصوت , والإقبال بالقلب والقالب - أي: الجوارح - على الصلاة , وكذلك فإنه يترتب على كلامهم ذاك: التشويش على المصلين , وإذا المصلي وقارئ القرآن ممنوعا من الجهر على من يصلي أو يقرأ بجانبه؛ فكيف بمن يشوش على المصلين بالكلام الذي لا قيمة له، بل ربما كان كلاما محرما في نفسه؟!
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ، فَكَشَفَ السُّتُورَ، وَكَشَفَ وَقَالَ:
(أَلَا كُلُّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى َعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ) . رواه الإمام أحمد (11486) وصححه الألباني.
5. الحديث أثناء الأذان، ورفع الصوت.
السنَّة عند سماع الأذان: أن يستمع إليه المسلم، وأن يردد خلفه بما ثبت في السنَّة، ثم يأتي بالدعاء الوارد بعده.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) .
رواه البخاري (586) ومسلم (383) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِى وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
البخاري (589) .
قال ابن قدامة - رحمه الله -:
ويستحب لمن سمع المؤذن: أن يقول كما يقول , لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب ذلك.
" المغني " (1 / 474) .
بل ذهب بعض العلماء إلى وجوب إجابة المؤذن , وهو قول بعض أهل الظَّاهر.
6. الحلف باليمين الغموس الكاذبة , وكثرة الحلف.
وأما كثرة الحلف: فقد ذمها الله تعالى، كما قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) القلم/ 10، فكثرة الحلف في قليلٍ وكثير: يؤدي إلى إضعاف منزلة اليمين عند الناس، وقد يكون هذا الإكثار من أسباب اليمين الكاذبة، وهو منافٍ لكمال تعظيم الله تعالى.
وأما اليمين الغموس: فهي من كبائر الذنوب , وسميت غموساً: لأنها تغمس صاحبها في النار.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: (الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ) .
رواه البخاري (6522) .
قال علماء اللجنة الدائمة:
اليمين التي ذُكرت تسمَّى " اليمين الغموس "، وهي من كبائر الذنوب، ولا تجدي فيها الكفارة؛ لعظيم إثمها، ولا تجب فيها الكفارة، على الصحيح من قولي العلماء، وإنما تجب فيها التوبة، والاستغفار، فعليك التوبة والاستغفار منها.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان.
فتاوى اللجنة الدائمة (23 / 133) .
7. تهرب بعض الطلاب عن أداء الصلاة داخل الفصول.
وأما الصلاة: فهي الفارق بين المسلم والكافر , وترك الصلاة تعمداً: كفر بالله تعالى.
عَنْ جَابِر بن عبد الله قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ) .
رواه مسلم (82) .
وكذلك الحكم في تارك الصلاة تهاوناً، وكسلاً، وانظر لذلك: جواب السؤال رقم: (5208) .
وأما الذي يسمع النداء ولا يجيبه: فهو آثم، إلا إذا كان معذوراً , والتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد من علامات النفاق، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: " وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق " رواه مسلم (654) ، وانظر لذلك جواب السؤال رقم:
(10292) .
8. مجيء بعض الطلاب متأخرين عن الصلاة ويتبقى لهم ركعة أو ركعتين ولا يتمونها، بل يسلمون م الإمام:
فهذا حكمه أنه لم يصل , وهو دليل على استخفاف فاعله، وعدم تعظيمه لشأن الصلاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا عرفنا أن تارك الصلاة: كافر، على القول الراجح، ولو كان تاركا لها كسلا، فإن المستخف بشأن الصلاة، والمستهين بحرمتها: لا شك في كفره، والعياذ بالله.
9. وجود طلاب لا يجيدون الفاتحة بل إن بعضهم لا يحفظها وكذلك التشهد الأول والأخير:
فهذا تقصير من الآباء، والأمهات , والمعلمين، ومن الطلبة أنفسهم، فالصلاة شأنها كبير، وعظيم , وتعلم الفاتحة وإتقانها: من تمام الصلاة، وفرضٌ على المسلم القيام بها؛ فإن الفاتحة ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة بدونها، ويدل لذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) رواه البخاري (723) ومسلم (394) .
قال الشيخ الرحيباني الحنبلي - رحمه الله -:
(ويلزم جاهلاً تعلُّم الفاتحة) لأنها واجبة في الصلاة، فلزم تحصيلها إذا أمكنه، كشروطها.
" مطالب أولي النُّهى " (1 / 432) .
10. التجرؤ على المعلمين بكلمات نابية.
وأما هذا الفعل: فمناف لأخلاق المسلم من وجهين:
أ. أن الواجب احترام المعلم والمدرس؛ فهما في مقام الوالدين، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، أُعَلِّمُكُمْ) رواه أبو داود (8) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود ".
ب. وجوب حفظ اللسان , وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ اللسان في أكثر من حديث، منها ما رواه الترمذي (2406) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
وروى الترمذي (2616) - وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: (أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقَالَ: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا) فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) .
11. التعود على الألفاظ القبيحة والمستقذرة بين زملائهم.
المسلم يعلَم أن كلماته معدودة ومحسوبة عليه، كما قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق/ 18.
وفي الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ) رواه البخاري (6113) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) رواه البخاري (5672) ومسلم (47) .
12. الاستهانة بكتاب الله، ومسه بغير وضوء.
أما القرآن: فالواجب على المسلم حفظه، وصيانته.
قال النووي - رحمه الله -:
أجمع العلماء على وجوب صيانة المصحف، واحترامه ".
" المجموع " (2 / 84) .
وأما مس المصحف بغير طهارة: فهي من مسائل الخلاف، وقد سبق بيان عدم جواز مس المصحف بغير وضوء. فانظر جواب السؤال رقم: (10672) .
وأخيراً:
فالنصيحة لإخواننا وأبنائنا الطلبة: أن يتقوا الله تعالى في السر والعلَن , وأن يحذروا من معصية الله تعالى مما جاء في أسئلة مدرسهم الحريص عليهم، وغيره مما لا يعلمه عنهم , أو لا يظهرونه في المدرسة، ولتعلموا أن هذه الأمة تحتاج إلى شباب مخلصين , يعملون على رفعتها، وإرجاع عزِّها بين الأمم , وذلك لا يكون إلا على يد جيل صالح، يحمل القرآن، ويتحلى التقوى، ويتجمل بالأخلاق الحسنة الحميدة، ونرجو أن تكونوا منهم.
والله سبحانه وتعالى نسأله أن يحفظكم، ويهديكم، ويجعلكم ذخراً وعزّاً لهذه الأمة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(10/1)