هل يجوز للداعية والمؤلف والمحاضر أخذ مال على أفعاله؟ وهل لهم أجور يوم القيامة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل أو امرأة يعملان في الدعوة، ويؤلفان الكتب، هل يجوز له أو لها أن يأخذا ربحاً على الكتب الدينية التي يكتبها - أو تكتبها هي - بعد تغطية كلفة الطباعة، أو أجراً على إلقاء محاضرة، أو تعليم أحدٍ دينَه؟ وهل ينقص من أجره يوم القيامة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أخذ الأجرة على كتابة الكتب الإسلامية، أو إلقاء المحاضرات النافعة، أو تعليم الدين: جائز، على القول الصحيح، ويقوى الجواز إذا وجدت الحاجة إلى المال.
ومن أدلة الجواز:
1. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ [أي: قطيع من الغنم] فَبَرَأَ فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا؟! حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ) رواه البخاري (5405) .
ومعنى (مرُّوا بماء) أي: بقوم نازلين على ماء.
2. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: (أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا قَالَ: أَعْطِهَا ثَوْبًا، قَالَ: لَا أَجِدُ قَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَاعْتَلَّ لَهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ) . رواه البخاري (4741) ومسلم (1425) .
ومعنى (فاعتل له) حزن وتضجر من أجله، أو: تعلل أنه لم يجده.
قال النووي رحمه الله:
وفي هذا الحديث: دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن، وجواز الاستئجار لتعليم القرآن، وكلاهما جائز عند الشافعي، وبه قال عطاء، والحسن بن صالح، ومالك، وإسحاق، وغيرهم، ومنَعَه جماعة، منهم: الزهري، وأبو حنيفة، وهذا الحديث مع الحديث الصحيح: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) يردان قول مَن منع ذلك، ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة سوى أبي حنيفة.
" شرح مسلم " (9 / 214، 215) .
وقد علَّلَ الحنفية منهم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، بقولهم: لأن تعليم القرآن عبادة، وواجب شرعي، فلا يجوز أخذ الأجر عليه، وأباحوا أخذ الأجرة على الرقية.
قال ابن بطَّال رحمه الله:
وأما قول الطحاوي: إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضاً فرض: فغلط؛ لأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه؟! وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد: ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك: فضيلة، ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضاً الصلاة ليس بفرض متعين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة على الرقَى، وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة.
وقوله عليه السلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، فسقط قولهم.
" شرح صحيح البخاري " (6 / 405، 406) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
يجوز لك أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلا امرأة بتعليمه إياها ما معه من القرآن، وكان ذلك صداقها، وأخذ الصحابي أجرة على شفاء مريض كافر بسبب رقيته إياه بفاتحة الكتاب، وقال في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) أخرجه البخاري ومسلم، وإنما المحظور: أخذ الأجرة على نفس تلاوة القرآن، وسؤال الناس بقراءته.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (15 / 96) .
ثانياً:
أما نقصان أجر الآخرة بهذه الأجرة المأخوذة في الدنيا فلا يمتنع ذلك، ويكون ثواب من لم يأخذ أجرة أكمل وأعظم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ مِنْ الْآخِرَةِ وَيَبْقَى لَهُمْ الثُّلُثُ وَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) رواه مسلم (1906) .
قال النووي رحمه الله:
"وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث: فَالصَّوَاب الَّذِي لَا يَجُوز غَيْره: أَنَّ الْغُزَاة إِذَا سَلِمُوا أَوْ غَنِمُوا يَكُون أَجْرهمْ أَقَلّ مِنْ أَجْر مَنْ لَمْ يَسْلَم , أَوْ سَلِمَ وَلَمْ يَغْنَم , وَأَنَّ الْغَنِيمَة هِيَ فِي مُقَابَلَة جُزْء مِنْ أَجْر غَزْوهمْ , فَإِذَا حَصَلَتْ لَهُمْ فَقَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرهمْ الْمُتَرَتَّب عَلَى الْغَزْو , وَتَكُون هَذِهِ الْغَنِيمَة مِنْ جُمْلَة الْأَجْر , وَهَذَا مُوَافِق لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة عَنْ الصَّحَابَة كَقَوْلِهِ: (مِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُل مِنْ أَجْره شَيْئًا وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَته فَهُوَ يَهْدُبُهَا) أَيْ: يَجْتَنِيهَا , فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الصَّوَاب , وَهُوَ ظَاهِر الْحَدِيث , وَلَمْ يَأْتِ حَدِيث صَرِيح صَحِيح يُخَالِف هَذَا , فَتَعَيَّنَ حَمْله عَلَى مَا ذَكَرْنَا" انتهى.
ويمكن تقسيم المعلمين والمؤلفين والدعاة الذين يأخذون أجرة على مؤلفاتهم أو محاضراتهم ودروسهم إلى قسميْن:
1. أن يقصد أولئك بتلك الأجور والأموال الاستعانة بها على طاعة الله، ويكون قصدهم الأصلي نشر العلم، ورفع الجهل عن الناس، ورفع راية الإسلام في كل مكان، وأما ما يحصل من نفع دنيوي: فهو تبع لا أصل، فهؤلاء لهم أجر في الآخرة.
2. أن يقصد أولئك بنشر تلك الأعمال الكتابية، والقيام بالأعمال الدعوية، والتعليم: أن يقصدوا بذلك ما يترتب عليها من نفع دنيوي، ابتداءً، وانتهاءً، فيفعلوا هذه الأشياء من أجل المال، فهؤلاء لا ثواب لهم على تلك الأعمال، لأنهم إنما أرادوا بها الدنيا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وجماع هذا: أن المستحب: أن يأخذ [يعني: المال] ليحج، لا أن يحج ليأخذ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم، أو ليعلِّم، أو ليجاهد: فحسن، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون أجورهم مثل أم موسى ترضع ابنها، وتأخذ أجرها) ، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه كرغبة أم موسى في الإرضاع، بخلاف الظئر المستأجر على الرضاع إذا كانت أجنبية.
وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق: فهذا من أعمال الدنيا، ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده، والدين وسيلة، والأشبه: أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص، ليس هذا موضعها.
" مجموع الفتاوى " (26 / 19، 20) .
ويدل لهذا القول أحاديث، منها:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّ يَعْلَى ابْنَ مُنْيَةَ قَالَ: آذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَزْوِ وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ لِي خَادِمٌ فَالْتَمَسْتُ أَجِيرًا يَكْفِينِي وَأُجْرِي لَهُ سَهْمَهُ، فَوَجَدْتُ رَجُلًا فَلَمَّا دَنَا الرَّحِيلُ أَتَانِي فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا السُّهْمَانِ وَمَا يَبْلُغُ سَهْمِي فَسَمِّ لِي شَيْئًا كَانَ السَّهْمُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَسَمَّيْتُ لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَتُهُ أَرَدْتُ أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ فَذَكَرْتُ الدَّنَانِيرَ فَجِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ أَمْرَهُ فَقَالَ: (مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي سَمَّى) رواه أبو داود (2527) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال الشيخ عبد المحسن العبَّاد حفظه الله:
أي: لا يُعطى شيئاً من الغنيمة؛ لأنه اتفق معه على هذا المقدار، وكذلك ليس له شيء في الآخرة؛ لأنه ما جاهد من أجل الله، وإنما خرج من أجل الأجرة.
" شرح سنن أبي داود " (13 / 439) ترقيم الشاملة.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا أَجْرَ لَهُ) فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ، وَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَعَلَّكَ لَمْ تُفَهِّمْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا فَقَالَ: (لَا أَجْرَ لَهُ) فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: (لَهُ لَا أَجْرَ لَهُ) .
رواه أبو داود (2516) وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضاً من الدنيا أنه (لاَ أَجْرَ لَهُ) وهي محمولة على أنه لم يكن له غرضٌ في الجهاد إلا الدنيا.
" جامع العلوم والحكم " (1 / 17) .
وقال الشيخ عبد المحسن العبَّاد حفظه الله:
لأن الذي يدفعه للجهاد: هو أن يحصل عَرَضاً دنيويّاً، من غنيمة، أو أجرة، ولعل المقصود من ذلك: أن قصده الدنيا وحدها، ولا يريد إعلاء كلمة الله.
" شرح سنن أبي داود " (13 / 417) ترقيم الشاملة.
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم (95781) و (134154) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/319)
المسلم محبوب في أهله ومجتمعه وليس مبغضا مكروها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الذي لا يذمه أحد من جيرانه رجل سوء؛ لأنه لا ينهى عن أي منكر طوال فترة مجاورته لهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأصل في المسلم أنه محبوب في أهله ومجتمعه، مرغوب من جيرانه، مقبول من جميع من يخالطه ويعرفه، لأنه يتحلى بالأخلاق الكريمة، والصفات الفاضلة، كريم الخصال، جميل الفعال، سهل هين لين، يألف ويؤلف، يحبه أهل الأرض ويحبه أهل السماء، ولأنه هو يحب المؤمنين والمسلمين، ذليل لإخوانه وجيرانه، حكيم في أقواله وأفعاله، ومثله يلقي الله له القبول في الأرض.
يقول الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) طه/96
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله، عز وجل، لمتابعتها الشريعة المحمدية -يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه. وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه....- فذكر الأحاديث التي سيأتي ذكرها ثم قال: -
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) قال: حُبًّا.
وقال مجاهد عنه: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) قال: محبة في الناس في الدنيا.
وقال سعيد بن جبير عنه: يحبهم ويُحببهم، يعني: إلى خلقه المؤمنين. كما قال مجاهد أيضًا، والضحاك وغيرهم. وقال العوفي، عن ابن عباس أيضًا: الود من المسلمين في الدنيا، والرزق الحسن، واللسان الصادق.
وقال قتادة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) إي والله في قلوب أهل الإيمان، ذكر لنا أن هَرِم بن حَيَّان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيرًا أو شرًّا إلا كساه الله عز وجل رداء عمله." انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (5/267)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ. قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ. قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ. ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)
رواه البخاري (3209) ومسلم (2637) وبوب عليه النووي بقوله: باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يلزم أن يكون سببا في بغض الناس للمؤمن، بل المؤمن الحكيم يتحبب إلى الناس بالإحسان إليهم وصدق محبتهم ومودتهم، ولا يتخلى عن وظيفة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا استعمل الحكمة واللين فالغالب أن رصيده من المحبة في قلوب الناس يزداد، لما يرونه من حرصه عليهم، وشفقته بهم، وصدق نصيحته لهم، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المبغضين والحاسدين والحاقدين، كما وقع للرسل والأنبياء عليهم السلام حيث تآمر عليهم أقوامهم، وحاولوا قتلهم وإخراجهم من ديارهم.
ومن المعلوم أنه من المستبعد أن يتفق الناس على محبة شخص معين، وألا يكون له حساد وحاقدون، والعلماء والدعاة لا بد أن يتعرضوا لسخط بعض الناس الذين أغواهم الشيطان فكرهوا رضوان الله، وأرادوا أن يطفؤوا نور الله كما حاول المشركون، أو غلبت عليهم شهواتهم وأهواؤهم، حتى إنهم ليكرهون العلماء الناصحين، والدعاة المخلصين، وهم الذين قصدهم السلف رضوان الله عليهم في بعض ما جاء عنهم.
عن يحيى بن المتوكل قال: سمعت سفيان الثوري يقول:
إذا أثنى على الرجل خيرًا به أجمعون فهو رجل سوء.
قالوا لسفيان: كيف ذاك؟!
قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يعيب عليهم ويلقاهم بوجه طلق.
رواه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (7/30)
ومن المعروف في ترجمة سفيان الثوري أنه كان من أشد الناس في هذا الباب، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه كان يبول الدم من حرقته إذا لم يستطع تغيير المنكر، ولكن سياق كلامه في هذا الأثر يقصد فيه أنه لا يمكن أن تجتمع كلمة الناس صالحهم وفاسقهم على حب الداعية، بل لا بد من حاسدين أو حاقدين.
ثم في بعض الأزمنة التي يكثر فيها أمثال هؤلاء المفسدون الحاقدون تبدو هذه الظاهرة بشكل أظهر وأبين:
روى أبو بكر الخلال رحمه الله في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (رقم/66) قال: أخبرني عمر بن صالح بطرسوس قال: قال لي أبو عبد الله – يعني أحمد بن حنبل -:
يا أبا حفص، يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع.
فقلت: يا أبا عبد الله، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟
فقال: يا أبا حفص، صيَّروا أمر الله فضولا. وقال: المؤمن إذا رأى أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهي، يعني قالوا: هذا فضول. قال: والمنافق كل شيء يراه، قال بيده على فمه [يعني: وضع يده على فمه، كناية عن ترك الكلام في ذلك المنكر] ، فقالوا: نعم الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل ".
والخلاصة: أن محبة الناس للمؤمن، وفيهم جيرانه، ليست علامة سوء على إطلاقها، كما قد يظن من هذه الآثار السلفية، وإنما محبة الناس للمؤمن هي نعمة من الله عليه، شريطة ألا يداهن في أمر الله، وألا يدع الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، خوفا من سقوط هذه المحبة أو نقصانها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/320)
موقف المرأة من الدعوة إلى الله
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا تقولون عن الدعوة إلى الله بالنسبة للمرأة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هي كالرجل عليها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن النصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة تدل على ذلك وكلام أهل العلم صريح في ذلك، فعليها أن تدعوا إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر بالآداب الشرعية التي تُطلب من الرجل، وعليها مع ذلك أن لا يثنيها عن الدعوة إلى الله الجزع وقلة الصبر، لاحتقار بعض الناس لها أو سبهم لها أو سخريتهم بها، بل عليها أن تتحمل وتصبر، ولو رأت من الناس ما يُعتبر نوعاً من السخرية والإستهزاء، ثم عليها أن ترعى أمرأ أخر وهو أن تكون مثالاً للعفة والحجاب عن الرجال الأجانب وتبتعد عن الإختلاط، بل تكون دعوتها مع العناية بالتحفظ من كل ما يُنكر عليها، فإن دعت الرجال دعتهم وهي متحجبة بدون خلوة بأحد منهم، وإن دعت النساء دعتهن بحكمة وأن تكون نزيهة في أخلاقها وسيرتها حتى لا يُعترض عليها، ويقلن لماذا ما بدأت بنفسها، وعليها أن تبتعد عن اللباس الذي قد تفتن الناس به، وأن تكون بعيدة عن كل أسباب الفتنة من إظهار المحاسن وخضوع في الكلام مما يُنكر عليها بل تكون العناية بالدعوة إلى الله على وجه لا يضر دينها ولا يضر سمعتها.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد العزيز بن باز في كتاب الفتاوى الجامعة للمرأة المسلمة ص 1010.(8/321)
هل تسعى لتزويج أخيها المنتمي لجماعة التبليغ من صديقتها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في موقعكم عن جماعة التبليغ وقرأت عنها في عدة مراجع ورأيي فيها الآن أني لا أحب أن أخرج معها وأحب من الناس كذلك أن يحتاطوا لدينهم, سؤالي هو أني لا أحب لنفسي أن أكون زوجة لأحد أفرادها, فهل إذا سعيت في تزويج أخي المنضم إليها لإحدى صديقاتي أكون قد خالفت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) علما أني سمعت أن علماء كبارا قد أجازوا الخروج معهم أمثال الشيخ ابن جبرين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جماعة التبليغ كغيرها من الجماعات الدعوية، لها جهودها وثمارها، وعليها بعض الملاحظات، ويتفاوت أفرادها في العلم والفهم وسلامة المنهج بحسب البلدان والبيئات، وقد سبق الكلام على هذه الجماعة في جواب السؤال رقم (8674) ورقم (14037) ورقم (39349) ، وعليه؛ فإذا كان أخوك مرضي الدين والخلق، متبعا للسنة محاذرا للبدعة، فلا حرج في سعيك لتزويجه من صديقتك.
وإذا علمت من حال أخيك أنه يصر على بدعة أو يكثر السفر، ويُخشى أن يستمر على ذلك بعد زواجه، مما يترتب عليه الضرر لزوجته وذريته، فلا تتوسطي في زواجه، وينبغي له حينئذ أن يتزوج من هي على مثل حاله، تجنبا للشقاق والنزاع.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/322)
درست بعض العلم فهل تعلمه للناس؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لم أتعلم العلم الشرعى بصورة مكتملة فقد درست بعض مسائل التوحيد الأولية فى مفهوم التوحيد وتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وغير ذلك من المسائل التي وردت في كتاب معارج القبول للحافظ الحكمى ثم علمنا الشيخ هنا مدخلاً إلى علم مصطلح الحديث وبعض أبواب الفقه ثم دراسة الأحاديث النووية وبعض الرقائق، ثم تركنا الشيخ وابتليت بمهمة التعليم الشرعي في المسجد هنا للنساء فهل علي إثم؟ وماذا عساي أن أفعل كي أكون أهلا لهذا الأمر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جزاك الله خيرا على اهتمامك بتعلم دينك، وتعليمه للناس، ونبشرك إذا أخلصت النية لله تعالى بالثواب الجزيل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) رواه الترمذي (2609) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1838) .
فمن فضل الله تعالى أن من علم الناس شيئا من أمر دينهم استحق ذلك الدعاء، لأن ما علمهم إياه يوصلهم إلى الخير.
وفي صحيح البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً) .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: " وقال في الحديث: (ولو آية) أي: واحدة، ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي، ولو قَلَّ، ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم" انتهى.
لكن على من تصدَّر لدعوة الناس إلى شيء من أمر الدين أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، ولا يشترط أن يكون عالما بالدين كله، وفي بيان هذه المسألة يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
"إذا كان الإنسان على بصيرة فيما يدعو إليه فلا فرق بين أن يكون عالماً كبيراً يشار إليه، أو طالب علم مُجِدٍّ في طلبه، أو عامياً لكنه علم المسألة علماً يقيناً.. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) ولا يشترط في الداعية أن يبلغ مبلغاً كبيراً في العلم، لكنه يشترط أن يكون عالماً بما يدعو إليه، أما أن يقوم عن جهل ويدعو بناء على عاطفة عنده فإن هذا لا يجوز.
ولهذا نجد عند الإخوة الذين يدعون إلى الله وليس عندهم من العلم إلا القليل نجدهم لقوة عاطفتهم يحرمون ما لم يحرمه الله، ويوجبون ما لم يوجبه الله على عباده، وهذا أمر خطير جداً، قال الله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النحل/116،117، انتهى بتصرف.
"فتاوى علماء البلد الحرام" ص 329.
وبناء على هذا؛ فإننا نحثك على مواصلة ما قد ابتدأت به من طلب العلم، وتبليغه للناس، فما يسر الله لك تعلمه من مسائل العقيدة أو العبادة فلك أن تبلغيه للناس كما تعلمت، واستعيني في مواصلة طلبك للعلم بالأشرطة المسجلة للعلماء الثقات، وهي بحمد الله كثيرة وموجودة على بعض المواقع، فاحرصي على سماع أشرطة الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ ففيها خير كثير، وعلم غزير، وكذا ما تيسر لك الوصول إلى سماعه أو قراءته من كلام العلماء المعروفين بالعلم وسلامة المعتقد.
وفقنا الله تعالى وإياك لما يحب ويرضى وإياك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/323)
المصلون في مسجده يفعلون بدعاً ومخالفات فكيف السبيل لنصحهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب أدرس في بلد أجنبي كافر، والمسلمون فيها أقلية، ومستضعفون , يوجد بالقرب منِّي مسجد، المصلون فيه يفتقدون الإمام , وهم يُسرُّون حينما أكون إماماً لهم , خاصة أني عربي، وأتقن اللغة العربية , وبعد كل فرض يقومون بالذكر الجماعي، ثم الدعاء الجماعي، وهذا مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بدعة , ولكن أخاف إذا نهيتهم عن ذلك أن ينفروا مني، ويغضبوا , ماذا أفعل في هذه الحالة؟ هل يجوز أن ألازمهم من أجل تأليف قلوبهم وتأملاً في إفادتهم، لقد أحسست أنهم يفتقرون للعلم الصحيح والسنَّة، وأرى أني أستطيع إفادتهم ببعض الأمور، عسى الله أن يفتح قلوبهم ويتقبلوا المنهج الصحيح في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قد أحسنتَ بسؤالك قبل أن تفعل ما يُمكن أن يؤثر سلباً على أولئك المصلين، بل ويرتد أثر ذلك عليك، في صلاتك خاصة، وعموم حياتك.
ومن أعظم صفات الداعية إلى الله: العلم، والحكمة، وبهما يستطيع الداعية تحقيق ما يعجز عنه كثيرون ممن فقدوا نعمة العلم، أو سُلبت منهم الحكمة وحسن التصرف مع المخالفين.
وليست الحكمة تعني التمييع، ولا التنازل عن شيء من الحق، بل هي سلوك طريق يصل بالمرضى من الجهلة والمبتدعة إلى بر العلم والسنَّة.
والداعية الحكيم يعلم أن هؤلاء المصلين يرجعون في فتاواهم إلى أئمة وعلماء يثقون بدينهم وعلمهم، فكيف يريد منهم الانتقال عنهم إليه هكذا مباشرة، ودون مقدمات؟! .
وليعلم الداعية إلى الله أن مفاجأة الناس بالسنَّة التي يجهلونها، والإنكار عليهم بما يفعلونه: قد يسبِّب بغضاً للسنَّة وأهلها من قبَلهم، وهو ما يصنع الحواجز بين الدعاة وبعض الناس في تعليمهم وتبيين السنَّة لهم، ولا يعني هذا ترك نصحهم، وإنما المراد التدرج في دعوتهم.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في شرح كلام علي بن أبي طالب: " حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " رواه البخاري -:
قوله في أثر علي رضي الله عنه: " حدِّثوا النَّاس "، أي: كلِّموهم بالمواعظ وغير المواعظ.
قوله: " بما يعرفون "، أي: بما يمكن أن يعرفوه، وتبلغه عقولهم؛ حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: " إنك لن تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " - رواه البخاري -
ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويداً، رويداً، حتى تستقر عقولهم، وليس معنى " بما يعرفون "، أي: بما يعرفون من قبل؛ لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل.
قوله: " أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! " الاستفهام للإنكار، أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك إذا قلت: قال الله، وقال رسوله: كذا وكذا، قالوا: هذا كذب، إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذِّبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك، بحديث تنسبه إلى الله، ورسوله، فيكونون مكذِّبين لله ورسوله، لا مباشرة، ولكن بواسطة الناقل.
فإن قيل: هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟ .
أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريقة تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويداً، رويدا، حتى يتقبلوا هذا الحديث، ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم، ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به.
ومثل ذلك: العمل بالسنَّة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها، فإننا نعمل بها، ولكن بعد أن نخبرهم بها، حتى تقبلها نفوسهم، ويطمئنوا إليها.
ويستفاد من هذا الأثر: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين، وينزِّل كلَّ إنسانٍ منزلته.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (10 / 774، 775) .
فعليك أن تسلك سبيل الحكمة في دعوة هؤلاء لترك الذِّكر الجماعي، وما يفعلونه من بدع أخرى، وما يتركونه من السنن، ونرى أن تفعل ما يلي:
1. المداومة على صلاة الجماعة بهم إماماً، وأن تتقرب لقلوبهم من خلال الإمامة، ولا تتركها لغيرك فيستولي على صلاتهم واعتقادهم.
2. لا تشارك معهم في ذِكرهم، وبدعهم؛ مع التوكيد على ضرورة بقائك في مجلس الصلاة للإتيان بالذكر الشرعي وحدك.
3. إعطاؤهم الدروس اليومية بجزء يسير من الوقت؛ ليكون طريقاً لقطع بدعتهم؛ وسبيلاً لدعوتهم وتعليمهم.
4. التركيز على تعظيم السنَّة، وتعظيم اتباع الدليل، وذِكر نماذج من الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام، وخاصة من ترى أنهم يعظمونهم ويحبونهم.
5. ترك التعرض لبدعتهم مباشرة، وترك التعرض لأئمتهم وعلمائهم الذين يتبعون قولهم من المعاصرين.
6. الاهتمام برؤسائهم وعقلائهم الذين لهم تأثير عليهم، وبذل الجهد معهم أكثر من غيرهم.
7. تفقدهم بين الفينة والأخرى بالهدايا، كالكتب، والأشرطة، والمطويات، مع الاهتمام بإكرامهم بما يتيسر لك من الطعام والشراب.
8. مشاركتهم في مناسباتهم المباحة، والتقرب إليهم بحسن الخلق.
وهذا ليس لك وحدك، بل هو لكل داعية يريد النجاح في مجتمع تكثر فيه البدعة، ويقل فيه تعظيم السنَّة واتباعها.
ولا تنس الاستعانة بالله تعالى في دعوتك، وأن تكون مخلصاً بها، تريد وجه الله تعالى، وأن تجعل نصب عينيك أن هؤلاء مرضى يحتاجون لدواء أنت تملكه، وهم لا يعرفون أنهم مرضى، فكيف ستوصل لهم الدواء بحكمة؟! .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/324)
دخل في الإسلام، ويدعو الناس إليه، لكنه على علاقة بصديقة له؟!!
[السُّؤَالُ]
ـ[لدى صديق أسلم، وهو ملتزم دينيّاً، ويقوم كلانا بالدعوة بمدرستنا، لكن ما أود أن أسأل عنه هو أننى لا أستطيع تناسى حقيقة أن لديه صديقة، وقد أخبرتُه دائماً أنه يحرم ذلك، لكنه عندما أخبره بذلك يغضب بشدة مني، ويقول لي: إن عليَّ أن أهتم بشؤوني الخاصة، كما سمعتُ أنه على علاقة بها، هذا بالإضافة إلى حقيقة كونها شيعية، برجاء تقديم النصح حول ما يجب القيام به، أنا لا أستطيع التعايش مع حقيقة أنه يقوم بدعوة المسلمين وغير المسلمين فى حين أن لديه صديقة، ويعلم بذلك مَن بالمدرسة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نسأل الله تعالى أن يتقبل من صديقك إسلامه، وأن يثبته عليه، وأن يوفقه في دعوته التي هي وظيفة الرسل الكرام، وهي من أفضل الأعمال الشرعية، ولكن ينبغي له أن يعلم أن الدعوة إلى الله لا بدَّ أن تكون صادقة حتى يؤجر عليها صاحبها، ومن علامات صدقها: أن يحقق الداعية قولَه بالعمل، ومع الأجر من الله تعالى عليها فإنها سبيلٌ ليتأثر الناس بصاحبها.
قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت/ 33.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
وهذه الآية الكريمة تفيد: أن الدعاة إلى الله عز وجل هم أحسن الناس قولاً، إذا حققوا قولَهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثر الناس بدعوتهم وينتفعون بها ويحبونهم عليها.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (2 / 319) .
ونحن نعجب مثلك من صديقك الداعية كيف يدعو الناس إلى الإسلام، والأخلاق، والاتباع، ثم هو يخالف ذلك بإنشائه علاقة محرَّمة مع من يجب عليه بغضها والبراءة منها ومن أفعالها، وهي الرافضية التي من دينها واعتقادها: تحريف القرآن، وتكفير الصحابة إلا قليلاً منهم، عدا عما تحمله قلوبهم من غل وحقد على عموم أهل السنَّة.
وليس هذا من خلق الدعاة إلى الله، ولا من هدي سلفهم من الأنبياء والرسل الكرام.
قال علماء اللجنة الدائمة:
من الشروط التي يجب أن تتوافر في الداعية إلى الله: ما جاء ذكرها في قصة شعيب، قال الله تعالى حكايةً عن شعيب عليه الصلاة والسلام: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود/ 88.
ففي هذه الآية بيان: أن مِن شروط الدعوة: العلم، والكسب الحلال، وامتثاله لما يدعو إليه، فيجتنب ما نهى الله عنه، ويمتثل ما أمر الله به، والنية الحسنة، وتفويض الأمر إلى الله تعالى، والتوكل عليه، وأنه هو الذي بيده التوفيق والإلهام.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (12 / 243) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –:
ومما تجب العناية به بالنسبة للداعي: أن يكون هو أسوة حسنة، عنده عبادة، ومعاملة طيبة، وعنده أيضاً أخلاق يدعو الناس بها، وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تسعوا الناس بأرزاقكم، ولكن تسعوهم بحسن الخلق) فحُسن الخلق جذاب، كم من إنسان قليل العلم يهدي الله على يديه أمماً لأنه حسن الخلق، وكم من إنسان عنده علم واسع كثير لكنه جاف سيء الخُلق، ينفِّر الناس منه، وقد ذكَّر الله نبيه بهذا فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران/ 159، وهذه الرحمة رحمة للداعي وللمدعو، فهي رحمة من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام، ورحمة من الله للخَلْق الذين يدعوهم الرسول؛ لأنه لو كان فظّاً غليظ القلب ما اهتدوا على يديه، فلهذا ينبغي للداعية أن يكون رحب الصدر واسعاً، يأخذ ويعطي ولا يأنف ...
" لقاءات الباب المفتوح " (مقدمة اللقاء رقم 94) .
ولا ينبغي للداعية أن يعظ الناس ويرشدهم للخير وينسى نفسه، وإذا ذكَّرها فتذكرت فينبغي أن يبادر الداعية بفعل كل ما يأمر به من خير، وأن يبتعد عن كل ما يحذِّر منه من شر وسوء.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) الصف/ 2، 3.
وقال سبحانه: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) البقرة/ 44.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله –:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) أي: بالإيمان والخير.
(وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال:
(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وأسمى العل " عقلاً "؛ لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه: دل على عدم عقله، وجهله، خصوصاً إذا كان عالما بذلك، قد قامت عليه الحجة.
وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل: فهي عامة لكل أحد؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر: فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن " تفسير السعدي " (ص 50 , 51) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون؛ فإنهم لا حظ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، وإنما نصيبهم في هذه الدعوة: المقت من الله سبحانه، والسب من الناس، والإعراض عنهم، والتنفير من دعوتهم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) الصف/ 2، 3، وقال سبحانه: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) البقرة/ 44، فأرشد سبحانه في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لما يقول: أمرٌ يخالف العقل، كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل؟!! .
" فتاوى الشيخ ابن باز " (2 / 319) .
ثانياً:
وأنت أخي الفاضل بعد أن تبين له ما ذكرناه آنفاً من أهمية الدعوة إلى الله، وحقيقتها، وأهمية التزام الداعية بما يرشد الناس إليه، وعدم مخالفة أفعاله لأقواله: عليك واجب النصح – أيضاً – بما يقترفه من إثم في تلك العلاقة الفاجرة بتلك الرافضية، ولا تستمع لقوله، ولا تلتفت لفعله في صدك عن نصحه.
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: (بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِم) .
رواه البخاري (57) ومسلم (56) .
وعليك بالحكمة في نصحه وإرشاده، فأمر الشهوة عظيم، وفتنة النساء لا تخفى حقيقتها وآثارها على أحد، فكم أزهقت من نفوس، وكم أتلفت من أخلاق، وكم أفسدت من أديان، فتنبه لهذا، وتلطف في دعوته وتوجيهه ونصحه، ولا تستبعد قيام تلك الرافضية بسحره، فلا تتخلى عن صديقك البتة، وإن عجزت عن نصحه وأغلق الباب عليك: فانظر من يمكنك أن تطلعه على أمره من العقلاء المقربين لكما ليقوم بنصحه وإرشاده، وليس ثمة داعٍ لتفصيل الأمر لهذا الناصح؛ لئلا تتسبب في إيجاد حاجز بينك وبين صديقك.
ومع نصحك له بترك العلاقة المحرَّمة لا بدَّ من التبيين له عقائد الرافضة، وخطرهم على دينه، وأنه لا يبعد أن تكون هذه مكيدة من أهل دينها للإيقاع به، ليترفض ويترك دينه.
وأعلمه أنه حتى لا يجوز له التزوج بها وهي على دينها، إلا أن تتركه وتتبرأ منه، فكيف يجوِّز لنفسه العلاقة بها وهي لا تحل له حتى بالنكاح.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
عن الرافضة هل تزوَّج؟ .
فأجاب:
الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال، ولا ينبغي للمسلم أن يزوِّج موليته من رافضي.
وإن تزوج هو رافضية: صح النكاح إن كان يرجو أن تتوب، وإلا فترك نكاحها أفضل؛ لئلا تفسد عليه ولده.
" مجموع الفتاوى " (32 / 61) .
فأنت ترى منع شيخ الإسلام رحمه الله من تزويج الرافضة؛ لما للزوج من أثر على زوجته، وأجاز التزوج بالرافضية بشرط أن يرجو أن تتوب مما عليه، وإلا فلا يجوز.
وانظر في تحريف القرآن عند الرافضة: جواب السؤال رقم: (21500) .
وانظر في حكم موقفهم من الصحابة: جوابي السؤالين: (45563) و (95588) .
وفي الموقع أجوبة كثيرة تتعلق بالرافضة وعقائدهم، فانظر – إن شئت المزيد -: أجوبة الأسئلة (23487) , (12103) , (1148) , (4569) .
وليعلم هذا الأخ المنصوح أن من شر ما يكيد به لنفسه، ويغلق عنها أبواب الخير أن يتباعد عن الناصح الأمين الحريص على مصلحته، والداعي له إلى سبيل الخير، وإن ما يرد به على الناصح من مثل هذا القول هو من أسوأ المقال، وقد قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الاسراء:53) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد سبحنك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وإن أبغض الكلام إلى الله أن يقول الرجل للرجل: اتق الله، فيقول عليك نفسك) .
رواه النسائي في الكبرى (10619ـ الرسالة) ، وصحح الألباني إسناده في الصحيحة (2598)
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/325)
جماعة التبليغ ما لها وما عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الجماعات التي تقضي أربعة أشهر وأربعين يوماً في مختلف أنحاء العالم لدعوة المسلمين إلى واجباتهم الدينية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" جماعة التبليغ " من الجماعات العاملة للإسلام، وجهدها في الدعوة إلى الله لا يُنكر، ولكنها مثلها مثل كثير من الجماعات تقع في أخطاء، وعليها ملاحظات، ويمكن إجمال الملاحظات بما يلي مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأخطاء تختلف في الجماعة نفسها بحسب البيئة والمجتمع الموجودة به، ففي المجتمعات التي يظهر فيها العلم والعلماء وينتشر مذهب أهل السنة والجماعة تقل أخطاؤهم إلى حد بعيد، وفي مجتمعات أخرى قد تزيد هذه الأخطاء، فمن أخطائهم:
1. عدم تبني عقيدة أهل السنة والجماعة، وذلك واضح في تعدد عقائد أفرادها بل بعض قادتها.
2. عدم اهتمامهم بالعلم الشرعي.
3. تأويلهم للآيات القرآنية ونقلهم لمعانيها على غير مراد الله تعالى، ومن ذلك تأويلهم لآيات الجهاد بأن المقصود بها " الخروج للدعوة "، وكذا الآيات التي فيها لفظ " الخروج " ومشتقاته إلى الخروج في سبيل الله للدعوة.
4. جعلهم الترتيب الذي يحددونه في الخروج متعبَّداً به، فراحوا يستدلون بالآيات القرآنية ويجعلون المقصود منها ما يحددونه من أيام وأشهر، ولم يقتصر الأمر على مجرد الترتيب بل ظل بينهم شائعاً منتشراً مع تعدد البيئات وتغير البلدان واختلاف الأشخاص.
5. وقوعهم في بعض المخالفات الشرعية من نحو جعلهم رجلاً منهم يدعو أثناء خروج الجماعة للدعوة إلى الله، ويعلقون نجاحهم وفشلهم على صدق هذا الداعي والقبول منه.
6. انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، وهذا لا يليق بالذي يتصدى للدعوة إلى الله.
7. عدم كلامهم عن " المنكرات "، ظناً منهم أن الأمر بالمعروف يغني عنه، ولذا نجدهم لا يتكلمون عن المنكرات الفاشية بين الناس مع أن شعار هذه الأمة – وهم يرددونه باستمرار – {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران / 104، فالمفلحون هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وليس فقط من يأتي بأحدهما.
8. ما يقع من بعضهم من الإعجاب بالنفس والغرور ويؤدي به ذلك إلى ازدراء غيره – بل والتطاول على أهل العلم ووصفهم بأنهم قاعدون ونائمون - ووقوعه في الرياء، فتجده يتحدث أنه خرج وسافر وانتقل وأنه رأى وشاهد، وهو يؤدي إلى وقوعه فيما لا يحمد مما ذكرنا.
9. جعلهم الخروج للدعوة أفضل من كثير من العبادات كالجهاد وطلب العلم، مع أن ما يفضلونه عليه هو من الواجبات أو قد يصير واجباً على أناس دون غيرهم.
10. جرأة بعضهم على الفتوى والتفسير والحديث، وذلك واضح في كونهم يجعلون كل واحد منهم يخاطب الناس ويبين لهم، وهو يؤدي إلى جرأة هؤلاء على الشرع، فلن يخلو كلامه من بيان حكم أو حديث أو تفسير آية، وهو لم يقرأ في ذلك شيئاً، ولم يسمع أحداً من العلماء لينقل عنه، وبعضهم يكون من المسلمين أو المهتدين حديثاً.
11. تفريط بعضهم في حقوق الأبناء والزوجة، وقد بيَّنا خطر هذا الأمر في جواب السؤال رقم (3043) .
لذا فإن العلماء لم يجوزوا الخروج معهم إلا لمن أراد أن يفيدهم ويصحح الأخطاء التي تقع منهم.
ولا ينبغي لنا أن نصد الناس عنهم بإسقاطهم بالكلية بل علينا أن نحاول إصلاح الخطأ والنصيحة لهم حتى تستمر جهودهم وتكون صائبة على وفق الكتاب والسنة.
وهذه فتاوى بعض العلماء في " جماعة التبليغ ":
1. قال الشيخ عبد العزيز بن باز:
فإن جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة، فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنّة والجماعة حتى يرشدهم وينصحهم ويتعاون معهم على الخير لأنهم نشيطون في عملهم لكنهم يحتاجون إلى المزيد من العلم وإلى من يبصرهم من علماء التوحيد والسنَّة، رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (8 / 331) .
2. قال الشيخ صالح الفوزان:
الخروج في سبيل الله ليس هو الخروج الذي يعنونه الآن، الخروج في سبيل الله هو الخروج للغزو، أما ما يسمونه الآن بالخروج فهذا بدعة لم يرد عن السلف.
وخروج الإنسان يدعو إلى الله غير متقيد في أيام معينة بل يدعو إلى الله حسب إمكانيته ومقدرته، بدون أن يتقيد بجماعة أو يتقيد بأربعين يوماً أو أقل أو أكثر.
وكذلك مما يجب على الداعية أن يكون ذا علم، لا يجوز للإنسان أن يدعو إلى الله وهو جاهل، قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة} ، أي: على علم لأن الداعية لابد أن يعرف ما يدعو إليه من واجب ومستحب ومحرم ومكروه ويعرف ما هو الشرك والمعصية والكفر والفسوق والعصيان يعرف درجات الإنكار وكيفيته.
والخروج الذي يشغل عن طلب العلم أمر باطل لأن طلب العلم فريضة وهو لا يحصل إلا بالتعلم لا يحصل بالإلهام، هذا من خرافات الصوفية الضالة، لأن المل بدون علم ضلال، والطمع بحصول العلم بدون تعلم وهم خاطئ.
من كتاب " ثلاث محاضرات في العلم والدعوة ".
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/326)
توجيهات للدعاة في الخارج
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن شباب متوجهون إلى الغرب للدعوة إلى الله، فنرجو منكم تزويدنا ببعض النصائح والتوجيهات للاستفادة منها في رحلتنا. والله يحفظكم ويرعاكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فإن الدعوة إلى الله من أوجب الواجبات، وهي سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من العلماء والدعاة والمصلحين، ورغبةً في استكمال وتحقيق الهدف من الجولة الدعوية والاستفادة من وقتكم الثمين الذي تبتغون به الأجر من الله تعالى، فإننا ننصحكم بما يلي:
1- تقوى الله عزَّ وجل ومراقبته في السر والعلانية، قال عليه الصلاة والسلام: " اتق الله حيثما كنت.. " رواه الترمذي (1910) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1618) ، فتقوى الله هي رأس الأمر كله، وهي سبب التوفيق في الدنيا والمثوبة في الآخرة. واحتساب الأجر وإخلاص النية لله عزَّ وجل في القول والعمل: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " رواه البخاري (1) ومسلم (3530) ، وهذا مما يُعين الداعية ويجعل عمله مباركاً، كما أن تقوى الله هي رأس الأمر كله، وهي سبب التوفيق في الدنيا والمثوبة في الآخرة.
2- كونوا قدوة حسنة في كلامكم ومظهركم وطعامكم ونومكم، مقتدين في ذلك كله بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
3- الحرص على غض البصر وخصوصاً في البلاد التي يكثر فيها التبرج والسفور.
4- يُستحسن اللباس العربي لأن فيه مصالح كثيرة، ولا يُفضل ارتداء اللباس الإفرنجي، أما بالنسبة لما يُقال عن خطورة اللباس العربي في الخارج فهو مجرد إشاعات لا حقيقة لها. ويمكن نزع الغترة أو الشماغ والاكتفاء بالطاقية عند الحاجة إلى ذلك.
5- السواك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وهو نادر في أغلب البلدان لذا فهو هدية محببة لدى كثير من المسلمين.
6- استخدام حقيبة يدوية للملابس؛ لأن احتمال فقدان العفش في تلك الدول وارد، وكذلك إفساح المجال لشحن الكتب التي تحتاجونها، وصرف ما معكم من أموال إلى الدولار للصرف منها أثناء الجولة.
7- أخذ جميع الاحتياطات اللازمة قبل السفر كالتطعيم من الأمراض المنتشرة في الدولة التي سوف تُسافر إليها، وأخذ بطاقة التطعيم الدولي الأصفر.
8- أخذ جميع العناوين التي يُحتاج إليها مثل عنوان سفارات بعض البلاد العربية والإسلامية، وكذلك المراكز والهيئات الإسلامية المعروفة والموثوقة.
الحذر من الإيحاء إلى المسلمين الذين تختلطون بهم أنكم جئتم لمساعدتهم مادياً لأن هذا يفتح عليكم باب طلبات المساعدة والمطالب الشخصية، بل قد يفهم بعض الناس أن معكم أموالاً طائلة فيتربصون بكم شراً. ولكن هذا لا يمنع من استصحاب بعض الزكوات والصدقات معكم لدفعها للمحتاجين إليها عند اقتناعكم بذلك مع الحذر والسرية.
9- عدم الخوض في أحاديث لا داعي لها، والحذر من التطرق إلى أمور الزواج ولو من باب المزاح لا سيما مع المترجمين، وقد حدثت مآسي من جراء قيام بعض الدعاة من الزواج في أول الرحلة الدعوية، والطلاق في آخرها، ومن ذلك تشويه سمعة الدعاة وتضييع أولاد وزوجات.
10- التزود بما يلي:
" مصحف جيب، ويُفضل أن يكون من المذيل بترجمة معاني الكلمات وأسباب النزول.
" كتاب أو كتابين في العقيدة وخصوصاً التوحيد وما يتعلق بالطرق الصوفية.
" كتاب أو كتابين في فقه العبادات وخصوصاً في فقه الطهارة والصلاة والصيام.
" كتاب رياض الصالحين للإمام النووي فهو مرجع شامل خصوصاً في فقه الطهارة والصيام.
" فتاوى اللجنة الدائمة.
" مجموعة مختارة من الدروس والمحاضرات المسجلة للاستفادة منها خصوصاً أثناء الرحلات الطويلة بالسيارة.
" استصحاب وسيلة تعين على تحديد اتجاه القبلة وأوقات الصلوات وساعة منبه، ويُفضل شراء جهاز تسجيل صغير لتسجيل بعض الكلمات وإجراء بعض المقابلات مع السكان المحليين عند الحاجة، واللقاءات الدعوية وما ذُكر أعلاه يُفيد الداعية في إعداد اللمات والدروس والمحاضرات والإجابة عن الأسئلة، وكذلك في تنظيم وقته والاستفادة منه بإذن الله تعالى.
11- الاستفادة قدر الإمكان من الوقت بما يُفيد الدعوة حيث إن زيارتكم هناك مكسب للمسلمين في ذلك البلد، فما من بابٍ للخير يُمكن طرقه إلا وعليكم به ولا تترددوا وليكن ذلك بالتنسيق مع الاخوة المسئولين والمنظمين.
12- مراعاة جانب ضعف العلم والجهل واختلاف المذاهب عند طرح أي موضوع أو قضية للنقاش مع محاولة الابتعاد عن الخوض في المسائل الخلافية وتصنيف الناس، والحرص على بيان الحق من غير التعرض للأشخاص.
13- الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى وخاصة في ظروف السفر، وهي مطلوبة في ترتيب الأولويات والتدرج في تحقيق الأهداف كما أنها مطلوبة في التعامل مع مختلف أصناف الناس، ومن الحكمة أيضاً تقدير الناس وحفظ مقاماتهم، وإنزالهم منازلهم.
14- سيجد الداعية بعض الأسئلة الفقهية ترد عليه أثناء الجولة، وخصوصاً بعد إلقاء الدروس والكلمات فينبغي عليه التوسط في التعامل مع هذه القضية، والإجابة على الأسئلة الشرعية بالأدلة وذكر أقوال العلماء أو قول " لا أدري "، كما قيل: " من قال لا أدري فقد أفتى ". ولا مانع من تأجيل الجواب إلى حين مراجعة المسألة.
15- الأفضل أن تكون الدروس والكلمات بالتناوب بين المشاركين في الجولة، ولا نرى أبداً أن يستأثر واحد فقط بأعباء الجولة فيصبح هو المفتي والخطيب والواعظ حتى وإن كان أكثر مقدرة وتمكناً؛ لأن من أهداف الجولات تدريب الدعاة عملياً على الدعوة، وهذه الجولات فرصة ثمينة للتدرب على المواعظ والخطب خصوصاً بالنسبة للاخوة الذين يجدون صعوبة وعدم مقدرة على تطبيق ذلك داخل البلاد نظراً لوجود العلماء وطلبة العلم.
16- التعرف على أحوال المسلمين وذلك بالتعرف على الوضع الإسلامي بعامة والجمعيات والمؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية في المنطقة بخاصة، وكتابة عناوينها وتقارير عن نشاطاتها، وكذلك التعرف على الشخصيات الإسلامية البارزة والمؤثرة في المجتمع، ومحاولة كسبهم قدر الإمكان بالزيارة والكلمة الطيبة، للاستفادة فيما يعود على الإسلام والمسلمين بالخير،كل ذلك حسب الضوابط الشرعية، وكذلك التعرف على النشاطات المعادية للإسلام في المنطقة ومتابعتها.
17- توثيق الصلات بالجهات الدينية والرسمية الموجودة، وذلك عبر اللقاءات الودية وتهادي الكتب والمواد السمعية الإسلامية ونحوها، وهذا سيسهل لكم كثيراً من الأمور في عملكم ويكون أبلغ في انتشار الدعوة وتأثيرها.
وختاماً نسأل الله لكم التوفيق والسداد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/327)
هل من النفاق النهي عن الشيء ثم فعله
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كنت أعظ أخواني وأحذرهم من بعض المعاصي؛ لكني أقع أنا في هذه المعاصي؛ هل أعتبر منافقاً؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
يجب عليك التوبة من المعاصي، وموعظة إخوانك عنها، ولا يجوز لك الإقامة على المعاصي وترك النصيحة لإخوانك؛ لأن هذا جمع بين معصيتين، فعليك التوبة إلى الله من ذلك، مع النصيحة لإخوانك، ولا تكون بذلك منافقاً، ولكنك تقع فيما ذمه الله وعاب به من فعله في قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وفي قوله سبحانه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/268.(8/328)
نصائح لمتدربة على التدريس
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالبة على أعتاب التدرب على التدريس في المدارس (التربية الميدانية) بماذا تنصحونني؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله أن يوفقك إلى ما فيه الخير والفلاح والرشد، وإن أهم ما ننصحك به:
1- أن تتقي الله تعالى في سرك وعلنك، ومدخلك ومخرجك، وفي جميع أمرك.
2- أن تتقني ما أسند إليك من عمل؛ فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ". [حديث رواه البيهقي في الشعب وحسنه الألباني في صحيح الجامع] .
3- أن تنوي بعملك نفع الناس، وإفادتهم، والتقوّي على طاعة الله بما ستنالينه من مال حلال بعد التخرج.
4- أن تبذلي النصيحة الصادقة لمن تقابلين من الطالبات، وألا تستهيني بالكلمة الصادقة، فكم من تائب وعابد وصالح، كان مبدأ خيره كلمة واحدة.
5- أن تحملي معك بعض النشرات، والكتيبات، والأشرطة النافعة، وتهديها لزميلاتك، والدارسات لديك، ليعم خيرك، ويزاد أجرك.
6- أن تكثري من دعاء الله أن يوفقك ويسددك، فإنه لا حول، ولا قوة، ولا فلاح، ولا نجاح، إلا بالله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/329)
خلق السموات والأرض في ستة أو ثمانية أيام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } الأعراف
والذي فهمته أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وهذا واضح.
ولكن في آية أخرى ذكر الله خلق السموات والأرض فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } فصلت.
فهنا ذكر الله أنه خلق الأرض في يومين، ثم جعل فيها الرواسي ... وتقدير الأقوات في أربعة أيام، فيصير المجموع ستة، ثم خلق السموات في يومين، وبهذا يكون المجموع ثمانية أيام.
فكيف نجمع بين الآيتين؟؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا مما أشكل على بعض الناس فهمه، فظن بعضهم أن الله خلق السموات والأرض في ثمانية أيام كما ذكر الله في سورة فصلت: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم) فصلت / 9ـ12.
وأنه يعارض الآية الأخرى التي ذكرت أنه خلقها في ستة أيام.
وهذا فهم خاطئ والجواب عليه أن يقال:
ليس هناك تناقض ولا تفاوت بين المدة الزمنية التي جاءت في هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التي ورد فيها تحديد المدة بأنها ستة أيام.
ففي هذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ نجد أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأنه: (خلق الأرض في يومين)
ثم (جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها) في تمام أربعة أيام.. أي في يومين آخرين يضافان إلى اليومين اللذين خلق فيهما الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام.. وليس المراد أن خلق الرواسي وتقدير الأقوات قد استغرق أربعة أيام..
ولعل الشبهة ـ التي جاءت في السؤال ـ قد أتت من هنا.. أي من توهم إضافة أربعة إلى اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض، فيكون المجموع ستة.. وإذا أضيف إليها اليومان اللذان خلقت فيهما السماء (فقضاهن سبع سموات في يومين) يكون المجموع ثمانية أيام، وليس ستة أيام.. لكن إزالة هذه الشبهة متحققة بإزالة هذا الوهم.. فالأرض خلقت في يومين.. وخلق الرواسي وتقدير الأقوات قد استغرق ما تمم اليومين أربعة أيام.. أي استغرق هو الآخر يومين.. ثم استغرق خلق السموات السبع يومين.. فكان المجموع ستة أيام من أيام الله، سبحانه وتعالى..
ولقد نبه المفسرون على هذه الحقيقة ـ المزيلة لهذا الوهم ـ فقال القرطبي: " {في أربعة أيام} مثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يومًا، أي في تتمة خمسة عشر يومًا " [الجامع لأحكام القرآن] ج15 ص 343 ـ مصدر سابق.
وقال البغوي: {في أربعة أيام} يريد خلق ما في الأرض، وقدر الأقوات في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام، ردَّ الآخر على الأول في الذكر، كما تقول: تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس.
انتهى من تفسير البغوي 7/165
وقال الزجاج: في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين.
[الكشاف] ج3 ص 444 ـ مصدر سابق.
فهذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ تؤكد هي الأخرى ـ على أن خلق السموات والأرض إنما تم في ستة أيام.. ومن ثم فلا تناقض بين آيات القرآن ولا تفاوت في مدة الخلق الإلهي للسموات والأرض.. وحاشا أن يكون شيء من ذلك في الذكر الحكيم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/330)
على من تجب الدعوة إلى الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة أم تقتصر على العلماء وطلاب العلم فقط؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان الإنسان على بصيرة فيما يدعو إليه فلا فرق بين أن يكون عالماً كبيراً يشار إليه أو طالب علم مجد في طلبه أو عامياً لكنه علم المسألة عليماً يقيناً.. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) ولا يشترط في الداعية أن يبلغ مبلغاً كبيراً في العلم، لكنه يشترط أن يكون عالماً بما يدعو إليه، أما أن يقوم عن جهل ويدعو بناء على عاطفة عنده فإن هذا لا يجوز.
ولهذا نجد عند الإخوة الذين يدعون إلى الله وليس عندهم من العلم إلا القليل نجدهم لقوة عاطفتهم يحرمون ما لم يحرمه الله، ويوجبون ما لم يوجبه الله على عباده، وهذا أمر خطير جداً، لأن تحريم ما أحل الله كتحليل ما حرم الله، فهم مثلاً إذا أنكروا على غيرهم تحليل هذا الشيء فغيرهم ينكر عليهم تحريمه أيضاً لأن الله جعل الأمرين سواء. فقال: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله -(8/331)
حكم وصف المتمسكين بالدين بالأصولية والتطرف
[السُّؤَالُ]
ـ[شاع في بعض وسائل الإعلام المختلفة اتهام شباب الصحوة بالتطرف وبالأصولية، ما رأي سماحتكم في هذا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا على كل حال غلط جاء من الغرب والشرق من النصارى والشيوعيين واليهود، وغيرهم ممن ينفر من الدعوة إلى الله عز وجل وأنصارها، أرادوا أن يظلموا الدعوة بمثل التطرف أو الأصولية أو كذا أوكذا ممن يلقبونهم به.
ولا شك أن الدعوة إلى الله هي دين الرسل، وهي مذهبهم وطريقهم، وواجب على أهل العلم أن يدعوا إلى الله، وأن ينشطوا في ذلك، وعلى الشباب أن يتقوا الله، وأن يلتزموا بالحق، فلا يغلو ولا يجفوا. وقد يقع من بعض الشباب جهل فيغلون في بعض الأشياء أو نقص في العلم فيجفون، لكن على جميع الشباب وعلى غيرهم من العلماء أن يتقوا الله، وأن يتحروا الحق بالدليل، قال الله عز وجل، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم , وأن يحذروا من البدعة والغلو والإفراط كما أن عليهم أن يحذروا من الجهل أو التقصير، وليس أحد منهم معصوماً، وقد يقع من بعض الناس شيء من التقصير بالزيادة أو النقص. لكن ليس ذلك عيباً للجميع، إنما هو عيب لمن وقع منه.
ولكن أعداء الله من النصارى وغيرهم ومن سار في ركابهم جعلوا هذه وسيلة لضرب الدعوة والقضاء عليها باتهام أهلها بأنهم متطرفون أو بأنهم أصوليون.
وما معنى أصوليون؟
وإذا كانوا أصوليين بمعنى: أنهم يتمسكون بالأصول وبما قال الله وقال الرسول فهذا مدحاً وليس ذماً، التمسك بالأصول من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مدح وليس بذم، وإنما الذم للتطرف أو الجفاء: إما التطرف بالغلو، وإما التطرف بالجفاء أو التقصير، وهذا هو الذم. أما الإنسان الملتزم بالأصول المعتبرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا ليس بعيب، بل مدح وكمال، وهذا هو الواجب على طلبة العلم والداعين إلى الله: أن يلتزموا بالأصول من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عرف في أصول الفقه، وأصول العقيدة وأصول المصطلح فيما يستدل به وما يحتج به من الأدلة، لابد أن يكون عندهم أصول يعتمد عليها، فضرب الدعاة بأنهم أصوليون هذا كلام مجمل ليس له حقيقة إلا الذم والعيب والتنفير، فالأصولية ليست ذماً ولكنها مدح في الحقيقة.
إذا كان طالب العلم يتمسك بالأصول ويعتني بها ويسهر عليها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قرره أهل العلم فهذا ليس بعيب، أما التطرف بالبدعة والزيادة والغلو فهو العيب، أو التطرف بالجهل أو التقصير فهذا عيب أيضاً.
فالواجب على الدعاة أن يلتزموا بالأصول الشرعية ويتمسكوا بالتوسط الذي جعلهم الله فيه، فالله جعهلم أمة وسطاً، فالواجب على الدعاة أن يكونوا وسطاً بين الغالي والجافي، بين الإفراط والتفريط، وعليهم أن يستقيموا على الحق، وأن يثبتوا عليه بأدلته الشرعية، فلا إفراط وغلو، ولا جفاء وتفريط، ولكنه الوسط الذي أمر الله به.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. ص / 233.(8/332)
زوجة داعية تشتكي من انشغال زوجها
[السُّؤَالُ]
ـ[أقوم بالاشتراك في الدعوة في الوقت الحالي ولكن زوجتي تشكو بأنني أحمل مسئولية أكبر تجاهها وتجاه الأطفال. وإنني أؤدي ما عليّ وأعمل وأقضي وقتاً معها ولكنها ليست راضية عن ذلك.
أرجو إرشادي إلى ما ينبغي عليّ أن أفعله؟ إنها لاتحب ما أفعل والله عز وجل يعلم الخير.]ـ
[الْجَوَابُ]
هذه الأمة أمة الاقتصاد والتوسط، فوجب على كل من انتسب إلى هذه الأمة أن يكون كذلك في كل أمور حياته.
ففي الوقت الذي نسمع عن بعض المسلمين الذين يقضون أكثر أوقاتهم بعيداً عن أهليهم - سواء للدعوة أو في سفر أو أمور مباحة - نجد العكس عند كثيرين ممن يلتصق بأهله ولا يعطي من وقته شيئاً للدعوة إلى الله.
وكما أن للأهل حقوقاً يجب على الراعي أن لا يفرط فيها، فكذلك لغير أهله من المسلمين وغير المسلمين حقوق ينبغي عدم التفريط فيها.
عن الحسن أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه فقال له معقل إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ". رواه البخاري (6731) ومسلم (142) .
وعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول فالإمام راع وهو مسئول والرجل راع على أهله وهو مسئول والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة والعبد راع على مال سيده وهو مسئول ألا فكلكم راع وكلكم مسئول) . رواه البخاري (4892) ومسلم (1829) .
وكثير من النساء تود أن لو زوجها لا يخرج من عندها ولو إلى الصلاة! فكيف للدعوة إلى الله تعالى، وقد قالت بعض النساء قديماً: ثلاث ضرائر أهون عليَّ من مكتبة زوجي! وذلك لأن زوجها كان شغوفا بالعلم والقراءة.
لذا فإنها لا تطاع في كل ما تشتهيه، بل مردّ الأمر إلى ما يحبه الله ويريده.
وفي بعض العبادات أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجاوز فيها الحدّ المشروع خشية أن تضيع حقوق الآخرين بسببها وعلى رأس هؤلاء الأهل، وفي ذلك بعض الأحاديث، ومنها:
عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذِّلة (وهذا قبل نزول آية الحجاب) فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل قال فإني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصل، فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق سلمان ". رواه البخاري (1867) .
متبذلة: رثة الهيئة واللباس.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزوْرك عليك حقا وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فإن ذلك صيام الدهر كله فشدَّدتُ فشدَّد عليَّ قلت يا رسول الله إني أجد قوة قال فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه قلت وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام قال نصف الدهر فكان عبد الله يقول بعد ما كبر يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري (1874) ومسلم (1159) . زوْرك: أي ضيفك.
فأنت ترى في هذه الأحاديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتدال في الصيام والقيام وقراءة القرآن - لمن كان مكثراً منها مفرِّطاً في حق أهله - وذلك رعاية لأصحاب الحقوق الأخرى ومنهم الأهل.
ومن رتَّب وقته فأعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، لا يهمه بعدها من رضي ومن غضب، فلا تجعل أمور الدعوة طاغية على حياتك ووقتك، ولا تستجب لامرأتك في تركها بالكلية.
ومن الأمور المعينة لك في هذا الباب - إن شاء الله - أن تحاول إشراك امرأتك في أمور الدعوة، فتكلفها بسماع شريط وتلخيصه، أو قراءة كتيب وكتابة فوائده أو حضور حِلَق العلم أو المشاركة في الأنشطة النسائية للمركز الإسلامي أو حضور مجلس علمي نسائي مواز لمجلس الأزواج وما شابه ذلك لتشعر أنها معك في هذا الباب، ولا تشعر بالسآمة والملل من غياب الزوج.
وأمر آخر: وهو: أن عليك أن تفهمها أنها شريكة معك في الأجر إن صبَرَت عليك وهيَّأت لك الجوّ المناسب للعلم والدعوة، وأنّ الصّحابيات كنّ يحفظن بيوت أزواجهن وأولادهم إذا خرج الأزواج للجهاد، ويخدمْن ضيوف أزواجهنّ إذا حضروا، وأنّها إذا حفظت بيت زوجها عند خروجه لطلب العلم والدّعوة والجهاد وخدمت ضيوفه من طلاب العلم والدعاة الذين يزورونه بإكرامهم وعمل الطّعام لهم فإنّ لها في ذلك أجرا عظيما وأنّ الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنّة ومنهم الصانع له بنيّة طيّبة والمناول له وليس الرامي فقط. إنّ فهم الزوجة لهذا الموضوع وإدراكها لجانب الأجر فيه يخفف عليها كثيرا أمر غياب زوجها وانشغاله،
ونختم بهذه القصّة العظيمة لامرأة عظيمة وهي أسماء بنت أبي بكر الصّديق لنرى ماذا كانت تفعل لما كان زوجها مشغولا بالجهاد وتدبير أمور الدّعوة والدّولة الإسلامية بجانب النبي صلى الله عليه وسلم:
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ قَالَتْ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي. رواه البخاري 4823
نسأل الله أن يصْلح أحوال المسلمين أزواجا وزوجات وصلى الله على نبينا محمد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/333)
يشتغل بالدعوة ويحس بالنفاق وضعف الإيمان
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعيش في الغرب وقد ولدت لأسرة مسلمة، ومنذ بداية سن المراهقة وأنا نشيط في الحقل الإسلامي حتى في زمن طفولتي وأنا اعتقد بالإسلام واستغرب كيف ينام البعض ولم يصلوا.
لما تقدم بي السن الآن تغيرت كليا، فقد تلاشى إيماني بالله وبالإسلام وقد أصبحت منافقا إلى أسوء الحدود، ابتعد عن النساء ولكن ليس عن الصور العارية أحاول أن اقلع عن ذلك وهذا ممكن أن يكون سبب سقوطي ولكني اكتشفت انه متأخر جدا حيث أن هذا الآن واحد من ضمن الأسباب وليس الأصل لان الأصل هو اعتقادي بالله وبالإسلام.
بعض الأحيان اشعر بأنني مجنون ولدي تفكير خاطئ عن الله، ومن أين أتيت، والإسلام والصحيح والخطأ، وكأنني في حرب بين الإيمان وعدم الإيمان وخصوصا وقت الصلاة.
لم اترك الصلاة وباقي العبادات ولكنها فعلا لم تعد تنفعني أو تؤثر بي، فإذا لقيتني تحسب أنني ملتزم بالدين من المظهر والحديث وذهابي للمسجد وصيامي ولكن فعلا أنا منافق حقيقي ولا يعلم به أحد، ولا أستطيع الاستمرار على ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1- لتعلم يا أخي أن عصمة أمر العبد دينه وإيمانه ولا يضره ما فاته من الدنيا إذا حفظ الله تعالى له دينه، والله عز وجل هو مالك الملك ومقلب القلوب، وهو وحده الذي يثبت القلوب ويربط عليها، ولذلك أنصحك يا أخي أن تلجأ إلى الله عز وجل فإنه رب رحيم ودود لطيف بعباده ومتى ما صدقت اللجوء إليه وتضرعت بين يديه وسألته أن يحفظ لك إيمانك وأن يعيذك شر وساوس النفس والشيطان فإنه تعالى قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فلا تنسى هذا الباب العظيم ففيه الفرج والمخرج مما أنت فيه إن شاء الله تعالى، كما أذكرك بفضل قراءة القرآن وكثرة الأذكار في الصباح والمساء فإن لذلك أثر في طمأنينة القلب.
2- اجتنب يا أخي الأسباب التي تبعدك عن الله عز وجل وتقربك من الشيطان ووساوسه، ومن ذلك ما ذكر في سؤالك من رؤيتك للصور العارية وغيرها، لأن المعصية إذا أصر عليها صاحبها فإنها تتراكم على القلب حتى يظلم ولا تؤثر فيه المواعظ بعد ذلك، فبادر إلى التوبة من هذه المعصية وغيرها وحقق شروط التوبة بكاملها. كما ننصحك باجتناب جلساء السوء ومجالس الشبهات والشهوات وابحث عن أهل الخير ومجالسهم لأن المرء على دين خليله.
3- يبدو من خلال سؤالك أنك تعاني من مشكلة نفسية معينة إما مالية أو اجتماعية أو غيرها مما كان له الأثر في تلك الوساوس التي تعاني منها، فإن كان هذا صحيحاً فأنصحك أن تبادر إلى علاج هذه المشكلة فقد تكون باباً لحل ما تعاني منه، ونحن نساعدك قدر استطاعتنا إن شاء الله.
4- قد يكون ما تشعر به ضرباً من الاكتئاب والقلق لسبب أو آخر، وأنت تعلم أن الله عز وجل ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، ومعلوم أن هناك عقاقير نافعة بإذن الله تعالى لعلاج مثل هذه الأمراض فالتمسها عند أطباء النفس.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/334)
حكم استعمال الأسلوب القصصي في الدعوة إلى الله
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حكم الأسلوب القصصي في الدعوة إلى الله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قصص الحكمة الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة ووقائع الناس وتجاربهم من أنفع أساليب الدعوة والإرشاد، وقد استخدمها القرآن في نحو ثلث آياته، كان المقصود منها أخذ العظة والعبرة، كما قال عز وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف/111.
يقول العلامة السعدي رحمه الله:
" (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي: قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، (عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ) أي: يعتبرون بها، أهل الخير وأهل الشر، وأنَّ مَن فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة، ويعتبرون بها أيضاً ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له.
وقوله: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) أي: ما كان هذا القرآن الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص من الأحاديث المفتراة المختلقة، (وَلَكِنْ) كان (تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السابقة، يوافقها ويشهد لها بالصحة، (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه، ومن الأدلة والبراهين. (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم - بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره - يحصل لهم الهدى، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/407)
بل أمر الله عز وجل نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقصص القرآن، واستعمالها في تبليغ رسالته، فقال عز وجل: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف/176.
يقول ابن جرير الطبري رحمه الله:
" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاقصص، يا محمد، هذا القصص، الذي اقتصصته عليك ... على قومك من قريش، ومَنْ قِبَلَك من يهود بني إسرائيل، ليتفكروا في ذلك، فيعتبروا وينيبوا إلى طاعتنا، لئلا يحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من النّقم والمثلات، ويتدبَّره اليهود من بني إسرائيل، فيعلموا حقيقةَ أمرك وصحَّة نبوّتك " انتهى.
" جامع البيان " (13/274)
وفي مقدمة " التحرير والتنوير " (1/63-69) ذكر فصلا نافعاً في فوائد القصص القرآني لمن أراد الاستفادة منها.
كما أن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام استعمل هذا الأسلوب الحكيم في سرد القصص النافعة المفيدة، وخير شاهد على ذلك تلك الأحاديث الكثيرة التي تشتمل على قصص السابقين.
يقول الدكتور سعيد القحطاني:
" القصص الحكيم من الكتاب أو من السنة من الأساليب المهمة في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؛ لما فيه من شحذ ذهن المدعو؛ ولهذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، ففي هذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ... ) ، وهذا يوضح للداعية أهمية استخدام أسلوب القصص في دعوته إلى الله عزّ وجلّ " انتهى.
" فقه الدعوة في صحيح البخاري " (3/381) (ترقيم الشاملة) ، وينظر (3/66) .
ثانياً:
نوصي الدعاة ألا يقتصروا في أساليب الوعظ والتدريس على القصص، كيلا ينشغل المستمعون بالقصة عن المقصد، ولئلا تنصرف قلوبهم إلى الاستمتاع بالقصص عن الاستفادة من الموعظة، بل الواجب تأصيل الأمر التربوي والدعوي من خلال أدلته الثابتة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على ما هو معروف في أصول الفقه، ومنهج الاستدلال، ثم تذكر القصة للعبرة، وبيان التطبيق العملي، وشد انتباه السامع إلى معايشة المعنى واقعياً، فلا تكون القصة بذاتها مصدراً للاستدلال والتشريع.
قال ابن الجوزي رحمه الله: " ذُم القُصَّاصُ لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القَصَصِ دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبُهم يُخَلِّط فيما يورده، وربما اعتمد على ما أكثره محال " انتهى.
"تلبيس إبليس" (134) .
قال أحمد: " القَصَّاص الذي يُذَكِّر الجنة والنار والتخويف، وله نية وصدق الحديث، فأما هؤلاء الذين أحدثوا من وضع الأخبار والأحاديث فلا أراه " انتهى.
"الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/85) .
ثالثاً:
لتحقيق الغاية من القصص في الدعوة إلى الله، والتأثير في قلوب الناس، لا بد من توفر بعض الميزات في هذه القصص، كي تقع في القلوب الموقع الصحيح، فمن ذلك:
" 1- أن يتحرّى الواعظ الصدق فيما ينقله من قصص وأخبار؛ فإن الواقعية والمعقولية في ذكر القصص لعامة الناس طريقان سريعان للتقبل والعمل، ليس على الأمد القريب فحسب؛ بل حتى البعيد أيضاً، وانظر إلى وصف الله تعالى قصصه في القرآن بقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) ، متأملاً أثرها الخالد إلى يوم القيامة.
وعليه: فمن الخطأ أن ينظر الواعظ ما سيحصل بين يديه من التأثر بما لم يثق فيه من القصص المؤثرة، مقابل أن يهمل مصداقيته المستقبلية في وعظه.
وليس هذا فحسب؛ بل إن الواعظ حتى لو تأكد من صدق قصته أو خبره، لكنه إن رأى أن فيها من الغرائب ما لا يصدقه عامة الناس، فالأولى ألا يحدث بها، حتى لا تنعدم ثقة الناس فيه وفي علمه، ولقد كان سلف الأمة يفرون من غرائب الأخبار، ومن ذلك قول أيوب السختياني رحمه الله: إِنَّمَا نَفِرُّ أَوْ نَفْرَقُ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ. كما أورد ذلك عنه مسلم في صحيحه؛ بل كانوا يقرنونها بالمناكير من الأحاديث، ومن ذلك قول الترمذي رحمه الله: زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرُ الْغَرَائِبِ وَالْمَنَاكِيرِ.
2- الحوار، ويشمل الحوار الشفهي أو الحوار النفسي الذي يشف ما في نفس بعض أطراف القصة بدون ما يتفوه به، ليصف في بعض المشاعر والخلجات، وهذا من أكثر ما يؤثر في النفس.
3- التركيز على المواطن المؤثرة، وذكر بعض التفاصيل التي تكمل المشهد في ذهن المتلقي من دون إيراد الجزئيات التي ربما ندّت بعقل المستمع عن المطلوب.
4- جودة البدء، وإحكام النهاية، فإن في البداية تشويقاً وجذباً، وفي النهاية عنصر المفاجأة، وعنصر الاتعاظ، من هنا قال الله تعالى في آخر سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
5- أن يراوح الداعية بين قصص السابقين والمعاصرين، فإنه لا يشك أحدنا أن حكايات السلف رحمهم الله في زهدهم وورعهم وتعاملهم مع الله تعالى وخلْقِه فيها من كنوز الوعظ والتذكير ما تطرب له القلوب، وتهتز لها المشاعر، ولكن لما كان في المجتمع فئة تستبعد الوصول إلى حالهم، كان على الواعظ أن يذكر صفحات مضيئة من أحوال الأتقياء والعاملين المخلصين في هذا الزمان، حتى يقْرُبَ المثال، ويُتصور التطبيق.
6- أن يوثق الداعية قصته بذكر مرجعها، أو سندها، ولو كانت من قصص المعاصرين، لتزيد ثقة الناس فيه.
إذا توفرت هذه المرتكزات في قصصنا، ستترك بإذن الله تعالى أثراً كبيراً في نفوس الناس، فكم قصة غيرت حياة إنسان، وكم قصة تركت من الأثر ما لم تتركه كثير من المحاضرات والكتب ".
انتهى باختصار من كلام الدكتور فيصل الحليبي، نقلا عن هذا الرابط:
http://www.saaid.net/Doat/faisal/05.htm
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/335)
حكم نشر وتوزيع علبة دواء بعنوان " بنادول، علاج الذنوب "
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشرت في الآونة الأخيرة في التسجيلات علب كأنها علب " البنادول "، ومكتوب فيها " علاج فعَّال للذنوب "، فما رأيكم فيه؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ينبغي أن يعلم أن من أصول الشريعة العامة، في كافة مصادرها ومواردها، أنها شريعة ميسرة، بعيدة عن التكلف والتصنع، ومجافاة الفطرة والأدب الرفيع.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص/86.
قال الرازي رحمه الله:
" والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة " انتهى.
"تفسير الرازي" (13/220) .
وفي صحيح البخاري (7293) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ:
(نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ) .
وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبعد الناس عن التكلف، فكذلك دينه: هو أبعد الدين عن التكلف، فلا كلفة فيه ولا مشقة، ولا صعوبة ولا حرج، وإنما هو يسر كله، موافق للفطرة: نور على نور في قلب المؤمن.
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله، في تفسيره للآية السابقة:
"والتكلف: معالجة الكلفة،وهي ما يشق على المرء عمله والتزامه، لكونه يحرجه أو يشق عليه.
ومادة التفعُّل تدل على معالجة ما ليس بسهل؛ فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له، أو يدعي علم ما لا يعلمه ...
وأخذ من قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} : أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه،أي لا مشقة في تكاليفه، وهو معنى سماحة الإسلام. وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسبا، ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بشراشره [بكليته، مع محبته الشديدة] ، لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به ". انتهى.
"التحرير والتنوير" (23/308) .
ثانيا:
إذا تأملنا هذه النشرة المسؤول عنها، فلا شك أن فيها قدر واضحا من التكلف والتصنع، وإخراج الأمور الشرعية، والعبادات الدينية عن وضعها المألوف، وتكلف وجوه الشبه بينها وبين ذلك الشيء الجديد، من أجل ترويجها به، وتشجيع الناس على الإقبال عليها به.
وفي هذا الصنيع عدد من المحاذير التي ينبغي التنبه لها، والتمحل في تشبيه هذه العبادة العظيمة، بذلك الدواء الذي يحمل اسما أعجميا؛ فتأمل كيف وصل الحال: هجر الدعاية بالاسم الشرعي العربي، والترويج للعبادة بذلك الاسم الأعجمي، مع أنه خارج في واقع الأمر عن موضوعه.
ومن وجوه التكلف الظاهرة في ذلك:
أ. الاستغفار عبادة شرعها الله تعالى، والبندول دواء مخترع من كافر.
ب. الاستغفار عبادة كلها خير لصاحبها، وأقراص البندول قد تؤدي بمتناولها للهلاك، أو الضرر.
ج. ليس للاستغفار آثار جانبية، والأدوية الكيماوية كلها لها أضرار.
د. الاستغفار يكون بعد فعل ذنب، ويكون من غير فعله، وأقراص البندول لا يتناولها إلا المريض.
هـ. الإكثار من الاستغفار يزيد في الأجور، والإكثار من البندول يؤدي إلى التسمم، والهلاك.
و. الاستغفار نافع لجميع من يقوم به، والدواء – بندول وغيره – ينفع أناساً دون آخرين.
ز. الاستغفار ينفع صاحبه بعد وفاته، والبندول ليس كذلك.
والواقع أننا لا نريد أن نسترسل أكثر في بيان وجوه الفرق بين ذلك الدواء المادي، وبين عبادة الاستغفار، فالمسألة ـ في واقع الأمر ـ أقرب إلى اللعب والعبث، منها بالعلم والبحث، ويكفي أن نذكر من تلك الدعاوى الفارغة لها: قولهم إنها " مرخصة من ملك الملوك ": وهذا كذب واضح؛ فإن الصورة التي عرضوها هي أمر اجتهادي محض، قابل للتخطئة،، كما سننقله عن بعض أهل العلم، وهذا أبعد شيء عن عبادة الاستغفار.
ثالثا:
والذي يظهر أنه لا يجوز ابتذال العبادات الشرعية بمثل ذلك، وأن يبقى لها جلالها في القلوب، وأن تصل إلى الناس من خلال نصوص الوحيين، ميسرة مبينة، بعيدة عن التلكف والدعاوى.
وقد سئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله، عن ذلك، فأجاب:
هذا عمل لا يليق، تشبيه الاستغفار - وهو عبادة – تشبيهه بالبندول: هذا فيه تنقص من الاستغفار، فهذا لا يجوز، هذا العمل لا يجوز، لأن معناه أن العبادة تشبَّه بالبندول، والعبادة أمرها عظيم، والبندول دواء فقط، فكيف تشبه العبادة بالبندول؟! هذا فيه تنقص للعبادة.
انتهى
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=181680
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/336)
هل يجوز للخطيب استعمال " البروجكتر " في خطبة الجمعة؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوجد مانع شرعي من استخدام وسائل الإيضاح المرئية، والإلكترونية، كشاشات التلفاز، أو " البروجكترات "، كأداة مساعدة للخطيب في خطبة الجمعة، من غير أن يصدر منها أي صوت يقطع صوت الخطيب؟ فالهدف من خطبة الجمعة هو تذكير الناس، ووعظهم، وتعليمهم، والتواصل معهم في أمور دينهم، وأمور حياتهم اليومية، والنابعة من بيئتهم ومجتمعهم، وأن مثل هذه الوسائل تساعد علي إيصال الخطبة بشكل أكثر فعالية للمصلين، وجذبهم للب الموضوع، مع مراعاة جميع النواحي الشرعية في الوسيلة التوضيحية، فمكبرات الصوت ساعدت على إيصال صوت الخطيب إلى عدد كبير من الناس، فهي أداة سمعية مساعدة، وبالمثل: فالشاشات، والبروجكترات هي أدوات بصرية مساعدة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير التواصل مع أصحابه بإشارات من يديه الكريمتين لتقريب الفكرة بصريّاً، فساعة نراه عليه الصلاة والسلام يقرب بين السبابة والوسطى، وساعة نراه عليه الصلاة والسلام يرسم ثلاث خطوط على الأرض يحدد فيها الإنسان وأجله وأمله كما جاء في " مسلم "، فهي أمور بسيطة في ذلك الزمن، ولكنها تساعد على إيضاح فكرة ما، أو تقريب الصورة إلى أذهان المستمعين. فأرجو من فضيلتكم الرد على سؤالي]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
مخطئ من يظن أن الإسلام يتعارض في أحكامه مع " التطور " التقني، والاختراعات الحديثة، وما استعمال الإنترنت، والقنوات الفضائية، وأدوات الاتصال الحديثة إلا أدلة يسيرة على صدق هذا القول، لكن ذلك مشروط بموافقته للشرع، وعدم وجود محاذير، أو آثار سلبية.
والذي نراه أن استعمال " البروجكتر " في خطبة الجمعة لا يتوافق مع الشرع؛ لأسباب:
1. أن خطبة الجمعة لها هيبتها، ومنزلتها التي سماها الله تعالى في كتابه " ذكر الله "، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجمعة/ 9.
وإن استعمال جهاز العرض ذاك يقلل هيبتها، أو يُذهبه، ولا يتناسب مع كون الخطبة ذِكراً لله تعالى.
2. أن السنَّة في خطبة الجمعة أنها تكون قصيرة، ومن شأن استعمال جهاز العرض فيها أن يطوِّلها، وهو مخالف للهدي النبوي.
قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ – أي: ابن ياسر - فَأَوْجَزَ، وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ – أي: أطلتَ -، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً) .
رواه مسلم (869) . وانظر جواب السؤال رقم (122701) .
3. أن من شأن ذلك الاستعمال أن يكون لأناس دون آخرين، ومن شأنه أن يحرم طائفة من المصلين، كالنساء، أو من يجلسون في مكان لا يمكنهم فيه المشاهدة، من هذا العرض، الذي سيكون ـ في هذه الحالة ـ جزءا من الخطبة، متمما لكلام الخطيب!!
4. وإن من شأن استعمال جهاز العرض ذاك أن تُطفأ الأنوار! وأن تشغل أنوار جهاز العرض، وهو ما سيتسبب في حركة بعض المصلين الحاضرين في الإطفاء، والتشغيل، وإشغالهم بطريقة العرض، والصور المعروضة، أو الصوت الخارج منها، وهو ما يتنافى مع أحكام الجمعة، وقد حرَّم النبي صلى عليه وسلم مسَّ الحصى أثناء الخطبة، وجعل من فعل ذلك متعمداً أنه يُحرم من أجر الجمعة، بل حرم العبث بالحصى الذي يكون ـ عادة ـ في أرض المسجد: (وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا) رواه مسلم (857) من حديث أبي هريرة.
فالذي نراه: هو عدم جواز استعمال جهاز العرض الضوئي في خطبة الجمعة، وأما في الدروس والمواعظ والمحاضرات: فالأمر فيه واسع، ولا حرج في استعماله.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/337)
كيف تخدم الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أخدم ديني فماذا أفعل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1- تخدم الإسلام إذا صح منك العزم وصدقت النية: فإن الله عز وجل يبارك في العمل الخالص لوجهه الكريم حتى وإن كان قليلاً، والإخلاص إذا تمكن من طاعة ما حتى وإن كانت قليلة أو يسيرة في عين صاحبها ولكنها خالصة لله تعالى يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر كما في حديث البطاقة.
2- تخدم الإسلام إذا عرفت الطريق وسرت معه: الطريق المستقيم هو سلوك طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة ومبتدئها ووسائلها وطرقها والصبر على ذلك مع الرفق بالناس ورحمتهم فهم مرضى المعاصي والذنوب.
3- تخدم الإسلام: إذا استفدت من جميع الظروف المتاحة والإمكانيات المتوفرة: وهذه نعمة عظيمة فكل الوسائل مباحة إلا ما حرمها الله عز وجل، ونحن ندعو بكل الوسائل المشروعة مراعين الأدلة الشرعية والآداب المرعية.
4- تخدم الإسلام: إذا قدمت حظ الإسلام على حظوظك النفسية والمادية: خدمة هذا الدين معناه قيامك ببذل الغالي والنفيس من مال وجهد ووقت وفكر وغيرها، أرأيت من يحب رياضة (كرة القدم) مثلاً، كيف يُفرغ جهده ووقته وماله لمحبوبته تلك! وأنت أولى بذلك منه ولا شك.
5- تخدم الإسلام: إذا سلكت سبل العلماء والدعاة والمصلحين: فاستصحب الصبر وتحمل التعب والنصب فأنت في عبادة عظيمة هي مهمة الأنبياء والمرسلين ومن سار على أثرهم.
6- تخدم الإسلام: إذا ابتعدت عن الكسل والضعف والخور: فإن هذا الدين دين العزيمة والهمة والشجاعة والإقدام، ولا يضر الدعوة إلا خمول كسول، أو متهور جهول.
7- تخدم الإسلام: إذا ربطت قلبك بالله عز وجل وأكثرت من الدعاء والاستغفار ومداومة قراءة القرآن، فليس أنفع في جلاء القلوب وصقل الأرواح وجعلها تعمل ولا تكل، وتكدح ولا تمل من الإكثار من ذكر الله عز وجل والتقرب إليه بالطاعات ونوافل العبادات.
8- تخدم الإسلام: إذا ارتبطت بالعلماء العاملين: الذين لهم قدم صدق وجهاد معلوم في نصرة هذا الدين، فإن السير تحت علمهم وتوجيههم فيه خير عظيم، ونفع عميم.
9- تخدم الإسلام: إذا نظمت الوقت بشكل يومي وأسبوعي وشهري: فهناك أعمال تقضيها في اليوم، وأخرى في الأسبوع، وثالثة شهرية، ورابعة سنوية.
مثال اليومي: دعوة من تراهم كل يوم، وأسبوعي: من تقابلهم كل أسبوع، وشهري: مثل اجتماع الأسرة العائلي الشهري، وسنوي: مثل اللقاءات الكبيرة السنوية أو السفر إلى الحج أو العمرة وهكذا.
10- تخدم الإسلام: إذا وهبته جزءاً من همك، وأعطيته جزءاً من وقتك وعقلك وفكرك ومالك، وأصبح هو شغلك الشاغل وهمك وديدنك، فإن قمت فللإسلام، وإن سرت فللإسلام، وإن فكرت فللإسلام، وإن دفعت فللإسلام، وإن جلست فللإسلام.
11- تخدم الإسلام: كلما وجدت باباً من أبواب الخير سابقت إليه وسرت إلى الإسهام بالعمل فيه ... لا تتردد ولا تؤخر ولا تُسوف.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب كيف أخدم الإسلام لعبد الملك القاسم ص 18.(8/338)
غريب بين أهله وأقربائه العصاة، يريد النصح والتوجيه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسلم، أعيش في بنجلاديش، والدي توفي عندما كنت في الثامنة من عمري، أمي، وكل أفراد العائلة، وقريباتي لا يلتزمون بالحجاب الإسلامي، هذا هو سبب أنني لم أزر أبدا أيّاً من قريباتي عندما يدعونني إلى منازلهم، أغلب أقاربي صغار السن مثلي لا يصلون الصلوات اليومية، يقولون: إن الله قسم رحمته إلى مائة جزء، واحتفظ بتسعة وتسعين جزءا منها عنده، مشيرين إلى أنهم إذا صلوا صلاة العيد فقط: الله سيغفر لهم، أعرف بنفسي الأحاديث عن الصلاة، وحاولت أن أخبرهم أنهم غير منطقيين جدّاً، ويتبعون شهوات نفوسهم فقط، كيف ينبغي عليَّ التصرف مع مثل هؤلاء الأقارب؛ لأن كل أقاربي مثل هؤلاء؟ وبسبب توقفي عن الذهاب إلى بيوتهم عندما يدعونني: بدؤوا ينادونني بأنني غير اجتماعي، كيف ينبغي أن أرد على هؤلاء الأشخاص عديمي المنطق والعقل، الذين يتبعون شهواتهم فقط؟ كيف أتصرف مع أمي وأخي الأصغر لأنهما يشاهدان الأفلام الهندية على تلفزيون " ... "، ويستمعان إلى الأغاني على قناة " ... "؟ . أخي يصلي وقتما يشاء، أحياناً خمس مرات، وأحياناً أخرى لا شيء.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إننا نشعر معك أخي الفاضل، وشعورك بالغربة في بيئتك يشاركك فيه ألوف من الناس، بل ملايين، يعيشون بين ظهراني أهليهم، ولا يجدون منهم نصرة وتأييداً، بل يجدون كل شرٍّ وسوء، من التثبيط عن الطاعة، والتخذيل عن إقامة شرع الله في نفسه وحياته، وتزداد الغربة أكثر عندما يكون ذلك الغريب " أنثى " مكسورة الجناح، مهضومة الحقوق، ونبشرك أن هؤلاء الغرباء كان لهم من العمل لدين الله تعالى الشيء الكثير، وكانت نتائج دعوتهم عظيمة، وكل ذلك كان بفضل الله ورحمته، عندما صبروا واحتسبوا ما لا يلاقونه في سبيل الله تعالى.
وفي الوقت ذاته نقول: إنَّ ما عانى منه أوائل هذه الأمة من القهر والأذى والضرر يهون معه ما يصيبنا من أهلينا وأقربائنا، فأين ما أصابك – مثلاً – من طعنهم بك أنك " غير اجتماعي " مع ما طعنوا به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، حيث قالوا عنه: ساحر، وكذاب، ومجنون، ثم إن المنافقين طعنوا في عرضه، فاتهموا زوجته عائشة بالفاحشة! وليس هذا فحسب، بل أيضاً رفعوا السلاح في وجوه أشقائهم، وآبائهم، وأقربائهم، واستباحوا دماءهم، وقاتلوهم، فضلاً عما قام به بعضهم من السجن، والتعذيب، والقهر.
فالصبر الصبر، والاحتساب الاحتساب، ولا تكن في ضيق مما يمكرون، وكن مع الله ولا تبالِ، واحرص على نفسك أن تنقذها من النار أولاً، ثم اسعَ في دعوة غيرك.
ثانياً:
مما نوصيك به في باب دعوتهم ونصحهم:
1. أن تخلص نيتك في الدعوة، وأن لا تبتغي بذلك إلا وجه الله.
2. أن تكون قدوة حسنة عند أهلك وأقربائك، ومن ذلك: أن تلتزم بشرع الله تعالى في خاصة نفسك، وأن تلتزم بأخلاق الإسلام في كل أمورك.
3. أن لا تتنازل عن شيء من شرع الله من أجلهم، فإن هذا من شأنه أن يقلل من مهابة التزامك بالشرع عندهم.
4. أن تنتقي من أهلك وأقربائك العقلاء منهم، وأن تحاول أن تضم إلى صفك من يقوِّي جانبك، ويشد من أزرك، ولا تنتبه للسفهاء والحمقى، فتضيع منك أوقات أنت أولى بها.
5. أن تستمر على مقاطعتك لمجالس أقربائك إن كان فيها ما يمكن أن يؤثر على دينك سلباً، وأما إن رأيت فائدة من زياراتك لهم: فاحرص عليها، ولا تتخل عنهم، فهم مرضى وأنت طبيبهم، فاسلك الطريق المناسبة لتقديم العلاج لهم مع رفضهم ذاك، شريطة أن تكون ماهرا في طبك وعلاجك، آخذا بالحيطة لدينك، ألا يصيبك من عدوى الذنب، وشؤم المعصية، وبلاء المنكر مثل ما أصابهم، كما قال ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه: (فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ) رواه البخاري (695) .
6. نوِّع وسائل دعوتهم وترغيبهم بالخير، بين الكتيبات الصغيرة، والأشرطة المؤثرة، للدعاة الموثوق في علمهم ودينهم، من أهل السنة.
7. احرص على الدعاء، فرب دعوة صادقة تنطلق منك في جوف الليل الآخر تجد قبولاً عند رب العالمين، فترى آثارها الحميدة أمامك، فيسعد قلبك، وينشرح صدرك.
سئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله: لي أقارب وأرحام، ومنهم خال لي، ووالداي في بعض الأيام يسهران عندهم، ويريداني أن أذهب معهم لزيارتهم، ولكني أرفض؛ لأن مجلسهم لا يخلو من المنكرات، ويقولون لي: الله غفور رحيم، وأنَّ علي أن أصل رحمي، فهل أذهب معهم وأتحمل الصبر على منكراتهم كي أصل الرحم أم أقطعهم؟ .
فأجاب: " أما إذا كان في ذهابك إليهم رجاء أن تؤثر عليهم، وأن توعظهم إلى ترك المنكر، وتقوم بواجب إنكار المنكر: فإنه يجب عليك الذهاب إليهم من ناحيتين:
الناحية الأولى: صلة الرحم.
الناحية الثانية: إنكار المنكر الذي تقوم به إذا ذهبت.
أما إذا لم يحصل منك إنكار المنكر، أو كان الإنكار لا يجدي، وهم يستمرون على منكرهم على الرغم مما تنكر عليهم، فإنك لا تذهب إليهم؛ لأنك إذا ذهبت إليهم: فإنك تجلس في مجلس يكون فيه منكر، وأنت لا تغيره، أو لا تقدر على تغييره، فعليك أن تبتعد عنهم؛ لعل الله سبحانه وتعالى يهديهم " انتهى. " المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " (2/245) .
ثالثاً:
لستَ بحاجة للتنبيه على ضلال من استدل منهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؛ والاستدلال بهذا الحديث على ترك ما أمر الله تعالى به من أوامر ضرب من السخرية والاستهزاء، فرحمة الله تعالى لا تكتب للأشقياء الذين يتعمدون فعل المنكرات التي حذرت منها الشريعة، بل إن بعض تلك المخالفات كفر يخرج من الملة مثل ترك الصلاة، قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الأعراف/ من الآية 56، وتأمل أكثر قول الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) الأعراف/ من الآية 156، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) غافر/ 7.
قال ابن كثير رحمه الله: " (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي: إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره " انتهى. " تفسير ابن كثير " (3 / 429) .
وكما أن الله تعالى واسع المغفرة: فهو أيضاً شديد العقاب، كما قال تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) الرعد/ 32، وقال: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ) غافر/ 3، وقال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) إبراهيم/49،50، فأين العصاة عن هذه الصفة للرب تعالى، حتى يرتدعوا عن فعل ما يغضبه، ويوجب لهم الوعيد؟! .
وانظر جوابي السؤالين: (47425) و (11266) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/339)
بماذا يبدأ الدعاة في الدعوة إلى الله
[السُّؤَالُ]
ـ[تختلف الجماعات الإسلامية هنا في البدايات التي يجب على الدعاة البدء بها، هل هي الجانب السياسي أو العقائدي أو الأخلاقي.. فما هي الأمور التي ترون أن يبدأ بها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
يشرع البدء بالعقيدة كما بدء بها النبي صلى الله عليه وسلم وبدأت بها الرسل، ولحديث معاذ: " إنك ستأتي أقواماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم إن الله قد فرض عليهم صدقة تأخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "، إذا كان المدعوون كفاراً، أما إذا كان المدعوون مسلمين فإنهم يبين لهم ما جهلوا من أحكام دينهم، وما قصروا فيه، ويعتنى بالأهم فالأهم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 238.(8/340)
حكم مصادقة العصاة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للرجل المتمسك بالإسلام أن يتحدث إلى شخص مسلم بالاسم يشرب الكحول ولا يصلي، وأن تنشأ بينهما مودة وصداقة ويتخذه مساعدا له؟ ما هو الحكم في اتخاذ أمثال هؤلاء (الذين لا يمارسون شعائر الدين وهم يخالفون أوامر الله) أصدقاء ومساعدين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المعاصي على نوعين:
النوع الأول: معاص مكفرة، وهي التي تؤدي بالإنسان إلى الخروج من الملة والعياذ بالله، وصاحب هذه المعاصي كافر خارج من الملة متى توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع، كمن يشرك بالله، أو يترك الصلاة تركاً كاملاً، ونحو ذلك.
النوع الثاني: معاص غير مكفرة، وهي التي لا تخرج الإنسان من الملة، لكن يوصف فاعلها بأنه فاسق، ومؤمن ناقص الإيمان، كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، ما لم يستحلها، فإن استحل الحرام خرج من الملة، إذا انطبقت عليه شروط التكفير وانتفت موانعه، فعقيدة أهل السنة والجماعة وإجماع السلف على عدم تكفير صاحب الكبيرة ما لم يستحلها، وراجع لذلك إجابة السؤال رقم (9924) .
إذا علم هذا، فمصاحبة الناس ينبني حكمها على ما سبق.
فلا يجوز اتخاذ الكافرين أولياء، أو مخالطتهم مع الأنس بهم أو السكن معهم واتخاذهم أصدقاء وخلان، أو محبتهم، أو تقديمهم على المؤمنين أو مودتهم ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة/22، لكن يجب العدل معهم وعدم ظلمهم والاعتداء عليهم بغير وجه شرعي، ويجوز التعامل معهم بالبيع والشراء والقرض ونحو ذلك، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية سلاحاً، وصح أنه اشترى من اليهود طعاماً.
أما عصاة المؤمنين، فتجب محبتهم بقدر ما معهم من إيمان، ويجب بغضهم بقدر ما معهم من فسق ومعصية، أما اتخاذهم أصدقاء، فهذا مما يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَة ً) رواه مسلم برقم (2628) ، فصديق السوء يورد الإنسان المهالك، ويضره أكثر مما ينفعه، وفرق بين أن أوالي ذلك الشخص، وأحبه لأن معه وصف الإيمان، وبين أن أصاحبه فآخذ منه ويأخذ مني.
لكن إن كان القصد من الجلوس مع ذلك الشخص تأليف قلبه بغرض الدعوة إلى الله تعالى، وإرشاده إلى طريق الهداية، فهذا من الأعمال الفاضلة، كما قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً) فصلت/33، لكن بشرط ألا يؤثر ذلك عليك، فتضر نفسك من حيث تريد أن تنفعها.
وبناء على ما سبق، فإن الشخص المسؤول عنه، إن كان تاركا للصلاة بالكلّية، فهو كافر، لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول السلف، أن تارك الصلاة كافر كفرا أكبر، مخرجا من الملة، وراجع لأدلة ذلك، الأسئلة التالية (2182، 5208، 6035، 33007، 10094) ، وعليه فلا تجوز مودته، ولا موالاته، بل يدعى إلى التوبة إلى الله عز وجل، والالتزام بالصلاة، وقد قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) التوبة/11
واعلم أن مصاحبة الأخيار مما أوصى به ربنا جل وعلا، ونبينا صلى الله عليه وسلم، كما سبق في الحديث المتقدم، وكما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) التوبة /119، وقال تعالى (واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الكهف/28، والله أعلم
للمزيد راجع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (3 / 31) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/341)
هل يجوز دخول الكنائس لأجل الدعوة، أو لأجل الفرجة
[السُّؤَالُ]
ـ[توجد هنا كنائس كثيرة، فهل يجوز الدخول فيها ومناقشة القساوسة الذين فيها؟ هل يجوز دخولها للنظر فيها ومعرفة ما يفعل هؤلاء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
يجوز دخول الكنائس لأهل العلم لدعوة أهلها إلى الإسلام، أما دخولها لأجل الفرجة فقط فلا ينبغي؛ لأنه لا فائدة من ورائه، ولأنه يُخشى على المسلم أن يتأثر بهم، لا سيما إذا كان جاهلاً بأمور دينه، ولا يستطيع رد الشبهة التي يوجهونها إليه.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 13/257.(8/342)
حكم جوائز المسابقات الثقافية المنشورة في الصحف
[السُّؤَالُ]
ـ[اشتريت جريدة دينية في الأيام الماضية، فوجدت أنها قامت بمسابقة، ووجدت نفسي قادرا على الإجابة على الأسئلة الموجهة، فشاركت بإرسال الأجوبة.
فهل يجوز لي أخذ الجائزة إن أنا فزت؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
اتفقت كلمة المسلمين على أن الميسر والقمار محرم شرعا، وأنه مِن أكل أموال الناس بالباطل.
قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) المائدة/90-91.
وقد عده أهل العلم من الكبائر.
انظر: "إعلام الموقعين" (4/309) ، "الزواجر" (2/328)
جاء في سبب نزول الآية السابقة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجلَ على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، فنزلت الآية) رواه الطبري في "جامع البيان" (2/369) .
ومن هنا وضع العلماء القاعدة المشهورة التي تضبط معنى الميسر والقمار فقالوا: هو الذي لا يخلو الداخلُ فيه من أن يكون غانماً إن ربح، أو غارماً إن خسر، بمعنى: أنه يدفع مبلغاً من المال، يخاطر به، إما أن يخسره، وإما أن يربح المبلغ المعلن عنه في المسابقة، مثل مسابقات اليانصيب.
وعلى هذا، لا يتحقق الميسر إلا إذا كان الداخل فيه يدفع مبلغاً من المال يكون عرضة لخسارته، وهذا المبلغ قد يسمى بعدة مسميات، وكلها لا تغير من حكم الميسر شيئاً.
يسمونه: رسم اشتراك أو ثمن لشراء كوبون المسابقة.... أو غير ذلك فهذا كله ميسر.
أما إذا كان المتسابق لا يدفع شيئاً من المال مقابل الدخول في المسابقة، فإن هذا لا يعد من الميسر، ولا حرج من الاشتراك فيه.
ثانياً:
يبقى النظر في المسابقات الثقافية المنشورة في الصحف والمجلات، هل يجوز المشاركة فيها وأخذ الجائزة أم لا؟
ذهب بعض العلماء إلى تحريم المشاركة في هذه المسابقات.
فقد سئل الشيخ ابن جبرين حفظه الله السؤال التالي (فتاوى في البيوع/سؤال رقم 43) :
ما حكم الاشتراك في المسابقات التي تقيمها الجرائد والمجلات؟
فأجاب:
" لا شك أن هذه الجوائز التي تمنحها الصحف والمجلات ما قصدوا منها إلا مصلحتهم، حيث يكثر شراء تلك الصحف، وتنتشر وتروج بين الأفراد فيربحوا ربحاً كثيراً، أضعاف ما يبذلونه من الجوائز، رغم أن تلك الصحف ليس لها ميزة عن غيرها، بل ربما يكون فيها فساد وشر، وصور فاتنة، ومقالات منكرة، فيقصدون ترويجها بين الناس بهذه الجوائز، فعلى هذا لا يجوز الاشتراك فيها، لما فيه من تشجيعهم، وتقوية صحفهم، والله أعلم " انتهى
وسبق في جواب السؤال رقم (20993) نقل فتوى الشيخ ابن باز رحمه الله بتحريم هذه المسابقات.
واختار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله جواز هذه المسابقات بشرطين:
الأول: أن يشتري المتسابق السلعة أو الصحيفة لحاجته إليها، أما إذا كان لا غرض له من شرائها إلا المسابقة، فلا يجوز، لأنها تكون حينئذ نوعاً من الميسر، حيث يخاطر المتسابق بهذا المبلغ الذي دفعه (ثمن الصحيفة) في مقابل احتمال فوزه بالمسابقة.
وعلى هذا، فإذا كان يشتري الصحيفة لا لقراءتها بل لقطع كوبون المسابقة فقط، أو كان يشتري أكثر من عدد من الصحيفة، فمشاركته في المسابقة حرام ونوع من الميسر.
الثاني: ألا يتم رفع ثمن السلعة أو الصحيفة من أجل المسابقة، فإذا كانت الصحيفة بـ 3 ريالات ثم صارت بـ 4 ريالات من أجل المسابقة، فالاشتراك فيها حرام، لأن هذه الزيادة بُذلت مقابل المسابقة، فهي أيضاً نوع من الميسر.
انظر: "أسئلة الباب المفتوح" للشيخ ابن عثيمين (1162) .
وعلى هذا فاشتراكك في هذه المسابقة جائز، لأنك لم تشتر الصحيفة من أجل المسابقة، بشرط ألا يكون ثمن الصحيفة قد زاد من أجل المسابقة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/343)
توجيهات للدعاة في الخارج
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن شباب متوجهون إلى الغرب للدعوة إلى الله، فنرجو منكم تزويدنا ببعض النصائح والتوجيهات للاستفادة منها في رحلتنا. والله يحفظكم ويرعاكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فإن الدعوة إلى الله من أوجب الواجبات، وهي سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من العلماء والدعاة والمصلحين، ورغبةً في استكمال وتحقيق الهدف من الجولة الدعوية والاستفادة من وقتكم الثمين الذي تبتغون به الأجر من الله تعالى، فإننا ننصحكم بما يلي:
1- تقوى الله عزَّ وجل ومراقبته في السر والعلانية، قال عليه الصلاة والسلام: " اتق الله حيثما كنت.. " رواه الترمذي (1910) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1618) ، فتقوى الله هي رأس الأمر كله، وهي سبب التوفيق في الدنيا والمثوبة في الآخرة. واحتساب الأجر وإخلاص النية لله عزَّ وجل في القول والعمل: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " رواه البخاري (1) ومسلم (3530) ، وهذا مما يُعين الداعية ويجعل عمله مباركاً، كما أن تقوى الله هي رأس الأمر كله، وهي سبب التوفيق في الدنيا والمثوبة في الآخرة.
2- كونوا قدوة حسنة في كلامكم ومظهركم وطعامكم ونومكم، مقتدين في ذلك كله بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
3- الحرص على غض البصر وخصوصاً في البلاد التي يكثر فيها التبرج والسفور.
4- يُستحسن اللباس العربي لأن فيه مصالح كثيرة، ولا يُفضل ارتداء اللباس الإفرنجي، أما بالنسبة لما يُقال عن خطورة اللباس العربي في الخارج فهو مجرد إشاعات لا حقيقة لها. ويمكن نزع الغترة أو الشماغ والاكتفاء بالطاقية عند الحاجة إلى ذلك.
5- السواك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وهو نادر في أغلب البلدان لذا فهو هدية محببة لدى كثير من المسلمين.
6- استخدام حقيبة يدوية للملابس؛ لأن احتمال فقدان العفش في تلك الدول وارد، وكذلك إفساح المجال لشحن الكتب التي تحتاجونها، وصرف ما معكم من أموال إلى الدولار للصرف منها أثناء الجولة.
7- أخذ جميع الاحتياطات اللازمة قبل السفر كالتطعيم من الأمراض المنتشرة في الدولة التي سوف تُسافر إليها، وأخذ بطاقة التطعيم الدولي الأصفر.
8- أخذ جميع العناوين التي يُحتاج إليها مثل عنوان سفارات بعض البلاد العربية والإسلامية، وكذلك المراكز والهيئات الإسلامية المعروفة والموثوقة.
الحذر من الإيحاء إلى المسلمين الذين تختلطون بهم أنكم جئتم لمساعدتهم مادياً لأن هذا يفتح عليكم باب طلبات المساعدة والمطالب الشخصية، بل قد يفهم بعض الناس أن معكم أموالاً طائلة فيتربصون بكم شراً. ولكن هذا لا يمنع من استصحاب بعض الزكوات والصدقات معكم لدفعها للمحتاجين إليها عند اقتناعكم بذلك مع الحذر والسرية.
9- عدم الخوض في أحاديث لا داعي لها، والحذر من التطرق إلى أمور الزواج ولو من باب المزاح لا سيما مع المترجمين، وقد حدثت مآسي من جراء قيام بعض الدعاة من الزواج في أول الرحلة الدعوية، والطلاق في آخرها، ومن ذلك تشويه سمعة الدعاة وتضييع أولاد وزوجات.
10- التزود بما يلي:
" مصحف جيب، ويُفضل أن يكون من المذيل بترجمة معاني الكلمات وأسباب النزول.
" كتاب أو كتابين في العقيدة وخصوصاً التوحيد وما يتعلق بالطرق الصوفية.
" كتاب أو كتابين في فقه العبادات وخصوصاً في فقه الطهارة والصلاة والصيام.
" كتاب رياض الصالحين للإمام النووي فهو مرجع شامل خصوصاً في فقه الطهارة والصيام.
" فتاوى اللجنة الدائمة.
" مجموعة مختارة من الدروس والمحاضرات المسجلة للاستفادة منها خصوصاً أثناء الرحلات الطويلة بالسيارة.
" استصحاب وسيلة تعين على تحديد اتجاه القبلة وأوقات الصلوات وساعة منبه، ويُفضل شراء جهاز تسجيل صغير لتسجيل بعض الكلمات وإجراء بعض المقابلات مع السكان المحليين عند الحاجة، واللقاءات الدعوية وما ذُكر أعلاه يُفيد الداعية في إعداد اللمات والدروس والمحاضرات والإجابة عن الأسئلة، وكذلك في تنظيم وقته والاستفادة منه بإذن الله تعالى.
11- الاستفادة قدر الإمكان من الوقت بما يُفيد الدعوة حيث إن زيارتكم هناك مكسب للمسلمين في ذلك البلد، فما من بابٍ للخير يُمكن طرقه إلا وعليكم به ولا تترددوا وليكن ذلك بالتنسيق مع الاخوة المسئولين والمنظمين.
12- مراعاة جانب ضعف العلم والجهل واختلاف المذاهب عند طرح أي موضوع أو قضية للنقاش مع محاولة الابتعاد عن الخوض في المسائل الخلافية وتصنيف الناس، والحرص على بيان الحق من غير التعرض للأشخاص.
13- الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى وخاصة في ظروف السفر، وهي مطلوبة في ترتيب الأولويات والتدرج في تحقيق الأهداف كما أنها مطلوبة في التعامل مع مختلف أصناف الناس، ومن الحكمة أيضاً تقدير الناس وحفظ مقاماتهم، وإنزالهم منازلهم.
14- سيجد الداعية بعض الأسئلة الفقهية ترد عليه أثناء الجولة، وخصوصاً بعد إلقاء الدروس والكلمات فينبغي عليه التوسط في التعامل مع هذه القضية، والإجابة على الأسئلة الشرعية بالأدلة وذكر أقوال العلماء أو قول " لا أدري "، كما قيل: " من قال لا أدري فقد أفتى ". ولا مانع من تأجيل الجواب إلى حين مراجعة المسألة.
15- الأفضل أن تكون الدروس والكلمات بالتناوب بين المشاركين في الجولة، ولا نرى أبداً أن يستأثر واحد فقط بأعباء الجولة فيصبح هو المفتي والخطيب والواعظ حتى وإن كان أكثر مقدرة وتمكناً؛ لأن من أهداف الجولات تدريب الدعاة عملياً على الدعوة، وهذه الجولات فرصة ثمينة للتدرب على المواعظ والخطب خصوصاً بالنسبة للاخوة الذين يجدون صعوبة وعدم مقدرة على تطبيق ذلك داخل البلاد نظراً لوجود العلماء وطلبة العلم.
16- التعرف على أحوال المسلمين وذلك بالتعرف على الوضع الإسلامي بعامة والجمعيات والمؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية في المنطقة بخاصة، وكتابة عناوينها وتقارير عن نشاطاتها، وكذلك التعرف على الشخصيات الإسلامية البارزة والمؤثرة في المجتمع، ومحاولة كسبهم قدر الإمكان بالزيارة والكلمة الطيبة، للاستفادة فيما يعود على الإسلام والمسلمين بالخير،كل ذلك حسب الضوابط الشرعية، وكذلك التعرف على النشاطات المعادية للإسلام في المنطقة ومتابعتها.
17- توثيق الصلات بالجهات الدينية والرسمية الموجودة، وذلك عبر اللقاءات الودية وتهادي الكتب والمواد السمعية الإسلامية ونحوها، وهذا سيسهل لكم كثيراً من الأمور في عملكم ويكون أبلغ في انتشار الدعوة وتأثيرها.
وختاماً نسأل الله لكم التوفيق والسداد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/344)
هل يجوز مشاهدة أفلام أو مقاطع فيها نساء للعظة والعبرة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في الآونة الأخيرة ظهر مقطع فيديو لامرأة تموت وهي تزني، وطبعا المقطع كله مظلل ومغطى لا يظهر منه شيء سوى وجهها وهي تخرج منه الروح، فهل يجوز مشاهدة ذلك للعظة والعبرة ونشره - مع العلم أنه منتشر في أغلب المنتديات -؟ وما حكم مشاهدة ما يشبهها مثل حوادث السيارات للعظة والعبرة وما يعرض في التلفاز من مآسي وزلازل وسقوط أناس من أعلى الجبل وموتهم أو وقوع سور الإستاد أو سقوط الطائرات وتفجرها أو خروج الأرواح من سوء الخاتمة كحوادث السيارات المباشرة في وقتها أو المعروضة على شريط فيديو ومسجلة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز إظهار المرأة على مقاطع فيديو ونشرها على الناس بحجة أنها مؤثرة، ومن المعلوم أن المرأة عورة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ) رواه الترمذي (1173) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
فلا يجوز النظر إليها – عياناً أو على صورة -، ولم تستثن الشريعة إلا ما كان لحاجة أو ضرورة كالنظر إلى المخطوبة، وعند الشهادة والعلاج، ونحو ذلك.
وهذه المقاطع المؤثرة وخاصة تلك التي تكون في أوضاع سيئة كالمقطع الوارد في السؤال، أو ما نشر من خسف صالة فيها رقص نساء ورجال وشرب خمور، كل ذلك لا يبيح نشره ولا النظر إليه، ومن أبى إلا هذا الفعل فليطمس صورة المرأة كاملة.
وأما ما ينشر من حوادث الطرق أو التفجيرات أو الزلازل وما يشبهه فيجوز للعبرة والعظة على أن لا يشتمل على صور نساء أو كشف عورات.
ونرى أن يحرص المسلم على التذكير والتخويف بالقرآن والسنة الصحيحة، ولا مانع من استعمال القصة في الموعظة على أن يتجنب القصص المكذوبة، أو تلك التي قد تكون سببا لإثارة الشهوات.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/345)
أسلمت وأهلها لا يدرون ويريدون تزويجها لغير مسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أسلمت من سنتين أو ثلاث، والحمد لله، فقد تأثرت بأحد الشباب في الجامعة حيث كنا ندرس سويّاً، ثم بدأ كل واحد منا يعجب بالآخر، ونحن نرغب الآن في الزواج، وبما أن عائلتي كافرة فهي تعارض تماماً هذه العلاقة، وكذلك الحال مع والدَي الشاب.
والداي لا يعلمان بأمر إسلامي، فأنا أمارسه في السر، وأفيدكم أني راغبة في الزواج من المذكور وأن أعيش حياة إسلامية بعد ذلك، أنا لا أريد أن أتزوج شخصاً كافراً، ووالداي يريدان مني أن أرجع لبلدي لأتزوج من شخص يدين بدينهما، فهل من الضروري أن يوافق والدانا - أنا وهو - على الزواج؟ وهل يمكننا الزواج بدون علمهم، أو تأجيل استئذانهم؟ أخشى أن يموت والداي إن هما سمعا أني أسلمت أيضاً، فهما يكرهان المسلمين، وأنا لا أعرف كيف أقنعهما، هل يجب علي إقناعهما بزواجي، أم يجوز أن أخالف رغبتهما؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قبل الإجابة يسرنا أن نهنئك على الدخول في الإسلام، وهو الدين الخاتم للأديان، وقد رضيه الله تعالى للخليقة كلها، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ليكون للعالَمين بشيراً ونذيراً، وقد سبقكِ كثير ممن هدى الله تعالى قلوبهم لهذا الدين العظيم، وقد حُرمه كثيرون بسبب عنادهم ومكابرتهم، فيجب عليكِ أن تديمي الشكر لربكِ تعالى أن أخرجك من ظلمات الكفر والجهل إلى نور التوحيد والعلم، ويجب عليكِ أن تتعلمي أحكام الدين لتزدادي طمأنينة بحسن اختيارك وليثبت الله به قلبكِ.
ثانياً:
ولا يمنعنا إسلامكِ الجديد من أن نخبركِ بأن هذا الدين جاء بأحكامٍ عظيمة، يحفظ بها للمسلم دينه وعقله وماله وعِرضه ونسبه، لذا ففيه ما هو حرام ممنوع من أجل المحافظة على ذلك، وفيه ما هو ما واجب لأجل الأمر نفسه، ومما يتعلق بسؤالكِ هنا أمران:
فمن باب الحفاظ على العِرض والنسب حرَّم الإسلامُ الاختلاط بين الجنسين، وخلوة الرجل بالمرأة، ولمسها بيده، فضلاً عما هو أكبر من ذلك من فاحشة الزنا، لذا فإننا نرى أن المرأة جوهرة لا يصح أن تكون سلعة رخيصة – كما هو الحال في دول الكفر ومن تبعهم من سفهاء المسلمين – في الدعايات والصحف والمجلات، وإن لها دوراً عظيماً ينتظرها بصفتها زوجة وأمّاً.
والأمر الثاني: حفاظاً على دين المرأة فإن الله تعالى قد حرَّم زواج المسلمة بالكافر، وهو أمر ثابت بالقرآن والسنة والإجماع.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) . . .
المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع - كما سبق - ولو كان الكافر أصليّاً غير مرتد، ولهذا لو تزوج كافرٌ مسلمةً: فالنكاح باطل، ويجب التفريق بينهما، فلو أسلم وأراد أن يتزوجها لم يكن له ذلك إلا بعقدٍ جديدٍ " انتهى باختصار.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (12 / 138 - 140) .
ثالثاً:
ويشترط في عقد الزواج حتى يكون صحيحاً وجود وليٍّ للمرأة، ولا يجوز أن يكون الكافرُ وليّاً للمسلمة بلا خلافٍ بين العلماء.
قال ابن قدامة:
أما الكافر: فلا ولاية له على مسلمةٍ بحال , بإجماع أهل العلم , منهم: مالك , والشافعي , وأبو عبيد , وأصحاب الرأي، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
" المغني " (7 / 21) .
وحتى في مثل حالكِ فإنه لا بدَّ من وليٍّ في الزواج، فإن لم يكن أحد أوليائك مسلماً: فيزوجكِ من يقوم مقام السلطان وهو القاضي الشرعي أو المفتي أو شيخ المركز الإسلامي، أو إمام المسجد.
ولا يجب عليك استئذان والدك في زواجك لأنه لا ولاية له عليك، وإذا تمَّ هذا الزواج فإنه يجوز أن يبقى خبره بعيداً عن والديك، ولا يجب عليكِ إخبارهما به.
رابعاً:
ولو كان الوليُّ مسلماً فإنه لا يجوز له إجبار ابنته على الزواج بمن لا ترغب، وقد جعلت الشريعة الإسلامية المطهرة رضاها أحد أركان العقد، ولا يكون العقد صحيحاً إذا كانت مكرهة عليه، وإن ثبت إكراهها على الزواج: فإن القاضي المسلم يخيرها بين إمضاء العقد أو فسخه.
كما لا يجوز للوالدين أو أحدهما أن يجبر ابنه على نكاح من لا يرغب، ولم يجعل الله تعالى رضا الوالدين أو أحدهما شرطاً من شروط صحة نكاح الابن، لكن ينبغي للابن أن يترفق بوالديه عندما يرفض الاستجابة لرغبتهما، وعليه أن يبذل وسعه لكسب رضاهما عنه وعن زواجه بمن يرغب.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" لا يجوز أن يجبر الوالد ابنه على أن يتزوج امرأة لا يرضاها سواء كان لعيب فيها ديني أو خلقي، وما أكثر الذين ندموا حين أجبروا أولادهم أن يتزوجوا بنساء لا يريدونهن، يقول: تزوجها لأنها بنت أخي، أو لأنها من قبيلتك، وغير ذلك، فلا يلزم الابن أن يقبل، ولا يجوز لوالده أن يجبره عليها. وكذلك لو أراد أن يتزوج بامرأة صالحة، ولكن الأب منعه، فلا يلزم الابن طاعته، فإذا رضى الابن زوجة صالحة، وقال أبوه: لا تتزوج بها، فله أن يتزوج بها ولو منعه أبوه، لأن الابن لا يلزمه طاعة أبيه في شي لا ضرر علي أبيه فيه، وللولد فيه منفعة، ولو قلنا: إنه يلزم الابن أن يطيع والده في كل شي حتى في ما فيه منفعة للولد ولا مضرة فيه على الأب لحصل في هذا مفاسد، ولكن في مثل هذه الحال ينبغي للابن أن يكون لَبِقاً مع أبيه، وأن يداريه ما استطاع وأن يقنعه ما استطاع " انتهى.
" فتاوى المرأة المسلمة " (2 / 640، 641) .
خامساً:
عليك بذل ما تستطيعين من أجل إنقاذ والديكِ وإدخالهما في الإسلام، حتى تتم لكِ ولهما السعادة الدنيوية والأخروية، ويمكنك أن تسلكي طرقاً كثيرة متعددة لدعوتهم إلى الإسلام، ومنها: أن تراسليهم بالبريد الإلكتروني – مثلاً – دون أن يعلموا أن الرسائل منكِ، ويمكنك تزويد عنوانهم لبعض المختصين بالعلوم الشرعية والدعوة ليقوموا بالمهمة عنكِ، كما يمكنك الاستعانة بالمركز الإسلامي القريب منهم ليقوم بعض الدعاة بزيارتهم ودعوتهم، ويمكنك مراسلتهم بالبريد العادي وتزويدهم بأشرطة وكتيبات تعرِّف بدين الإسلام.
وأنتِ أعلم بحالهم من غيرك، وقد يكون إخبارهم بإسلامك فتح باب أمامهم للدخول في الإسلام، فإن كان هذا واقعاً فأخبريهم، وإن رأيتِ أن لا نفع من هذا، وأنه يؤثر فيهم سلباً أو قد يتسبب في التضييق عليك فلا تخبريهم، ويمكن تأجيل ذلك فترة حتى يفتح الله عليهم، واستعيني بالله تعالى وتضرعي إليه بالدعاء الصادق أن يهديهم.
نسأل الله تعالى لك الثبات على هذا الدين، ونسأله تعالى أن يهدي والديك للإسلام.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/346)
الطريقة المثلى لدعوة تارك الصلاة والتعامل مع المبتدع
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الطريقة المثلى لدعوة تارك الصلاة؟ ماذا عن المبتدع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ينبغي النظر في حال المدعو لأداء الصلاة أو غيرها من العبادات، ومراعاة ما يلائمها من أساليب الترغيب، أو الترهيب، وإن كان الأصل العام في الشرع أن يجمع بينهما، ثم إنه من الأهمية بمكان مراعاة أحوال المدعو في إقباله أو إدباره، وتأثره بالموعظة أو انصرافه عنها.
ثانيا:
الطريقة المثلى لدعوة تارك الصلاة تتلخص فيما يلي:
1- تذكيره بفرضية الصلاة وأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين
2- إعلامه ببعض فضائل الصلاة؛ فهي خير ما فرضه الله على عباده، وخير ما يتقرب به العبد إلى ربه، وهي أول ما يحاسب عليه العبد من أمر دينه، والصلوات الخمس كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر، وسجدة واحدة يرفع العبد بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة..، إلى آخر ما ورد في فضائل الصلاة؛ فإن هذا من شأنه أن تسمح بها نفسه، إن شاء الله، ولعلها تصير قرة عينه، كما كانت قرة عين النبي، صلى الله عليه وسلم.
3- إعلامه بما ورد في شأن تاركها من الوعيد الشديد، واختلاف العلماء في كفره وردته، وأن الإسلام لا يتيح لتارك الصلاة فرصة في العيش طليقا بين الناس، إذ الواجب في شأنه أن يدعى للصلاة، فإن أصر على الترك، قتل مرتدا في مذهب أحمد ومن وافقه من السلف، أو قتل حدا في مذهب مالك والشافعي، أو حبس وسجن في مذهب أبي حنيفة، أما أن يترك حرا طليقا، فلا قائل بذلك من أهل العلم، فيقال لتارك الصلاة: هل ترضى أن يختلف العلماء في شأنك، بين الكفر والقتل والحبس؟!
4- تذكيره بلقاء الله تعالى والموت والقبر، وما يحدث لتارك الصلاة من سوء الخاتمة وعذاب القبر.
5- بيان أن تأخير الصلاة عن وقتها كبيرة من الكبائر؛ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) مريم/59، قال ابن مسعود عن الغي: واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم، وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) الماعون/4، 5) .
6- بيان ما يترتب على القول بكفره من أمور عظيمة، كبطلان نكاحه، وحرمة بقائه ومعاشرته لزوجته، وكونه لا يغسّل ولا يصلى عليه بعد وفاته. ومن النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " رواه مسلم (82) ، وقوله: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" رواه الترمذي (2621) والنسائي (463) وابن ماجه (1079) .
7- إهداؤه بعض الكتيبات والأشرطة التي تتناول موضوع الصلاة وعقوبة تاركها والمتهاون فيها.
8- هجره وزجره في حال إصراره على ترك الصلاة.
وأما المبتدع، فيختلف التعامل معه حسب نوع بدعته ودرجتها، والواجب نصحه ودعوته إلى الله، وإقامة الحجة عليه، وإزالة شبهته، فإن أصر على بدعته هُجر وزجر إذا غلب على الظن أن ذلك ينفعه، وينبغي التثبت أولا في الحكم على شخصٍ ما بأنه مبتدع، والرجوع في ذلك إلى أهل العلم، والتفريق بين البدعة وصاحبها، فربما كان معذورا بجهل أو تأويل.
وانظر تفصيل ذلك في (حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد بن ناصر الغامدي) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/347)
كيف تدعو المرأة خارج بيتها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل للمرأة مجال للدعوة الإسلامية خارج بيتها، وكيف؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
للمرأة مجال للدعوة في بيتها لأسرتها من زوج ومحارم، رجالاً ونساءً، ولها مجال في الدعوة الإسلامية خارج بيتها للنساء، إذا لم يكن في ذلك سفر بلا زوج ولا محرم، ولم يُخش الفتنة، وكان ذلك بإذن زوجها إن كانت متزوجة ودعت إلى ذلك الحاجة، ولم ينشأ عن ذلك ضياع ما هو أوجب عليها من حقوق أسرتها.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 249 - 250.(8/348)
التعليق على ما انتشر في المنتديات باسم " وصية إبليس قبل اعتقاله "
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشر في كثير من المنتديات ما عرف باسم " رسالة إبليس "، وهي مذيلة باسمه! وفيها خطابات للناس ولشياطين الإنس، فنرجو النظر فيها والتعليق عليها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قد وقفنا على تلك النشرة، ورأيناها في كثير من المنتديات، وتعرف باسم " وصية إبليس " أو " وصيتي قبل الاعتقال " أو " رسالة إبليس " وهي مذكورة على لسان الشيطان يخاطب فيها الناس قبل تصفيده في رمضان، ويحث فيها شياطين الإنس على القيام بمهماته، وسنذكر نص هذه الرسالة، وما يتيسر من التعليق عليها.
نص الرسالة:
" يقول إبليس في الرسالة: أبعث إليكم بأشواقي وتحياتي قبل سويعات من الاعتقال الذي تأكد لي خبره وطار أمره.
ثلاثون يوماً بعيداً عنكم بعد أن كنت معكم على مدار العام، ولعل عزائي أن فيكم من سيعوض غيابي ويسد فراغي من اللئام.
لا يخفاكم ما حدث في رمضان الماضي، فعلى الرغم من كل الجهود الذي بذلتها معكم،
وكل الأفكار التي صببتها في آذانكم: فقد رأينا الملايين من كل مكان يرتادون المساجد،
والملايين يرتدين الحجاب، وكنت أنا وقتها في معتقلي أكتوي بنار الغضب.
فهذا جهدُ عامٍ مع تلك الفتاة الضائعة يضيع في ليلة القدر، وهذا الذي ما تركت كبيرة إلا وأوقعته فيها تنزل من عينه دمعة تطفئ غضب الرب عليه، وتفتح باب التوبة إليه.
يا شياطين الإنس: في خضم غياب فارسكم أمامكم دور كبير، فافعلوا ما تؤمرون، أريدهم في رمضان لا يعرفون سوى السهر حتى الصباح في الخيام الرمضانية،
والنوم حتى موعد وجبة الإفطار الشهية حتى تمتلأ بطونهم وكروشهم المتدليّة،
ثم أتموا عليهم بنعمة البرامج التلفزيونية، نريد رقصا، نريد هجصا،
نريد شهوة، نريد نزوة، نريد أفكاراً إبليسية، ولا تنسوا حتى تكتمل التمثيلية: اختموا بثَّكم بالتلاوات القرآنية!
يا شياطين الإنس: أكثروا من اللقاءات مع الفنانات والراقصات، وكل جميلة فتيّة ليحدثوهم عن روحانية رمضان وما يقمن به من نضال على عتبات المسارح والمراقص الهرمية،
نريد الجميع أن يتحدث عن ذلك المسلسل اليومي، والفيلم الأسبوعي، والمسرحية النصف شهرية، نريد مباريات كروية، وأغان عربية، وقنوات فضائية، لا أريد أن أرى أحدكم يتوقف ولو لثانية، فكما تعلمون وقتنا غال وأهدافنا دنيّة.
يا شياطين الإنس: أتريدون لهم أن يدخلوا الجنة التي حُرمنا حتى من شم رائحتها النديّة؟
أتريدون أن تمرَّ عليهم لحظات توبة فيضيع كل ما بذلناه في عشرات السنين الضنيّة، أما حذرتكم أن من أدرك منهم ليلة القدر غفر له كل ماضيه والبقية، لا وألف لا، خبتم وخسرتم إذا فعلتم.
ستستبدلون بغيركم أيها الأباليس الغثائية، ألا تريدون للجحيم سكاناً؟ وللدرك الأسفل رعيّة؟ أما من أحباب لسقر والشجرة الزقومية؟ أين قلوبكم الميتة؟ وعقولكم الشيطانية؟
أما أنت يا حواء: فدورك في الأمة فعّال، فأنت أقوى مخدّر للرجال، أعلق عليك الآمال، فأنت الجواب لكل سؤال، نريد سهرة، نريد رقصة وضحكة، نريدها - باختصار - إثارة ومتعة، اطرحي التراويح جانبا، وانسَيْ ثواب القائمة، ألا يكفي يا حبيبتي أنك صائمة؟!
يا بني آدم أجمعين: اسمعوا لي فما أنا لكم إلا ناصح أمين، لا تهتموا في رمضان إلا بكل لذيذ سمين، ولتنسوا الصلاة لرب العالمين، وإياكم وقراءة آيات الذكر الحكيم؛ فإنه المنكر الأثيم في منطق سكان الجحيم، رمضان سيتكرر سنين بعد سنين فتوبوا حينها لرب غفور رحيم، أما الآن فامضوا وقتكم تسبحون بحمد بوش وبنيامين عليهم رحمة الأبالسة أجمعين.
التوقيع: إبليس اللعين ".
ولنا على هذه الرسالة ملاحظات، ومنها:
1. أنها طريقة مبتدعة في الدعوة والوعظ، فيمكن للداعية والواعظ أن يوصل رسائل للعصاة لترك معاصيهم، وللطائعين للازدياد من طاعاتهم بغير تلك الرسالة السمجة الهزلية، التي حويت أصنافا من الجهل والتكلف والهزل.
2. أن هذه الطريقة في الوعظ والتذكير تفتح الباب للكلام على لسان غير إبليس كالملائكة أو الأنبياء أو الشهداء أو الدجال أو الجنة أو النار وغيرها، وهو مما يجعل الأمر فوضى، ويفتح الباب لكل عابث بتوجيه تلك الرسائل على لسان من يشاء، فتنقلب الدعوة إلى مباريات كتابية خيالية، ويصير الوعظ تنافساً في اختيار الشخصية التي يتكلمون بلسان حالها.
3. ونحن نجزم أن كاتبها ليس عالما ولا طالب علم، ولم نرَ هذه الرسالة إلا في منتديات يرتادها العامة، ومن شروط الدعوة إلى الله أن يكون المتكلم صاحب علم يعرف ما يقول لأنه يوقع عن رب العالمين، ويتكلم باسم الدين، فلا يجوز أن يكون هذا المجال لكل صاحب خيال واسع.
4. وهذه الرسالة ليس فيها آية ولا حديث، ففيها صرف الناس عن الوعظ بالقرآن، وكأن الشرع المطهَّر ليس فيه ما يُخاطب به الناس من القوارع والزلازل من الآيات البينات والأحاديث الصحيحة الواضحات، والأحكام الشرعية البيِّنة.
5. وفي الرسالة تعظيم للشيطان؛ حيث جُعل هو المتكلم والناس تستمع وتنقل رسائله المذيلة بتوقيعه! ولا شك أن في هذا تشريفاً لذلك المطرود من رحمة الله، والذي شأنه أحقر من أن يكون صاحب رسائل ينقلها المسلمون في منتدياتهم وجوالاتهم، ويمكن لأحد الدعاة أو طلبة العلم أن يكتب رسالة يوضح فيها حال الشيطان مع العصاة، وحاله مع العبَّاد، وأن يجعل بين الحالين مقارنة، ويوضح ذلك بالآيات والأحاديث دون أن يجعل المتكلم هو الشيطان، ويكون بذلك أدَّى الغرض الذي من أجله كُتبت هذه الرسالة.
6. وفي الرسالة جهل بالأحكام الشرعية، وافتراء على الشرع، ومنه قوله " أما حذرتكم أن من أدرك منهم ليلة القدر غفر له كل ماضيه والبقية "، وفي هذه الجملة جهل من وجهين: الأول: أن المعلوم أن مجرد إدراك ليلة القدر ليس فيه فضل، وقد نصَّ الحديث الصحيح على فضل من قام ليلة القدر، لا من أدركها، والثاني: أن الفضل لمن قام ليلة القدر أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه دون " البقية " أي: ما تأخر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري (1802) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: وما تأخر.
7. وفي الرسالة بيان أن شياطين الجن جميعها تصفَّد وتسلسل، والظاهر أن الذي يصفَّد هو مردتهم، كما جاء في بعض الروايات الصحيحة، وقد بيَّنا هذا في أجوبة كثيرة، منها (39736) و (12653) و (14253) ، وفي بعض تلك الأجوبة أن تصفيد أولئك المردة لا يعني عدم وسوستهم، وهو ما يقضي على الرسالة من أصلها.
والخلاصة:
أننا لا نرى جواز نشر هذه الرسالة؛ لما فيها من مخالفات للشرع؛ ولما فيها من سماجة وهزلية، ونرى أن مثل هذه الأساليب فيها صرف للناس عن القرآن والسنة، وأن نفعها المزعوم قد يتركز في الفكرة والأسلوب دون المعنى والمضمون.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/349)
هل ندعو من يفعل الأفعال الشركية إلى التوحيد فقط
[السُّؤَالُ]
ـ[في المناطق التي يوجد فيها القباب وزيارة القبور هل ندعوهم إلى التوحيد فقط أم ندعوهم إلى التوحيد وبقية أمور الدين، كتحسين الصلاة وغيرها من أمور الدين، وكذلك من لا يفعل الأفعال الشركية ولكن يقترف بعض المعاصي؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
يجب أن يراعى في الدعوة حال المدعوين، فمن كان واقعاً في الشرك فإنه يبدأ بنهيه عن الشرك وأمره بالتوحيد، ثم أمره بعد ذلك ببقية أوامر الدين، ومن كان سالماً من الشرك وعنده بعض المعاصي فإنه يُنهى عن المعاصي ويُؤمر بالتوبة.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 245.(8/350)
نصيحة لمن يقدح في إخوانه المسلمين ويتهمهم بلا بيّنة
[السُّؤَالُ]
ـ[شيخنا إني أحبكم في الله، رجائي أن تجيبني كي ألجم أفواه الطاعنين في أهل العلم، فهناك من يتهمكم بالتكفير والقطبية ـ كما يسمونها ـ ?.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وجمعنا الله في مستقر رحمته، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وبخصوص ما ورد في سؤالك، فننصحك بالابتعاد عن كل من يتكلم في إخوانك المسلمين أو يقدح فيهم أو يتهمهم ويطعن في نياتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أبو داود برقم 4880، وصححه الألباني
ثم إن عليك واجب النصيحة لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يكفوا عن مثل تلك الألقاب التي تفرق المسلمين، وما كان من واجب النصيحة لبعض الأخطاء فإنها لا تكون بالتشهير والطعن في النيات ونحو ذلك.
أما مسألة التكفير ففيها تفصيل. فتكفير من كفره الله تعالى أو كفره رسوله صلى الله عليه وسلم واجب حتمي، والله عز وجل قد كفر طوائف في كتابه، كما قال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) ، وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) ، وتكفير من لم يكفره الله تعالى أو يكفره رسوله صلى الله عليه وسلم محرم.
وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه، يجب أن لا نجبن عن تكفير من كفره الله ورسوله، ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين " شرح كتاب التوحيد 2/271
وانظر سؤال (21576) ، والله أعلم
ثم إن كل من اتهم شخصاً بتهمة فعليه الدليل (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)
والمشكلة المنتشرة بين بعض المنتسبين إلى الدين هداهم الله أنهم يرمون الناس بتهم لا تعتبر أصلاً في الشرع من الأمور القادحة والمخلّة بالدين.
ثم لا يأتون على ذلك بدليل ويتابعون هوى أنفسهم، فالنفس تحب أن تنصب نفسها حكماً على العباد تجرح وتعدل وترفع وتخفض وتنبز.
والواجب مخالفة هوى النفس في هذا وميزان الناس بميزان الشرع وتذكر حسناتهم والمناصحة لأخطائهم.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/351)
قائمة بحِكَم إسلامية جميلة لإرسالها إلى الأصدقاء
[السُّؤَالُ]
ـ[أرسل يوميا جمل وحكم ومقاطع من القرآن أو الأحاديث إلى الأصدقاء فهل يمكن أن تزودني ببعضها؟ حيث أن لها تأثير طيب عليهم وأود الاستمرار في ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أثابك الله أيها الأخ على هذا المجهود الطيّب الذي تقوم به في الدّعوة إلى الله والنّصح والتذكير الذي تُسديه إلى إخوانك عبر هذه الجُمل والعبارات الإسلامية، وفيما يلي قائمة ببعض القواعد والحِكم الإسلامية الجامعة مأخوذة من الكتاب والسنّة وكلام أهل العقل الحكمة من المسلمين، فما كان مأخوذا من القرآن فهو بين قوسين () ، وما كان من صحيح السنّة النبوية جُعل بين علامتي التنصيص " "، وما كان غير ذلك تُرك دون علامة:
(إذا قلتم فاعدلوا)
(استعينوا بالصبر والصلاة)
(قولوا للناس حسنا)
(أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
(لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)
(وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا)
(وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)
(من يتوكل على الله فهو حسبه)
(من يطع الرسول فقد أطاع الله)
(لن تنالوا البرّ حتى تُنفقوا مما تحبون)
(حسبنا الله ونعم الوكيل)
(لا تمش في الأرض مرحا)
(لا تصعّر خدّك للناس)
(اقصد في مشيك واغضض من صوتك)
(ولا تمنن تستكثر)
" احفظ الله يحفظك "
" إذا لم تستح فاصنع ما شئت "
" أطب مطعمك تكن مجابا الدعوة "
" اتق الله حيثما كنت "
" اتْبع السيئة الحسنة تمحها "
" خالقِ الناس بخلق حسن "
" اتق المحارم تكن أعبد الناس "
" ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس "
" أحبّ للناس ما تحبّ لنفسك "
" لا تُكثر الضّحك فإنّ كثرة الضحك تُميت القلب "
" الظّلم ظلمات يوم القيامة "
" اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "
" اتق النار ولو بشقّ تمرة "
" اتقوا دعوة المظلوم "
" أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن "
" التأني من الله والعجلة من الشيطان "
" قلة المال أقلّ للحساب "
" لا تغضب ولك الجنة "
" أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ "
" أحب البلاد إلى الله مساجدها "
" أبغض البلاد إلى الله أسواقها "
" أحبّ الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي "
" أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد سبحان الله وبحمده "
" أحب الناس إلى الله أنفعهم "
"أحبّ الأعمال إلى الله سرور تُدخله على مسلم "
" من كفّ غضبه ستر الله عورته "
" سوء الخلق يُفسد العمل كما يُفسد الخلّ العسل "
" أحبّ عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا "
" إحذروا الدنيا فإنها خضرة حلوة "
" إحفظ لسانك "
" أحفوا الشّوارب وأعفوا اللحى "
" أدّ الأمانة إلى من ائتمنك "
" لا تخن من خانك "
" أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة "
" بشروا ولا تنفروا "
" يسّروا ولا تُعسّروا "
" كل بيمينك وكل مما يليك "
" إذا آتاك الله مالا فليُر أثر نعمة الله عليك "
" إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه "
" إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فزوّجوه "
" إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق "
" إذا أسأت فأحسن "
" إذا حاك في نفسك شيء فدَعْه "
" إذا حكمتم فاعدلوا "
إذا دخلت بيتا فسلّم على أهله
" إذا ذُكّرتم بالله فانتهوا "
" إذا ساق الله إليك رزقا من غير إشراف نفس ولا مسألة فخذه "
" إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس "
" إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن "
" إذا سمعت النّداء فأجب داعي الله "
" إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذّن "
" إذا غضب أحدكم فليسكت "
" إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله سكن غضبه "
" إذا قال الرجل للمنافق يا سيدي فقد أغضب ربه "
" إذا قمت في صلاتك فصلّ صلاة مودّع "
" إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بميامنكم "
" إذا لقي أحدكم أخاه فليسلّم عليه "
" أذكر الموت في صلاتك "
" إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
" إزهد في الدنيا يحبك الله "
" إزهد فيما عند الناس يحبك الناس "
" استحيوا من الله حق الحياء "
احفظ " الرأس وما وعى "
احفظ " البطن وما حوى "
" استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان "
" كل ذي نعمة محسود "
" لن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن "
" أبخل الناس من بخل بالسلام "
" أسرق الناس الذي يسرق من صلاته لا يُتمّ ركوعها ولا سجودها "
" اشفعوا تُؤجروا "
" أشكر الناس لله أشكرهم للناس "
آفة الجَمال الخيلاء
آفة الجود الإسراف
آفة الحَسَب الفخر
آفة العلم النسيان
" أعط من حرمك "
" صِل من قطعك "
" أعف عمن ظلمك "
رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسَلِم
الخمر مفتاح كل شر
أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار
أحبوا الفقراء وجالسوهم
أن تُخطئ في العفو خير من أن تُخطئ في العقوبةلا تقض وأنت غضبان
إذا أردت أن تذكر عيوب غيرك فاذكر عيوب نفسك
إذا أصبت ذنبا فقل: أستغفر الله
إذا أُعطيت نعمة فقل الحمد لله
إذا أصابتك مصيبة فقل إنا لله وإنا إليه راجعون
استنزلوا الرزق بالصدقة
" أطعموا الطعام وأطيبوا الكلام "
" أطلبوا استجابة الدعاء عند إقامة الصلاة ونزول الغيث "
أطول الناس أعناقا يوم القيامة المؤذنون
" أعبد الله كأنك تراه "
" أعجز الناس من عجز عن الدعاء "
" أبخل الناس من بخل بالسلام "
" أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه "
" اعقلها وتوكّل "
" اغتنم حياتك قبل موتك "
اغتنم " صحتك قبل سقمك "
اغتنم " فراغك قبل شغلك "
اغتنم " غناك قبل فقرك "
اغتنم " شبابك قبل هرمك "
" أفضل الذكر لا إله إلا الله "
" أفضل الصدقة جهد المُقلّ "
" اليد العليا خير من اليد السفلى "
أفضل الكسب بيع مبرور
" أفضل المؤمنين أحسنهم خلقا "
" أفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله عنه "
" أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله "
" اقرأ القرآن في كلّ الشّهر "
" اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه "
" أكثر الدعاء بالعافية "
" أكثر خطايا ابن آدم في لسانه "
" أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنوز الجنة "
" أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت "
" غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم "
" أحبّ العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قلّ "
" لا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف "
" إلزمها فإن الجنة تحت أقدامها - يعني الوالدة - "
" ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام ". أي إلزموها وثابروا عليها
" الإسلام يهدم ما كان قبله "
" كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار "
" أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك "
" أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب "
" أطعم المسكين وامسح رأس اليتيم "
" إن الدال على الخير كفاعله "
هذه طائفة من الكلمات النافعة والحكم البليغة والقواعد الجامعة نسأل الله أن ينفع بها، فإذا انتهى إرسالها ورغبت في المزيد فأرسل إلينا إشعارا بذلك لنواصل في جمع المزيد والله وليّ التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/352)
هل يجوز أن يعرض مالاً على شخص ما بشرط أن يفعل عمل صالحاً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن تعرض مالاً لشخص ما بشرط أن يفعل عمل صالحاً؟ مثلاً: أن أعرض على عمي أن أدفع له 500 درهماً مقابل أن يطلق لحيته.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي يظهر أنه لا بأس في هذا الفعل، وقد أوجب الله تعالى على عباده أفعالاً، ووعدهم على فعلها الثواب الجزيل في الدنيا، ترغيباً لهم في فعلها، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق / 2-3.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) رواه البخاري (5986) ومسلم (2557) . ومعنى " يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ" أي: يؤخر أجله.
ومن باب التشجيع على الأفعال أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن قتل قتيلاً من الكفار في أرض المعركة أن يأخذ سلَبه.
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عام حنين –: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلَبه ".
رواه البخاري (2973) ومسلم (1751) .
والسَّلَب: هو ما يوجد مع المحارب من مال ومتاع ولباس وسلاح.
وأجاز العلماء وضع جائزة لحفظ سورٍ من القرآن أو أحاديث من السنة أو لحل مسابقة علمية.
سئل علماء اللجنة الدائمة:
ما الحكم في أخذ جوائز في مسابقة لحفظ القرآن؟
فأجابوا:
لا حرج في ذلك، ولا فرق بين الرجال والنساء في هذا الأمر.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 126) .
هذا بالنسبة للدافع وللعارض: وهو جواز عرض وإعطاء مال لمن يطلق لحيته أو ما يشبهه من التزام شيء من أحكام الشرع.
أما بالنسبة للآخذ: فإن كان قد أطلق لحيته لأجل هذه الجائزة: فلا أجر له على هذا الفعل، إلا أن تكون هذه الجائزة دافعاً له لتطبيق ما أمره الله تعالى به، أو أنه بدأ من أجل الجائزة ثم غَيَّر نيتَه بعد فعله هذا والتزامه: فهو مأجور على ما سلمت فيه النية، ولا يضره أنه فعل ذلك ابتداء من أجل الجائزة.
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا، فَو َاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً، مَا يَخَافُ الْفَقْرَ.
فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلا الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه مسلم (2312) .
قال النووي:
هكذا هو في معظم النسخ: " فما يسلم " , وفي بعضها " فما يمسي " , وكلاهما صحيح , ومعنى الأول: فما يلبث بعد إسلامه إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه , والمراد: أنه يُظهر الإسلام أولا للدنيا , لا بقصد صحيح بقلبه , ثم من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ونور الإسلام لم يلبث إلا قليلا حتى ينشرح صدره بحقيقة الإيمان , ويتمكن من قلبه , فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا وما فيها.
" شرح مسلم " (15 / 72، 73) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/353)
هددها زوجها إن لم تشاهد معه أفلاماً فاضحة بالطلاق
[السُّؤَالُ]
ـ[امرأة يجبرها زوجها على مشاهدة الأفلام الجنسية الفاضحة وهي ترفض ذلك وتحاول منعه منها والاختيار بينها وبين هذه الأفلام، فيختار الأفلام بدلاً منها، فماذا تفعل - وهو يهددها إذا لم تشاهد معه هذه الأفلام سوف يطلقها -؟ فماذا تنصحونها؟ هل تشاهدها أم تتطلق - وخاصة أنها أنجبت منه ثلاثة أطفال -؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أوجب الله تعالى على المسلم أن يقي نفسه وأهله النار، فقال تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم / 6.
وجعل الله تعالى الزوجة والأولاد رعية عند الزوج، وهو مسئول عنهم يوم القيامة، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ".
رواه البخاري (853) ومسلم (1829) .
وتوعد الله من غشَّ رعيته أو لم يحطها بنصحٍ شرعي أن يُحرم الجنة، فعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما مِن عبدٍ استرعاه الله رعيَّة فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ".
رواه البخاري (6731) ومسلم (142) .
وما يفعله الزوج من مشاهدة الأفلام الجنسية الإباحية أمر منكر وإثم عظيم، ولا يحل له فعله فضلاً عن إجبار غيره على فعل هذا الأمر.
فإن دعا الزوجُ زوجته إلى رؤية هذه الأفلام: فلا تجوز طاعته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف " رواه البخاري (7257) ومسلم (1840) .
ولا يعدُّ تهديد الزوج بالطلاق عذراً شرعيّاً لها، ولا تعدُّ مكرَهة بفعله، بل يجب عليها نصحه بالتي هي أحسن، فإن استجاب وترك ما هو عليه من منكر فخيرٌ يقدمه لنفسه، ولها عليه الأجر، وإن رفض الاستجابة لأمرِ الله تعالى بغض البصر عن الحرام: فلا يحل لها طاعته على ارتكاب المنكر، ولا ينبغي لها أن تأمنه على نفسها ولا على أولادها، ويعوضها الله خيراً منه إن شاء تعالى.
وفي جواب السؤال رقم (12301) بيان حكم مشاهدة هذه الأفلام.
وفي جواب السؤال رقم (7669) بيان طرق نصح وإرشاد مثل هذا الزوج.
وإذا كان الزوج تاركاً للصلاة: فلا يجوز للزوجة أن تتردد في طلب فسخ النكاح، وقد ذكرنا حكم البقاء مع الزوج الذي يترك الصلاة في جوابنا على السؤال رقم (4501) و (5281) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/354)
الجلوس مع جماعة التبليغ والخروج معهم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز الجلوس مع جماعة التبليغ من أجل الفائدة والذكر فقط؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جماعة التبليغ إحدى الجماعات الدعوية التي تسعى لنشر الإسلام والدعوة إليه، ولها دور محمود في دعوة العصاة والمنحرفين، مع بذل الوقت والمال، وتحمل مشاق السفر والتجوال وغير ذلك.
ونظرا لما ينقل عن بعض مشايخ هذه الجماعة ومؤسسيها من بعض الأفكار الخاطئة، والعقائد المرفوضة، أفتى جماعة من أهل العلم بأنه لا يخرج معهم إلا طلبة العلم، بغرض تعليمهم وإرشادهم.
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال التالي: (خرجت مع جماعة التبليغ للهند والباكستان، وكنا نجتمع ونصلي في مساجد يوجد بها قبور وسمعت أن الصلاة في المسجد الذي يوجد به قبر باطلة فما رأيكم في صلاتي وهل أعيدها؟ وما حكم الخروج معهم لهذه الأماكن؟
فأجاب رحمه الله:
(جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة حتى يرشدهم وينصحهم ويتعاون معهم على الخير؛ لأنهم نشيطون في عملهم، لكنهم يحتاجون إلى المزيد من العلم، وإلى من يبصرهم من علماء التوحيد والسنة. رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه ... ) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 8/331
وإذا كان الموجودون عندكم من هذه الجماعة معروفين بالعقيدة الصحيحة والعلم فلا حرج عليك في التعاون معهم، والحضور في مجالسهم.
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
(نحن سكان في البادية منا من هو مستقر في هجرة ومنا من هو يتبع حلاله، ويأتينا جماعة الدعوة للتبليغ منهم من نعرفه شخصيا ونثق بصدق نيته إلا أنهم ليسوا علماء ومنهم علماء ويدعوننا للخروج للهجر التي حولنا ويحددون لذلك أياماً وأسابيع وأشهراً مع ملاحظتنا أن حلق الذكر التي تعمل عندنا ليس عليها أي اشتباه هل يجوز الاستماع لهم أو الخروج معهم للهجر المجاورة أو خارج المملكة؟
فأجاب رحمه الله:
(إذا كان المذكورون معروفين بالعقيدة الطيبة والعلم والفضل وحسن السيرة فلا بأس بالتعاون معهم في الدعوة إلى الله سبحانه والتعليم والنصيحة لقول الله عز وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله ". وفق الله الجميع) مجموع فتاوى الشيخ 9/307
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/355)
الدعوة عبر المحادثات الخاصة
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو منك أن تدلني على طريقة معينه لدعوة الشباب على " التشات "، حيث وجدت الاستجابة من بعضهم، فأرجو منك أن تساعدني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الدخول في برامج المحادثة له مفاسد كثيرة، ولذلك لا ننصح أحداً أن يوجه همته وطاقته ويجعلهما فيها، فكثير من الشباب فُتن في هذه المحادثات بالتعرف على فتيات، فبدأها بالدعوة إلى الله وانتهى به الأمر إلى الانشغال التام والفتنة وبعضهم قد يقع في الفاحشة.
ويرد لموقعنا كثير من القصص المؤلمة بعضها لفتيات تائبات، وبعضها الآخر لنساء بعض المستقيمين والذين تغيرت حياتهم بمثل هذه البرامج.
لذا نرى أن يقتصر الأمر على بعض الدعاة في عمل جماعي منظم؛ وذلك خشية الوقوع فيما لا تحمد عقباه مما تبدأ خطواته بالمحادثة الدعوية، وتنتهي – في غالبها – بما لا يجوز شرعاً من منكرات التعلق القلبي المفسد وما يتبعه، والشيطان له خطوات يسلكها مع من يريد فتنته وإغواءه، لذا فالحذر هو الواجب في مثل هذه الأمور.
ونشكر لك غيرتك على وقوع الناس في المعصية، ونشكر همتك العالية في الدعوة إلى الله، لكننا نود منك أن توجه طاقتك في الكتابة العامة في المنتديات، والخطابة والتدريس في المساجد والأماكن العامة، وهذا أكثر نفعاً وخير لك – إن شاء الله – من المحادثات الخاصة والدعوة من خلالها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/356)
خلق السموات والأرض في ستة أو ثمانية أيام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } الأعراف
والذي فهمته أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وهذا واضح.
ولكن في آية أخرى ذكر الله خلق السموات والأرض فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } فصلت.
فهنا ذكر الله أنه خلق الأرض في يومين، ثم جعل فيها الرواسي ... وتقدير الأقوات في أربعة أيام، فيصير المجموع ستة، ثم خلق السموات في يومين، وبهذا يكون المجموع ثمانية أيام.
فكيف نجمع بين الآيتين؟؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا مما أشكل على بعض الناس فهمه، فظن بعضهم أن الله خلق السموات والأرض في ثمانية أيام كما ذكر الله في سورة فصلت: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم) فصلت / 9ـ12.
وأنه يعارض الآية الأخرى التي ذكرت أنه خلقها في ستة أيام.
وهذا فهم خاطئ والجواب عليه أن يقال:
ليس هناك تناقض ولا تفاوت بين المدة الزمنية التي جاءت في هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التي ورد فيها تحديد المدة بأنها ستة أيام.
ففي هذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ نجد أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأنه: (خلق الأرض في يومين)
ثم (جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها) في تمام أربعة أيام.. أي في يومين آخرين يضافان إلى اليومين اللذين خلق فيهما الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام.. وليس المراد أن خلق الرواسي وتقدير الأقوات قد استغرق أربعة أيام..
ولعل الشبهة ـ التي جاءت في السؤال ـ قد أتت من هنا.. أي من توهم إضافة أربعة إلى اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض، فيكون المجموع ستة.. وإذا أضيف إليها اليومان اللذان خلقت فيهما السماء (فقضاهن سبع سموات في يومين) يكون المجموع ثمانية أيام، وليس ستة أيام.. لكن إزالة هذه الشبهة متحققة بإزالة هذا الوهم.. فالأرض خلقت في يومين.. وخلق الرواسي وتقدير الأقوات قد استغرق ما تمم اليومين أربعة أيام.. أي استغرق هو الآخر يومين.. ثم استغرق خلق السموات السبع يومين.. فكان المجموع ستة أيام من أيام الله، سبحانه وتعالى..
ولقد نبه المفسرون على هذه الحقيقة ـ المزيلة لهذا الوهم ـ فقال القرطبي: " {في أربعة أيام} مثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يومًا، أي في تتمة خمسة عشر يومًا " [الجامع لأحكام القرآن] ج15 ص 343 ـ مصدر سابق.
وقال البغوي: {في أربعة أيام} يريد خلق ما في الأرض، وقدر الأقوات في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام، ردَّ الآخر على الأول في الذكر، كما تقول: تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس.
انتهى من تفسير البغوي 7/165
وقال الزجاج: في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين.
[الكشاف] ج3 ص 444 ـ مصدر سابق.
فهذه الآيات ـ من سورة فصلت ـ تؤكد هي الأخرى ـ على أن خلق السموات والأرض إنما تم في ستة أيام.. ومن ثم فلا تناقض بين آيات القرآن ولا تفاوت في مدة الخلق الإلهي للسموات والأرض.. وحاشا أن يكون شيء من ذلك في الذكر الحكيم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/357)
حكم ترك بعض المستحبّات تأليفا لقلوب مدعوين من المبتدعة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسافر لأتزوج إن شاء الله والمكان الذي سوف أسافر إليه فيه الكثير من الجهلة وأهل البدع فهل لي أن اعمل بعض التعديلات لأفعالي وأقوالي حتى أتجنب الفتنة ولكي أركز اكثر على الأمور الأصلية؟
ومثالا على ذلك الناس الذين لا يفهمون التوحيد فأنا أفضل التحدث عن التوحيد بدلا من أن أدافع عن نفسي لماذا ارفع يدي أو لماذا أحرك اصبعي أو شيء آخر من السنة.
أرجو الإيضاح جزاك الله خيرا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا: إذا كنت تعمل سننا ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنّه لا يصلح أن يٌقال أريد إجراء تعديلات عليها لأنها مستقيمة معتدلّة بذاتها، ولكن المقصود من سؤالك فيما يظهر أنك تريد عدم إظهارها أمام بعض الناس مراعاة لمصالح معيّنة أو درءا لمفاسد معيّنة.
ثانيا: لا يخفى أن الاشتغال بتقرير توحيد الله تعالى وأمور العقيدة الأساسية وتعليم ذلك في مثل الأوساط التي ذكرتها هو آكد الأمور وأهمها، فإن التوحيد هو مفتاح دعوة الرسل عليهم السلام وأول واجب على المكلّف وهو شرط في قبول الأعمال.. وإن ظهر لك أو غلب على ظنك أن التزامك ببعض المستحبات كتحريك الإصبع مثلاً، قد يؤول إلى لَبسٍ أو فتنة أو شغب عليك وتشويه لسمعتك بحيث ينفّر الناس عنك ولا يسمعون لك أو يًشغل المخاطبين عما هو آكد فلا حرج في تركها مراعاة للحال، والله يعلم نيتك وأنك لم تتركها تهاونا وإنما تركتها لمصلحة الدّين فأنت مأجور إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/358)
هل يجوز في الردود السخرية بأهل البدع والمستهزئين بالشرع والفسَّاق؟
[السُّؤَالُ]
ـ[دائماً يا شيخ - حفظك الله - إذا أخطأ شيخ فاضل، أو طالب علم، أو أحد من الناس، وكان كلامه خطأ، أو ظنّاً منَّا أنه أخطأ، فنسمع المقولة الدائمة من أخطأ علناً نرد عليه علناً، فهل ذلك صحيح، أرجو تبين المسألة بالتفصيل؛ للإشكال فيها. والسؤال الثاني هو: هل يجوز لنا التكلم على أحد الفساق، أو أحد الذين يكتبون في الصحف ويتكلمون في الدين، فنرد عليه - مثلاً - بمقال ساخر يسخر منه في المنتديات، فالبعض قالوا لنا: إنها غيبة، وردَّ عليهم بعض الإخوة بأنها تجوز من باب قوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ، وما جاء في تفسير " التحرير والتنوير " للطاهر بن عاشور: (..أي: أن المُجازي يجازي من فَعَل معه فَعلةً تسوؤه بفعلة سيئة مثل فعلتِه في السوء، وليس المراد بالسيئة هنا المعصية التي لا يرضاها الله، فلا إشكال في إطلاق السيئة على الأذَى الذي يُلحق بالظالم) . فيقولون: يجوز أن نلحق به الأذى بالسخرية من كتاباته، وأن نستهزئ به؛ لأنه يستهزئ بالإسلام، وهو مسلم في الحقيقة، والسخرية منه، والتنقص: جزاء لسوء عباراته، وأما أن نؤذيه بالكلام بالضوابط الشرعية: فهذا جائز (وليس واجباً أو مندوباً) وإنما جائز، وهناك نصوص توضح مثل هذا الأصل، ومنها قول الله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم..) فما هو الحكم يا شيخ حفظك الله ونفع بك؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من المسلَّمات التي لا يختلف عليها العقلاء: أن الخطأ لا يسلم منه أحد، لا الدعاة، ولا العلماء، ولا من دونهم , وهذه سنَّة الله في خلقه، لا تتبدل.
ثانياً:
إن النصيحة من أعظم أخلاق هذا الدين العظيم، كما جاء في حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) رواه مسلم (55) .
والأصل في النصح: الرفق، والستر:
أما الرفق: فهو أدعى لقبول الحق، والتراجع عن الخطأ، ففي الحديث عنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ) رواه مسلم (2594) .
ومن أمثلته: ما جاء في الحديث عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِي فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ، مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ) ، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِي لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ) ،
قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
رواه البخاري (5679) ومسلم (285) .
وأما الستر: فلحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم (2590) .
ومن أمثلة ذلك: ما جاء عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا) .
رواه أبو داود (4788) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
ومن كلام الشافعي - رحمه الله -:
تعمَّدني بنصحك في انفرادي ** وجنِّبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ** من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي ** فلا تجزع إذا لم تعط طاعه
ويستثنى من ذلك: المجاهر بالمعصية، أو بدعة , والمصر عليها، والداعي لها , وانظر جواب السؤال رقم: (9057) .
ثالثاً:
السخرية بأقوال أهل البدع، وأقوال المجاهرين بالمعصية، والذين يتكلمون في الدين وأهله: مباحة , بشرط أن لا يُسخر من خِلقتهم، وأن تكون في " طور الرزانة والحق، وألا يتخذها عادة وديدناً، وألا يغلب هزله على جدِّه "، وانظر جواب السؤال رقم: (9057) .
وقد يستدل لذلك بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ. وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) المطففين/ 29 – 34.
قال الألوسي- رحمه الله -:
فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا، فلا بد من المجانسة، والمشاكلة حتماً.
" روح المعاني " (30 / 77) .
ويستدل لذلك – أيضاً – بقوله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ) المجادلة/ 20.
قال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني - حاكياً اعتقاد السلف أهل الحديث -:
واتفقوا مع ذلك: على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم، ومهاجرتهم.
" عقيدة السلف وأصحاب الحديث " (ص 123) .
والذين يسخرون من الإسلام وشعائره وأهله: يقعون في الكفر المخرج من الملة، باتفاق أهل السنَّة، وتسقط حرمتهم، ويجوز معاملتهم بالمثل بالسخرية منهم، ومن بدعهم، وضلالهم، كما قال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) البقرة/ 194، وقال تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) النحل/ 126.
وأما الاستدلال بالآية الكريمة وهي قوله تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشورى/ 40: فالاستدلال بها صحيح.
قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
قوله تعالى: (وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مِثْلُها) قال مجاهد، والسدِّي: هو جواب القبيح، إذا قال له كلمة أجابه بمثْلها، من غير أن يعتديَ.
" زاد المسير " (5 / 325) .
وهذا كله في المجاهر، والمبتدع، والمتربص بالدِّين وأهله , وأما المشايخ، والدعاة، وطلبة العلم: فقد تقدم الجواب على الأصول والضوابط في الرد عليهم، وبيان أخطائهم , فانظر جواب السؤال رقم: (93211) .
ومع أننا ذكرنا ما يدل على جواز السخرية بأقوال أهل البدع، والمجاهرين بضلالهم، والكائدين للإسلام وأهله بأقلامهم: إلا أننا نرى عدم فعل ذلك أثناء الرد عليهم، والاكتفاء بنقض أقوالهم، وردها عليهم، دون اللجوء إلى أسلوب السخرية والاستهزاء؛ خشية من الوقوع في المحظور وعدم الالتزام بالضوابط الشرعية، وتنزيهاً لأقلام أهل السنَّة أن تكتب ما لا يعلم جوازه عامة أهل السنَّة، فلا يعود فعل ذلك إلا بالضرر عليهم.
فخلاصة الجواب أنه يجوز السخرية بأولئك المحادين لله ورسوله ودينه، والكمال في ترك ذلك، والاكتفاء بالردود العلمية الرصينة، خاصة إذا لم تكن مصلحة شرعية من تلك السخرية.
وانظر للفائدة جواب السؤال رقم (138629)
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/359)
هل تجوز المشاركة في معرض يتضمن المنكرات للدعوة إلى الله؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سنويا يقام معرض في مدينتنا في إحدى دول الغرب، وكل دولة إسلامية تمثل بلدها في ذلك المعرض، من خلال استعراض التراث الفني ورقصات شعبية وأشياء أخرى، كما وهناك أيضا خيمة مخصصة للدعوة في سبيل الله، حيث توزع كتب باللغة الإنجليزية تدعو إلى الإسلام، ومصاحف مترجمة وسيديهات الخ. المشكلة هي أن المعرض يقام في وسط المدينة، وفي مكان مكشوف، وبما أن المعرض يقام في الصيف، تكثر الفتن ويكثر الاختلاط بين النساء والرجال في كل مكان. والمسلم قد لا يأمن على نفسه ودينه؛ فهل تجوز المشاركة في هذا المعرض؟ وجزاكم الله عنا كل خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
معلوم أن الشريعة قائمة على تحقيق المصالح الشرعية وتكميلها، وتعطيل المفاسد بكافة أنواعها، أو تقليلها.
وإذا قدر أنه لم يمكن تحصيل المصالح المفترضة جميعها: فالواجب على المكلف أن يسعى في تحصيل أعظم المصالح قدرا، بميزان الشرع، حتى لو فاته ما هو أقل منها.
وإذا لم يستطع التخلص من المفاسد المفترضة جميعها: فإنه يسعى في دفع أعظم هذه المفاسد، وأخطرها فالأخطر؛ حتى لو ذلك وقوعه في مفاسد هي أهون منها، وأقل شأنا، بميزان الشرع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
" جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (20/ 48)
وحيئنذ: فالحكم في المشاركة في مثل هذه المعارض يتبع ما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.
فإن كان في هذه المشاركة مصلحة تعريف الناس بالإسلام، ودعوتهم إليه، وغلب على الظن منفعة ذلك: فإن المشاركة فيه مشروعة، من حيث العموم.
ثم يتوقف الكلام على كل شخص بحسب حاله؛ فإن كان الشخص المعين سريع التأثر بما في هذه الأماكن، وما حوله من الفتن، لم يجز له هو أن يشارك، وقام بهذه المهمة غيره ممن يرجى ثباته في مثل هذه المواقف، ونفعه فيها.
وإذا أمكن أن يقوم بهذه الوظيفة في الخيام الدعوية بعض المسلمين، ممن ابتلي بالإقامة في هذه البلاد: كفى غيره السفر إليها، والتعرض للفتنة، ولم يجز تعريض من هم في عافية لبلاء السفر إلى هذه البلاد، حتى ولو كان بغرض الدعوة إلى الله، ما دام غيره يتمكن من القيام بمهمته.
على أنه من المهم ألا ينفرد أحد المشاركين في هذه الأماكن بنفسه، ولا أن يخلو فيها وحده، بل ينبغي أن يكون المشاركون مجموعات متآزرة، يمكنها التعاون في أداء هذه المهمة، ولا يتمكن أحدهم من الخلوة بالنساء، ولا التعامل معهن على انفراد.
فإن غلبت الفتنة في أماكن المعارض، وغلب على الظن لحوق الفساد والشر بمن يشارك فيها: لم يجز لهم المشاركة في هذه المعارض، وليجتهدوا في تعويض ما فاتهم من الدعوة إلى الله بوسيلة أخرى أبعد عن الفتنة، وفي مكان آخر أكثر أمنا.
قال علماء اللجنة:
" إذا كانت المصلحة الشرعية في بقائه في الوسط الذي فشا فيه المنكر أرجح من المفسدة، ولم يخش على نفسه الفتنة: بقي بين من يرتكبون المنكر، مع إنكاره حسب درجته، وإلا هجرهم محافظة على دينه " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (12 / 335)
وسئل الشيخ الفوزان حفظه الله:
هناك مجتمعات قائمة على الاختلاط، فهل على المسلم أن ينأى بنفسه عن هذا المجتمع في حين أنه لا يملك التغيير؟ كذلك هل يتعامل مع كل وسائل اللهو أم يمنع نفسه أم ماذا يفعل؟
فأجاب:
" لا شك أن غالب المجتمعات البشرية في العالم الآن تموج بأنواع من الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف المسلم من هذه الفتن وتلك المستجدات يجب أن يكون موقف المسلم الصحيح. فإذا كان يترتب على اختلاطه بهذه المجتمعات أن يتمكن من أن يغير شيئًا منها، وأن يدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الصواب، فهذا أمر مطلوب وهو من مقاصد الدعوة.
أما إذا كان ليس باستطاعته التأثير عليهم، بل في اختلاطه هذا خطر عليه وعلى ذويه: فعليه أن يهاجر بأن ينتقل إلى بلاد أخرى يمكن فيها ذلك " انتهى.
"المنتقى من فتاوى الفوزان" (45 / 55-56) .
والنصيحة لمن شارك في مثل هذه المعارض، أو اضطر إلى البقاء في مثل هذه البلاد أن يتقي الله في نفسه ودينه، وألا يتوسع في الترخص بمعاملة النساء والفساق، والحديث معهم، وأن يكونوا صورة طيبة لحفاظ المسلم على دينه، في سمته وهديه وسلوكه وأخلاقه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(8/360)
بعض زملائه يحلفون بغير الله فهل يترك العمل معهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أعمل في إحدى قطاعات الشحن هنا في مالطة وبعض زملائي يحلفون بغير الله وأشعر بالحرج أنني لا أستطيع تصحيح هذا الخطأ، فهل ينبغي علي أن أبحث عن عمل أخر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا وجد من زملائك من يحلف بغير الله، فالواجب تقديم النصيحة لهم، وبيان أن الحلف لا يكون إلا بالله تعالى، وأن الحلف بغيره شرك، وإنكار هذا المنكر يكون بقدر الاستطاعة؛ لما روى مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) .
وهذا يقتضي الإنكار كلما وجد المنكر، وأمكن إنكاره، ولو تكرر ذلك، إلا أن يترتب على ذلك حصول مفسدة أكبر.
وينظر جواب السؤال رقم (96662) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/361)
هل يجوز تأجير قاعات الأعراس في الفنادق التي ينتشر فيها المنكر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للمسلم تأجير قاعات الأعراس التي هي في الفنادق، وهذه الفنادق تبيع الخمور وفيها منكرات ولكن في القاعة لا يوجد فيها بيع للخمور وهذه المنكرات، وهل يجوز أن أذهب إلى تلك الأعراس التي هي في تلك القاعات إذا دعيت إليها وجزاكم الله خيرا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حث الإسلام على مكارم الأخلاق ومعاليها، وحذر من سفسافها ومعايبها، وأمر بتجنب الفساد والشر بكل طريق، وأمر باتقاء الشبهات، وسد الطريق أمام كل منكر وفساد.
وارتياد هذه الأماكن التي تباع فيها الخمور، وتستباح فيها الحرمات، وتنتشر فيها المنكرات، مما يجب التحذير منه والنهي عنه؛ لما يؤدي إليه من الفساد والشر والفتنة.
ولا يجوز استئجارها لعرس أو غيره؛ لما فيها من إعانة أصحابها على الإثم والعدوان، بدفع تلك المبالغ الباهظة لهم لاستئجار المكان، والتي يستعينون بها على منكرهم وفسادهم.
عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ) .
رواه البخاري (3381) ومسلم (2980) .
َسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ:
عَنْ رَجُلٍ مَقْبُولِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْحُكَّامِ يَخْرُجُ لِلْفُرْجَةِ فِي الزَّهْرِ فِي مَوَاسِمِ الْفُرَج حَيْثُ يَكُونُ مَجْمَعُ النَّاسِ وَيَرَى الْمُنْكَرَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ وَتَخْرُجُ امْرَأَتُهُ أَيْضًا مَعَهُ. هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ؟
فَأَجَابَ:
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْضُرَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ؛ إلَّا لَمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ يَكُونُ مُكْرَهًا. فَأَمَّا حُضُورُهُ لِمُجَرَّدِ الْفُرْجَةِ وَإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ تُشَاهِدُ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ".
"مجموع الفتاوى" (28/239) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" نحن نذهب إلى بعض المطاعم الإسلامية في بلاد الكفر أثناء الرحلات الخارجية، ثم نجد أنهم يقومون بتقديم الخمور، فما حكم الأكل في هذه المطاعم؟
فأجاب الشيخ:
" لا تسكنوا في هذه الفنادق إلا للحاجة , مادام يعلن فيها شرب الخمر , ولا تأكلوا في هذه المطاعم إلا لحاجة " انتهى.
"مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (13 / 825)
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/362)
هل تأثم إذا فتحت جهاز التلفاز لغيرها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل أأثم إذا ناولت جهاز التحكم أحدا أو فتحت له جهاز التلفاز؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
التلفاز جهاز يستعمل في الخير والشر، فقد تشاهد عليه القنوات الإسلامية النافعة أو الأخبار المباحة، وقد تشاهد عليه الأفلام والمسلسلات التي تشتمل على المنكرات والآثام كالتعري والاختلاط والجريمة والفساد، فما كان من الخير أو المباح جاز الإعانة عليه بمناولة جهاز التحكم أو فتح التلفاز، وما كان من الباطل والمنكر لم يجز الإعانة عليه؛ لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة/2.
بل يجب إنكاره حسب القدرة والاستطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِن لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) رواه مسلم (49) .
وينظر جواب السؤال رقم (3633) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/363)
تريد دعوة رافضي للإسلام وتسأل عن " الوطنية " وعلاجها عنده
[السُّؤَالُ]
ـ[أعرف رجلاً إيرانيّاً شيعيّاً , وهو مستعد لأن يكون سنيّاً , وهو رجل وطني للغاية , وأنا أتساءل دائماً: هل هو مهتم بالإخوة الإسلامية كما هو مهتم بإخوانه المنتمين لبلده؟ وأنا أعتقد أن المسلم يجب أن تكون أولويته في الحب لإخوانه المسلمين أكثر من أي حب آخر , هذا فضلاً عن محبة الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم , وأريد أن أقول له ذلك الأمر إلا أنني أخشى أن أكون من الذين يقومون بعمل تفرقة بين الناس. أرجو بيان هذا الأمر , فهل اعتقادي صحيح أم لا؟ . إذا كان صحيحاً: أرجو من فضيلتكم بيان كيفية إخبار هذا الرجل بهذا الأمر , كيف أخبره أن محبة الإسلام والمسلمين أولى من محبة أبناء الوطن خصوصاً الشيعة؟ . وهل يجوز دفع الزكاة للشيعي - لأنهم ليسوا كلهم كفرة -؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قبل الجواب لا بدَّ من تحذير وتنبيه الأخت السائلة من إثم وخطر علاقة المرأة بالرجال الأجانب، فالإسلام يحرِّم تلك العلاقات بين الطرفين إذا لم يربط بينهما رابط شرعي، وللشيطان طرقه في الإيقاع بعباد الله حتى من طريق الدعوة إلى الله؛ وذلك بتزيين مثل تلك العلاقة أنها نافعة للهداية إما للإسلام، أو للطاعة.
كما أن الرجل – ولدينا كثير من الحالات – يوهم المرأة أنه قريب من دينها، ومنهجها، وأنه لا تبعده عن ذلك إلا خطوات؛ من أجل أن يجد مجالاً للحديث معها، والإيقاع بها، وقد يُعلن في الظاهر أنه على دينها ومنهجها، ثم سرعان ما يتركها بعد أن يحقق مأربه.
وإنما نذكر هذا نصيحة وتحذيراً للمسلمات أن ينتبهن لأنفسهن، وأن يحذرن من تغليب العاطفة على الشرع، والعقل.
وفي حالتنا هذه: يمكن أن توكل مهمة دعوة ذلك الرافضي لرجل من أهل السنة، من أهلك، أو ممن يوثق به من أهل العلم والحكمة ممن هو قريب منكِ، ليتولى هو أمر دعوته والكلام معه، وإذا هداه الله ووفقه فيُكتب ذلك في ميزانك إن شاء الله.
فإن لم تجدي عندك من يقوم بهذه المهمة عنك، فدعيها له، وبإمكانه هو أن يستغل الخيط الذي ألقيتِ إليه طرفه، ويبحث عما ينفعه عند أهل العلم والدين، أو يراسل بنفسه المواقع المعنية بذلك لأهل السنة، إن كان حريصا على الهداية، وأما أنت فليس لك أن تغرري بنفسك ودينك، من أجل مصلحة موهومة مظنونة، قل أن تحصل في مثل ذلك الحال، وإن حصلت فحولها أضعافها من المفاسد لك ولغيرك، وإن سلمت حالة، هلكت عشرات الحالات، في مثل تلك العلاقات.
ثانياً:
قد أحسنتِ في قولك إن محبة الإسلام والمسلمين مقدَّمة على حب الوطن، وأبناء الوطن، فالوطنية مصطلح خبيث في أصله؛ إنما جاءنا من دول الكفر من أجل التفرقة بين أبناء الإسلام، فرابطة الإسلام أوسع وأوثق، فجاء المستعمر الخبيث فقسَّم الدول الإسلامية إلى دويلات، ثم ربط أبناء كل دولة بعضهم ببعض؛ ليقطع أواصر العلاقة الكبيرة المتينة بين أبناء الإسلام، فصارت الرابطة الوطنية، والتي تجمع أبناء البلد الواحد بغض النظر عن دينه ومنهجه وخلُقه، فنجح في ذلك – وللأسف – نجاحاً كبيراً، فصار الحب لأبناء الوطن مقدَّماً على الحب لأبناء الإسلام، وصار القتال في سبيل الوطن، لا في سبيل الله، ولا من أجل الإسلام، وها نحن نعيش أثر ذلك في أيامنا هذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومما كذبه الكاذبون على نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ما نسبوه إليه من قوله (حُبُّ الوَطَن من الإيمان) ! وهو حديث مكذوب لا أصل له. [ينظر: السلسلة الضعيفة، للشيخ الألباني، رحمه الله، رقم (36) ] .
وما قلناه لا يعني منع حب الإنسان لبلده، ووطنه، بل هو شيء فطري لا انفكاك للإنسان منه، وإنما أردنا التحذير من أن تكون رابطة " الوطنية " هي المقدَّمة على رابطة " الإسلام " في الولاء، والمحبة، والنصرة، وأردنا التنبيه على أن المسلم الأعجمي الذي يعيش في أقصى الأرض أقرب وأحب إلينا من أبناء وطننا ممن ليس مسلماً، وإن كان من وطننا وبلدنا، بل وإن كان ابن أمنا وأبينا.
وأما الحب للأرض التي يولد فيها المسلم، أو يعيش: فهذا لا يُتنازع في أنه مشروع، لكن من قاتل دفاعاً عن وطنه فينبغي أن يكون ذلك دفاعاً عن الإسلام الذي في وطنه، لا عن الأرض مجرداً.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
" ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن: لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر؛ لأنه أيضاً يقاتل من أجل وطنه، والذي يُقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط: ليس بشهيد.
ولكن الواجب علينا - ونحن مسلمون، وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك -: الواجب أن نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا.
انتبه للفرق! نقاتِل من أجل الإسلام في بلادنا، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا، سواء كان في أقصى الشرق أو الغرب، فيجب أن تصحَّح هذه النقطة، فيقال: نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا، أو من أجل وطننا لأنه إسلامي، ندافع عن الإسلام الذي فيه.
أما مجرد الوطنية: فإنها نية باطلة، لا تفيد الإسلام شيئاً، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم، والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن.
وما يُذكر من أن (حب الوطن من الإيمان) ، وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكذب.
حب الوطن إن كان إسلاميّاً: فهذا تحبه لأنه إسلامي، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك، أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين، كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه.
على كل حال: يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، أو من أجل وطننا لأنه إسلامي، لا لمجرد الوطنية.
أما قتال الدفاع: أي لو أحداً صال عليك في بيتك يريد أخذ مالك، أو أن ينتهك عرض أهلك مثلاً: فإنك تقاتله كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
فقد سئل عن الرجل يأتيه الإنسان ويقول له: أعطني مالك؟ قال: (لا تعطه) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: (قاتله) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (إن قتلك فأنت شهيد) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: (إن قتلتَه فهو في النار) ...
والحاصل: أنه لابد من تصحيح النية، ونرجو منكم أن تنبهوا على هذه المسألة؛ لأننا نرى في الجرائد، والصحف: " الوطن "، " الوطن "، " الوطن "، وليس فيها ذكر للإسلام، وهذا نقص عظيم، يجب أن توجَّه الأمة إلى النهج، والمسلك الصحيح، ونسأل الله لنا، ولكم التوفيق لما يحب ويرضى " انتهى مختصراً.
" شرح رياض الصالحين " (1 / 65 – 69) .
ثالثاً:
وأما بخصوص إيصال هذه الرسالة لذلك الرافضي: فنرى أن الرفض دين فاسد احتوى على مظاهر كثيرة من الشرك، والزندقة، والجاهلية، والبدع والخرافات، وليست هذه المسألة بالتي ستحول بين هداية ذلك الرافضي وبين الإسلام، فإن المطلوب منه أن يتخلى عن التعلق بالقبور، وأهلها، ومطلوب منه أن يُفرد الله تعالى بالتوحيد، وأن يعتقد بعدم تحريف القرآن، وأن يثبت إسلام الصحابة جميعهم، ويشهد لهم بالخير، وخاصة من ورد في فضله نصوص صحيحة، مطلوب منه عشرات الأصول، والسنن والعقائد، أن يعتقدها، ويعمل بها، على وفق ما جاء به كتاب الله، وهدت إليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن نبحث معه في التخلي عن الوطنية التي تذكرينها.
فإن تاب من بدع الرفض، وضلالاته، أوقفناه على حقيقة الولاء والبراء بين المسلمين، وأن المسلم لا يقدِّم محبة أحدٍ من أهله حتى لو كان أقرب الناس منه، ولا وطنه وبلده، ولا مالَه، على محبة الله ورسوله ودينه، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة/ 24، وبينا له: أن الإيمان الذي يقبله الله ليس في قلب صاحبه مودة لكافرٍ، ولو كان أقرب الناس منه، كما قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة/ 22.
فهذا هو الواجب في دعوة هذا الرجل وأمثاله، على ألا يكون ذلك عن طريقك، كما نبهناك عليه في أول الجواب.
رابعاً:
أما بخصوص دفع الزكاة للشيعة – الرافضة -: فقد سبق تفصيل القول فيها في جواب السؤال رقم (1148) ، وفيه بيان عدم جواز ذلك.
وهذا من حيث الأصل، أما إن كان السؤال عن ذلك الشخص القريب من الإسلام: فيجوز إعطاء الزكاة لغير المسلم طمعاً في إسلامه، ويصدق عليه أنه من " المؤلَّفة قلوبهم "، وقد ذكرنا جواز ذلك في جواب السؤال رقم (39655) فلينظر.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/364)
لم يصح حديث أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: كنت تراني على المنكر ولا تنهاني
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت درسا على قناة فضائية إسلامية سرد فيه الشيخ حديثا لم أتذكره، فيما معناه أنه يوم القيامة يأتي كافر يشكو عبدا كنا نظنه مؤمنا وملتزما كان يمر علينا، ولكن لم يدعنا إلى الإسلام، ولم يعظنا، فيلحق الله تبارك وتعالى هذا العبد المؤمن بهؤلاء الكفار في النار، نعوذ بالله منها. فهل صح حديث عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى؟ أرجو أن تدلوني عليه بأسانيده وشروحه]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله من الواجبات المحتمات على الأمة الإسلامية، وقد جاءت الآيات والأحاديث الكثيرة لتدل على هذا المعنى، وتقرر هذا الحكم الشرعي، سبق ذكر أطراف منها في أجوبة عديدة في موقعنا، في جواب السؤال رقم: (11403) ، (38701) ، (96662)
ورغم كثرة الآيات والأحاديث الواردة في فضيلة هذه الشعيرة العظيمة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " إلا أننا لم نجد فيها ما يصح بخصوص تعلق الناس يوم القيامة بمن ترك الدعوة والنصيحة، ومطالبتهم بأخذ حقهم منه يوم القيامة عقوبة على تقصيره في ذلك، وكل ما وقفنا عليه بهذا الخصوص هو ما ذكره الحافظ أبو السعادات ابن الأثير (606هـ) في كتابه " جامع الأصول من أحاديث الرسول " ولم يعزه لأحد، وذكره المنذري (643هـ) في كتابه " الترغيب والترهيب " (3/164) (حديث رقم/3506) وعزاه لرزين فقال:
" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه، فيقول له: ما لك إلي، وما بيني وبينك معرفة؟! فيقول: كنت تراني على الخطإ وعلى المنكر ولا تنهاني) ذكره " رزين " ولم أره " انتهى نقل المنذري.
ورزين هذا قال الذهبي في ترجمته:
" رزين بن معاوية بن عمار، الإمام المحدث الشهير، أبو الحسن العبدري الأندلسي
السرقسطي، صاحب كتاب: " تجريد الصحاح "، جاور بمكة دهرا، حدث عنه: قاضي الحرم أبو المظفر محمد بن علي الطبري، والزاهد أحمد بن محمد بن قدامة والد الشيخ أبي عمر، والحافظ أبو موسى المديني، والحافظ ابن عساكر وقال: كان إمام المالكيين بالحرم.
توفي بمكة في المحرم سنة خمس وثلاثين وخمس مئة وقد شاخ " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (20/204-205)
وقد بين العلماء أن كتاب رزين المسمى " تجريد الصحاح " مليء بالأحاديث التي لا يعرف مصدرها، ولم يوقف على أصلها، ولا يُدرَى من أين جاء بها.
قال ابن الصلاح في معرض تقرير بدعية صلاة الرغائب:
" ولا تستفاد له صحة – يعني لحديث صلاة الرغائب - مِن ذكر رزين بن معاوية إياه في كتابه في " تجريد الصحاح "، ولا من ذكر صاحب " الإحياء " – يعني الغزالي - له فيه واعتماده عليه، لكثرة ما فيهما من الحديث الضعيف، وإيراد رزين له في مثل كتابه من العجب " انتهى.
نقلا عن " الباعث على إنكار البدع والحوادث " لأبي شامة المقدسي (ص/45)
وقال الذهبي رحمه الله:
" أدخل كتابه زيادات واهية لو تنزه عنها لأجاد " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (20/205)
وقال أيضا رحمه الله:
" وله في الكتاب زيادات واهية " انتهى.
" تاريخ الإسلام " (36/376)
ويقول ابن تمية رحمه الله:
" ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح " انتهى.
" منهاج السنة النبوية " (7/157) .
ويقول الشوكاني رحمه الله:
" أدخل في كتابه الذي جمع فيه دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف، ولا يُدرَى من أين جاء بها " انتهى.
" الفوائد المجموعة " (ص/49)
وقال العلامة المعلمي في تعليقه عليه:
" زاد أحاديث ليست فيها – يعني في الصحيحين والموطأ وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود - ولا في واحد منها، فإذا كان الواقع هكذا، ومع ذلك لم ينبه في خطبة كتابه أو خاتمته على هذه الزيادات فقد أساء، ومع ذلك فالخطب سهل، فإن أحاديث غير الصحيحين من تلك الكتب ليست كلها صحاحا، فصنيع رزين - وإن أوهم في تلك الزيادات أنها في بعض تلك الكتب - فلم يوهم أنه صحيح ولا حسن. وأحسب أن تلك الأحاديث التي زادها كانت وقعت له بأسانيده، فإنها أحاديث معروفة في الجملة، ومنها حديث صلاة الرغائب ولم يكن رزين من أهل النقد فلم يعرف حال الحديث " انتهى.
وقال اللكنوي رحمه الله:
" قال الشيخ الدهلوي في رسالته: وقد ذكر صاحب جامع الأصول في كتابه حديثا من كتاب رزين، مع أن موضوع ذلك الكتاب جمع أحاديث الكتب الستة المسماة بالصحاح الست، وإذا لم يجد في هذه الكتب حديثا في ذلك أورده من كتاب آخر استيفاء وتكميلا " انتهى.
" الأسرار المرفوعة " (ص/74)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
" فاعلم أن كتاب رزين هذا جمع فيه بين الأصول الستة: " الصحيحين " و" موطأ مالك " و"سنن أبي داود "، والنسائي، والترمذي، على نمط كتاب ابن الأثير المسمى " جامع الأصول من أحاديث الرسول "، إلا أن في كتاب " التجريد " أحاديث كثيرة لا أصل لها في شيء من هذه الأصول، كما يعلم مما ينقله العلماء عنه مثل المنذري في " الترغيب والترهيب " " انتهى.
" السلسلة الضعيفة " (رقم/207)
فالحاصل أن هذا الحديث لا يعرف له أصل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/365)
هجر المغتاب
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤل: لي صديق كثيرا ما يتحدث في أعراض الناس، وقد نصحته ولكن دون جدوى، ويبدو أنها أصبحت عادة عنده، وأحيانا يكون كلامه في الناس عن حسن نية، فهل يجوز هجره؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" الكلام في أعراض المسلمين بما يكرهون منكر عظيم، ومن الغيبة المحرمة، بل من كبائر الذنوب؛ لقول الله سبحانه: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات/12.
ولما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما الغيبة؟ فقالوا الله ورسوله أعلم، فقال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله، إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم (أنه لما عرج به مر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم) أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه، وقال العلامة ابن مفلح: إسناده صحيح، قال: وخرج أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: (إن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق) .
والواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه؛ لقول النبي: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم في صحيحه.
فإن لم يمتثل فاترك مجالسته؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه.
أصلح الله حال المسلمين ووفقهم لما فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة " انتهى.
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" للشيخ ابن باز (5/401) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/366)
هل إذا سمح لمن يُحضر الخمر معه ويشربه في مطعمه يكون آثماً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[اشتريتُ مطعماً من شخص كافر، وانتقل تصريح المطعم باسمي تبعاً لذلك بما في ذلك تصريح شرب الخمر، ولكني لا أقدم إلا طعاماً حلالاً في مطعمي، ولا أبيع الخمر، إلا أن بعض الزبائن يأتي ليأكل في المطعم ويحضر قوارير الخمر معه، فهل أسمح لهم عمل ذلك أم لا؟ مع العلم أنهم لا يسيئون إلى بقية الزبائن، ولا يسيئون التصرف كذلك، وعندما ينتهي هذا التصريح سوف لن أجدده.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أ. صاحب المطعم مسئول شرعاً عما يحدث في مطعمه من معاصٍ يمكنه القضاء عليها، أو منع حصولها ابتداء، وتحريم الخمر ثابت بالكتاب والسنَّة والإجماع، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة، وليس شاربها فقط.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ) .
رواه الترمذي (1259) وابن ماجه (3381) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
فهذا يدل على أن الإثم يشمل جميع من أعان على وجودها، ليتم شربها في نهاية المطاف.
ب. والجالس في مكانٍ يُكفر به بالله، أو يُفعل فيه منكر أو معصية: فهو مشارك لهم في الإثم إن استطاع تغيير المنكر ولم يفعل، أو استطاع مفارقة المجلس ولم يفعل، قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) النساء/140. قال ابن كثير رحمه الله:
"أي: إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك: فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) ، أي: في المأثم، كما جاء في الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر) " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (2 / 435) .
ج. وقد أمر الله تعالى المسلم بإنكار المنكر إذا رآه، أو علم وجوده، فكيف يلتقي هذا مع السماح لأولئك الزبائن بشرب الخمر في مطعمك؟! .
فعن أبي سَعِيد الخُدْري رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) .
رواه مسلم (49) .
د. ومن صفات عباد الرحمن ما ذكره الله تعالى عنهم في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) الفرقان/72.
ومن أقوال بعض العلماء – كالإمام الزهري - في معنى الزور: شرب الخمر.
انظر " تفسير ابن كثير " (6 / 130) .
وعليه:
فينبغي لك القطع في الأمر بعدم السماح لأحدٍ أن يشرب الخمر في مطعمك، وإلا تحملت آثام أولئك الشاربين، فلا تتردد في الأمر، وستجد أثر هذا على دينك ورزقك إن احتسبت هذا الأمر لله تعالى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/367)
لماذا لم ينكر موسى عليه السلام على القوم العاكفين على الأصنام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[طرح عليَّ زملائي في العمل هذا السؤال: لماذا لم يدع موسى عليه السلام القوم العاكفين عن الأصنام عندما مر مع قومه معهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأصل الذي دلت عليه الأدلة هو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن يسقط الوجوب مع العجز، أو لخوف ترتب مفسدة أعظم، ثم إنكار المنكر على مراتب: باليد ثم باللسان، ثم بالقلب.
هذا هو الأصل العام، ولا يشكل عليه ما جاء في قصة موسى عليه السلام التي ذكرت، فإن القرآن الكريم لم يقص علينا كل سيرة موسى عليه السلام، بالتفصيل، وإنما قص علينا بعضها مما فيه منفعة وعبرة لنا، وفي القصة التي ذكرتها، لم يذكر القرآن الكريم أن موسى عليه السلام أنكر على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، والقرآن أيضاً لم ينف حصول ذلك، وعلى هذا، فلا يجوز لأحد أن يثبت ذلك ولا أن ينفيه.
لأننا لا ندري ما حدث، والقرآن لم يذكر لنا ذلك، فيحتمل أن موسى عليه السلام، أنكر عليهم أو أرسل إليهم من أنكر عليهم، باللسان أو باليد، ولم يذكره القرآن؛ لأن السياق كان في بيان حال بني إسرائيل، وجهلهم وغفلتهم، ومقابلتهم النعمة بالإساءة، فلم يمض وقت على معاينتهم لهلاك فرعون، ونجاتهم من الغرق، وهذا من أعظم النعم عليهم، حتى طلبوا الشرك من موسى عليه السلام وقالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
ويحتمل أنه عليه السلام لم ينكر عليهم، لسبب رآه في ذلك.
والحاصل: أننا لا يمكننا إثبات ذلك أو نفيه، وعندنا من شرعنا (الكتاب والسنة) ما يدل دلالة قطعية على أن تغيير المنكر وإنكاره واجب باليد لمن استطاع ذلك، ثم باللسان لمن لم يستطع تغييره باليد، ثم بالقلب لمن لم يستطع إنكاره بالقلب.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/368)
حكم نشر برنامج يستقبل مئات القنوات
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مشرف في أحد المنتديات، وهو يحتوي على موضوعات متنوعة دينية وثقافية ولغوية وبرمجية وغيرها، وقد قام أحد الأعضاء بتنزيل برنامج في المنتدى مهمته استقبال القنوات الفضائية عن طريق الشبكة، وهو برنامج يستقبل أكثر من 1500 قناة متنوعة من مختلف أنحاء العالم، وقد قام بعض الأعضاء بالاعتراض علينا والمطالبة بحذف البرنامج بحجة أنه يسهل الوصول للفساد وأن معظم الأعضاء قد يستعملونه فيما لا يجوز، في حين دافع عنه آخرون بأن الشخص يمكن أن يستخدمه في الحلال، ومن استخدمه في غير ذلك، فذنبه عليه، ولسنا مسؤولين عنه، فنرجو منكم إجابة شافية في هذا الموضوع.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان الغالب هو استعمال هذا البرنامج في مشاهدة المحرّمات عبر القنوات، فإنه لا يجوز نشره ولا الدلالة عليه؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم والمعصية. قال الله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة/2.
والقاعدة في هذا أن كل ما يستعمل في الخير والشر، والمباح والمعصية، يجوز بيعه وهبته لمن عُلم أو غلب على الظن أنه يستعمله في المباح، ويحرم بيعه أو هبته لمن عُلم أو غلب على الظن أنه يستعمله في الحرام.
وإن كان الغالب هو استعماله في الحرام، لم يجز بيعه ولا هبته لمن جهل حاله، بل لا يعطى إلا للصنف الأول الذي يغلب على الظن استعماله له في المباح.
وهذا ما سبق أن بيناه في حكم بيع أجهزة التلفاز والفيديو والبلايستيشن، وبيع الملابس النسائية التي تتخذ للتبرج، وينظر جواب السؤال رقم (39744) ورقم (75007) وفيهما نقول عن أهل العلم في هذه المسألة.
ومن ذلك ما جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (13/109) : " كل ما يستعمل على وجه محرم، أو يغلب على الظن ذلك، فإنه يحرم تصنيعه واستيراده وبيعه وترويجه بين المسلمين " انتهى.
والواقع المشاهد أن هذه القنوات يغلب استخدامها في الحرام، رؤية وسماعا، ولهذا لا يجوز إعطاء أجهزتها أو برامجها إلا لمن يغلب على الظن أنه يستعملها في المباح.
وقد أحسن من نصحكم بإزالة هذا البرنامج، والواجب عليكم إزالته، والإثم في هذا الباب يلحق المشاهد، كما يلحق من دلّه أو أعانه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/369)
حكم الدخول إلى مواقع سيئة من أجل التواصل مع الأصدقاء في أشياء مفيدة
[السُّؤَالُ]
ـ[العديد من الأصدقاء يستخدمون موقع إلكتروني يسمى " ... " على الإنترنت، خاص بالعلاقات، والتواصل مع الأصدقاء، ومع العديد من مستخدمي الموقع، في هذا الموقع قام العديد من المستخدمين ببناء مجموعات خاصة، يقوم المستخدمون الآخرون بالدخول إليها، والتواصل مع أفرادها، بالإضافة إلى العديد من الخدمات الإلكترونية التي يمكن استخدامها، مثل ألعاب المقامرة، والقُبَل، والعناقات الإلكترونية! بعض المجموعات المضافة تشجع الفساد للرجل، والمرأة، مثل مجموعة للرجال الشواذ في بلد معين، ومجموعة لرقص التعري في مكان آخر، وللنساء اليائسات اللواتي يبحثن عن صديق، بالإضافة إلى هذه المجموعات قام العديد من المسلمين بإضافة مجموعات تتعلق بالإسلام والمسلمين، منها ما يتعلق في الفقه، وأصول الدين، والأسرة. السؤال: ما هو الحكم الشرعي لدخول هذا الموقع، أو أي موقع آخر شبيه، لغرض استخدام المجموعات الإسلامية، ومراسلة الأصدقاء، علماً بأن الداخل للموقع لا بد وأن يتعرض للعديد من المحرمات، والشبهات.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الموقع المشار إليه في السؤال، ومثله ما يشبهه من المواقع التي تنشر الفساد، وتذيع الشر، وتشيع الفحشاء: لا يحل لأحدٍ من المسلمين الدخول عليها، ولو زعم أنه يريد دعوة أهلها، أو الإنكار عليهم؛ لأن المسلم أُمر بالابتعاد عن مواقع الفتنة والفساد؛ ولأن بريقها وبهرجتها وفتنتها قد لا تواجه قلباً قويّاً، أو نفساً عفيفة، فيقع الداخل فيها في فتنة يصعب خروجه منها، ولا تزال تردنا قضايا لإخوة ملتزمين فُتنوا بالمراسلات المحرمة، ومشاهدة ما لا يحل لهم مشاهدته من الصور والأفلام المحرَّمة، فالفتنة لا يكاد يسلم منها أحد، ومن أراد السلامة لدينه: فليبتعد عن تلك المواقع، وليعتزل دخولها، وفضاء الإنترنت يتسع لدعوته ويزيد.
وهناك العديد من المواقع والمنتديات الإسلامية يمكنك من خلالها التواصل مع هؤلاء الأصدقاء ومراسلتهم في الأشياء المفيدة.
وما دمت تذكر أن الداخل إلى هذه المواقع السيئة لابد وأن يتعرض للعديد من المحرمات والفتن، فلا يجوز الدخول عليه.
عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ) . رواه أبو داود (4319) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
"وكثير من الناس يأتون إلى مواضع الفتن وهم يرون أنهم لن يفتتنوا؛ ولكن لا يزال بهم الأمر حتى يقعوا في فتنة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه) ؛ المهم أن الإنسان لا يعرض نفسه للفتن؛ فكم من إنسان وقع في مواقع الفتن وهو يرى نفسه أنه سيتخلص، ثم لا يتخلص" انتهى.
" تفسير سورة البقرة " (3 / 59، 60) .
وانظر جواب السؤال رقم (39923) ففيه تفصيل مهم لهذه المسألة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/370)
حكم الستر على صاحب المعصية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من يكتشف شخصاً على معصية ويستر عليه ويكتفي بنصحه رجاء صلاحه وهدايته؟ وهل يأثم لأنه لم يدل عليه الجهات المختصة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"يجوز الستر عليه إذا لم يكن من أهل التهاون بالمعاصي، ولم يعرف عنه كثرة اقتراف الذنوب وارتكاب المحرمات، ففي هذه الحالة ينصحه ويخوفه ويحذره من العودة إليها.
أما إن كان صاحب عادة وفسوق فلا تبرأ ذمته حتى يرفع أمره إلى من يعاقبه بما ينزجر به.
أما إن كانت المعصية في حق لآدمي كأن يراه يسرق من بيت أو دكان أو رآه يزني بامرأة فلان فلا يجوز الستر عليه، لما فيه من إهدار حق الآدمي، وإفساد فراشه، وخيانة المسلم. وكذا لو علم أنه القاتل أو الجارح لمسلم فلا يستر ويضيع حق مسلم، بل يشهد عليه عند الجهات بأخذ الحقوق، والله أعلم" انتهى.
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله.
"فتاوى علماء البلد الحرام" (ص 344) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/371)
كيفية إنكار المنكر بالقلب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما كيفية النهي عن المنكر بالقلب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"هو أن يكره المنكر، ولا يجلس مع أهله؛ لأن جلوسه معهم بغير إنكار يشبه فعل بني إسرائيل، الذين لعنهم الله عليه في قوله سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة/78، 79.
فضيلة الشيخ عبد الله بن باز.
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (5/74-75) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/372)
هل يجوز إخراج المبتدعة من المساجد
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك أناس في مسجدنا يقومون بالمسجد من أذان وصلاة وخطبة، ولكن يقومون بكثير من البدع، وقد نصحناهم أكثر من مرة ولكنهم لم يتركوا ذلك. هل يجوز إخراجهم من المسجد بالقوة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز أن يُطرد المسلم عن بيوت اللَّه، ولو كان مبتدعاً، فهي بيوت مبنية لإقامة ذكر الله وعبادته، والمبتدع مشكور على طاعته، مأجور على كل خير يعمله لوجه الله تعالى، مع ترتب الإثم على بدعته، فلا يجوز لأحد أن يحجزه عن عبادة الله وطاعته، بل ينبغي إعانته عليها، وحثه على حضور جماعة المسلمين، لعله يسمع السنَّة من أهل العلم، فيرتدع عن الإحداث في الدين.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن بدخول المسجد من قِبَل بعض المشركين، كما في قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه إلى سارية من سواري المسجد، وذلك قبل أن يسلم، حتى أَسلَمَ في اليوم الثالث، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ) رواه البخاري (462) ومسلم (1764) .
فانظر كيف كان بقاؤه في المسجد سبباً في هدايته وإسلامه رضي الله عنه؛ فكيف بالمسلمين الذي يقومون بعمارة المسجد، بالأذان والخطابة، وغير ذلك، كما ورد في السؤال؟!
ولمَّا تخلَّف كعب بن مالك عن شهود تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهَجرِهِ ومنع الناس من الحديث معه، حتى أمره بترك زوجته، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من حضور جماعة المسلمين، وشهود صلاتهم.
يقول رضي الله عنه: (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا، ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي) رواه البخاري (2757) ومسلم (2769) .
ولما ظهرت الخوارج ببدعتهم، وفرقوا جماعة المسلمين بفكرتهم، وأحدثوا ما أحدثوا لم يأمر أحدٌ من الصحابة بإخراجهم من المساجد وطردهم عنها، لأنها بيوتٌ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا ينبغي لأحد أن يمنع ما أذن الله به.
قال علي بن أبي طالب في الخوارج: (لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيه اسمه، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا) .
رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (7 / 562) بإسناد حسن.
والذي يشرع في حقكم أن تحسنوا إليهم في بيت الله، وأن تجتهدوا في بيان السنة لهم بكل سبيل، وإذا أمكنكم منعهم من إقامة بدعتهم، بعد سؤال أهل العلم، والتحقق من أن هذا العمل المعين هو بدعة؛ فلكم أن تمنعوهم ـ فقط ـ عن هذه البدعة، لا أن تمنعوهم من المسجد بالكلية، شريطة ألا يترتب على منعهم هذا فتنة بين المسلمين، أو مفسدة هي أكبر من هذه البدعة التي تريدون منعها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما ; بل إما أن يفعلوهما جميعا ; أو يتركوها جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر ; [بل] ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به ; وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ; بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه ; وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه، أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر ; وتارة يصلح النهي ; وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ; وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا.
وفي الفاعل الواحد، والطائفة الواحدة، يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها ; بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ; فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية ".
انتهى، من " مجموع الفتاوى" (28/129-130) ، وأيضا: "الاستقامة" (2/217-218) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
عندنا في العمل شيعة، هل يجوز أن نرد عليهم السلام، ونراهم في المسجد كذلك يصلون على أوراق، فهل يجوز طردهم من المسجد؟ .
فأجاب:
أقول: عاملهم بما يعاملونك به، إذا سلموا فرد عليهم السلام، ولا يحسن أن يطردوا من المسجد، بل ربما يكون بعضهم من العامة الذين لا يعرفون شيئاً وقد ضللهم علماؤهم؛ فيمكنكم أنتم باللباقة والدعوة بالتي هي أحسن أن تؤثروا عليهم، واستعمال العنف بين الناس أمر غير وارد، والله سبحانه وتعالى يحب الرفق في الأمر كله، فأنتم الآن لو تصادمتم معهم وقلتم: لا تسجدوا على ورق، لا تسجدوا على حجر وما أشبه ذلك، لو كان الأمر ينتهي إلى هذا ثم ينتهون لكان الأمر طيِّباً، لكن سوف يزيدون، وسوف تكون العداوة والبغضاء بينكم أشد، فالذي أرى أن الواجب أولاً نصحهم، لاسيما العوام، والنصح ليس معناه أن تهاجم مذهبهم وملتهم الفاسدة الباطلة، لا، النصح أن تبين لهم الحق وتبين لهم السنة، ثم بعد ذلك إذا تبينت لهم السنة، فأنا أجزم جزماً، إن كان عندهم إيمان حقيقة، أن يرجعوا إليها وأن يدعوا باطلهم، فإن حصل هذا فهو الأكمل والأحسن، وإن لم يحصل فأنتم عاملوهم بما يعاملونكم به، وأما طردهم من المسجد فليس إليكم.
" لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم 80، سؤال رقم 4) .
وأخيراً:
ننبهكم إلى أنه ليس كل من فعل بدعة يكون مبتدعاً، كما أن بعض ما ترونه بدعة لا يكون كذلك على التحقيق، ولا يجوز جعل هذه المسائل مرجعها لصغار طلبة العلم، أو المتحمسين للسنَّة، فهؤلاء أنفسهم يحتاجون لتوجيه وعناية ونصح، فمثلاً: قد يرون أن قبض اليد على الصدر بعد الركوع بدعة! فهل يحكمون على من فعلها بأنه مبتدع؟! وهل يريدون طرد مثل هؤلاء؟ وهل يعرفون من يفعل ذلك – أي: القبض بعد الركوع – من أئمتنا وعلمائنا؟! .
فنحن نشكر لهؤلاء الإخوة غيرتهم على السنَّة، لكننا لا نريد أن يدفعهم حماسهم هذا للحكم على الناس، ولا لطردهم من بيوت الله تعالى، وكم عانينا من تصنيف الناس، فهل سينتقل التصنيف إلى بيوت الله؟! نرجو أن لا يكون ذلك، ونرجو منهم التعقل والسؤال – كما فعلوا هنا -، وها هي فتاوى العلماء واضحة بيِّنة حتى في المبتدعة الغلاظ كالشيعة، مع عدم إغفال جانب دعوتهم وحثهم على السنَّة بالتي هي أحسن.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/373)
حكم استئجار شقة لسماع الأغاني ولعب الورق والتدخين، وحكم مديرها
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن مجموعة من الشباب، مستأجرين شقة في رمضان؛ لنتجمع؛ ونسهر فيها؛ ونلعب فيها الورقة، وبعض الشباب يدخنون الشيشة، ويسمعون الأغاني، والبعض يلعب الطاولة، وقررنا أن نستمر بعد رمضان، وهناك أحد الشباب يقوم بإدارة الشقة، وهناك بعض الشباب محافظون على الصلاة، ومنهم متكاسل، ومنهم لا يصلي، علما بأنه لا يوجد الزنى، ولا شرب الخمر في هذه الشقة، ويقوم كل واحد منا بدفع مبلغ معين كل شهر. السؤال: ما حكم هذه الشقة؟ وما حكم الشاب الذي يقوم بإدارة الشقة، علماً بأنه محافظ على الصلاة في جماعة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نشكر لك سؤالك واستفسارك عن حكم الشقة التي قمتم باستئجارها، وإن دلَّ سؤالكم على شيء فإنما يدل على خيرٍ وصلاح فيكم إن شاء الله.
وإن كان منا عتب عليكم قبل بيان الحكم الشرعي فهو أنكم بسهركم هذا إنما تضيعون أفضل سني عمركم قوة ونشاطاً، تضيعونها فيما لا فائدة منها على أقل الأحوال، وفي أسوئها أنكم تعصون الله تعالى فيها، فكان الواجب عليكم الالتفات إلى هذا السن، وهذه النعمة التي حباكم الله تعالى إياها، واستثمارها فيما يحب ربكم ويرضاه منكم من الأقوال والأفعال، واغتنام المسلم لصحته قبل سقمه، ولشبابه قبل هرمه، ولفراغه قبل شغله، ولحياته قبل موته: يدل على إيمان صادق، وعقل راجح، فبادروا إلى اغتنام صحتكم، وشبابكم، وفراغكم، وحياتكم، قبل أن تأتي ساعة الندم في الدنيا بفوات ذلك كله عليكم، أو في الآخرة – وهو أشد وأصعب – وليس هناك مجال لاستدراك ما فات من عمركم بعدها.
وكل إنسان سيسأل يوم القيامة بين يدي ربه: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه؟
فهل يسركم أن يكون جوابكم: كنا نسهر ونلعب ونلهو؟
وهل هذا الجواب سينجيكم يوم القيامة؟
ثانياً:
أما بخصوص حكم استئجار تلك الشقة: فإننا نرى أنه لا يجوز لكم أن تستأجروها؛ لأن اجتماعكم فيها هو على معاصٍ متعددة، من اللعب بالورق، إلى شرب الدخان والشيشة، إلى سماع الأغاني، وكل ذلك مما حرَّمه الله تعالى، وإذا أضيف إليه أنكم تفعلون ذلك في زمان فاضل وهو رمضان: كان الإثم أعظم، وخاصة في العشر الأواخر منه، حيث يتسابق الناس للاعتمار والاعتكاف والصلاة والدعاء، وأنتم – يا للأسف – تضيعون الساعات الفاضلة لا نقول فيما لا فائدة فيه، بل فيما فيه معصية ربكم تعالى.
فعليكم جميعاً ترك فعل تلك المحرمات في تلك الشقة وفي غيرها، وعليكم إعلان التوبة والمصالحة مع ربكم تعالى، وإدراك ما تبقى من أعماركم لتكونوا دعاة إلى هذا الدين، ولتكونوا حماة لهذه الشريعة المطهرة.
وانظر في تحريم الموسيقى والغناء جواب السؤال رقم: (5000) .
وانظر في تحريم اللعب بالنرد جوابي السؤالين (14095) و (22305) .
وفي تحريم الشيشة والدخان انظر جواب السؤال رقم: (45271) .
ثالثاً:
على الأخ الذي يدير الشقة أن يعلم أنه لا يحل له فعله ذاك، وأنه شريك فيما يُفعل في الشقة من معاصٍ وآثام، ولا يعفيه من الإثم كونه من المصلين في جماعة، وقد وقع هذا الأخ في مخالفات شرعية، ومنها:
1. الإعانة على الإثم والعدوان.
قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة/ 2.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه" انتهى.
" تفسير السعدي " (ص 218) .
2. السكوت عن إنكار المنكر، وعدم هجر أصحابه.
قال الله تبارك وتعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) النساء/ 140.
قال القرطبي رحمه الله:
"فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم: يكون معهم في الوزر سواءً، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم: فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية" انتهى.
" تفسير القرطبي " (5 / 396) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/374)
تنصحهن فيذكرن لها ماضيها السيئ
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة أرتدي الحجاب والحمد لله، وأحفظ سوراً من القرآن الكريم وملتزمة بدين الله تعالى، قبل أن أرتدي الحجاب كنت أرتدي ملابساً ضيقة وأضع على شعري تسريحة وبعض الصبغة ولا أصلي، وممكن أتكلم مع شاب في الطريق، ولا أهتم لكلام الناس، وبعد أن هداني الله سبحانه وتعالى تغير كل شيء، وندمت علي كل ما كنت أفعله. ما أعاني منه الآن: هو أني حين أتحدث إلى فتاة بخصوص الصلاة أو الحجاب أو أعطيها كتاباً يقولون عني: هذه التي تقول هذا الكلام! هل نسيت ما كانت تفعلي؟ ويقذفنني في عرضي، ويقولن عني أسوأ الأشياء والله سبحانه وتعالى يعلم أني بريئة مما ينسب إليَّ، ماذا أفعل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نحب أن نهنئكِ أيتها السائلة على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، فمن نعمة الله على عبده أن يوفقه للتوبة، ويدله عليها، فكم هم الذين باقون على المعاصي والذنوب، ولم يوفقوا للتوبة، فأنتِ في نعمة، فاشكري الله على تلك النعمة، واسأليه المزيد في ذلك.
ثانياً:
الواجب على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وذلك لأنه من أسمى الوظائف الإسلامية، بل هو أشرفها وأعلاها، وهو وظيفة الأنبياء والرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء/165.
وقد جعل الله الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس؛ لقيامها بهذه الوظيفة العظيمة، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران/110.
فالواجب عليكِ هو الاستمرار في نصح ودعوة من علمت أنه على خطأ، ولا تلتفتي إلى كلام المغرضين والمثبطين لكِ، بل اصبري واحتسبي الأجر عند الله، واعلمي أن ما أنتِ عليه هو نوع من أنواع الجهاد، مطلوب فيه تحمل المشاق، والصبر على الأذى فيه، كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لقمان/17.
ثالثاً:
ما ذكرتيه من أن بعض من تقومين بنصحه يذكركِ بماضيكِ، فهذا منه نوع من الجهل؛ وذلك لأنه كيف يلام شخص على ذنب قد تاب منه وأقلع عنه! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) رواه ابن ماجه (4250) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.
وإذا كان الله جل وعلا يتوب على من تاب من الشرك، فكيف بمن تاب مما هو دون الشرك من المعاصي والكبائر.
وأيضاً: إذا قيل إنه لا يدعو ولا ينصح من كان له ذنوب ومعاصٍ في السابق، فإنه لن يدعو أحد، ولن ينصح أحد؛ لأنه ليس أحد معصوماً من الذنوب، إلا من عصمه الله، فهؤلاء الصحابة منهم من كان في جاهليته شارباً للخمر قاطعاً للرحم ... وأعظم من ذلك الشرك بالله، ولا يشك عاقل في جلالة قدرهم وعلو مكانتهم، وأنهم خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، فهم لم يتركوا الدعوة بحجة أنهم فعلوا كذا وكذا في الماضي، بل قاموا بالدعوة خير قيام، رضي الله عنهم ورضاهم.
والعبرة بكمال النهاية، لا بنقصان البداية، فالعبرة بما انتهى إليه أمر الإنسان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) البخاري (6607) .
والذي يظهر لنا -والله أعلم- أنهم يقولون ذلك فقط من أجل الجدال، وهم يخدعون أنفسهم بأن لهم سبباً يردون من أجله الحق الذي تأمرينهم به، ولو أنصف هؤلاء لتفكروا فيما تأمرينهم به هل هو حق فيقبل؟ أو باطل فيرد؟
بقطع النظر عمن أمر به، فإن الحق يقبل لأجل كونه حقاً، لا من أجل من تكلم به.
وقد يكون ماضيك سبباً لقبول كلامك، وقوة حجتك، لأنك إنما تأمرينهم بما تأمرينهم به وقد جَرَّبت الخير والشر، والحلو والمر، فأنت تأمرينهم بالحق بعد علم ويقين وتجربة، وليس من جَرّب كمن سمع فقط.
وقديماً قال بعض التائبين: "من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"!
فاستمري في أمرهم ونصحهم، واحتسبي ما تجدينه من مشقة واستهزاء، نسأل الله تعالى لك مزيداً من التوفيق والحرص على هداية الخلق.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/375)
يركب الحافلة أو التاكسي ولا يستطيع منع السائق من الأغاني المحرمة
[السُّؤَالُ]
ـ[نضطر إلى سماع الأغاني أو الموسيقى، سواء في الحافلة التي تقلنا إلى العمل يومياً، أو الحافلات والتاكسيات التي نحتاجها في السفر بعض الأحيان، فما الحكم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"إذا كنت لا تستطيع منع الأغاني في الحافلة وأنت محتاج إلى ركوبها لبعد المسافة، ولا تجد وسيلة غيرها – فلا بأس عليك في ذلك، مع إنكار المنكر حسب استطاعتك، ولو في قلبك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ صالح الفوزان ... الشيخ عبد العزيز آل الشيخ.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/241) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/376)
يضطر لركوب تاكسي وبه الأغاني المحرمة
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يفعل الذي يضطر إلى ركوب سيارة تاكسي ويوجد فيها الغناء المحرم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"يجب عليك أن تنصح لمن ركبت معهم السيارة التي يوجد بها غناء محرم ألا يفتحوا الإذاعة على الغناء، عسى أن يستجيبوا لنصحك ويكفوا، فإن انتصحوا فالحمد لله، وإلا فانزل ودعهم في غيهم، حفظاً لنفسك من سماع المنكر، وإن شق عليك النزول لأمر ما فلا حرج عليك في بقائك في السيارة.
بالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (26/236) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/377)
حكم المشاركة في منتدى ينشر مقاطع للفضيحة والرذيلة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم المشاركة بالمنتدى الذي يوجد فيه مقاطع بلوتوث مخلة بالآداب؟ مع العلم يوجد بنفس المنتدى المنتدى الإسلامي ويوجد في بعض صفحاته آيات من القرآن الكريم. وما حكم فاعل هذا المنتدى؟ وبماذا تنصح المشارك وصاحب المنتدى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا يجوز نشر هذه المقاطع والصور، لأنها من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، مع ما فيها من إثم التجسس وتتبع العورات، وكل هذه محرمات معلومة، فكيف إذا اجتمعت.
قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النور/19.
واستغفال النساء وتصويرهن بجوال الكاميرا من أعظم المنكرات، لما فيه من الظلم والاعتداء والفضيحة وهتك الستر، وإذا كان هذا حال اغتصاب الفتاة كان أعظم وأشد، وقد روى الترمذي (2032) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ. والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي.
ثانيا:
الواجب نصح القائمين على المنتدى وتذكيرهم بالله تعالى وبإثم هذه الأعمال، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن تمادوا فيما هم فيه، فالواجب ترك هذا المنتدى زجرا لأهله وإنكارا عليهم، ومنعاً لإعانتهم، والمنتديات الصالحة كثيرة، وفيها غنى والحمد لله.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/378)
هل يبلغ عن الموظف الذي يدخل المواقع الإباحية
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مدير لشبكة إنترنت في إحدى الجهات، وقبل أيام ارتبت في استخدام أحد الموظفين لشبكة الإنترنت فوضعت برنامج للمراقبة، وبعد أيام وجدت أن هذا الرجل يدخل مواقع إباحية - عياذاً بالله -، وإلى الآن لا يعرف أحد سواي أمر ذلك الموظف، فاحترت جداً كيف أتصرف معه مع العلم بأن المدير لو علم لقام بفصله من العمل مباشرة ... . هل أكلم الشخص بيني وبينه وأنصحه؟ أم هل أخبر المسئول الذي فوقي بأمره ويحصل ما يحصل؟ أم هل أمنعه من استخدام الإنترنت وفي هذا الحال كيف سيكون العذر لمنعه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا ثبت أن الموظف يدخل المواقع الإباحية، فالواجب نصحه وتحذيره، ودعوته وإرشاده، وتذكيره بالمفاسد والمحاذير والآثام التي تترتب على دخول هذه المواقع، فإن استجاب فالحمد لله، وإن استمر في ذلك، فلا حرج أن تبلغ مدير المركز ليتخذ في حقه الإجراء المناسب، وقد جوّز أهل العلم ذكر عيب الإنسان وسيئته للاستعانة على تغيير المنكر، إذا لم يمكن تغييره إلا بذلك.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: " لَكِنْ تُبَاح الْغِيبَة لِغَرَضٍ شَرْعِيّ , كالاسْتِغَاثَة عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَر , وَرَدّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَاب , فَيَقُول لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَته: فُلان يَعْمَل كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْو ذَلِكَ ... " انتهى بتصرف.
ولكن.. ليكن ذلك بعد مناصحته ووعظه سراً.
وفقنا الله وإياك لطاعته ومرضاته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/379)
رأت منكرات على أم زوجها فهل تأثم بإخبار زوجها؟ وكيف يتصرف معها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد طرح سؤال، وأتمنى الرد على بريدي الالكتروني، أم زوجي امرأة مطلقة، وفاسقة، فهي تجمع عندها بنات ساقطات، تتركهم يخرجون ليلاً مع بناتها بلباس عاري، وهي تفعل هذا أمامي، ترددت كثيراً في إخبار زوجي، لكنني لم أتحمل نظرات الناس لي ولزوجي، عندما آتي عندهم أحس بالإحراج؛ لأن زوجي يظهر كالمغفل، فقررت إخباره بالقليل تفادياً لإحراجه، فقال: إنه يعرف القليل، وقد سبق وأنذرها، لكنها لم تبالي، وهو يشعر بالخجل عندما يذهب عندها، فقرر أن يقطع هذه الصلة، فهل عليه إثم أو ذنب في ذلك؟ وهل أنا عليَّ ذنب لأني أخبرته؟ . أرجو منكم الرد قريبا، ولكم مني جزيل الشكر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لستِ آثمة في إخبار زوجك بتصرفات والدته وبناتها، وهذا هو الذي أوجبه الله تعالى عليكِ؛ لأن ما رأيتيه من تصرفاتها منكر وفحش، لا بدَّ من إنكاره، والسعي في تغييره، إما بنفسه، أو بالاستعانة بغيره ممن يقدر على الإنكار أو التغيير.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) .
رواه مسلم (49) .
قال النووي رحمه الله:
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغيِّر أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به، قولاً كان، أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب – أي: الأشياء المغصوبة - ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه ... .وإن وجد مَن يستعين به على ذلك: استعان.
" شرح مسلم " (2 / 25) .
ثانياً:
الواجب على زوجكِ أن ينكر منكر أمه، وأن يبذل جهده في تغييره، ويبدأ الإنكار على والدته برفق، فصاحب المعصية في غفلة، وجهالة، ويحتاج لمن يترفق به ليدله على قبح فعله، وشناعة معصيته، وإذا كان الرفق مطلوباً مع الآخرين أن يُبذل لهم فإنه مع الوالدة يكون أشد طلباً، فإن نفع الرفق فهو خير، وإلا جاز له استعمال الغلظة والشدة، إذا رأى نفعها.
قال النووي – رحمه الله -:
وأما قوله صلى الله عليه وسلم " فليغيِّره ": فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: الكتاب، والسنَّة، وإجماع الأمة، وهو - أيضاً - من النصيحة التي هي الدِّين.
" شرح مسلم " (2 / 22) .
وقال رحمه الله:
قال القاضي عياض رحمه الله: ويرفق في التغيير جهده، بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شرُّه؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح، والفضل لهذا المعنى.
ويغلظ على المتمادي في غيِّه، والمسرف في بطالته، إذا أمن أن يؤثر إغلاظه، منكراً أشد مما غيره؛ لكون جانبه محميّاً عن سطوة الظالم.
فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبِّب منكراً أشد منه: من قتله، أو قتل غيره، بسبب كف يده: اقتصر على القول باللسان، والوعظ، والتخويف، فإن خاف أن يسبِّب قوله مثل ذلك: غيَّر بقلبِه، وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد مَن يستعين به على ذلك: استعان.
" شرح مسلم " (2 / 25) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة:
حديث " تغيير المنكر " هل المقصود لكي يتغير المنكر أن نترك المكان الذي به منكر، أم نظل، ونكرهه، وننكره بقلوبنا؟ .
فأجابوا:
المسلمون في إنكار المنكر درجات، منهم من يجب عليه إنكار المنكر بيده، كولي الأمر، ومن ينوب عنه، ممن أعطي صلاحية لذلك، كالوالد مع ولده، والسيد مع عبده، والزوج مع زوجته؛ إن لم يكُف مرتكب المنكر إلا بذلك، ومنهم مَن يجب عليه إنكاره بالنصح، والإرشاد، والنهي، والزجر، والدعوة بالتي هي أحسن، دون اليد، والتسلط بالقوة؛ خشية إثارة الفتن، وانتشار الفوضى، ومنهم من يجب عليه الإنكار بالقلب فقط؛ لضعفه نفوذاً، ولساناً، وهذا أضعف الإيمان، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: (مَن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وإذا كانت المصلحة الشرعية في بقائه في الوسط الذي فشا فيه المنكر أرجح من المفسدة، ولم يخش على نفسه الفتنة: بقي بين من يرتكبون المنكر، مع إنكاره حسب درجته، وإلا هجرهم محافظة على دينه.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (12 / 335) .
فأنتِ ترين من كلام العلماء أن على المنكِر، والراغب بتغيير المنكر أن يسلك الطرق الحكيمة في ذلك، فيرغِّب حيث ينفع الترغيب، ويرهِّب حيث يُجدي الترهيب، ويستعمل لسانه في حال، ويده في حال، والمنكَر الذي يراه الولد على أمه وأبيه ليس مثل أن يراه على ابنه أو ابنته، فهو في الحال الثانية يملك أن يباشر التغيير باليد، بخلاف حاله مع أمه وأبيه.
وتبين لنا – أيضاً – أنه لا مانع من أن يبقى زوجكِ على علاقة مع أمه حتى لو استمرت على فعل المنكر إن رأى أن في ذلك مصلحة شرعية، كما لو كان في بقائه معها ما يدعوها إلى ترك المنكر، أو التقليل منه، ولا يبدأ بالهجر؛ لأن الهجر لا يراد لذاته في الشرع، بل لما يؤدي إليه من نفع وفائدة للمهجور، أو من خطر على الهاجر، فإن رأى زوجكِ أن بقاءه على علاقة مع أمه فيه نفع لها، أو كف لشرٍّ أكبر: بقي معها، ولم يهجرها، وإن رأى خطراً على حياته وحياة أسرته وأولاده، أو دينه، أو عرضه، هو وأسرته، من تلك العلاقة، ولم ير نفعاً لها لقربه منها: جاز له الهجر حفاظاً على دينه، وعلى دين أسرته.
ثالثاً:
منكر البنات هو أيضاً مما يجب على زوجك أن ينكره عليهن، وأن يسعى في تغييره، وليستعن على ذلك بربه تعالى أن يوفقه لهذا، وليستعن بأشقائه، أو بأحدٍ من أقربائه عليهن، وليعلموا أنه يجب عليهم جميعاً السعي لكفهنَّ عن الخروج والتبرج وصحبة الفاسقات، وإذا لم ينفع التلطف في الإنكار والتغيير: جاز لهم حبس الأم وبناتها في البيت، وجاز لهم تقييدهن جميعاً، مع البر والإحسان إليهن بالطعام والكسوة، وهذا الفعل قد يستطيعه أناس وقد يكون مستحيلاً على آخرين، ويمكن أن لا يترتب عليه شيء في بلد، ويترتب عليه أشياء كثيرة تضر بهم في بلد آخر، فليقدروا ذلك، وإنما أردنا بيان جواز ذلك، فإن رأوا قدرتهم على ذلك، وعدم ترتب مفسدة عليه: فليبادروا لفعله.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
عن امرأة مزوجة بزوج كامل، ولها أولاد، فتعلقت بشخص من الأطراف أقامت معه على الفجور، فلما ظهر أمرها: سعت في مفارقة الزوج، فهل بقي لها حق على أولادها بعد هذا الفعل؟ وهل عليهم إثم في قطعها؟ وهل يجوز لمن تحقق ذلك منها قتلها سرّاً؟ وإن فعل ذلك غيره يأثم؟ .
فأجاب:
الواجب على أولادها وعصبتها أن يمنعوها من المحرمات، فان لم تمتنع إلا بالحبس: حبسوها، وإن احتاجت إلى القيد: قيدوها، وما ينبغي للولد أن يضرب أمَّه، وأما برُّها: فليس لهم أن يمنعوها برَّها، ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن بذلك من السوء، بل يمنعوها بحسب قدرتهم، وإن احتاجت إلى رزق وكسوة رزقوها وكسوها، ولا يجوز لهم إقامة الحد عليها بقتل ولا غيره، وعليهم الإثم في ذلك.
" مجموع الفتاوى " (34 / 177، 178) .
وانظري أجوبة الأسئلة: (10081) و (11403) و (33757) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/380)
مسئولية أصحاب المواقع والمشرفين عليها عن وجود المنكرات والصور المحرمة
[السُّؤَالُ]
ـ[ينتشر في المواقع والمنتديات صور النساء.. والأغاني والمنكرات , ما حكم فتح منتديات وأقسام في المواقع للأغاني والطرب والفن والسينما والفضائيات؟ وهل على المشرف العام وصاحب الموقع والأعضاء عامة إثم في أي مشاركة؟ فالبعض يتعذر بقوله "لم نجبر أحداً على إضافة صور النساء في المواضيع والتواقيع والصور الشخصية" كذلك هل على المشرف أو المدير أو صاحب الموقع إثم في حالة أن العضو يضع صورا نسائية في توقيعه ومشاركاته؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا يجوز فتح مواقع أو أقسام للغناء والطرب ولا لأخبار المغنيين والفنانين والأفلام ونحوها، لما في ذلك من نشر المنكرات والدعاية والإعانة عليها.
وقد دلت الأدلة الصحيحة على تحريم استماع الموسيقى، وتحريم الاختلاط، وكشف العورات في الواقع أو في الأفلام ونحوها، وينظر في ذلك جواب السؤال رقم (5000) ورقم (1200)
وعليه؛ فالواجب إنكار هذه المنكرات ومحاربتها، لا تشجيعها ولا الدلالة أو الإعانة عليها، ومن أعان على المنكر أو دل عليه كان شريكا لفاعله في الإثم.
قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة/2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) رواه مسلم (4831) .
ثانيا:
تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والطير والحيوان، ووضع ذلك في المنتديات، أو الاحتفاظ بها للذكرى، لا يجوز؛ لعموم الأدلة في تحريم التصوير، ولعن فاعله، وانظر جواب السؤال رقم (22660) ، (8954) .
ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان لضرورة أو حاجة ماسة، كصور إثبات الشخصية ونحوها.
ويدخل ضمن التصوير المحرم رسم الصور الكرتونية المتخيلة أو المشوهة لذوات الأرواح؛ لما روى مسلم (2107) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَّرْتُ عَلَى بَابِي دُرْنُوكًا فِيهِ الْخَيْلُ ذَوَاتُ الأَجْنِحَةِ، فَأَمَرَنِي فَنَزَعْتُهُ.
والدُّرنوك: هو نوع من الستائر.
فدل الحديث على المنع من تصوير ذوات الأرواح، ولو كان ذلك بصور خيالية غير موجودة في الواقع، لأنه لا يوجد في الواقع خيل لها أجنحة.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/479) : " مدار التحريم في التصوير كونه تصويرا لذوات الأرواح، سواء كان نحتا، أم تلوينا في جدار أو قماش أو ورق، أم كان نسيجا، وسواء كان بريشة أم قلم أم بجهاز، وسواء كان للشيء على طبيعته أم دخله الخيال فصغر أو كبر أو جمل أو شوه أو جعل خطوطا تمثل الهيكل العظمي. فمناط التحريم كون ما صور من ذوات الأرواح ولو كالصور الخيالية التي تجعل لمن يمثل القدامى من الفراعنة وقادة الحروب الصليبية وجنودها، وكصورة عيسى ومريم المقامتين في الكنائس. . إلخ، وذلك لعموم النصوص، ولما فيها من المضاهاة (يعني لخلق الله) ، ولكونها ذريعة إلى الشرك " انتهى.
ثالثا:
وضع صور النساء في المنتديات، عمل قبيح، لما فيه من استعمال التصوير المحرم، ولما فيه من إثارة الفتن وتهييج الشهوات، والواجب على القائمين على الموقع أن يمنعوا ذلك؛ لأن إنكار المنكر وإزالته واجب على من قدر عليه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) رواه مسلم (49) .
وتعذر البعض بقولهم: "لم نجبر أحداً على إضافة صور النساء في المواضيع والتواقيع والصور الشخصية" لا يفيدهم؛ لأنهم مأمورون بإنكار المنكر كما سبق.
وإذا وضع المشارك صورة محرمة، أثم بذلك، وأثم من سكت عن إزالة المنكر، من مشرفٍ أو مسئول، وقد حلت اللعنة ببني إسرائيل لقعودهم وسكوتهم عن إنكار المنكر بينهم، كما قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة/78، 79
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن عاقبة السكوت على المنكر هي الهلاك العام، والعقوبة العامة، كما روى البخاري (2493) عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا، جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) .
فوصيتنا لأصحاب المواقع والمنتديات والمشرفين عليها أن يتقوا الله تعالى، وأن يضعوا الضوابط التي تمنع الأعضاء من نشر المنكرات أو الترويج لها، وأن يزيلوا كل منكر ينشر في مواقعهم؛ لأنهم مسئولون عن ذلك، وألا تحملهم الرغبة في تكثير المشاركين على تجاوز حدود الله، والمشاركة في الإثم بإقراره والسكوت عليه.
نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/381)
هل يكرر النهي والتذكير، كلما تكرر نفس المنكر؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[يراودني كثيرا أن أنهى عن المصافحة المحرمة بين أهلي وأقاربي، لأن هذه العادة المحرمة القبيحة انتشرت عندنا كثيرا، وقد سبق لي وأن نهيت بعض أقاربي عن ذلك، ولكنني الآن أسأل، هل يجب علي أن أنهاهم في كل مرة أراهم يتصافحون، لأن ذلك يؤلمني كثيراً، أم سأنهاهم مرة وأتركهم مرة؟ وأخيرا هل سأنهاهم وهم مجتمعون يعني في الملأ، خاصة إذا كان فيهم واحد فقط يصافح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فالأمر كما تفضلت أخي الكريم أن مصافحة النساء للرجال الأجانب منكر دلت النصوص على تحريمه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَأَنْ يُطَعْنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطِ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ) . رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (5045)
وفي صحيح مسلم (1866) عن عروة أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء قالت: " ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط إلا أن يأخذ عليها فإذا أخذ عليها فأعطته، قال: اذهبي فقد بايعتك ".
والمنكر يجب تغييره على من رآه من المكلفين وكان قادراً على ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) رواه مسلم (70) من حديث أبي سعيد.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: (قوله صلى الله عليه وسلم "فليغيره " أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين.) انتهى.
وقال العلامة القرافي رحمه الله في الفروق (4/257) : " قال العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الفور إجماعاً فمن أمكنه أن يأمر بمعروف وجب عليه " انتهى.
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم في بيان من يجب عليه إنكار المنكر: " ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين –أي يصير واجباً على شخص بعينه- كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على المنكر أو تقصير في المعروف، قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين " انتهى.
فإنكار المنكر إذا لا يتقيد بعدد بحيث ينكر مرة أو مرتين ثم يترك؛ بل من رأى منكرا وقدر على إنكاره، وجب عليه ذلك.
لكن اختلف العلماء في مسألة الإنكار على من يظن أنه لا ينزجر عن المنكر بالإنكار عليه فمنهم من يرى وجوب الإنكار عليه إعذاراً إلى الله، وتأميلا في أن ينتفع الموعوظ، وهو ظاهر كلام النووي السابق. ومنهم من يرى عدم الوجوب لكنه يستحب عنده.
قال العلامة السفاريني الحنبلي رحمه الله في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/215) : " وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية: حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن الإمام أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه وصحح القول بوجوبه وهو قول أكثر العلماء، وقد قيل لبعض السلف في هذا فقال يكون لك معذرة " انتهى.
وبهذا يتبين أنه: إن كنت قادراً على النهي عن هذا المنكر، دون أن يترتب على ذلك مفسدة أعظم، كأن يعاند من تنكر عليه فيصرح باستحلال المحرم، أو الجرأة على الشريعة وأحكامها، أو نحو ذلك من المنكرات التي قد تترتب على إنكار المنكر، خاصة إذا صاحبه غلظة من الآمر، أو إحراج له أمام من لا يحفظ هيئته عنده، فإذا وجدت هذه القدرة: فإنه يجب عليك أن تنكر هذا المنكر وإن ظننت أنهم لن ينتهوا عن ذلك، وينبغي أن تتلطف بمن تنكر عليه قدر الاستطاعة لعل ذلك يكون سبباً في قبوله النصح.
وأما هل تنكر هذا المنكر سراً أو جهراً، فالجواب أن الأصل أنه من أظهر المنكر أنكر عليه جهراً، ومن أسر به لم تجز المجاهرة بالإنكار عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى (3/434) : " وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة " انتهى.
لكن مسألة الإسرار أو الجهر ترجع ـ في الحقيقة ـ إلى فقه المصلحة المرجوة من كل منهما، فإن غلب على الظن أن الفاعل ينتفع بالإسرار، ويعاند بالعلانية، وجب الإسرار له، والتلطف في أمره، ثم كل حال هنا بحسبها، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
وفي الختام نذكرك أيها الأخ الحبيب بثواب الله تعالى لمن تصدى لدعوة الناس إلى الخير وتذكيرهم به.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون - أي يدعون بالخير- على معلم الناس الخير) رواه الترمذي (2609) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (1838)
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجوب(8/382)
تدمير المواقع الإباحية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تدمير أو اختراق مواقع وسيرفرات المواقع الإباحية والشاذة - أعاذنا الله منها - هل هو حرام أم حلال؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إنَّ مِن عظيم ما ابتُلي به الناس في هذه الأزمان، وتفردوا به عن سائر القرون الماضية، ما يرونه ويشاهدونه من انتشار العري والتهتك والإباحية، وألوان الشهوة التي لا يردعها خُلُق ولا حياء ولا دين، حتى غدت أجساد النساء أرخص سلعة، وأهون بضاعة، ولم تكد بيوت المسلمين تسلم من شررها ولا خطرها، فهي موجودة في التلفاز والإنترنت وفي الشوارع والطرقات وفي الكتب والصحف والمجلات والجوالات، تتنافس في قلة الحياء وتتسابق إلى استحواذ قلوب الناس والتأثير فيها.
ولعل مِن أعظمها خطرا وأشدها ضررا مواقع " الإنترنت " الإباحية، لسهولة الوصول إليها، ولكثرتها وتنوعها وزيادة أعدادها المخيفة، مما ينبئ عن خطر عظيم يهدد البشرية كلها، حين تغدو الخطيئة ديدنها، وتضيع قيم الحياء والعقل والإيمان في أودية الفاحشة، فلتستعد حينئذ للعقاب الإلهي أو للهلاك الكوني الذي تقضي به سنة الله لكل من انحرف عن الفطرة وأوغل في الطغيان.
يقول الله عز وجل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم/41.
ولما جاء الإسلام داعيا إلى الإصلاح والتطهير، أوجب على كل من التزمه وآمن بمبادئه السعي الجاد في تخليص الناس من الشر وتحذيرهم منه، في مبدءٍ عظيم من مبادئ هذا الدين " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، والذي هو واجب شرعي على جميع المسلمين، كلٌّ بحسب موقعه وقدرته.
وليس لأدوات الفساد حرمةٌ في الشريعة الإسلامية، بل ولا تعترف الشريعة بماليتها، فهي موادٌ مُهدَرَةٌ، حقُّها الإتلاف، وفرضها التدمير والإهلاك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – كما في "مجموع الفتاوى" (28/113) -:
" المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي: مثل الطنبور، يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء، وهو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن أحمد، ومثل ذلك أوعية الخمر، يجوز تكسيرها وتخريقها، والحانوت الذي يباع فيه الخمر، يجوز تحريقه، وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم، واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد.
وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر بتحريق قرية كان يُباع فيها الخمر. رواه أبو عبيدة وغيره؛ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية، وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما " انتهى.
وانظر: "الموسوعة الفقهية" (36/34) .
ولكن الذي نراه في شأن المواقع الإباحية أنها مسؤولية الدولة والمؤسسات العامة والمراكز المتخصصة، وليست مسؤوليةً فردية، ونرى أن الخطر الذي قد تجره هذه المواقع على أفراد المسلمين الذين يحاولون تدميرها وإفسادها – ولو بلغوا من الإيمان والتقوى مراتب عالية - أعظم من قدر الجهد الذي يبذلون، والنتائج التي يحصلون، وذلك أنه ليس بوسع أحد اليوم القضاء على جميع المواقع الفاسدة، ولا حتى على معشار معشارها، فالعلاج سيكون باتخاذ وسائل الحذر والحماية العامة، بحجب المواقع الفاسدة في الدول الإسلامية، وتطوير البرامج لمراقبة هذا الحجب، ونشر الوعي والحذر العام، وهذه جهود لا تستطيعها إلا المؤسسات والدول، وليس الأفراد الذين يقعون ضحية عاطفتهم نحو التغيير، فيتعلق في قلوبهم من مفاسد هذه المواقع ما لم يكن بالحسبان، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال (39923) كي يكون المسلم على حذر، فلا يفقد شيئاً من دينه وخلقه، في سبيل تحقيق حلم بعيد المنال.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (17/121-122) :
" على المسلم أن يغض بصره عن النظر في تلك المجلات الفاسدة؛ طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبعدا عن الفتنة ومواقعها، وعلى الإنسان ألا يدعي العصمة لنفسه، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلاء.
ويجب على مَن وَلاَّه الله على أي من بلاد الإسلام أن ينصح للمسلمين، وأن يجنبهم الفساد وأهله، ويباعدهم عن كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم، ومن ذلك منع هذه المجلات المفسدة من النشر والتوزيع، وكف شرها عنهم، وهذا من نصر الله ودينه، ومن أسباب الفلاح والنجاح والتمكين في الأرض، كما قال الله سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقَِةُ الْأُمُورِ) الحج/40-41.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/383)
هل تساعد صديقتها في شراء منزل بقرض ربوي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندي صديقة تريد شراء منزل بقرض ربوي، وهي تطلب مني أن أخرج معها للبحث عن هذا المنزل، وإعطائها رأيي فيه، فماذا علي أن أفعل؟ هل علي إثم إن قبلت؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الربا من الأمور المحرمة في الشريعة الإسلامية تحريماً قطعياً؛ قال تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة /275، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) البقرة / 278.
وروى مسلم (1598) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ) .
فالنصوص السابقة تدل على حرمة الربا سواء أخذه الإنسان؛ لأجل أن يشتري به بيتاً أم أخذه لغير ذلك.
وانظري جواب سؤال رقم (9054) .
فإذا تبين لكِ أن فعل صديقتك محرم، فإنه لا يجوز لكِ مساعدتها على ذلك؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يعين أخاه على أمر محرم، قال الله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة / 2، بل الواجب عليكِ هو النصح والإرشاد لصديقتك؛ لعل الله أن يهديها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/384)
تشغيل القرآن في غرفة الشات الصوتي التي بها الأغاني
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم تشغيل القرآن في الشاتات الصوتية التي فيها أغاني وفتح كاميرات؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا العمل غير مشروع، وقد يكون سبباً في النفور من القرآن وعدم احترامه، والرغبة في توقف القراءة، هذا مع الانشغال عنه، وعدم الإصغاء له، وربما صاحب ذلك فعل المنكرات أيضا.
وعلى من أراد النصيحة أن يدخل ويبين الحكم الشرعي في الأغاني والصور، ولا يكتفي بقراءة القرآن أو تشغيل المسجل.
قال النووي رحمه الله في "التبيان في آداب حملة القرآن" ص (92) : " ومما يعتنى به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين.
فمن ذلك: اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة إلا كلاما يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ...
ومن ذلك: العبث باليد وغيرها، فإنه يناجي ربه سبحانه وتعالى، فلا يعبث بين يديه.
ومن ذلك: النظر إلى ما يلهي ويبدد الذهن.
وأقبح من هذا كله: النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه كالأمرد وغيره ... وعلى الحاضرين مجلس القراءة إذا رأوا شيئا من هذه المنكرات المذكورة أو غيرها أن ينهوا عنه حسب الإمكان باليد لمن قدر، وباللسان لمن عجز عن اليد وقدر على اللسان، وإلا فلينكر بقلبه والله أعلم " انتهى.
وذكر البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (1/433) عن ابن عقيل رحمه الله أنه قال بتحريم القراءة في الأسواق يصيح أهلها فيها بالنداء والبيع، ونقل عنه أنه قال: " قال حنبل: كثير من أقوال وأفعال يخرج مخرج الطاعات عند العامة , وهي مآثم عند العلماء , مثل القراءة في الأسواق , يصيح فيها أهل الأسواق بالنداء والبيع، ولا أهل السوق يمكنهم الاستماع، وذلك امتهان " انتهى.
وقد وُجه للجنة الدائمة للإفتاء سؤال هذا نصه:
" يتوفر للمستشفى التخصصي وسائل اتصالات داخلية جيدة تسمح للمخاطب بمقاطعة المكالمة القادمة والانتقال إلى مكالمة أخرى مدة تطول أو تقصر حسبما تدعو الحاجة ثم العودة إلى المكالمة الموقوفة، وخلال فترة الانقطاع المذكورة يمكن للمتكلم أن يستمع إلى مادة مسجلة مناسبة، ولقد رغبنا أن نملأ فترة الانقطاع هذه بمادة دينية، سواء مقاطع من القرآن الكريم أو من الأحاديث الشريفة. وحيث إنه قد يتخلل الانقطاعات أمور دنيوية يدخل فيها الجد والهزل حسب مكانة وظرف المتحدثين فقد رأينا الاستئناس برأي سماحتكم قبل إدخال مثل هذه المواد الدينية.
فأجابت:
" أولا: لا يجوز قطع المكالمة أو وقفها؛ لما في ذلك من الأذى، إلا لمقتض يدعو إلى ذلك، كإساءة المتكلم إساءة لا تزول إلا بقطعها أو طروء أمر ضروري أو أصلح يدعو إلى وقفها أو قطعها.
ثانيا: القرآن الكريم: كلام الله تعالى، فيجب احترامه وصيانته عما لا يليق به من خلطه بهزل أو مزاح يسبق تلاوته أو يتبعها، ومن اتخاذه تسلية أو ملء فراغ مثل ما ذكرت، بل ينبغي القصد إلى تلاوته قصدا أوليا؛ عبادة لله وتقربا إليه، مع تدبر معانيه والاعتبار بمواعظه، لا لمجرد التسلية والتفكه وملء الفراغ، وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز خلطها بالهزل والدعابات، بل تجب العناية بها، وصيانتها عما لا يليق، والقصد إليها لفهم أحكام الشرع منها والعمل بمقتضاها " انتهى.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي......عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود "
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/84) .
ولاشك أن ما يجري في الشاتات الصوتية أعظم بكثير مما ورد في سؤال اللجنة، ولهذا نقول: يجب صيانة القرآن عن هذه المواطن، فإن القرآن أعظم من أن يوضع بإزاء الأغاني، وأن يتلى على أسماع اللاهين الغافلين، فضلا عن العاكفين على شيء من المحرمات.
ولا ننصح بالدخول على هذه المواقع والبرامج، إلا للداعية المتزود بالعلم والبصيرة التي تدفع الشبهات، والمتحصن بالإيمان القوي الذي يحجز عن الشهوات.
ولينشغل الإنسان بما ينفعه، وليستفد من المواقع الصالحة النقية، فإن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة، وقد يدخل الداخل لغرض النصح، فما يلبث أن يصبح أحد المفتونين، نسأل الله العافية.
وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/385)
هل يلزم لإنكار المنكر إزالته بالكلية أم يكفي التخفيف منه
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا أردت إنكار منكر فلم نستطع إزالته ولكن يمكن التخفيف منه فهل نتدخل لأجل ذلك؟ أو نقول إما أن نزيله بالكلية أو لا نفعل شيئاً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الصحيح أننا يجب أن نزيل المنكر بقدر الاستطاعة ونجعل الجهد أولاً والمحاولة لإزالته بالكلية فإن عجزنا وأمكن أن نخفف منه أو من بعض آثاره فإن قواعد الشريعة تقتضي أن نقوم بذلك، خصوصاً وأننا نعيش في عصر تكثر فيه الغلبة للأشرار وكثيراً ما لا يتمكن الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والدعاة إلى الله من تحقيق كل ما يريدون فلا أقل من تخفيف الشر والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها غير أنه لا بد من التأكيد على أصل القضية وهو أن على الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يرضى بأنصاف الحلول بإن إن عجزنا أو الاكتفاء بالتخفيف من المنكر ما أمكنه إزالته بالكلية.
وكثيراً ما يكتفي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالتخفيف من المنكر دون العمل على إزالته.. كمن يأمر المرأة التي أظهرت الكثير من مفاتنها للأجانب بأن تغطي ذلك سوى الوجه والكفين، مع أنه يمكنه أن يأمرها بالحجاب الكامل.
وكمن يمر بمن يظهر أصوات الغناء والمعازف فيأمره بأن يخفض من صوت ذلك المنكر.
وكمن يطلب منه تعليم النساء أو الفتيات فيشترط أن يتحجبن وأن لا يخضعن بالقول، مع أنه يمكنه أن يفرض حاجزاً بينه وبينهن فيسمعن صوته دون أن يراهن.
ومن أدلة هذه المسألة من القرآن ما صنعه موسى عليه السلام مع العجل الذي عبده بنو إسرائيل وعكفوا عليه فقال: (لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً) طه/97.
ومن السنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع مسجد الضرار الذي اتخذه المنافقون فأمر بإحراقه بعد هدمه.
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) رواه البخاري.
ومن هذا الباب ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فقلت: بلى، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً، قال: فما وقعتُ عن فرس بعد. قال: وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لجثعم وبجيلة وفيه نصب تُعبد يقال له الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها.
قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام، فقيل له: إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك. قال: فينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال لتكسرنها، ولتشهدن أن لا إله إلا الله، أو لأضربن عنقك، قال: فكسرها وشهد، ثم بعث جرير رجلاً من أحمس يكنى أبا أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبرك النبي صلى الله عليه وسلم على خير أحمس ورجالها خمس مرات) .
والشاهد في هذا الحديث في موضعين: الأول: ما فعل بذي الخلصة، والثاني: موقفه من صاحب الأزلام..
قال في الفتح: (وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره سواء كان إنساناً أو حيواناً أو جماداً) ا. هـ. 8/73.
ومن ذلك أنه لما أرسل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى العزى وقطع السمرات الثلاث وهدم البيت.. فلما أخبره بما صنع، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يصنع شيئاً، ثم أمره بأن يعود إليها حتى وجد تلك المرأة العارية نافشة شعرها وتحثي التراب على رأسها فعلاها بالسيف.. فلما رجع للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك العزى) . زاد المعاد 3/414.
وجاء عن بعض السلف أنه مر بغلمان يلعبون بالكجة - وهي حفر فيها حصي يلعبون بها - فسدها ونهاهم عنها. تفسير القرطبي 8/340.
لكن لو عجز المحتسب عن إزالته بالكلية فإنه يعمل على التخفيف منه قدر الاستطاعة.
قال ابن القيم - رحمه الله - عند ذكره بعض الفوائد المستنبطة من غزوة تبوك: (ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها، وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه، لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب، وكذلك محالّ المعاصي والفسوق، كالحانات بيوت الخمارين وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً، وحرق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة، فإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليه كما أخبر هو عن ذلك) ا. هـ. زاد المعاد 3/571-572.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/386)
بلده يكثر فيها التبرج، فهل يُنكر على المتبرجات في الشارع؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندنا في بلادنا وخصوصا الحي الذي أسكنه تبرج كبير وتشبه بالنصارى فهل علي أن أنهى بعض المتبرجات في الشارع عن التبرج أم أن في ذلك فتنة علي؟ وبالتالي أغض بصري وأنكر بقلبي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أظهر شعائر الإسلام، وهو صفة للأمة صاحبة الخيريّة، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) آل عمران/110.
وله شروط وآداب سبق بيانها في جواب السؤال رقم (96662) .
وإذا كان يترتب على الإنكار مفسدة أعظم، لم يجب، بل يحرم حينئذ؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.
وانشغال الشاب بالإنكار على كل متبرجة في طريقه – في بلد يكثر فيه التبرج - قد يكون سببا لفتنته، ولإساءة الظن به، مع شغل وقته وزمانه، لكن عليه أن يشتغل بدعوة قريباته وأهله، وأن يبين لهم حرمة التبرج، ووجوب الحجاب، ففي ذلك خير عظيم، وتقليل للمنكر والشر.
وقد قرر جمع من أهل العلم أنه إذا غلب الظن عدم الاستجابة والانتفاع بالإنكار لم يجب.
قال ابن رشد رحمه الله في "البيان والتحصيل": " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بثلاثة شروط:
أحدها: أن يكون عارفا بالمعروف والمنكر. إذ لا يأمن من أن ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر لجهله بحكمهما.
والثاني: أن لا يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه مثل أن ينهاه عن شرب الخمر فيؤول نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك.
والثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له , وأن أمره مؤثر ونافع. فالشرطان: الأول والثاني مشترطان في الجواز، والشرط الثالث مشترط في الوجوب فإذا عُدم الشرط الأول والثاني لم يجز أن يأمر ولا ينهى , وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرط الأول والثاني جاز له أن يأمر وينهى ولم يجب ذلك عليه " انتهى نقلا عن "المدخل" لابن الحاج (1/70) باختصار.
وقال الغزالي في الإحياء (2/328) : " إذا علِم أنه لا يفيد إنكاره، ولكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، لكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين " انتهى.
وينظر: الفروق، للقرافي (4/255) .
ومنه يعلم أنه إذا غلب على الظن عدم الاستجابة سقط الوجوب.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية , إذا قام به مَن يكفي سقط عن الناس , وإذا لم يقم به من يكفي: وجب على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر , لكن لابد أن يكون بالحكمة، والرفق، واللين؛ لأن الله أرسل موسى وهارون إلى فرعون وقال: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه/44، أما العنف: سواء كان بأسلوب القول، أو أسلوب الفعل: فهذا ينافي الحكمة , وهو خلاف ما أمر الله به.
ولكن أحياناً يعترض الإنسان شيء يقول: هذا منكر معروف , كحلق اللحية مثلاً , كلٌّ يعرف أنه حرام، خصوصاً المواطنون في هذا البلد , ويقول: لو أنني جعلتُ كلما رأيت إنساناً حالقاً لحيته - وما أكثرهم - وقفتُ أنهاه عن هذا الشيء: فاتني مصالح كثيرة , ففي هذه الحال: ربما نقول بسقوط النهي عنه؛ لأنه يفوِّت على نفسه مصالح كثيرة , لكن لو فرض أنه حصل لك اجتماع بهذا الرجل في دكان أو في مطعم أو في مقهى: فحينئذٍ يحسن أن تخوفه بالله , وتقول: هذا أمر محرم، وأنت إذا أصررت على الصغيرة صارت في حقك كبيرة , وتقول الأمر المناسب " انتهى من "لقاءات الباب المفتوح" (110/5) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/387)
هل فعل أحد أفراد الأسرة لذنب اقترفه والدهم في الماضي من تعجيل العقوبة؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عندما يعمل شخص ذنب، وبعد ذلك يكتشف أن ابنه أو أي شخص من عائلته عمل ذات الذنب، هل ذلك: كما تدين تدان، أم إنه تعجيل للعقوبة؟ وهل يجب أن يعاقب هذا الشخص الذي تحت مسئوليته وعمل الذنب؟ أم إنه يقول: إن هذا عقاب من الله لظلمه لنفسه، وبما كسبت يداه وإنه خارج إرادة الشخص الذي تحت مسئوليته؟ أرجو إفتاءنا، وجزاكم الله خير]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فإن الإنسان لا يؤاخذ بذنب غيره، كما قال الله سبحانه: (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام:164، قال العلامة الشوكاني رحمه الله في فتح القدير عند تفسير الآية: " أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب، وارتكبت من المعصية سواها؛ فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها " انتهى.
ثم قال رحمه الله: " وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة، والأولى حمل الآية على ظاهرها، أعني العموم. " انتهى.
وإذا كان كذلك فإن الله تعالى لا يقدر الذنب على إنسان مؤاخذة له بذنب غيره، ولكنه سبحانه وتعالى حكيم فيما يفعل، وهو أعلم أين يضع فضله. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في شفاء العليل (1/71) : (فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته.) فهو سبحانه يهدي ويوفق من يشاء فضلا، ويخذل من يشاء عدلاً.
ولكن شؤم المعصية قد يسري من شخص لآخر، لمجالسته له وإلفه لعمله؛ إذ ربما جره ذلك إلى موافقته في فعله، والاقتداء به، وربما كان في تقدير الله المعصية على قريب العاصي إساءة له، وتنغيص عليه؛ فكان في ذلك نوع من المجازاة له، ولكن مع اعتقاد أن الله قدر ذلك بتمام عدله وحكمته.
ومن الكلام المأثور عن علي رضي الله عنه، في كتب الأدب: " من هَتك حجاب أخيه، هُتِك حجاب بنيه!! ".
وفي قول الله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) مريم: 28
قال قتادة رحمه الله: " كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح، ولا يُعرفون بالفساد؛ ومن الناس من يُعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يُعرفون بالفساد ويتوالدون به "
تفسير الطبري (18/186) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟! " تفسير ابن كثير (5/226)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: " وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض، في الصلاح وضده " اهـ تفسير السعدي (492) .
وفي سنن أبي داود (3963) وغيره، وصححه الألباني، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ) ؛ أَيْ الزَّانِيَانِ وَوَلَدهمَا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ولد الزنا إن آمن وعمل صالحا دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يجازى غيره، والجزاء على الأعمال لا على النسب، وإنما يذم ولد الزنا لأنه مظنة أن يعمل عملا خبيثا، كما يقع كثيرا؛ كما تحمد الأنساب الفاضلة لأنها مظنة عمل الخير؛ فأما اذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم " اهـ مجموع الفتاوى (4/312) .
قال الشاعر:
وَأَوَّلُ خبثِ الماءِ خَبثُ تُرابِهِ وَأَوَّلُ لُؤمِ القَومِ لُؤمُ الحَلائِلِ
وليس ذلك كما قلنا من مؤاخذة الإنسان بذنب غيره في شيء؛ وإنما الطبع لص، والأيام دُول، والمعاصي ديون!!
وكما أن الله تعالى يمن على عبده الصالح، ويُقر عينه بصلاح زوجه وذريته، فقد يكون من عقاب العاصي أن يرى شؤم معصيته فسادا في ذريته، أو معصية في أهله، نعوذ بالله من غضبه وشر عقابه.
وأما تأديبه، بل وعقابه لشخص تحت رعايته، وقد وقع في نفس الذنب الذي وقع فيه هو من قبل، فنعم هذا واجب عليه أيضا: أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في بيته فيلزمه أن ينكر على من ولاه الله عليه إذا وقع في المعصية التي هو واقع فيها.
قال العلامة السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب (1/219) : يجب على كل مؤمن مع الشروط المتقدمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو فاسقاً، حتى على جلسائه وشركائه في المصعية. انتهى.
وقال العلامة زكريا الأنصاري رحمه الله في أسنى المطالب (4/180) : " لا يشترط في الآمر والناهي كونه متمثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه أن يأمر وينهى نفسه وغيره، فإن اختل أحدهما لم يسقط الآخر." انتهى.
على أنه سوف يكون عيبا عليه، أي عيب، وشينا في حقه أي شين: أن يأمر الناس بالمعروف وينسى، وينهاهم عن المنكر الذي يأتيه:
قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) البقرة:44،وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) الصف: 2-3.
فليس له من مخرج من تلك الورطة، ولا علاج لذلك الفصام، إلا بالتوبة النصوح، والأخذ بعمل الخير، قبل أن يذوق وبال أمره: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) .
قال الشاعر:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ
تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ
فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/388)
هل يجب الإنكار كلما سمع نغمة الموسيقى في جوالات زملائه
[السُّؤَالُ]
ـ[كثر في كل مكان الموسيقى، وانتشرت حتى في الجولات والهواتف وأماكن العمل والأماكن العامة؛ فهل يأثم من يستمع؟ وهل عليه الإنكار؟ وهل قول الله يهديك إنكار؟ وهل كلما رن جوال احد الزملاء في العمل (مثلاً) يجب الإنكار عليه أم مره واحده تكفي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الاستماع إلى الموسيقى ووضعها في الجوالات والهواتف وأماكن العمل، منكر محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصّ على تحريم المعازف حيث قال: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ... ) الحديث، رواه البخاري (5590) ـ تعليقا.
وفي الحديث دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين؛ أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم: " يستحلون " فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
ثانيا: قرن المعازف مع المقطوع بحرمته وهو الزنا والخمر، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها (السلسلة الصحيحة للألباني 1/140-141 بتصرف) .
وانظر السؤال رقم (5000) ففيه بيان أدلة تحريم استماع المعازف.
ثانيا:
الإثم في استماع المعازف ونحوها من الأصوات المنكرة، إنما هو لمن تعمد ذلك، دون من وصل إلى أذنه بغير قصد منه. قال المناوي رحمه الله: " وينبغي لمن سمعه [يعني: المزمار] سد أذنيه لكن لا يجب لقولهم لو كان بجواره ملاهي محرمة لم يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها بلا قصد " انتهى.
فيض القدير (3/355) .
ثالثا:
يجب إنكار هذا المنكر على قدر الاستطاعة، باليد أو باللسان أو بالقلب؛ لما روى مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) .
وهذا يقتضي الإنكار كلما وجد المنكر، وأمكن إنكاره، ولو تكرر ذلك، إلا أن يوقع صاحبه في حرج، أو يترتب عليه فوات مصلحة له، هي أهم وأعلى من ذلك إنكار ذلك المنكر.
وانظر للأهمية جواب السؤال رقم (96662) .
وقول الناهي عن المنكر مخاطبا فاعله: الله يهديك، هو نوع من الإنكار، ما دام يفهم منه الاعتراض وعدم الرضا على وجود هذا المنكر.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/389)
هل يأثم إن رأى منكراً ولم ينكره؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل أنا محاسَب على كل منكر أراه؟ رأيت مثلا ناساً لا أعرفهم يسبون، أو يتشاجرون، أو رأيت أحداً يسمع الموسيقى، أو سمعت شيئاً خطأ عن السنَّة كحديث ضعيف أو ما شابه ذلك، هل أنا مسئول عنه / عنهم / يوم القيامة إذا لم أنصحهم؟!]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام العظيمة، وقد عدَّها بعض العلماء من أركان الدين، والواجب على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس هذا لطائفة من المسلمين دون آخرين، بل هو واجب على كل من يعلم شيئاً من دين الله تعالى أن يبلِّغه أمراً أو نهياً.
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) آل عمران/110.
وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران/104.
وقال سبحانه وتعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ سورة المائدة الآية. كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة/78، 79.
قال ابن عطية – رحمه الله -:
والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه.
انظر " تفسير القرطبي " (6 / 253) .
ثانياً:
ويُشترط لإقامة هذه الشعيرة شروط لا بدَّ من وجودها، وأكثرها يتعلق بالآمر الناهي، وبعضها يتعلق بذات الشعيرة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
الشرط الأول: أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهي عنه، فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به، ولا ينهي إلا عما علم أن الشرع نهي عنه، ولا يعتمد في ذلك على ذوق، ولا عادة.
الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجَه إليه الأمر أو النهي أم لا؟ فلو رأى شخصاً يشك هل هو مكلف أم لا: لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتى يستفصل.
الشرط الثالث: أن يكون عالماً بحال المأمور حال تكليفه، هل قام بالفعل أم لا؟
فلو رأى شخصاً دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلي ركعتين: فلا يُنكر عليه، ولا يأمره بهما، حتي يستفصل.
الشرط الرابع: أن يكون قادراً على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه، فإن لحقه ضرر: لم يجب عليه، لكن إن صبر وقام به: فهو أفضل؛ لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن/16، وقوله: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) البقرة/286.
الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت، فإن ترتب عليها ذلك: فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (8 / 652 – 654) مختصراً.
ثالثاً:
وإذا علمتَ أخي السائل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان من واجبات الشريعة، وتحققت الشروط الشرعية اللازمة لإقامتهما: فاعلم أن رؤيتك للمنكر وعدم نصحك لصاحبه سبب في ترتب الإثم عليك، إلا أن يقوم غيرك بالإنكار عليه؛ لأنه يكون فرض عينٍ عليك في حال أن تكون رأيت المنكر وليس ثمة من ينصحه غيرك، فإن وُجد غيرك وقام عنك بهذا الشعيرة: فإنه يصير فرض كفاية، يسقط عنك الإثم إذا قام بالواجب غيرك.
قال ابن قدامة – رحمه الله -:
واشترط قومٌ كون المنكِر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي، ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة، وهذا فاسد؛ لأن الآيات والأخبار تدل على أن كل مَن رأى منكراً فسكت عنه: عصى، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم.
" مختصر منهاج القاصدين " (ص 124) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضَ عينٍ، وذلك في حق من يرى المنكر وليس هناك من ينكره وهو قادر على إنكاره، فإنه يتعين عليه إنكاره لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك، ومن أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) أخرجه مسلم في صحيحه.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (3 / 212) .
رابعاً:
ولا فرق بين أن تكون هذه المنكرات في الشارع أو في البيت أو في العمل، فإن استطاع المسلم إنكارها من غير ضرر يلحقه: فلا يُعذر بترك إنكارها.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
فالمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , المؤمن لا يسكت، إذا رأى مِن أخيه منكراً: ينهاه عنه , وهكذا إن رأى مِن أخته أو عمته أو خالته أو غيرهن , إذا رأى منهن منكراً: نهاهنَّ عن ذلك , وإذا رأى مِن أخيه في الله أو أخته في الله تقصيراً في الواجب: أنكر عليه ذلك , وأمره بالمعروف , كل ذلك بالرفق والحكمة، والأسلوب الحسن.
فالمؤمن إذا رأى أخاً له في الله يتكاسل عن الصلوات أو يتعاطى الغيبة أو النميمة أو شرب الدخان أو المسكر أو يعصي والديه أو أحدهما أو يقطع أرحامه: أنكر عليه بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن , لا بالألقاب المكروهة والأسلوب الشديد , وبين له أن هذا الأمر لا يجوز له ... .
كل هذه المنكرات يجب على كل واحد من المؤمنين والمؤمنات والصلحاء إنكارها , وعلى الزوج والزوجة، وعلى الأخ، والقريب، وعلى الجار، وعلى الجليس، وعلى غيرهم القيام بذلك كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) التوبة/71، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) ، , ويقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .
وهذا عام لجميع المنكرات، سواء كانت في الطريق , أو في البيت، أو في المسجد، أو في الطائرة، أو في القطار، أو في السيارة، أو في أي مكان , وهو يعم الرجال والنساء جميعاً , المرأة تتكلم، والرجل يتكلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن في هذا صلاح الجميع ونجاة الجميع.
ولا يجوز السكوت عن ذلك من أجل خاطر الزوج أو خاطر الأخ أو خاطر فلان وفلان , لكن يكون بالأسلوب الحسن والكلمات الطيبة , لا بالعنف والشدة , ومع ملاحظة الأوقات المناسبة , فقد يكون بعض الناس في وقت لا يقبل التوجيه ولكنه في وقت آخر يكون متهيئا للقبول , فالمؤمن والمؤمنة يلاحظان للإنكار والأمر بالمعروف الأوقات المناسبة ولا ييأس إذا لم يقبل منه اليوم أن يقبل منه غدا , فالمؤمن لا ييأس , والمؤمنة لا تيأس , بل يستمران في إنكار المنكر , وفي الأمر بالمعروف وفي النصيحة لله ولعباده مع حسن الظن بالله والرغبة فيما عند الله عز وجل.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (4 / 50) .
خامساً:
وهل معنى ذلك أنه يجب عليه الإنكار على كل حالقٍ للحيته، وكل مسبلٍ لإزاره، وكل شاتم وساب يسمعه؟ وهل يجب عليه التقاط كل ورقة فيها اسم الله من الشارع؟ وهل يجب عليه الوقوف لكل خطيب يسمعه يحكي حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً؟
الجواب في كل ذلك - وما يشبهه -: لا، لا يجب عليه فعل ذلك؛ لتعذر هذا القيام بهذه الأمور من كل داعية إلى الله، وخاصة أن أكثر من يراهم يفعلون المنكرات قد علموا حكم الله تعالى في فعلهم، وقد أقيمت عليهم الحجة، ولو أن الشرع أوجب عليه فعل ذلك لأفنى عمره في الوقوف مع أولئك العاصين ونصحهم على حساب القيام بمصالحه ومعاشه، وهو مما لا يمكن أن تأت به الشريعة.
قال علماء اللجنة الدائمة:
يكفيك للخروج من الإثم والحرج: أن تنصح الناس بعدم استعمال ما ذكر فيما فيه امتهان، وأن تحذرهم من إلقاء ذلك في سلات القمامة، وفي الشوارع، والحارات، ونحوها، ولست مكلفاً بما فيه حرج عليك مِن جعل نفسك وقفاً على جمع ما تناثر من ذلك في الشوارع ونحوها، وإنما ترفع من ذلك ما تيسر منه دون مشقة وحرج.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 73 – 75) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية , إذا قام به مَن يكفي سقط عن الناس , وإذا لم يقم به من يكفي: وجب على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر , لكن لابد أن يكون بالحكمة، والرفق، واللين؛ لأن الله أرسل موسى وهارون إلى فرعون وقال: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه/44، أما العنف: سواء كان بأسلوب القول، أو أسلوب الفعل: فهذا ينافي الحكمة , وهو خلاف ما أمر الله به.
ولكن أحياناً يعترض الإنسان شيء يقول: هذا منكر معروف , كحلق اللحية مثلاً , كلٌّ يعرف أنه حرام - خصوصاً المواطنون في هذا البلد - , ويقول: لو أنني جعلتُ كلما رأيت إنساناً حالقاً لحيته - وما أكثرهم - وقفتُ أنهاه عن هذا الشيء: فاتني مصالح كثيرة , ففي هذه الحال: ربما نقول بسقوط النهي عنه؛ لأنه يفوِّت على نفسه مصالح كثيرة , لكن لو فرض أنه حصل لك اجتماع بهذا الرجل في دكان أو في مطعم أو في مقهى: فحينئذٍ يحسن أن تخوفه بالله , وتقول: هذا أمر محرم، وأنت إذا أصررت على الصغيرة صارت في حقك كبيرة , وتقول الأمر المناسب.
" لقاءات الباب المفتوح " (110 / السؤال رقم 5) .
ونحن نأسف جدّاً على المسلمين الذين عصوا ربهم تعالى في لباسهم وسلوكهم وأفعالهم وأقوالهم، ونحن نحث كل من استطاع أن يوصل رسالة الإسلام الصافية لهؤلاء أن يفعل، وحيث يسمع المسلم أو يرى منكراً ويستطيع إنكاره أو تغييره فليفعل، ولا يجب عليه ذلك في كل منكرٍ يراه أو يسمعه، ولا شك أن المنكرات تتفاوت فيما بينها من حيث عظمها وقبحها، وتتفاوت فيما بينها من حيث كونها تتعدى للآخرين أو يكون أثرها على العاصي نفسه فقط، فحيث قبحت المعصية أو عظمت فالإنكار يتحتم على المسلم أكثر من المعاصي التي يقل قبحها وتخف عظمتها، فمن سمع من يسب الله أو الدين، فليس إثم ذلك وقبحه كمن سمع من يسب شخصاً من خصومه.
وحيث تتعدى المعصية للآخرين فيتحتم الإنكار أكثر مما لو كان أثرها على العاصي نفسه، وهكذا، والمهم في كل ذلك أن يبقى قلب المسلم حيّاً ينكر المنكر حيث يعجز عنه بيده أو لسانه، ومن استطاع تغيير المنكر بيده ولسانه فلا يقصِّر في ذلك.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
والإنكار بالقلب فرض على كل واحد؛ لأنه مستطاع للجميع، وهو بغض المنكر، وكراهيته، ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد واللسان؛ لقول الله سبحانه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأنعام/68، وقال تعالى في سورة النساء: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) الآية، النساء/140، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) الفرقان/72، ومعنى لا يشهدون الزور لا يحضرونه.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (3 / 212، 213) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/390)
حكم الجلوس في مقهى يقدم فيه الحلال والحرام كالشيشة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الجلوس في المقهى الذي يقدم الحلال كالمشروبات والحرام كالشيشة جائز مع العلم أني أطلب الحلال فقط؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز الجلوس في محل يعلن فيه بالمعصية، إلا لمن اضطر إلى ذلك، لأن إنكار المنكر باليد واللسان والقلب أمر واجب، والجلوس في مكان المنكرات وعدم إنكارها يتنافى مع ذلك، وقد قال الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) النساء/140.
قال القرطبي رحمه الله: " قوله تعالى: (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) أي غير الكفر. (إنكم إذا مثلهم) : فدل هذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل (إنكم إذا مثلهم) فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء.
وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوماً يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم فحمل عليه الأدب (أي: عاقبه) وقرأ هذه الآية: (إنكم إذا مثلهم) أي إن الرضا بالمعصية معصية " انتهى.
وقال الجصاص في "أحكام القرآن" (2/407) : ". وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن مِنْ إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها " انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " والإنكار بالقلب فرض على كل واحد، وهو بغض المنكر وكراهيته، ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد واللسان؛ لقول الله سبحانه: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام/68" انتهى نقلا عن: "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (16/142) .
ثم إنه يخشى على من جلس في هذه الأماكن أن يضعف إيمانه، وأن تذهب الغيرة من قلبه، وربما دعاه الشيطان إلى مقارفة شيء من المعصية، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) النور/21.
لكن ... إذا احتاج المسلم إلى الجلوس في مكان كهذا، كما لو كان مسافرا ولم يجد مكانا يستريح فيه إلا ذلك المكان، فله الجلوس فيه، على أن يبعد عن أهل المعاصي بقدر استطاعته، ويكون جلوسه بقدر ما يحتاج فقط، ثم يقوم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/391)
هل يحذر أصحابه من الاستماع لهذا الداعية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أحذر أصدقائي من سماع أحد الدعاة ولي أسباب هي: 1:- أنه قال إن إبليس لم يكفر. 2:- قوله إن الله سوف يدخل الفنانين الجنة بفنهم. 3:- قوله إن اليهود ليسوا أعداءنا. وأنا لم أقل ذلك عليه من فراغ، ولكني استمعت لأحاديثه وهو يقول بذلك، فإن كان ذلك حراما فأريد أن أعرف. وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نشكر لك حرصك وغيرتك على الإسلام، ولكن لا بد هنا من ذكر بعض القواعد المهمة التي ينبغي لكل مسلم التوقف عندها:
أولا:
باب الكلام في الناس باب خطير، والحكم عليهم بالمدح أو الذم أمر جليل، تهيب خوض غماره كثير من العلماء، فإن الغيبة من موبقات الذنوب، ويتعاظم إثمها إذا كانت غيبة للدعاة أو العلماء أو المصلحين.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رواه مسلم (2564)
قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح" (34) :
" أعراضُ المسلمين حُفْرَةٌ من حُفَرِ النار " انتهى.
وقد أصبح الاشتغال بأخطاء الآخرين ومتابعتها آفة ابتلي بها الناس اليوم، وقد كان الأحرى بهم السعي في تحصيل العلم النافع والاجتهاد في صالح الأقوال والأعمال.
ومع ذلك فإن الغيبة تكون جائزة، بل قد تكون واجبة، إذا كانت لتحذير المسلمين من شر فاسق أو ضال أو مبتدع.
الناس جميعا - والدعاة والعلماء منهم - ليسوا معصومين من الخطأ، بل لم يسلم من الخطأ أحد من البشر.
غير أن هذه الأخطاء على نوعين:
الأول: أخطاء واضحة لمخالفة النصوص الصريحة أو الظاهرة، أو مخالفة إجماع الأمة، فهذا الخطأ يجب بيانه، ولا يجوز السكوت عنه.
النوع الثاني: أخطاء في مسائل اجتهادية، كتلك التي لم ترد فيها نصوص قطعية أو ظاهرة تدل على حكمها، ولكن ورد فيها نصوص محتملة في دلالتها، أو مختلف في صحتها، أو ليس فيها نصوص أصلا، وإنما هي قضايا اجتهادية عند أهل العلم، على ما هو معروف في بابه؛ فهذه لا يجوز إنكارها، ولا التشنيع على القائل بها، وإن كان لا يُمنع من التباحث فيها وبيان الصواب من غيره، كلٌّ حسب ما يراه.
وأما الطعن في الشخص نفسه والتحذير منه، فذلك يختلف باختلاف الأشخاص وحجم الأخطاء التي وقعوا فيها، ومدى استفادة المسلمين من دعوته، فإذا كان الرجل يدعو إلى منهج غير منهج أهل السنة والجماعة، ويحارب منهج أهل السنة، ويمدح غيره من المناهج، أو ينطلق في منهجه ـ وإن لم يصرح بذلك ـ من أصول بدعية؛ فهذا ـ إن كان عنده خير ـ إلا أن شره أعظم من خيره، فيجب التحذير منه، حتى لا ينخدع الناس بكلامه، ويكون سببا في إضلالهم.
ومن الناس ـ الدعاة ـ من ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، ولا يدعو إلى منهج آخر، ولكنه كثرت أخطاؤه وشذوذاته، حتى صارت سيئات دعوته تربو على حسناته، وأخطاؤه أكثر من صوابه، فهذا أيضا يجب التحذير منه.
وقسم ثالث من الناس، ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، وله بعض الأخطاء ـ التي لا يخلو منها بشر ـ إما عن تأويل أو اجتهاد خاطئ أو ضعف في العلم، أو دعوى المصلحة....إلخ، ولكنه في الجملة متمسك بالسنة داع إليها مدافع عنها، وحسناته أكثر من سيئاته، وانتفاع الناس بدعوته أكثر من الضرر الحاصل على بعضهم في اتباعه في هذه الأخطاء، فهذا يجب بيان أخطائه تحذيرا للناس، ونصحا لهم، وإنكارا للمنكر، ولكنه لا يجوز أن يتعدى ذلك إلى الطعن في الشخص نفسه، أو محاولة إسقاطه وتحذير الناس من استماعه أو الأخذ منه، أو الحمل عليه ـ تأولا ـ بأخطاء لم يصرح بها في كلامه؛ فإن المنصف من يغتفر قليل زلل المرء في كثير صوابه، ومَنْ مِنَ الناس هو الذي يصيب دائما ولا يخطئ؟
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
فقد دار حديثنا هنا ـ أيها الأخ الكريم ـ على أصول مهمة يجب البناء عليها عند النظر والحكم على الآخرين:
الأصل الأول: النظر إلى أصول الشخص، ومنطلقه في علمه وعمله؛ فمن كان قصده متابعة الرسول، وتعظيم شرعه، ظاهرا وباطنا، فهذا يغتفر له، إن شاء الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في معرض كلامه عن أبي ذر الهروي، والباقلاني والباجي، وغيرهم من علماء الأشاعرة:
" ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.
لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة [يعني: نفي الأفعال الاختيارية، والأمور المتعلقة بمشيئة الله تعالى] وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين؛ وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها!!
وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء؛ بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاو لهم عن السيئات: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 10) .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286)
ومن اتبع ظنه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ، ظنه صوابا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة؛ فإنه يلزمه نظير ذلك، أو وأعظم أو أصغر، فيمن يُعَظِّمُه هو من أصحابه؛ فقلَّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب.. " انتهى.
درء تعارض العقل والنقل (2/102-103) .
الأصل الثاني: إذا عرف أن أصله تعظيم شرع الله، واتباع رسوله، ظاهرا وباطنا، فإنه يوزن قوله وعمله بميزان الكتاب والسنة، وموازنة حسناته وسيئاته، على ما سبق الإشارة إليه.
يقول شيخ الإسلام، رحمه الله:
" وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد؛ فإن الأمر والنهى وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورا به؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة؛ فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تُعْوِز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعا أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر؛ بل ينظر:
فإن كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وزوال فعل الحسنات!!
وان كان المنكر اغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الامر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه، أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله!!
وان تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما؛ فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي؛ حيث كان المنكر والمعروف متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وأما من جهة النوع: فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا.
وفي الفاعل الواحد، والطائفة الواحدة: يؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويُذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه.
وإذا اشتبه الأمر: استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق؛ فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا؛ فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية؛ وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله!! " انتهى.
الاستقامة (2/216-219) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" (7/311-315) :
"وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلا للاجتهاد , فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن , حرصا على الوصول إلى الحق من أقرب طريق، ودفعا لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين.
فإن لم يتيسر ذلك , ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة , ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا) " انتهى.
والله أعلم.
الأصل الثالث: ألا يكون الكلام إلا بما هو فيه فعلا، وإلا كان بهتانا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لمن سأله عن الغية:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!!
قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ!!
قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟
قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ!!) رواه مسلم (2589) .
سئل شيخ الإسلام رحمه الله:
هل يجوز غيبة تارك الصلاة أم لا؟
فأجاب:
" الحمد لله؛ إذا قيل عنه إنه تارك الصلاة، وكان تاركها، فهذا جائز، وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويُهجر حتى يصلي، وأما مع القدرة فيجب أن يُسْتتاب؛ فإن تاب وإلا قُتِل!!) انتهى.
آثار شيخ الإسلام (5/122) .
ويجب التنبه أيضا إلى أن كثيراً من هؤلاء الدعاة دعوتهم موجهة في الأصل إلى عامة المسلمين، الذين قد يكون كثير منهم تاركاً للصلاة أو متهاوناً بها، أو منغمسا في المعاصي والموبقات، فإقبال هؤلاء وأمثالهم على أولئك الدعاة واستمالتهم إليهم وهدايتهم على أيديهم فيه خير كثير، وهو خطوة أو خطوات إلى الأمام، فليس من الحكمة الكلام مع أمثال هؤلاء عن أولئك الدعاة وتحذيرهم منهم، لأن كثيرا من هؤلاء يكون أمامه خياران اثنان، إما أن يبقى مع هؤلاء الدعاة، وإما أن يعود إلى ما كان عليه، ولا شك أن بقاءه مع هؤلاء الدعاة خير له،
ولكن الواجب على أهل الحق بعد ذلك أن يتعاهدوا هؤلاء، ويأخذوا بأيديهم إلى منهج أهل السنة شيئا فشيئا.
وما ذكرته من الأخطاء عن الشخص المعين، يجب تحذير المسلمين منها، وتنبيههم إلى مخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله، بل وإجماع المسلمين؛ ثم ينظر في منهجه في دعوته، في ضوء الأصل العام الذي سبق ذكره، وإن أمكن لمن فيه علم وانتباه ودين أن ينتفع في نفسه، أو ينفع غيره، بما عند هذا الشخص وأمثاله من الخير، ويحذر في نفسه , ويحذر غيره، مما عنده من خطأ أو بدعة، فهو حسن إن شاء الله تعالى؛ وإلا ففي الخير الخالص أو الغالب ما يغني عنه إن شاء الله:
خُذ ما تَراهُ وَدَع شَيئاً سَمِعتَ بِهِ في طَلعَةِ الشَمسِ ما يُغنيكَ عَن زُحَلِ
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/392)
هل يهجر زميله في العمل الذي يفعل المحرمات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[شيخنا الفاضل لدي زميل بالعمل (أجنبي الجنسية) تأذيت كثيراً من كلماته، وشتمه للغير، وحتى رقصات أنغام جواله التي طالما آذاني بها، وعندما حدثته بذلك قال: هذا ليس من شأنك، وأنا الآن قطعت العلاقة معه بسبب موقف بيننا، وإذا دخلت مكتبي أسلم بصوت عال، ولا يرد، وإذا دخل هو لا يسلم، فهل أنا ملزم بأن أمد يدي لمصافحته، علماً بأنني رأيت بعيني أنه لا يهتم، وسبق أن صافحه أحدهم وهو جالس ولم يكلف نفسه حتى بالوقوف بسبب زعل منه على ذاك الرجل، فهل الإسلام يجبرني على أن أصافحه وهو بهذه الأخلاق التي ذكرت؟ علماً أنه لا يتكلم مع أشخاص آخرين في العمل، وأنا لست أول من يفعل هذا معه. أرجو الإجابة لأني أحس بتأنيب ضمير، وأخاف من حديث " لا يرفع العمل بسبب الخصومة "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الهجر الذي يكون بين متخاصمين من المسلمين نوعان:
الأول: هجر لحظِّ النفس، أو على أمرٍ دنيوي.
والثاني: هجر لحقِّ الله، بأن يكون من أجل وقوع المهجور في بدعة أو معصية.
وحكم الهجر الأول: أنه غير مشروع، بل هو منهي عنه.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ) .
رواه البخاري (5726) ومسلم (2559) – واللفظ له -.
وهذا الهجر لا يجوز أكثر من ثلاث ليال كما سبق في الحديث.
وأما حكم الهجر الثاني: فهو هجر مشروع، وله أدلته من السنَّة، وقد فعله الصحابة، ومن بعدهم من أئمة الدين، وله شروط وضوابط في كلام أهل العلم.
فقد هجر النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر، وقد جاء حديثهم الطويل في الصحيحين من حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه – وهو أحد الثلاثة.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في سياق ذِكر فوائد الحديث:
وفيها: ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث: فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيّاً ... .
وفيها: سقوط رد السلام على المهجور عمَّن سلَّم عليه؛ إذ لو كان واجباً: لم يقل " كعب " هل حرَّك شفتيه – أي: النبي صلى الله عليه وسلم - برد السلام.
" فتح الباري " (8 / 124) .
فيتبين لنا من سياق الحديث – ولم نسقه لطوله – أن من أحكام الهجر الشرعي: جواز ترك إلقاء السلام وترك ردِّه على صاحب المعصية – وصاحب البدعة أولى -، وأن هجره غير محدد بوقت، بل يكون ذلك إلى أن يتوب، أو حيث يرى الهاجر المصلحة في ذلك – كما سيأتي -، وبه تعلم أن ترك مصافحتك لذلك العاصي، بل ترك للسلام عليه بلسانك أنه ليس فيها محذور شرعي عليك، وإليك ما يزيد الأمر توكيداً:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
ومَن عُرف منه التظاهر بترك الواجبات، أو فعل المحرمات: فانه يستحق أن يُهجر، ولا يسلَّم عليه تعزيراً له على ذلك حتى يتوب.
" مجموع الفتاوى " (23 / 252) .
لكن لا بدَّ من التنبيه على أن الهجر للعاصي والمبتدع إنا شرِع لحكمٍ عظيمة، ومنها أن هجره هو لتأديبه حتى يترك معصيته وبدعته، وكذا شُرع تنبيهاً لغيره أن يقع في المعصية أو البدعة، وحيث كان الهجر غير مجدٍ مع هذا العاصي، أو أنه سيزيده طغياناً: فلا ينبغي الهجر؛ لما يترتب عليه من آثار سيئة على المهجور، أو أنه لن يتحقق ما شُرع الهجر من أجله، وهنا يكون التأليف لقلب هذا العاصي أنفع من الهجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم، وضعفهم، وقلتهم، وكثرتهم؛ فإن المقصود به: زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله.
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته: كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته: لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم؛ لما كان أولئك كانوا سادة مُطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
" مجموع الفتاوى " (28 / 206) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
ما ضابط هجر العاصي الذي لم تظهر معصيته علانية للناس إذا كان في هجره مصلحة؟ .
فأجاب:
الضابط: أن هجر العاصي إن كان فيه مصلحة بحيث يرجع العاصي عن معصيته: فليهجر، وأما إذا لم يكن فيه مصلحة: فهجره حرام؛ لأن العاصي مسلم، ولو فعل ما فعل من الكبائر، إلا الكفر إذا كَفَر، هذا معلوم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، ويعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) ، فلا تهجره؛ ولأن بعض العصاة إذا هجرته: زاد في معصيته، وكرِهك أيضاً، ولم يقبل منك أي نصيحة، أما لو كان هجره ينفع، كما لو كان أحد الأبناء، أو أحد الإخوة وهو يقدِّرك، وإذا هجرته ارتدع: فهنا اهجره حتى يرتدع، فإن أخلف الظن - بمعنى: أنك هجرته ولكنه لم يرتدع -: فعُد، وسلِّم عليه، ولا تنس النصيحة.
" لقاءات الباب المفتوح " (231 / السؤال رقم 9) .
فأنت أخي السائل إن رأيتَ أن تركك للسلام عليه سيؤثر فيه، وسيرتدع عن معاصيه بسببه: فاستمر على هجرك له، واترك إلقاء السلام، وردِّه إن سلَّم، وإن رأيتَ أن ذلك غير نافعه: فاعلم أن تأليفك لقلبه بالهدية، والتبسم في وجهه، والتلطف في مخاطبته أنفع من هجره، فاعمل على ذلك، فإن أبى منك ذلك، ولم يتجاوب معك: فليس عليك شيء، ولست ملوماً في ذلك.
وفي مسند الإمام أحمد (15823) عن هِشَامَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَإِنْ كَانَ تَصَارَمَا فَوْقَ ثَلاثٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنْ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صُرَامِهِمَا وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا فَسَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ فَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا!!) صححه الألباني في الصحيحة 1246
نسأل الله تعالى أن يكتب لنا ولك الأجر، وأن يهدينا وإياكم لما يحب ويرضى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/393)
جماعة التبليغ ما لها وما عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الجماعات التي تقضي أربعة أشهر وأربعين يوماً في مختلف أنحاء العالم لدعوة المسلمين إلى واجباتهم الدينية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" جماعة التبليغ " من الجماعات العاملة للإسلام، وجهدها في الدعوة إلى الله لا يُنكر، ولكنها مثلها مثل كثير من الجماعات تقع في أخطاء، وعليها ملاحظات، ويمكن إجمال الملاحظات بما يلي مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأخطاء تختلف في الجماعة نفسها بحسب البيئة والمجتمع الموجودة به، ففي المجتمعات التي يظهر فيها العلم والعلماء وينتشر مذهب أهل السنة والجماعة تقل أخطاؤهم إلى حد بعيد، وفي مجتمعات أخرى قد تزيد هذه الأخطاء، فمن أخطائهم:
1. عدم تبني عقيدة أهل السنة والجماعة، وذلك واضح في تعدد عقائد أفرادها بل بعض قادتها.
2. عدم اهتمامهم بالعلم الشرعي.
3. تأويلهم للآيات القرآنية ونقلهم لمعانيها على غير مراد الله تعالى، ومن ذلك تأويلهم لآيات الجهاد بأن المقصود بها " الخروج للدعوة "، وكذا الآيات التي فيها لفظ " الخروج " ومشتقاته إلى الخروج في سبيل الله للدعوة.
4. جعلهم الترتيب الذي يحددونه في الخروج متعبَّداً به، فراحوا يستدلون بالآيات القرآنية ويجعلون المقصود منها ما يحددونه من أيام وأشهر، ولم يقتصر الأمر على مجرد الترتيب بل ظل بينهم شائعاً منتشراً مع تعدد البيئات وتغير البلدان واختلاف الأشخاص.
5. وقوعهم في بعض المخالفات الشرعية من نحو جعلهم رجلاً منهم يدعو أثناء خروج الجماعة للدعوة إلى الله، ويعلقون نجاحهم وفشلهم على صدق هذا الداعي والقبول منه.
6. انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، وهذا لا يليق بالذي يتصدى للدعوة إلى الله.
7. عدم كلامهم عن " المنكرات "، ظناً منهم أن الأمر بالمعروف يغني عنه، ولذا نجدهم لا يتكلمون عن المنكرات الفاشية بين الناس مع أن شعار هذه الأمة – وهم يرددونه باستمرار – {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران / 104، فالمفلحون هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وليس فقط من يأتي بأحدهما.
8. ما يقع من بعضهم من الإعجاب بالنفس والغرور ويؤدي به ذلك إلى ازدراء غيره – بل والتطاول على أهل العلم ووصفهم بأنهم قاعدون ونائمون - ووقوعه في الرياء، فتجده يتحدث أنه خرج وسافر وانتقل وأنه رأى وشاهد، وهو يؤدي إلى وقوعه فيما لا يحمد مما ذكرنا.
9. جعلهم الخروج للدعوة أفضل من كثير من العبادات كالجهاد وطلب العلم، مع أن ما يفضلونه عليه هو من الواجبات أو قد يصير واجباً على أناس دون غيرهم.
10. جرأة بعضهم على الفتوى والتفسير والحديث، وذلك واضح في كونهم يجعلون كل واحد منهم يخاطب الناس ويبين لهم، وهو يؤدي إلى جرأة هؤلاء على الشرع، فلن يخلو كلامه من بيان حكم أو حديث أو تفسير آية، وهو لم يقرأ في ذلك شيئاً، ولم يسمع أحداً من العلماء لينقل عنه، وبعضهم يكون من المسلمين أو المهتدين حديثاً.
11. تفريط بعضهم في حقوق الأبناء والزوجة، وقد بيَّنا خطر هذا الأمر في جواب السؤال رقم (3043) .
لذا فإن العلماء لم يجوزوا الخروج معهم إلا لمن أراد أن يفيدهم ويصحح الأخطاء التي تقع منهم.
ولا ينبغي لنا أن نصد الناس عنهم بإسقاطهم بالكلية بل علينا أن نحاول إصلاح الخطأ والنصيحة لهم حتى تستمر جهودهم وتكون صائبة على وفق الكتاب والسنة.
وهذه فتاوى بعض العلماء في " جماعة التبليغ ":
1. قال الشيخ عبد العزيز بن باز:
فإن جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة، فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنّة والجماعة حتى يرشدهم وينصحهم ويتعاون معهم على الخير لأنهم نشيطون في عملهم لكنهم يحتاجون إلى المزيد من العلم وإلى من يبصرهم من علماء التوحيد والسنَّة، رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (8 / 331) .
2. قال الشيخ صالح الفوزان:
الخروج في سبيل الله ليس هو الخروج الذي يعنونه الآن، الخروج في سبيل الله هو الخروج للغزو، أما ما يسمونه الآن بالخروج فهذا بدعة لم يرد عن السلف.
وخروج الإنسان يدعو إلى الله غير متقيد في أيام معينة بل يدعو إلى الله حسب إمكانيته ومقدرته، بدون أن يتقيد بجماعة أو يتقيد بأربعين يوماً أو أقل أو أكثر.
وكذلك مما يجب على الداعية أن يكون ذا علم، لا يجوز للإنسان أن يدعو إلى الله وهو جاهل، قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة} ، أي: على علم لأن الداعية لابد أن يعرف ما يدعو إليه من واجب ومستحب ومحرم ومكروه ويعرف ما هو الشرك والمعصية والكفر والفسوق والعصيان يعرف درجات الإنكار وكيفيته.
والخروج الذي يشغل عن طلب العلم أمر باطل لأن طلب العلم فريضة وهو لا يحصل إلا بالتعلم لا يحصل بالإلهام، هذا من خرافات الصوفية الضالة، لأن المل بدون علم ضلال، والطمع بحصول العلم بدون تعلم وهم خاطئ.
من كتاب " ثلاث محاضرات في العلم والدعوة ".
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/394)
أفقد أعصابي مع المدخنين فماذا أفعل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالبة مسلمة تغضب بسرعة على المدخنين. أنا أفقد أعصابي عندما يُدخن أي شخص أمامي. أعلم أن ما أفعله من الأنانية، لكن الدخان يُضايقني ويسبب لي صعوبة في التنفس، وتتورم عيناي، وأشعر بالدوار منه. والدتي تقول لي إنّ عليّ أن أتحكم في نفسي، لكني أرد دائما بالقول: " إن ذلك ليس خطئي "، لكن هل علي أن أتحكم في نفسي؟ أحاول تحقيق ذلك لكني لا أستطيع. لقد قرأت كل ما ورد على موقعك، لكن يظهر أني لا أستطيع أن أتحكم في أعصابي. هل هناك أي شيء يمكنني فعله؟ أم أن فعلي ذلك هو من الخطأ الذي يغفره الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الدخان من المحرمات ولمعرفة الدليل على تحريمه انظري السؤال رقم (1812) (10922)
ثانياً:
لو كان كل إنسان يستطيع العيش في هذه الدنيا على حسب ما يريد وكيفما يشتهي لم يكن في هذه الدنيا بلاء ولا صحّ وصفها بالكدر، ولا وجدت هنالك المشكلات التي تحتاج إلى حل وعلاج ولكن الحقيقة أنها امتزجت حلاوة ومرارة وعذوبة وجفاء، وكلنا يسعى جاهداً في تطبيع حياته وتذليلها وفق مايريد وتشتهي نفسه ويتمنى من الآخرين أن يفهموا ذلك منه، ولكن دون ذلك عقبات وعقبات وهذه هي حقيقة الدنيا التي مهما تمتعنا فيها فمآلها ومنتهاها الكدر والأسى.
إن مشاعر الغضب التي تنتابك كردة فعل لمن يدخن أمامك هي مشاعر واقعية لها ما يبررها في الأصل والحقيقة، بل إنني أزيد فأقول إن جمهور العقلاء يوافقونك طبعاً وسجيةً على هذه المشاعر التي تنبع من الحياة الطبيعية واستهجان القبائح من الأعمال الرذيلة الدنيئة ناهيك عن كونك تتضررين جسدياً من هذا الدخان.
بيد أن الإنسان لابد وأن يفقه كيف يمكنه التعبير عن مشاعره تجاه الأشياء والمواقف التي يُحس أنها لا تتلائم مع تفكيره وسجيته , وحيث استطاع الإنسان أن يتجاوز هذه العقبة بنجاح فإنه يكون قد خطى الخطوة الصحيحة نحو الهدف المنشود.
ومن هنا لابد وأن نعلم أن الناس لا تستجيب لرغبة الآمر على وجه الإجبار والسلطة , بل تبتعد عن صاحب ذلك الطبع بعيداً مع إيمانها بأن ما يقول أو يطلب هو في نفسه صحيح مقبول.
إن مجرد شعورك بالغضب تجاه هؤلاء للأسباب التي ذكرتِ أمر مقبول، ولكن الغضب وحده لايأتي بنتيجة مرضية في أغلب الأحوال، وإن السيطرة على الأعصاب والمشاعر والبحث عن إيصالها بالطريق المناسب يوصل الإنسان لمُراده من أقصر الطرق وأسهلها، فهل جربت أن عبرت عن مدى استيائك من الدخان وما يسببه لك من الأضرار بأسلوب الهدوء والاستئذان؟
إن معظم المدخنين إذا طُلب منهم الإقلاع عنه بأسلوب هادئ يشرح السبب ويقدم العذر الغالب أنهم يستجيبون على الفور.
وعلى العكس من ذلك فإنهم يردون على من أساء نصحهم بأسوأ من ذلك إلا من رحم الله , وإذا كان الإنسان يهمه الوصول إلى طلبه فلابد أن يتحلى بالصبر والأناة وحسن المنطق والحوار.
لقد تساءلت " هل علي أن أتحكم في نفسي " قطعاً سوف يكون الجواب نعم، مع هؤلاء ومع غيرهم من الناس، فكم في الدنيا مما يثير الغضب؟
إن ضبط النفس والمشاعر لابد وأن يكون من أولويات تفكيرك وأهدافك، ولقد أرشدنا نبينا الكريم الرحيم عندما جاءه ذلك الرجل فقال له: يا رسول الله أوصني فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تغضب، فردد الرجل السؤال مراراً، فقال الرسول له لا تغضب) رواه البخاري (6116)
وكيف سيعيش الإنسان لو لم يتحل بالصبر؟
حاولي التحكم في أعصابك بكل طريق ممكن، حاولي إنتقاء الصديقات اللواتي يساعدنك على ضبط النفس والتحلي بالصبر.
ابتعدي عن كل ما يدعو إلى إغضابك ويستثير أعصابك، من الأصدقاء والزملاء، وحاولي قدر الإمكان اجتناب المواقف المهيجة للغضب.
استعيني أولاً وآخراً بالدعاء وسؤال الله تعالى أن يلهمك الصبر على كل شيء.
ولا تقولي إنك لا تستطيعين أن تتحكمي في أعصابك، فإن الإحساس بالفشل وهمٌ ربما قاد إلى أن يصبح حقيقة مع الاستسلام له والرضى به.
وأنت بعزيمتك وصدق نيتك سوف تصلين بإذن الله تعالى إلى ما تريدين، هذا مع العلم بأنك ربما تعانين من ذلك في البداية ولكن ثقي أنك سوف تسيطرين على نفسك في النهاية وأن ذلك المر والعناء سوف يستحيل عسلاً يوم تجنين ثمرته.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/395)
هل ينضم لحزب إسلامي في بلد علماني؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لدينا حزب سياسي إسلامي في بلادنا، شعاره هو إقامة الإسلام في البلاد، من خلال الحصول على الحقوق القانونية لممارسة السلطة في البلاد، وكوني من أبناء هذا البلد الذي لا يكاد يوجد فيه شخص يتبع الإسلام، والمحرمات تنتشر بسبب نقص الإيمان لدى الأحزاب السياسية الأخرى ولدى معظم الناس، فهل في هذا الوضع يكون فرضا أن ننضم إلى هذا الحزب السياسي الإسلامي الذي يعطي الأمل بأنه إذا أيدناه وانضممنا إليه فإنه بذلك يمكن إقامة الإسلام، هذا مع العلم بأن أسرتي تمنعني من الانضمام إلى هذا الحزب، ولكن فلسفة الحزب تشدني إليه، أرجو النصيحة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أوجب الإسلام على أتباعه أن يكونوا مجتمعين على الحق، وحذَّرهم من الفرقة، وأخبرهم التنازع والتفرق بعد العلم بالحق هو سبيل غير المسلمين، وهو كفيل بإحداث الفشل وذهاب القوة، وهو ما يجعلهم فريسة سهلة المنال من المتربصين بالإسلام.
قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران/103.
وقال ابن كثير - رحمه الله -:
وقوله: (وَلا تَفَرَّقُوا) : أمَرَهُم بالجماعة، ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ) ، وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا، وخِيفَ عليهم الافتراق، والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
" تفسير ابن كثير " (2 / 89، 90) .
وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران /104،105.
ثانياً:
لا يجوز للمسلم الانضمام إلى الأحزاب المخالفة للدين أو المحاربة له، كالأحزاب العلمانية أو القومية أو الشيوعية؛ لأن في الانضمام إليهم إقراراً بضلالهم وكفرهم، وتكثيراً لسوادهم.
قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام/153.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) الأنعام/159.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيباً من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئاً، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية، أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئاً ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة.
ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية.
وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي: لست منهم، وليسوا منك؛ لأنهم خالفوك وعاندوك.
(إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) يرِدون إليه، فيجازيهم بأعمالهم، (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) .
" تفسير السعدي " (ص 282) .
ثالثاً:
لا مانع للمسلمين من إقامة جمعيات خيرية وإصلاحية لتقوم بالدعوة إلى الله من خلالها، أو بأعمال الخير عموماً، على أن لا يكون تعصب للاسم أو للآراء بما يحدث فرقة في صف المسلمين.
رابعاً:
لا يجوز للمسلمين تكوين أحزاب وجماعات تقوم على التعصب لآرائها، والتحزب لقياداتها؛ لما في ذلك من الوقوع في التفرق الذي نهينا عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وليس للمعلِّمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) .
وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ايريده، وموالاة مَن يواليه، ومعاداة مَن يعاديه، بل من فعل هذا: كان من جنس " جنكيزخان " وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا والي، ومن خالفهم عدوّاً باغي، بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرْعَوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله.
" مجموع الفتاوى " (28 / 15، 16) .
وقال – رحمه الله -:
ومن حالف شخصاً على أن يوالي مَن والاه، ويعادي من عاداه: كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان! ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان، ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى، ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرتَ الحق، وإن كنتُ على الباطل: لم تنصر الباطل، فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا.
" مجموع الفتاوى " (28 / 20، 21) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
أما الانتماءات إلى الأحزاب المحدثة: فالواجب تركها , وأن ينتمي الجميع إلى كتاب الله وسنَّة رسوله , وأن يتعاونوا في ذلك بصدق وإخلاص , وبذلك يكونون من حزب الله الذي قال الله فيه سبحانه في آخر سورة المجادلة (أََلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بعدما ذكر صفاتهم العظيمة في قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الآية.
ومن صفاتهم العظيمة: ما ذكره الله عز وجل في سورة الذاريات في قول الله عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) فهذه صفات حزب الله لا يتحيزون إلى غير كتاب الله والسنَّة، والدعوة إليها، والسير على منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان.
فهم ينصحون جميع الأحزاب وجميع الجمعيات ويدعونهم إلى التمسك بالكتاب والسنة , وعرْض ما اختلفوا فيه عليهما فما وافقهما أو أحدهما فهو المقبول وهو الحق , وما خالفهما وجب تركه.
ولا فرق في ذلك بين جماعة الإخوان المسلمين , أو أنصار السنة والجمعية الشرعية , أو جماعة التبليغ أو غيرهم من الجمعيات والأحزاب المنتسبة للإسلام، وبذلك تجتمع الكلمة ويتحد الهدف ويكون الجميع حزباً واحداً يترسم خُطا أهل السنة والجماعة الذين هم حزب الله وأنصار دينه والدعاة إليه.
ولا يجوز التعصب لأي جمعية أو أي حزب فيما يخالف الشرع المطهر.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (7 / 177، 178) .
خامساً:
إذا كان المسلم في بلد علماني كافر، ووُجِد حزب يدعو إلى الإسلام، أو يساهم في تثبيت الدين عند المسلمين، ويسعى للحفاظ على هويتهم واعتقادهم: فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يخذله، بل يُنصر ويُعان بالمستطاع، فإن لم يستطع المسلم مساندته إلا بالانتساب إليه: فلا مانع من ذلك، مع ضرورة التنبه لما قلناه من عدم التعصب والتحزب.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله، في كلامه على فوائد قصة شعيب، في سورة هود، عليهما السلام:
" ومنها أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان.
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم؛ نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم "
تفسير ابن سعدي (388) .
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة:
هل يجوز إقامة أحزاب إسلامية في دولة علمانية، وتكون الأحزاب رسمية ضمن القانون، ولكن غايتها غير ذلك، وعملها الدعوي سري؟ .
فأجابوا:
يشرع للمسلمين المبتلين بالإقامة في دولة كافرة أن يتجمعوا ويترابطوا ويتعاونوا فيما بينهم، سواء كان ذلك باسم أحزاب إسلامية أو جمعيات إسلامية؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (23 / 407، 408) .
سادساً:
نرى لك ولغيرك أن تنصر الحزب الإسلامي دون الانتساب إليه؛ لما بيَّناه سابقاً من وجود محاذير في التحزب؛ ويمكنك أن تنصر الحق الذي عندهم من غير انتساب، فتكون حققت الأمرين معاً: عدم التحزب، والاستجابة لمطلب أهلك، فإن كان يمنع بالقانون نصرتهم إلا بالانتساب لهم: فنرى أن تحاول إقناع أهلك بأن انتسابك هو لمصلحة الإسلام والمسلمين، فإن أبوا، ولم يمكنك أن تخفي انتسابك لهذا الحزب عنهم، وكنت في بيتهم وتحت طاعتهم: فالذي نراه لك عدم الانتساب لذلك الحزب، وأما إن كنت منفصلاً عنهم: فلا تأثم إن لم تستجب لمطلبهم، إن شاء الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/396)
ينكرون عليه تطبيق السنَّة ويدَّعون أنها تفرق المسلمين!
[السُّؤَالُ]
ـ[قال إمام مسجدنا في خطبة الجمعة بأنه لا ينبغي التشدد بالسنة النبوية؛ لأن السنَّة تفرق بين المسلمين , ونحن يجب علينا أن نتحد، واستدل بأَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا. هل هذا صحيح - مع العلم بأننا متبعون للسنَّة، وهو يسمي المتبع للسنَّة متشدداً؟ . أفيدونا بارك الله فيكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لقد قال إمامكم منكراً من القول وزوراً، وكان الواجب عليه أن يتقي الله ربَّه، وأن يحفظ لسانه عن الكلام فيما يغمسه في الإثم.
والسنَّة النبوية هي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، فكيف تكون السنَّة مفرِّقة بين المسلمين؟! وما الذي يوحدهم إن كانت السنَّة تفرقهم؟!
ولو صدق ذلك الإمام لقال: إن السنة هي التي تجمع الناس، وتلم شتاتهم.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: " وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من طريق المعقولات، فأورثهم الافتراق والاختلاف.. " الانتصار لأهل الحديث ص (47) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به، باطنا وظاهرا، وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به، والبغى بينهم!!
ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه،
ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم. "
مجموع الفتاوى (1/17) .
وقال ـ رحمه الله ـ أيضا:
" ما كان مأثورا حصلت له الألفة وما كان معروفا حصلت به المعرفة كما يرى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء "
درء التعارض (1/149) .
وكيف يسمَّى المتبع للسنَّة متشدِّداً والمسلم مأمورٌ باتباعها والاقتداء بهدي صاحبها وهو النبي صلى الله عليه وسلم؟! وماذا يقول هذا الإمام عن أفعال الصحابة رضي الله عنهم عندما اتبعوا سنة نبيهم صلى الله عليه خير اتباع؟! وماذا سيكون حكمه على هذه الواقعة:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى - وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا.
رواه أبو داود (650) ، وصححه الألباني.
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد ألقوا نعالهم في الصلاة لمجرد رؤيتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم يخلع نعله، فكيف لو كان الأمر سنَّةً عنه صلى الله وسلم، أو كان هدياً له؟! .
ثانياً:
إن لمز متبعي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم واتهامهم بالتشدد أو التطرف هو من الإيذاء والبهتان، وقد توعد الله تعالى من يفعل ذلك، فضلاً أنه يكون متشبهاً بالمشركين الذين سبقوه إلى هذا الفعل.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الأحزاب/58.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ) المطففين/29 – 32.
قال الشيخ العثيمين – رحمه الله -:
" (وَإِذَا رَأَوْهُمْ) أي: رأى المجرمون المؤمنين قَالُوا:
(إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ) ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون، متشددون، إلى غير ذلك من الألقاب، ولقد كان لهؤلاء السلف خلفٌ في زماننا اليوم، وما قبله، وما بعده، فمن الناس من يقول عن أهل الخير: إنهم رجعيون، إنهم متخلفون، ويقولون عن الملتزم: إنه متشدد، متزمّت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل: إنهم سحرة أو مجانين، قال الله تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الذاريات/52، فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل؛ من ألقاب السوء والسخرية، وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع والتعطيل لأهل الإثبات من السلف بأنهم حَشوَّية، مُجسِّمة، مُشبِّهة، وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي.
" لقاءات الباب المفتوح " (اللقاء رقم 30) .
ثالثاً:
التشدد المذموم في الدِّين هو جعل المستحب واجباً، أو جعل المكروه محرَّماً، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه من الغلو في الدين، كما أنه حذَّر من التشدد فيه، وليس معنى الغلو والتشدد تطبيق السنة، بل تغيير أحكامها، والتشدد في إيجاب الأمر أو تحريمه وليس هو كذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – في شرح حديث (لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ) -:
" ففيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع، والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة.
وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين ولا معذورين.
وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر، فأما بالشرع: فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب.
وأما القدر: فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم؛ مثل كثير من الموسوسين في الطهارات: إذا زادوا على المشروع، ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة."
" اقتضاء الصراط المستقيم " (103، 104) .
وقال الشيخ العثيمين – رحمه الله ـ في شرح حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ) رواه النسائي (3059) وابن ماجه (3029) وصححه الألباني في " صحيح النسائي " -:
وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك؛ لأنه مخالف للشرع؛ ولإهلاكه للأمم السابقة؛ فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:
الوجه الأول: تحذيره صلى الله عليه وسلم، والتحذير نهي وزيادة.
الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سببا للهلاك كان محرما.
.. والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا: هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (9 / 367، 368) .
رابعاً:
الحديث الذي استدل به إمامكم: فهذا الحديث رواه البخاري (1333) ومسلم (14) وليس في صحته إشكال، لكنه أُتي من سوء فهمه له، ولو وقف على رواياته وكلام أهل العلم لما استدل به على ما فهمه منه، فقد جاء في رواية عند البخاري (وعَلَّمَهُ شَرَائِعَ الإسْلام) وهذه اللفظة تشمل باقي الفرائض، وتشمل المندوبات.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
قوله: (فَإِذَا هُوَ يَسْأَل عَن الإِسْلام) أي: عن شرائع الإسلام , ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام , وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية , أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها , وإنما لم يذكر الحج إما لأنه لم يكن فرض بعد أو الراوي اختصره , ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه المصنِّف – أي: البخاري - في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال: " فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام " , فدخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات ... .
قوله: (وَذَكَرَ رَسُولُ الله صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الزَّكَاةَ) في رواية إسماعيل بن جعفر قال: " أخبرني بما فرض الله عليَّ من الزكاة , قال فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام " , فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أجملت , منها بيان نصب الزكاة؛ فإنها لم تفسر في الروايتين , وكذا أسماء الصلوات , وكأن السبب فيه شهرة ذلك عندهم , أو القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل ... .
فإن قيل: أما فلاحه بأنه لا ينقص فواضح , وأما بأن لا يزيد فكيف يصح؟ أجاب النووي بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا , لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى.
" فتح الباري " (1 / 108) .
ونرجو من الإمام أن يتأمل لفظة " وعلمه شرائع الإسلام "، كما نرجو أن يتأمل نهاية ما نقلناه عن الحافظ ابن حجر، والذي أقرَّ فيه كلام الإمام النووي، بأن الفلاَح يكون أولى لمن جاء بالواجبات وأضاف إليها المندوبات.
خامساً:
نوصيكم بالمحافظة على أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما نوصيكم بالمحافظة على تطبيق السنن والمستحبات، دون غلو وتشدد، وتعليم ذلك للناس بحكمة وحسن أسلوب، ولا يجوز لكم تنفير الناس بالتشدد فيما فيه سعة، أو بجعل المستحبات واجبات، أو بالتشدد في النكير على الناس، وخاصة خاصتهم كإمام المسجد أو المفتي أو من له منزلة عند الناس، واستمعوا لهذه النصيحة الجامعة من عالم فاضل.
قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله -:
يجب عليك الالتزام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمحافظة عليها، وألا تلتف إلى عذل من يعذلك، أو يلومك في هذا، أما أن الوالدين يلومانك في تمسكك بالسنة ويريدان منك التساهل في ذلك: فلا تطعهما في هذا الأمر، خصوصاً إذا كانت هذه السنن من الواجبات التي يجب التمسك بها، لا في المستحبات، وإذا لم يصل الأمر إلى التشدد، أما إذا كان الأمر بلغ بك إلى حد التشدد: فلا ينبغي لك، ولكن ينبغي الاعتدال والتوسط في تطبيق السنن، والعمل بها، من غير غلو وتشدد، ومن غير تساهل ولا تفريط، هذا هو الذي ينبغي عليك، وعلى كل حال أنت مثاب - إن شاء الله - وعليك بالتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقناع من يلومك في هذا، خصوصًا الوالدين، عليك أن تتبعهما وأن ترغبهما في السنن وتبين لهما ما في ذلك من الثواب والخير، فلعله أن يزول عنهما هذا الاعتراض أو هذا الاستغراب، ولعله أيضاً أن يكون هذا العمل سبباً في التزامهما أيضاً بالسنن والاقتداء، وتكون أنت داعية إلى الله عز وجل، ولا شك أن الإنسان الذي يدعو إلى الله يجب أول ما يدعو أقاربه وأقرب الناس إليه، والوالدان من أقرب الناس إليك.
فعلى كل حال إذا كان تمسكك بالسنن لا ينتهي إلى حد الإفراط والغلو: فهو أمر محمود، وعليك أن تستمر عليه، وأن تدعو إليه والديك وغيرهما، والله أعلم.
" المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " (2 / 301، 302) .
وأخيرا: كما أن من التشدد المذموم أن ننزل المستحب منزلة الأمر الواجب، أو المكروه منزلة المحرم، أو نلزم أنفسنا بما لم يلزمنا الله تعالى به؛ فكذلك من الجهل بأصول الشريعة أن نهدر الأصل العام العظيم، وهو وجوب الألفة والمحبة بين المسلمين، والاجتماع على حبله المتين، وصيانة عرض المسلم من السلب والعيب، فضلا عن العدوان والأذى والضرب، من الجهل أن نهدر ذلك كله لأجل أن هذا تمسك بأمر مستحب، وغيره لا يراه مستحبا، أو لا يلتزم به، وبالمقابل العدوان على عرض المسلم أو حقه لأجل أنه أخل بأمر يستمسك به غيره، وبمثل ذلك ينال العدو اللعين مراده من المؤمنين؛ فكيف لو كان ذلك في بلاد المهجر والغربة، حيث يرانا غيرنا صورة لديننا.
روى الإمام مسلم في صحيحه (2812) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فأما صفة الصلاة: ومن شعائرها مسألة البسملة؛ فإن الناس اضطربوا فيها نفيا وإثباتا: في كونها آية من القرآن، وفي قراءتها، وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع جهل وظلم مع أن الخطب فيها يسير. وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنها ; إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدا لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة ... "
ثم قال: " ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متما، وقال: الخلاف شر. "
مجموع الفتاوى (22/405-4079) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/397)
هل يُنكِر على من يقع في البدعة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[رفع اليدين بالدعاء، والدعاء جهراً وجماعة بعد الصلوات المكتوبة بدعة. سؤالي: هل يجب عليَّ أن أنكر على الذين يفعلون تلك البدعة من أفراد المسجد الذي أصلي فيه بما فيهم الإمام؟ وما هي أفضل طريقة لذلك الإنكار؟ مع العلم أن بعضهم من ذوي الرؤوس الصعبة - كما يقال -، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يعني أنهم - كما تعلم - لا يرضون الحق بسهولة، وقد لا يرضونه أبدا، أفدني بالله - جزاك الله خيراً - يا شيخي الفاضل؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر الدين، وبه تكون حياة الأمة وروحها.
جاء في " الموسوعة الفقهية " (6 / 248) :
اتّفق الأئمّة على مشروعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحكى الإمام النّوويّ وابن حزمٍ الإجماع على وجوبه، وتطابقت آيات الكتاب وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين على أنّه من النّصيحة الّتي هي الدّين، قال الله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران/104، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .
قال الإمام الغزاليّ: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أصل الدّين، وأساس رسالة المرسلين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله، لتعطّلت النّبوّة واضمحلّت الدّيانة، وعمّت الفوضى، وهلك العباد.
إلاّ أنّهم اختلفوا بعد ذلك في حكمه، هل هو فرض عينٍ، أو فرض كفايةٍ، أو نافلة؟ أو يأخذ حكم المأمور به والمنهيّ عنه، أو يكون تابعاً لقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد.
على أربعة مذاهب.
انتهى
ويقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -:
الأمر المعروف والنهي عن المنكر واجب، ولكنه فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ولكن إذا لم يوجد إلا الشخص المعين: صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقه واجباً عينيّاً كسائر فروض الكفايات، إذا لم يوجد من يقوم بها وجب على الباقين، وعلى هذا فلو مررتَ بقوم على منكر ولم تجد أحداً ينهاهم عنه: كان نهيك إياهم واجباً يجب عليك أن تنهاهم.
" اللقاء الشهري " (اللقاء رقم 35) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:
ما حكم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو يستطيع ذلك؟ .
فأجاب:
حُكمه أنه عاصٍ لله ولرسوله، ضعيف الإيمان، وعليه خطر عظيم من أمراض القلوب وعقوبتها العاجلة والآجلة، كما قال الله سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بهذا الواجب العظيم على الوجه الذي يرضيه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (6 / 504) .
ثانياً:
حرص أهل العلم على ضبط هذا الباب بالضوابط والقيود الشرعية تجنبا لأي مفسدة يمكن أن تحصل نتيجة عدم فهم هذا الباب الخطير.
وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الضوابط والآداب في كلمة جامعة له قال فيها:
ينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه، فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر ليصبر على أذى المأمور المنهي؛ فإنه كثيراً ما يحصل له الأذى بذلك، ولهذا قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) لقمان/17.
" مجموع الفتاوى " (15 / 167) .
كما جاء عن سفيان الثوري – رحمه الله – قوله:
لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى.
" جامع العلوم والحكم " (ص 325) .
إذاً فالعالم هو الذي يشتغل بالأمر بالمعروف وإنكار المنكر؛ لأنه هو الذي يتبين له الحكم الشرعي بدليله، ويتمكن من إقناع المخاطبين، وبيان الحجة لهم، وأما عوام المسلمين فإن الوجوب يلزمهم أيضاً في الأمر بالمعروف الظاهر، كالصلاة والصيام وأداء الزكاة، ونحو ذلك، والنهي عن المنكر الظاهر كالفاحشة والتبرج والسرقة وغير ذلك.
أما إذا وَجد العامي بعض المنكرات أو البدع التي يخفى مأخذها، ويشتبه حكمها، أو يكون ثمة من يخالف فيها من العلماء: فلا يجوز له حينئذ إنشاء الإنكار من قبل نفسه، وإنما له أن ينقل للناس فتاوى أهل العلم التي اطلع عليها وفيها بيان حكم المسألة فقط، من غير تعنيف أو إحداث فتنة وفرقة، والله سبحانه وتعالى سيثيبه خير الثواب.
قال علماء اللجنة الدائمة:
إنكار البدع والخرافات واجب على أهل العلم من أهل السنة والجماعة.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 345) .
ثالثا:
وأنت أخي السائل الكريم ما عليك إلا أن تطلع على الفتاوى المنشورة في موقعنا، تحت الأرقام الآتية: (11543) و (21976) و (26279) .
فتنقل ذلك للناس وتبين لهم ما فهمته منها بالرفق والحسنى واللين، فإن استجابوا لك فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا فليس عليك من أمرهم أكثر من ذلك، ويبقى الواجب الباقي في محاولة المجادلة والإقناع على أهل العلم المتخصصين.
وانظر إجابة السؤال رقم (87779) .
أسأل الله تعالى أن يوفقك ويزيدك من فضله وكرمه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/398)
تختلط مع قريبها وتكشف وجهها أمامه وتكلمه في الهاتف
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا معلمة حلقة ولدي طالبة في العشرين من عمرها، بنَتْ علاقة مع أحد أقربائها من غير المحارم (قيل إنه مستقيم) فإذا حصل اجتماع للعائلتين تكشف له عن وجهها من غير خلوة بحيث يكون معهم أطفال صغار، وعندما نُصحت قالت: مادام أنه قريب: فلا حرج من ذلك، وهي تحدثه في الهاتف، هي لا تعلم أنني أعرف شيئا من ذلك، فماذا أفعل؟ وكيف أواجهها - مع العلم أنني أخاف من عنادها، وابتعادها عن الحلقة، وهي بأشد الحاجة إليها -؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن هذه الأخت بحاجة لنصيحة وتوجيه، ومن يُزعم بأنه مستقيم من أقربائها يحتاج للأمر نفسه؛ وليس من شك في أنهما يفتحان عليهما بتلك العلاقة التي بدآ فيها بابا من الفتنة، وطريقا إلى الإثم والعدوان، ثم لا يؤمن ما يكون من عاقبة ذلك، ولا يدري أحد أين ينتهي بهما المطاف.
عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تتعوجوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ؛ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ!!
وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ)
رواه الإمام أحمد (17182) وصححه الألباني في ظلال الجنة (19) .
وقوله: (ويحك) زجر له من تلك الهمة، وهي كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها.
(لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه) أي تدخل الباب وتقع في محارم الله، قال الطيبي: هذا يدل على أن قول أبواب مفتحة أنها مردودة غير مغلقة.
" فيض القدير" (4/334) .
قال ابن رجب رحمه الله:
" ومن كان في الدنيا قد خرج عن الاستقامة على الصراط ففتح أبواب المحارم التي في ستور الصراط يمنة ويسرة، ودخل إليها، سواء كانت المحارم من الشهوات أو من الشبهات، أخذته الكلاليب التي على ذلك الصراط، يمنة ويسرة، بحسب ما فتح في الدنيا من أبواب المحارم؛ فمنهم المكدوس في النار، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو. "
" شرح حديث مثل الإسلام " ص (44) .
إن القرابة التي أشار إليها السؤال داعية إلى أمرين:
الأمر الأول: أن يكون حرص القريب على قريبه، وصيانته له أكثر من حرص غيره، فلا يساعده على فتح باب الحرام , ولا الولوج في الشهوات أو الشبهات، بل يكون حرصه على قريبه لحق الإسلام أولا،ثم لحق القرابة التي بينهما ينبغي أن يتأكد ذلك الحرص
الأمر الثاني: لما كان كثير من الناس يتساهلون في الخلطة بين الأقرباء، وقل منهم من يصون الحرمة، ويردع نفسه من مواطن الفتن، شدد الشرع في سد باب الفتنة بالقريب، الذي لا يتحفظ الناس منه، أكثر غيره، حتى لقد شبهه بالموت!!
عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري (4934) ومسلم (2172) .
وانظري شرح الإمام النووي لهذا الحديث في جواب السؤال (12837) .
وفي الجواب المحال عليه فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – في جواز جلوس المرأة مع أقاربها بشرطين:
الأول: أن تكون بحجابها الكامل، بما فيه وجهها ويداها.
والثاني: عدم وجود ريبة.
وكلا الشرْطين مفقودان هنا، فهي تجلس مع قريبها كاشفةً لوجهها، ولا شك أن مجلسهما فيه ريبة، ومن آثار تلك المجالس: المحادثات التي تمت بينهما، وهي محرَّمة - أيضاً -، وقد بيَّنا فتاوى أهل العلم في هذه المسألة في جواب السؤالين: (26890) و (10221) .
ثانياً:
يجب عليكِ التلطف في دعوتها ونصحها وتذكيرها، وعليكِ استعمال الحكمة والموعظة الحسنة، والرفق في النصح مظنة الاستجابة، والموعظة المؤثرة مظنة تأثر القلب.
قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/125.
وقال تعالى لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه/43، 44.
وانظري جواب السؤالين (60244) و (13261) ففيهما فوائد مهمة.
وإذا خشيت نفرتها من المواجهة، أو عنادها، فيمكنك أن تلمحي لها بما تريدين، وتورِّي لها بمقصودك، كأن تذكري أمامها بعض الأحاديث التي تحذر من الفتنة بالرجل الأجنبي، وخاصة القريب، وأن تعطيها بعض الأشرطة أو الرسائل والمطويات التي تتكلم عن ذلك، وخطورة التساهل في ذلك الأمر على دين المرأة وعفتها. وأظهري لها الكلام بصفة العموم، كأنك لا تعرفين شيئا عن حالها.
ثم حمليها أمانة الدعوة إلى الله، ونشر ذلك الأدب بين المسلمات، وأنه لا يكفي الفتاة أن تصون نفسها من الفاحشة، أو مقدماتها من الاختلاط المحرم، والعلاقات المرفوضة شرعا، بل يجب عليها أيضا أن تدعو غيرها إلى الله تعالى، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بحسب طاقتها.
ثالثاً:
إذا لم تجد هذه التورية، ولم ينفع التلميح، فيمكنك أن تتلطفي في مواجهتها بما تفعل، فهي كبيرة في السن وتفهم الكلام، وهي – كذلك – طالبة في حلقة قرآنية، وتصرفاتها لا تُحسب عليها فقط بل على مكان تعلمها وتربيتها، وأعلميها أن ذلك هو من باب محبتها ومحبة الخير لها، والخوف عليها، وليس من باب الرقابة والسلطان على تصرفات الغير؛ فكثير من الناس ينفر من الحق، لا لشيء إلا لأنه يعتبر أن من ينصحه نصب نفسه رقيبا عليه.
ويمكنك أن تركزي على مجموعة من الأمور في نصحها:
1. أن تبيِّني لها منزلة الحياء في الشرع، وكيف كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الصحابة على قدر عظيم من هذا الخُلُق.
2. تنبيهها على وقوعها في محاذير شرعية، مثل كشف وجهها أمام ذلك الأجنبي، وتلك المجالس المختلطة، والحديث معه في الهاتف، وسبقت الإحالة على فتاوى كثيرة لأهل العلم في هذه المواضيع.
وقد بيَّنا في جواب السؤالين (11774) و (21536) حكم تغطية الوجه والكفين فلينظرا.
3. تذكيرها بقصص واقعية لضحايا الاختلاط والمحادثات والمراسلات مع الأجانب، وهي أكثر من أن تُحصى.
وانظري جواب السؤال رقم (20784) .
وقد سبق في جواب السؤال رقم (1200) تفصيل الحكم في الاختلاط، وذِكر آثاره السيئة.
4. الاتصال بوالدتها أو زيارتها لنصحها وتذكيرها بخطأ ما يفعلونه في بيتهم، وأثر ذلك على عليهم، وعلى ابنتهم خاصة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/399)
نصحه ولم يستجب فهل يقاطعه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب ملتزم، ولي أخ في الله أحبه فيه، رأيته عند إشارة المرور صدفة وقد ارتفع صوت الأغاني من سيارته، فناصحته بطريقة مباشرة دون أن أذكر له أني رأيته، فأبدى اعتذاره وتوبته، وقام - كما يقول - بإزالة الأغاني من سيارته ومن جهاز الحاسب كذلك ولله الحمد، ولكن بعد أيام أراه يشارك في بعض المنتديات بمشاركة ماجنة ويكتب اسم الأغنية، وقد عرفته بلقبه الذي يكنى به ورمزه، كما أنه في بعض الأحيان يصرح بمحادثته في الإنترنت لقريبات له لسن محارم له.
فهل لي أن أقاطعه، أو أجاريه على ظاهره، علماً بأن النصيحة يقابلها بالقبول دون أن يعمل بها، وعلما بأن ظاهره الالتزام، وقد عرفه أصحابه بذلك، إلا أني أعلم عنه ما لا يعرفون؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي يعصي الله تعالى إما أن يكون مظهراً لمعصيته أو يكون مستتراً بها، فإن كان مظهراً لها فإنه يُهجر ـ ولو طالت المدة ـ إن كان الهجر يردعه عن معصيته، أو يحمله على التقلل منها.
وإن كان مستتراً بها وقدِّر لك أن تراها فيُنكر عليه سرّاً ويُنصح ويُستر عليه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
ورأى محمد بن المنكدر رجلا واقفا مع امرأة يكلمها، فقال: (إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما!!) .
وفي مثل هذه الحالة يشرع لك أيضا أن تهجره وحدك، إن كان ذلك الهجر يؤثر فيه، ولا يترتب عليه مفسدة أكبر؛ كأن يجاهر بالمعصية، بعدما كان مستترا بها، أو يزيد منها بعد إقلال، أو أن يفعل معصية أخرى هي أشد مما هجرته من أجله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار وأن يهجر ويذم على ذلك، فهذا معنى قولهم " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له "، بخلاف من كان مستتراً بذنبه مستخفياً فإن هذا يُستر عليه، لكن ينصح سرّاً، ويَهجره مَن عرف حاله حتى يتوب ويَذكر أمره على وجه النصيحة.
" مجموع الفتاوى " (28 / 220) .
وبوَّب البخاري رحمه الله على حديث كعب بن مالك وقصة تخلفه عن تبوك بقوله:
" قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى ".
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
" قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى ": أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز؛ لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فتبين هنا السبب المسوِّغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطَّلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها.
" فتح الباري " (10 / 497) .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ قَالَ: فَنَهَاهُ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لا تَصِيدُ صَيْدًا وَلا تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ، قَالَ: فَعَادَ، فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا. رواه البخاري (5162) ومسلم (1954) .
قال النووي – رحمه الله -:
فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنَّة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهى عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له، كحديث كعب بن مالك، وغيره. " شرح مسلم " (13 / 106) .
فالواجب عليك ـ أخي الكريم ـ تجاه صاحبك النصح والتذكير والوعظ والتخويف بالآخرة، فإن استجاب فالحمد لله ولك أجره، وإن استمر على معصيته مستتراً متخفيّاً، فإنه يستحق الهجر منك إن رأيتَ أن هجره أنفع له، فإن لم يكن هجرك نافعاً له فلا نرى لك هجره، بل نرى مداومة مصاحبتك له عسى أن ينتفع بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فان كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته: كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته: لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. " مجموع الفتاوى " (28 / 206) .
وننبهك ـ أخيرا ـ إلى أنه من الممكن أن تنصحه وتدله على الخير، من غير أن تواجهه بما فعل، وبخصوص مشاركاته في المنتديات، فمن الممكن أيضا أن تنصحه، وتكتب له مشاركة، أو ترسل له على بريده، إن أمكنك، من غير أن تعرفه بشخصك، إن كان ذلك يقلل من مجاهرته بالمعصية، وارتكابه لها.
هدانا الله وإياك لما يحبه ويرضى، وجعلنا جميعا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/400)
له صديق رافضي هل يبقى على صحبته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندي صديق من أهل السنة والجماعة، لديه صديق شيعي، أريد أن أستفسر عن حكم مصاحبة أهل المذاهب المخالفة، مع العلم أنه نصحه - كما قال لي - باعتناق مذهب الفرقة الناجية، ولكن دون فائدة، فما حكم مصاحبتهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجب عليك أن تنصح صاحبك بالابتعاد عن مصاحبة أهل البدع، وخاصة البدع المغلظة كالشيعة الروافض لما في مصاحبتهم من خطر على دين المسلم ودنياه، أما الخطر على دينه فهو بما يلقيه هذا الرافضي من شبهات تشكك المسلم في دينه، وأما الخطر الدنيوي فهو ما يكنه الرافضي من عداء وبغض لأهل السنة والسعي في إيذائه بكل ما يستطيع.
وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحث على حسن اختيار الصاحب، وذلك لما له من تأثير على خلق ودين صاحبه، ومن هذه الأحاديث:
1. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه عنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ) .
رواه الترمذي (2395) وأبو داود (4832) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
2. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) .
رواه الترمذي (2378) وأبو داود (4833) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
قال الخطابي رحمه الله:
" لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته؛ فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، فلا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضيّاً في دينه ومذهبه " انتهى.
" العزلة " (ص 141) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله:
" وهذا معناه – والله أعلم – أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه، والدين العادة، فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحل ويجمل فإن الخير عادة ... .
والمعنى في ذلك: ألا يخالط الإنسان من يحمله على غير ما يحمد من الأفعال والمذاهب، وأما من يؤمن منه ذلك فلا حرج في صحبته " انتهى.
" بهجة المجالس " (2 / 751) .
وأما كلام السلف في التحذير من صحبة أهل البدع فكثير، ومنه:
1. ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة: قال:
لا ينبغي لأحد من أهل السنة والجماعة أن يخالط أحداً من أهل الأهواء حتى يصاحبه ويكون خاصته؛ مخافة أن يستزله أو يستزل غيره بصحبه هذا.
" مجموع الفتاوى " (16 / 475) .
2. قال أبو داود السجستاني رحمه الله:
قلت لأبي عبد الله - أحمد بن حنبل -: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه؟ قال: لا، أو تعلمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة، فإن ترك كلامه فكلِّمه، وإلا فألحقه به.
" طبقات الحنابلة " (1 / 160) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/401)
لا تترك دعوة غير المسلم خشيةَ شتمه الدين
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أقوم بالدعوة إلى الإسلام عن طريق غرف الدردشة والبالتوك والماسنجر، أدعو المسلمين وغير المسلمين، سؤالي هو: أحيانا أريد أن أدعو شخصا غير مسلم، فأخاف إذا دعوته أن يسب الدين، فهل أترك دعوته؟ وإذا وجب عليّ ذلك، إذًا علي أن لا أدعو أحدا من غير المسلمين؛ لأنني أخاف من معظمهم، حيث إني لا أعرفهم، بماذا تنصحونني؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
نسأل الله تعالى أن يُعلِيَ همَّتَك، ويسدِّدَ خطاك، ويجزيَك خير الجزاء على اهتمامك بالدعوة إلى دين الله وشرعه، فلا أحد أحسن قولا ولا مسلكا ممن يدل الناس على الحق والنور.
يقول تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت/33
ولكني أحذرك أخي السائل، فإن باب المحادثات والغرف الخاصة باب فتنة ومنبع شرور، بسبب من يدخل فيها من النساء وأصحاب الأهواء، فيبدأ الداعية بالخوض مع الجميع، والشيطان ينصب له حبائل الشهوات والشبهات، حتى إذا علقت في قلبه فتنة من شبه أهل الباطل، أو تمكن في قلبه التعلق بالشهوات المحرمة، أمكن منه القياد، ولعب به كما يلعب الصبيان بالكرة. قال الله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:48)
وقد سبق في موقعنا نصيحة من يمارس الدعوة عبر الشبكة، كي لا يوقع الشيطان به من حيث لا يدري، وبيان أن الدعوة العامة، أو تنظيم العمل الدعوي في هذا المجال عن طريق هيئة، أو منظمة جماعية، تقوم على ذلك لا بد وأن تكون أنفع وأسلم من العمل الفردي، فإن الشيطان من الفرد أقرب.
انظر سؤال رقم (32693)
ثانيا:
ينبغي أن يتسلح من يتصدى للدعوة إلى الله تعالى بالعلم الشرعي الذي يريد توصيله للناس، وأن يكون عنده الخبرة الكافية التي تمكنه من حسن محاورة الآخرين، ومعرفة ما عندهم من أمراض الشبهات والشهوات، وكيف يتأتى له علاجها؛ وأما أن يكون كل ما عند المرء عاطفة صادقة، ومعلومات متناثرة من هنا وهناك؛ فإن ذلك لا يجدي شيئا، ولا ينفع المدعو في شيء!! وأخشى ما نخشاه على من يتصدى لذلك الأمر قبل أوانه، وقبل أن تكون عنده الأهلية الكافية، أن يكون حاله كحال من أخذته الشفقة بأناس أصيبوا بعدوى قاتلة، فأسرع إلى علاجهم من غير خبرة له بالطب، فلا هو نفع المريض ولا هو حمى نفسه، ومن كلام الناس: (راح يصطاد اصطادوه) !! فاحذر يا عبد الله، وليكن همك الأول أن تنجو بنفسك:
(بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14-15) .
ثالثا:
من كانت عنده الأهلية للدعوة إلى الله تعالى، أيا كان المجال الذي ينشغل فيه بهذه الدعوة؛ فإنه لا يجوز له ترك الدعوة بحجة الخوف من رفض المدعو وشتمه لدعوته أو دينه، وإلا لتعطلت الدعوة وترك البيان للناس، وذلك ما لا يرضاه رب العالمين، ولكنه سبحانه أمرنا بالتزام الحكمة والموعظة الحسنة، فقال سبحانه:
(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/125
وحثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق واللين والتبشير والتيسير، وذلك حرصا على تقبل المدعو للحق الذي يعرض عليه.
قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى أهل الكتاب في اليمن:
(يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا) رواه البخاري (3038) ومسلم (1733)
فمن التزم بهذا المنهج الشرعي في الدعوة لا يضره ما كان بعد ذلك من المدعو: من شتم أو رفض أو استكبار وإباء.
وقد كان سيد الدعاة، النبي صلى الله عليه وسلم، مستمرا في الدعوة والنصح الحكيم، مع أن كثيرا من المشركين واجهوه بالشتم والضرب والاستهزاء.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
(لَمَّا نَزَلَت هَذِه الآيَةُ (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الشعراء/214 وَرَهطَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَهَتَفَ: يَا صَبَاحَاهُ، فَقَالُوا: مَن هَذَا الذِي يَهتِفُ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجتَمَعُوا إِلَيهِ، فَقَالَ: يَا بَنِي فُلَان يَا بَنِي فُلَان يَا بَنِي فُلَان يَا بَنِي عَبدِ مَنَاف يَا بَنِي عَبدِ المُطَّلِب، فَاجتَمَعُوا إِلَيهِ، فَقَالَ: أَرَأَيتَكُم لَو أَخبَرتُكُم أَنَّ خَيلًا تَخرُجُ بِسَفحِ هَذَا الجَبَلِ أَكُنتُم مُصَدِّقِي؟
قَالُوا: مَا جَرَّبنَا عَلَيكَ كَذِبًا.
قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُم بَينَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ.
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تبًّا لَكَ، أَمَا جَمَعتَنَا إِلَّا لِهَذَا، ثُمَّ قَامَ.
فَنَزَلَت هَذِهِ السُّورَةُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) المسد/1
رواه البخاري (1394) ومسلم (208)
والمحظورُ في ذلك هو بَداءةُ المشركين والكفار بالشتم والتسفيه، خوفا من تَعَدِّيهم ومقابلتهم بالسب والتنقيص، فذلك هو الذي نهى عنه الله تعالى في القرآن.
قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ) الأنعام/108
فلا تتحرج أخي الكريم من الحق، ولا تترك تبيلغ هذا الدين بالعلم والبصيرة، واحرص على اختيار الكلمة المناسبة، والمدخل الحسن الطيب، وتجنب الشتم والاستهزاء، بل عامة الظلم والعدوان؛ ثم لا يضرك بعد ذلك ما صدر عن المدعو، فوزره عليه، يحمله يوم القيامة، وأنت ترجع بالأجر العظيم إن شاء الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/402)
حكم التبليغ على من يقوم بالسرقة
[السُّؤَالُ]
ـ[أعمل في شركه خاصة ويحدث أمامي سرقات من قبل العمال وإني أكتم هذا الشيء. السؤال: هل أحمل إثماً على هذا الشيء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ثبت في صحيح مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .
قال النووي رحمه الله:
"وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فليغيره " فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين " انتهى.
" شرح صحيح مسلم " (2 / 22) .
وقد كان بنو إسرائيل يرون المنكر ويسكتون عن إنكاره، فسبَّب ذلك السكوت لهم اللعنة، كما قال سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة/78-79.
وبناء عليه: لا يجوز لمن رأى منكراً أن يسكت عنه مع قدرته على إنكاره وتغييره، فيبدأ بالتغيير باليد إن كان يستطيع ذلك، كأن يكون مسئولا عن فاعل المنكر وله سلطة عليه، فإن لم يقدر على التغيير باليد: فلينكر باللسان، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة بالتي هي أحسن، ومن الإنكار باللسان: إبلاغ من يستطيع أن يمنع هذا المنكر، وعليه أن يبذل جهده في ذلك، فإن عجز عنه فيجزؤه ويرفع عنه الإثم أن ينكره بقلبه، فإن قصر في إنكار المنكر بحسب استطاعته فهو شريك للعاصي في معصيته وعليه إثم المعصية.
فإن بذل جهده وأدى واجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يستجب له العاصي فلا شيء عليه، لأن الله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) المائدة/105.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
"ومَن أنكر بحسب طاقته: فقد سلِم من هذه المعصية، ومن رضي بها وتابع عليها: فهو عاص كفاعلها " انتهى.
" أضواء البيان " (1 / 467) .
فعليك أن تنصح هؤلاء – أولاً – أن يتقوا الله تعالى، وأن يكفوا عن سرقة مال غيرهم، وعليهم أن يرجعوا ما أخذوه سابقاً، فإن كفوا أيديهم فقد أحسنت إليهم وإلى صاحب المال، وإن أصروا على فعلهم فيجب عليك إبلاغ من يكفهم عن فعلهم هذا، ولو بإبلاغ صاحب المال نفسه، ولا يُشترط أن تظهر نفسك أنك المبلِّغ عنهم، بل يكفي أن ترسل رسالة - مثلاً – لصاحب المال وتخبره فيها بحقيقة الأمر، ويفضَّل أن يكون معها وثائق تُثبت صحة كلامك ليؤخذ الأمر بعين الاعتبار والاهتمام، وبذلك تكون قد برَّأت ذمتك وأنقذت نفسك من الإثم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/403)
هل يقلد الصوفية للتمويه بسبب الضغوط الأمنية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن في بلدنا للأسف يلاحَق السلفيون أمنيّاً، فهل يجوز لي أن أقلد الصوفية في بعض البدع غير المكفرة للتورية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نسأل الله تعالى أن يفرّج كربكم، ويزيل همكم، وأن يعلي راية السنة.
ثانياً:
لا بدَّ من التفريق بين حال توقع حصول الضرر بالوهم، وحال غلبة الظن بحصوله، أو اليقين، أما الأوهام فغير معتبرة للوقوع في المحذور من أجلها؛ وأما الضرر اليقيني فهو مبيح للأخذ بالرخصة في فعل المحذور، وأما ما كان بغلبة الظن فهو متردد بين الحكمين، وهو إلى الأخذ بالرخصة أقرب.
ثالثاً:
حد الضرر المبيح للوقوع في المحرم ليس هو الضرر اليسير كالتحقيق والاعتقال لأيام قليلة أو الطرد من الوظيفة، بل هو ما كان غير محتمل من الأذى والعقوبة المتعلقة بالدين والبدن والعقل والعرض، ولا بدَّ أن يكون المهدِّد بالضرر قادراً على تنفيذ قوله، وكذا أن يكون المكرَه عاجزاً عن دفعه.
قال ابن قدامة المقدسي – رحمه الله -:
ومن شرط الإكراه ثلاثة أمور أحدها: أن يكون من قادر بسلطان، أو تغلب كاللص ونحوه، وحكي عن الشعبي: إن أكرهه اللص: لم يقع طلاقه، وإن أكرهه السلطان وقع، قال ابن عيينة: لأن اللص يقتله والسلطان لا يقتله " انظر: [مصنف عبد الرزاق: 11422] .
وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع، والذين أكرهوا عماراً لم يكونوا لصوصا ً , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم – لعمار: " إن عادوا فعُد "؛ ولأنه إكراه، فمنع وقوع الطلاق، كإكراه اللصوص.
الثاني: أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه.
الثالث: أن يكون مما يستضر به ضرراً كثيرا ً , كالقتل والضرب الشديد، والقيد , والحبس الطويل، فأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة، وكذلك أخذ المال اليسير.
فأما الضرر اليسير: فإن كان في حق من لا يبالي به: فليس بإكراه، وإن كان في بعض ذوي المروءات، على وجه يكون إخراقاً بصاحبه، وغضّاً له، وشهرة في حقه، فهو كالضرب الكثير في حق غيره.
وإن توعد بتعذيب ولده , فقد قيل: ليس بإكراه لأن الضرر لا حق بغيره، والأولى أن يكون إكراها، لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله؛ والوعيد بذلك إكراه , فكذلك هذا.
" المغني " (7 / 292) .
رابعاً:
قد كان المسلمون الأوائل في مكة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخفون إسلامهم، ولم يكن يقتضي هذا منهم إظهار شعائر الكفر، فالذي نراه في حالتكم: أنكم لا تتسببون في لفت الأنظار إليكم بالمناقشات والتحرشات بالمخالفين من أهل البدعة، وإذا اضطررتم لدفع الضر عنكم بمجالسة أهل البدعة فليكن ذلك حيث لا يكونون متلبسين ببدعتهم، فيمكنك حضور دروس لهم – مثلاً – فقهية أو لغوية، مع ضرورة التنبه أنه لم تعُد مثل هذه التصرفات بخافية على أهل البدع والضلالة، فنوصيكم بالصبر على الدعوة، وتوقع حصول الأذى، ولا يجوز لكم التحرش بهم لجلب الضرر لكم ولدعوتكم، فعليكم التحلي بالأخلاق الفاضلة حين دعوة الناس وحين الإنكار عليهم، واسألوا الله تعالى أن يخفف وطأة أهل البدع ومن ينصرهم عليكم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/404)
ما حكم العيش مع والدة كافرة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم العيش مع والدة كافرة ونقل الزوجة لنفس البيت للعيش معها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا مانع من أن يعيش الولد مع والدته الكافرة، أو أن تعيش هي معه، وقد يكون هذا سبباً في هدايتها إذا أحسن الولد لها في المعاملة، وأحسن في عرض الإسلام عليها، والبعد عنها قد يكون سبباً في تأخير هدايتها.
والمسلم مأمورٌ بالإحسان إلى والديه وبرهما حتى لو كانوا كفَّاراً، ولا يحل للمسلم أن يعقهما أو يسيء إليهما في القول أو الفعل، على أن ذلك لا يعني أن يطيعها في المعصية أو يداهنها في الكفر الذي تعتنقه.
أ. قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} العنكبوت / 8.
ب. وقال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} لقمان / 15.
ت. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: " نعم، صِلي أمك ".
رواه البخاري (2477) ومسلم (1003) .
ث. عن سعد بن أبي وقاص: أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفتْ أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها يقال له " عمارة " فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك على أن تشرك بي} وفيها: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} ... .
رواه مسلم (1748) .
هـ. وهذه فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في حكم طاعة الوالدين في حلق اللحية:
السؤال: عن حكم طاعتك لوالدك في حلق اللحية.
فأجاب الشيخ رحمه الله:
بأنه لا يجوز لك طاعة والدك في حلق اللحية، بل يجب توفيرها وإعفاؤها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين "، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الطاعة في المعروف "، وإعفاء اللحية واجب وليس بسنَّة حسب الاصطلاح الفقهي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، والأصل في الأمر الوجوب، وليس هناك صارف عنه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (8 / 377 – 378) .
وانظر جواب السؤالين (5053) و (6401) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/405)
منع المسلم زوجته غير المسلمة من الاحتفال بأعيادها الدينية
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لا يسمح للفتاة الكاثوليكية المتزوجة من مسلم الاحتفال بأعيادها الدينية؟ مع أنها متزوجة من مسلم وهي باقية على عقيدتها. هل يمكنها أن تتعبد حسب اعتقادها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا رضيت الفتاة النصرانية بالزواج من مسلم، فإنه ينبغي أن تعلم أمورا:
1- أن الزوجة مأمورة بطاعة زوجها، في غير المعصية، لا فرق في ذلك بين الزوجة المسلمة وغيرها، فإذا أمرها زوجها بغير معصية لزمها طاعته. وقد جعل الله هذا الحق للرجل، لأنه قوّام على الأسرة ومسئول عنها، ولا تستقيم الحياة الأسرية إلا بأن تكون هناك كلمة مسموعة مطاعة من فرد من أفرادها، لكن هذا لا يعني أن يتسلط الرجل أو يستغل هذا الحق للإساءة إلى زوجته وأولاده، بل يجتهد في الصلاح والإصلاح، والنصح والتشاور، لكن لا تخلو الحياة من مواقف تحتاج إلى حسم، وكلمة فاصلة، لابد منها، ومن الاستجابة لها. فينبغي للفتاة النصرانية أن تتفهم هذا المبدأ قبل إقدامها على الزواج من مسلم.
2- أن إباحة الإسلام الزواج من نصرانية أو يهودية، يعني الزواج بها مع بقائها على دينها، فليس للزوج أن يكرهها على الإسلام، ولا أن يمنعها من عبادتها الخاصة بها، لكن له الحق في منعها من الخروج من المنزل، ولو كان خروجها للكنيسة، لأنها مأمورة بطاعته، وله الحق في منعها من إعلان المنكر في المنزل، كنصب التماثيل، وضرب الناقوس.
ومن ذلك: الاحتفال بالأعياد المبتدعة، كعيد قيامة المسيح، لأن ذلك منكر في الإسلام، من جهتين: من جهة كونه بدعة لا أصل لها - ومثله الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعيد الأم -، ومن جهة ما يتضمنه من الاعتقاد الفاسد، من أن المسيح قتل وصلب وأدخل القبر ثم قام منه.
والحق أن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب وإنما رفع إلى السماء حياًّ.
انظري السؤال (10277) ، (43148) .
والزوج ليس له أن يجبر زوجته النصرانية على ترك اعتقادها هذا، ولكنه ينكر إشاعتها للمنكر وإظهارها له، فيجب التفريق بين حقها في الاستمرار على دينها، وبين إظهارها للمنكرات في بيته. ومثل هذا: ما لو كانت الزوجة مسلمة، وتعتقد إباحة شيء، وزوجها يعتقد تحريمه، فإن له منعها منه، لأنه قوّام الأسرة، وعليه أن ينكر ما يعتقد أنه منكر.
3- الذي عليه جمهور أهل العلم أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، إضافة إلى مخاطبتهم بالإيمان، وهذا يعني أنه يحرم عليهم ما يحرم على المسلمين من شرب الخمر، وأكل الخنزير، وإحداث البدع، أو الاحتفال بها. وعلى الزوج أن يمنع زوجته من ارتكاب شيء من ذلك، لعموم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم/6، ولا يستثنى من ذلك إلا اعتقادها وعبادتها المشروعة في دينها، كصلاتها وصومها الواجب، فإن الزوج لا يتعرض لها في ذلك، وليس من دينها شرب الخمر ولا أكل الخنزير ولا الاحتفال بالأعياد المحدثة، التي اخترعها الأحبار والرهبان.
قال ابن القيم رحمه الله: " وأما الخروج إلى الكنيسة والبيعة فله منعها منه، نص عليه الإمام أحمد في الرجل تكون له المرأة النصرانية، قال: لا يأذن لها في الخروج إلى عيد النصارى أو البيعة.
وقال في الرجل تكون له الجارية النصرانية تسأله الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم: لا يأذن لها في ذلك ".
قال ابن القيم: " وإنما وجه ذلك أنه لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه ".
وقال: " وليس له منعها من صيامها الذي تعتقد وجوبه وإن فوت عليه الاستمتاع في وقته ولا من صلاتها في بيته إلى الشرق وقد مكن النبي وفد نصارى نجران من صلاتهم في مسجده إلى قبلتهم " انتهى من "أحكام أهل الذمة" (2/819- 823) .
وصلاة وفد نصارى نجران في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها ابن القيم رحمه الله أيضاً في "زاد المعاد" (3/629) قال المحقق: "رجاله ثقات، لكنه منقطع " انتهى. يعني: أن سنده ضعيف.
وينظر السؤال (3320)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/406)
داعية سيضطر لترك بلده مع حاجة الناس إليه
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل يقوم بإمامة المسجد وإقامة الدروس والمواعظ، وأهل الحي في حاجة إليه، وهو يريد أن يترك المسجد نظراً لظروف المعيشة فهل عليه شيء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كأنك تقول إن هذا الرجل في حيّه لا يقوم أحد مقامه، والناس محتاجون إليه، فهذا يكون تعليمه لهذه الطائفة فرض عين عليه، فإذا ارتحل نظرنا:
إن كان في البلد فبإمكانه أن يأتي إلى المسجد الذي هو فيه سابقاً - وإن كان في طرف البلد –.
وإن انتقل إلى بلد آخر، فإذا كان للضرورة فلا شيء عليه، كما لو سافر لطلب الرزق وليس عنده ما يقيته، فمثل هذا لا حرج عليه، وعلى الجماعة أن يبحثوا لهم عن شخص آخر يقوم مقامه، أو يقوموا بكفاية هذا الرجل حتى يتفرغ لهم.
[الْمَصْدَرُ]
فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. "لقاءات الباب المفتوح" (3/420) .(8/407)
تشرب الخمر أمامه ويخشى إن طلقها أن تأخذ الأولاد وهي كافرة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا متزوج من امرأة نصرانية ولي منها ولدان. حدث ذات مرة في شهر رمضان وأنا أتناول طعام الإفطار أن قامت بشرب الخمر أثناء تناولها الطعام، ولا أستطيع أن أمنعها من ذلك، لأني إن حاولت فربما تطلب الطلاق وتحصل على حق حضانة الولدين فيصبح بعد ذلك من الصعب أن أجعلهما يدينان بدين الإسلام. هل يحرم علي الجلوس معها ومع عائلتها وهم يشربون الخمر في رمضان مع أني لا أشرب الخمر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الزواج بالكتابية – يهودية أو نصرانية- وإن كان جائزا، إلا أنه محفوف بعدة مخاطر، أعظمها: الخطر على دين الأولاد والذرية، فإنها قد تسعى لإفساد دينهم، لا سيما إذا كانت تقيم في غير بلاد المسلمين.
وكيف تستطيع أن تقنع أولادك بأن شرب الخمر حرام , وهم يرون أمهم تشربها!
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن المسلم إذا تزوج كتابية فله منعها من شرب الخمر , وأكل لحم الخنزير , وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة، وهو قول جماعة من الحنفية.
قال في "البحر الرائق" –حنفي- (3/111) ناقلا عن بعض الحنفية: " إن المسلم له أن يمنع زوجته الذمية من شرب الخمر كالمسلمة لو أكلت الثوم والبصل وكان زوجها يكره ذلك، له أن يمنعها. وهذا هو الحق كما لا يخفى " انتهى.
وقال في "مغني المحتاج" –شافعي- (4/314) : " الكتابية المنكوحة كمسلمة في نفقة وقسم وطلاقٍ، وتجبر على غسل حيض ونفاس وجنابة، وترك أكل خنزير في الأظهر، وتجبر هي ومسلمة على غسل ما نجس من أعضائها " انتهى.
وقال في "الإنصاف" –حنبلي- (8/352) : " تمنع الذمية من شربها مسكرا إلى أن تسكر. وليس له منعها من شربها منه ما لم يسكرها على الصحيح من المذهب. نص عليه [أي الإمام أحمد] . وعنه: تمنع منه مطلقا. وقال في "الترغيب": ومثله: أكل لحم خنزير " انتهى.
وذهب المالكية إلى أنه ليس له منعها من شرب الخمر وأكل الخنزير كما في "التاج والإكليل" (5/134) .
وإذا لم يكن بإمكانك منعها، لما ذكرت من أنها قد تطلب الطلاق وتأخذ الأولاد، فإنه ينبغي أن تبين لزوجتك أنه من حسن العشرة وطيب المعاملة بين الزوجين ألا تجهر أمامك بشرب الخمر، فإن أبت، فينبغي أن تعتزل مجلسهم حال مقارفتهم هذا المنكر العظيم. وهذا من إنكار المنكر، كما قال تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) النساء/140.
فهذه قاعدة عامة فيمن عجز عن إنكار المنكر بيده أنه يلزمه مفارقة مكان المنكر، إن قدر على ذلك، وإلا كان شريكا لصاحبه في الإثم.
وينبغي أن تتحلى بالصبر، وتبذل كل سبيل ممكن لدعوة هذه الزوجة، وتحبيبها في الإسلام بأخلاقك وأعمالك. ونوصيك بالدعاء فإنه أعظم سلاح، فلعل الله أن يهديها وأهلها على يديك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/408)
ترك الإنكار على بعض الناس ليتألفهم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز ترك الإنكار على بعض الناس في بعض المكروهات، حتى يتألفهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" ليس الأمر خاصا بالمكروهات بل حتى بعض المعاصي يتركها. مثل إنسان يتعاطى أشياء دون أشياء فإنه يبدأ بالأهم فالأهم، مثل: إنسان لا يصلي وهو عاق لوالديه، أو متهم بالخمر، أو بشيء آخر من المعاصي، فعلى الناصح أن يبدأ بالصلاة ويوضح له عظم مكانتها وأن تركها كفر، فإذا صلى أنكر عليه الناصح المنكرات الأخرى إذا رأى المصلحة في ذلك، وإن رأى أن إنكار الجميع عليه لا يؤثر في المقصود ورجا أن يهديه الله في الجميع فلا بأس بذلك؛ لقول الله سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ولهذا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام وترك الشرك قبل إنكار المنكرات التي هم عليها مما دون الشرك.
[الْمَصْدَرُ]
"مجموع فتاوى ابن باز" (9/418) .(8/409)
هل تأثم بحضورها حفلات الزواج المنكرة إن جلست بعيدا وعاونتهم في الطبخ ونحوه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يكون الاحتفال بالأعراس في بلادنا بالطبل والغناء والرقص، فهل علي من إثم لو ذهبت إلي العرس وجلست بعيداً عن مجلس الغناء وخاصة في أعراس أهل زوجي وأهلي فلا أستطيع عدم الذهاب والمعاونة في الأمور المباحة مثل الطبخ وغيره؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا يجوز حضور حفلات الأعراس المشتملة على المنكرات، كالأغاني المصحوبة بالطبل، أو سواه من المعازف، إلا الدف، أو المشتملة على الاختلاط بين الرجال والنساء، أو غير ذلك من المنكرات، إلا لمن يقدر على إنكارها، ويغلب على ظنه زوال المنكر بإنكاره.
قال ابن قدامة رحمه الله: " إذا دعي إلى وليمة فيها معصية، كالخمر والزمر والعود ونحوه، وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر، لزمه الحضور والإنكار؛ لأنه يؤدي فرضين: إجابة أخيه المسلم، وإزالة المنكر. وإن لم يقدر على الإنكار، لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر، أزاله، فإن لم يقدر انصرف. ونحو هذا قال الشافعي " انتهى من "المغني" (7/214) .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: " إذا كانت حفلات الزواج خالية من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء والغناء الماجن أو كانت إذا حضرتْ غَيَّرت ما فيها من منكرات جاز لها أن تحضر للمشاركة في السرور، بل الحضور واجب إن كان هناك منكر تقوى على إزالته.
أما إن كان في الحفلات منكرات لا تقوى على إنكارها فيحرم عليها أن تحضرها لعموم قوله تعالى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الأنعام/70، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) لقمان/6، والأحاديث الواردة في ذم الغناء والمعازف كثيرة جدا " انتهى، نقلا عن "فتاوى المرأة"، جمع: محمد المسند (ص 92) .
ثانيا:
إذا كان ذهابك للعرس ومشاركتك في الطبخ ونحوه، لا يترتب عليه سماع المنكر، أو إقراره أو الإعانة عليه، كأن يكون محل المنكر بعيدا عنك، أو أن تنصرفي من المكان قبل شروعهم في منكراتهم، فلا حرج عليك في الذهاب حينئذ، وينبغي أن تبذلي لهم النصح، وتبيني لهم حكم هذه المنكرات، وتحريم المشاركة فيها.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) النساء/140:
" قوله تعالى: (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) أي غير الكفر , (إنكم إذا مثلهم) : فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل: (إنكم إذا مثلهم) فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء.
وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية " انتهى.
وقال السعدي رحمه الله:
" وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق , التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه , وتقتحم حدوده التي حدها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها. (إِنَّكُمْ إِذًا) أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكور (مَثَلُهُمْ) لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم , والراضي بالمعصية كالفاعل لها.
والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به , فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة , أو القيام مع عدمها " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 217) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/410)
يجب الردّ على من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[السُّؤَالُ]
ـ[لا أحد منا يجهل ما يقوله النصارى من سبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا نجهل غيرة شباب الأمة الإسلامية على دينهم ورسولهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل يجوز الرد على من سبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسب المتحدث، علماً بأني قمت بشتم أحدهم وقد نصحني أحد الأقارب بعدم تكرار ذلك، لأنه يجعلهم يزيدون السب والاستهزاء، ويكون ذنبهم عليّ.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوع من أنواع الكفر، فإن صدر من مسلم كان ذلك ردّة منه، ووجب على وليّ الأمر الانتصار لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل السابّ فإن أظهر الساب التوبة وكان صادقاً نفعه ذلك عند الله ولم تُسْقط توبتُه عقوبةَ السب. وعقوبةُ الساب هي القتل.
وإن كان السابّ معاهداً كالنصراني كان ذلك نقضاً لعهده ووجب قتله، ولكن إنما يتولى ذلك ولي الأمر، فإذا سمع المسلم النصراني أو غيره يسبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجب عليه الإنكار والإغلاظ، ويجوز سبّه لأنه هو البادئ فكيف لا يُنتصر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! كما يجب الرفع عنه إلى وليّ الأمر الذي يقيم عليه عقوبة الساب، وإذا لم يكن هناك من يقيم حد الله وينتصر لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلى المسلم أن يفعل ما يقدر عليه من ذلك مما لا يؤدي إلى فساد وضرر متعد إلى غيره من الناس، أما أن يسمع المسلم الكافر يسبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يسكت، فلا يرد عليه حذراً من أن يتمادى في ذلك السب فهذا رأي خاطئ، وأما قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الأنعام/108، فليست في شأن ابتدأ سب الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما المقصود منها النهي عن سب آلهة المشركين ابتداءً؛ لئلا يسبوا الله جهلاً منهم وعدواناً، أما من ابتدأ سب الله وسب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجب الرد عليه وعقوبته بما يردعه عن كفره وعدوانه، ولو ترك للكفرة والملحدين أن يقولوا ما شاءوا دون إنكار ولا عقاب لعظم الفساد، وكان ذلك مما يحبه هؤلاء الكفار ويرضون عنه، فلا يلتفت لهذا القائل إن السب أو الرد على هذا الساب يجعله يتمادى في السب، فالمسلم لا بد أن يغار ويغضب لله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن يسمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبّ ولا يغار ولا يغضب فليس بمؤمن نعوذ بالله من الخذلان والكفران وطاعة الشيطان.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الرحمن البراك في مجلة الدعوة شهر محرم عدد (1933) .(8/411)
كيف يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أبيه ومن هم أكبر سناً منه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب مسلم (26 عامًا) تواجهني غالبًا تحديات بشأن قيامي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام من هم أكبر مني خاصة أبي (وهو مسلم) ، وأتساءل كيف يمكنني أداء هذا الواجب؛ وقتما لا يعدل أبي معنا سواء في طريقة كلامه إليّ وإلى إخواني وأمي؛ فهو لا يقضي معهم الوقت الكافي ولا يعلمهم دينهم بينما هم في ضلال بعيد، وهو يصافح ويعانق النساء في العمل بزعمه أن هذا لأغراض العمل حتى لا يشعرن بعدم الراحة أو عدم الألفة. ونفس مشكلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تواجهني بصفتي رئيسًا صغير السن لمجموعة شبابية، حيث يأمر الآباء أطفالهم الذين في مجموعتي أحيانًا بأداء بعض البدع وأنا حاضر أثناء عقد الاجتماع. فكيف يمكنني تصحيح مثل هذه الأمور وأنا في وضعي هذا، دون أن أظهر وكأني قليل الاحترام والأدب لمن هم أكبر مني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات الشرعية على المسلمين، حتى لقد جُعِلَ علامة على هذه الأمة وشرطاً لخيريتها؛ قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران/110، وقال تعالى: (والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة/71 [راجع السؤال 11403] ففي هذا إشارة لمنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين.
وأما إشكالية القيام بهذا الواجب نحو من هو أكبر منك سنا، خاصة أباك، فمن الممكن التغلب عليها إلى حد كبير إذا فهمت أن القيام بذلك الواجب لابد له من التحلي بثلاث صفات أساسية؛ هي: العلم والرفق والصبر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر؛ العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من هذه الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال؛ وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف.. " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه. ") مجموع الفتاوى 28/137.
ويعنينا هنا لحل هذه الإشكالية أن نشير أولا إلى أهمية التحلي بالحلم والرفق؛ فلا تعنف أباك، ولا تغلظ إليه؛ لأنه أولا أبوك، ثم لأنه أكبر سنا منك، واستعن على ذلك باختيار الوقت المناسب لكل حديث، وترقب وقت صفوه وقرب نفسه من التأثر والاستجابة، والاستعانة بأولي الأحلام والنهى من الصالحين الناصحين، وقبل ذلك لابد أن يلمس منك الصدق معه في القول والعمل، والنصح له في كل أمرك، ثم الخوف عليه من عذاب ربك، وبعد ذلك كله صبر جميل لحكم ربك، وما يصيبك إذا قمت لله بهذا الواجب، كما قال لقمان الحكيم لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) لقمان/17 وليكن على ذُكْر منك دائما خليل الرحمن إبراهيم؛ كيف كان خطابه لأبيه، حين نهاه عن الشرك بالله، وهو أشنع مما يعمل أبوك؛ كيف تودد إليه، وأشفق عليه ونصحه، ثم صبر على سوء جوابه؛ قال الله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (4 1) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يا أبت إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يا أبت لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا (44) يا أبت إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبراهيم لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)) سورة مريم
وأما المجموعة التي أنت ترأسها فالأمر فيها أسهل، لأن التقارب في السن بينكم يسهل قبولهم للنصح منك، خاصة إذا لمسوا فيك الصدق والنصح، وأنك تطبق على نفسك ما تدعوهم إليه، بل إن هذا التطبيق العملي هو أعظم أساليب الدعوة تأثيرا، خاصة إذا كان الكلام المباشر يسبب جوا من الإعراض والعناد.
وأما اصطدام نصحك ودعوتك بتوجيهات آبائهم لهم فالواجب أن تتجنب المصادمة الصريحة لهذه التوجيهات، بل اجعل عينك على الخطأ، ثم قم بتعليم الصواب، وإذا كان الأمر معصية يقعون فيها، فخوفهم من معصية الله وحببهم في طاعته , واجعل في قلوبهم تعظيم أمر الله ونهيه، ثم أرشدهم إلى ما ورد في هذه المعصية بخصوصها، وهكذا الحال إذا كان الأمر أمر بدعة توجد فيهم؛ اغرس في قلوبهم أولا حب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها المظهر العملي لحب النبي صلى الله عليه وسلم، واغرس في قلوبهم بغض البدعة وكيف أنها طريق إلى النار، في حين أن صاحبها يظن أنها طريق إلى الجنة، واذكر لهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في ذلك، كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، أنه قال: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ قُلْنَا أَوْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) [رواه أحمد 16692 وغيره وصححه الألباني في الصحيحة 54] ، ثم تنتقل بعد ذلك التوجيه العام إلى توجيههم إلى البدعة التي يقعون فيها بخصوصها.
على أنه ينبغي الانتباه إلى أن يكون وجودك في هذه المجموعة مقرونا بالنفع والإصلاح، فمتى كان في وجودك زيادة للخير، أو تقليل للشر، فشاركهم في اجتماعاتهم بهذا القصد واحذر أن يكون وجودك سلبيا لا خير فيه، أو تعويدا لك على تقبل الخطأ، أو جرا لك إلى تلك الأخطاء، فهنا ينبغي عليك أن تترك مكان المنكر؛ قال الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) النساء/140
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها.) تفسير ابن سعدي ص 210.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وثبتنا على الهدى وصراطه المستقيم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/412)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يعتبر المسلمون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسيات دينهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإنسان كثير النسيان كثير الخطأ النفس تأمره بالسوء والشيطان يغريه بالمعاصي وإذا كانت الأجسام تمرض , وتصيبها العلل والآفات وذلك يستلزم وجود الطبيب , الذي يصف الدواء المناسب , لتعود الأجسام إلى اعتدالها فكذلك النفوس , والقلوب تصيبها أمراض الشهوات والشبهات فتقع فيما حرم الله من سفك الدماء واستباحة الفروج وشرب الخمور. وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل والصد عن سبيل الله والكفر بالله.
أمراض القلوب أشد خطراً من أمراض الأجسام وذلك يستلزم وجود الطبيب الماهر ولكثرة أمراض القلوب، وما ينشأ عنها من الشرور والفساد كلف الله المؤمنين بعلاج تلك الأمراض، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران/104.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى الوظائف الإسلامية بل هي أشرفها وأعلاها , وهي وظيفة الأنبياء والرسل عليهم السلام كما قال سبحانه: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء/165.
وقد جعل الله الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لقيامها بهذه الوظيفة العظيمة كما قال سبحانه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران/110.
وإذا عطلت الأمة شعيرة الأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر , انتشر الظلم والفساد في الأمة واستحقت لعنة الله وقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل، لتعطيلهم هذه الشعيرة العظيمة , كما قال سبحانه: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) المائدة/78.
والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين والقيام بهما جهاد في سبيل الله والجهاد يحتاج إلى تحمل المشاق والصبر على الأذى كما قال لقمان لابنه: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) لقمان/17.
والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر رسالة عظيمة لذا يجب على من يقوم بها أن يتحلى بالأخلاق الكريمة ويعرف مقاصد الشرع ويدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة..ويعاملهم باللين واللطف لعل الله يهدي من يشاء على يديه قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/125.
والأمة التي تقيم شعائر الإسلام , وتأمر بالمعروف , وتنهى عن المنكر , تفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة ويتنزل عليها نصر الله وتأييده كما قال سبحانه: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الحج/40 - 41.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رسالة لا تنقطع إلى أن تقوم الساعة وهي واجبة على جميع الأمة رعاة ورعية رجالاً ونساءً كل حسب حاله قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم/49.
والأمة الإسلامية أمة واحدة فإذا انتشر الفساد فيها وساءت أحوالها وجب على جميع المسلمين , القيام بالإصلاح وإزالة المنكرات والأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر وبذل النصيحة لكل أحد، قال عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم/95.
وإذا أمر المسلم بشيء , ينبغي أن يكون أسرع الناس إليه وإذا نهى عن شيء , ينبغي أن يكون أبعد الناس عنه , وقد توعد الله من خالف ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف/2-3.
والإنسان مهما استقام فهو بحاجة إلى النصح , والتوجيه , والتذكير على ضوء الكتاب والسنة وقد قال الله لرسول رب العالمين , وأكمل الخلق أجمعين: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً) الأحزاب/1.
فعلينا جميعاً الأمر بالمعروف.. والنهي عن المنكر لنفوز برضا الله وجنته.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.(8/413)
هل من النفاق النهي عن الشيء ثم فعله
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كنت أعظ أخواني وأحذرهم من بعض المعاصي؛ لكني أقع أنا في هذه المعاصي؛ هل أعتبر منافقاً؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
يجب عليك التوبة من المعاصي، وموعظة إخوانك عنها، ولا يجوز لك الإقامة على المعاصي وترك النصيحة لإخوانك؛ لأن هذا جمع بين معصيتين، فعليك التوبة إلى الله من ذلك، مع النصيحة لإخوانك، ولا تكون بذلك منافقاً، ولكنك تقع فيما ذمه الله وعاب به من فعله في قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وفي قوله سبحانه: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/268.(8/414)
حضور حفلات الزواج المشتملة على منكرات
[السُّؤَالُ]
ـ[مناسبات الأفراح في هذا الزمان لا تخلو من ارتكاب بعض المنكرات فيها مثل الأغاني والرقص والموسيقى واللبس شبه العاري ... سؤالي مهم جدا:
1- هل يجوز حضور وإجابة الدعوة لهذه المناسبات؟
2- إن كان 99 %، من هذه المناسبات لا تخلو من الأغاني خاصة المحتوية على آلات الموسيقى المحرمة أو الكلمات الفاحشة، فهل هذا يعني الانقطاع النهائي وعدم حضور كل المناسبات؟
3- إن لم نحضر هذه المناسبات فهل هذا فيه قطيعة للأرحام والناس وإحداث العداوة بيننا وبينهم؟
4- يشترط العلماء لحضور هذه المناسبات الإنكار لكن الإنكار لا يُستجاب لك وليس هناك فرصة أصلا في مثل هذه الأوقات التي يزعمون أنهم في وقت فرح؟
أرجوكم يا فضيلة الشيخ أريد بيانا شافيا ووافيا ومفصلا إن سمح به وقتكم حول هذه المسألة المنتشرة في زماننا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1- لا يجوز حضور حفلات الأعراس المشتملة على المنكرات، كالأغاني المصحوبة بالموسيقى أو المتضمنة للكلمات الفاحشة، ولا يبيح ذلك انتشار هذا الفساد بين الناس، وتقاعسهم عن إنكاره.
2- وعدم الحضور لهذه الحفلات لا يعد قطيعة للرحم، بل هو صيانة للنفس عن مشاهدة المنكر واستماعه، وينبغي أن يعلم الأهل والأقارب رغبتك في الحضور والمشاركة لولا ما أحدثوه من المنكرات.
3- إذا علم المدعو بوجود المنكر وأنه لا قدرة له على إنكاره لم يجز له الحضور.
قال ابن قدامة رحمه الله في (المغني 7/214) : " إذا دعي إلى وليمة , فيها معصية , كالخمر , والزمر , والعود ونحوه , وأمكنه الإنكار , وإزالة المنكر , لزمه الحضور والإنكار ; لأنه يؤدي فرضين ; إجابة أخيه المسلم , وإزالة المنكر. وإن لم يقدر على الإنكار , لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر , أزاله , فإن لم يقدر انصرف. ونحو هذا قال الشافعي " اهـ.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: (إذا كانت حفلات الزواج خالية من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء والغناء الماجن أو كانت إذا حضرتْ غيرت ما فيها من منكرات جاز لها أن تحضر للمشاركة في السرور، بل الحضور واجب إن كان هناك منكر تقوى على إزالته.
أما إن كان في الحفلات منكرات لا تقوى على إنكارها فيحرم عليها أن تحضرها لعموم قوله تعالى:) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الأنعام/70، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) لقمان/6، والأحاديث الواردة في ذم الغناء والمعازف كثيرة جدا) ، نقلا عن فتاوى المرأة، جمع: محمد المسند، ص 92
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/415)
النصح في الوجه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من تكلم في وجه شخص وأخبره بعيوبه وهو يسمع، هل هو جائز؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
يجوز إذا كان على وجه النصح له والإنكار عليه؛ ليرتدع عن المعصية، ويكون بأسلوب حسن حتى يتقبل النصح، أما إذا كان على وجه الشماتة أو التعيير والإساءة، أو التشهير به ونحو ذلك فلا يجوز.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 342.(8/416)
درجات إنكار المنكر والجلوس مع من يفعلون المنكر
[السُّؤَالُ]
ـ[حديث (تغيير المنكر) هل المقصود: لكي يتغير المنكر أن نترك المكان الذي به منكر؟ أم نظل ونكره وننكره بقلوبنا؟ أفيدونا مأجورين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسلمون في إنكار المنكر درجات، منهم من يجب عليه إنكار المنكر بيده، كولي الأمر ومن ينوب عنه ممن أُعطي صلاحية لذلك، كالوالد مع ولده، والسيد مع عبده، والزوج مع زوجته؛ إن لم يكف مرتكب المنكر إلا بذلك. ومنهم من يجب عليه إنكاره بالنصح والإرشاد والنهي والزجر والدعوة بالتي هي أحسن دون اليد والتسلط بالقوة؛ خشية إثارة الفتن وانتشار الفوضى. ومنهم من يجب عليه الإنكار بالقلب فقط؛ لضعفه نفوذاً ولساناً، وهذا أضعف الإيمان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وإذا كانت المصلحة الشرعية في بقائه في الوسط الذي فشا فيه المنكر أرجح من المفسدة، ولم يخش على نفسه الفتنة بقي بين من يرتكبون المنكر، مع إنكاره حسب درجته، وإلا هجرهم محافظة على دينه.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة 12 / 335.(8/417)
حكم تبرير فعل المنكر بأن كثيراً من الناس يفعلونه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الرجل أو المرأة إذا قلت لهما: بأن ما تفعلونه حرام، كأن تنهى المرأة عن لبس الملابس القصيرة، أو تنهى الرجل عن شرب السجائر؛ يردون عليك بأن كل الناس تفعل ذلك، أو أن النساء في بلدنا يلبسون كذا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الجواب ممن ذكرت يعتب خطأ، وعمل الناس للمنكر لا يبرر ارتكابه، فقد قال سبحانه وتعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) ، وإنما التحليل والتحريم يؤخذان من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من فعل الناس؛ لأن الناس يخطئون ويصيبون.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 348.(8/418)
كيف تتصرف مع صديقاتها الغير ملتزمات
[السُّؤَالُ]
ـ[لي صديقات معرفتي بهن وثيقة، وهن لسن محجبات، وأنا كثيراً ما أكون معهن بحكم الصداقة والزمالة، وهن يؤثرن عليّ بأحاديثهن الهايفة الغير هادفة إلى شيء، فهن يضيعن أوقاتهن في الخروج والنادي والبحر، وليس لله والرسول إلا أوقات قليلة قد لا تذكر، وحين أتكلم عن الله وما قال الرسول أجدهن يسمونني: سيدتنا الشيخة، وهذا ما يدعوني إلا أن لا أتكلم معهن، فهل ما أنا فيه خطأ، وما هو الطريق لكي أساعدهن في أن يتجهن إلى الطريق السليم؟ مع العلم بأنني لا أستطيع تركهن.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان حالك مع صديقاتك وحال صديقاتك معك كما ذكرت، فاعتصمي بكتاب الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتهدي بالنصح لهن، أأمرهن بالمعروف وانهيهن عن المنكر، واصبري على ما ينالك منهن من الأذى، ولا يحملنك ما يصيبك من أذاهن على ترك واجبك نحوهن، من أمرهن بالمعروف ونهيهن عن المنكر، فهذه سنة الله في الدعاة والمدعويين، وقد بين الله سبحانه ذلك في قول لقمات لابنه: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهى عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) الآيات، فإذا قمت بواجب النصح لهن، وكررت ذلك مراراً، ولم يجد ذلك سبيلاً إلى نفوسهن، أو زادهن تمادياً في الباطل، فاعتزليهن خشية أن يصيبك ضعف في دينك وأخلاقك، أو أن يطغين عليك بما لا تحمد عقباه، واصدقي مع الله يعنك الله، ولا تستوحشي من فراقهن، فإن الوحدة خير من قرناء السوء، (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب) (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً) .
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 365 - 366(8/419)
إنكار المنكر بالقلب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما المقصود بإنكار المنكر بالقلب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الكلام على إنكار المنكر بالقلب يكون من وجهين: الوجه الأول: محله، والثاني: صفته.
فأما محله: فهو فيما إذا عجز العبد المسلم عن إنكار المنكر بيده ولسانه مراعيا في ذلك شروط وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأصل في ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. فهذا محله. وأما صفته: فهو أن يشعر المؤمن في قلبه، بكراهة هذا المنكر وبغضه له، وأن يتمنى أن لو قدر على تغييره، وأن يناله حزن وهم لعدم قدرته على تغيير هذا المنكر، وهذا الأخير هو من أمارات صدق الإنكار بالقلب وينبغي أن ينضم إلى ذلك سؤال الله جل وعلا الإعانة على تغيير هذا البلاء وإزالته حقيقته. نسأل الله جل وعلا ـ لنا ولجميع المؤمنين التخلق بهذا الخلق المبارك. . ومما ينبغي أن يشار إليه أنه إن كان الإنسان عاجزاً عن تغيير المنكر إلا أنه بوسعه مفارقة المكان الذي يعصي الله فيه، فيجب عليه مفارقته ولا يكتفي في هذه الحالة بإنكار القلب فقط. وقد قال جل وعلا:" وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ". وقال تعالى: " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ". وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
[الْمَصْدَرُ]
إجابة لسؤال من موقع الشبكة الإسلامية(8/420)
هل يجوز أن يعرض مالاً على شخص ما بشرط أن يفعل عمل صالحاً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن تعرض مالاً لشخص ما بشرط أن يفعل عمل صالحاً؟ مثلاً: أن أعرض على عمي أن أدفع له 500 درهماً مقابل أن يطلق لحيته.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي يظهر أنه لا بأس في هذا الفعل، وقد أوجب الله تعالى على عباده أفعالاً، ووعدهم على فعلها الثواب الجزيل في الدنيا، ترغيباً لهم في فعلها، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق / 2-3.
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) رواه البخاري (5986) ومسلم (2557) . ومعنى " يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ" أي: يؤخر أجله.
ومن باب التشجيع على الأفعال أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن قتل قتيلاً من الكفار في أرض المعركة أن يأخذ سلَبه.
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عام حنين –: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلَبه ".
رواه البخاري (2973) ومسلم (1751) .
والسَّلَب: هو ما يوجد مع المحارب من مال ومتاع ولباس وسلاح.
وأجاز العلماء وضع جائزة لحفظ سورٍ من القرآن أو أحاديث من السنة أو لحل مسابقة علمية.
سئل علماء اللجنة الدائمة:
ما الحكم في أخذ جوائز في مسابقة لحفظ القرآن؟
فأجابوا:
لا حرج في ذلك، ولا فرق بين الرجال والنساء في هذا الأمر.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 126) .
هذا بالنسبة للدافع وللعارض: وهو جواز عرض وإعطاء مال لمن يطلق لحيته أو ما يشبهه من التزام شيء من أحكام الشرع.
أما بالنسبة للآخذ: فإن كان قد أطلق لحيته لأجل هذه الجائزة: فلا أجر له على هذا الفعل، إلا أن تكون هذه الجائزة دافعاً له لتطبيق ما أمره الله تعالى به، أو أنه بدأ من أجل الجائزة ثم غَيَّر نيتَه بعد فعله هذا والتزامه: فهو مأجور على ما سلمت فيه النية، ولا يضره أنه فعل ذلك ابتداء من أجل الجائزة.
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، أَسْلِمُوا، فَو َاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً، مَا يَخَافُ الْفَقْرَ.
فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلا الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه مسلم (2312) .
قال النووي:
هكذا هو في معظم النسخ: " فما يسلم " , وفي بعضها " فما يمسي " , وكلاهما صحيح , ومعنى الأول: فما يلبث بعد إسلامه إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه , والمراد: أنه يُظهر الإسلام أولا للدنيا , لا بقصد صحيح بقلبه , ثم من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ونور الإسلام لم يلبث إلا قليلا حتى ينشرح صدره بحقيقة الإيمان , ويتمكن من قلبه , فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا وما فيها.
" شرح مسلم " (15 / 72، 73) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/421)
على المسلمين المقيمين في دولة كافرة أن يتجمعوا
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز إقامة أحزاب إسلامية في دولة علمانية، وتكون الأحزاب رسمية ضمن القانون، ولكن غايتها الدعوة إلى الله؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يشرع للمسلمين المبتلين بالإقامة في دولة كافرة أن يتجمعوا ويترابطوا ويتعاونوا فيما بينهم، سواء كان ذلك باسم أحزاب إسلامية أو جمعيات إسلامية لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى.
وبالله التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (23 / 407) .(8/422)
يبحث عن المواقع السيئة ليراسل مراكز حجبها فهل أحسن أم أساء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أتصفح الشبكة مستهدفا المواقع غير الأخلاقية وأرسلها بعد ذلك إلى مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا ليقوموا بحجبها. فهل يحسب هذا العمل لصالحي أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يُشكر للأخ السائل غيرته على المحارم، وبغضه للمعصية، وحبه لمحاربتها، وتخليص الناس من شرورها، لكننا لا ننصحه بتتبع مواقع الفساد من أجل التبليغ عنها لحجبها؛ وذلك لأسباب كثيرة، منها:
1. إخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره من فتنة النساء، ولا شك أن فتنة النساء العاريات وفي أوضاع مخلة أعظم.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ) . رواه البخاري (4808) ومسلم (2740) .
2. أن المسلم مأمور بالابتعاد عن أماكن الفتنة، والفرار من مواضعها، والبعد عن أهلها، ولا شك أن تتبع هذه المواقع مخالف لكل هذا.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ (أي فليبعد) فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ) . رواه أبو داود (4319) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (6301) .
قال ابن الجوزي رحمه الله:
واحذر - رحمك الله - أن تتعرض لسبب لبلاء، فبعيد أن يسلم مقارب الفتنة منها، وكما أن الحذر مقرون بالنجاة: فالتعرض للفتنة مقرون بالعطب (الهلاك) ، وندر من يسلم من الفتنة مع مقاربتها، على أنه لا يسلم من تفكر وتصور وهمٍّ.
" ذم الهوى " (ص 126) .
3. أن المسلم مأمور بغض البصر عن المحرمات، والتصفح للمواقع الإباحية وما فيها يخالف هذا الأمر.
قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) النور/30.
قال ابن كثير رحمه الله:
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع بصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا، كما رواه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
" تفسير ابن كثير " (3 / 282) .
4. وقد ثبت النص الصحيح في النهي عن النظر إلى عورة الرجل من قبَل الرجل، فما بالك بنظره إلى عورة المرأة؟
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، وَلا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ) . رواه مسلم (338) .
5. أن المسلم ليس له إلا النظرة الأولى، وتكرار النظر في المواقع الفاسدة يخالف هذا.
عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (يَا عَلِيُّ، لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ) رواه الترمذي (2777) وأبو داود (2149) .
والحديث: حسَّنه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " (1903)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي. رواه مسلم (2159) .
قال النووي:
ومعنى " نظر الفجأة ": أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم، لهذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يصرف بصره مع قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا) . . .
ويجب على الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض صحيح شرعي وهو حالة الشهادة والمداواة وإرادة خطبتها أو شراء الجارية أو المعاملة بالبيع والشراء وغيرهما ونحو ذلك وإنما يباح في جميع هذا قدر الحاجة دون ما زاد والله أعلم.
" شرح مسلم " (14 / 139) .
6. أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى نظر الحرام بـ " زنا العين "، وهو بالإضافة لكونه حراماً من جهة التعدي في النظر فهو – أيضاً – كفرٌ بالنعمة التي وهبها الله للمسلم.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ) . رواه البخاري (5899) ومسلم (2657) .
قال النووي:
معنى الحديث: أن ابن آدم قدر عليه نصيب من النا فمنهم من يكون زناه حقيقيّاً بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازاً بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده، أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنا أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنا المجازي.
" والفرج يصدِّق ذلك كله أو يكذبه " معناه: أنه قد يحقق الزنا بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك، والله اعلم.
" شرح مسلم " (16 / 206) .
7. أن المواقع الإباحية من المتوقع أن تكون (8) مليارات! فقد كانت حوالي نصف مليار عام 1998 م فكيف بها الآن؟ فلو أعطى كل موقع نظرة واحدة، فكيف سيكون حال قلبه؟ وكم سيستغرق من الأوقات لتتبعها؟ لذا لا يُشك أن مثل هذا الفعل سبب لهلاك القلب والبدن والوقت.
8. أن تتابع النظر إلى تلك المواقع الفاسدة والمثيرة قد يودي بصاحبها لتعلق القلب بهن فيستحكم العشق المحرم على قلبه فيفسده، فيكون قد عرَّض نفسه لفتنة وهلاك بعد أن كان سالماً معافى.
قال ابن الجوزي رحمه الله:
وقد يتعرض الإنسان لأسباب العشق فيعشق، فإنه قد يرى الشخص فلا توجب رؤيته محبته فيديم النظر والمخالطة فيقع ما لم يكن في حسابه، ومن الناس من توجب له الرؤية نوع محبة، فيعرض عن المحبوب فيزول ذلك، فإن داوم النظر نمت، كالجنة (البستان) إذا زرعت فإنها إن أهملت يبست، وإن سقيت نمت. " ذم الهوى " (ص 237) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
وكلما تواصلت النظرات وتتابعت كلما زاد تعلق القلب وهيجانه، مثل المياه تسقى بها الشجرة فإذا أكثر من المياه فإنها تفسد الشجرة، وكذلك النظر إذا كرر وأعيد فإنه يفسد القلب لا محالة، فإذا تعرض القلب لهذا البلاء فإنه يعرض عما أُمِرَ به ويخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التلف، والسبب في هذا: أن الناظر الْتَذَّتْ عينُه بأول نظرة فطلبت المعاودة كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه وسلِم. " روضة المحبين " (ص 94، 95) .
وقال رحمه الله:
إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق، كما قال الله تعالى عن عشاق الصور: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر/72.
فالنظرة كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر؛ فإن سكران الخمر يفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات. " روضة المحبين " (ص 104) .
9. أن تتابع النظر إلى تلك المواقع الهابطة قد يؤدي بصاحبها إلى الوقوع في الحرام، بل إلى تقليد ما يراه، فالبداية النظر، والنهاية الوقوع في المحظور.
قال ابن القيم:
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد، ما لم يمنع مانع، ولهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر " الجواب الكافي " (ص 106) .
10. وفي تتابع النظر إلى تلك المواقع الفاسدة مضار أخرى من جوانب متعددة، ومنها: موت الإحساس؛ لأن " كثرة المساس تفقد الإحساس " – كما يقولون – فلن يعود هذا الأمر منكراً – بعد فترة – وستتعود على النظر، وهو علامة على موت القلب وفقدان الحس الشرعي تجاه المعصية، ومنها: تعريض النفس للتهمة، فقد يراك أحدٌ دخلت هذه المواقع، أو قد تُرى في جهازك من قبَل آخرين، وفي هذا تعريض للنفس للتهمة.
وأخيرا. . .
الذي ينبغي الابتعاد عن تتبع مواقع الفساد هذه، ولو من أجل التبليغ عنها، فإن هذا السبب قد يُزيَّن في نفسه من أجل الوصول إلى ما بعده من منكرات.
وقد وجدت طرق فنية تغني المسلم عن تتبع مثل هذه المواقع، كما أنه يوجد لجان مختصة في بعض الدوائر الحكومية أو الشركات تقوم بحجب هذه المواقع، ولا شك أن ما تراه لجنة في موقع عمل ليس كمن يرى هذه المواقع وحيداً في بيته، ففعله أدعى للوقوع فيما سبق ذكره من مفاسد.
وليس هذا الكلام عن خيال ولا وهم ولا توقع لمستحيل أو بعيد، فكثيراً ما نسمع حكاية شاب مستقيم افتتن بمثل هذه المواقع، فبدأ بالنظر، ثم قتل وقته فيها.
وأنت – أخي الفاضل – في غنى عن هذا كله، واسلم برأس مالك، ولا تضيعه عليك، ونسأل الله تعالى أن يكتب لك الأجر كاملاً، وأن يثبتك على الحق والهدى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/423)
يُطلب منه إنكار المنكر بالإيميل
[السُّؤَالُ]
ـ[في الآونة الأخيرة نجد أن بعض أعداء الله يسب الإسلام أو يسئ إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وذلك إما بالكلام أو ببعض الرسومات - قاتلهم الله -، وحيث إنه يأتينا في بعض الأحيان بالبريد الإلكتروني من هذه الأخبار ويطلب من المسلمين أن ينكروا هذا الفعل إما بإرسال بريد إلكتروني وإما بإرسال بريد عادي أو بالاتصال بذلك الشخص المسيء لمشاعر المسلمين. وسؤالي هو: هل إذا لم نفعل ذلك الاستنكار نكون آثمين؟ أم هل إذا قام به البعض سقط عن الباقين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: الأصل أن إنكار المنكر فرض على الكفاية، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
قال النووي – رحمه الله – في شرح صحيح مسلم:
(ثم إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أولا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف) انتهى.
ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة لترك المسلمين هذه الفريضة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل على المسلمين القيام بذلك، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) رواه مسلم (49)
ويتأكد ذلك كلما عَظُم المنكر وفحش، ولا منكر أعظم من سبّ الله تعالى أو سب دينه الإسلام أو سبّ رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن اطلع على شيء من هذه الإساءة، في صحيفة أو مجلة أو قناة فضائية أو غيرها، فعليه إنكارها حسب استطاعته، بيده أو بلسانه أو بقلبه، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
ومن لم ير ذلك ولم يطلع عليه، لكن أُخبر بوجوده، فينبغي أن يبادر بالإنكار أيضا، كأن يتصل على الصحيفة أو القناة، وينكر عليهم ما نشر فيها، أو يتصل على صاحب المقالة نفسها، فإن الناس إذا رأوا كثرة المنكرين تهيبوا من إعادة الإساءة، وربما أعلنوا اعتذارهم وتوبتهم.
كما أن اتفاق الجمع الكبير من الناس على إنكار المنكر يدل على قوة أهل الدين، وغيرتهم، ويقظتهم لما يذاع وينشر، وهذا مطلوب شرعا؛ وإلا لتجرأ في كل يوم متجرئ.
وأيضا: فهذا باب لتحصيل الأجر، فإن الناهي عن المنكر مأجور مثاب.
نسأل الله تعالى أن يعزّ دينه، وأن يذل أهل الزيغ والضلال.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/424)
مسؤولية الأخ تجاه أخوته في البيت
[السُّؤَالُ]
ـ[يعمل والدي بالخارج، وأنا الابن الأكبر في الأسرة أعيش مع والدتي وإخوتي. فهل اعتبر أنا المسئول عن إخوتي، بحيث يجب علي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وعليهم طاعتي في ذلك، أم أن هذه مسئوليتي أمي؟ وإذا قصرت أمي في هذه فتركت إخوتي يفعلون بعض المنكرات فماذا علي؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليك في أي وقت، سواء عند وجود والدك معك أو عند تغيبه عن البيت، وهو كذلك مسؤولية الجميع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم (78) .
وعلى هذا فهو واجب على المسلمين عامة، وعلى الآباء والأمهات مع أولادهم خاصة، وإذا قصّر الأب أو الأمّ في ذلك وجب على الابن صغيراً كان أو كبيراً أن يبذل جهده في ذلك بما يستطيعه بأدب وحكمة، والله تعالى يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن / 16، ويقول أيضاً: (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها) البقرة / 286.
وعليك أن تراعي المصلحة في ذلك وأن تدرأ المفسدة المترتبة على ذلك إن كانت أعظم مما تقوم به من نصحهم، وعليك أن تظهر لهم أنك حريص على مصلحتهم، ومشفق عليهم وتريد نفعهم حتى يكون ذلك أدعى لقبولهم وامتثالهم ما تأمرهم به، من غير أن يكون ذلك على سبيل السلطة والقهر.
ونسأل الله لك الإعانة والتوفيق والسداد في أمورك.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/425)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآية (عليكم أنفسكم)
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نرد بحجة قوية ومقنعة على من احتج بقوله تعالى: (ياأيها الناس عليكم أنفسكم) إذا أُمر بالمعروف أو نُهي عن منكر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية الكريمة من سورة المائدة، مما يخطئ بعض الناس في فهمها، ويتوهمون أنها تدل على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما احتجوا بها على من أمرهم أو نهاهم.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة / 105
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله (إذا اهتديتم) لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد. وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.
فمن العلماء من قال: (إذا اهتديتم) أي أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جدا ولا ينبغي العدول عنه لمنصف.
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر، في قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده، فمن ذلك ... وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" رواه أبو داود (4338) والترمذي (2168) والنسائي بأسانيد صحيحة (وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 2448)) انتهى من أضواء البيان 2/169
وكلامه رحمه الله كاف واف.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/426)
زوجته لا تريد أن تصوم
[السُّؤَالُ]
ـ[أخي متدين ولكن زوجته غير متدينة فهي لا تصوم ولا تدري أصلاً عن رمضان، لا يوجد أحد من أقربائنا يسكن قريباً منه ويجده من الصعب أن يؤثر على زوجته أو يجعلها تتغير، يدعو الله لها أن يهديها وأن يرزقه الصبر عليها، ولكن الذي يبدو أنها لا تريد أن تتغير أو أن تتصرف كالمسلمين.
هل يمكن أن تخبرني كيف يتصرف معها لكي تقرب أكثر للإسلام وتصبح متدينة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الواجب على أخيك أن يسعى بكل الوسائل لهداية زوجته إلى طريق الحق، فيستعمل معها أسلوب الترغيب والترهيب، ويذكرها بالله عز وجل وحقوقه، ويعظها وينبهها إلى خطر ما هي عليه، ثم ليسعى إلى ربطها بصحبة صالحة، ولو لم تكن من أقاربه، كأن يربطها بزوجات أصحابه المستقيمات الصالحات، ويحضر لها الأشرطة النافعة، والكتيبات المفيدة، فإن أطاعته فهذا هو المطلوب، وإلا فلا مانع من أن يستعمل معها أسلوب الهجر إذا كان مفيدا في مثل هذه الحالة، فإنه إذا شرع الهجر لأجل حق الزوج، فلأن يشرع لأجل حق الله من باب أولى.
وقد ثبت عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا لي اصعد، فقلت إني لا أطيقه، فقالا إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت ما هذه الأصوات قالوا هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما، فقلت من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) رواه البيهقي برقم 7796، وصححه الألباني
فإذا كانت تلك عقوبة من يفطر قبل موعد الإفطار، فكيف بمن لا يصوم أصلا.
أما إذا كانت تلك الزوجة تضيف إلى عدم صيامها عدم الصلاة بالكلية، فإنها بذلك تكون قد خرجت عن حظيرة الإسلام على الراجح من أقوال أهل العلم، وعليه فلا يجوز لأخيك أن يبقيها تحت عصمته.
والله أعلم.
يراجع السؤال رقم (12828) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/427)
ما العمل مع أخواته اللاتي لا يلبسن الحجاب الكامل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب هداني الله والحمد كل الحمد لله جل جلاله منذ نحو أربعة أشهر وقد فوجئت بما يقع فيه الناس من بدع ومحدثات الأمور لذلك أنا على اتصال دائم بموقعكم هذا. أما بعد فأنا يا شيخنا أعيش في أسرة جميع أفرادها يصلي والحمد لله ولي أختان (16,14 عاما) وهما لا ترتديان الجلباب وإنما ترتديان غطاء الرأس فقط وعندما أحاول إقناعهما تقف لي والدتي بالمرصاد مع أنها هي ترتدي الجلباب وتقول لي عندما تكبران سوف نلبسهما الجلباب وأنا التزاماً لما جاء في قرآننا الكريم من أمر باحترام الوالدين أسكت. وأريد أن أسأل:
1- هل أسكت وأنتظر إلى أن تكبر أختاي؟
2- هل أخالف والديّ وأعصيهما وأغصب أختيّ على لبس الجلباب , خاصة وأن والديّ معارضان وبشدة لهذه الفكرة في الوقت الحالي.؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يزيدك هدى وإيمانا، وأن يثبتنا وإياك على دينه.
وينبغي أن تستمر في نصح أختيك بلبس الجلباب، ونصح والديك بإلزامهما أمر الله تعالى، وليكن ذلك برفق ولطف، ولعلك تستعين في هذا الأمر ببعض الأشرطة والكتيبات الموضحة لحكم الجلباب، المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الأحزاب / 59
قال القرطبي رحمه الله: (لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا. وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ونزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره) انتهى. انظر السؤال رقم (11774) .
وما يردده بعض الناس من أن الفتاة لا تُلزم بالحجاب أو الجلباب إلا بعد زواجها أو إنهاء تعليمها أو غير ذلك، لا أصل له، بل كل فتاة بالغة يلزمها هذا الحكم الشرعي، سواء كان سنها 12 أو 18 أو غير ذلك. وانظر للأهمية السؤال (20475)
وينبغي أن يعلم الآباء والأمهات أنهم مسئولون أمام الله تعالى، عما استرعاهم من أمر أبنائهم، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم / 6. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته) الحديث رواه البخاري 893، ومسلم 1829
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " رواه ابن حبان، وصححه الألباني في غاية المرام برقم 271
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/428)
التحذير من نكاح المشكوك في عفافها
[السُّؤَالُ]
ـ[وصلني قبل فترة رسالة إلكترونية من إحدى قريباتي عن طريق الخطأ وتعترف فيها بأنها قد زنت مع أحد الشباب وفعلت كل شيء، لا أحد يدري عن هذا ولم أخبر أحداً به، المشكلة أن جدتي اختارت تلك الفتاة كزوجة لأخي وطلبت هذا من والدي، والدي يفعل كل ما تأمره به أمه، لا أستطيع أن أخبر والديّ بالموضوع ولا حتى أخي وإن أخبرت جدتي بالأمر فلن تفعل شيئا لأن تلك الفتاة تكون ابنة أختها ولن تخبر والديّ بالأمر، فماذا أفعل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينبغي أن تعلم أولاً أن الرسالة التي وصلتك عن طريق الخطأ قد تكون مكذوبة على هذه الفتاة.
ثانيا: إذا تأكدت من صحة هذه الرسالة، فلا يخلو الأمر من حالين:
الأولى:
أن تكون هذه الفتاة قد بدا عليها التغير والصلاح والاستقامة، وانقطعت علاقتها بالحرام، فلا حرج في زواج أخيك منها، وينبغي أن تستر عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " رواه البخاري (2310) ومسلم (2580) .
انظر السؤال (4882) (26810)
وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن التوبة من الذنب تمحوه، قال عليه الصلاة والسلام: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3427) .
انظر السؤال رقم (13990) (14289) (27176)
الثانية:
أن تكون هذه المرأة غير مرضية الدين والخلق، أو لا يؤمن رجوعها للحرام، فالواجب نصح أخيك بعدم الزواج منها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم " رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
ولا يكون ذلك بقذفها أو فضحها، وإنما بمحاولة صرف أخيك عن الزواج منها، كأن ترسل له رسالة، أو تخبره مشافهة بأنه لا خير له في الزواج من هذه الفتاة، فإن لم ينصرف عنها بذلك، فبقولك: إنك تعلم عنها ما يوجب الإعراض عن خطبتها، ونحو ذلك مما يزهده في نكاحها، حتى لو اضطررت إلى حكاية ما حصل من وصول الرسالة دون الوقوع في قذفها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/429)
المساعدة في شراء الخمر وغيرها من المحرمات
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم المسلم الذي يساعد غير المسلم بالمال لشراء خمر؟ أو يوصله لشر أو كبائر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز مساعدة الكافر ولا المسلم على شراء الخمر ولا غير ذلك من الشرور والمعاصي والآثام وفاعل ذلك خاسر آثم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك في القرآن فقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة / 2.
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة.
عن أنس بن مالك قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له ".
رواه الترمذي: (1259) وابن ماجه (3381) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " رقم (1041) .
فمن شرب الخمر أو أعان على شربها كان مستحقّاً للعن الوارد في الحديث، فلا يحل لك أن تعين أحداً على شرب الخمر أو غيرها من المحرمات.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/430)
تغيير المنكر باليد
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يغير المنكر باليد؟ ولمن يكون التغيير باليد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الله جل جلاله وصف المؤمنين بإنكار المنكر، والأمر بالمعروف قال تعالى: (َالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) التوبة/71.
وقال تعالى: (َلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) آل عمران/104.
وقال تعالى: (كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) آل عمران /110.
والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، وما ذاك إلا لأهميته وشدة الحاجة إليه.
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه سلم: (من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) . رواه مسلم في الصحيح.
فالإنكار يكون باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك، فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده. وأهل بيته فيما يستطيع.
أما من لا يستطيع ذلك، أو إذا غيره بيده يترتب عليه الفتنة والنزاع، والمضاربات، فإنه لا يغير بيده، بل ينكر بلسانه ويكفيه ذلك لئلاًّ يقع بإنكاره باليد ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره، كما نص على ذلك أهل العلم.
أما هو فحسبه أن ينكر بلسانه فيقول يا أخي: اتق الله هذا لا يجوز، هذا يجب تركه، هذا يجب فعله، ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة، والأسلوب الحسن.
ثم بعد اللسان القلب، يعني يكره بقلبه المنكر، ويظهر كراهته ولا يجلس مع أهله، فهذا من إنكاره بالقلب.. والله ولي التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز "مجلة البحوث الإسلامية" (36/121-122) .(8/431)
التعدي بالحكم على شخص بالردَّة لأنه خرج مع فتاة متبرِّجة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الحكم فيمن قال لشخص: قد ارتددت عن الإسلام؟ لأنه ذهب مع فتاة متبرجة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا يجوز للمسلم أن يتساهل في إطلاق لفظ الكفر فإن الحكم على المسلم الموحِّد بأنه كافر من كبائر الذنوب. وقد روى مسلم (60) عن عبد الله بن عمر أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) .
وروى البخاري (6045) عن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلا بِالْفُسُوقِ وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ)
ثانياً:
ينبغي لمن أراد أن ينكر منكراً، أو أن يعظ عاصياً أن يكون ذلك برفق ولين فإنه أقرب إلى قبول كلامه والتأثر بموعظته فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)
قال النووي:
وفي هذا الحديث " فَضْل الرِّفْق وَالْحَثّ عَلَى التَّخَلُّق بِهِ , وَذَمّ الْعُنْف , وَالرِّفْق سَبَب كُلّ خَيْر. وَمَعْنَى يُعْطِي عَلَى الرِّفْق أَيْ يُثِيب عَلَيْهِ مَا لا يُثِيب عَلَى غَيْره. وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ يَتَأَتَّى بِهِ مِنْ الأَغْرَاض , وَيُسَهَّل مِنْ الْمَطَالِب مَا لا يَتَأَتَّى بِغَيْرِهِ " اهـ.
وأما إطلاق نحو هذه الألفاظ: كافر، فاسق، مرتد، ... إلخ
فقد يكون سبباً لنفور الشخص وتماديه في المعصية وعدم قبوله الحق.
قال الحافظ في شرحه لحديث أبي ذر المتقدم:
"وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ قَالَ لآخَر أَنْتَ فَاسِق أَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ كَافِر فَإِنْ كَانَ لَيْسَ كَمَا قَالَ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقّ لِلْوَصْفِ الْمَذْكُور , وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَرْجِع عَلَيْهِ شَيْء لِكَوْنِهِ صَدَقَ فِيمَا قَالَ , وَلَكِنْ لا يَلْزَم مِنْ كَوْنه لا يَصِير بِذَلِكَ فَاسِقًا وَلا كَافِرًا أَنْ لا يَكُون آثِمًا فِي صُورَة قَوْله لَهُ أَنْتَ فَاسِق بَلْ فِي هَذِهِ الصُّورَة تَفْصِيل: إِنْ قَصَدَ نُصْحه أَوْ نُصْح غَيْره بِبَيَانِ حَاله جَازَ , وَإِنْ قَصَدَ تَعْيِيره وَشُهْرَته بِذَلِكَ وَمَحْض أَذَاهُ لَمْ يَجُزْ ; لأَنَّهُ مَأْمُور بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ وَتَعْلِيمه وَعِظَته بِالْحُسْنَى , فَمَهْمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ بِالرِّفْقِ لا يَجُوز لَهُ أَنْ يَفْعَلهُ بِالْعُنْفِ لأَنَّهُ قَدْ يَكُون سَبَبًا لإِغْرَائِهِ وَإِصْرَاره عَلَى ذَلِكَ الْفِعْل كَمَا فِي طَبْع كَثِير مِنْ النَّاس مِنْ الأَنَفَة" اهـ.
ثالثاً:
" الذهاب مع فتاة متبرجة لا يكون كفراً، بل هو معصية لكونه من وسائل وقوع الفاحشة، ولكن ينبغي نصح هذا الشخص الذي ذهب مع الفتاة المتبرجة لعل الله أن يهديه" اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى اللجنة الدائمة (17/66) .(8/432)
الدعوة عبر المحادثات الخاصة
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو منك أن تدلني على طريقة معينه لدعوة الشباب على " التشات "، حيث وجدت الاستجابة من بعضهم، فأرجو منك أن تساعدني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الدخول في برامج المحادثة له مفاسد كثيرة، ولذلك لا ننصح أحداً أن يوجه همته وطاقته ويجعلهما فيها، فكثير من الشباب فُتن في هذه المحادثات بالتعرف على فتيات، فبدأها بالدعوة إلى الله وانتهى به الأمر إلى الانشغال التام والفتنة وبعضهم قد يقع في الفاحشة.
ويرد لموقعنا كثير من القصص المؤلمة بعضها لفتيات تائبات، وبعضها الآخر لنساء بعض المستقيمين والذين تغيرت حياتهم بمثل هذه البرامج.
لذا نرى أن يقتصر الأمر على بعض الدعاة في عمل جماعي منظم؛ وذلك خشية الوقوع فيما لا تحمد عقباه مما تبدأ خطواته بالمحادثة الدعوية، وتنتهي – في غالبها – بما لا يجوز شرعاً من منكرات التعلق القلبي المفسد وما يتبعه، والشيطان له خطوات يسلكها مع من يريد فتنته وإغواءه، لذا فالحذر هو الواجب في مثل هذه الأمور.
ونشكر لك غيرتك على وقوع الناس في المعصية، ونشكر همتك العالية في الدعوة إلى الله، لكننا نود منك أن توجه طاقتك في الكتابة العامة في المنتديات، والخطابة والتدريس في المساجد والأماكن العامة، وهذا أكثر نفعاً وخير لك – إن شاء الله – من المحادثات الخاصة والدعوة من خلالها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/433)
تشتكي من تعلق زوجها الداعية بهيئة الأمر بالمعروف
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا فتاة متزوجة من شاب ملتزم ومرتاحة معه ولله الحمد، وهو متعاون مع رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنا أعرف أن تعاونه معهم يعد شرفاً لي، ويعلم الله أني أفرح إذا تمكن من تغيير بعض المنكرات.
ولكن مشكلتي معه أنه متعلق بهم تعلقاً خياليّاً، مثلاً إذا كنا طالعين نتمشى ورأى شيئاً منكراً يتبعه إلى أن يتصل برجال الهيئة ويحضروا، وإذا ناقشته في الأمر ظن أنني لا أريد القضاء على المنكرات!! ويعلم الله أن هذه ليست رغبتي ولكن أريد أن يكون بقدر، وأيضاً: ما يزعجني في هذه القضية أنه يتكلم مع النساء وبكثرة , ويجن جنوني وتثار غيرتي إذا قال: هذه لابسة كذا أو هذه شكلها كذا.
دلوني ماذا أعمل، وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نهنئك أولاً على هذه النفسية العالية والأخلاق النبيلة في فرحك بعمل زوجك، وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
ونوصيك بالوقوف إلى جانب زوجكِ وتشجيعه على هذا العمل، وعدم الشك فيه والتضجر من فعله واهتمامه به.
وأما بالنسبة لما يقوله لك من قضايا النساء فإنه كما هو ظاهر يخبرك به لثقته بك، ويخبرك به لا ليغيظك، ولا ليبين لك إعجابه بهن، ولكنه قد يخبرك بذلك من باب الإخبار بعض المنكرات التي يفعلها الناس لتكوني منها على حذر، أو من باب التنفيس عن نفسه، فبعض الناس إذا رأى المنكرات يكاد قلبه يحترق، فيحتاج إلى من يتحدث معه لينفس عن نفسه. فينبغي أن تنتبهي لهذا ولا يدخل الشيطان عليك من هذا الباب.
ولا مانع من نصيحته فيما يقصر فيه معكم، على أن يكون ذلك بالتي هي أحسن ودون أن يكون ذلك بالتشكيك في نزاهته وأخلاقه.
والنصيحة للزوج أن يعطي أهله حقهم، ومعاشرتهم بالمعروف، وعليه بمراعاة مشاعرهم. فلا يصف النساء أمام زوجته. فكما أن الرجل لا يرضى من زوجته أن تصف له الرجال، فكذلك المرأة لا ترضى أن يصف لها زوجها النساء.
وعليه أن يجتنب كثرة الكلام مع النساء، وليقتصر على ما يحتاج إليه فقط في تغيير المنكر أو التنبيه عليه ونحو ذلك، فإن التوسع في ذلك والتساهل فيه قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، وليجتهد في غض البصر، فإن النظرة سهم من سهام إبليس.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/434)
مسئولية الزوج من تقصير زوجته في الصلاة
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كانت الزوجة لا تصلي بانتظام أو لا تصوم أو تخل ببعض التزاماتها الدينية الأخرى، فهل الزوج مسئول عن هذا يوم الحساب، وهل سيعاقب عليه وما هي مسئوليته حيال هذا الموضوع في هذه الدنيا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) ففي هذه الآية أن الرجل والٍ على المرأة وقوّام عليها، وفي الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " والرجل راعٍ على أهل بيته ومسئول عن رعيته، كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالرجل راع ومسئول عن رعيته ". واهم ما يجب على الراعي توجيه رعيته إلى القيام بأمر الله بفعل ما أوجب الله، وترك ما حرّم، بهذا يؤدي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعلى الزوج أن يأمر زوجته بما أوجب الله عليها وينهاها عما حرّم، واعظم الواجبات على المسلم الصلوات الخمس وصيام رمضان، هذان ركنان من أركان الإسلام، فالواجب على الزوج أن يأمر زوجته بأدائها وبالمحافظة على هاتين الفريضتين، ولا يجوز له أن يتهاون في ذلك، وكذلك سائر الواجبات، وعليه أن ينهاها عما حرّم الله من الأقوال والأفعال، فإذا رأى منها التجاوب والطاعة فهذا هو المراد، وإن أصرّت على عصيانها فينبغي للمسلم ألا يبقيها له زوجه، بل عليه أن يطلقها، فكيف يرضى المسلم بزوجة لا تصلي أو تترك بعض الأوقات أو لا تصوم رمضان، هذا مما لا يليق بالمسلم، والله تعالى يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) . فمن قام بالواجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبرأ ذمته، ويسلم من عقوبة الله، ومن أهمل وتهاون فإنه يعرض نفسه لما توّعد الله به التاركين لهذا الواجب، قال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) ، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم) قال المفسرون: إذا اهتديتم: أي إذا قمتم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ: عبد الرحمن البراك.(8/435)
هل كان أحد من الصالحين يجلس مع السكارى
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أنه كان رجل لا أدري هل هو من الصحابة أو عاش في وقت آخر يجلس مع السكارى ليتأكد أنهم حين عودتهم إلى بيوتهم لا يؤذوا أنفسهم. فهل سمعت بهذا؟
قرأت اسم أبو ثور في فقه السنة وأريد أن أعرف القليل عنه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما ذكرته قصة غريبة، لا نعرف عنها شيئاً، ولكن الذي نعرفه ونوقن به أن الجلوس مع شاربي الخمور محرم حال شربهم وتعاطيهم للسُكْر، لأن الله نهى المسلم عن الجلوس في المجالس التي فيها المنكرات في قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأنعام / 68. وقال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) النساء / 140. وقد أُتيَ عمر بن عبد العزيز رحمه الله بقوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فكان أحدهم يعتذر بأنه لم يشربها، فأمر بجلده معهم وقرأ هذه الآية. والله أعلم.
وأمّا أبو ثور فهذه نبذة ميسرة عنه:
اسمه: إبراهيم بن خالد. يكنى بأبي عبد الله، وبأبي ثور، وبها اشتهر.
ولد: في حرور سنة 170 هـ.
وكان من فقهاء العراق ومن المحدّثين، وقد مدحه الإمام أحمد بأنه يعرفه على السنة - يعني الاعتقاد الصحيح - منذ خمسين سنة.
عاش سبعين سنة أو أكثر، وتوفي عام 240 هـ.
انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (12 / 72) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/436)
هل نبدأ باليد في تغيير المنكر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل معنى حديث (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ... ) أننا نبدأ مباشرة باليد ولو كان التغيير بالكلام ممكناً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تغيير المنكر له مراتب، إذ يتدرج من التنبيه والتذكير إلى الوعظ والتخويف، ثم الزجر والتأنيب، ثم التغيير باليد، ثم إيقاع العقوبة بالنكال والضرب، وأخيراً الاستعداء ورفع الأمر إلى الحاكم.
[الْمَصْدَرُ]
الموسوعة الفقهية - ج/39، ص 127.(8/437)
هل يجوز الخروج على الحاكم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر موجب للخروج عليهم ومحاولة التغيير وإن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد، والأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة، فما رأي سماحتكم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القاعدة الشرعية المجمع عليها: (أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه) . أما درء الشر بشرٍ أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً عندها قدرة تزيله بها، وتضع إماماً صالحاً طيباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين، وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير، واختلال الأمن، وظلم الناس واغتيال من لا يستحق الاغتيال ... إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير. هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/8ص / 202.(8/438)
هل إنكار المنكر مخصوص بإذن الحاكم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يشترط لإنكار المنكر باليد إذن الحاكم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إنكار المنكر جاء مرتباً كما في الحديث في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا عام بالنسبة للمنكر وبالنسبة للمنكر عليه، وليس فيه تخصيص لأحد دون أحد، غير أنه يجب أن تراعى الأمور والظروف، فإن كان إنكار المنكر يؤدي إلى منكر أكبر منه فإنه لا يجوز بحال أن ينكر على صاحبه، سواء كان حاكماً أو محكوماً.
أما إذا كان يعلم أنه إذا أنكر أنه يضعف المنكر ويحصل الخير، فيجب أن ينكر مطلقاً سواء أكان المنكر عليه حاكماً أو غير حاكم، لأن هذا على مقتضى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تقييد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بأمور ليس عليها دليل فإنه لا يجوز.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الله الغنيمان(8/439)
هل يجوز الجلوس مع المسلم الذي يتناول المخدرات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للمسلم الأكل مع المسلم الذي يأكل الحبوب والمخدرات، أم لا يجوز الأكل معه، وخاصة إذا كان جارك، وهل يجوز الكلام معه أم لا؟ وماذا نفعل في هذا الموقف؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
إذا كنت تقوى على إنكار المنكر عليهم، وترجو استجابتهم لك فاجلس معهم من أجل نصحهم ونهيهم عن المنكر، وأمرهم بالمعروف، عسى الله أن يجري الله الخير على يديك، فإن استجابوا فالحمد لله، وإلا فاعتزلهم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 362.(8/440)
هل يمكن الجلوس مع الذين لا يصلون
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن الجلوس مع الذين لا يصلون؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجوز أن يجلس معهم لينصحهم ويرشدهم إلى أداء الصلوات المفروضة في جماعة، لا ليتسلى معهم ويأنس لحديثهم، وإلا حرم الجلوس معهم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 371.(8/441)
حكم الجلوس مع المدخّن أثناء تدخينه
[السُّؤَالُ]
ـ[لا يخفى مدى انتشار الدخان المحرم في كل مكان، في العمل وفي البيت وفي الأماكن العامة، والسؤال هل يجوز الجلوس مع المدخنين؟ وإذا كان الجلوس مع المدخن في منزلك أو في مجلس عامّ فهل تتركه وتخرج؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كما ذكر الأخ أن الدخان حرام للأدلة العامة على تحريمه، وهو ليس فيه نص عن الرسول بعينه، لأنه لم يحدث إلا أخيراً، لكن قواعد الشريعة عامة، والإشارة في بعض النصوص إلى تحريمه قاضية بتحريمه، فإذا صار إلى جنبك مدخن وأراد أن يدخن فانصحه بلطف ورفق، قل له: يا أخي هذا حرام ولا يحل لك.
وفي ظني أنك إذا نصحته بلطف ورفق أنه سوف ينزجر، كما جرب ذلك غيرنا وجربناه نحن أيضاً، فإن لم ينته عن شرب الدخان فالواجب عليك أن تفارقه لقوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم) ولكن هذا في الأماكن العامة، أما إذا كان في مكان الوظيفة، ونصحته فلم ينته، فحينئذ لا حرج عليك أن تبقى، لأنه ضرورة ولا تستطيع أن تتخلص منه.
[الْمَصْدَرُ]
لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين 54/101(8/442)
حضور حفل زواج به منكرات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للمرأة أن تحضر حفل الزواج إذا كان يحدث فيه بعض المخالفات كتشغيل الموسيقى والرقص على ذلك والتعري في اللباس وهل يأثم الولي كالزوج والأب إذا أذن لها بحضور هذا الحفل؟ وما الحكم إذا كانت الدعوة من قريب يُخشى من عدم إجابة دعوته حصول هجر وقطيعة رحم؟ أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كانت الأعراس على هذا الوجه الذي ذُكر في السؤال فإنه لا يجوز للإنسان أن يجيب الدعوة إلا إذا كان قادراً على إزالة المنكر فإنه يجب عليه أن يجيب لإزالة المنكر، وأما إذا كان عاجزاً فإنه لا يجوز أن يحضر هذه الأفراح التي تشتمل على هذه المخالفات أو بعضها ولا يحل لأحد أن يأذن لزوجته أو ابنته أو من له ولاية عليها بحضور هذه الحفلات وإذا قال أخشى أن يحصل بيني وبين أقاربي شيء من الجفاء والقطيعة فنقول فليحصل هذا لأنهم هم لما عصوا الله عز وجل في هذه الأفراح التي هي على هذا الوجه لم يكن لهم نصيب من إجابة الدعوة وإذا قاطعوا فالإثم عليهم وليس على من هجر هذه الأفراح شيء من الإثم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى فضيلة الشيخ ابن عثيمين لمجلة الدعوة العدد1757 ص 37.(8/443)
تحطيم مكان شر دون علم أحد
[السُّؤَالُ]
ـ[يبنون الآن مرقصاً ليليا في منطقتنا وحاولنا منع وجوده عندنا لأنه سوف يتسبب في فساد كبير في منطقتنا سواء للمسلمين أو غير المسلمين، فهل يجوز لنا أن نحطم هذا المكان إذا لم يدر بنا أحد مع العلم أن صاحب ذلك المكان سوف يخسر جميع الأموال التي استثمرها فيه؟ وهل هذا من طرق النهي عن المنكر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد عرضنا هذا السؤال على فضيلة شيخنا الشيخ عبد الرحمن البراك فأجاب بما يلي:
قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم رقم 70، وقال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، وهذا المنكر الذي ورد في السؤال عن تغييره يجب تغييره قدر الاستطاعة بما يزيل المنكر ويخففه وذلك بالرفع إلى ذوي السلطة والقدرة على إزالته أو نقله عن الحي أو بمخاطبة المالك للموقع ليعدل عن استثماره في المنكر الذي يعود عليه بالضرر في العاجل والآجل ودعوته إلى استغلاله بنشاط نافع له ولأهل الحي ولا يلحقهم منه ضرر في دينهم ولا في دنياهم.
وأما التغيير بتدمير الملهى كما ورد في السؤال فإنه لا يجوز، ولو أمن من يقوم بذلك على نفسه فإن المفاسد المترتبة على هذا التصرف كثيرة من تلف أموال لا يحل إتلافها وتوجيه التهم إلى أبرياء واستجوابهم وتعذيبهم من أجل التحقيق في الحادث ثم إنه قد لا يتراجع أصحاب الملهى عن باطلهم فيسعون في إقامته مرة أخرى وهو الأحرى، فحذار أيها الأخ الغيور من التسرع في تغيير المنكر بعدم النظر في العواقب وقد أحسنت حيث تقدمت بهذا السؤال لتكون في أمرك على بينة وقد حصل البيان، والله الهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الرحمن البراك(8/444)
الذهاب إلى الأماكن العامة التي فيها منكرات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يحل لي أن أذهب إلى النزهة مع زوجي وأولادي في أماكن مثل الحدائق العامة والمتاحف والمعارض، مع عدم الاختلاط أو تضييع الصلاة، مع العلم بضرورة كشف وجهي في هذه الأماكن، وهل يحل لنا اصطحاب أطفالنا إلى الشواطئ (البلاجات) للسباحة، مع فساد هذه الأماكن وانتشار العري والإباحية فيها، وبماذا نرد على من يقول: إننا نحرم التمتع بما خلق الله، مع عدم قدرة الإنسان على غض بصره عن المحرمات في هذه الأماكن لكثرتها وانتشارها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز الإتيان إلى الأماكن التي انتشرت فيها المنكرات، وفي المتع التي أحلها الله لنا غنية عما حرم سبحانه علينا.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 361.(8/445)
معاملة المؤذي بمعصيته
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا آذاني شخص بمعصيته واستمر على هذا الفعل فماذا أفعل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي ينبغي نصح المذنب سواء كان الذّنب يؤذيك أم لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات العظيمة والاستمرار في القيام به أمر مطلوب كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (164) الأعراف
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت (وقد نهاهم الله عن ذلك) .. وفرقة نهت عن (المنكر) واعتزلتهم وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت (للفرقة) المُنْكرة " لِمَ تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذابا شديدا " أي لِمَ تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ قالت لهم المنكرة "معذرة إلى ربكم".. أي نفعل ذلك "معذرة إلى ربكم" أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "ولعلهم يتقون" (أي) ولعل لهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله تائبين فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
وعلى المسلم أن ينوّع أسلوب الإنكار والدّعوة، تارة بالترغيب في ثواب الطّاعة وتارة بالترهيب من عذاب المعصية، وتارة بقصّ القصص للاعتبار وتارة بتبيين شؤم المعصية وتأثيرها السيّئ في حياة العاصي وهكذا.
ثمّ إذا لم يتحمّل الإنسان الاقتراب من هذا العاصي وتأذّى منه ولم يجد فائدة من نصحه فإنّه يبتعد عنه ويفارقه، والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/446)
الطبول في المناسبات منكر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم إجابة الدعوات التي يحصل فيها بعض المنكرات مثل المراويس والطبول، علماً بأن الداعي إلى حضورها من المقربين، وفيها تلك المنكرات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز إجابة مثل هذه الدعوة مع ظهور هذه المنكرات، وكذا إذا ظهر شرب الخمر أو الدخان، أو الأفلام الخليعة، أو الاختلاط بين الرجال والنساء، أو التبرج والسفور، لكن إذا كنت قادراً على إزالة المنكر أو تخفيفه، أو إذا حضرت احترموك وتركوا هذه المنكرات فعليك الحضور لذلك، وإلا فلا تحضر ولو كان من الأقارب إلا بشرط إزالة المنكر.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. من مجلة الحسبة العدد 39 ص 14.(8/447)
ما معنى الحسبة ورجال الحسبة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[نسمع أحياناً ونقرأ عما يسمى بالحسبة ورجال الحسبة، فن هم هؤلاء وما هي وظائفهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
رجال الحسبة هم أناس متفرغون لإنكار المنكرات الظاهرة سواء تبرع أو بمرتبات من بيت مال المسلمين ومن وظائفهم الاحتساب في إنكار المنكرات في الأسواق وغيرها مثل:
1- الاختلاط والتبرج المحرمين شرعاً.
2- تشبه أحد الجنسين بالآخر.
3- تعرض الرجال للنساء بالقول أو بالفعل.
4- الجهر بالألفاظ المخلة بالحياء، أو المنافية للآداب.
5- تشغيل المذياع، أو التلفزيون، أو المسجلات وما ماثل ذلك بالقرب من المساجد أو على أي نحو يشوش على المصلين.
6- إظهار غير المسلمين لمعتقداتهم، أو شعائر مللهم، أو إظهارهم عدم الاحترام لشعائر الإسلام وأحكامه.
7- عرض، أو بيع الصور، والكتب، أو التسجيلات المرئية، أو الصوتية، المنافية للآداب الشرعية، أو المخالفة للعقيدة الإسلامية اشتراكاً مع الجهات المعنية.
8- عرض الصور المجسمة، أو الخليعة، أو شعارات الملل غير الإسلامية كالصليب، أو نجمة داوود، أو صور بوذا، أو ما ماثل ذلك.
9- صنع المسكرات أو ترويجها، أو تعاطيها اشتراكاً مع الجهات المعنية.
10- منع دواعي ارتكاب الفواحش "مثل الزنا واللواط والقمار" أو إدارة البيوت، أو الأماكن لارتكاب المنكرات، والفواحش.
11- البدع الظاهرة كتعظيم بعض الأوقات، أو الأماكن غير المنصوص عليها شرعاً، أو الاحتفال بالأعياد، والمناسبات البدعية غير الإسلامية.
12- أعمال السحر والشعوذة، والدجل، لأكل أموال الناس بالباطل.
13- تطفيف الموازين والمكاييل.
كما يدخل في عملهم كذلك:
1- مراقبة المسالخ، للتحقق من الصفة الشرعية للذبح.
2- مراقبة المعارض، ومحلات حياكة ملابس النساء.
ولا يغني عنهم وجود شرطة الآداب لأن شرطة الآداب الموجودة في بعض البلدان لا يقومون بإنكار كل هذه المنكرات والقضاء عليها بل يطبقون قانوناً هو على أحسن الأحوال يشتمل على حق وباطل، بينما رجال الحسبة يأمرون بكل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويلزمون الناس بالواجب، وينهون عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتدخلون لمنع المحرمات.
[الْمَصْدَرُ]
مجلة الحسبة العدد/39.(8/448)
حكم مجاملة شارب الخمر وصب الخمر له
[السُّؤَالُ]
ـ[نضطر إلى حضور حفلات تقام في أماكن العمل (المعامل المدرسية) ويحتسون فيها البيرة والخمور، ولكنا بحمد الله لا نقربها، ولكن عندهم عادة المجاملة للجالس بجانبه أن يصب له في كأسه (كوب بيرة أو مشروبه الذي يشربه) ويقوم الآخر بالمجاملة بنفس الطريقة، ولذا يقومون بصب العصير لي في كأس، فما حكم أن أصب له البيرة في كأسه، هل أعتبر في هذه الحالة ساقية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان الواقع كما ذُكر، حرّم عليك الحضور معهم في الاحتفال وأمثاله، إذا لم تقو على تغيير المنكر؛ لما في ذلك من المشاركة لهم في ارتكابه أو السكوت عن تغييره على الأقل،وكلاهما محرم. نسأل الله لنا ولك السلامة.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12 / 359 -360.(8/449)
منزلة اللغة العربية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي منزلة اللغة العربية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" تمثل اللغة العربية قطاعا هاما في حياة الفكر العربي المعاصر، فهي القاعدة الكبرى التي قام عليها هذا التراث العظيم، والأداة الحية للأدب العربي، واللسان الذي يربط الأمة، وهي أساس قوى للوحدة بين أجزاء الوطن العربي، ولا شك كانت لهذه اللغة مكانة ضخمة بين اللغات، ذلك أنها لم تكن لغة عادية كاللغات في نشأتها وتطورها وامتدادها، بل كانت مخالفة للنواميس الطبيعية التي عرفت لمختلف اللغات، فقط ظهرت شابة مكتملة دون أن تمر بمرحلة طفولة أو تتعثر في طريق طويل، وكان نضوجها من الأعاجيب التي شغلت كل الباحثين والعلماء.
والأعجب من هذا أنها عاشت قرابة ألف وخمسمائة سنة وهي تؤدي مهمتها على نحو حي متحرك، تجاوبت فيه مع الزمن والتطور، تفردت حتى بين اللغات السامية باطراد الأوزان وقواعد التصريف وقواعد الإعراب.
واستطاعت أن تجري مع الحضارات وتلبي مطالبها، وقد أكد الباحثون أن بقاء اللغة العربية على هذا النحو يكاد يكون معجزة من المعجزات.
وقد دخلت اللغة العربية أوروبا حين فتح العرب صقلية والأندلس، وتردد صداها في الأنحاء الجنوبية، ولا يزال في الإسبانية والبرتغالية كثير من الكلمات المشتقة من العربية، وقد جمعها العلامتان دوزي وانجلمان في كتاب سمياه (مفردات الكلمات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية) طبع في ليدن 1869م.
ثم دخلت الكلمات العربية في لغات أوروبية أخرى كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وقد حوت اللغة الإنجليزية أكثر من ألف كلمة عربية، وهناك 270 كلمة من أصل عربي تستعمل في اللغة الانجليزية يوميا، منها كلمة أمير أو أمير البحر الإنجليزية التي أصبحت: (أميرال) ، وقد رصدت الأبحاث المتعددة أنها أضخم اللغات ثروة وأصواتا ومقاطع وحروفا وتعبيرات، حتى إنها تفوق اللغة الإنجليزية في عدد الأصوات، إذ بها (28) حرفا غير مكررة، في حين أن اللغة الانجليزية بها (26) حرفا، ومنها مكرر.
وفي اللغة العربية حروف لأصوات لا توجد في كثير من اللغات الأخرى، مثل الحاء والخاء والضاد والطاء والظاء والعين والغين والقاف، وقد اشتهرت اللغة العربية بالثراء من ناحية الألفاظ عن طريق المترادفات كثرة واضحة (400 اسم للأسد – 300 للسيف – 200 اسم للحية – 255 للناقة – 170 اسم للماء – 100 اسم للخمر – 70 اسم للمطر) .
كما تنوعت في الأساليب والعبارات: كالحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية، ومن هذا الغنى والوفرة جاءت مقدرتها الكبرى في غزو الإمبراطوريتين العظيمتين الفرس والروم، وخاصة الأولى التي نبغ منها كثيرون أمثال: الفيروزأبادي، وابن المقفع، وأبو نواس، وأبو حنيفة، وقد تحولت اللغة العربية بعد الإسلام من لغة الشعر إلى لغة الشرع والفقه، وأصبحت لغة علمية وترجمت عنها عشرات من المؤلفات الفلسفية والعلمية.
وقد تجاوبت اللغة العربية مع التطور، وفي ظل الحضارة العباسية استطاعت أن تساير النهضة، وأن تعرف الآلات والأفكار، وصلحت لترجمة مئات من آثار التراث اليوناني والروماني.
واستطاعت أن تقاوم أكبر معركة للقضاء عليها، وهي حملة التتار على العالم الإسلامي، ثم حملة الصليبيين، واستطاعت أن تعتصم بالمعاهد الكبرى كالأزهر والقرويين والزيتونة التي ظلت حامية لها خلال فترة الضعف التي مرت بالعالم الإسلامي، وفي عهد الأتراك العثمانيين واجهت معركة ضخمة في سبيل البقاء.
واستطاعت أن تقاوم الرغبة في القضاء عليها بإحلال اللغة التركية محلها في المدرسة والمسجد والمحكمة.
وقد أخذت اللغة العربية تزدهر في أوائل القرن التاسع عشر في مواجهة محاولة العثمانيين لزحزحتها عن مكانها، ثم واجهت معركة أخرى من بعد أشد عمقا مع الاستعمار الذي حاول القضاء عليها، وشهر عليها حربا أشد قسوة وضراوة.
وليس أدل على قوة اللغة العربية من اضطرار أمثال " أرنست رينان " وهو المتعصب الكبير ضد العرب وحضارتهم من أن يقول في كتابه " تاريخ اللغات السامية ":
" من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سَلِسَة أيَّ سلاسة، غنية أيَّ غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى ".
ورأى مرجليوث أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد أن:
" اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية، إحدى ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليه غيرها: الانجليزية والإسبانية أختاها، وتخالف أختيها بأن زمان حدوثهما معروف، ولا يزيد سنهما على قرون معدودة، أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ ".
ورأى ماكس فانتاجو في كتابه " المعجزة العربية ":
" أن تأثير اللغة العربية في شكل تفكيرنا كبير، وقد لحظ ذلك الاجتماعي (شبنجلر) ، وسجل ملاحظاته في كتابه الشهير " انهيار الغرب ".
لقد لعبت اللغة العربية دورا أساسيا كوسيلة لنشر المعارف، وآلة للتفكير خلال المرحلة التاريخية التي بدأت حين احتكر العرب على حساب اليونان والرومان طريق الهند، ثم انتهت حين خسروها ".
ورأى جورج سارتون أنه:
" هكذا كانت العربية لغة الله – أي لغة القرآن -، ولغة الوحي ولغة أهل الجنة – لم يثبت هذا في الشرع -، أكد الرسول وجوب قراءة القرآن باللغة العربية، ثم من نتائج هذا الاتجاه العقلي الواحد في التأكيد على الصحة المطلقة للغة العربية أن أصبحت اللغة العربية من اللغات البارزة في العالم، وإحدى الوسائل الأساسية للثقافة في العصور الوسطى، وهي - إلى اليوم - لم تزل لغة أمة موزعة في جميع بقاع الأرض.
إن اللغة العربية من أجمل اللغات في الوجود، إن خزائن المفردات في اللغة العربية غنية جدا، ويمكن بتلك المفردات أن تزاد بلا نهاية، ذلك لأن الاشتقاق المتشابك والأنيق يسهل إيجاد صيغ جديدة من الجذور القديمة بحسب ما يحتاج إليه كل إنسان على نظام معين.
ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهب الرسول اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين، يجمع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة، وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد " انتهى باختصار.
مقتطفات من كتاب " اللغة العربية بين حماتها وخصومها " أنور الجندي (ص/1-35) مطبعة الرسالة.
وانظر أيضا: " مجلة مجمع اللغة العربية " (العدد 34، ص/59-64، مقالا بعنوان: اللغة العربية مكانتها القومية والعالمية في القديم والحديث: محمد شوقي أمين. عضو المجمع)
ومقالا مفيدا على هذا الرابط:
http://www.saaid.net/Minute/33.htm
وكتابين قديمين:
الأول: " الصقعة الغضبية في الرد على منكري العربية " لنجم الدين الطوفي الحنبلي (761هـ) عقد فصلا بعنوان: فصل في الدلالة على فضل علم العربية (ص/233-279)
والثاني: " الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام " للأزرقي الغرناطي.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/450)
هل تصح الفتيا من النساء؟ ومن كان يُعرف بالعلم والفتيا منهن في تاريخ الإسلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مدى صحة جواز الفتيا للنساء؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بعث الله تعالى رسولَه بالهدى ودين الحق، ليكون للعالَمين بشيراً ونذيراً، وقد أدَّى النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وكان ممن سمع منه صلى الله عليه وسلم نساء ورجال، وهكذا قام من بعده بوظيفة التبليغ والتعليم الصحابة، ومن بعدهم، وكان في تلامذتهم نساء ورجال، وقد كانت الأمور منضبطة بضابط الشرع في أمور التعلم والتعليم، بعيدة عن الاختلاط المحرَّم، وكشف المرأة وجهها، والخضوع في القول.
والإسلام لا يفرِّق بين الرجال والنساء في العلم والفتيا، وقد نصَّ أهل العلم على شروط المفتي، ولم يذكروا من الشروط: الذكورة، ولا يُعرف في هذا خلاف بينهم.
قال النووي رحمه الله:
"شرط المفتى: كونه مكلفاً، مسلماً، ثقةً، مأموناً، متنزهاً عن أسباب الفسق، وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف، والاستنباط، متيقظاً، سواء فيه الحر، والعبد، والمرأة، والأعمى، والأخرس إذا كتب، أو فُهمت إشارته" انتهى.
"المجموع شرح المهذب" (1/41) .
وقد كان في هذه الأمة العظيمة من قام بواجب التعليم والفتيا من النساء، كما قام به من الرجال.
نعم، إن عدد النساء لا يمكن مقارنته بالرجال بسبب طبيعة الرجل، لكن هذا لم يمنع من وجود نساء يقمن بمهمة التعليم، والفتيا، وعلى رأس أولئك النساء: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد كانت مقصد الرجال والنساء في الفتيا؛ بسبب قربها من النبي صلى الله عليه وسلم، وذكائها، وفطنتها.
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (ص 609) :
"عن مسروق قال: رأيت مشيخةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحداً أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعْر من عائشة.
وقال الزهري: لو جُمع عِلْم عائشة إلى عِلْم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعِلم جميع النساء: لكان عِلم عائشة أفضل" انتهى.
وقد عدَّ ابن القيم رحمه الله المكثرين من الفتيا من الصحابة، وذكر منهم عائشة رضي الله عنها، وعدَّ أم سلمة رضي الله عنها من المتوسطين، وجعل أم عطية، وصفية أم المؤمنين، وحفصة، وأم حبيبة، من المقلِّين في الفتيا.
انظر: "إعلام الموقعين" (1/12، 13) .
ونحن نسوق هنا بعض من وصفهن الإمام الذهبي رحمه الله بالعلم والفقه في كتابه "سيَر أعلام النبلاء"، توكيداً لما ذكرناه:
1. صفية بنت شيبة.
قال الذهبي رحمه الله:
صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الفقيهة، العالمة.
"سير أعلام النبلاء" (3/507، 508) .
2. أم الدرداء.
قال الذهبي رحمه الله:
أم الدرداء، السيدة، العالمة، الفقيهة، وهي أم الدرداء الصغرى.
روت علماً جمّاً عن زوجها أبي الدرداء، وعن سلمان الفارسي، وكعب بن عاصم الأشعري، وعائشة، وأبي هريرة، وطائفة.
وعرضت القرآن وهي صغيرة على أبي الدرداء.
وطال عمرها، واشتهرت بالعلم، والعمل، والزهد.
قال مكحول: كانت أم الدرداء فقيهة.
"سير أعلام النبلاء" (4/277، 278) .
3. معاذة العدوية (ت 83 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
معاذة بنت عبد الله، السيدة، العالمة، أم الصهباء العدوية البصرية، العابدة، زوجة السيد القدوة صلة بن أشيم.
روت عن علي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر.
"سير أعلام النبلاء" (4/508، 509) .
4. بنت المحاملي (ت 377 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
العالمة، الفقيهة، المفتية، أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل.
تفقهت بأبيها، وروت عنه، وعن إسماعيل الوراق، وعبد الغافر الحمصي، وحفظت القرآن، والفقه للشافعي، وأتقنت الفرائض، والعربية، وغير ذلك.
قال البرقاني: كانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.
وقال غيره: كانت من أحفظ الناس للفقه.
"سير أعلام النبلاء" (15/264) .
5. كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم أم الكرام المرزوية (ت 463 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
الشيخة، العالمة، الفاضلة، المسندة، أم الكرام.
"سير أعلام النبلاء" (18/233، 234) .
6. عائشة بنت حسن بن إبراهيم (ت 460 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
الواعظة، العالمة، المسندة، أم الفتح الاصبهانية، الوركانية.
قال ابن السمعاني: سألت الحافظ إسماعيل عنها، فقال: امرأة صالحة، عالمة، تعظ النساء.
"سير أعلام النبلاء" (18/302) .
7. فاطمة الدقَّاق (ت480 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
فاطمة بنت الأستاذ الزاهد أبي علي، الحسن بن علي الدقاق، الشيخة، العابدة، العالمة، أم البنين، النيسابورية، أهل الأستاذ أبي القاسم القشيري، وأم أولاده.
"سير أعلام النبلاء" (18/479، 480) .
8. بنت زعبل (ت532 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
الشيخة، العالمة، المقرئة، الصالحة، المعمرة، مسندة نيسابور، أم الخير، فاطمة بنت علي بن مظفر بن الحسن بن زعبل بن عجلان البغدادي، ثم النيسابورية.
"سير أعلام النبلاء" (19/625) .
9. فاطمة بنت البغدادي (ت539 هـ) .
قال الذهبي رحمه الله:
الشيخة، العالمة، الواعظة، الصالحة، المعمرة، مسندة أصبهان، أم البهاء، فاطمة بنت محمد بن أبي سعد أحمد بن الحسن بن علي بن البغدادي الأصبهاني.
"سير أعلام النبلاء" (20/148) .
فهذه طائفة من نساء فاضلات، عالمات، مفتيات، ولا يمنع الإسلام أحداً من أهل العلم، رجلاً كان أم امرأة أن يفتي، ويعلم الناس دين الله تعالى.
وينبغي التنبيه إلى أن هناك فرقاً بين الفتوى والقضاء، فالفتوى هي الإخبار بالحكم الشرعي، وهذا لا يُمنع منه أحد، إذا كان أهلاً لذلك، أما القضاء فقد دلت الأدلة الشرعية، وجرى عليه عمل الأمة الإسلامية أن المرأة لا تتولى القضاء، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (71338) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
السلام سؤال وجواب(8/451)
كيف كانت الصحابيات يسألن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يمكن للمرأة أن تصير عالمة بالشرع؟
[السُّؤَالُ]
ـ[جزاكم الله خيرا لقراءتكم هذه الأسئلة. 1-أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت من أبرز العلماء بين الصحابة. لكن، لماذا يبدو أن العالمة المسلمة، في هذا العصر، تجد تثبيطا عن قيامها بدعوة الرجال؟ 2-ما هو الترتيب المناسب (كما كانت تفعل عائشة رضي الله عنها وغيرها من العالمات في ذلك الزمان؟) 3-كانت الصحابيات يسعين إلى طلب العلم من النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدين، طبعا وهن متغطيات تماما. هل كان ذلك يتم مباشرة أم من وراء ستار (حاجز) ؟ الرجاء توضيح ذلك، وأسأل الله أن يثيبك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1- كانت عائشة رضي الله عنها قرينة النبي عليه الصلاة والسلام عشر سنوات تتعلم منه، وقد رزقها الله حفظا وفهما وذكاء، فكان في ذلك منفعة للمسلمين، وكان الكثير من الصحابة يرجعون إليها ويستفيدون منها ومن علمها. ولا شك أن في هذه الأزمنة رجالاً قاموا بواجب العلم فصاروا مرجعا للرجال والنساء، ومع ذلك إذا وُجِد امرأة لها نصيب من العلم والقدرة على أن تُعَلِّم فلا تُحْرَم من ذلك، ويجوز الرجوع إليها وسؤالها، ولكن من وراء حجاب، كما كانت عائشة رضي الله عنها تفعل، خاصة إذا لم يوجد من يفتي الرجال فلا يجوز لها كتمان العلم.
2- كانت عائشة رضي الله عنها ملازمة لحجرتها فيدخلون عليها وبينها وبينهم حجاب أي حاجز ساتر ثم يكلمونها وتحدثهم وتسأل عن أسمائهم وتترحم عليهم وعلى آبائهم، وتفيدهم بما عندها من العلم. وفي هذه الأزمنة تكون المرأة معلمة للنساء فتبين لهن ما علمها الله، وتحيل إلى غيرها إذا لم يكن لديها علم، فقد جاء عن عائشة أنها سئلت من رجل عن كيفية المسح على الخفين ومدّته فقالت: اسأل عليا فإنه كان يسافر مع رسول الله، مع أنها كانت تسافر معه أيضا، ولكن علم علي في ذلك آكد.
3- تقول عائشة: نِعم نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين. فالنساء تحصل لهن الحاجة إلى كثير من المسائل التي تقع لهن فلابد أن تسأل، فعليها أن تكون متحجبة ساترة لوجهها وجسدها. وقد كنّ الصحابيات يسألن رسول الله فيدخلن عند عائشة أو يسألنه في الطريق أو عند الباب.
والله أعلم
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله.
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(8/452)
هل يجوز له تعليم الأطفال القرآن مع أنه ليس من العلماء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شخص بفضل الله أستطيع أن أقرأ القرآن الكريم، وأقوم بتدريسه لولدي وابناء أختي؛ مع أنني لست عالما ولا شيخا؛ فهل يجوز لي ذلك؟ وما الأجر المترتب عليه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تعليم تلاوة القرآن الكريم التلاوة الصحيحة من أفضل الأعمال وأزكاها عند الله عز وجل، لأن القرآن كلام الله، صفة من صفاته، وهو سبحانه يحب أن يتعبد إليه المسلمون بصفاته.
ولذلك جاء في السنة النبوية الحديث المشهور الذي يحفظه الصغار والكبار، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(خَيرُكُم مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) .
قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. رواه البخاري (5027)
قال الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (9/96) :
" بين أول خلافة عثمان وآخر ولاية الحجاج اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر " انتهى.
يدل هذا الحديث على الخيرية التي ينالها من يشتغل بتعليم الناس قراءة القرآن وتلاوته، والمقام الرفيع الذي يكتبه الله له، جزاء اشتغاله بصفة الله التي يعظمها وهي كلامه عز وجل. ولذلك ورد عن سفيان الثوري أنه كان يقدم تعليم القرآن على الغزو لهذا الحديث. انظر " فتح الباري " (8/694)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" مِن أشرف العمل تعليم الغير، فمعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه، وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعد، والقرآن أشرف العلوم، فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن، ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمِّلٌ لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي، ولهذا كان أفضل، وهو من جملة مَنْ عنى سبحانه وتعالى بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع " انتهى باختصار.
" فتح الباري " (9/76)
وقد ورد في القرآن الكريم حث خاص على الاشتغال بتعليم القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى:
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران/79.
وإن كان المقصود بتعليم الكتاب في الآية ليس تعليم التلاوة فقط، بل تفسيره وأحكامه وتعليم العمل به أيضا، غير أننا نرجو أن يدخل فيها أيضا من يعلم تلاوته وقراءته القراءة السليمة، فهي أول درجة من تعلم الكتاب والتفقه فيه.
وعلى كل حال ننصحك بلزوم ما بدأته من تعليم القرآن الكريم وإقرائه الصغار والكبار، بشرط أن تكون قد أتقنت أنت تلاوته وأحسنت قراءته، أو ـ على الأقل ـ أن تكون أتقنت قراءة القدر الذي تعلمه لهم.
وعليك ألا تخوض في تفسيره وبيان أحكامه حتى تدرسه وتصبح متقنا فيه، وبإمكانك، إن أحببت الوقوف معهم على بعض معانيه، أن تقرأ شيئا من كتب أهل العلم الثقات في ذلك الباب؛ مثل: تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أو تفسير الحافظ ابن كثير، رحمهما الله.
أما إن اقتصرت على تعليم التلاوة السليمة، فذلك عمل عظيم مأجور عليه إن شاء الله، تسهم به في بناء الجيل الصالح، وتشارك في غرس القرآن الكريم في قلوب الناس، ولا يشترط لذلك أن تكون شيخا، يعني: متخصصا في ذلك، أو عالما في علوم الشريعة الأخرى.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
" أنت على كل حال مشكور على هذا العمل الطيب , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، فأنت مشكور على عملك , وأنت على أجر عظيم، ولا حرج عليك ما دمت مخلصا لله في عملك هذا " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (5/387)
وانظر جواب السؤال رقم: (3601) ، (2023) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/453)
العلم الذي يحتاجه الداعي إلى الله تعالى
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو العلم الذي يحتاجه الداعي إلى الله، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لا بد في حق الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من العلم لقوله سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) والعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني كل منهما بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر الله به وما نهى الله عنه، ويعرف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله وإنكاره المنكر، وطريقة أصحابه رضي الله عنهم، ويتبصر في هذا بمراجعة كتب الحديث، مع العناية بالقرآن الكريم، ومراجعة أقوال العلماء في هذا الباب، فقد توسعوا في الكلام على هذا وبينوا ما يجب.
والذي ينتصب لهذا الأمر يجب عليه أن يعنى بهذا الأمر حتى يكون على بصيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليضع الأمور في مواضعها؛ فيضع الدعوة إلى الخير في موضعها، والأمر بالمعروف في موضعه، على بصيرة وعلم حتى لا يقع منه إنكار المنكر، بما هو أنكر منه، وحتى لا يقع منه الأمر بالمعروف على وجه يوجب حدوث منكر أخطر من ترك ذلك المعروف الذي يدعو إليه.
والمقصود أنه لا بد أن يكون لديه علم حتى يضع الأمور في مواضعها" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (27/340) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/454)
نصيحة لطلاب الكليات الشرعية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تنصحون طالب كلية الشريعة بالتوسع في طلب العلم أثناء فترة دراسته، أو يقتصر على المناهج الدراسية التي يدرسها في الكلية. وبماذا تنصحونه بعد التخرج؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"طالب الشريعة لا شك أنه يقتدى به ويحسن به الظن، وهذا مما يوجب عليه الحرص والحذر، فعليه أن يطالع الكتب ويسمع السنة ويذاكر مع إخوانه ومع زملائه، لكن ما دام في الدراسة لا يكثر حتى ينهي الدراسة حتى لا ينشغل فكره بما يضعفه في الدراسة، ولكن مع ذلك كلما تيسر له فرصة طالع المشكل عليه وسأل أهل العلم، ويبحث مع إخوانه وزملائه، ومع بعض الأساتذة، فتكون عنده همة عالية فلا يكتفي بالدروس، لكن على قدر المستطاع حتى يتم وحتى يتخرج إن شاء الله، ثم بعد ذلك يتوسع في المطالعة، فالدراسة في كلية الشريعة ليست كل شيء بل هي تمهيدية، وهكذا الماجستير والدكتوراه ليستا بكافيتين، بل لا بد من مزيد الدراسة بعدهما والمطالعة في كتب أهل العلم، والعناية حتى يموت الإنسان، وهو مستمر في طلب العلم حتى ولو بلغ مائة سنة" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/23) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/455)
أيهما أفضل: حفظ القرآن أو طلب العلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أيهما أفضل: حفظ القرآن أو طلب العلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"أما العلم الذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب، وطلب الثاني [حفظ القرآن] مستحب، والواجب مقدم على المستحب.
وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما: وهو إما باطل أو قليل النفع. وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال والخلاف أو الفروع النادرة أو التقليد الذي لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله، فلا بد في مثل هذه المسألة من التفصيل.
والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين والله سبحانه أعلم" انتهى.
"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ابن تيمية رحمه الله (23/54) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/456)
أحاديث المفاضلة بين العلماء والشهداء
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (مداد حبر العالم أقدس من دم الشهيد) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
أولا:
الأحاديث الواردة في تفضيل العلماء على الشهداء، أو تفضيل مداد العالم على دم الشهيد جاءت عن جماعة من الصحابة، ولكن بأسانيد واهية وبطرق شديدة الضعف أو موضوعة: نذكرها هنا باختصار:
1- عن أبي الدرداء رضي الله عنه: يرويه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/150) ، وفي إسناده إسماعيل بن أبي زياد، قال عنه ابن حبان: دجال. ولذلك ضعفه العراقي في "تخريج الإحياء" (ص/5)
2- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: يرويه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1718) ، والديلمي في "مسند الفردوس"، وفي إسناده إسماعيل بن أبي زياد السابق أيضا. ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/81) من طريق أخرى وقال: " وهذا لا يصح، قال أحمد بن حنبل: محمد بن يزيد الواسطي لا يروي عن عبد الرحمن بن زياد شيئا، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات " انتهى.
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما: يرويه الديلمي في "مسند الفردوس"، وفي إسناده إسحاق بن القاسم وأبوه: لا يعرفان. ويرويه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/193) ، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/80) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب: رجاله كلهم ثقات غير محمد بن الحسن، ونراه مما صنعت يداه " انتهى.
4- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: يرويه السهمي في "تاريخ جرجان" (ص/91، 222) ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/81) ، وقال: " هذا لا يصح: أما هارون بن عنترة فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، يروي المناكير التي يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها. ويعقوب القُمِّي: ضعيف " انتهى.
5- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: يرويه الرافعي في "تاريخ قزوين" (3/481) ، وفي إسناده عبد الملك بن مسلمة: يروي المناكير، وكذلك فيه عبد الله بن لهيعة.
6- عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أخرجه المرهبي في "فضل العلم" – كما نقل ذلك السيوطي في "الدر المنثور" (3/423) –، وهو في "جزء ابن عمشليق" (ص/44) بإسناده. وفيه أحمد بن محمد بن القاسم مؤذن طرسوس لم أقف له على ترجمة.
7- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: يرويه ابن النجار عنه كما ذكر ذلك السيوطي، وذكره في "لسان الميزان" (5/225) من طريق: جراب الكذاب.
8- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه في "جزء ابن عمشليق" (ص/45) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد واهٍ بمرة.
9- عن أبي هريرة رضي الله عنه: يرويه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص/181) وفي إسناده المظفر بن الحسين شيخ السمعاني لم أقف له على ترجمة.
وخلاصة الكلام أن الحديث لا يصح، قال فيه الخطيب البغدادي: موضوع، وقال الإمام الذهبي رحمه الله: "متنه موضوع " انتهى. "ميزان الاعتدال" (3/517) ، وذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص/17) ، والعامري في "الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث" (ص/203) ، وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (حديث رقم/4832) : " وهو الذي يميل إليه القلب " انتهى. يعني أنه موضوع. وكذا قال الشيخ محمد رشيد رضا في "مجلة المنار" (3/698)
ثانيا:
الذي يظهر أن ما ورد من الفضائل لدم الشهيد، في حد ذاته، لم يرد مثله في مداد العلماء، بل لا نعلم حديثا صحيحا في فضل مداد العلماء في نفسه، فضلا عن تفضيله على دم الشهيد، وأما دم الشهيد فقد ثبت فيه أن يأتي يوم القيامة: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وأن الشهيد يغفر له بأول قطرة منه..، إلى آخر ما ورد في ذلك، لكن هذا شيء، وتفضيل الشهيد نفسه على العالم شيء آخر.
قال المناوي رحمه الله:
" والإنصاف أن ما ورد للشهيد من الخصائص، وصحَّ فيه من دفع العذاب، وغفران النقائص: لم يرد مثله للعالم لمجرد علمه، ولا يمكن أحدا أن يقطع له به في حكمه، وقد يكون لمن هو أعلى درجة ما هو أفضل من ذلك.
وينبغي أن يعتبر حال العالم وثمرة علمه وماذا عليه، وحال الشهيد وثمرة شهادته وما أحدث عليه، فيقع التفضيل بحسب الأعمال والفوائد، فكم من شهيد وعالم هون أهوالا، وفرج شدائد، وعلى هذا فقد يتجه أن الشهيد الواحد أفضل من جماعة من العلماء، والعالم الواحد أفضل من كثير من الشهداء، كل بحسب حاله وما ترتب على علومه وأعماله " انتهى.
"فيض القدير" (6/603)
وقال ابن القيم رحمه الله:
" هذه – تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء، وعكسه - المسألة كثر فيها الجدال، واتسع المجال، وأدلى كل منهما بحجته، واستعلى بمرتبته.
والذي يفصل النزاع ويعيد المسألة إلى مواقع الإجماع:
الكلام في أنواع مراتب الكمال.
وذكر الأفضل منهما.
والنظر في أي هذين الأمرين أولى به وأقرب إليه؟
فهذه الأصول الثلاثة تبين الصواب، ويقع بها فصل الخطاب.
فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصديقية، والشهادة، والولاية.
وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما)
فأعلى هذه المراتب النبوة والرسالة، ويليها الصديقية، فالصديقون هم أئمة أتباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة.
فإن جرى قلم العالم بالصديقية، وسال مداده بها، كان أفضل من دم الشهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصديقية.
وإن سال دم الشهيد بالصديقية وقطر عليها كان أفضل من مداد العالم الذي قصر عنها. فأفضلهما صِدِّيقهما.
فإن استويا في الصديقية استويا في المرتبة، والله اعلم.
والصديقية: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علما وتصديقا وقياما، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل من كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقا له: كان أتم صديقية. فالصديقية شجرة، أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل.
فهذه كلمات جامعة في مسألة العالم والشهيد، وأيهما أفضل؟! " انتهى.
"مفتاح دار السعادة" باختصار (1/297-299)
وهذا التفصيل – في ظننا – أولى وأقرب من الجزم في المفاضلة بين العلم والشهادة كعملين مجردين كما جرى إطلاقه لدى كثير من العلماء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/457)
يسأل عن حديث يحض على تعلم القراءة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (الذي يقرأ جميل في نظر ربه، فتعلموا القراءة، وإذا تعلمتم فدرسوها) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لعل لفظ الحديث المقصود في السؤال، هو ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) رواه البخاري (5027)
والحث على تعلم قراءة القرآن كثير في الكتاب والسنة، وهو أيضا حث على تعلم القراءة، فقد كان القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يقرؤه المسلمون في صدر الإسلام، فكان تعلم القراءة والكتابة يبدأ من تعلم القرآن الكريم، بل جاء الأمر بتعلم القراءة في أول كلمة من الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول سبحانه وتعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق/1-5
فانتشر العلم وقل الجهل نتيجة تعلم قراءة القرآن وكتابته وتفهم معانيه.
أما إن كان المقصود حديثا آخر فيه أن الله يحب الذين يتعلمون القراءة مطلقا، فلم نقف على لفظه في كتب السنة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/458)
ما معنى متن العقيدة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى متن العقيدة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المتن في اللغة يطلق ويراد به الظهر , وفي الاصطلاح تعني محتوى مؤلف من المؤلفات كمتن صحيح البخاري ومتن زاد المستقنع.
وغالبا ما يطلق العلماء هذه التسمية على كتاب مختصر متداول بين أهل العلم وطلابه، في ذلك العلم؛ فمثلا ـ في العقيدة ـ يقال: متن الواسطية، والمراد به: كتاب مختصر في العقيدة لشيخ الإسلام ابن تيمية، يسمى: العقيدة الواسطية، وهكذا: متن الطحاوية، المراد به مؤلَّف مختصر في العقيدة للإمام الطحاوي.
وعادة ما يراد بهذا الإطلاق لكلمة " متن " تمييز الكتاب عن شرحه؛ فمثلا يقال: متن الطحاوية، تمييزا له عن شرح الطحاوية، الذي هو كتاب آخر شرح فيه ابن أبي العز الحنفي الكتاب المختصر الأصلي: العقيدة الطحاوية.
والمتون ـ عادة ـ ما تكون مختصرة، تحوي معاني كثيرة، وقواعد مهمة في العلم الذي ألفت فيه، في عبارات قليلة من أجل أن يسهل حفظها، وضبط مسائل العلم بواسطتها.
قال الإمام البخاري رحمه الله: " قال الخليل بن أحمد: يقلل الكلام ليحفظ ويكثر ليفهم ". خلق أفعال العباد، رقم (244) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/459)
الشيخ الألباني رحمه الله محدث كبير وفقيه مجتهد
[السُّؤَالُ]
ـ[على العامي أن يتبع شيخاً يطمئن إليه قلبه، ويكون شيخاً معروفاً بالعلم، والصلاح، فأنا أعلم أن الشيخ الألباني رحمه الله عالم كبير في الحديث (وهذا لا ينكره أحد) ويطمئن قلبي لمنهجه في الفقه؛ لحرصه الشديد على اتباع السنة، لكنه يبدو لي أن كثيراً من الناس لا يأخذون بأقواله في الفقه، فلماذا؟ فهل في منهجه الفقهي أخطاء كبيرة؟ وهل أستطيع أن أتخذه مرجعاً لي في الفقه؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
خلق الله تعالى الناس متفاوتين في الفهم والإدراك، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العلم والإيمان، وواقع الناس يشهد بهذا، ولهذا كان الناس درجات في الاجتهاد والتقليد.
قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
"والناس على أربعة أقسام:
القسم الأول: من يستطيع الاجتهاد المطلق، بأن يأخذ من الكتاب والسنّة، ويستنبط من الكتاب والسنّة، ولا يقلِّد أحداً.
وهذا أعلى الطبقات، ولكن هذا إنما يكون لمن توفّرتْ فيه شروط الاجتهاد المعروفة، بأن يكون عالماً بكتاب الله، وبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون عالماً بلغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن يكون عالماً بالمحكم والمتشابه، وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد، والخاص والعام، ويكون عنده معرفة بمدارك الاستنباط، أعني: لديه مؤهِّلات، فهذا يجتهد، وهذا الصنف كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، هؤلاء أعطاهم الله مَلَكة الاجتهاد.
الصنف الثاني: من لا يستطيع الاجتهاد المطلَق، ولكنه يستطيع الترجيح بين أقوال أهل العلم، بأن يعرف ما يقوم عليه الدليل، وما لا يقوم عليه الدليل من أقوالهم.
فهذا يجب عليه الأخذ بما قام عليه الدليل، وترك ما خالف الدليل، وهذا العمل يسمَّى بالترجيح، ويسمَّى بالاجتهاد المذهبي.
الصنف الثالث: من لا يستطيع الترجيح.
فهذا يُعتبر من المقلدِّين، ولكن إذا عرف أنّ قولاً من الأقوال ليس عليه دليل: فلا يأخذ به، أما ما دام لا يعرف، ولم يتبيّن له مخالفة: فلا بأس أن يقلِّد، ويأخُذ بأقوال أهل العلم الموثوقين.
والصنف الرابع: من لا يستطيع الأمور الثلاثة: لا الاجتهاد المطلق، ولا الترجيح، ولا التقليد المذهبي، كالعامي- مثلاً -.
فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم، كما قال الله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، فيسأل أوثق من يرى، ومَن يطمئن إليه مِن أهل العلم، ممّن يثق بعلمه، وعمله، ويأخذ بفتواه.
هذه أقسام الناس في هذا الأمر ... .
والواجب على الإنسان: أن يعرف قدْر نفسه، فلا يجعل نفسه في مكانة أعلى مما تستحقُّها، بل الأمر أخطر من ذلك، وهو أن يخاف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأمر أمر تحليل وتحريم، وجنَّة ونار، فلا يورِّط نفسه في أمور لا يُحسن الخروج منها" انتهى.
" إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد "
ثانياً:
الشيخ الألباني رحمه الله لا نعرفه إلا من فرسان ميدان الاجتهاد والفتوى، فهو من أئمة الشأن في زماننا هذا، وهذه كتبه، وأشرطته، ومجالسه، تشهد له بذلك، وهؤلاء أئمة الفتيا والاجتهاد يزكون علمه، ويحيلون عليه، ويستشهدون بكلامه، ومن قال: إنه محدِّث ليس بفقيه: فقد أخطأ، بل هو فقيه متمرِّس، وهو ملتزم بقواعد العلم، وضوابطه، ولا تعرف له أصول خاصة به يتبناها في فهم الدين، بل هو سائر على ما خطَّه أئمة العلم من السلف الصالح، وعلمه بالحديث أهَّله ليبني ترجيحاته على ما صحَّ من الأحاديث.
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء - عن الشيخ الألباني -:
"الرجل معروف لدينا بالعلم والفضل، وتعظيم السنَّة وخدمتها، وتأييد مذهب أهل السنة والجماعة في التحذير من التعصب والتقليد الأعمى، وكتبه مفيدة، ولكنه كغيره من العلماء ليس بمعصوم، يخطئ ويصيب، ونرجو له في إصابته أجرين، وفي خطئه أجر الاجتهاد، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم واجتهد فأخطأ فله أجر واحد) – متفق عليه –" انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (12 / 324 , 325) .
فشهدوا للشيخ رحمه الله بأنه من العلماء، وأنه من المجتهدين، وكل من أنصف من نفسه علَم أن الشيخ الألباني رحمه الله له قدم راسخة في الفقه والاجتهاد، ويمكن أن ندلل على هذا من خلال أمور:
1. شهادة العلماء له بذلك، وقد دونت في كتاب "حياة الألباني" للشيخ محمد بن إبراهيم الشيباني وفقه الله.
2. كتبه الفقهية المتينة، وبعضها لم يؤلف على منوالها، ولا في قوتها، ويكفي أن نمثِّل بكتابه " أحكام الجنائز " فهو غاية في القوة، ويدل على فهم ثاقب للسنَّة، ويؤيِّد فهمه بالقواعد الفقهية المتبعة عند سلف الأمة، ويضاف إليه: " آداب الزفاف "، و " تمام المنَّة في التعليق على كتاب " فقه السنَّة ".
3. أشرطته التي تملأ الأرض، وما نُشر منها يبلغ (1000) ألف شريط، وما لم يَخرج منها يبلغ (5000) ساعة صوتية، وهذا كله تسجيل لبعض المجالس، فكيف لو سجلت مجالسه كلها؟! .
ثالثاً:
ننبه في نهاية الجواب إلى مسائل وفوائد:
1. الشيخ الألباني رحمه الله بشر، يصيب ويخطئ، فلا ينبغي لأحدٍ اعتقاد العصمة في كلامه، وقد لا نجد من يزعم ذلك بلسان مقاله، لكننا نجد كثيرين يعتقدونه بلسان حالهم!
2. لا يحل لمن يقلِّد الشيخ الألباني إذا تبيَّن له قوة كلام غيره من أهل العلم والفضل أن يستمر على الأخذ بكلام الشيخ رحمه الله، بل يجب عليه اتباع الحق أينما كان، ومع من كان.
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
ما توجيه فضيلتكم لطالب العلم المبتدئ هل يقلد إماماً من أئمة المذاهب أم يخرج عنه؟ .
فأجاب:
"قال الله عز وجل: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الأنبياء/7، فإذا كان هذا طالباً ناشئًا لا يعرف كيف يُخرج الأدلة: فليس له إلا التقليد، سواء قلد إمامًا سابقًا ميتًا، أو إماماً حاضراً - عالماً من العلماء – وسأله، هذا هو الأحسن، لكن إذا تبين له أن هذا القول مُخالف للحديث الصحيح: وجب عليه أن يأخذ بالحديث الصحيح" انتهى.
" العلم " (ص 115) .
3. الشيخ الألباني رحمه الله لم يأتِ بجديد في أحكام الدِّين، وهو يكرر كثيراً أنه لم يقل بقولٍ لم يُسبَق إليه، فليتق الله من يطلق لسانه في الشيخ بأنه جاء بشذوذات، وليتق الله من يتعصب للشيخ.
4. ليس من منهج الشيخ رحمه الله – بل ولا منهج أحد من الأمَّة - أن ينظر الطالب في الآية والحديث ثم يستنبط ما يشاء من أحكام! بل إن الشيخ رحمه الله قد اشتكى جدّاً من هؤلاء، وقال إننا كنَّا نعاني من "التقليد" فإذا بنا نعاني الآن من "الانفلات"! وصرَّح الشيخ رحمه الله بأن تقليد العلماء السابقين خير بكثير من هذا الانفلات، بل التقليد للعامي واجب، وهذا الانفلات محرَّم.
5. ليعلم من يقلِّد الشيخ رحمه الله أن الشيخ نفسه يذم التقليد، فهو يوصي بالعلم، ويدعو للتعلم، وأن يكون المسلم متبعاً للدليل من الكتاب أو السنة، وإذا كان الشيخ رحمه الله يمنع من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فهو لتقليده أمنع.
6. لا ينبغي للعامي الذي يقبل لنفسه تقليد الشيخ الألباني رحمه الله – أو غيره من أهل العلم قديماً وحديثاً – أن يفتي، أو يجادل غيره، ولو التزم المقلدون بهذا لارتاحت الأمة من كثير من السوء الذي يُسمع هنا وهناك.
7. من حباه الله شيئاً من العلم، والقدرة على الترجيح بين الأدلة، ومعرفة الأقرب منها للصواب: لا يحل له أن يكون مقلِّداً لا للشيخ الألباني، ولا لغيره.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
"يجب على من لا علم عنده ولا قدرة له على الاجتهاد أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الأنبياء/7، ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا من أجل الأخذ بقولهم، وهذا هو التقليد، لكن الممنوع في التقليد: أن يلتزم مذهباً معيَّناً يأخذ به على كل حال، ويعتقد أن ذلك طريقه إلى الله عز وجل، فيأخذ به، وإن خالف الدليل.
وأما من له قدرة على الاجتهاد، كطالب العلم الذي أخذ بحظ وافر من العلم: فله أن يجتهد في الأدلة، ويأخذ بما يرى أنه الصواب، أو الأقرب للصواب.
وأما العامي وطالب العلم المبتدئ: فيجتهد في تقليد من يرى أنه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه، وقوة دينه وورعه" انتهى.
" العلم " (ص 205) .
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/460)
ما هو المذهب المتبع في الإجابة على الأسئلة في الموقع
[السُّؤَالُ]
ـ[لأي مذهب تتبع (السلفي أم الحنبلي أم الحنفي أم المالكي) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسائل نوعان:
الأول: ما أجمع العلماء على حكمه، فهنا نقرر الإجماع ولا نتجاوزه.
الثاني: ما اختلف العلماء في حكمه، وهنا ننظر في أدلة الأقوال، ونتبع أقربها إلى الكتاب والسنة بحسب ما يظهر لنا، عملاً بقول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) النساء
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته.
ونستعين في ذلك بما قرره العلماء الثقات الأثبات المؤهلون للترجيح والمفاضلة بين الأقوال كالإمام النووي وابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن حجر العسقلاني، والشوكاني وغيرهم ومن المعاصرين محمد عبد الرحمن المباركفوري ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد الرحمن الناصر السعدي وعبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحمد بن صالح العثيمين رحم الله الجميع.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/461)
هل يُفتي بما سمعه أو قرأه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا سئلت عن أمر في أمور الشرع فهل أجيبه بما أعرف مما قرأته من الكتب الشرعية أو ما سمعته من الأشرطة الدينية أو ما سمعته من البرامج أو أقول له لا أعلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الواجب إذا سألك أحدهم عن مسألة وأنت تعلمين حكمها من الكتب الموثوق من مؤلفيها، أو الأشرطة الموثوق بقارئها، أو من أحد البرامج الموثوق بمن فيها أن تخبريه بالحكم الشرعي، لأنك لما علمت هذا الحكم عن الطريق التي أشرنا إليها كان واجباً عليك أن تخبريه بالحكم الشرعي إذا سألك، وإلا كنت داخلة في الذين يكتمون العلم، ولكن يحسن أن تقولي: قال فلان كذا في برنامج كذا، قال فلان في الشريط الفلاني كذا، قال فلان في الكتاب الفلاني كذا، حتى تخرجي من العهدة" انتهى بتصرف يسير.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"فتاوى نور على الدرب"
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/462)
أحاديث المفاضلة بين العلماء والشهداء
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (مداد حبر العالم أقدس من دم الشهيد) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
أولا:
الأحاديث الواردة في تفضيل العلماء على الشهداء، أو تفضيل مداد العالم على دم الشهيد جاءت عن جماعة من الصحابة، ولكن بأسانيد واهية وبطرق شديدة الضعف أو موضوعة: نذكرها هنا باختصار:
1- عن أبي الدرداء رضي الله عنه: يرويه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/150) ، وفي إسناده إسماعيل بن أبي زياد، قال عنه ابن حبان: دجال. ولذلك ضعفه العراقي في "تخريج الإحياء" (ص/5)
2- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: يرويه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1718) ، والديلمي في "مسند الفردوس"، وفي إسناده إسماعيل بن أبي زياد السابق أيضا. ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/81) من طريق أخرى وقال: " وهذا لا يصح، قال أحمد بن حنبل: محمد بن يزيد الواسطي لا يروي عن عبد الرحمن بن زياد شيئا، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات " انتهى.
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما: يرويه الديلمي في "مسند الفردوس"، وفي إسناده إسحاق بن القاسم وأبوه: لا يعرفان. ويرويه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/193) ، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/80) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب: رجاله كلهم ثقات غير محمد بن الحسن، ونراه مما صنعت يداه " انتهى.
4- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: يرويه السهمي في "تاريخ جرجان" (ص/91، 222) ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/81) ، وقال: " هذا لا يصح: أما هارون بن عنترة فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، يروي المناكير التي يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها. ويعقوب القُمِّي: ضعيف " انتهى.
5- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: يرويه الرافعي في "تاريخ قزوين" (3/481) ، وفي إسناده عبد الملك بن مسلمة: يروي المناكير، وكذلك فيه عبد الله بن لهيعة.
6- عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أخرجه المرهبي في "فضل العلم" – كما نقل ذلك السيوطي في "الدر المنثور" (3/423) –، وهو في "جزء ابن عمشليق" (ص/44) بإسناده. وفيه أحمد بن محمد بن القاسم مؤذن طرسوس لم أقف له على ترجمة.
7- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: يرويه ابن النجار عنه كما ذكر ذلك السيوطي، وذكره في "لسان الميزان" (5/225) من طريق: جراب الكذاب.
8- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه في "جزء ابن عمشليق" (ص/45) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد واهٍ بمرة.
9- عن أبي هريرة رضي الله عنه: يرويه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص/181) وفي إسناده المظفر بن الحسين شيخ السمعاني لم أقف له على ترجمة.
وخلاصة الكلام أن الحديث لا يصح، قال فيه الخطيب البغدادي: موضوع، وقال الإمام الذهبي رحمه الله: "متنه موضوع " انتهى. "ميزان الاعتدال" (3/517) ، وذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص/17) ، والعامري في "الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث" (ص/203) ، وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (حديث رقم/4832) : " وهو الذي يميل إليه القلب " انتهى. يعني أنه موضوع. وكذا قال الشيخ محمد رشيد رضا في "مجلة المنار" (3/698)
ثانيا:
الذي يظهر أن ما ورد من الفضائل لدم الشهيد، في حد ذاته، لم يرد مثله في مداد العلماء، بل لا نعلم حديثا صحيحا في فضل مداد العلماء في نفسه، فضلا عن تفضيله على دم الشهيد، وأما دم الشهيد فقد ثبت فيه أن يأتي يوم القيامة: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وأن الشهيد يغفر له بأول قطرة منه..، إلى آخر ما ورد في ذلك، لكن هذا شيء، وتفضيل الشهيد نفسه على العالم شيء آخر.
قال المناوي رحمه الله:
" والإنصاف أن ما ورد للشهيد من الخصائص، وصحَّ فيه من دفع العذاب، وغفران النقائص: لم يرد مثله للعالم لمجرد علمه، ولا يمكن أحدا أن يقطع له به في حكمه، وقد يكون لمن هو أعلى درجة ما هو أفضل من ذلك.
وينبغي أن يعتبر حال العالم وثمرة علمه وماذا عليه، وحال الشهيد وثمرة شهادته وما أحدث عليه، فيقع التفضيل بحسب الأعمال والفوائد، فكم من شهيد وعالم هون أهوالا، وفرج شدائد، وعلى هذا فقد يتجه أن الشهيد الواحد أفضل من جماعة من العلماء، والعالم الواحد أفضل من كثير من الشهداء، كل بحسب حاله وما ترتب على علومه وأعماله " انتهى.
"فيض القدير" (6/603)
وقال ابن القيم رحمه الله:
" هذه – تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء، وعكسه - المسألة كثر فيها الجدال، واتسع المجال، وأدلى كل منهما بحجته، واستعلى بمرتبته.
والذي يفصل النزاع ويعيد المسألة إلى مواقع الإجماع:
الكلام في أنواع مراتب الكمال.
وذكر الأفضل منهما.
والنظر في أي هذين الأمرين أولى به وأقرب إليه؟
فهذه الأصول الثلاثة تبين الصواب، ويقع بها فصل الخطاب.
فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصديقية، والشهادة، والولاية.
وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما)
فأعلى هذه المراتب النبوة والرسالة، ويليها الصديقية، فالصديقون هم أئمة أتباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة.
فإن جرى قلم العالم بالصديقية، وسال مداده بها، كان أفضل من دم الشهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصديقية.
وإن سال دم الشهيد بالصديقية وقطر عليها كان أفضل من مداد العالم الذي قصر عنها. فأفضلهما صِدِّيقهما.
فإن استويا في الصديقية استويا في المرتبة، والله اعلم.
والصديقية: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علما وتصديقا وقياما، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل من كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقا له: كان أتم صديقية. فالصديقية شجرة، أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل.
فهذه كلمات جامعة في مسألة العالم والشهيد، وأيهما أفضل؟! " انتهى.
"مفتاح دار السعادة" باختصار (1/297-299)
وهذا التفصيل – في ظننا – أولى وأقرب من الجزم في المفاضلة بين العلم والشهادة كعملين مجردين كما جرى إطلاقه لدى كثير من العلماء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/463)
هل تقبل شهادة معلم الصبيان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أنه لا يؤخذ بشهادة المعلمين (المدرسين) شرعاً ولماذا؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس لذلك أصل، وما يروى عن بعضهم من عدم قبول شهادة معلم الصبيان، هو مردود، فالتعليم أمر يشرِّف صاحبه ويرفع قدره، ومعلم الناس الخير يصلي عليه الرب تعالى والملائكة حتى النملة في جحرها والحوت في البحر، وهو نص حديث أخرجه الترمذي وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (4213) .
ولفظه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) رواه الترمذي (2685) .
وقد سئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
رأيت منقولا عن " الخلاصة " ما لفظه: " ولا تقبل شهادة معلم الصبيان، فإن عقْل ثمانين معلماً لا يساوي عقل امرأة واحدة ".ا. هـ. فهل هذا النقل صحيح ثابت فيها أو لا؟ وكيف الحكم في هذه المسألة؟ .
فأجاب بقوله:
قد فتشت على هذا المذكور عن " خلاصة " الغزالي فلم أره فيها، ولا أظنه في شيء من كتب أصحابنا؛ لأنه إلى السفساف أقرب، وكم من معلم صبيان رأيناه يُستسقى به الغيث لبلوغه في النزاهة والعفة والعدالة والصلاح الغاية القصوى، فإن صحت تلك المقالة بإطلاقها عن عالم تعين تأويلها على معلم ظهرت عليه أمارات الجهل أو الفسق أو الجنون كما هو كثير الآن فيمن يتعاطى هذه الحرفة التي هي أشرف الحرف بنصه صلى الله عليه وسلم , والله سبحانه وتعالى أعلم.
" الفتاوى الفقهية الكبرى " (4 / 358) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/464)
هل تُقبل شهادة مربي الحمَام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لا تقبل شهادة مربي الحمام (الحمام الزاجل وغيره) ؟ كنت قد سمعت هذا مرة وأود التأكد من ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا بأس بتربية الحمَام من أجل الزينة، أو من أجل فراخها لأكلها أو بيعها، أو لاستعمالها في إرسال الرسائل – كما كانت تستعمل قديماً.
وأما تطييرها والعبث واللعب بها: فهو من الأفعال المذمومة شرعاً، لما فيه من إيذاء الناس، ولما يتسبب به " المطيِّر " من سرقة حمام الآخرين، وتضييع وقته فيما لا فائدة فيه، فهذا هو الذي قال العلماء فيه إنه ترد شهادته ولا تُقبل.
قال الكاساني:
"والذي يلعب بالحمام فإن كان لا يطيرها لا تسقط عدالته , وإن كان يطيرها تسقط عدالته ; لأنه يطلع على عورات النساء , ويشغله ذلك عن الصلاة والطاعات" انتهى.
" بدائع الصنائع " (6 / 269) .
وقال ابن قدامة:
"اللاعب بالحمام يطيرها , لا شهادة له، وهذا قول أصحاب الرأي [الحنفية] ، وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمَام ; وذلك لأنه سفه ودناءة وقلة مروءة , ويتضمن أذى الجيران بطيره , وإشرافه على دورهم , ورميه إياها بالحجارة، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتبع حماماً , فقال: (شيطان يتبع شيطانة) – رواه أبو داود (4940) وهو في " صحيح الجامع " (3724) -.
وإن اتخذ الحمام لطلب فراخها , أو لحمل الكتب , أو للأنس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس , لم ترد شهادته" انتهى.
" المغني " (10 / 172، 173) .
وقال ابن القيم:
"وعلى الحاكم أن يمنع اللاعبين بالحمام على رءوس الناس , فإنهم يتوسلون بذلك إلى الإشراف عليهم , والتطلع على عوراتهم" انتهى.
وقال الشوكاني:
قوله: (فقال: "شيطان يتبع شيطانة" فيه دليل على كراهة اللعب بالحمام، وأنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه , وقد قال بكراهته جمع من العلماء , ولا يبعد تحريمه ـ إن صح الحديث ; لأن تسمية فاعله شيطانا يدل على ذلك , وتسمية الحمامة شيطانة إما لأنها سبب اتباع الرجل لها أو أنها تفعل فعل الشيطان حيث يتولع الإنسان بمتابعتها واللعب بها لحسن صورتها وجودة نغمتها" انتهى.
" نيل الأوطار " (8 / 106) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/465)
لا بد من نسبة الفتوى لمن قالها من العلماء
[السُّؤَالُ]
ـ[أعمل مدرساً وكثيراً ما يسألني الطلبة عن بعض الأحكام الشرعية، ولست من المتخصصين في العلوم الشرعية، ولكني قد أكون قرأت أو سمعت جواب ذلك لبعض العلماء، فهل يجوز لي أن أفتي الطلبة بذلك، وهل يجب علي أن أنسب الفتوى لمن قالها من العلماء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"إذا سئل مَن لديه أهلية للفتوى وهو يحفظ فتاوى عن العلماء المعتبرين فلا بأس أن يخبر بها ولا ينسبها لنفسه، بل يقول سمعت فلانًا أفتى بكذا إذا كان حافظاً ذلك حفظًا لا شك فيه. والله ولي التوفيق".
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
"فتاوى إسلامية" (1/174) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/466)
صلاة الاستخارة لترجيح أحد القولين
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن يستخير المسلم لترجيح أحد القولين عند العلماء؟ مع العلم أنَّ كلا القولين قوي، وهو يريد معرفة الصحيح منهما لأنهما مختلفين؟ وذلك ليتبع الصحيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ثبت عن بعض السلف استخارتهم في مسائل العلم المختلف فيها، كما ثبت عن بعضهم استخارتهم في ترجيح حال الرواة المختلف فيهم، ومن ذلك:
1. روى عبد الرزاق في " المصنف " (10 / 301) عن ابن المسيب: (أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا، فمكث يستخير الله يقول: اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب، فمحى فلم يدر أحد ما كان فيه، فقال: إني كتبت في الجد والكلالة كتابا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه) .
2. وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله من أكثر العلماء استخارة في مسائل العلم، حتى صرح في كتابه " الأم " في نحو أربع عشرة مسألة أنه قد استخار الله تعالى فيها، وكان منها قوله في " الأم " (2 / 44) :
وقد قيل: في الحلي صدقة، وهذا ما أستخير الله عز وجل فيه، قال الربيع: قد استخار الله عز وجل فيه، أخبرنا الشافعي: وليس في الحلي زكاة.
انتهى.
3. كما كان ابن حبان من المحدثين يستخير الله تعالى في الرواة الذين يشتبه حالهم عليه، ويكثر من التصريح بذلك في كتبه، خاصة كتاب " المجروحين "، ومن ذلك قوله في (1 / 194) : بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري: من أهل البصرة، يروي عن أبيه عن جده، روى عنه الثوري وحماد بن سلمة، كان يخطئ كثيراً، فأما أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم رحمهما الله فهما يحتجان به ويرويان عنه، وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديث (إنا آخذوه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا) لأدخلناه في الثقات، وهو ممن أستخير الله عز وجل فيه.
انتهى.
والأمثلة عن أهل العلم في الالتجاء إلى الاستخارة حين تشتبه عليهم المسائل كثيرة، وإنما سقت منها الشيء اليسير للتدليل على المقصود.
لكن ما معنى قولهم " هذا مما أستخير الله فيه " و " هذا ممن أستخير الله فيه "؟.
الظاهر أن معنى قولهم هو دعاء الله تعالى بأن يوفقهم لصحة الترجيح، والصواب من الأقوال في المسألة أو الراوي، وليس معناه أنهم كانوا يستخيرون الاستخارة التي هي الصلاة بدعائها؛ وذلك لعدم تطابق الدعاء مع الذي يريدون وينشدون، ففي دعاء الاستخارة " فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه " فكيف سيكون منطبقا على مسألة فقهية، أو على حال أحد رواة الحديث؟! .
فالذي يظهر أن هؤلاء الأئمة يطلبون من الله تعالى التوفيق للصواب في مسائل العلم، لا أنهم يدعون دعاء الاستخارة بصلاتها.
والغاية من الاستخارة هو طلب الهداية من الله سبحانه وتعالى إلى خير الأمرين المشتبهين الذين وقع التردد فيهما، فإن الهداية والتوفيق من الله سبحانه، وهو يعلم ولا نعلم، وهو علام الغيوب، ومن اعتمد على نفسه ضل، ومن اتكل على عقله ولم يستعن بمولاه هلك، وأولى ما يجب على العبد أن يستعين الله عليه هو الفهم الصحيح لدين الله، واختيار أنسب الأقوال وأحسنها، والاستخارة هي وسيلته إلى ذلك، بل قد تكون أوثق سبيل إلى اختيار أحد القولين الذين اشتبهت أدلتهما إلى حد كبير.
ولا يمنع أن يكون مع دعاء الإمام أو الفقيه ربه تعالى أن يوفقه للصواب في مسائل العلم أن يُسبق دعاءه بصلاة، ويمكن تسمية هذا الفعل تجوزاً " استخارة "، أو يكون ذلك نسبة للدعاء لا للصلاة، أما الصلاة والدعاء الوارد في حديث جابر المشهور فلا يمكن أن يكون هو المقصود في قولهم أنهم يستخيرون الله تعالى في كذا وكذا.
وأخيراً:
لا يظن أن الاستخارة في مسائل العلم تناقض ما أمر الله به من اتباع الدليل والبرهان، فإن اللجوء إلى الاستخارة يكون عند انعدام الدليل أو عدم ظهوره أو وجود معارض مساو، أو عند اشتباه المسألة في نفس العالم وإشكالها في الفهم عليه، وليس في شيء من ذلك ترك للدليل والبرهان، بل فيه استعانة بالله سبحانه على الفهم، ولجوء إليه ليرشد إلى الحق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه إلى الحق.
عن عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قالت: (كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
رواه مسلم (770) .
وانظر في صلاة الاستخارة وبعض أحكامها جواب السؤالين: (2217) و (11981) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/467)
داعية يسأل عن كتب في موضوع التكفير والحاكمية والاستغاثة بالنبي
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أقوم بالدعوة، وترد عليَّ أسئلة متعلقة بمسألة التكفير والخروج على الحكام، وكذلك الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الغوث، فهل يمكن أن تدلني على مراجع فيها الجواب عن مثل هذه الإشكالات، أو الإجابة عليها.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يوفق مسعاكَ، وأن ييسر أمرك، وأن يزيدك علماً وهدى وتوفيقاً.
وبخصوص المسألة الأولى: فهذا ما ننصحك به من كتب:
1. " نواقض الإيمان القولية والعملية " الدكتور عبد العزيز عبد اللطيف.
2. " نواقض الإيمان الاعتقادية " الدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي.
3. " ضوابط التكفير " الدكتور عبد الله القرني.
4. " الحكم بغير ما أنزل الله، أحواله، وأحكامه " الدكتور عبد الرحمن المحمود.
5. " وجوب تحكيم شرع الله " الشيخ عبد العزيز بن باز.
6. " ظاهرة الغلو والتكفير، الأصول، والأسباب، والعلاج " الدكتور ناصر عبد الكريم العقل.
7. " الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرين " عبد الرحمن بن معلا اللويحق.
وأما بخصوص المسألة الثانية: فإليك ما ننصحك به من كتب:
1. " الواسطة بين الحق والخلق " شيخ الإسلام ابن تيمية.
2. " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة " شيخ الإسلام ابن تيمية.
3. غاية الأماني في الرد على النبهاني، للألوسي.
04" التوسل أنواعه وأحكامه " الشيخ الألباني.
04 " الرد على شبهات المستعينين بغير الله " أحمد بن إبراهيم بن عيسى.
5. " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
6. " تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد " سليمان بن عبد الله آل الشيخ.
7. " الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد " الشيخ صالح الفوزان.
وكتب الفتاوى المشهورة للمشايخ الأجلاء: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن إبراهيم، وعبد العزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين، وكذا " فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، و " فتاوى اللجنة الدائمة "، فقد احتوت هذه الكتب على الكثير من الفوائد لكل المسائل الواردة في السؤال.
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/468)
المرأة والتعليم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي المجالات التي يجوز للمرأة أن تتعلمها؟ وهل يجوز أن تعمل محامية وتتوكل عن غيرها فيما تقدر عليه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
للمرأة أن تتعلم أمور دينها وما ينفعها في حياتها ويعدها كزوجة سعيدة وأم مربية، ثم بعد ذلك لو وجدت في نفسها قدرة وكانت الظروف مهيأة فلها أن تتعلم العلوم الأخرى. ولا مانع أن تختار لنفسها مهنة التدريس، سواء في المدارس النسائية، أو في بيتها.
وللمرأة أن تتعلم الطب والتمريض ولاسيما في الأمراض النسائية، فتكون طبيبة نسائية، أو ممرضة نسائية، حتى لا تضطر النساء للذهاب إلى الأطباء الرجال.
ويجوز للمرأة أن تكون وكيلة عن غيرها في قضية ما، وعلى هذا يجوز أن تكون محامية، لأن المحاماة وكالة بالخصومة، وهي تجوز للمرأة، ولكن مهنة المحاماة في العصر الحاضر أخذت طريقاً غير سديد، ثم يحتاج المحامي إلى الاختلاط بالخصوم، والحضور في مجلس القضاء ونحو ذلك من الأمور، والمرأة ممنوعة عن ذلك كله فلذا لا ينبغي أن تتخذ لها مهنة المحاماة ما دامت على هذه الصورة. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
ولاية المرأة في الفقه الإسلامي ص 690(8/469)
حكم دراسة الفلسفة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم دراسة الفلسفة علما أننا ندرسها إجباريا في الجزائر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ينبغي التعريف بالفلسفة، وأهم مبادئها قبل بيان حكم تعلمها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
قال الغزالي في الإحياء (1/22) : " وأما الفلسفة فليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء:
أحدها: الهندسة والحساب، وهما مباحان كما سبق، ولا يُمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة، فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع، فيصان الضعيف عنهما.
الثاني: المنطق، وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام.
الثالث: الإلهيات وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو داخل في الكلام أيضا، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة.
الرابع: الطبيعيات، وبعضها مخالف للشرع والدين والحق، فهو جهل وليس بعلم حتى نورده في أقسام العلوم. وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، وهو شبيه بنظر الأطباء إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح، وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه. وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها " انتهى مختصرا.
وجاء في "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة" (2/1118- 1121) :
" الفسلفة: كلمة يونانية مركبة من كلمتين "فيلا" بمعنى الإيثار وجعلها فيثاغورس بمعنى محبة، و"سوفيا" ومعناها الحكمة. والفيلسوف مشتق من الفلسفة بمعنى "مؤثر الحكمة" إلا أن المصطلح تطور وأصبح يعني الحكمة.
ومن ثم أصبح يطلق على الفيلسوف الحكيم. وقد أطلقت الفلسفة قديماً على دراسة المبادئ الأولى، وتفسير المعرفة عقلياً، وكانت الغاية منها عند أصحابها البحث عن الحقيقة. والفلسفة عند أنصارها كما يعرفها د. توفيق الطويل هي "النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تفرض عليه من الخارج، وقدرته على مسايرة منطقه إلى أقصى آحاده، وإذاعة آرائه بالغاً ما بلغ وجه التباين بينها وبين أوضاع العرف، وعقائد الدين، ومقتضيات التقاليد، من غير أن تتصدى لمقاومتها أو التنكيل بها سلطة ما ". والفيلسوف عند أرسطو أعلى درجة من النبي؛ لأنه النبي يدرك عن طريق المخيلة، بينما الفيلسوف يدرك عن طريق العقل والتأمل. والمخيلة عندهم درجة أدنى من التأمل، وقد تابع الفارابي أرسطو في جعل الفيلسوف فوق النبي.
الفلسفة بهذا التعريف تصادم الحكمة التي تعني في المصطلح الإسلامي السنة كما هو تعريف أكثر المحدثين والفقهاء، وبمعنى القضاء والعلم والإتقان، مع ضبط الأخلاق والتحكم في أهواء النفس وكفها عن المحارم. والحكيم من يتصف بهذه الصفات، ولذلك فهي بهذا المعنى الفلسفي من أخطر الطواغيت وأشدها شراسة في محاربة الإيمان والأديان مستخدمة المنطق الذي يسهل تلبيسها على الناس باسم العقل والتأويل والمجاز الذي يحرف به النصوص.
يقول الإمام الشافعي: "ما جهل الناس واختلفوا إلا بتركهم مصطلح العرب وأخذهم بمصطلح أرسطو طاليس ". وعلى الرغم من وجود الفلسفات في الحضارات المصرية والهندية والفارسية القديمة، لكنها اشتهرت في بلاد اليونان بل وأصبحت مقترنة بها، وما ذلك إلا لاهتمام فلاسفة اليونان بنقلها من تراث الشعوب الوثنية وبقايا الديانات السماوية مستفيدين من صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام بعد انتصار اليونانيين على العبرانيين بعد السبي البابلي، وبما استفادوه من دين لقمان الحكيم، فجاءت خليطاً من نزعات التأليه وإثبات ربوبية الخالق جل وعلا، مشوبة بالوثنية، وعلى ذلك فإن الفلسفة اليونانية إحياءً أكثر منها اختراعاً ...
ويلخص ابن أبي العز شارح الطحاوية مذهب الفلاسفة في خمسة أصول للدين عندهم فيما يلي:
أن الله سبحانه وتعالى موجود لا حقيقة له ولا ماهية، ولا يعلم الجزئيات بأعيانها ولكنه يعلمها إجماليا، وبالتالي أنكروا خلق أفعال عباده. كما ولا يؤمنون بكتبه حيث إن الله عندهم لا يتكلم ولا يكلم، وأن القرآن فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زكي النفس طاهر، تعالى الله عن وصفهم علوا كبيرا، ليست ذوات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب؛ إنما هي عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان. والفلاسفة أشد الناس إنكارا لليوم الآخر وأحداثه، وما الجنة والنار عندهم إلا أمثال مضروبة لتفهيم العوام ولا حقيقة لها في الخارج.
ولا زالت للفلسفة اليونانية روافد في كافة الفلسفات والدعوات الغربية القديمة والحديثة، بل وتأثرت بها معظم الفرق الإسلامية الكلامية، ولم يظهر مصطلح الفلسفة الإسلامية كمنهج علمي يدرس ضمن مناهج العلوم الشرعية إلا على يد الشيخ مصطفى عبد الرزاق – شيخ الأزهر- كردة فعل للهجوم الغربي على الإسلام بحجة أنه يخلو من الفلسفة. والحق أن الفلسفة جسم غريب داخل كيان الإسلام، فليس في الإسلام فلسفة، ولا بين المسلمين فلاسفة بهذا المعنى المنحرف، وإنما في الإسلام علم محقق وعلماء محققون، ومن أشهر الفلاسفة المنتسبين للإسلام: الكندي، الفارابي، ابن سينا، وابن رشد " انتهى باختصار.
ثانيا:
صرح جهور الفقهاء بتحريم تعلم الفلسفة، ومن كلامهم في ذلك:
1- قال ابن نجيم (حنفي) في "الأشباه والنظائر": " تعلم العلم يكون فرض عين , وهو بقدر ما يحتاج إليه لدينه. وفرض كفاية , وهو ما زاد عليه لنفع غيره. ومندوبا , وهو التبحر في الفقه وعلم القلب. وحراما , وهو علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبيعيين والسحر " انتهى من "الاشباه والنظائر مع شرحها: غمز عيون البصائر للحموي" (4/125) .
2- وقال الدردير (مالكي) في "الشرح الكبير" في بيان العلم الذي هو فرض كفاية: ": " (كالقيام بعلوم الشرع) غير العيني , وهي الفقه والتفسير والحديث والعقائد , وما توقفت عليه من نحو وتصريف ومعان وبيان وحساب وأصول، لا فلسفة , وهيئة , ولا منطق على الأصح ".
قال الدسوقي في حاشيته (2/174) : " (قوله: على الأصح) فقد نهى عن قراءته الباجي وابن العربي وعياض، خلافا لمن قال بوجوب تعلمه لتوقف العقائد عليه وتوقف إقامة الدين عليها. ورد ذلك الغزالي بأنه ليس عند المتكلم من عقائد الدين إلا العقيدة التي يشارك فيها العوام وإنما يتميز عنهم بصفة المجادلة " انتهى.
3- وقال زكريا الانصاري (شافعي) في "أسنى المطالب" (4/182) : " (وأما علم) أي تعلم علم (الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبائعيين والسحر فحرام) " انتهى.
4- وقال البهوتي (حنبلي) في "كشاف القناع" (3/34) : " وعكس العلوم الشرعية علوم محرمة أو مكروهة، فالمحرمة كعلم الكلام) إذا تكلم فيه بالمعقول المحض , أو المخالف للمنقول الصريح الصحيح. فإن تكلم فيه بالنقل فقط , أو بالنقل والعقل الموافق له , فهو أصل الدين وطريقة أهل السنة، وهذا معنى كلام الشيخ تقي الدين , وفي حاشيته: ما فيه كفاية في ذلك. (و) كعلم (الفلسفة والشعبذة والتنجيم , والضرب بالرمل والشعير , وبالحصى , و) كعلم (الكيمياء , وعلوم الطبائعيين) " انتهى.
وينبغي أن يستثنى من التحريم دراستها لأهل الاختصاص؛ لبيان ما فيها من الانحراف، والرد على ما تثيره من الباطل.
ثالثا:
إذا كانت دراسة الفلسفة إلزامية، فينبغي أن تحذر من اعتقاد شيء من باطلها، أو الافتتان برجالاتها، وأن تجدّ في طلب العلم الشرعي، لا سيما ما يتصل بعلم العقيدة، حتى يكون لديك حصانة ومنَعة من الشبهات.
نسأل الله لك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/470)
يريد قائمة بأسماء كتب في الرقائق
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن تخبروني بأفضل كتب الرقائق؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن أفضل كتاب على الإطلاق يرقق القلوب، هو كتاب الله عز وجل، ولهذا سماه الله تعالى موعظة فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) يونس / 57
فليس هناك كتاب يُصلح القلوب ويشفيها من أمراضها مثل القرآن، ولذلك لا ينبغي للمسلم أن يعدل عنه إلى غيره، فعلى المسلم أن يكثر من قراءة القرآن بحضور قلب وتدبر وخشوع، وسيرى أثر ذلك في إصلاح قلبه ويمكنك الرجوع إلى أحد التفسيرات المختصرة لمعرفة ما يشكل عليك من معاني بعض الآيات، كتفسير السعدي رحمه الله.
وأما ما كتبه العلماء في الرقائق فهي كتب كثيرة ومتعددة، وبعضها جزء من كتاب، وبعضها الآخر تكون كتاباً مستقلاً، ففي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما أبواب خاصة للرقائق، وأما الكتب المستقلة: فقد اخترنا لك ما يأتي (مع التنبيه إلى أن هذه الكتب إنما هي أمور مساعدة، لا بأس أن يقرأها المسلم ويستفيد مما فيها غير أنها لا تغني عن قراءة القرآن وتدبره) :
" البحر الرائق في الزهد والرقائق "، أحمد فريد.
" الزهد والرقائق "، عبد الله بن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
" الفوائد والزهد والرقائق والمراثي "، جعفر بن محمد بن نصير الخلدي، تحيقي مجدي فتحي السيد.
" موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين "، محمد جمال الدين القاسمي.
" مدارج السالكين ".
" الجواب الكافي ".
" طريق الهجرتين وباب السعادتين ".
ثلاثتها لابن القيم.
" لطائف المعارف " لابن رجب.
" مقتطفات من المواعظ والأدب "، علي سالم آل حارث.
" التعليق على منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة "، الشيخ عبد الرحمن السعدي.
" تزكية النفس " لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد سعيد القحطاني.
" السر المكنون في رقة القلوب ودمع العيون "، عبد الكريم الديوان، دار المسلم.
" موارد الظمآن لدروس الزمان "، عبد العزيز السلمان.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة "، أبو عبد الله القرطبي المفسر، تحقيق محمود البسطويسي.
" أهوال القيامة "، عبد الملك كليب.
" القبر، عذابه ونعيمه "، حسين العوايشة.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/471)
هل في الإسلام نقاط ضعف تمكن الكفار من مهاجمته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[باعتبارنا مسلمين جدد، فنحن نواجه صعوبات كثيرة وانتقادات شديدة من غير المسلمين، بسبب المحيط حولنا، هل يجب أن لا نكون منفتحين في الكلام عن مواطن ضعفنا ونحاول أن نناقش الموضوع من جهة غير دفاعية ونبدو وكأننا نعتذر أو نتستر على الأخطاء؟
سبب هذا السؤال أننا إذا ظهرنا وكأننا ننكر ونموه عن نقطة ضعف ظاهرة فلن يجعلنا هذا نجتاز هذا الموقف، ربما بعض المسلمين يظن بأننا لو حاولنا أن نحل مشاكلنا علناً فإن هذا سوف يساعد الكفار في هجومهم على الإسلام. أرجو النصيحة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس في الإسلام – بحمد الله – نقاط ضعف يخشى منها المسلم، فالإسلام هو دين الله تعالى المحكم، وقد قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} الأنعام / 115، قال بعض أهل العلم في معناها: أي: صدقٌ في الأخبار، عدلٌ في الأحكام.
وقد امتن الله تعالى علينا بإكمال الدين وإتمام النعمة فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة / 3.
وكل ما يظهر للإنسان في نظره في أحكام الإسلام أنها نقاط ضعف فليعلم أن القصور ناتج من خلل المعيار الموجود عنده للقوة والضعف، لأن بعض ما هو حكمة وعدل من أحكام الشريعة قد يظنها الإنسان بخلاف ذلك بسبب كونها بعض هوى النفس أو مخالفته لما اعتاده الناس في حياتهم المخالفة للشرع ممن يظن أن قوامة الرجل على المرأة ضعف بسبب اعتيادهم على خلاف ذلك الذي هو مخالف للفطرة أيضاً.
ثانياً:
والأمر المهم الذي ينبغي التنبيه عليه هنا: أنه لا يجوز لآحاد الناس الكلام في أحكام الإسلام أو في تفسير القرآن وشرح الحديث، بل مرجع ذلك إلى أهل العلم الراسخين.
والذي يحدث هو عرض الشبهة على عامي من عوام المسلمين فيحتار في الجواب عنها أو يجيب عليها خطئاً، أو تبقى في قلبه شبهةً يصعب عليه ردها، {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} النساء / 83.
لذا فإننا نقول: إن الله تعالى حفظ لنا الدين بحفظ العلماء وتوفيقهم للفهم الصحيح للذب عن دينه وتبيين حكمه عز وجل للناس، وليس ذلك لعامة الناس بل هو لخاصتهم وهم العلماء.
وقد كان بعض أهل العلم يتحدى أن يأتيه واحد من الناس بآية تخالف آية أو تخالف حديثاً، أو يأتي بحديث يخالف آية أو حديثاً إلا ويبين لهم ما أشكل عليهم، وقد كانوا يعلنون ذلك ويتحدون به العالمين.
وقد وقف الدارقطني رحمه الله – وهو من أئمة الحديث – وقف ببغداد خطيباً فقال: يا أهل بغداد لا يستطيع أحدٌ أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي، وهذا الكلام منه يدل على قوة علمهم وفهمهم للدين بما يعجز معه أهل الباطل أن يطعنوا في الدين أو يدسوا فيه ما ليس منه.
ولذلك.. فالنصيحة للسائل وغيره من المسلمين لاسيما الذين يخالطون الكفار بسبب العمل أو الإقامة في بلادهم أن يجتهدوا في طلب العلم والتعرف على الأحكام الشرعية الصحيحة المستنبطة من الكتاب والسنة مع الاهتمام بمعرفة علل هذه الأحكام وحَكَمِها حتى يكون عندهم من العلم ما يرد به شبهات المبطلين، ويمكنهم ذلك من الدعوة إلى الله على بصيرة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/472)
العلم الذي مدح الله صاحبه في القرآن والسنة
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد ذكر لفضل العلم في العديد من الأحاديث، وأن العلماء سينالون أجرا عظيما. فما هو المقصود بالعلم الوارد في تلك الأحاديث؟ هل هو العلم الشرعي المذكور في الأحاديث, أم يمكن أن يكون أي نوع من أنواع العلوم الأخرى مثل علم الأحياء والفيزياء والإلكترونيات..الخ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العلم الذي هنا هو علم الشريعة الذي هو مأخوذ من الكتاب والسنة، فإنه ميراث الأنبياء، والأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا إنما ورّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، فإذا جاءت النصوص تمدح العلم فإن المراد هو علم القرآن، والسنة، والشريعة فيدخل في ذلك علم النحو أي اللغة العربية لأنها لغة القرآن، وعلم الفرائض، والعبادات، والمعاملات، والحدود، وعلم الأدب الشرعي، والأدب اللغوي لأنها سيرة أولياء الله وعباده الصالحين، وكذلك وسائل هذه العلوم كأصول الفقه، والتوحيد، والعقيدة، والقواعد الإسلامية وما أشبه ذلك، فأما العلوم الأخرى الدنيوية التي يحتاج إليها المسلمون فلا شك أنها من فروض الكفاية، يفترض أن يتعلمها من تقوم بهم الحاجة وتحصل بهم الكفاية، لأن الناس محتاجون إليها، إذا لم تصدّ وتشغل عن العلوم الواجبة. لا شك أنه يُستفاد من علوم الأحياء والكيمياء وغيرها، وقد ذهب كثير من العلماء على أنه يجب أن تُتعلم العلوم الصناعية التي يُحتاج إليها، وأن يقوم بها من يكفي مثل الحدادة، والخياطة، والحلاقة وغيرها.
الشيخ عبد الله بن جبرين.
فالعلوم التي تنفع المسلمين كالعلوم الحربية أولى وأوجب. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/473)
حكم تعلم العربية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجب تعلم اللغة العربية على المسلمين الغير الناطقين بها؟ هل هو واجب أم مستحب أم ماذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عرضنا السؤال التالي على فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين
هل يجب على الأعجمي تعلم العربية؟
فأجاب حفظه الله بقوله:
يجب عليه تعلم ما يلزمه في الإسلام لفظا ومعنى كالتكبير والفاتحة والتسبيحات.. الواجبة في الصلاة وغيرها. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الله بن جبرين(8/474)
شكوى مدرِّسة من عدم استجابة الطلاب لدعوتها ونصحها لهم
[السُّؤَالُ]
ـ[إنني أتأسف لطول سؤالي ولكن الأمر جد خطير، أرجو أن تصبروا عليَّ، إنني أعمل مدرِّسة في مَدرَسة ابتدائية إسلامية , وهي مقامة داخل مسجد , وأقوم بتعليم أطفال ما بين 10 - 12 عاماً، وسؤالي هو: أنهم عندما أقوم بتعليمهم الأحاديث، والتربية، ودروس السيرة: فإنهم يكونون سعداء جدّاً بالاستماع إليها , ولكنني لا أجد النتيجة المأمولة منهم، على سبيل المثال: لا أجدهم يطبقونها، مع العلم أنهم يعرفون أنه لا يجب عليهم أن يشربوا واقفين، ويعرفون الحديث الذي يتحدث عن الشرب واقفاً ومع ذلك مصرين على ما يفعلون، إلا إذا أخبرتهم وذكرتهم بالحديث. إنني أريد أن أقوِّي من إيمانهم , وأن يطبقوا ما أعلِّمهم إياه , ولكنني لا أعرف ما أفعل أكثر من ذلك , وأظن أنني قد أهملت بعض المواضيع الحيوية، لذلك فإنهم يجدون صعوبة في التطبيق، وفي بعض الأحيان أرى أنه تقصير مني , وإنني أريد منهم أن يحبون الدين كما أحبه، كما أنني آخذ في الاعتبار أن بعض الأطفال من مدارس عامة، والبيئة الإسلامية جديدة عليهم. فما هي أفضل المواضيع التي أبدأ بتعليمها للأطفال خطوة بخطوة في هذا العمر، فيخافون الله، ويحبون العمل لأجله؟ وكيف يمكنني أن أجمِّل الدين لهم وأن أشرح جماله لهم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
سؤالكِ هذا دليل على حسن قيامك بواجب المسؤولية في عملك كمدرِّسة، وموجهة، وداعية , فنسأل الله سبحانه أن يبارك فيك، وفي همتك، وجهدك.
فالمدرِّس في مدرسته مؤتمن، ومسؤول على ما اؤتمن عليه , من نصح الطلاب، وتوجيههم , والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم، ونفعهم , وفي الحديث عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) رواه البخاري (853) ومسلم (1829) .
ولو أن المدرِّسين والمدرِّسات حملوا همكِ وهمتكِ , وهذه الرغبة الصالحة: لنشأ - بإذن الله - جيل صالح , وبذرة طيبة.
ثانياً:
على المسلم أن يقوم بالتعليم والنصح والإرشاد وهو غير مسؤول عن النتيجة، وعن عدم استجابة الناس له، قال الله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ) المائدة/ 99.
ونجاح الدعوة ليس بالكثرة، والعدد , ففي الحديث عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِي لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ) رواه البخاري (5378) ومسلم (220) .
ولا يعني عدم التطبيق المباشر للمدعوِّين فشل الدعوة، أو انتكاسها , فربَّ كلمة، أو نصيحة، أو موعظة أثَّرت بعد حين.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) رواه أحمد (28/155) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3) .
وهو صلى الله عليه وسلم لم يشهد ذلك في حياته.
فليس من لازم نجاح الدعوة أن يلمس الإنسان آثارها مباشرة.
أما السبيل الذي ننصح أن يسلكه المعلِّم في نصحه وتوجيهه لطلابه: فكما يلي:
أ. لا بد من التواصل البيتي المدْرسي، فإذا كانت المدرسة تبني والبيت يهدم أو العكس: فلن نحصل على الثمرة المرجوة , فلا بد من التواصل مع أولياء أمور الطلاب , فمثلاً إذا حثَّ المعلم على المحافظة على الصلاة: فلا بد من متابعة الأهل للأولاد، وتذكيرهم بموعد الصلاة.
ولو حث المعلمُ الطفلَ - مثلاً - على آداب الطعام من التسمية، والأكل باليمين: فلا بد من متابعة الأهل لهذا الأمر، وهكذا في باقي الآداب، والأحكام.
ب. التركيز على التربية الإيمانية , وتقوية الوازع الإيماني في نفس الطف.
وانظري جواب السؤال رقم: (22950) .
ج. التربية بالقصة , وتربية الأولاد على حب الأنبياء، والصالحين من الصحابة، والتابعين، والاقتداء بهم فهذا الأسلوب من أعظم مواطن التأثير في الطلاب.
وانظري جواب السؤال رقم: (22496) .
د. التربية بالقدوة , فظهور المعلم – والمعلمة - أمام الطلبة – والطالبات - بمظهر الصدق، والأمانة، وحسن المنطق , وحسن الخُلق: له أكبر الأثر الإيجابي في نفوسهم , فكيف يقبل طالب من معلِّم حثه له على الصدق , والوفاء بالوعد: وهو يكذب في حديثه، أو يعدهم، ولا يوفي؟!.
هـ. التربية بالتطبيق العملي، فأداء الصلاة أمامهم , والتوضؤ أمامهم: من شأن ذلك أن يطبع في أذهانهم تلك العبادة بهيئاتها.
وأما أول ما يبدأ به المعلم في غرسه في نفوس الطلبة:
أ. أركان الإيمان: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدَر، خيره وشرِّه؛ وتسهيل الأمر إلى مستواهم، مع ضرب المثال، والتكرار.
ب. الأحكام المتعلقة بأهم العبادات، كالصلاة، ومعها الوضوء، وكذا آداب الطهارة، والحث على النظافة.
ج. الآداب العامة: من الكلمة الطيبة واجتناب الألفاظ السيئة، وحب الوالدين , واحترام الكبير، والإحسان إلى الصديق، إلى غير ذلك.
د. التحذير من الأمور السيئة، كالسب والشتم والكذب؛ والاعتداء على الآخرين ... إلخ.
وأهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المربي: الصبر، والمتابعة، وعدم اليأس.
ونسأل الله أن يعينك ويوفقك وأن يجزيك على همتك وجهدك خير الجزاء.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/475)
حكم المراهنة في مسابقات حفظ القرآن الكريم والعلوم الشرعية
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن في حلقة لتحفيظ القرآن الكريم , يحصل عندنا أحياناً بعض الأمور بين الشباب نريد أن نستفسر عنها , فيكثر أن يحصل تحديات بين الشباب , كأن تكون هناك مسابقة بين مجموعتين , فتقول إحدى المجموعات للمجموعة الأخرى: إن انتصرتم علينا تستحقون كذا وكذا (عشاء مثلاً) أو أحد الأشخاص في إحدى المجموعات يتحدى المجموعة الأخرى بما لو فازت فسوف يعشيهم كلهم في حين لو فازت هذه المجموعة فلا يلزم المجموعة الأخرى عشاء (أي أن التحدي من طرف واحد) , فما حكم مثل هذه التحديات والالتزامات هل هي جائزة؟ وهل تجوز كذلك إذا كانت من الطرفين جميعاً بحيث من ينهزم هو الذي يعشي الآخر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روى أبو داود (2574) والترمذي (1700) وابن ماجة (2878) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
والسبَق: هو المكافأة أو الجائزة التي يأخذها السابق.
قال ابن الأثير في "النهاية" (2 / 844) : "ما يُجْعل من المَال رَهْنا على المُساَبَقة " انتهى.
فحرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الرهان إلا في مسابقات الرماية والخيول والإبل، لأن في ذلك تشجيعاً على الجهاد وتدريباً عليه، فيحصل بذلك منفعة عظيمة ونصرة للإسلام.
وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز المراهنة في مسابقات حفظ القرآن الكريم والعلوم الشرعية، قياساً على الثلاثة التي جاء بها الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الإسلام انتصر وينتصر بالعلم الشرعي وبالجهاد في سبيل الله، فلما جازت المسابقات التي تعين على الجهاد في سبيل الله، فكذلك المسابقات التي تعين على طلب العلم الشرعي.
وقد اختار القول بالجواز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، واختاره من علمائنا المعاصرين الشيخ ابن عثيمين وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء.
قال ابن القيم رحمه الله:
" المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل هل تجوز بعِوَض؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز، وهي صورة مراهنة الصّدّيق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، وقد تقدم أنه لم يقم دليل شرعي على نسخه، وأن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار، وأن الدين قيامه بالحجة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح " انتهى.
"الفروسية" (ص 318) .
وقال المرداوي رحمه الله في "الإنصاف" (6/91) عن هذا القول:
"وَهَذَا ظَاهِرُ اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْفُرُوعِ. وَهُوَ حَسَنٌ" انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
بعض الطلاب في مذاكرة العلم الشرعي يجعلون من يخطئ في مسألة مطالباً بشراء كتاب مثلاً لمن أصاب فيها، فهل هذا حلال؟
فأجاب:
"هذه مسابقة، ويرى شيخ الإسلام أنه لا بأس بالمسابقة الشرعية، وقد علل ذلك رحمه الله موضحاً أن الجهاد يكون إما بالعلم، وإما بالسلاح، واستدل كذلك بما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) فالفرس هم الذين غلبوا الروم، والروم نصارى من أهل الكتاب، والفرس مجوس ليس لهم كتاب، قال الله تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ) لأن المؤمنين يحبون انتصار النصارى على الفرس، لأن النصارى أهل كتاب فهم أقرب إى الإسلام من المجوس، وقريش تحب أن ينتصر المجوس على الروم، فقالت قريش: لا يمكن للروم أن تغلب الفرس، لأن الفرس أقوى منهم، وهم لا يؤمنون بالقرآن، فراهنهم أبو بكر على شيء من الإبل مدة سبع سنين، فمضت السنون السبع ولم يحدث شيء، فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (زِدْ في الأجل سنتين وزد في الرهان) ففعل أبو بكر، فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس. ومن هذه المسألة استدل شيخ الإسلام على جواز الرهان في مسائل العلم الشرعي" انتهى باختصار.
"الباب المفتوح" (59/26) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
" لا يجوز أخذ الجوائز على المسابقات إلا إذا كانت على وفق ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تكون على الرماية أو ركوب الخيل أو الإبل؛ لأن هذه من وسائل الجهاد في سبيل الله، ويلحق بها المسابقات في المسائل العلمية، التي هي من الأحكام الشرعية؛ لأن طلب العلم من الجهاد في سبيل الله " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (15/179) .
وسئلت اللجنة أيضاً: هل يجوز أخذ جوائز مسابقات القرآن الكريم؟
فأجابت:
"لا حرج في أخذ الجوائز التي ترصدها الجماعات الخيرية ونحوهم ممن يعنون بتحفيظ كتاب الله" انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (15/189) .
وقال الشيخ ابن جبرين رحمه الله:
"هناك مسابقات مباحة لا تدخل في الميسر ومن ذلك: مسابقات تحفيظ القرآن أو مسابقات العلم الشرعي كالبحوث ونحوها. وهذه جائزة بجُعْل وبدون جعل" انتهى.
"فتاوى الشيخ ابن جبرين" (65 / 22)
وعلى هذا، فمسابقات حفظ القرآن الكريم أو العلوم الشرعية يجوز أخذ الجوائز عليها، سواء كانت هذه الجوائز من طرف ثالث ـ غير المتسابقين ـ أو من أحد المتسابقين أو منهم جميعاً.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/476)
حكم قيام الطالبات للمُدرسة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم قيام الطالبات للمُدرسة احتراماً لها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"قيام البنات للمُدرسة والبنين للمُدرس أمر لا ينبغي، وأقل ما فيه الكراهة الشديدة، لقول أنس رضي الله عنه: (ولم يكن أحد أحب إليهم – يعني الصحابة رضي الله عنهم – من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يقومون له إذا دخل عليهم، لما يعلمون من كراهته لذلك) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) .
وحكم النساء حكم الرجال في هذا الأمر، وفق الله الجميع لما يرضيه وجنبنا جميعاً مساخطه، ومنح الجميع العلم النافع والعمل به، إنه جواد كريم" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
"فتاوى علماء البلد الحرام" (ص 390) .
وانظر جواب السؤال رقم (34851) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/477)
أسئلة في طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب في كلية الهندسة، عمري (19 عاما) ، نويت وقررت أن أتفقه في ديني وأطلب العلم الشرعي، وأجمع بين العلمين، فاقتنيت الكتب التي أوصيت بها لطالب العلم المبتدئ كلها، كما في السؤال رقم (20191) ، وأفهم منها الكثير والحمد لله. وقد نبهت حفظك الله بأن أبدأ بحفظ القرآن الكريم، لكني أجد مشقة كبيرة في الحفظ للأسف، ولا أجد ذلك في حفظي الأحاديث، ولا أعلم السبب، فالسؤال هنا على عدة نقاط: 1. هل أستطيع أن أوفق بين العلمين (الهندسة والعلم الشرعي) ؟ 2. هل أستطيع أن أتنقل بين فروع العلم الشرعي قبل أن أكمل الفرع السابق، على سبيل المثال: أقرأ في الأصول الثلاثة في العقيدة، ثم أنتقل لكتاب شرح الآجرومية للشيخ محمد العثيمين رحمه الله قبل أن أنهي الأصول الثلاثة، وذلك حتى أخفف من حدة الروتين. هل يكفي حفظ الأدلة من النصوص القرآنية من غير حفظ القرآن (أقصد حفظ السور) ؟ علما أنه لا يوجد هناك مشقة في حفظ الأدلة مع الفهم. أرجو ذكر أسماء الأشرطة التي تنصح فيها لشرح الدروس، لا المحاضرات العامة كما نبهت لذلك في السؤال رقم (104174) . أرجو إفادتي بذكر أسماء بعض الكتب الموثوقة في سرد حياة السلف الصالح، بداية من الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة الكرام، وذلك لما في الكتب الكثير من التدليس والكذب نسأل الله السلامة والعافية. 3. هل من كتاب مبسط موثوق يشرح كتاب " عمدة الفقه " لطالب العلم المبتدئ، وكتاب آخر يشرح كتاب " عمدة الأحكام "، علما أني أجد بعض الصعوبة في فهمهما.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والعون والسداد.
واعلم ـ أخانا الكريم ـ أن طريق طلب العلم الشرعي طريق طويل، يقتضي منك الصبر والأناة والمثابرة، فالعلم لا يأتي جملة، وإنما مع الأيام والليالي، بشرط الحرص والمتابعة، والحذر من الفتور والانقطاع.
ونبشرك بإمكان تحصيل قدر من العلم الشرعي الجيد مع التخصص الدنيوي، لكن بشرط استمرار الهمة العالية على الدوام، والمحافظة على قدر معتدل من المطالعة والدراسة الشرعية.
أما إذا ملك التخصص الدنيوي على الطالب وقته وعمره، ولم يكد يجد في اليوم الساعة أو الساعتين للقراءة الشرعية، ثم يريد أن يصبح فقهيا أو محدثا أو متخصصا في العلوم الشرعية في سنوات معدودة: فذلك أمر لا يقع في سنن الله المعهودة؛ لأن العلم الشرعي يستغرق عمر الإنسان إن سلكه فيه، فكيف إن أعطاه الفضلة من وقته فقط.
وقد كان العلماء في القديم ينبهون الطلاب إلى ضرورة تفريغ القلب عن الشواغل والعلائق، كي تصفو القريحة، وتنجلي النفس لاستظهار العلوم الشرعية، وفهمها، والزيادة عليها، وتحقيق الصحيح منها، وإدراك أحكام النوازل، إلى جانب الدعوة إليها، والعمل بما فيها، فالعلم الشرعي مدرسة، بل حياة كاملة تنقضي الأعمار، وتنطوي الأجيال، ولا تنقضي دقائقه وأسراره.
عقد الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/425) بابا جاء فيه: " باب حذف المتفقه العلائق: كان بعض الفلاسفة لا يُعَلِّمُ أحدا يتعلق بشيء من الدنيا، ويقول: العلم أجَلُّ مِن أَن يُشتغَلَ عنه بغيره – ثم روى بسنده عن مليح بن وكيع قال -: سمعت رجلا، يسأل أبا حنيفة: بم يستعان على الفقه حتى يحفظ؟ قال: بجمع الهم. قال: قلت: وبم يستعان على حذف العلائق؟ قال: بأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد.
كما روى بسنده في "الفقيه والمتفقه" (2/466) عن إبراهيم بن سيار النظام قال: " العلم: شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك، من إعطائه البعض على خطر " انتهى.
ومع ذلك لا ينبغي لمن سلك سبيل التخصصات الدنيوية أن ييأس من تحصيل العلم الشرعي، فالأيام تتقلب، والظروف تختلف، وإن لم يجد الوقت الكافي للطلب اليوم، لعله يجده غدا، أما إن كان يجد الوقت الكافي فلا ينبغي له أن يضيع على نفسه الفرصة، وليحرص على تحصيل الفوائد وضبط المسائل، وهو في ذلك كله يتدرج بالمسألة والمسألتين، ولا يستعجل الضبط والتمكين، فالأمر يحتاج إلى سنوات وسنوات.
عن حصين، قال: جاءت امرأة إلى حلقة أبي حنيفة، وكان يطلب الكلام، فسألته عن مسألة له ولأصحابه، فلم يحسنوا فيها شيئا من الجواب، فانصرفت إلى حماد بن أبي سليمان، فسألته فأجابها، فرجعت إليه، فقالت: غررتموني، سمعت كلامكم، فلم تحسنوا شيئا.
فقام أبو حنيفة فأتى حمادا، فقال له: ما جاء بك؟ قال: أطلب الفقه. قال: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها شيئا حتى يتفق لك شيء من العلم، ففعل، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع.
يقول الخطيب البغدادي بعد رواية هذه القصة:
" وينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلا قليلا، حسب ما يحتمله حفظه، ويقرب من فهمه، فإن الله تعالى يقول: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .
وينبغي أن يراعي ما يحفظه، ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة، ولا يغفل ذلك، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنسانا مسألة من العلم، سأله عنها بعد مدة، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم، فأقبل عليه وزاده، وإن لم يره قد حفظها، وقال له المتعلم: كنت قد حفظتها فأنسيتها، أو قال: كتبتها فأضعتها، أعرض عنه ولم يعلمه " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" (2/462-464)
وهذا كله من باب مسايسة النفس لحملها على المواصلة والمثابرة، ومن ذلك أيضا التنقل بين نوعين فأكثر من أنواع العلوم، لدفع السآمة والملل، واستجلاب القوة والنشاط، وهو أسلوب مستعمل لدى العلماء الأولين، لكن بشرط التأني في ضبط المسائل وحفظها ومراجعتها، وليس تنقلا عبثيا يحمل عليه العجلة والاضطراب.
ومن حسن التعلم أيضا أخذ المسائل والعلوم على قدر الوسع والطاقة، فلا يتكلف الطالب حفظ ما يعد غاية في الصعوبة في عرف العلماء، كذلك الطالب الذي يكابد لحفظ آيات القرآن الكريم، ثم تجده يشرع في حفظ أسانيد الأحاديث، أو أبيات المنظومات المطولة، وهو يتعثر في حفظ كلام الله عز وجل، فذلك خطأ منهجي ظاهر.
وذلك لا يعني قعود الطالب عن الحفظ بدعوى العجز، بل ينبغي المثابرة والمصابرة، وخاصة إذا كان المقصود حفظ القرآن الكريم، فحفظ أكثره واستظهار آياته ضروري لكل مسلم، فكيف لطالب العلوم الشرعية، أما إن عجز عن الحفظ ويئس، فلا أقل من حفظ المفصل من القرآن، وهو من سورة " ق" حتى ختام المصحف، على المشهور، يستعين به على عبادته وصلاته، ويعمر به فؤاده، ثم حفظ آيات الأحكام، والإكثار من القراءة والتأمل في كلام الله عز وجل.
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله:
" اعلم أن القلب جارحة من الجوارح، تحتمل أشياء، وتعجز عن أشياء، كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا، وكذلك منهم من يمشي فراسخ في يوم، لا يعجزه، ومنهم من يمشي بعض ميل، فيضر ذلك به، ومنهم من يأكل من الطعام أرطالا، ومنهم من يتخمه الرطل فما دونه.
فكذلك القلب: مِن الناس مَن يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ عشر ورقات تشبها بغيره لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، ولم ينتفع بما سمع، فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدارٍ يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه، فإن ذلك أعون له على التعلم من الذهن الجيد والمعلم الحاذق.
قال بعض الحكماء: إن لهذه القلوب تنافرا كتنافر الوحش، فألفوها بالاقتصاد في التعليم، والتوسط في التقويم، لتحسن طاعتها، ويدوم نشاطها، ولا ينبغي أن يُمْرِج نفسه [أي: يرسلها بلا ضابط] فيما يستفرغ مجهوده، وليعلم أنه إن فعل ذلك فتعلم في يوم ضعف ما يحتمل أضر به في العاقبة، لأنه إذا تعلم الكثير الذي لا طاقة له به، وإن تهيأ له في يومه ذلك أن يضبطه، وظن أنه يحفظه، فإنه إذا عاد من غد وتعلم نسي ما كان تعلمه أولا، وثقلت عليه إعادته، وكان بمنزلة رجل حمل في يومه ما لا يطيقه، فأثر ذلك في جسمه، ثم عاد من غد، فحمل ما يطيقه فأثر ذلك في جسمه، وكذلك إذا فعل في اليوم الثالث، ويصيبه المرض وهو لا يشعر.
ويدل على ما ذكرته: أن الرجل يأكل من الطعام ما يرى أنه يحتمله في يومه مما يزيد فيه على قدر عادته، فيعقبه ذلك ضعفا في معدته، فإذا أكل في اليوم الثاني قدر ما كان يأكله أعقبه لباقي الطعام المتقدم في معدته تخمة.
فينبغي للمتعلم أن يشفق على نفسه من تحميلها فوق طاقتها، ويقتصر من التعليم على ما يبقي عليه حفظه، ويثبت في قلبه.
وينبغي أن يجعل لنفسه مقدارا، كلما بلغه وقف وقفة أياما لا يزيد تعلما، فإن ذلك بمنزلة البنيان: ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء، بناه أذرعا يسيرة، ثم تركه حتى يستقر، ثم يبني فوقه، ولو بنى البناء كله في يوم واحد لم يكن بالذي يستجاد، وربما انهدم بسرعة، وإن بقي كان غير محكم، فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حدا، كلما انتهى إليه وقف عنده، حتى يستقر ما في قلبه، ويريح بتلك الوقفة نفسه، فإذا اشتهى التعلم بنشاط عاد إليه، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرض له " انتهى باختصار.
"الفقيه والمتفقه" (2/481-483) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
" الناس طبقات في العلم، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم فيه، فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه، نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" (2/465) .
أما الأشرطة العلمية التي ننصحك بها فهي أشرطة العلماء المعاصرين المشهورين، كأشرطة الشيخ ابن عثيمين، احرص عليها كلها، وغيره من العلماء والمتخصصين الذين تجد شروحاتهم العلمية في موقع طريق الإسلام ومكتبة المشكاة، فتجد فيها أيضا إن شاء الله شروحا مهمة لعمدة الفقه وعمدة الأحكام وغيرها من الكتب الفقهية.
وفي أبواب سير العلماء يمكنك قراءة كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، فهو من أوسع وأشمل ما كتب في هذا الموضوع، فإن وجدته طويلا فقد اختصره بعض المعاصرين في أربعة مجلدات، يمكن لمن لا يجد الوقت الكافي القراءة منه، ولكنا ننصح بقراءة الكتاب نفسه على ما فيه من طول، ففيه فوائد تربوية وفقهية وحديثية وتاريخية كثيرة.
واستعن بالله تعالى ربك أن يعينك على هذه العبادة – طلب العلم –، وداوم على دعائه بأن ييسر لك الصعب ويسهله، ولا تنس الإخلاص في الطلب فهو سر النجاح والتوفيق في الدارين.
وأما شروح عمدة الأحكام المعاصرة فمن أيسرها وأقربها: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للشيخ عبد الله البسام، رحمه لله، وهناك شروح صوتية مسجلة لعدد من أهل العلم عليه، ومن أوسعها شرح الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله.
وللشيخ البسام رحمه الله أيضا تعليقات مختصرة على عمدة الفقه، مع أهمية الاستعانة بالشروح المسموعة لها، مثل شرح الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله، وغيره من أهل العلم الذين شرحوها، وهي كثيرة جدا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/478)
تبين له أن شيخه يتعامل مع الجن
[السُّؤَالُ]
ـ[شاب يدرس عند شيخ يتعامل مع الجن لعلاج الملموسين والملموسات والمسحورين والمسحورات، وقد علم الشاب بذلك متأخرا، فهل يقطع دراسته عند هذا الشيخ ويترك المكان؟ مع العلم أن دراسته على وشك الانتهاء، وهذه الدراسة في العلوم الشرعية والقرآن. وما حكم تدريس القرآن لهذا الشاب الذي يشرف عليه هذا الشيخ؟ وما حكم الصدقة التي يأخذها هذا الطالب من هذا الشيخ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
معاملة الجن خطرٌ عظيم، وبابٌ من أبواب الشر والفساد، طالما أصاب الناس من شره وآفته، وحسبك في ذلك أن الشرك لم يدخل على الناس إلا من طريقهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - مُخبرا عن تعليم الله عز وجل عباده بقوله -: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) رواه مسلم (2865)
وإن كان في الجن من المؤمنين والمسلمين كما فيهم من الكافرين الفاسقين، غير أن احتجابهم عن الإنسان يحول دون الاطمئنان إلى أي منهم، ويوجب الخوف من استدراجهم، خاصة مع انتشار الجهل واشتهار البدع التي هي بريد الشرك، فغالبا ما توقع هذه المخلوقات الإنسان فيما يحرم، ثم لا تنفعهم أيضا إلا يسيرا.
وقد قال الله عز وجل: (وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن/6
لذلك كانت فتاوى أهل العلم بحرمة التعاطي مع الجن والتعامل معهم مطلقا – سواء في ذلك المؤمن منهم والكافر – وضرورة عدم التساهل في ذلك، سدا لباب الفتنة والريبة، ورعاية لقلوب الناس التي تملؤها الفطرة الإيمانية.
جاء في "الإنصاف" للمرداوي (10/351) :
" قوله: (فأما الذي يُعَزِّمُ على الجن، ويزعم أنه يجمعها فتطيعه: فلا يكفر ولا يقتل، ولكن يعزر) فعلى المذهب: يعزر تعزيرا بليغا لا يبلغ به القتل على الصحيح من المذهب، وقيل: يبلغ بتعزيره القتل " انتهى باختصار.
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (14/18) :
" أما الاستعانة بغير الله، فإما أن تكون بالإنس أو الجن: فإن كانت الاستعانة بالجن فهي ممنوعة، وقد تكون شركا وكفرا، لقوله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن/6 " انتهى.
ويقول الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (تحت حديث رقم/2760) :
" ومن هذا القبيل معالجة بعض المتظاهرين بالصلاح للناس بما يسمونه بـ " الطب الروحاني "، سواء كان ذلك على الطريقة القديمة من اتصاله بقرينه من الجن - كما كانوا عليه في الجاهلية - أو بطريقة ما يسمى اليوم باستحضار الأرواح، ونحوه عندي " التنويم المغناطيسي "، فإن ذلك كله من الوسائل التي لا تُشرع؛ لأن مرجعها إلى الاستعانة بالجن التي كانت من أسباب ضلال المشركين كما جاء في القرآن الكريم: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن/6، أي: خوفا وإثما.
وادعاء بعض المبتلين بالاستعانة بهم أنهم إنما يستعينون بالصالحين منهم دعوى كاذبةٌ؛ لأنهم مما لا يمكن - عادة - مخالطتهم ومعاشرتهم، التي تكشف عن صلاحهم أو طلاحهم، ونحن نعلم بالتجربة أن كثيرا ممن تصاحبهم أشد المصاحبة من الإنس، يتبين لك أنهم لا يصلحون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) التغابن/14 هذا في الإنس الظاهر، فما بالك بالجن الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف/27 " انتهى.
وقد سبق في موقعنا نقل فتاوى أخرى لأهل العلم في هذا الموضوع في أجوبة الأسئلة الآتية: (10518) ، (11114) ، (78546)
ثانيا:
أول ما ينبغي لطالب العلم في طلبه تخير العلماء الثقات، أهل الديانة والأمانة والورع، فلا يحمل العلم إلا عَمَّن يؤخذ عنه بحقه، وحقه العمل به بطاعة الله والتزام شرعه وأمره، فإن للمعلم أكبر الأثر في نفس الطالب المتعلم، ولا بد أن يتزين ذلك بتقوى الله عز وجل.
عن إبراهيم النخعي قال:
" كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه " انتهى. "الجامع لأخلاق الراوي" (1/127)
وقد ذكر العلماء ذلك فيما ينبغي على متعلم القرآن الكريم خاصة.
يقول النووي رحمه الله في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص/13) :
" ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته، فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف: هذا العلم دين، فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم " انتهى.
وقال الزرنوجي رحمه الله في "تعليم المتعلم" (ص/7) :
" ينبغي أن يختار الأعلم والأورع واأسن، كما اختار أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان بعد التأمل والتفكر، وقال: وجدته شيخا وقورا حليما صبورا " انتهى.
ويقول ابن جماعة الكناني في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم" (ص/133) :
" ينبغي للطالب أن يقدم النظر، ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته، وتحققت شفقته، وظهرت مروءته، وعرفت عفته، واشتهرت صيانته، وكان أحسن تعليما، وأجود تفهيما.
ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل، فعن بعض السلف: " هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفعَ يحصل غالبا، والفلاحَ يُدرِك طالبًا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيبٌ وافر، وعلى نصحه للطلبة دليل ظاهر.
وكذلك إذا اعتبرت المصنفات، وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر، والفلاح بالاشتغال به أكثر " انتهى.
ثالثا:
فالنصيحة لهذا الطالب أن يترك ذلك المعلم الذي يستخدم الجن – إن ثبت ذلك عنه يقينا -، ولا يأخذ عنه شيئا من العلم أو الخلق أو الدين، فذلك أحوط لدينه ونفسه، وأبرأ لذمته، إن كان بمقدوره أن يعوض ما فاته، ويكمل دراسته عند شيخ من أهل السنة والاستقامة.
وأما إن كان لا يوجد في بلده من أهل الاستقامة من يقوم له بذلك، فالذي نراه أنه يكمل القدر اليسير المتبقي له من دراسته، إذا كان الحال ما ذكر من أنه إنما يستخدم الجن في علاج المسحورين أو المرضى، ولم يعرف عنه أنه يعمل بالسحر أو أذى المسلمين، أو العدوان على أموالهم أو أعراضهم، والقاعدة عند أهل العلم أنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء؛ فنحن، وإن كنا نمنع ابتداء أن يتعلم الطالب على شيخ من أهل البدع، أو ممن يظهر عليه انحراف في علمه أو عمله، ففي مثل حال السائل، يرخص له في استمراره في هذه الدراسة حتى ينتهي، لا سيما إن كان القدر المتبقي يسيرا، ولا سيما ـ أيضا ـ إن كان في بلد يعز عليه أن يجد بديلا من أهل الاستقامة والسنة.
على أنه يؤيد ما ذكرناه هنا ـ أيضا ـ أن هذا الشيخ ربما كان يأخذ بقول من يقول بجواز استعمال الجن في الأمور المباحة، كالتي ذكرت في السؤال، فيكون متأولا معذورا، لا نستطيع أن نبدعه أو نضلله.
وهذا القول، وإن كان قال به بعض علماء أهل السنة، إلا أن الصواب هو ما ذكرناه أولا، من المنع من استخدام الجن مطلقا. لكن الراجح في المسألة شيء، وأعذار المتأولين شيء آخر.
رابعا:
نصيحتنا في شأن الصدقة أيضا الاستغناء عنها، والسعي الدائم إلى تحصيل العيش من كسب اليد، من غير تقصير في طلب العلم ولا انهماك في طلب الرزق، بل يكون معتدلا، يتكفف عما في أيدي الناس، ويجتهد في تعلم مسائل الدين، وبذلك ينال رضى الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) رواه مسلم (2699)
لكن إن أعوزت الطالب الحيلة، واضطر إلى الصدقة التي يعطيه إياها هذا المعلم، فلا حرج عليه إن شاء من قبولها وأخذها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/479)
الاستماع إلى تلاوة النساء للقرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الاستماع إلى تلاوة النساء في مسابقات القرآن الكريم التي تقام في بعض البلاد الإسلامية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا أعلم بأسا في هذا الشيء، إذا كان النساء على حدة، والرجال على حدة، من غير اختلاط في محل المسابقة، بل يكن على حدة، مع تسترهن وتحجبهن عن الرجال.
وأما المستمع فإذا استمع للفائدة والتدبر لكلام الله فلا بأس، أما مع التلذذ بأصواتهن فلا يجوز. أما إذا كان القصد الاستماع للفائدة، والتلذذ في استماع القرآن والاستفادة من القرآن فلا حرج إن شاء الله في ذلك. انتهى
فتاوى نور على الدرب للشيخ عبد العزيز بن باز (2 / 100)
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/480)
أسباب انتكاسة المستقيم حديثاً ونصائح لمن يريد طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد نصيحة لمن التزم حديثاً، وماذا يفعل لكي لا ينتكس؟ ونصائح بماذا يبدأ بالقراءة من الكتب بعد القرآن.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يفرح الله تعالى بتوبة عبده مع أنه تعالى هو الموفِّق لهذا التائب أن يتوب، وهو سبحانه لا تضره معاصي الخلق ولو كثرت، وهذا من عظيم رحمة الله تعالى بخلقه، وعظيم فضله، والذي ننصح به إخواننا المستقيمين على الهداية والمتوجهين نحو طريق الخير هو:
1. حمد الله تعالى وشكره بصدق وإخلاص، أن وفقهم لأن يهتدوا لطريق الجنة، وأن يعلموا أنه لولا الله ما اهتدوا ولا صلوا، ويحتاج مع الحمد والشكر إلى دعاء الله تعالى أن يثبته على الدين والحق؛ فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك) ونحن أولى بهذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم.
2. التزام طاعة الله تعالى بأداء الواجبات المفروضة، والحرص على زيادة التقرب إلى الله تعالى بعد الفرائض بفعل السنن؛ لتحصيل محبة الله تعالى، ومن أحبَّه الله ثبَّته على الطريق، وزاده هدى وتوفيقاً.
فعَنْ أَبِي هُريرة رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تَعالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً، فَقَدْ آذنتُهُ بالحربِ، وما تَقَرَّب إليَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افترضتُ عَليهِ، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أَحْبَبْتُهُ، كُنتُ سَمعَهُ الّذي يَسمَعُ بهِ، وبَصَرَهُ الّذي يُبْصِرُ بهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطُشُ بها، ورِجْلَهُ الّتي يَمشي بِها، ولَئِنْ سأَلنِي لأُعطِيَنَّهُ، ولَئِنْ استَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) . رواهُ البخاريُّ (6137) .
3. التطلع إلى رضوان الله تعالى، والتشوق للقائه سبحانه، وعدم الانشغال بالدنيا، بمباحاتها وملذاتها، ولتكن همة هذا المستقيم على الطاعة علوية لا سفلية، وليكن هدفه تحصيل السعادة الأبدية في دار لا يهرم فيها ولا يمرض، وهي الجنة.
4. وعليه بطلب العلم، وأول الطلب البداءة بحفظ كتاب الله تعالى، ثم النظر في السنَّة المطهرة، والقراءة في كتب العقيدة السلفية والتوحيد والفقه، ومن شأن معرفة المسلم لدينه أن يزداد تمسكاً به، ومن أعظم أسباب الانتكاس والسقوط في الطريق، الجهل بالدين وعدم معرفته.
5. وعليه أن يحرص على الصحبة الصالحة، وترك الصحبة الفاسدة، وخاصة من كان معه في طريق الغواية من قبل؛ لئلا يكون هؤلاء سبباً في رجوعه طريقه القديم، وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك، فهو إما أن يعطيك منه، وإما أن تشم منه رائحة طيبة، وشبَّه جليس السوء بنافخ الكير، فهو إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة خبيثة، وهكذا هو الصاحب الصالح، والصاحب السيئ، فالأول إما أن يدلك على الخير، ويرشدك إلى الصواب، وإلا فإنك سترى منه الخير في سمته وهديه وخلُقه، وأما الصاحب السيئ فهو إما أن يدلك على المعصية فتفعلها، أو أنه يباشرها بنفسه فلا ترى منه إلا شرّاً وتشجيعاً على فعل الفواحش، فيجب الحرص على الصحبة الصالحة، كما يجب هجر الصحبة الفاسدة.
6. الحذر من المعاصي الصغائر منها والكبائر، فإن معظم النار من مستصغر الشرر، والمعصية تأتي بأختها، والقلب إذا أظلم واسودَّ بسبب المعاصي: لم يعد قلباً حيّاً يعرف المعروف، وينكر المنكر، فالحذر الحذر من المعاصي.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ (أي: طعامهم) ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا (أي: شيئاً كثيراً) ، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) .
رواه أحمد (37 / 467) وحسَّنه شعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني.
7. الحذر من فتنة المال، فعلى من رزقه الله تعالى مالاً أن يجعل ذلك المال عوناً له على طاعة الله، وينفقه في مرضات الله، كبناء المساجد، وطباعة الكتب، وتسجيل الأشرطة، وتوزيع المطويات، وليحرص على أداء العمرة والحج، وليحذر من إسرافه في المباحات، أو تبذيره في المحرمات، فقد يكون المال سبباً لفتنة الإنسان في دينه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) التغابن/15
8. على المهتدي تعمير قلبه بالإيمان، فالقلب إذا صلح صلحت الأعضاء، وإذا فسد فسدت الأعضاء، فليحرص على قراءة القرآن، والاستكثار من الطاعات.
9. وقد يكون من أسباب انتكاس الشاب: عدم وجود زوجة، فليحرص على الواج، وتكوين أسرة، وليحرص على تأديبهم وتعليمهم، وكونه عزباً مظنة للوقوع في المعاصي، والتعلق بالشهوات، وكثرة السهر، وترك الحياة الجدية، والرضا بحياة الراحة والدعة والكسل.
10. وأخيراً: فإن المتهدي حديثاً يحتاج إلى التعقل في أداء الطاعات، والحكمة في دعوة الناس؛ فإن بعض من يهديه الله تعالى لطريق الحق يُشدِّد على نفسه بالطاعات، ويقسو على الآخرين في دعوتهم وتذكيرهم، ولعلَّ هذا أن يكون سبباً في انتكاسته، فليحرص على التعقل، والحكمة، والرفق، وليحرص على مشاورة أهل العلم والاستفسار منهم، واستنصاحهم، فإن في ذلك الخير العظيم له.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ) .
رواه ابن حبان في " صحيحه " (1 / 187) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (56) .
وانظر شرح هذا الحديث وتفصيل هذه النقطة في جواب السؤال رقم: (70314) .
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق ويرزقنا الإخلاص والصدق في القول والعمل.
ثانياً:
وأما طالب العلم المبتدئ في الطلب: فلا بد من توجيه نصائح له في طلبه للعلم؛ حتى يكون مأجوراً مثاباً على الطلب، وإلا صار عليه نكالاً:
1. أخلص في نيتك في طلب العلم.
واعلم أن طلب العلم عبادة، وأن الله تعالى لا يقبل من العبادات إلا ما كان خالصاً لوجهه، فلا تطلب العلم من أجل الشهرة والرفعة والتعالي والمال ومجاراة السفهاء ومماراة العلماء، بل اجعل طلبك خالصاً لوجه الله تعالى، تمتثل به أمر الله تعالى، وترفع الجهل عن نفسك، وعن غيرك.
2. اصبر في الطلب، ولا تستعجل قطف الثمرة، فالطريق طويل وشاق، و " من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة ".
3. اعمل بما تعلم، فقد " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ".
4. ابدأ بصغار العلم قبل كباره، فلا تبدأ بـ " فتح الباري " و " المجموع " و " المحلى "، بل ابدأ بالمتون الصغيرة إلى أن تصل إلى تلك الكبيرة.
5. احرص على أن تقرأ على شيخ موثوق في دينه وعلمه، فإن لم يكن فطالب علم ممن سبقوك في الطريق.
6. نوِّع طرق الطلب حتى لا تمل، فاجعل منها القراءة والسماع والمشاهدة.
7. احرص على اقتناء الكتب المحققة.
8. لا تبدأ بكتب الخلاف قبل ضبط أصول الأدلة من القرآن والحديث الصحيح.
9. تواضع لله تعالى، وإياك من داءين خطيرين: الكبر، والحسد، وقد كان السلف يسمعون ممن هو أكبر منهم ليتعلموا الأدب، وممن هو أصغر منهم ليتعلموا التواضع، وممن هو مثلهم ليزيلوا داء الحسد من قلوبهم.
10. لا تستعجل الفتوى، واحرص على المذاكرة، وتلخيص ما تقرأ، وتدوين الفوائد، ومراجعتها، واحرص على تعليم الجاهل ما استفدته من العلم، وقد قال تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) البقرة/3.
وانظر جواب السؤال رقم (10324) ففيه جملة من آداب طالب العلم.
ثالثاً:
وأما الكتب التي يبدأ بقراءتها بعد قراءة كتاب الله تعالى، والحرص على حفظه: فهي كثيرة، وقد ذكرنا أهم هذه الكتب الموثوقة، وما يناسب كل مرحلة من مراحل طلب العلم، فانظرها في جوابي السؤالين: (14082) و (20191)
وننبه على أن في موقعنا هذا تحت تصنيف " العلم والدعوة / العلم " جملة وافرة من الأجوبة التي يستفيد منها طالب العلم في الآداب والأحكام والنصائح.
ونسأل الله دائما أن يوفقك، وأن ييسر لك العلم النافع، والعمل الصالح، ومن يهده الله تعالى فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/481)
لا ننصحك باستمرار الاطلاع على كتب أهل الضلال
[السُّؤَالُ]
ـ[أحب الاطلاع على كتب ومؤلفات وكتابات الرافضة والصوفية، وبضاعتي في العلم قليلة، والحمد لله أقف من الشبهات موقف المنكر، لسبب بسيط، هو أني أعلم أن دينهم باطل، والكثير منهم غال أو عامي جاهل مسكين مستحق الشفقة لخداع أسيادهم وضلالاهم. فهل ترى أن أستمر بالاطلاع أم أترك ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجب على المسلم أن يحافظ على عقيدته وإيمانه، ويهتم بسلامة فطرته وفكره، ويهرب بدينه وقلبه من الشبهات والفتن، فإن القلوبَ ضعيفةٌ والشبهَ خطَّافة، تخطف بشيء من البريق الذي يزينها به أهل البدع والضلالات، ولكنها في الحقيقة شبه واهية ضعيفة.
والنظر في كتب البدع والضلالة أو كتب الشرك والخرافة أو كتب الأديان الأخرى التي طالها التحريف أو كتب الإلحاد والنفاق لا يجوز إلا لمتأهِّل في العلم الشرعي، يريد بقراءته لها الرد عليها وبيان فسادها، أما أن ينظر ويقرأ فيها من لم يتحقق بالعلم الشرعي فغالبا يناله من هذه المطالعة شيء من الحيرة والغواية، وقد وقع ذلك لكثير من الناس وحتى من طلبة العلم، حتى انتهى بهم الأمر إلى الكفر والعياذ بالله، وغالبا ما يغتر الناظر في هذه الكتب بأن قلبه أقوى من الشبهات المعروضة، إلا أنه يفاجأ – مع كثرة قراءته – بأن قلبه قد تشرَّب من الشبهات ما لم يخطر له على بال.
ولذلك كانت كلمة العلماء والسلف الصالحين على تحريم النظر والمطالعة في هذه الكتب، حتى ألف ابن قدامة المقدسي رسالة بعنوان " تحريم النظر في كتب الكلام ".
وننقل هنا العديد من نصوص العلماء في تحريم قراءة هذه الكتب لغير العالم:
جاء في "الموسوعة الفقهية" (34/185) :
" قال الحنابلة: ولا يجوز النظر في كتب أهل البدع، ولا في الكتب المشتملة على الحقّ والباطل، ولا روايتها؛ لما في ذلك من ضرر إفساد العقائد.
وقال القليوبيّ: تحرم قراءة كتب الرقائق والمغازي الموضوعة " انتهى.
كما أفتى الشاطبي في "الإفادات والإنشادات" (44) أن العوام لا يحل لهم مطالعة كتاب أبي طالب المكي المسمى بـ (قوت القلوب) لما فيه من الشطحات الصوفية.
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/525) :
" والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصير من الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك، بخلاف الراسخ، فيجوز له، ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف " انتهى.
وقال محمد رشيد رضا في "الفتاوى" (1/137) :
" ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مِشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الحجل " انتهى.
وجاء في "فتاوى نور على الدرب" (التوحيد والعقيدة/267) من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" وأما كتب الصوفية فإنه لا يجوز اقتناؤها ولا مراجعتها إلا لشخص يريد أن يعرف ما فيها من البدع من أجل أن يرد عليها، فيكون في نظره إليها فائدة عظيمة وهي معالجة هذه البدعة حتى يسلم الناس منها " انتهى.
وقد قالت اللجنة الدائمة كما في "مجلة البحوث الإسلامية" (19/138) :
" يحرم على كل مكلف ذكرا أو أنثى أن يقرأ في كتب البدع والضلال , والمجلات التي تنشر الخرافات وتقوم بالدعايات الكاذبة وتدعو إلى الانحراف عن الأخلاق الفاضلة، إلا إذا كان من يقرؤها يقوم بالرد على ما فيها من إلحاد وانحراف، وينصح أهلها بالاستقامة وينكر عليهم صنيعهم ويحذر الناس من شرهم " انتهى.
فلماذا تعرِّض نفسك – أخي الكريم – للشر والشبهات، فأنت في مأمن وغنى عن ذلك، واحمد الله تعالى على السلامة والعافية، واشكره على نعمة الهداية والثبات بأن تحافظ عليها فلا تعرضها لما قد يصيبها في مقتلها.
ثم إن العمر أقصر من قضائه في مطالعة الباطل، فالحق والخير والعلم النافع كثير، وإذا أنفق المرء عمره كله في مطالعة كتب العلم النافعة كالتفاسير وكتب الحديث والفقه والرقائق والزهد والأدب والفكر والتربية لما كاد يقضي منها وطره، فكيف إذا انشغل بكتب الخرافة والضلالة التي يكتبها الرافضة وبعض المتصوفة؟!!
واستمع أخي الكريم إلى نصيحة العلامة ابن الجوزي في الاهتمام بالنافع من العلوم حيث يقول في "صيد الخاطر" (54-55) :
" أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه.
بل أقول له: قدم المهم؛ فإن العاقل من قدَّر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب.
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به......
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل " انتهى باختصار.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/482)
علاج ضعف الهمة في طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[يلاحظ ضعف الهمة والفتور في طلب العلم , فما الوسائل والطرق التي تدفع إلى علو الهمة والحرص على العلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ضعف الهمم في طلب العلم الشرعي من المصائب الكبيرة وهناك عدة أمور لا بد منها:
الأمر الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الطلب والإنسان إذا أخلص لله في الطلب وعرف أنه يُثاب على طلبه وسيكون في الدرجة الثالثة من درجات الأمة فإن همته تنشط (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً) النساء/69.
ثانياً: أن يُلازم زملاء يحثونه على العلم ويساعدونه على المناقشة والبحث ولا يمل من صحبتهم ما داموا يعينونه على العلم.
ثالثاً: أن يصبر نفسه بمعنى يحبسها لو أرادت أن تتفلَّت , قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: (واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا) الكهف/28 , فليصبر؛ وإذا صبر وتعود الطلب صار الطلب سجية له , وصار اليوم الذي يفقد فيه الطلب يوماً طويلاً عليه , أما إذا أعطى نفسه العنان فلا , فالنفس أمارة بالسوء والشيطان يحثه على الكسل وعدم التعلم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , صفحة 105.(8/483)
دراسة العلوم الشرعية للحصول على الشهادة والوظيفة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما القول فيمن نال الشهادة الجامعية في علوم الشريعة ونيته الوظيفة فهل يكون داخلا في حديث الوعيد أم أن التوبة تمحو عنه ذلك؟ وهل بحصوله على الوظيفة بهذه الشهادة يصبح كسبه منها حراما؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينبغي للإنسان أن يحسن النية في طلب العلم، فيطلبه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وإذا سعى للحصول على شهادة من أجل الوظيفة، فلا حرج في ذلك، وينوي الاستعانة بهذه الوظيفة على طاعة الله تعالى، وخدمة المسلمين.
أما إذا كانت نيته محصورة في الوظيفة من أجل الراتب أو المنصب ونحو ذلك من أمور الدنيا، ولم ينو الاستعانة على طاعة الله ولا نفع المسلمين، ولا غير ذلك من النيات الصالحة، فهو على خطر عظيم، ويدخل في الوعيد الشديد الوارد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني ريحها. رواه أبو داود (3664) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وعليه أن يصحح نيته، ويتوب إلى الله تعالى فإن التوبة تمحو ما سبق من الإثم، فقد قال النبي صلى الله عليه: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) . رواه ابن ماجة (4250) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة.
وأما الكسب الناشئ عن الوظيفة بهذه الشهادة، فالذي يظهر أنه لا حرج فيه، مادام العمل الذي يقوم به مباحاً.
وقد سئلت اللجنة الدائمة: هل يجوز الدراسة الدينية من أجل الشهادة؟
فأجابت: لا بأس أن يدرس لأخذ الشهادة، وعليه أن يجاهد نفسه في إصلاح النية حتى تكون الدراسة لله وحده، وأن يكون أخذ الشهادة ليستعين بها على طاعة الله ورسوله، وخدمة المسلمين " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (12/103) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب: " يجاب على ذلك بأمور:
أحدها: أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس غالبا لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الطلاق/2 -3، وهذا ترغيب في التقوي بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يقال بأنه مخلص؟
فالجواب: أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمرا ماديا من ثمرات العبادة، فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية؛ فمثلا يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة، ولذلك بين الله تعالى في كتابه حكمة الصوم - مثلا أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية هي الأصل، والدنيوية ثانوية، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند ممن لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال " انتهى من كتاب "العلم" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/484)
قيام الرجل بتحفيظ القرآن لنساء من وراء حجاب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للرجل أن يحفظ مجموعة من النساء في المنزل مع العلم بحضور زوج أحد هؤلاء النساء معه ووجود ستارة بين المحفظ وهؤلاء النساء أرجو الإفادة وبيان السند والأدلة الشرعية.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الأولى والأسلم أن تبحث هؤلاء الأخوات عن امرأة تتولى تحفيظهن القرآن، في المنزل أو المسجد؛ لما في ذلك من البعد عن الفتنة وأسبابها، فإن لم يتيسر ذلك، وأمكن الاكتفاء بالحفظ عن طريق المسجل والكمبيوتر، مع تعاون هؤلاء الأخوات على أمر المراجعة والمتابعة، فهذا حسن، وهو أولى من الجلوس إلى رجل يحفظهنّ.
ثانيا:
إذا دعت الحاجة إلى قيام رجل بتدريسهن وتعليمهن، إما لعدم وجود المعلمة، أو لكونه مجودا متقنا، يعلمهن أحكام التلاوة، فلا حرج في ذلك إذا روعيت الضوابط التالية:
1- أن يكون تدريسه لهن من وراء حجاب.
2- أن لا يكون خضوع بالقول من إحداهن.
3- أن يكون الكلام مع المحفظ على قدر الحاجة فقط.
4- أن ينسحب المحفظ من هذا العمل إذا شعر بميل قلبه أو تلذذه بصوت إحداهن.
5- ينبغي أن يكون المعلم كبير السن، متزوجا، معروفا بالصلاح والاستقامة.
وينبغي التنبه إلى أن صوت المرأة ليس عورة على الراجح من قولي العلماء، بشرط ألا تلين وتخضع بالقول.
قال في "كشاف القناع" من كتب الحنابلة (5/15) : " وصوتها - أي الأجنبية - ليس بعورة، قال في الفروع وغيره: على الأصح، ويحرم التلذذ بسماعه ولو كان بقراءةٍ، خشية الفتنة " انتهى.
وقال في "مغني المحتاج" من فقه الشافعية (4/210) : " وصوت المرأة ليس بعورة , ويجوز الإصغاء إليه عند أمن الفتنة " انتهى.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (12/156) : "
أولا: الاختلاط بين الرجال والنساء في المدارس أو غيرها من المنكرات العظيمة، والمفاسد الكبيرة في الدين والدنيا، فلا يجوز للمرأة أن تدرس أو تعمل في مكان مختلط بالرجال والنساء، ولا يجوز لوليها أن يأذن لها بذلك.
ثانيا:
لا يجوز للرجل أن يعلم المرأة وهي ليست متحجبة، ولا يجوز أن يعلمها خاليا بها ولو كانت بحجاب شرعي، والمرأة عند الرجل الأجنبي عنها كلها عورة، أما ستر الرأس وإظهار الوجه فليس بحجاب كامل.
ثالثا:
لا حرج في تعليم الرجل المرأة من وراء حجاب في مدارس خاصة بالنساء، لا اختلاط فيها بين الطلاب والطالبات، ولا المعلم والمتعلمات.
وإن احتجن للتفاهم معه؛ فيكون عبر شبكات الاتصال المغلقة، وهي معروفة ومتيسرة، أو عبر الهاتف، لكن يجب أن يحذر الطالبات من الخضوع بالقول بتحسين الكلام وتليينه " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/485)
سفر المرأة لطلب العلم بلا محرم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الإسلام في سفر المرأة لطلب العلم بغير محرم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
دلت الأدلة الصحيحة الصريحة على أن المرأة ليس لها أن تسافر إلا مع محرم، وهذا من كمال الشريعة وعظمتها، ومحافظتها على الأعراض، وتكريمها للمرأة، واهتمامها بها، والحرص على صيانتها وحفظها ووقايتها من أسباب الفتنة والانحراف، سواء كانت الفتنة لها أو بها.
ومن هذه الأدلة: ما رواه البخاري (1729) ومسلم (2391) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ. فَقَالَ: اخْرُجْ مَعَهَا) .
وبناء على ذلك فلا يجوز للمرأة أن تسافر لطلب العلم بغير محرم، وعليها أن تحصّل العلم الواجب عليها بالطرق الكثيرة المتاحة، كالاستماع للأشرطة، وسؤال أهل العلم عن طريق الهاتف، ونحو ذلك مما يسره الله تعالى في هذه الأزمنة.
وقد سئلت اللجنة الدائمة: هل خروج المرأة لتعلم الطب إذا كان واجبا أو جائزا، إذا كانت سترتكب في سبيله هذه الأشياء مهما حاولت تلافيها:
أ - الاختلاط مع الرجال: في الكلام مع المريض - معلم الطب - في المواصلات العامة.
ب - السفر من بلد مثل السودان إلى مصر، ولو كانت تسافر بطائرة، أي لمدة ساعات وليست لمدة ثلاثة أيام.
ج- هل يجوز لها الإقامة بمفردها بدون محرم من أجل تعلم الطب، وإذا كانت إقامة في وسط جماعة من النساء مع الظروف السابقة.
فأجابت:
أولا: " إذا كان خروجها لتعلم الطب ينشأ عنه اختلاطها بالرجال في التعليم أو في ركوب المواصلات اختلاطا تحدث منه فتنة فلا يجوز لها ذلك؛ لأن حفظها لعرضها فرض عين، وتعلمها الطب فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. وأما مجرد الكلام مع المريض أو معلم الطب فليس بمحرم، وإنما المحرم أن تخضع بالقول لمن تخاطبه وتلين له الكلام، فيطمع فيها من في قلبه مرض الفسوق والنفاق، وليس هذا خاصا بتعلم الطب.
ثانيا: إذا كان معها محرم في سفرها لتعلم الطب، أو لتعليمه، أو لعلاج مريض جاز. وإذا لم يكن معها في سفرها لذلك زوج أو محرم كان حراما، ولو كان السفر بالطائرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) متفق على صحته، ولما تقدم من إيثار مصلحة المحافظة على الأعراض على مصلحة تعلم الطب أو تعليمه ... إلخ.
ثالثا: إذا كانت إقامتها بدون محرم مع جماعة مأمونة من النساء من أجل تعلم الطب أو تعليمه، أو مباشرة علاج النساء جاز، وإن خشيت الفتنة من عدم وجود زوج أو محرم معها في غربتها لم يجز. وإن كانت تباشر علاج رجال لم يجز إلا لضرورة مع عدم الخلوة " انتهى من "فتاوى الجنة الدائمة" (12/178) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/486)
هل الفرح بالدرجات ينافي الإخلاص في طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب أحب أن آخذ درجات عالية ومعدلاً ممتازاً وأنا مع ذلك نيتي طيبة فما رأيك في الفرح بالدرجات العالية والغضب من الدرجات الضعيفة , هل هذا خدش للإخلاص؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الظاهر إن شاء الله أنه ليس في هذا خدش للإخلاص؛ لأن هذا أمر طبيعي أن الإنسان يُسر بالحسنة ويُساء بالسيئة , والله تعالى بيَّن أن الأشياء التي لا تلائم المرء سماها سيئة فلا بد أن تسوءه وكذلك الحسنة لا بد أن تسره.
فهذا لا يؤثر على إخلاصك إذا كان الأمر كما قلت عندك نية طيبة , أما إذا كان همك هو الدرجات أو الشهادة فهذا شيء آخر , فها هو عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه مسألة قال: (إن في الشجر شجرة تشبه المؤمن فجعل الصحابة رضي الله عنهم يخوضون في أشجار البوادي قال ابن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة ولكني كنت صغيراً فما أحببت أن أتكلم) أخرجه البخاري , كتاب العلم، ومسلم، كتاب صفات المنافقين.
وعمر - رضي الله عنه قال لابنه: (وددت أنك قلتها) ، وهذا يدل على أن فرح الإنسان بنجاح وما أشبه ذلك لا يضر.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (133) .(8/487)
هل يجب إتباع أحد المذاهب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجب على كل مسلم أن يتبع أحد المذاهب (المالكي أو الحنفي أو الحنبلي أو الشافعي) ؟ إذا كان الجواب نعم فما أفضل مذهب؟ هل صحيح أن مذهب أبي حنيفة هو أكثر مذهب منتشر بين المسلمين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجب على المسلم اتباع مذهب بعينه من هذه المذاهب الأربعة، والناس متفاوتون في المدارك والفهوم والقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها، فمنهم من يجوز في حقه التقليد، بل قد يجب عليه، ومنهم من لا يسعه إلا الأخذ بالدليل. وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بيان كاف شاف لهذه المسألة، يحسن أن نذكره هنا بنصه:
السؤال:
ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان؟
فأجابت اللجنة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
أولا: المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا بقية المذاهب.
ثانيا: هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك، والمجتهد إما مصيب فله أجران، أجر اجتهاده وأجر إصابته، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه.
ثالثا: القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد الحق بخلافه، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه.
رابعا: من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده، وإذا حصل في نفسه عدم الاطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان.
خامسا: يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان؛ لأنهم قد يخطئون، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل) .
فتاوى اللجنة 5/28.
وجاء في فتوى اللجنة رقم 3323
(من كان أهلا لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ويقوى على ذلك ولو بمعونة الثروة الفقهية التي ورثناها عن السابقين من علماء الإسلام كان له ذلك؛ ليعمل به في نفسه، وليفصل به في الخصومات وليفتي به من يستفتيه. ومن لم يكن أهلا لذلك فعليه أن يسأل الأمناء الموثوق بهم ليتعرف الحكم من كتبهم ويعمل به من غير أن يتقيد في سؤاله أو قراءته بعالم من علماء المذاهب الأربعة، وإنما رجع الناس للأربعة لشهرتهم وضبط كتبهم وانتشارها وتيسرها لهم.
ومن قال بوجوب التقليد على المتعلمين مطلقاً فهو مخطئ جامد سيئ الظن بالمتعلمين عموما، وقد ضيق واسعا.
ومن قال بحصر التقليد في المذاهب الأربعة المشهورة فهو مخطئ أيضا قد ضيق واسعا بغير دليل. ولا فرق بالنسبة للأمي بين فقيه من الأئمة الأربعة وغيرهم كالليث بن سعد والأوزاعي ونحوهما من الفقهاء) فتاوى اللجنة 5/41.
وجاء في الفتوى رقم 1591 ما نصه:
(ولم يدعُ أحد منهم إلى مذهبه، ولم يتعصب له، ولم يُلزِم غيره العمل به أو بمذهب معين، إنما كانوا يدعون إلى العمل بالكتاب والسنة، ويشرحون نصوص الدين، ويبينون قواعده ويفرعون عليها ويفتون فيما يسألون عنه دون أن يلزموا أحدا من تلاميذهم أو غيرهم بآرائهم، بل يعيبون على من فعل ذلك، ويأمرون أن يضرب برأيهم عرض الحائط إذا خالف الحديث الصحيح، ويقول قائلهم " إذا صح الحديث فهو مذهبي " رحمهم الله جميعا.
ولا يجب على أحد اتباع مذهب بعينه من هذه المذاهب، بل عليه أن يجتهد في معرفة الحق إن أمكنه، أو يستعين في ذلك بالله ثم بالثروة العلمية التي خلفها السابقون من علماء المسلمين لمن بعدهم، ويسروا لهم بها طريق فهم النصوص وتطبيقها. ومن لم يمكنه استنباط الأحكام من النصوص ونحوها لأمر عاقه عن ذلك سأل أهل العلم الموثوق بهم عما يحتاجه من أحكام الشريعة لقوله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وعليه أن يتحرى في سؤاله من يثق به من المشهورين بالعلم والفضل والتقوى والصلاح)
فتاوى اللجنة الدائمة 5/56.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله قد يكون أكثر المذاهب انتشاراً بين المسلمين، ولعل من أسباب ذلك تبني الخلفاء العثمانيين لهذا المذهب، وقد حكموا البلاد الإسلامية أكثر من ستة قرون، ولا يعني ذلك أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله هو أصح المذاهب أو أن كل ما فيه من اجتهادات فهو صواب، بل هو كغيره من المذاهب فيه الصواب والخطأ، والواجب على المؤمن اتباع الحق والصواب بقطع النظر عن قائله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/488)
نبذة عن مذهب الإمام أبي حنيفة
[السُّؤَالُ]
ـ[نرجو من فضيلتكم إعطاء نبذة عن الإمام أبي حنيفة وعن مذهبه حيث أنني أسمع البعض ينتقصون من مذهب الإمام وذلك لاعتماده في كثير من الأحيان على القياس والرأي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإمام أبو حنيفة هو فقيه الملة عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، وروى عن عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له، وعن الشعبي وغيرهم كثير.
وقد عني رحمه الله بطلب الآثار وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك كما يقول الإمام الذهبي، حتى قال:" وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين رضي الله عنه ورحمه "
وكان الإمام فصيح اللسان عذب المنطق، حتى وصفه تلميذه أبو يوسف بقوله:" كان أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة، وأنبههم على ما يريد "، وكان ورعا تقيا، شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى، عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وراء ظهره، حتى ضُرب بالسياط ليقبل تولي القضاء أو بيت المال فأبى.
حدث عنه خلق كثير، وتوفي شهيدا مسقيا في سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة. [سير أعلام النبلاء 6 \ 390 – 403، أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة ص 63]
أما المذهب الحنفي فهو أحد المذاهب الأربعة المشهورة المتبوعة، وهو أول المذاهب الفقهية، حتى قيل:" الناس عالة في الفقه على أبي حنيفة "، وأصل المذهب الحنفي وباقي المذاهب أن هؤلاء الأئمة - أعني أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - كانوا يجتهدون في فهم أدلة القرآن والسنة، ويفتون الناس بحسب الدليل الذي وصل إليهم، ثم أخذ أتباع أولئك الأئمة فتاوى الأئمة ونشروها وقاسوا عليها، وقعدوا لها القواعد، ووضعوا لها الضوابط والأصول، حتى تكوَّن المذهب الفقهي، فتكوَّن المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي وتكوّنت مذاهب أخرى كمذهب الأوزاعي وسفيان لكنه لم يُكتب لها الاستمرار.
وكما ترى فإن أساس تلك المذاهب الفقهية كان قائما على اتباع الكتاب والسنة.
أما الرأي والقياس الذي أخذ به الإمام أبو حنيفة، فليس المراد به الهوى والتشهي، وإنما هو الرأي المبني على الدليل أو القرائن أو متابعة الأصول العامة للشريعة، وقد كان السلف يطلقون على الاجتهاد في المسائل المشكلة " رأيا " كما قال كثير منهم في تفسير آيات من كتاب الله: أقول فيها برأيي، أي باجتهادي، وليس المراد التشهي والهوى كما سبق.
وقد توسع الإمام أبو حنيفة في الأخذ بالرأي والقياس في غير الحدود والكفارات والتقديرات الشرعية، والسبب في ذلك أنه أقل من غيره من الأئمة في رواية الحديث لتقدم عهده على عهد بقية الأئمة، ولتشدده في رواية الحديث بسبب فشو الكذب في العراق في زمانه وكثرة الفتن.
ويجب ملاحظة أن المذهب الحنفي المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة، ليس كل الأقوال والآراء التي فيه هي من كلام أبي حنيفة، أو تصح أن تنسب إليه، فعدد غير قليل من تلك الأقوال مخالف لنص الإمام أبي حنيفة نفسه، وإنما جعل من مذهبه بناء على تقعيدات المذهب المستنبطة من نصوص أخرى للإمام، كما أن المذهب الحنفي قد يعتمد رأي التلميذ كأبي يوسف ومحمد، إضافة إلى أن المذهب يضم اجتهادات لتلاميذ الإمام، قد تصبح فيما بعد هي المذهب، وليس هذا خاصا بمذهب أبي حنيفة، بل قل مثل ذلك في سائر المذاهب المشهورة.
فإن قيل: إذا كان مستند المذاهب الأربعة في الأصل الكتاب والسنة، فلماذا وجدنا اختلافا في الآراء الفقهية بينها؟
فالجواب: أن كل إمام كان يفتي بحسب ما وصل إليه من دليل، فقد يصل إلى الإمام مالك حديث فيفتي به، ولا يصل إلى الإمام أبي حنيفة، فيفتي بخلافه، والعكس صحيح، كما إنه قد يصل إلى أبي حنيفة حديث ما بسند صحيح فيفتي به، ويصل إلى الإمام الشافعي نفس الحديث لكن بسند آخر ضعيف فلا يفتي به، ويفتي بأمر آخر مخالف للحديث بناء على ما أداه إليه اجتهاده، ولأجل هذا حصل الخلاف بين الأئمة - وهذا باختصار -، لكن المعول والمرجع في النهاية لهم جميعا إلى الكتاب والسنة.
ثم إن الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة في حقيقة أمرهم وسيرتهم قد أخذوا بنصوص الكتاب والسنة، وإن لم يفتوا بها، وبيان ذلك أن كل الأئمة الأربعة قد نصوا على أنه إن صح حديث ما فهو مذهبهم، وبه يأخذون، وبه يفتون، وعليه يستندون.
قال الإمام أبو حنيفة:" إذا صح الحديث فهو مذهبي "، وقال رحمه الله:" لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه "، وفي رواية عنه:" حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي "، زاد في رواية أخرى:" فإننا بشر، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا "، وقال رحمه الله:" إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي "
وقال الإمام مالك رحمه الله:" إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه "، وقال رحمه الله:" ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم "
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:" ما من أخذ إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعزب عنه - أي تغيب -، فمهما قلت من قول، أو أصَّلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي "
وقال الإمام أحمد:" لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا "، وقال رحمه الله:" رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار - أي الأدلة الشرعية "
هذه نبذه يسيرة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ومذهبه، وختاما: لا يسع المسلم إلا أن يعرف لهؤلاء فضلهم، ومكانتهم، على أن ذلك لا يدعوه إلى تقديم أقوالهم على كتاب الله، وما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسم -، فإن الأصل اتباع الكتاب والسنة لا أقوال الرجال، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسم - كما قال الإمام مالك رحمه الله.
ولمزيد من الفائدة انظر (5523، 13189، 23280، 21420)
وانظر المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية لعمر الأشقر.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/489)
هل يجوز كشف وجه المرأة من أجل طلب العلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت ذات مرة من التلفاز أنه يجوز للفتاة أو المرأة الكشف عن وجهها في سبيل طلب العلم - لا أذكر على أي مذهب – وقال المتحدث: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " اختلاف فقهاء أمتي رحمة ".
وخاصة أنني أستصعب نقلتي النوعية من السفور إلى الحجاب والجلباب، فدلني على الصواب لأتبعه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
حديث " اختلاف أمتي رحمة ": حديث موضوع كما في " الأسرار المرفوعة " (506) ، و" تنزيه الشريعة " (2 / 402) .
وقال عنه الشيخ الألباني كما في " السلسلة الضعيفة والموضوعة " (حديث رقم 57) –:
لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا ...
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: " وليس بمعروف عند المحدِّثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع، وأقرّه زكريا الأنصاري في تعليقه على " تفسير البيضاوي " (ق 92 / 2) .
انتهى
ثانياً:
لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب، إلا إذا دعت لذلك ضرورة، كالطبيب المعالج إذا عدمت الطبيبة وبشرط عدم الخلوة، والخاطب للزواج، والشهادة أمام القضاء، ويقتصر فيما سبق على موضع الضرورة دون ما عداه.
وحجاب المرأة ونقابها ليس عائقاً أمام طلب العلم للمرأة، ولا يصح أن تُجعل منافرة ومضادة بين الستر والعلم، ولا بارك الله في علم لا يأتي إلا بمعصية وتهتك للمرأة، وها هي المرأة المتحجبة والمتسترة قد بلغت أعلى المنازل في العلم ونيل الشهادات دون أن تختلط بالرجال أو أن تكشف عن وجهها، وها نحن نرى كثيراً من الفاشلات في العلم لا يضعن على أجسادهن إلا القليل من الملابس، فمتى كان التهتك يأتي بالعلم والحجاب يمنع منه؟! .
وقد أحسن الشاعر بقوله:
ليس الحجاب بمانع تعليمها * فالعلم لم يرفع على الأزياء
أولم يسع تعليمهن بغير أن * يملأن بالأعطاف عين الرأي
وخمار الوجه فرض على النساء المسلمات البالغات، وتجدين في جواب السؤال رقم: (12525) بيان أن الوجه عورة.
وقد سبق ذكر الأدلة على وجوب تغطيته في جواب السؤال (21134) و (21536) ، و (11774) .
فالقول بجواز كشف المرأة وجهها من أجل طلب العلم غير صحيح.
ونسأل الله تعالى أن يوفقكِ لما فيه رضاه، وأن يجزيكِ خير الجزاء على سؤالكِ واستفساركِ، والوصية لك أن تبتعدي عن مواطن الريبة والاختلاط، ولكِ بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله " من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه "، فاستعيني بالله تعالى واصبري، وقد تركت النساءُ المسلماتُ الأوَلُ دينهن وأزواجهن وأوطانهن من أجل الدخول في الإسلام، فهذه النقلة من السفور إلى الحجاب لا شيء مقابل ما فلعلتْه أولئك النسوة، وثقي أنك ستكونين موضع ثقة وتشجيع أخواتكِ الفاضلات المتسترات، وسيخففن عنكِ وطأة تلك النقلة، ولا تلتفتي إلى المعوقات من أهل الشر والفساد نساء ورجالاً، فهم لا يحبون لكِ الخير، ولا يتمنوْن لك السعادة والثواب، أو أنهم لا يعرفون الطريق الحقيقي للسعادة والثواب.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/490)
اجتماع النساء في حلقة علم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للنساء أن يكون لهن حلقة أو درس خاص بهم في المسجد أو في أحد البيوت؟ سمعت بأنه لا يجوز للنساء أن يكون لهن تجمع خاص بهن وإنما يحضرن حلقات العلماء كلما سنحت لهم الفرصة.
هل يمكن أن توضح هذا وتعطينا جواباً مفصلاً، فإذا كان هذا خطأ فلن أشارك معهن، وكيف أشرح للأخوات اللاتي يقلن إنه من الأفضل قضاء الوقت في التعلم بدلاً من تضييع الوقت والذهاب للأسواق.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس هناك ما يمنع أن يكون للنساء حلقة علم خاصة بهن، سواء كانت في المسجد أم في أحد البيوت، بل هذا من الأمور المشروعة، وقد طلبت النساء من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون لهن مجلس خاص بعيداً عن الرجال فأجابهن إلى ذلك.
روى البخاري (7310) ومسلم (2634) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ [وفي رواية للبخاري (102) : غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ] فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا [وفي رواية أحمد (7310) : موعدكن بيت فلانة] فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً إِلا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ. فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ.
ولا شك أن قضاء المرأة وقتها تحرص على التعلم خير لها من تضييعه في الذهاب للأسواق أو غير ذلك، لكن ينبغي أن لا تكون نيتها ملء الوقت حتى لا تذهب للأسواق، بل تكون نيتها التعبد لله تعالى والتقرب إليه بطلب العلم، ورفع الجهل عن نفسها حتى تعبد الله على بصيرة، وتُعَلِّم غيرها من الأخوات المؤمنات، وتُخَرِّج جيلا متربيا على أصول الإسلام وتعاليمه الفاضلة.
رزقنا الله تعالى العلم النافع والعمل الصالح.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/491)
مخالطة الطلاب بالطالبات في مشروع التخرج
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا في كلية هندسة ويوجد مشروع للتخرج في العام القادم إن شاء الله, فنظرا لأن عدد البنات قليل, وخاصة المجتهدات , وأنا والحمد لله الأولى على الدفعة, فهل يجوز العمل مع أولاد، أم المجازفة والعمل مع مجموعة بنات مستواهم الدراسي منخفض وتحمل عبء العمل كله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن التعليم المختلط له مفاسده ومخاطره، ولهذا أفتى جماعة من أهل العلم بتحريمه، وقد سبق أن بينا ذلك في الجواب رقم 23407، 31210، 23393.
ولاشك أن العمل في مشروع التخرج مع الرجال، يزيد على الدراسة المجردة، لكونه يحتاج إلى كثرة مخالطة واجتماع واتصال وتشاور، ولهذا فالقول فيه أشد، وما ذكرتيه ليس عذرا يبيح الإقدام على هذا العمل؛ فمصلحة حفظ الدين مقدمة على سائر المصالح.
فاتقي الله تعالى، واستعيني به، وسليه التوفيق والتسديد، واحذري مخالطة الرجال، وثقي بأن الله مع المتقين والمؤمنين والمحسنين كما أخبر سبحانه.
وكوني في ما بقي لك من مدة الدراسة، محافظة على الحجاب، مجانبة للرجال، ملتزمة غضَّ البصر، وترك الزينة.
نسأل الله أن يوفقك ويهديك لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/492)
موقفنا من اختلاف العلماء
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كانت هناك مسألة ما، وفيها أكثر من فتوى شرعية، فتوى تقول بالتحليل، وفتوى تقول بالتحريم، وفتوى ما بين بين، فالمسلم أي شيء يختار، وخاصة في الأمور المستحدثة، والتي يدخل فيها القياس، والاجتهاد، والتي لا نص فيها، مثل: فوائد البنوك، أو أياً كانت المسميات التي يسمونها، بالاستمثار، أو العائد الاستثماري.
وما موقف ما يقول إنها فتوى عالم، وهو المسؤول عنها، وإنها معلقة في رقبته؟
وما موقف من يتتبع رخص العلماء، وتسهيلات العلماء ورخصهم؟ ويقولون إنهم هم هؤلاء أهل العلم والذكر وهذه فتواهم وهم أعلم منا بذلك، وقد تكون فتواهم معارضة لفتوى شيوخ وعلماء آخرين في نفس الدولة أو في دول أخرى، فأي منهم نتبع؟ وكيف لنا السبيل أن نعرف الصحيح وغير الصحيح؟ مع العلم أن عامة الناس ليس لديهم العلم الكافي للحكم على صحة هذه الفتوى التي تصدر من عالم أو مفتي ويعارضها علماء آخرون.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قبل الجواب على هذا السؤال الهام، لا بد أولاً من بيان الشروط التي يجب أن تتوفر في المفتي حتى يكون من أهل العلم الذين تعتبر أقوالهم، ويعد خلافه خلافا بين العلماء، وهي شروط كثيرة، ترجع في النهاية إلى شرطين اثنين وهما:
1. العلم. لأن المفتي سوف يخبر عن حكم الله تعالى، ولا يمكن أن يخبر عن حكم الله وهو جاهل به.
2. العدالة. بأن يكون مستقيما في أحواله، ورعا عفيفا عن كل ما يخدش الأمانة. وأجمع العلماء على أن الفاسق لا تقبل منه الفتوى، ولو كان من أهل العلم. كما صرح بذلك الخطيب البغدادي.
فمن توفر فيه هذان الشرطان فهو العالم الذي يعتبر قوله، وأما من لم يتوفر فيه هذان الشرطان فليس هو من أهل العلم الذين تعتبر أقوالهم، فلا عبرة بقول من عُرف بالجهل أو بعدم العدالة.
الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه للشيخ ابن عثيمين ص: 23.
فما هو موقف المسلم من اختلاف العلماء الذين سبقت صفتهم؟
إذا كان المسلم عنده من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء بالأدلة، والترجيح بينها، ومعرفة الأصح والأرجح وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة، فقال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) النساء/59. فيرد المسائل المختلف فيها للكتاب والسنة، فما ظهر له رجحانه بالدليل أخذ به، لأن الواجب هو اتباع الدليل، وأقوال العلماء يستعان بها على فهم الأدلة.
وأما إذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء، فهذا عليه أن يسأل أهل العلم الذين يوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الأنبياء/43. وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه.
فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم، وهذا كما أن الإنسان إذا أصيب بمرض – عافانا الله جميعا – فإنه يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم ويذهب إليه لأنه يكون أقرب إلى الصواب من غيره، فأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا.
ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى.
بل عليه أن يحتاط لدينه فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علماً، وأشد خشية لله تعالى.
الخلاف بين العلماء للشيخ ابن عثيمين 26. لقاء منوع من الشيخ صالح الفوزان ص: 25، 26.
وهل يليق – يا أخي - بالعاقل أن يحتاط لبدنه ويذهب إلى أمهر الأطباء مهما كان بعيدا، وينفق على ذلك الكثير من الأموال، ثم يتهاون في أمر دينه؟! ولا يكون له هَمٌّ إلا أن يتبع هواه ويأخذ بأسهل فتوى ولو خالفت الحق؟! بل إن من الناس – والعياذ بالله – من يسأل عالماً، فإذا لم توافق فتواه هواه سأل آخر، وهكذا حتى يصل إلى شخص يفتيه بما يهوى وما يريد !!
وما من عالم من العلماء إلا وله مسائل اجتهد فيها ولم يوفق إلى معرفة الصواب، وهو في ذلك معذور وله أجر على اجتهاده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) البخاري (7352) ومسلم (1716) .
فلا يجوز لمسلم أن يتتبع زلات العلماء وأخطاءهم، فإنه بذلك يجتمع فيه الشر كله، ولهذا قال العلماء: من تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق، أو كاد.اهـ. إغاثة اللهفان 1/228. والزندقة هي النفاق.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، ويوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.
وأما ما ذكرته من فوائد البنوك فقد سبق الجواب عنها، فنرجو مراجعة الأسئلة (181) ، (12823) .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/493)
يسأل عن طول سفينة نوح
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو طول سفينة نوح عليه والسلام وكم طبقة فيها، وما هي المادة المصنوعة منها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي في تعليق على اسم كلب أصحاب الكهف:
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم، فيقول بعضهم: اسمه " قطمير " ويقول بعضهم: اسمه " حمران "، إلى غير ذلك، لم نطل به الكلام لعدم فائدة فيه.
ففي القرآن الكريم أشياء كثيرة لم يبيِّنها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه.
وكثيرٌ من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى، ونحن نُعرض عن مثل ذلك دائماً، كلون كلب أصحاب الكهف، واسمه، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر، وأنكر عليه موسى قتله وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه، ولا دليل على التحقيق فيه.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 48) .(8/494)
حكم قول لا حياء في الدين
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس عندما يريدون السؤال عن شيء محرج يقولون في بدايته لا حياء في الدين فهل هذه المقولة صحيحة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما عبارة لا حياء في الدين فغلط بل الحياء من الدّين، والصواب أن يقال (مثلا) إن الله لا يستحيي من الحق كما جاء في حديث أمِّ سلمة أنها قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأت الماء) ، فغطت أم سلمة، تعني وجهها، وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟ قال: (نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها) رواه البخاري ومسلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/495)
حكم مواصلة الفتاة الدراسة في مجتمع فاسد
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسلم عمري 19 سنة وأريد أن أتزوج بفتاة، سألتها فوافقت، المشكلة أنها إذا تزوجنا فهي تريد أن تواصل الدراسة الجامعية، وحيث أنني أدرس في الجامعة الآن فأنا أعلم أن الجو الجامعي غير إسلامي مطلقاً، حيث أن الذكور والإناث يختلطون ببعض بكل حرية، الناس يتجولون أنصاف عراة ويشربون الخمر ويسبون ويشتمون والأدب معدوم تقريباً.
تريد أن تواصل الجامعة لكي لا تخذل أمها، حيث أن أمها قالت لابنة عمها بأن ابنتها سوف تحصل على الشهادة الجامعية وإذا لم يتم هذا فسوف تلومني أمها وتقول بأنني كنت العائق في طريق دراستها.
ماذا يجب أن تفعل؟ هل تذهب للجامعة بهذا المجتمع والجو الفاسد لترضي أمها أم لا تذهب؟
بالإضافة لذلك فبعد أن أنهي دراستي الجامعية وأحصل على خبرة لمدة سنتين فسوف أغادر هذه البلاد الفاسدة إلى بلد إسلامي. وضعت أفغانستان على رأس قائمة البلاد التي أريد السفر إليها، فما رأيك في هذه الفكرة؟ إذا لم توافق فلأي البلاد أسافر؟
شكراً لك على أي عون تقدمه لي والسلام]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان وضع الجامعة كما ذكرت فلا يجوز لها أن تدرس في هذا المكان ولا أن تدخله، ومن القواعد الشرعية المقررة أنه: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا تطيع أمها في هذا الأمر، وعليها أن تحاول إقناع أمها بحرمة ذلك بالرفق والأدب كما قال الله عز وجل: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا " فإن لم تقبل الأم فلا يحل للبنت طاعتها ولا إثم عليها في ذلك - إن شاء الله -.
ولكن هناك ملحوظة /
وهي أنه لا يجوز لك أن تكلم هذه الفتاة قبل العقد عليها ولا تجالسها فهذا مما حرمه الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والدخول على النساء " وقال صلى الله عليه وسلم: " ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " فاحذر من ذلك.
وأما من جهة سفرك للإقامة: فانظر أرضا تقيم فيها شعائر الله عز وجل علنا وتامن فيها على دينك ونفسك وتعينك على طاعة ربك وتقل فيها الفتن. والله الموفق وهو الهادي لا إله إلا هو.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/496)
يقلّدون المذاهب ويرفضون التعلّم
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا نقول للمسلمين الذين يتبعون المذهب بشكل متواصل؟
ومن هو الذي قال: " أننا أضعف من أن نتبع الدليل, فالعلماء وحدهم هم الذين يستطيعون اتباع الأدلة, حيث أنهم يعرفون الأدلة معرفة جيدة" ... كيف نرد على من يتعلم الدين من خلال المذاهب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العامي الذي لا يستطيع الوصول إلى الأدلة، ولا يتمكن من فهمها على الطريقة المتبعة عند أهل العلم، فرضه التقليد، وسؤال أهل العلم، قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) . أمَّا من يستطيع الوصول إلى القول الراجح في المسائل بأدلتها فلا يجوز له التقليد إلاَّ إذا ضاق عليه وقت بحث مسألةٍ بعينها فهو في حكم العامي في هذه المسألة. انتهى
الشيخ عبد الكريم الخضير.
ولا بأس بتعلّم الفقه على مذهب من المذاهب الأربعة بشرط أن يتّبع الدليل إذا تبيّن له أنّ المذهب مخالف للدليل في مسألة ما من المسائل لأن طاعة الله ورسوله مقدّمة على طاعة كلّ احد وكذلك أن يتأدّب مع المدارس الفقهية الأخرى ولا يحمله التعصّب لمذهبه على مخاصمتهم بل يجعل الحقّ رائده ويحترم أقوال العلماء واجتهاداتهم وتكون طريقته المباحثة بالأدب للوصول إلى الحقّ والمناصحة بالحسنى للمخالفين إذا تبيّن له أنهم على خطأ.
ومن الخطأ أن يرفض القادر على التعلّم أن يتعلّم بحجّة أنّ العلماء وحدهم هم القادرون على فهم الأدلّة، ونحن لا نقول لمن لا يستطيع الاجتهاد أن يستنبط من النصوص ويجتهد وليس عنده مَلَكَة ولا آلة الاجتهاد وإلا عمّت الفوضى، ولكن نقول له إذا كنت ذا فهم فاعرف على الأقلّ ما هي حجّة إمامك وما دليله كي ترتبط بالقرآن والسنّة وتكون متّبعا على بصيرة لا مقلّدا إمّعة. والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/497)
حفظ الكتاب والسنة
[السُّؤَالُ]
ـ[أحفظ شيئاً من القرآن، وأمنيتي أن أتم حفظه، ثم أنتقل إلى حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي في الصحيحين بتوفيق الله عز وجل، فهل هذه الطريقة أحسن، أم أقوم بهما الاثنين في نفس الوقت، مع حفظ كل مرة شيئاً من القرآن وشيئاً من الحديث؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كلا الطريقتين صحيح فاختر منهما ما يسهل عليك وتدعو إليه حاجتك وحاجة من حولك، نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسداد.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/110.(8/498)
حضور حفلات التخرُّج
[السُّؤَالُ]
ـ[هل حضور حفلات التخرج الجامعية من المحرمات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا اشتمل حفل التخرّج على منكر فلا يجوز حضوره ولا شهوده، ومن منكرات حفلات التخرّج الموسيقى ومسير طابور المتخرِّجين على أنغامها، وحضور النساء المتبرّجات أو الاختلاط أو لبس الخرِّجين الذي فيه تشبُّه بالكفار (كاللباس الكَنَسِي) . والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/499)
مشكلة الذي يحفظ القرآن ويفسر منه
[السُّؤَالُ]
ـ[أي كتب تفسير القرآن تنصح بقراءتها؟ وإذا حفظ الإنسان جزءاً من القرآن ونسيه فهل هناك وعيد في ذلك؟ وكيف يحافظ الإنسان على ما حفظ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سُئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال السابق فأجاب بقوله: القرآن وعلومه متنوعة , وكل مفسرٍّ يُفسرُُّ القرآن يتناول طرفاً من هذه العلوم ولا يمكن أن يكون تفسيراً واحداً يتناول القرآن من جميع الجوانب.
فمن العلماء من ركز على التفسير النظري كالزمخشري وغيره ولكن أنا أرى أن يفسر الآية هو بنفسه أولاً ـ أي يكرر في نفسه أن هذا هو معنى الآية ـ ثم بعد ذلك يراجع ما كتبه العلماء فيها؛ لأن هذا يفيده أن يكون قوياً في التفسير غير عالة على غيره , وكلام الله - عز وجل - منذ بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم (بلسان عربي مبين) .
وإن كان يجب الرجوع إلى تفسير الصحابة؛ لأنهم أدرى الناس بمعانيه , ثم إلى كتب المفسرين التابعين , لكن مع ذلك لا أحد يستوعب كلام الله - عز وجل -.
فالذي أرى أن الطريق المثلى أن يكرر الإنسان تفسير الآية في نفسه , ثم بعد ذلك يراجع كلام المفسرين فإذا وجده مطابقاً فهذا مما يُمكنّهُ من تفسير القرآن وييسره له، وإن وجده مخالفاً رجع إلى الصواب.
وأما حفظ القرآن فطريقة حفظه تختلف من شخص إلى آخر بعض الناس يحفظ القرآن آية آية بمعنى أنه يحفظ آية يقرأها أولاً ثم يرددها ثانياً وثالثاً حتى يحفظها ثم يحفظ التي بعدها ثم يكمل ثمن أو ربع الجزء أو ما أشبه ذلك , وبعض الناس يقرأ إلى الثمن جميعاً ويردده حتى يحفظه ومثل هذا لا يمكن أن نحكم عليه بقاعدة عامة، فنقول للإنسان استعمل ما تراه مناسباً لك في حفظ القرآن.
لكن المهم أن يكون عندك علم لما حفظت متى أردت الرجوع إليه , وأحسن ما رأيت في العلم أن الإنسان إذا حفظ شيئاً اليوم يقرأه مبكراً الصباح التالي فإن هذا يعين كثيراً على حفظ ما حفظه في اليوم الأول هذا شيء فعلته أنا فإن هذا يعين كثيراً على الحفظ الجيد.
أما الوعيد على من ينسى , قال الإمام أحمد: (ما أشد ما ورد فيه) أي حفظ آية ونسيها والمراد بذلك من أعرض عنها حتى تركها , وأما من نسيها لسبب طبيعي أو لأسباب كانت واجبة أشغلته فإن هذا لا يلحق به إثم (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) البقرة / 286.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بأصحابه فنسي آية فذكره أحد الصحابة بها بعد الصلاة فقال: (هلا ذكرتني بها) فالإنسان الذي ينساه تهاوناً به أو أعراضاً عنه لا شك أنه خاسر وأنه مستحق الإثم , وأما الذي ينساه لشيء واجب عليه أوجبه الله - سبحانه وتعالى - عليه أو نسياناً طبيعياً فهذا لا يلحقه شيء.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (136) .(8/500)
آداب طالب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد من الله عليَّ بطلب العلم، فما هي الآداب التي تنصحونني بالتحلي بها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن لطلب العلم جملةً من الآداب ينبغي على من طلب العلم أن يتحلى بها فإليك هذه الوصايا والآداب في طريق الطلب لعل الله أن ينفعك بها:
أولاً: الصبر:
أيها الأخ الكريم.. إن طلب العلم من معالي الأمور، والعُلَى لا تُنال إلا على جسر من التعب. قال أبو تمام مخاطباً نفسه:
ذريني أنالُ ما لا يُنال من العُلى فصَعْبُ العلى في الصعب والسَّهْلُ في السَّهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبَر النحل (الشَّهد هو العسل)
وقال آخر:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا جُهد النفوس وألقوا دونه الأُزرا
وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرُهُم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تَلْعَقَ الصَبِرَا (الصَبِردواءٌ مُرٌّ)
فاصبر وصابر، فلئن كان الجهاد ساعةً من صبر، فصبر طالب العلم إلى نهاية العمر. قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) } سورة آل عمران.
ثانياً: إخلاص العمل:
الزم الإخلاص في عملك، وليكن قصدك وجه الله والدار الآخرة، وإياك والرياء، وحب الظهور والاستعلاء على الأقران فقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ " رواه النسائي (2654) وحسنه الألباني في صحيح النسائي.
وبالجملة: عليك بطهارة الظاهر والباطن من كل كبيرة وصغيرة.
ثالثاً: العمل بالعلم:
اعلم بأن العمل بالعلم هو ثمرة العلم، فمن علم ولم يعمل فقد أشبه اليهود الذين مثلهم الله بأقبح مثلٍ في كتابه فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) } سورة الجمعة.
ومن عمل بلا علم فقد أشبه النصارى، وهم الضالون المذكورون في سورة الفاتحة.
وبالنسبة للكتب التي تدرسها فقد ذُكِرَت في السؤال رقم (20191) فليُراجع للأهمية.
رابعاً: دوام المراقبة:
عليك بالتحلي بدوام المراقبة لله تعالى في السر والعلن، سائراً إلى ربك بين الخوف والرجاء، فإنهما للمسلم كالجناحين للطائر، فأقبل على الله بكليتك، وليمتلئ قلبك بمحبته، ولسانك بذكره، والاستبشار والفرح والسرور بأحكامه وحِكَمِه سبحانه.
وأكثر من دعاء الله في كل سجود، أن يفتح عليك، وأن يرزقك علماً نافعاً، فإنك إن صدقت مع الله، وفقك وأعانك، وبلغك مبلغ العلماء الربانين.
خامساً: اغتنام الأوقات:
أيها اللبيب ... " بادر شبابك، وأوقات عمرك بالتحصيل، ولا تغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمرك لا بدل لها ولا عوض عنها، واقطع ما تقدر عليه من العلائق الشاغلة، والعوائق المانعة عن تمام الطلب وابذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل؛ فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل، والبعد عن الوطن؛ لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق، وما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه، وكذلك يُقال العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك.
سادساً: تحذير.
إياك أن تشتغل في بداية الطلب بالاختلاف بين العلماء، أو بين الناس مطلقاً، فإنه يحير الذهن، ويدهش العقل، وكذلك الحذر من المصنفات؛ فإنه يضيع زمانك ويفرق ذهنك، بل أعطِ الكتاب الذي تقرؤه أو الفن الذي تأخذه كليتك حتى تُتقنه، واحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب من غير موجب؛ فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح. وعليك أن تعتني من كل علم بالأهم فالأهم.
سابعاً: الضبط والإتقان:
احرص على تحيح ما تريد حفظه تصحيحاً متقناً؛ إما على شيخ أو على غيره مما يعينك، ثم احفظه حفظاً محكماً ثم أكثر من تكراره وتعاهده في أوقات معينه يومياً، لئلا تنسى ما حفظته.
ثامناً: مطالعة الكتب:
بعد أن تحفظ المختصرات وتتقنها مع شرحها وتضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات، انتقل إلى بحث المبسوطات، مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر بك من الفوائد النفيسة، والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة، وحل المشكلات، والفروق بين أحكام المتشابهات، من جميع أنواع العلوم، ولا تستقل بفائدة تسمعها، أو قاعدة تضبطها، بل بادر إلى تعليقها وحفظها.
ولتكن همتك في طلب العلم عالية؛ فلا تكتفِ بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا تقنع من إرث الأنبياء صلوات الله عليهم بيسيره، ولا تؤخر تحصيل فائدة تمكنت منها ولا يشغلك الأمل والتسويف عنها؛ فإن للتأخير آفات، ولأنك إذا حصلتها في الزمن الحاضر؛ حصل في الزمن الثاني غيرها.
واغتنم وقت فراغك ونشاطك، وزمن عافيتك، وشرخ شبابك، ونباهة خاطرك، وقلة شواغلك، قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة.
وينبغي لك أن تعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنك؛ لأنها آلة التحصيل، ولا تجعل تحصيلها وكثرتها (بدون فائدة) حظك من العلم، وجمعها نصيبك من الفهم، بل عليك أن تستفيد منها بقدر استطاعتك.
تاسعاً: اختيار الصاحب:
احرص على اتخاذ صاحب صالح في حاله، كثير الاشتغال بالعلم، جيد الطبع، يعينك على تحصيل مقاصدك، ويساعدك على تكميل فوائدك، وينشطك على زيادة الطلب،ويخفف عنك الضجر والنصب، موثوقاً بدينه وأمانته ومكارم أخلاقه، ويكون ناصحاً لله غير لاعبٍ ولا لاه." انظر تذكرة السامع لابن جماعة.
" وإياك وقرين السوء؛ فإن العرق دساس، والطبيعة نقالة، والطباع سراقة، والناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، فاحذر معاشرة من كان كذلك فإنه المرض، والدفع أسهل من الرفع.
عاشراً وأخيراً: التأدب مع الشيخ:
بما أن العلم لا يؤخذ ابتداءً من الكتب، بل لابد من شيخ تتقن عليه مفاتيح الطلب، لتأمن من الزلل، فعليك إذاً بالأدب معه، فإن ذلك عنوان الفلاح والنجاح، والتحصيل والتوفيق. فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الأدب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال، والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال لا سيما مع شهود الملأ؛ فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل، ولا تناديه باسمه مجرداً، أو مع لقبه بل قل: " يا شيخي، أو يا شيخنا ".
وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالماً.". انظر حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والثبات، وأن يُرينا اليوم الذي تكون فيه عالماً من علماء المسلمين، مرجعاً في دين الله، إماماً من أئمة المتقين، آمين.. آمين.. وإلى لقاء قريب، والسلام.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/501)
هل من البدع اجتماع الدعاة وطلبة العلم يوم الجمعة للتعارف والتدارس
[السُّؤَالُ]
ـ[اتفق الدعاة في المنطقة على أن يجتمعوا في كل أسبوع ليلة، للمحاضرة والتعارف والندوات والتدريس والدعوة، واختاروا ليلة الجمعة لهذا الاجتماع، البعيدون منهم والقريبون، وأن يأتي كل واحد منهم بما يكفيه من الطعام في هذه الليلة، هل هذا بدعة يرجع إلى تخصيص ليلة الجمعة بعبادة كما قال هذا العالم أم لا؟ مع أنهم لم يريدوا ليلة الجمعة إلا توقيتاً للاجتماع فقط لا للعبادة، أما أنا فهي الآن فيما يبدو لي أدافع عن الدعاة، وأرى أن الاجتماع والتعارف فيما بينهم أمر هام يكون سبباً لتسوية صفوف الدعاة والتقدم للدعوة، ماهي الحقيقة في هذه المسألة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
لا حرج في اجتماع الدعاة ليلة الجمعة من كل أسبوع للمحاضرات والتعارف والتدريس وليس ذلك من تخصيص ليلة الجمعة بعبادة.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 13/258.(8/502)
حكم المراهنة في مسائل العلم الشرعي
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الطلاب في مذاكرة العلم الشرعي يجعلون من يخطئ في مسألة مطالباً بشراء كتاب مثلاً لمن أصاب فيها فهل هذا حلال؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه مسابقة، ويرى شيخ الإسلام أنه لا بأس بالمسابقة الشرعية، وقد علل ذلك رحمه الله موضحاً أن الجهاد يكون إما بالعلم، وإما بالسلاح، واستدل كذلك بما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى (الم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين) فالفرس هم الذين غلبوا الروم، والروم نصارى من أهل الكتاب والفرس مجوس ليس لهم كتاب، قال الله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله) لأن المؤمنين يحبون انتصار النصارى على الفرس، لأن النصارى أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام من المجوس، وقريش تحب أن ينتصر المجوس على الروم، فقالت قريش: لا يمكن للروم أن تغلب الفرس، لأن الفرس أقوى منهم، وهم لا يؤمنون بالقرآن، فراهنهم أبو بكر على شيء من الإبل مدة سبع سنين، فمضت السنون السبع ولم يحدث شيء، فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (زد في الأجل سنتين وزد في الرهان) أخرجه ابن جرير في تفسيره 10/165،166 رقم 27876، لأن كلمة في بضع سنين من ثلاث إلى تسع، فأمره أن يحتاط فيزيد في الأجل ويزيد في العوض، ففعل أبو بكر، فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ومن هذه المسألة استدل شيخ الإسلام على جواز الرهان في مسائل العلم الشرعي.
[الْمَصْدَرُ]
لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين /225(8/503)
الانتقال لمسجد آخر بعد الفجر لحلق العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[نصلي الفجر في مسجد قريب منا، ثم نقوم نحن الشباب بالانتقال إلى مسجد آخر فيه حلقة تحفيظ القرآن، وهذا المسجد ليس ببعيد، بل المسافة بين المسجدين تستغرق خمس دقائق على الأقدام، فهل هذا الانتقال يُضيع علينا أجر حجة أو عمرة تامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث يقول: (من صلى الفجر ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس فله..) فهل المقصود شروقها وطلوعها، أم المقصود ارتفاعها قيد رمح؟ بمعنى هل نصلي الركعتين عند الشروق أو يلزم الانتظار حتى ترتفع قيد رمح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا بأس بالانتقال من مسجد إلى مسجد آخر بعد الصلاة لأجل حضور درس من دروس العلم، وهو أفضل من الجلوس في المسجد الأول حتى ترتفع الشمس لأنه لأجل طلب العلم والاستفادة أما صلاة الركعتين فتكون بعد ارتفاع الشمس قدر رمح.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/115.(8/504)
لديه الرغبة في دراسة الشريعة، ومتخوف من مستقبلها الوظيفي
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا الآن على مشارف اختبارات الثانوية العامة، وحقيقة: أني محتار جدّاً في تخصص دراستي الجامعية، أنا لديَّ الرغبة جدّاً في دراسة العلوم الشرعية، وأحبها، وأستمتع بها، وأطمح أن أكون عالماً، مفتياً، خطيباً، حصولي على شهادة الدكتوراة، لكني أواجه ردود أفعال كثيرة، منهم: من يقول إذا تخرجت أين تعمل؟ مدرس مثلاً؟ مرتبها قليل، اذهب إلى كلية الإدارة، أو الهندسة للحصول على مقعد ممتاز في العمل، ومِن ثمَّ خذ شهادة الشريعة انتساباً، مثل عدة مشايخ ... وإلخ من هذا الكلام، وبعضهم يقول: اذهب إلى الشريعة، الأمة محتاجة إلى علماء، ومفتين، علماً أن أبي مهندس، وأمي مدرِّسة رياضيات، واثنين من إخواني مهندسين، واثنين من أخواني - أيضاً - من كلية الإدارة الصناعية، ووضعنا المادي ممتاز - ولله الحمد -، لكن أخاف مستقبلاً إذا تخرجت من الشريعة أكون أقلَّ منهم ماديّاً، فلذلك أود أن تنصحني؛ لأنني بين أمرين مهمين في حياتي، وشكراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يكتب لك النجاح والتوفيق في دراستك، واختباراتك وأمورك كلها.
أولاً:
لاشك أن أعظم ما صرفت فيه الأوقات , وبذلت فيه الأموال: طلب العلم الشرعي؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يثن في شيء من كتابه كما أثنى على العلم، وأهله، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) الزمر/ 9، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/ 28.
قال ابن كثير رحمه الله:
أي: إنما يخشاه حق خشيته: العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم، القدير، العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى , كلما كانت المعرفة به أتمّ، والعلم به أكمل: كانت الخشية له أعظم، وأكثر.
" تفسير ابن كثير " (6 / 544) .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) رواه البخاري (71) ومسلم (1037) .
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَيْتُكَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: وَلاَ جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وابن ماجه (223) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (1/17) .
قال ابن القيم رحمه الله في وصف العلم الشرعي -:
وهو الحاكم، المفرق بين الشك واليقين , والغي والرشاد , والهدى والضلال , وبه يُعرف الله، ويُعبد، ويُذكر، ويُوحد، ويُحمد، ويُمجد , وبه اهتدى إليه السالكون , ومن طريقه وصل إليه الواصلون , ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام , وبه توصل الأرحام , وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب , وهو إمام، والعمل مأموم , وهو قائد، والعمل تابع , وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة , والكاشف عن الشبهة , والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه , والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه؛ مذاكرته تسبيح , والبحث عنه جهاد , وطلبه قُربة , وبذله صدة , ومدارسته تعدل بالصيام والقيام , والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: " الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين , وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " , وروِّينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: " طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ".
" مدارج السالكين " (2 / 469، 470) .
فلا ريب أن العلم الشرعي هو أفضل العلوم وأوْلاها , وبه يتحصل الإنسان خير الدنيا والآخرة , وهو مقدَّم على سائر العلوم، لا سيما إذا خلصت فيه نية الإنسان , وكان له رغبة وهمَّة في تحصيله وطلبه.
وانظر جواب السؤال رقم: (10471) .
ثانياً:
حثَّ الإسلام على طلب الكفاية في العلوم الدنيوية , وجعل طلبها واجباً كفائيّاً , وخصوصاً إذا احتاجت الأمة لتلك العلوم , كالعلوم العصرية المتقدمة.
فمَن تعلم العلوم الدنيوية ونيته أن يُصلح للمسلمين أمورَهم في معاشهم , ورفع مكانتهم، والاكتفاء عن الأمم الكافرة: فلا شك أن أجره عظيم، ويثاب على هذا العلم الذي يتعلمه , مع بيان أن الجمع بين العلوم الدينية والدنيوية أمر مقدور عليه , ولا يتنافيان , وقد كان كثير من العلماء السابقين يجمعون بين تخصصات مختلفة، فابن قيم الجوزية رحمه الله كان مبرزاً في العلوم الشرعية، ولا تخفى مكانته فيه , وكذلك كان مبرزاً في علوم الطب , ولا أدل على ذلك من كتابه " الطب النبوي " – وهو الجزء الرابع من كتابه " زاد المعاد " -، وهكذا الحال مع علماء آخرين.
وانظر جواب السؤال رقم: (2999) .
ثالثاً:
يجب أن يُعلم أنه لا بد للمسلم من أن يجرد نيته عن الحظوظ الدنيوية في طلبه للعلم الشرعي , وأن يكون هدفه الأجر والثواب من الله , فهذا أدعى لبقاء العلم، وانتفاع صاحبه به , وقبول الناس له، ولعلمه , فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ , وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ) رواه ابن ماجه (257) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح ابن ماجه ".
وعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود (3664) وابن ماجه (252) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
عَرفها: يَعْنِي: رِيحَهَا.
وطلب العلم الشرعي لا يتوقف على الدراسة النظامية في الكليات الشرعية، غير أن الحصول على تلك الشهادة صار مهماً حتى يتمكن طالب العلم من التدريس والإمامة والخطابة ... ونفع الناس.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في بيان آداب طلب العلم -:
"الأمر الأول: إخلاص النية لله عز وجل: بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله، والدار الآخرة ...
وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة، أو رتبة: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) - يعني: ريحها -، وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا، ولكن لأن النظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته، فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليماً، أو إدارة، أو نحوها: فهذه نية سليمة، لا تضره شيئاً؛ لأنها نية حق" انتهى باختصار.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (26 / 65، 66) ، و " كتاب العلم " (ص 21) .
رابعاً:
من المقرر في كتاب الله تعالى , وفي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم: أن من اتقى الله تعالى: كفاه الله ما أهمه، وأشغله , قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب) الطلاق/ 2، 3.
وقد تكفل الله تعالى برزق البلاد التي يتقي أهلها ربهم تعالى، فكيف بآحادهم، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) الأعراف/ 96، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) المائدة/ 66.
فالشاهد: أن أهل الخير والتقوى والصلاح: يكفيهم الله سبحانه وتعالى أمر دنياهم، فلا تخش - أخي السائل - من المستقبل , وتأكد أن الله سيكفيك أمر دنياك، وآخرتك، إن كانت نيتك في طلب العلم لله.
ولو ابتلي المؤمن بنقص في ماله، أو دنياه: فهو يحتسب ذلك لجنَّة عرضها السموات والأرض، أعدها الله للمتقين , ولتعلم أن المقياس في السعادة، والطمأنينة، والراحة، ليس في كثرة الأموال، أو الجاه، وإنما في طاعة الله تعالى , فخير الأعمال التي يندب الاشتغال لها: تعليم الناس الخير , فمعلِّم الناس الخير يستغفر له مَن في السموات، ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء , وهم أهل الخشية والتقوى , ولهم المنزلة والجاه العظيم في الدنيا والآخرة.
فالنصيحة لك ما دامت همتك، ومحبتك، ورغبتك أن تطلب العلم الشرعي: أن تسعى في تحصيل ذلك , ولا بأس أن تطلب الشهادة مع ذلك , ولكن مع تجريد النية والإخلاص لله تعالى في طلب العلم نفسه , وأن تكون هذه الشهادة عندك وسيلة لنيل العلم، وتعليم الناس، والدعوة إلى الله تعالى , ووسيلة للعمل الذي تفرضه كثير من القوانين لكثير من الوظائف، ولا تخف من المستقبل من قلة مال، أو دنيا، أو عدم إيجاد وظيفة؛ فالله سبحانه سيكفيك هموم ذلك كله , فمن صدق الله صدق الله معه.
وبما أن أهلك من المثقفين، والعقلاء: فيمكنك إقناعهم بدراسة الشريعة بسهولة، وذلك بإخبارهم
أن هذه رغبتك، وهم يعلمون أن دراسة ما لا رغبة فيه: فاشلة، ولا تؤتي ثمارها، وأن دراسة ما فيه رغبة: فيها النجاح، والإبداع، والراحة.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعطيك ما تتمنى، وأن يجعلك من أهل العلم، وطلبته.
وانظر – للأهمية – جواب السؤال رقم: (110419) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/505)
كذب ادعاء معرفة الغيب باستعمال " البنْدول " وأنه مصدر طاقة!
[السُّؤَالُ]
ـ[إنني شاب مسلم، وأعمل مهندساً، وأعيش في " الهند "، وكما تعرفون فإنَّ في " الهند " الكثير من الجماعات , وإنني أحمد الله فعقيدتي متفقة مع أهل السنَّة والجماعة، وأهل السلف , ولديَّ صديق من جماعة " التبليغ " يقول بأن هناك عالماً علَّمَنا فنّاً من الفنون، وهو معرفة الإجابات باستخدام " البندول " , وهذا الفن كالتالي: يقوم الشخص بإمساك " البندول " , ويقوم بالسؤال , ومن المفترض أنه يرسل موجات راديو إلى عقول أشخاص آخرين، ثم بعد ذلك يحصل على الإجابة منهم، ويقوم " البندول " بكشف هذا التردد، ويظهر الإجابة , وقد اعتقدت أنه كاذب، وكنت أحتاج إلى ما يثبت ذلك , وقلت له: لا أدري إن كان الإسلام يحل هذا أم يحرمه، ولكنني أرى أنها جاءت بمحض الحظ، وهو ما يجعلها حراماً، فقال لي: إن هذا ليس تنجيماً , ولكنه استخدام للحس بأعلى درجاته، كما أننا لا نقول معلومات بخصوص المستقبل , وإنما نجيب عن بعض الأسئلة التي هي في العقول، وقد فعل هذا أمامي لعدد من الأشخاص حتى أنني قلت إنه يسخر الجن، أو شيء ما، ومهما كان ما يقوم به فإنني أوقفت التفكير به، وبدأت في البحث حول هذا الأمر - " البحث بالبندول " -، ثم بدأت البحث على شبكة الإنترنت، ووجدت شيئاً غير عادي، أنه موجود على " الجوجل " , وأن هناك الكثير من الناس متورطون فيه، ويقولون بأنه يأتي بنتيجة، ثم ذهبت إلى تاريخ هذا الفن، فوجدت أنه موجود منذ أيام الفراعنة، وتم تطويره، وأن هناك بعض البندولات التي استخدموها لمعرفة قوى الحياة. ورؤيتي لهذا الأمر أنه حرام , ولا أدري لم أحسه تنجيماً، وأنه يبدو خرافة كبيرة، وكلٌّ من التنجيم والخرافات: جريمة، وإنني أريدكم أن تنيروا لي طريقي في هذا الأمر، وأريد أن أنأى بصديقي هذا عن مثل هذه الأعمال إذا كانت من المحرمات، إنني فقط أريد دليلاً من القرآن الكريم، والحديث الشريف، وطريق السلف الصالح. جزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جزاك الله خيراً، وبارك فيك، فإن تنبهك لهذا الأمر الذي هو أقرب إلى الشعوذة والسحر: إن دل فهو يدل على فقهك، وفهمك للتوحيد، ثبتك الله، ونفع بك.
وما سألت عنه من أمر البندول يتلخص جوابه في أمور:
أولاً:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان العرافين والمشعوذين والسحرة والكهنة، وحذَّر من تصديقهم , وعدَّ ذلك من الكفر، ومعلوم أن " العرَّاف " هو الذي يدَّعي معرفة الأمور الماضية، وقد يشمل لفظ العرَّاف أيضاً: الكهانة، وهو ادعاء معرفة الأمور المستقبلية.
وانظر جواب السؤال رقم (85541) للوقوف على تعريفه، وحكم الذهاب إليه، وإلى السحرة.
ثانياً:
من المقرر في شريعتنا أنه لا يعلم الغيب إلا الله، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان/ 34، ولو شاء الله أن يُطلع أحداً على شيء من الغيب فإن ذلك لا يكون إلا لرسول من رسله، قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) الجن/ 26، 27.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر، والأسرار، والغيب.
(إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به؛ وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحداً من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تتخبطهم الشياطين، ولا يزيدوا فيه، أو ينقصوا.
" تفسير السعدي " (ص 891، 892) .
ومن الغيب الذي استأثر الله بعلمه: معرفة ما في القلوب، والضمائر، والأنفس، فمن زعم من البشر – غير الرسل – معرفته: فهو عرَّاف، كاذب. قال الله تعالى في ثنائه على نفسه بما هو أهله: (يَعْلَمُ خَاِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) غافر/19.
قال ابن كثير رحمه الله:
" يخبر تعالى عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها؛ ليحذر الناس علمه فيهم، فيستحيوا من الله حَقّ الحياء، ويَتَّقُوهُ حق تقواه، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، فإنه تعالى يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر" انتهى.
"تفسير ابن كثير" (7/137) .
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يدَّعي العرَّافون والكهنة علمَ بعض الأمور الغيبية عن بعض الناس , ومن ذلك: استراق السمع من السماء , كما جاء في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهْوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ - فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ، قَبْلَ أَنْ يَرْمِىَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَيُحْرِقَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِىَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الأَرْضِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الأَرْضِ - فَتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيَصْدُقُ، فَيَقُولُونَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ) .
رواه البخاري (4424) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ) ، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وإياي إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أعانني عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِي إِلاَّ بِخَيْرٍ) .
رواه مسلم (2814) .
وهذا القرين ملازم للإنسان يعرف بعض شؤونه الخاصة , فربما خدم هذا القرينُ شياطينَ الساحر، والعرَّاف؛ لإغواء الناس، وإيقاعهم في الشرك، والتعلق بغير الله تعالى , فيعطي للعراف وللساحر بعض المعلومات الخاصة التي تغيب عن الناس , فيظن أن هذا الساحر، أو العراف، يعلم الغيب، أو أنه صاحب كرامات , وقد يستخدم بعض الطرق للتلبيس على الناس , كاستخدام استفتاح المصحف , أو حركة البندول، أو غير ذلك.
والدليل على كذب وتدليس مستخدم البندول: أن استخداماته في أمور كثيرة، كتحديد جنس المولود , والكشف عن الأمراض، وتحديد أماكنها، وغير ذلك: مما يدل على كذب صاحب ذلك الادعاء؛ لأنه ليس المقصود هو " البندول " بحد ذاته، بل هو ادعاء صاحبه معرفة أشياء كثيرة غيبية، وما استخدام البندول إلا حيلة حتى يصير التركيز عليه باعتباره وسيلة! ولا يختلف هذا الفعل عن فعل إخوانه الكهان مما يدعون معرفة الغيب بالنظر في كف اليد، أو فنجان القهوة! .
وادعاء علاقة بين البندول والطاقة: ليس له أصل في الشرع، ولا في العلم الحديث، وإنما أُخذ هذا من الفراعنة، وأتباعهم.
قالت الدكتورة فوز كردي – حفظها الله -:
وهذه الطاقة غير قابلة للقياس بأجهزة قياس الطاقة المعروفة، وإنما يُدّعى قياسها بواسطة أجهزة خاصة مثل " البندول "، فبحسب اتجاه دورانه تُعرف الطاقة السلبية من الطاقة الإيجابية.
انتهى
http://www.alfowz.com/index.php?option=com_content&task=view&id=44&Itemid=2
والمسلم في حكمه على الشيء ينطلق من ثوابت ومسلمات الشريعة , فالغيب استأثر الله بعلمه , والعراف من ادعى علم المستقبل , وتصديقهم من كبائر الذنوب , بل من الكفر.
ولا شك أن الشعوذة، والسحر، والكهانة، تتطور على حسب تطور العصر، فلما كان هذا العصر هو عصر التطورات والاكتشافات والتكنولوجيا: فلا بد أن يلبَس السحرُ والشعوذة لبوس العلم، والتجربة , وتحت مسميات " الطاقة الخفية "، أو " الذبذبات العقلية " ... الخ.
ومثل هذه تنتشر في البلاد غير الإسلامية ممن يكثر بين أهلها انتشار الجهل والبدعة والخرافة، كالهند، وجنوب شرق آسيا، وغيرها من البلاد، ولا ينبغي أن ننسى دور " البوذيين " و " الهندوس " في نشر الخرافة في تلك البلاد، حتى وصل تأثير ذلك إلى عوام المسلمين.
ثالثا:
يمكن تسمية ما يدعيه ذلك المشعوذ كهانة أو عرافة أو تنجيما، فكلها ألفاظ تنطبق معانيها على ذلك الادعاء، وهي في نفسها متداخلة في صورها، ومتفقة في أحكامها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطَّابي، وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب، وعند آخرين هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالا منه، فلحق به من جهة المعنى.
" مجموع الفتاوى " (35 / 193، 194) .
وقال القرطبي – رحمه الله -:
والعرَّاف: هو الحازر، والمنجم: الذي يدَّعي علم الغيب، وهي من العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب، ومقدمات يدَّعي معرفتها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر، والطرْق، والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة " بالياء "، وكلها يُطلق عليها اسم الكهانة.
قاله القاضي عياض.
" تفسير القرطبي " (7 / 3) .
وقد هدى الله هذه الأمة لسلوك طريق الحق، وكفاها عن مثل هذه الطرق , بثوابت في كتابه تعالى، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم , ومثل هذه الحيل والطرق المبتكرة لا تنطلي إلا على من لم يهتد بنبراس الهداية، أو على إنسان قلَّ علمه، وتفقهه بشريعة الإسلام، وغلب عليه الجهل بالتوحيد.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/506)
التخصصات في العلوم والفنون، حاجة الأمة لها، وضوابط وفوائد فيها
[السُّؤَالُ]
ـ[في ظل ما نعيشه في هذا الزمان المتسارع، وما تمر به الأمة من فتن وبلايا، وما يتمناه كل مسلم من رفع الغمة عن الأمة، ويحاول أن يقدِّم لها ما يرفع من مستواها، وإيماننا بالتخصص، وأهميته، وكيف يكون بسبب تلك الأدوار الرقي بالأمة في شتى مجالاتها، سؤالي: ما هي أهم التخصصات سواءً العامة أو الدقيقة التي تحتاجها الأمة خلال المرحلة القادمة، أو كنظرة إستراتيجية خلال 20 سنة؟ وما هي الكتب أو المواقع التي تكلمت في هذا الموضوع واستشرفت المستقبل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينتظم الكلام عن التخصص في الدراسات التي تحتاجها الأمة الإسلامية في مسائل وأحكام، منها:
1. لا شك أن الأمة الإسلامية تحتاج من أبنائها أن يكونوا قادة العالَم في العلوم النظرية والعملية، وأن لا يكونوا عالَة على غيرهم من الأمم، والإسلام دين العلم، بدأ الله تعالى وحيه لنبيه صلى الله عليه وسلم بكلمة (اقرأ) ، وحثَّ على العلم، ورفع من شأنه، وأوجب تعلم العلوم التي تحتاجها أمة الإسلام وجوباً كفائيّاً.
2. ونوصي أن يكون أصحاب الاختصاص ممن لهم ميل لهذا العلم، وذاك التخصص، فمن المعلوم أن المسلمين يتفاوتون فيما بينهم في الميل نحو علوم دون أخرى، ومن الأفضل أن نحث كل واحدٍ منهم نحو ما يميل له من العلوم، لا أن نجبره على تعلم شيء لا يرغبه، فضلاً عن المنع من إجباره نحو ما يكره.
وهذه المسألة عالجها أئمة الإسلام قديماً وحديثاً، بل إنهم أوصوا بها أن تنمَّى مع الطفل في صغره، دون الحاجة للانتظار لأن يكبر حتى يوجه لهذا العلم.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
ومما ينبغي أن يعتمد: حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له: فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً؛ فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له: لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيِّد الحفظ، واعياً: فهذه من علامات قبوله، وتهيؤه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خالياً؛ فإنه يتمكن فيه، ويستقر، ويزكو معه.
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب، والرمي، واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يُخلق له: مكَّنه من أسباب الفروسية، والتمرن عليها؛ فإنه أنفع له، وللمسلمين.
وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يُخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعداً لها، قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس: فليمكِّنه منها.
هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه؛ فإن ذلك ميسر على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد، فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة.
" تحفة المودود في أحكام المولود " (ص 243، 244) .
ومن تأمل في حال الصحابة، ورأى تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم: علم مدى مطابقة ما قلناه لواقعهم رضي الله عنهم، فقد كان منهم العالِم الفقيه، ومنهم القارئ، ومنهم المجاهد، ومنهم الشاعر، وكلٌّ يؤدي ما يتقنه، ويساهم في بناء الدولة، وكما يكون الدفاع عن الإسلام بالمناظرة والحجة: فإنه يكون بالسيف والرمح، ولكل واحدٍ من هذه الفنون أهلها وأربابها، وقد اشتركوا جميعاً في معرفة الإسلام، ولم ينافِ ذلك أن يكون متخصصاً في فن، أو صنعة.
3. يجب التفريق بين الرجال والنساء في التوجه نحو الاختصاص في العلوم والفنون، فما يصلح للرجال ليس بالضرورة أن يصلح كله للنساء، فالعلوم الصناعية الثقيلة، والسياسية، والعسكرية لا تليق بالمرأة، ومما يليق بها وتشترك فيه مع الرجال: العلوم التربوية، والصناعية الخفيفة، والعلوم الطبية – وتختص عن الرجل بتوجيهها نحو طب النساء -.
4. ولا يجوز للرجال ولا للنساء مخالفة شرع الله تعالى في دراسة التخصصات، وتعلمها، فعليهم تجنب الاختلاط، والسفر لدول الكفر، وسفر المرأة وحدها دون محرمها، ومن المخالفات الشرعية في ذلك: الذهاب لبلاد الكفر للدراسة مع وجود هذا العلم والتخصص في بلاد المسلمين.
وإذا احتاجت الأمة الإسلامية لعلم ضروري فينبغي أن يُحسن اختيار من يقوم به، لا أن يفتح الباب على مصراعيه للجميع، فيذهب للبلاد الكافرة الشاب المراهق الأعزب، والضعيف في علمه الشرعي؛ لأن هذا أدعى لوقوعه في الفتنة، ونكون خسرناه وخسرنا ما ذهب من أجله، ولم نستفد شيئاً.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:
" إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج؛ لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لا سيما في مجال التصنيع وأشباهه: فأرى أن يكوَّن لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية , واختيار مشرف على هذه البعثة، معروف بعلمه، وصلاحه، ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة , ويقوم بالدعوة إلى الله هناك , وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة , ويتفقد أحوالها، وتصرفات أفرادها , ويقوم بإرشادهم وتوجيههم , وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه، وتشكيك، وغير ذلك.
وينبغي أن يُعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم، ولو قصيرة، يدرَّسون فيها جميع المشاكل، والشبهات، التي قد تواجههم في البلاد التي يُبتعثون إليها , ويُبين لهم موقف الشريعة الإسلامية منها , والحكمة فيها، حسب ما دل عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم , وكلام أهل العلم، مثل أحكام الرق , وتعدد الزوجات بصفة عامة , وتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة , وحكم الطلاق , وحكمة الجهاد ابتداءً ودفاعاً، وغير ذلك من الأمور التي يورد ها أعداء الله على شباب المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للرد على ما يعرض لهم من الشبه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (1 / 386 - 388) .
وقال علماء اللجنة الدائمة:
إذا كان الواقع كما ذكر من أن التخصص الذي تدرسه موجود في بلدك الإسلامي، وأن الدراسة في الخارج مشتملة على مفاسد كثيرة في الدين والأخلاق وعلى الزوجة والأولاد - فإنه لا يجوز لك السفر لهذه الدراسة؛ لأنها ليست من الضرورات، مع وجودها في بلدك الإسلامي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في التحذير من الإقامة في بلاد الكفار من غير مسوغ شرعي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين " وغيره من الأحاديث، وما وقع فيه بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار من غير ضرورة هو من التساهل الذي لا يجوز في دين الله، وهو من إيثار الدنيا على الآخرة، وقد قال الله جل وعلا: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) سورة الأعلى، الآيتان (16، 17) ، وقال سبحانه: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) سورة النساء، الآية: (77) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ عبد الله الغديان، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (26 / 93 - 96) .
5. وأخيراً: فإن العلوم كثيرة، وفي كل علم وفن تخصصات، فالطب تخصصاته كثيرة، والعضو الواحد من الجسد يكون فيه تخصصات، والأمة الإسلامية تحتاج لكل العلوم والفنون المباحة، من الطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم الذرة، والنووي، والعلوم العسكرية، والصناعات الثقيلة، وغير ذلك من العلوم والفنون، على أن يكون ذلك بحسن اختيار، ولمقصد شرعي أو مباح، مع الالتزام بالشرع أثناء تحصيله، ومع تحصيل قدرٍ كافٍ من العلوم الشرعية.
ولا نعلم – الآن – كتاباً معيَّناً نحيلك عليه.
ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لما يحب ويرضى، وأن يكتب لهم العز والتمكين.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/507)
هل ثبت في النصوص أن مكة المكرمة هي مركز الأرض؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سَمعتُ بأنّ مكة المكرمة مركزُ الأرضِ. هَلْ ذلك حق؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دراسة هذه المسألة تتفرع إلى جانبين اثنين: الجانب الشرعي، وذلك للبحث عن الأدلة من القرآن والأحاديث والآثار الواردة في هذا الموضوع.
والجانب العلمي: للنظر في الأبحاث العلمية والبراهين الحسية التي تبين القضية.
أولا:
أما الجانب الشرعي فقد قال بعض أهل العلم: إن في القرآن الكريم إشارات إلى هذه النظرية، وفي السنة النبوية وآثار السلف تصريحٌ بها.
أما إشارات القرآن ففي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً) البقرة/143، لأن الآية في معرض الأمر باتخاذ الكعبة قبلة، فكأن معنى الآية: كما كانت الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أنتم أمةً وسطا بين الأمم.
يقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/153) :
" المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا " انتهى.
ولكن هذا واحدٌ من وجوه ستة يذكرها المفسرون في طرفي التشبيه في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم) ، لعل أظهرها ما ذكره ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/141) :
" كما هديناكم - أيّها المؤمنون - بمحمد عليه الصلاة والسلام، وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على مَن سِواكم مِن أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم مِن أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا " انتهى.
وانظر: "تفسير القرآن العظيم" (1/454) ، "مفاتيح الغيب" (2/387) ، "الدر المصون" (2/134) .
وأيضا هناك إشارة في قوله عز وجل: (وَهََذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا) الأنعام/92 فقال بعض العلماء: إنما سميت مكة " أم القرى " لأنها أصل قرى الأرض كلها، ومنها دحيت الأرض، فهي لذلك وسط الأرض.
بل قال بعض أهل العلم: إن في تسميتها " مكة " إشارة إلى أنها مركز الأرض ووسطها:
يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات القرآن" (1/470 – 471) :
" مكك: اشتقاق مكة من تمكَّكْتُ العظم: أخرجت مخه، وامتكَّ الفصيلُ ما في ضِرع أمه، وعبَّر عن الاستقصاء بالتمكُّكِ.
وتسميتها بذلك لأنها كانت تَمُكُّ مَن ظلم بها: أي تدقُّه وتهلكه.
قال الخليل: سميت بذلك لأنها وسط الأرض، كالمخ الذى هو أصل ما في العظم " انتهى.
وانظر "مفاتيح الغيب" (4/310) حيث ذكر في اشتقاق مكة وجوها أخرى كثيرة.
فالحاصل أن القرآن الكريم لا يتضمن نصًّا ولا دلالةً أو إشارةً ظاهرة بأن مكة المكرمة أو الكعبة المشرفة تقع في مركز الأرض ووسطها، وما ورد في ذلك لا يعدو كونه إشارات محتملة وإيماءات بوجه مشتبه.
ثانيا:
أما الأحاديث النبوية المرفوعة، فقد حاولنا جمعها بالاستقصاء من كتب السنة، كي نقف على جميع طرقها ورواياتها، فلم نجد إلا حديثا واحدا مرفوعا في هذا الباب، وهو ما جاء:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت، ثم مدت منها الأرض، وإن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض " أبو قبيس "، ثم مدت منه الجبال) .
قال المناوي في "فيض القدير" (3/108) :
" (ثم مُدَّت) بالبناء للمجهول أي: بسطت. (منها الأرض) : من سائر جوانبها، فهي وسط الأرض وقطبها " انتهى.
لكن الحديث: رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/341) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/431) ، والديلمي في "مسند الفردوس" (1/1/11) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/31) وعزاه السيوطي في "الجامع" (9603) إلى الحاكم في تاريخه.
كلهم من طريق: سليمان بن عبد الرحمن: نا عبد الرحمن بن علي بن عجلان القرشي نا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً.
وهذا الحديث معل بجهالة عبد الرحمن بن علي، وبوقف الرواية على عطاء أو مجاهد من قولهم.
وعبد الرحمن بن علي بن عجلان الدمشقي هذا: روى عن ابن جريج وعن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وروى عنه سليمان بن عبد الرحمن وعمرو بن عثمان الحمصي وابن بنته شيبة بن الوليد.
لم يرد توثيقه إلا عن سليمان بن عبد الرحمن الراوي عنه، نقله عنه ابن عساكر في ترجمته في "تاريخ دمشق" (35/133) ، غير أن سليمان هذا – وهو أبو أيوب الدمشقي – متكلم فيه، أخذوا عليه كثرة روايته عن المجهولين. قال فيه ابن معين: ثقة إذا روى عن المعروفين. وقال ابن حبان: يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير، فأما إذا روى عن المجاهيل ففيها مناكير. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (12/26) ، لذلك لم يعتبر أهل العلم توثيق سليمان بن عبد الرحمن لبعض من يروي هو عنهم، فذكر العقيلي عبد الرحمن بن علي بالجهالة، وأعل حديثه بالوقف على عطاء أو مجاهد، وروى ذلك بالأسانيد إليهم، فقال في ترجمته في "الضعفاء" (2/341) : " مجهول بنقل الحديث، حديثه غير محفوظ إلا عن عطاء من قوله، مجهول بالنقل ...
حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا الحارث بن زياد الجعفي قال سمعت عطاء بن أبى رباح قال: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس.
وحدثنا أبو يحيى بن أبى مسرة قال حدثني أبى قال حدثنا سعيد بن سالم المقداح عن ابن جريج عن مجاهد قال: أول لمعة من الأرض موضع البيت مدت الأرض منها.
قال أبو جعفر: هذه الرواية أولى " انتهى باختصار.
كما أنه ورد نحو هذا الحديث من قول ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي، وهو ما يبين وهم من رفع الحديث.
وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم/5881)
ثالثا:
قد ورد في آثار الصحابة والتابعين روايات كثيرة تدل على أنهم كانوا يرون وسط الأرض في مكة المكرمة:
1- جاء من قول عبد الله بن عمرو بن العاص:
" خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدةً بيضاء، وكانت الأرض تحته كأنها حشفة، فدحيت الأرض من تحته "
رواه الطبري في "تفسيره" (6/20) بسند رواته ثقات. وعزاه في الدر المنثور" (2/265) لابن المنذر والطبراني والبيهقي في "الشعب".
2- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
" وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ".
رواه الطبري في تفسيره (3/61) بسند لا بأس به.
3- وورد من كلام أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
" خُلقت الكعبة قبل الأرض بألفي سنة. قالوا: كيف خلقت قبل وهي من الأرض؟ قال: كانت حشفة – يعني: جزيرة - على الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار ألفي سنة، فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها في وسط الأرض "
عزاه في "الدر المنثور" (1/115) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقد وقفت على سنده في "مجلس إملاء في رؤية الله تبارك وتعالى" لأبي عبد الله الدقاق (ص/287) وفي "أمالي ابن بشران" (2/204) وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني ترجمته في "تهذيب التهذيب" (10/422) وأكثر كلمة المحدثين على تضعيفه.
أما عن التابعين: فقد جاء عن مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم نحو هذا الكلام، كما عند ابن أبي حاتم والطبري في تفسيريهما، وكذا في مصنف عبد الرزاق (5/90) ، ومن الكتب التي توسعت في نقل هذه الأخبار: "أخبار مكة" للأزرقي، و "أخبار مكة" للفاكهي.
وهذه الآثار مما تحتمل أن يكون لها حكم الرفع، وتحتمل أيضا أن تكون منقولة عن أهل الكتاب، فإن كتبهم مليئة بأخبار خلق السماوات والأرض وبدء الخليقة. يؤيد ذلك ورود الأثر السابق عن كعب الأحبار، كما يرويه عنه عبد الرزاق في "المصنف" (5/95) أنه قال: " كان البيت غثاء على الماء قبل أن يخلق الله تعالى الأرض بأربعين عاما، ومنه دحيت الأرض " انتهى.
كما ورد عن قتادة رحمه الله – في "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (2/901) – أن صخرة بيت المقدس هي وسط الأرض.
وذلك ما قد يشعر بأن الأمر مأخوذ عن أخبار متضاربة عن أهل الكتاب.
رابعا:
فالحاصل مما سبق أنك لا تجد دليلا ظاهرا يقوى للدلالة على أن مكة المكرمة هي مركز الأرض، ولكن الإشارات التي ذكرناها في بعض النصوص، على ما فهمه منها بعض أهل العلم، وما جاء في الآثار السابقة، تشعر بأن لهذه الكلام أصلا، وهي قرائن ترجح قول من قال ذلك، ما لم يظهر خلافها بالأدلة العلمية الصحيحة.
خامسا:
أما من الناحية العلمية، فنحن لسنا من أهل التخصص في علوم الأرض و " الجغرافيا "، فلزم أن نقف في البحث عند هذا الحد، ولكن نحيلك على بعض المتخصصين من أهل العلم الذين بحثوا في هذا الأمر، وتوصلوا إلى أن مكة المكرمة هي مركز الأرض ووسطها، فلعل في أبحاثهم العلمية ما يقوي هذا الجانب، مع إبقاء الأمر تحت دائرة البحث والنظر، وهو في غايته أمر اجتهادي قابل للصواب والخطأ.
انظر: بحث: " إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة " د. حسين كمال الدين أحمد: " مجلة البحوث الإسلامية " – الرياض – (2/292)
وبحث " الإسقاط المكي للعالم " د. حسين كمال الدين أحمد: "مجلة البحوث الإسلامية" – الرياض – (6/225)
وانظر الروابط الآتية:
http://www.elnaggarzr.com/index.php?l=ar&id=11&cat=39
http://www.elnaggarzr.com/index.php?l=ar&id=476&p=2&cat=575
http://www.elnaggarzr.com/index.php?l=ar&id=488&p=2&cat=595
http://www.islamtoday.net/questions/show_question_content.cfm?id=114583
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/508)
حكم دراسة علم النفس والقانون
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس حاليا علم النفس والقانون، وأفكر في أن أحصل على شهادتي العلمية في مجال علم النفس. فهل تجوز دراسة علم النفس والقانون والحصول على شهادة علمية فيهما، وفى حال جواز ذلك أرجو أن تمدوني بدليل وأن تقرنوه بإجابتكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
هذان العلمان (علم النفس والقانون) تدرس فيهما المسائل على خلاف الشريعة الإسلامية؛ وهذا أمر مفهوم ومنطقي باعتبار أن القانون عند غير المسلمين يقابل الشريعة الإسلامية، وأن علم النفس عندهم يقابل الأخلاق والزهد والرقاق والتزكية والسلوك والتربية، وبما أن القوم لا يدينون بدين الإسلام، أيا كانت ملتهم مذهبهم؛ فمنطقي ـ كذلك ـ أن يصدروا في قانونهم وأخلاقهم عن غير شرع الله تعالى الذي ارتضاه لعباده، وإنما يصدرون في ذلك عن تجاربهم أو عقولهم أو أذواقهم أو أعرافهم؛ أو غير ذلك مما يجعلونه لهم، ونظاما يتبعونه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن دراسة هذين العلمين وأشباههما - كالفلسفة والاقتصاد غير الإسلامي – لا تجوز للمسلم على سبيل الإفادة ـ المطلقة ـ منها واعتقاد ما فيها من ضلال والعمل به، واتخاذه دينا وشرعا متبعا؛ فإن الخير كل الخير في اتباع ما جاء به النبي من الهدى والنور، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174) ، وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: من الآية15) ، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (يونس:108) .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن النظر في كتب أهل الكتاب وغيرهم، وغضب صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يد عمر رضي الله عنه كتابا من كتب اليهود كما جاء في مسند أحمد (14623) (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) [حسنه الألباني في الإرواء: 6/34] .
ويتأكد النهي عن تعلم ودراسة هذه العلوم إذا كان المسلم غير مؤهل لمعرفة ما فيها من شر، والتمييز بينه وبين ما فيها من خير؛ فإنه لابد إذا كان حاله كذلك أن يصيبه شيء من شرها؛ كما هو مشاهد من كثير ممن درس هذه العلوم من المسلمين في القرنين الماضيين، ممن سموا برواد التنوير في العالم العربي، ففتنوا وكانوا طليعة لتنحية الشريعة عن الحكم في بلاد المسلمين، وأحلوا مكانها القانون الروماني والفرنسي، وحاولوا وجدوا في صبغ المجتمعات الإسلامية بالصبغة الغربية في جميع مجالات الحياة، ووسموا القابضين على دينهم من المسلمين بالرجعية والتخلف والجمود والأصولية والظلامية، وأمثال هذه الألفاظ النابتة في البيئة الأوروبية.
أما إذا كان المسلم من الكفاية العقدية والعقلية؛ بحيث لا يُخاف على مثله من الشبه والزيغ الموجود في هذه العلوم؛ فيجوز له دراستها، بل قد يجب على أفراد بأعيانهم متابعةُ الجديد عند غير المسلمين من نظريات وأفكار وفلسفات، للرد عليها وتبيين ما فيها من زيغ إذا تسربت إلى بلاد المسلمين، مستترة في أزياء الأدب والفن والثقافة ومناهج التعليم والاقتصاد والاجتماع ونظم الحكم والإدارة.
ويتأكد الأمر إذا كان بتكليف من ولي الأمر المسلم الناصح لأمته، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود.
وقد بوب بذلك البخاري رحمه الله في صحيحه - (6/2631) فقال: بَاب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ. (رواه الترمذي وصححه برقم 2639) ، وصححه الألباني: المشكاة (4659) .
وقد ورد إلى اللجنة الدائمة للإفتاء سؤال في هذا المعنى فأجابت بالآتي:
" لا يجوز تعلم القوانين الوضعية لتطبيقها، ما دامت مخالفة لشرع الله، وتجوز دراستها وتعلمها لبيان ما فيها من دخل وانحراف عن الحق، ولبيان ما في الإسلام من العدل والاستقامة، والصلاح، وما فيه من غنى وكفاية لمصالح العباد. ولا يجوز لمسلم أن يدرس الفلسفة والقوانين الوضعية ونحوهما، إذا كان لا يقوى على تمييز حقها من باطلها خشية الفتنة والانحراف عن الصراط المستقيم، ويجوز لمن يهضمها ويقوى على فهمها بعد دراسة الكتاب والسنة؛ ليميز خبيثها من طيبها، وليحق الحق ويبطل الباطل، ما لم يشغله ذلك عما هو أوجب منه شرعا، وبهذا يُعلم أنه لا يجوز تعميم تعليم ذلك في دور العلم ومعاهده، بل يكون لمن تأهل له من الخواص؛ ليقوموا بواجبهم الإسلامي من نصرة الحق ودحض الباطل.
فتاوى اللجنة الدائمة (14 / 232- 233) .
فالنصيحة للأخ الكريم أن ينظر في حاله: هل تتوفر فيه الشروط المشار إليها؛ من العلم بالعقيدة الصحيحة والثبات عليها والتمتع بالعقل الراجح المميز بين الحق والباطل، والقدرة على دحض الشبه والزيغ بالأدلة الصحيحة والنصح للإسلام، فإن آنس من نفسه ذلك فليقدم على دراسة هذين العلمين، بعد استخارة الله تعالى، وإلا فالأولى في حقه ترك هذه الدراسة إلى شيء من العلوم المادية البحتة.
وليعلم أن من ترك شيئا لله أبدله الله خيرا منه.
نسأل الله لك التوفيق والهداية لما ينفعك في دينك ودنياك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/509)
توضيح قوله تعالى (إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان)
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد في قصة سليمان وملكة سبأ في سورة النمل الآية التالية: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
أنا أفهم أن المعنى: أنها ظلمت نفسها بالكفر، وأنها أسلمت بعد أن تبين لها الحق، ولكن لفظ الآية، وعدم وجود علامة وقف بعد كلمة (نفسي) ، توحي بعكس هذا المعنى، وهو أنها ظلمت نفسها بالإسلام - ومعاذ الله -، فهل من توضيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول تعالى في سورة النمل: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . النمل/44
يحكي سبحانه وتعالى في هذه الآية المفاجأة الكبيرة التي كان أعدها سليمان عليه السلام لملكة سبأ، وكانت قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، فوقفت الملكة مدهوشة أمام هذه العجائب التي يعجز عن مثلها البشر، فرجعت إلى الله، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان لله رب العالمين.
هذا هو فهم سياق القصة، وهو أيضا ما تقتضيه قواعد اللغة العربية.
فإن قولها (ظَلَمْتُ نَفْسِي) جملة فعلية في محل رفع خبر (إِنِّي)
ثم جاء حرف العطف (الواو) ليعطف جملة على جملة، فقالت (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ)
انظر "إعراب القرآن وبيانه" محيي الدين درويش (7/216) ، "الجدول في إعراب القرآن" لمحمود صافي (9/415)
والتقدير: وإني أسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
وهذا هو التقدير الصحيح؛ لأن النحاة يقولون: إن حرف العطف إنما جيء به لاختصار التكرار في الجملة.
يقول ابن عقيل في "شرح ألفية ابن مالك" (2/208) :
" العطف على نية تكرار العامل " انتهى.
فبدل أن تقول: جاء زيد وجاء عمرو، تختصر فتقول: جاء زيد وعمرو.
وكذلك الحال في عطف الجمل التي لها محل من الإعراب:
فبدل أن تقول: إن الله يعلم ما أنتم عليه، وإن الله سيحاسبكم عليه.
تختصر فتقول: إن الله يعلم ما أنتم عليه وسيحاسبكم عليه.
فالواجب فهم الآية الكريمة على هذه القاعدة، فيكون تقدير الآية:
(إني ظلمت نفسي، وإني أسلمت مع سليمان لله رب العالمين)
ولا يلزم لغة - إذا كان العطف بين الجمل - أن تشترك في المعنى، بل قد يكون المعنى متضادا.
يقول الأستاذ عباس حسن في "النحو الوافي" (3/557) :
" والعطف بالواو إذا كان المعطوف غير مفرد، قد يفيد مطلق التشريك، نحو: نبت الورد ونبت القصب، أو لا يفيد، نحو: حضرت الطيارة ولم تحضر السيارة " انتهى.
فحين يعطف الله تعالى قول ملكة سبأ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ) لا يجوز أن تفهم على أنها توضيح للمعطوف عليه أو بيان له، من حيث أصل اللغة، فكيف حين يكون بين المعنيين تضاد ظاهر.
والسياق يبين أن الملكة اعترفت بظلمها نفسها حين كانت تعبد الشمس من دون الله، فتابت من ذلك الشرك، وأسلمت وجهها، ووحدت عبادتها لله رب العالمين.
وبهذا يكون المعنى سليما، وينتفي التوهم الذي يظنه السائل في الآية.
قد يكون لإشكال السائل وجه – من حيث قواعد النحو - إذا كان سياق الكلام:
(إني ظلمت نفسي: أسلمت مع سليمان) بحذف حرف العطف، على أن الجملة الثانية بدل من الجملة الأولى، كقوله تعالى:
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) الفرقان/68-69
فإن مضاعفة العذاب هي بيان وتوضيح للإثم الذي يلقاه مرتكب الكبائر.
كما قد يكون لهذا الإشكال وجه – من حيث قواعد اللغة – لو كان حرف العطف هو الفاء، فكان الكلام: إني ظلمت نفسي فأسلمت مع سليمان.
فإن الفاء تفيد – كثيرا – مع الترتيب (التسبب) ، أي الدلالة على السببية في عطف الجمل، نحو: رمى الصياد الطائر فقتله. انظر "النحو الوافي" (3/574)
أَمَا وقد جاء السياق القرآني على الوجه البَيِّنِ الجَلِيِّ:
(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
فليس لإشكال السائل أي محل من الفهم الصحيح للسياق، وقواعد النحو العربي.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/510)
بطلان ما يزعمون عن الكوكب العاشر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم فيما يسمي الكوكب العاشر أو كوكب العذاب كما يسمي وأنه متوقع اقترابه يوم 15/5/2003 وأنه سيسبب دمار الأخضر واليابس. هناك من يؤكد صحة هذا الأمر وأنه ما ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة الطارق.
أفيدونا يرحمكم الله حيث أن من يؤيد ذلك يدعون الناس لترك منازلهم والهجرة لأماكن أخرى إن أرادوا النجاة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سئل الشيخ حامد العلي في موقعه على الإنترنت عن هذا الموضوع فقال: " يجب على المسلم أن يتقين ثلاثة أمور عندما يسمع مثل هذه الأخبار:
الأمر الأول: هو أن نهاية الحياة في الأرض لن تكون بحال من الأحوال إلا وفق ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن نهاية التاريخ لن تحصل قبل ظهور علامات الساعة الصغرى والكبرى كلها، ومن ذلك أن يتصارع أهل الحق وهم أهل الإسلام مع أهل الشر والباطل، وهم كل الذين يعادون دين الحق دين الإسلام، ويسعون لإطفاء نوره وأن ثمة محطتين بارزتين في هذا الصراع ستقع قبل نهاية الحياة، الأولي صراع أهل الإسلام مع أهل الصليب كما صح في الأحاديث التي ذكرت ملاحم آخر الزمان.
والمحطة الثانية هي صراع أهل الإسلام في وقت نزول عيسى عليه السلام مع الدجال وأتباعه من اليهود، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، ويموتون موتة رجل واحد.
ثم يحكم أهل الإسلام الأرض، ثم يموت كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان بريح باردة تقبض أرواح المؤمنين، ثم لا تلبث الساعة بعد ذلك أن تقوم وشيكا على شرار الخلق متفرقين على كوكب الأرض، لأن الكون لا يخرب وعلى الأرض مؤمن، فإن انعدم الإيمان خربت، إذ الإيمان بالله سبب بقاء الحياة.
والحاصل أنه لا يجوز أن يعتقد المسلم أن نهاية الحياة ستكون بخلاف ما ذكر في النصوص الثابتة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: هو أنه لا يجوز للمسلم أن يعتقد أن الكواكب تهب النفع، أو تدفع الضر، أو يحصل بها الرزق أو هي التي تهب السعادة، وتأتي بالشقاء، وتوجه حياة البشر ونحو ذلك، فهذه عقيدة شركية كان يعتقدها أهل الجاهلية وصح في الأحاديث أن من اعتقدها كفر، وبهذا يعلم أن ما يزعمه كهان الأبراج كله كذب وكفر وشرك بالله تعالى.
فالكواكب ليست سوى أجرام مسخرة تسير بقدرة الله تعالى، وتؤدي دورها في الكون، وهذا لا يمنع أن يكون سيرها وفق نواميس أقام الله تعالى الكون عليها، ويحصل بها تأثر فيما بينها، ويترتب علي هذا التأثر، حصول الكوارث والمصائب والزلازل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه أنه بسبب كون الكسوف يؤثر على الأرض قال صلى الله عليه وسلم (آية يخوف الله بها عباده) ا. هـ بمعنى أنها تدل على قرب حدوث أمر مقدر من الله تعالى فيه تخويف وتذكير من الله تعالى، تذكير بقدرته البالغة، وتذكير بنهاية الحياة، وتذكير للإنسان أن لا يطغى وأن يتذكر دائما أنه على أرض الله التي لو شاء لزلزلها من تحت رجليه، فلا يستطيع صرفا ولا نصرا.
ولهذا عادة ما تحدث الزلازل بعد الكسوفات، وكذلك الأعصاير المدمرة، نعوذ بالله من غضبه، كما ذكر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من القمر لأن له تأثيرا وإلا لما استعاذ منه، وإنما تأثيره من جنس تأثير المؤثرات الحسية التي خلقها الله وخلق تأثيراتها.
ومادام المسلم يعتقد أن ذلك يحصل كله بتقدير الله تعالى، وأنها آيات يخوف الله بها عباده، فلا ضير، لكن يجب أن تكون معرفة علاقة سير الكواكب، والشمس، بحركة سير الأرض، وطبقات الأرض، وحركة الرياح فيها، مبينا على أسس علمية، كما تكتشف علاقات قوانين الطبيعة مع بعضها، والإسلام لم يحرم بل أمر باكتشاف قوانين الكون التي خلقها الله تعالى لتسييره.
الأمر الثالث: هو أنه لا يجوز للمسلم أن ينزل الأحاديث التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما سيحدث فيما سيأتي من الزمان، على كلام علماء الطبيعة والفلك، الذين قد يكون كلامهم تخريصا أو تخمينا أو توقعات لا تلبث حتى يعلم خطؤها، فلا يصح أن يجزم أحد من الناس بقوله: إن زوال أمريكا، أو خروج المهدي، أو تغيير النظام العالمي، أو موازين القوى في العالم، سيحدث بمرور كوكب يحدث تأثيرات كارثية على الأرض، في هذا العام، أو غيره.
ومن جزم بهذا فهو متخرص، قائل بغير علم، متهجم على الغيب بغير حق، فأما إن كان الكلام في دائرة ذكر الإمكان، وما يمكن أن يقع، فما هو ممكن الوقوع كثير، ولكن لا يعلم ما سيقع، ومتى يقع إلا الله تعالى وحده.
هذا وقد أمرنا أن نجاهد أعداءها بما أوتينا من قوة، وأن نسعى أن نتفوق عليهم، أو أن نساويهم، أو نقاربهم، فيما يملكون من أسباب القوة المادية والمعنوية، ولا نتكل على حصول الكوارث على أعداءنا.
وقد علمنا من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، أن نواجه الأعداء بتوكلنا على الله أولا، ثم بما آتانا الله من إيمان عميق بعقيدتنا، وعزيمة أكيدة على حقنا، وصبر هائل على طريقنا، وإصرار بغير حدود على رسالتنا، وجهاد دؤوب يستمر عبر الأجيال حتى نصل إلى أهدافنا، وهدفنا الأعلى وهو قيادة البشرية إلى الهدى والنور، لتستمتع الشرية برسالة الرحمة التي بعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم، وذلك كما فعل صلى الله عليه وسلم في حياته، ولنا فيه الأسوة الحسنة.
وبعد هذا نقول إن كل ما ذكره هذا المتكلم عن كوكب (نيبيرو) لا قيمة له حتى يثبت بأسس علمية صحيحة، إن هذا الكوكب سيحصل بمروره قرب الأرض تأثيرات كارثية، ثم إذا ثبت ذلك، فالواجب علينا أن نتمسك بالثوابت الثلاثة التي ذكرتها قبل قليل، ثم اللجوء إلى الله تعالى، والتوجه إليه بالدعاء أن يجنبنا البلاء، وإذا وقع أن يرفعه عنا، ويجعل عاقبته خيرا لنا ولأهل الإسلام
مع أن غالب الظن أن هذا الكلام على الكوكب المذكور، كله تخرص، لا أساس له من الصحة، أو هو مبالغ فيه، والاهتمام به، ليس من الحكمة في شيء.
والله أعلم " ا. هـ
وقد مر التاريخ الذي ذكره السائل في سؤاله، ولم يحدث شيء، مما يؤكد أن هذا الكلام من باب الخرص والقول بلا علم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/511)
شيوعي ملحد يدعي أن الصيام مضرّ!!
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أعيش في روسيا وأدرس هناك، ولدينا أكثر الأساتذة شيوعيون لا يؤمنون بوجود الخالق عز وجل، أحدهم قال لنا كيف الله الذي عندكم يأمركم بترك الطعام والشراب في النهار وهذا مضر بالصحة فما تنصحنا بالرد على هذا الشيوعي أذله الله.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الصيام مع كونه - في الأساس - عبادة شرعية، وفريضة إلهية، فإنه مع ذلك من أنفع الأدوية، وأنجع الوسائل لتقوية الصحة والبدن معا، وهذا بشهادة الأطباء الكفرة، فضلا عن المسلمين.
فالصوم يساهم مساهمة فعالة في علاج الاضطرابات النفسية، وتقوية إرادة الصائم، ورقة مشاعره، وحبّه للخير، والابتعاد عن الجدل والمشاكسة والميول العدوانية، وإحساسه بسمّو روحه وأفكاره. وبالتالي تقوية وتدعيم شخصيته، وزيادة تحمّلها للمشاكل والاعباء، ومما لا شك فيه أنّ ذلك ينعكس بصورة تلقائية على صحّة الإنسان.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فالصوم يساهم في علاج الكثير من أمراض الجسم، كأمراض الجهاز الهضمي، مثل التهاب المعدة الحاد، وتهيج القولون، وأمراض الكبد، وسوء الهضم، وكذلك في علاج البدانة وتصلّب الشرايين، وارتفاع ضغط الدّم، وخناق الصدر، والربو القصبي، وغيرها.
وقد كتب الطّبيب السويسري بارسيلوس: (إن فائدة الجوع في العلاج قد تفوق بمرّات استخدام الأدوية) ، أمّا الدكتور هيلب، فكان يمنع مرضاه من الطّعام لبضعة أيام، ثمّ يقدّم لهم بعدها وجبات غذائية خفيفة. وبشكل عام فإنّ الصوم يساهم في هدم الأنسجة المتداعية وقت الجوع. ثمّ إعادة ترميمها من جديد عند تناول الطّعام، وهذا هو السبب الذي دعا بعض العلماء ومنهم باشوتين، أن يعتبروا أنّ للصوم تأثيراً معيداً للشباب.
ويقول " توم برنز" من مدرسة كولومبيا للصحافة:" إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية، فعلى الرغم من أنني بدأت الصوم بهدف تخليص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدا لتوقد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة وتركيز المشاعر، فلم تكد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع "بولنج" الصحي حتى شعرت أني أمر بتجربة سمو روحي هائلة "
وطبيعي أن يسبب الصوم ضرراً ومشقة زائدة لبعض الناس في حالات معينة، وقد أعفاهم الله تعالى من الصيام كالمريض والمسافر.
كما أنّ فوائد الصوم المثلى تكون بالالتزام بآدابه، ومنها تأخير السحور، وتعجيل الفطور، وعدم الإسراف في الطّعام كمّاً وكيفاً، وتجنّب الإسراف في تنويع الأطعمة.
وتقول دائرة المعارف البريطانية: " إن أكثر الأديان قد فرضت الصيام وأوجبته، فهو يلازم النفوس حتى في غير أوقات الشعائر الدينية، يقوم به بعض الأفراد استجابة للطبيعة البشرية "
وفي القرن العشرين ظهر عدد من الكتب الطبية في أمريكا وأوروبا تتحدث عن فوائد الصوم الطبي، فكان هناك " التداوي بالصوم " لشلتون. وكتاب " الصوم الطبي: النظام الغذائي الأمثل " لآلان كوت، و " الصوم أكسير الحياة " لهنرك تانر، و " العودة إلى الحياة السليمة بالصوم الطبي " للوتزنر.
وفي الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب، وذلك لأن 10 % من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلى الجسم تذهب إلى الجهاز الهضمي أثناء عملية الهضم، وتنخفض هذه الكمية أثناء الصوم حيث لا توجد عملية هضم أثناء النهار، وهذا يعني جهدا أقل وراحة أكبر لعضلة القلب.
كما أن الصيام يفيد في علاج الأمراض الجلدية، والسبب في ذلك أنه يقلل نسبة الماء في الدم فتقل نسبته بالتالي في الجلد، مما يعمل على:
- زيادة مناعة الجلد ومقاومة الميكروبات والأمراض المعدية الجرثومية.
- التقليل من حدة الأمراض الجلدية التي تنتشر في مساحات كبيرة في الجسم مثل مرض الصدفية.
- تخفيف أمراض الحساسية والحد من مشاكل البشرة الدهنية.
- مع الصيام تقل إفرازات الأمعاء للسموم وتتناقص نسبة التخمر الذي يسبب دمامل وبثورا مستمرة.
هذه بعض فوائد الصوم الصحية، وبه تعلم أن ما يقول ذلك الشيوعي الملحد لا أساس له من الصحة.
مع أننا نصوم امتثالاً لأمر الله تعالى لنا بالصيام في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/183
ولو أمرنا الله تعالى بقتل أنفسنا لفعلنا ذلك إرضاء لربنا جل وعلا، ولكننا نؤمن إيماناً جازماً أنه سبحانه لن يأمرنا إلا بما فيه مصلحتنا في الدنيا والآخرة
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/512)
كتاب درة الناصحين
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في كتاب درة الناصحين في الوعظ والإرشاد ولعالم من علماء القرن التاسع الهجري اسمه: عثمان بن حسن بن أحمد الخوبري قرأت ما نصه: عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: إن الله تعالى نظر إلى جوهرة فصارت حمراء، لم نظر إليها ثانية فذابت وارتعدت من هيبة ربها، ثم نظر إليها ثالثة فصارت ماء، ثم نظر إليها رابعة فجمد نصفها فخلق من النصف العرش ومن النصف الماء، ثم تركه على حاله ومن ثم يرتعد إلى يوم القيامة.
وعن علي رضي الله عنه أن الذين يحملون العرش أربعة ملائكة لكل ملك أربعة وجوه أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة مسيرة خمسمائة عام. أرجو الإفادة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الكتاب لا يعتمد عليه، وهو يشتمل على أحاديث موضوعة وأحاديث ضعيفة لا يعتمد عليها ومنها هذان الحديثان فإنهما لا أصل لهما، بل هما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يعتمد على هذا الكتاب وما أشبهه من الكتب التي تجمع الغث والسمين والموضوع والضعيف، فإن أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قد خدمها العلماء من أئمة السنة وبينوا صحيحها من سقيمها، فينبغي للمؤمن أن يقتني الكتب الجيدة المفيدة مثل الصحيحين، وكتب السنن الأربع، ومنتقى الأخبار لابن تيمية، ورياض الصالحين للنووي، وبلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وعمدة الحديث للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، وأمثالها من الكتب المفيدة المعتمدة عند أهل العلم.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 6 / 406(8/513)
موقف الإسلام من استكشاف الفضاء
[السُّؤَالُ]
ـ[مع كل ما يقال عن استكشاف الفضاء و"ما إذا كانت توجد حياة" خارج كوكبنا الجميل، ما رأي القرآن في المخلوقات الفضائية؟ وبالإضافة إلى ذلك، هل ينبغي أن نبحث عن وجود حياة على كوكب آخر، وكيف ينبغي أن يكون موقفنا تجاه هذا الاكتشاف الجديد؟
وقد يبدو هذا السؤال غريباً، ولكن الفكرة في رأيي تثير الاهتمام، الأمر الذي يطرح التساؤل حول العلم الذي لا يتمشى دائماً مع أي دين.
والسلام.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإسلام لا يحول بين الإنسان وبين محاولة اكتشاف الكون وما فيه من العجائب وأن ينظر في ملكوت الله وما خلق الله في السماوات والأرض كما أمر الله في كتابه.
ويحسن الانتباه هنا إلى أمرين:
أولا: الموازنة بين حجم الجهود والأوقات والأموال المبذولة من جهة، ومقدار الفائدة المرجوّة من جهة أخرى.
وثانيا: أن يتعلّم الإنسان كيف يمشي على الأرض قبل أن يذهب بعيدا في أنحاء الفضاء.
وصلى الله على نبينا محمد
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/514)
حكم تعلم العلوم الدنيوية والصناعات العسكرية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم تعلم العلوم الدنيوية والصناعات العسكرية، وهل هي فرض على المسلمين، وهل يؤجر عليها المسلم الذي يتعلمها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العلوم (غير العلوم الشرعية) أي من استخراج المعادن وشؤون الزراعة والفلاحة وسائر العلوم النافعة، قد يجب منها ما يحتاجه المسلمون، ويكون فرض كفاية، ولولي الأمر فيها أن يأمر بما يحتاجه المسلمون، ويساعد أهلها في ذلك، أي بما يعينهم على نفع المسلمين، والإعداد لعدوهم، وعلى حسب نية العبد تكون أعماله: عبادة لله عز وجل متى صلحت النية، وخلصت لله، وإذا فعلها بدون نية تكون من المباحات: أعني أنواع الصناعات المباحة، واستخراج المعادن والزراعة والفلاحة، وغير ذلك.
وكلها أمور مطلوبة ومع صلاح النية تكون عبادة، ومع خلوها من ذلك تكون أموراً مباحة، وقد تكون فرض كفاية في بعض الأحيان إذا دعت الحاجة إليها، ووجب على ولي الأمر أن يلزم بذلك من هو أهل لها، فهي أمور لها شأنها، ولها أحوالها الدّاعية إليها، وتختلف بحسب النية، وبحسب الحاجة.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب العلم وأخلاق أهله ص 15 للشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله.(8/515)
المكتشفات العلمية للمسلمين
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الإنجازات العلمية في الإسلام؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أهمّ إنجاز للإسلام في حياة البشر أنّه أخرج النّاس من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد وليس القرآن الكريم كتاب اختراعات ومكتشفات حتى نسأل عن المكتشفات العلمية الدنيوية فيه، وإنما هو كتاب نزل نورا وهداية من الضلالة، وشفاء لما في الصّدور وفيه فتح المجال للبشر لعمارة الأرض والاستفادة مما فيها والنظر في آيات الله في خلقه، ولذلك اتجّه المسلمون إلى دراسة الكون وقدّموا إنجازات عظيمة للبشرية في الطبّ والفلك والرياضيات وعلوم الطبيعة وغيرها، وليس هذا المجال مناسبا لسرد دور العلماء المسلمين في المكتشفات والمخترعات والنظريات العلمية، فلذلك كتب خاصة مؤلفة في هذا المجال، ويمكنك أن تسأل المنصفين من الكفّار عمّا قدمه الخوارزمي في الرياضيات وابن الهيثم في الطبيعة وابن النفيس في الدورة الدموية والإدريسي في الجغرافيا وهكذا.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/516)
ما حكم تعلم العربي للغة الإنكليزية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم تعلم اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تعلمها وسيلة , فإذا كنت محتاجاً إليها كوسيلة في الدعوة إلى الله فقد يكون تعلمها واجباً , وإن لم تكن محتاجاً إليها فلا تشغل وقتك بها واشتغل بما هو أهم وأنفع , والناس يختلفون في حاجاتهم إلى تعلم اللغة الإنجليزية , وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود (قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب اليهود , وقال: (إني والله ما آمن يهودي على كتابي) فتعلمته , فلم يمر بي إلا نصف شهر إلا حذقته , فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كتب إليه) . أخرجه أبو داود , كتاب العلم , باب: رواية حديث أهل الكتاب , والإمام أحمد جـ 5 ص186, والحاكم في (المستدرك) جـ 1 ص75 , وقال (حديث صحيح) ووافقه الذهبي.)
فتعلم اللغة الإنجليزية وسيلة من الوسائل إن احتجت إليها تعلمتها وإن لم تحتج إليها فلا تضيّع وقتك فيها.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم الصفحة (120) .(8/517)
فائدة الإنترنت في نشر العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعتقد أن الإنترنت مفيدة للمجتمع المسلم في نشر المعلومات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الجواب ما ترين لا ما تسمعين
ولا أظنّ القضية تحتاج إلى سؤال، لكن السؤال ينبغي أن يكون عن السلبيات والمحرّمات وليس الإيجابيات لأنّها واضحة وملموسة ولكنّ كثرة المواقع المحتوية على شرّ عظيم هو الذي يدفع إلى التفكير بالوسائل اللازمة لتلافي شرورها وهذا واجب أهل الاختصاص من المسلمين في حقل شبكة الإنترنت.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/518)
حكم دراسة النظريات الغربية المنافية للشريعة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب في الجامعة وكل دراستي نظريات غربية تنافي تعاليم الشرع فما رأيكم إذا علمت أنني أنوي نقد مثل هذه النظريات ونفع الأمة الإسلامية في دراستي الحالية وبعد تخرجي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ السؤال السابق فأجاب بقوله: أقول هذا لا شك أنه من الجهاد في سبيل الله , أن يدرس الإنسان هذه النظريات المخالفة للإسلام حتى يرد عليها عن علم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: (أنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب) أخرجه البخاري , كتاب الزكاة (1395) , ومسلم , كتاب الإيمان (29) . فأخبره بحالهم كي يستعد لهم , وكذلك العلماء الذي درسوا هذه الأمور كشيخ الإسلام ابن تيمية درس من العلوم والنظريات الفلسفية وغيرها ما يستطيع أن يرد به على أصحابها.
فإذا كنت تتعلم هذه الأمور للرد , وأنت واثق أن لديك المقدرة على الرد بحيث لا تتأثر بها , بأن يكون لديك عبادة وتقوى فأرجو إن شاء الله تعالى أن يكون هذا خيراً لك ونفعاً للمسلمين , وأما إذا كنت ترد عليها بشيء غير معقول أو ليس لديك دليل , فلا تنتهج هذا الطريق وكذلك تعرف نفسك أنك لست على يقين كامل وثبات راسخ فأنا أشير عليك أن تدع الأمور لأنها خطيرة , ولا ينبغي للإنسان أن يعترض للبلاء مع الخوف منه.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (132) .(8/519)
تعلم اللغة الإنجليزية للدعوة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأي فضيلتكم في تعلم طالب العلم اللغة الإنجليزية لا سيما في سبيل استخدامها في الدعوة إلى الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ السؤال السابق فأجاب فضيلته بقوله:
رأينا في تعلم اللغة الإنجليزية أنها وسيلة لا شك , وتكون رديئة إذا كانت لأهداف رديئة , لكن الشيء الوحيد الذي يجب اجتنابه أن تُتخذ بديلاً عن اللغة العربية , فإن هذا لا يجوز , وقد سمعنا بعض السفهاء يتكلم بها بدلاً من اللغة العربية , حتى إن بعض السفهاء المغرمين الذين اعتبرهم أذناباً لغيرهم كانوا يعلمون أولادهم تحية غير المسلمين يعلمونهم أن يقولوا باي باي عند الوداع وما أشبه ذلك.
لأن إبدال اللغة العربية التي هي لغة القرآن وأشرف اللغات بهذه اللغة محرم وقد صح عن السلف النهي عن رطانة الأعاجم وهم من سوى العرب.
أما استعمالها وسيلة للدعوة فلا شك أنها واجب أحياناً , وأنا لم أتعلمها وأتمنى لو أني كنت تعلمتها ووجدت في بعض الأحيان أني أضطر إليها حتى المترجم لا يمكنه أن يعبر عما في قلبي تماماً.
وأذكر لكم قصة حدثت في مسجد المطار بجدة مع رجال التوعية الإسلامية نتحدث بعد صلاة الفجر عن مذهب التيجاني وأنه مذهب باطل وكفر بالإسلام وجعلت أتكلم بما أعلم عنه فجاءني رجل فقال: أريد أن تأذن أي أن أترجم بلغة الهوسا , فقلت لا مانع فترجم فدخل رجل مسرع فقال: هذا الرجل الذي يترجم عنك يمدح مذهب التيجانية فدهشت وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون , فلو كنت أعلم مثل هذه اللغة ما كنت أحتاج إلى مثل هؤلاء الذين يخدعون , فالحاصل أن معرفة لغة من تخاطب لا شك أنها مهمة في إيصال المعلومات قال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) إبراهيم / 4.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (143) .(8/520)
هل تترك السنة البعدية للمغرب من أجل الدرس؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قد شاع بين طلبة العلم أن المدرس حين يدرس بعد المغرب يترك المدرس والطلبة صلاة سنة المغرب، محتجين بأن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، فهل هذا المسلك صحيح أم خطأ؟ أفيدونا بارك الله فيكم، ونفع بكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسلك الصحيح لطالب العلم هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم العلماء من بعدهم إلى يومنا هذا: هديهم الدائم، وصفتهم التي لا يتحولون عنها: الحرص على النوافل، والتمسك بالفضائل، والالتزام بسنة خير المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، بل هم أولى من قام بذلك، وأوجب من أمر بذلك، لما هم فيه من انشغال بتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم فضائل الشريعة، فالجدير بطالب العلم أن يعمل بما علم، وأن يكون مقدم الناس إلى الطاعات والعبادات.
ولو رحنا نسوق شيئا من حرص العلماء على العبادات، وعلو همتهم في الالتزام بها لطال بنا المقام كثيرا.
وإذا كان الإمام أحمد رحمه الله قد أنكر على أحد طلبة العلم الذين باتوا عنده ولم يصل قيام الليل، فقال له: ما سمعت بصاحب حديث لا يقوم بالليل. " الآداب الشرعية " (2/169) فكيف إذن نسمع اليوم بطالب حديث لا يحافظ على الرواتب.
ولو جرى طالب العلم وراء فهمه الخاطئ لقول العلماء إن طلب العلم خير من نوافل العبادات، لما حافظ على عبادة، بل لَتَرَك الصيام المؤكد، وجف لسانه من ذكر الله، ولما سافر لعمرة ولا تعبد بمعروف للناس: كل ذلك بدعوى انشغاله بالحفظ والدرس والطلب.
فليحذر من كان هذا حاله من خطوات الشيطان، فهو – أعاذنا الله منه – حريص على إفساد قلب طالب العلم، وإشغاله بالمسائل، من غير عمل بها، ولا دعوة إليها.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله:
" ثم إني موصيك - يا طالب العلم - بإخلاص النية بطلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يُعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما " انتهى باختصار.
" اقتضاء العلم العمل " (ص/14)
بل كان بعض السلف لا يحب لطالب العلم أن يشتغل في طلبه إلا بالعلم الذي يحتاجه ليعمل به في يومه وليلته، وأما فضول العلم مما لا عمل فيه فكانوا ينهون عنه.
عن ابن وهب قال: قيل لمالك: ما تقول في طلب العلم؟
قال: حسن جميل، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي، فالزمه.
" سير أعلام النبلاء " (8/97)
وقد كان علماؤنا يدركون أن طلب العلم خير من نوافل العبادات، ولكنهم يقررون أيضا أنه لا تعارض بينهما، وأن طالب العلم إن لم يكن له نصيب وافر من نوافل العبادات، وخاصة السنن الرواتب، فذلك دليل على عدم إخلاصه، وعلى سوء فهمه، وتلبيس الشيطان عليه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله:
" هذه مسألة مختلف فيها: هل طلب العلم أفضل، أو صلاة النافلة والتلاوة والذكر؟
فأما من كان مخلصا لله في طلب العلم، وذهنه جيد، فالعلم أولى، ولكن مع حظ من صلاة وتعبد، فإن رأيته مجدا في طلب العلم، لا حظ له في القربات، فهذا كسلان مهين، وليس هو بصادق في حسن نيته.
وأما من كان طلبه الحديث والفقه غية ومحبة نفسانية، فالعبادة في حقه أفضل، بل ما بينهما أفعل تفضيل، وهذا تقسيم في الجملة، فقلَّ - والله - من رأيته مخلصا في طلب العلم.
دعنا من هذ كله فليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف من حيز طلب العلم، بل اصطلاح وطلب أسانيد عالية، وأخذ عن شيخ لا يعي، وتسميع لطفل يلعب ولا يفهم، أو لرضيع يبكي، أو لفقيه يتحدث مع حدث، أو آخر ينسخ.
وفاضلهم مشغول عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس، والقار إن كان له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء، سواء تصحف عليه الاسم، أو اختبط المتن، أو كان من الموضوعات.
فالعلم عن هؤلاء بمعزل، والعمل لا أكاد أراه، بل أرى أمورا سيئة. نسأل الله العفو " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (7/167)
ونحن نخشى والله أن يكون حال كثير من طلبة العلم في هذا الزمان، كحال أولئك الذين نعى عليهم الإمام الذهبي رحمه الله انشغالهم بصورة طلب العلم عن العمل بالمضمون.
ثم ننقل لك ههنا نصيحة مطولة لابن الحاج المالكي، يوصي فيها طالب العلم بالمحافظة على أوراد من العبادات، وينهاه عن تركها والانشغال بالعلم عنها، فهي حظه ونصيبه من علمه كله.
يقول رحمه الله:
" ينبغي له – أي لطالب العلم - أن لا يخلي نفسه من العبادات , وأن يكون له ورد من كل شيء منها، إذ إنها سبب الإعانة على ما أخذ بسبيله، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(واستعينوا بالغدوة والروحة , وشيء من الدلجة) – رواه البخاري (39) ، وانظر شرحه في جواب رقم: (70314) - وما يستعان به لا يترك.
وقد كان بنو إسرائيل إذا أراد أحدهم أن يتعلم العلم انقطع للعبادة أربعين سنة حتى يصفو بها قلبه , وينشرح صدره , فحينئذ يأخذ في تعلم العلم , وذلك لطول أعمارهم , وأما هذه الأمة فقد قال مالك رحمه الله: أدركت الناس , وهم يتعلمون العلم إلى أن يصل أحدهم أربعين سنة فينقطع للعبادة , ويطوي الفراش انتهى.
ومعنى طي الفراش مثل ما كان عليه الصلاة والسلام يفعل في العشر الأواخر من شهر رمضان , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوي فراشه , ويشد مئزره , ويوقظ أهله , ويقوم الليل كله.
وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج في أول طلبه العلم أن يمزجه بالتعبد , إذ إنه ليس ثم عمر طويل في الغالب في هذا الزمان حتى يترك له برهة منه، فيخشى عليه أن يموت وهو في السبب قبل وصوله للمقصود.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن يأجركم الله عليه حتى تعملوا.
ولأن العلم كالشجرة , والتعبد كالثمرة , فإذا كانت الشجرة لا ثمر لها فليس لها فائدة كلية , وإن كانت حسنة المنظر ناعمة , وقد ينتفع بها للظل وغيره , ولكن الذي عليه المعول قد عدم منها.
وليحذر أن يتكلف من العمل ما عليه فيه مشقة , أو يخل باشتغاله بالعلم , إذ أن اشتغاله بالعلم أفضل كما تقدم , وهذا باب كثيرا ما يدخل منه الشيطان على المشتغلين بالعلم؛ إذا عجز عن تركهم له، فيأمرهم بكثرة الأوراد حتى ينقص اشتغالهم ; لأن العلم هو العدة التي يُتقَّى بها , ويُحذر منه بها، فإذا عجز عن الترك رجع إلى باب النقص , وهو باب قد يغمض على كثير من طلبة العلم ; لأنه باب خير , وعادة الشيطان لا يأمر بخير، فيلتبس الأمر على الطالب فيخل بحاله ...
وإذا كان ذلك كذلك فينبغي له أن يشد يده على مداومته على فعل السنن والرواتب وما كان منها تبعا للفرض قبله أو بعده.
وهذا كله بعد تحصيل الفرائض , وكذلك قضاء الفوائت إن كانت عليه ; لأنه لا يفعل السنن وعليه شيء من ذلك.
وكذلك لا يخلي نفسه من ركوع الضحى، لقول عائشة رضي الله عنها: لو نشر لي أبواي ما تركتها , ومعناه لو أحييا لي وقاما من قبريهما ما اشتغلت بهما عنها.
وكذلك يحافظ على قيام الليل , ولا يخلي نفسه منه , وهو خمس تسليمات غير الوتر , ويقرأ فيها بما خف من القرآن يكون له في تلك الركعات حزب معلوم، من جزئين إلى ثلاثة ; لأن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل كما جاء في الحديث، وفي قيام الليل من الفوائد جملة , فلا ينبغي لطالب العلم أن يفوته منها شيء
ولعلك تقول: إن طالب العلم إن فعل ما ذكرتموه تعطلت عليه وظائفه من الدرس والمطالعة والبحث؟
فالجواب: أن نفحة من هذه النفحات تعود على طالب العلم بالبركات , والأنوار , والتحف ما قد يعجز الواصف عن وصفه , وببركة ذلك يحصل له أضعاف ذلك فيما بعد , مع أن هذا أمر عزيز قل أن يقع إلا للمعتني به , والعلم والعمل إنما هما وسيلتان لمثل هذه النفحات.
وينبغي له أن يحافظ على ورد الصوم , ولا ينبغي له أن يتعلل بأنه مشغو عنه بطلب العلم , إذ صيام ثلاثة أيام في الشهر ليس فيها كبير مشقة في الغالب، سيما على ما كان يصومها مالك رحمه الله , فإنه كان يفطر تسعة أيام , ويصوم عاشرها , وهذا كما تقدم في صلاة الليل فإن وجد النشاط والقوة على أكثر من ذلك بادر إليه مع عدم وقوع الخلل فيما هو بسبيله.
فإن ادعى أنه يعجز عن صوم ثلاثة أيام في الشهر مع طلب العلم فينبغي لهذا أن يترك طلب العلم في تلك الثلاثة , ويصومها , لئلا تفوته هذه الفضيلة العظمى.
ثم كذلك يكون حاله في جميع الأعمال لا يخلي نفسه من شيء منها كما تقدم، ويكون الغالب عليه اشتغاله بالدرس , والمطالعة , والتفهم , والبحث مع الإخوان الذين يرتجى النفع بهم , ولقاء مشايخ العلم الذين جعلهم الله سببا للفتح والخير , ويواظب على ذلك " انتهى باختصار.
" المدخل " (2/132-139)
وهذا كلام غاية في النفاسة، ما أشد حاجتنا للعمل به.
وبناء عليه: فالنصيحة لهؤلاء أن يبدؤوا أولا بصلاة سنة المغرب، قبل اشتغالهم بالدرس، ثم ينتقل الجميع إلى الدرس، فيجمعوا بين الخيرين، ولا يفوتهم، إن شاء الله، شيء مما هم بسبيله من طلب العلم، ويكون أرفق بمن بعد منزله، أو صلى في مسجد آخر، أن يدرك درس العلم من أوله.
والله المستعان.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/521)
كيف لطالب علم أن يقوم بعمل جدول لتنظيم وقته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكنكم أن تنصحوني، كيف لطالب علم أن يقوم بعمل جدول لتنظيم وقته؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
طلب العلم الشرعي منزلته عظيمة في الإسلام؛ فإن الله تبارك وتعالى أثنى على العلم وأهله، فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) الزمر/ 9، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/ 28.
وعن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قال: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيباً يَقُولُ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) .
رواه البخاري (71) ومسلم (1037) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِى الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) .
رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وابن ماجه (223) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (1 / 17) .
فالعلم الشرعي يحصل به الإنسان خيري الدنيا، والآخرة , وهو مقدَّم على سائر العلوم، لا سيما إذا خلصت فيه النية.
وانظر جواب السؤال رقم: (10471) .
ثانياً:
إنَّ أولى ما صُرفت فيه الأوقات في بداية الطلب: حفظ كتاب الله عز وجل؛ فهو أولى ما تنافس به المتنافسون؛ واجتهد فيه المجتهدون , وسعى إليه طلبة العلم.
وانظر جواب السؤال رقم (14035) للوقوف على مزايا حفظ كتاب الله.
وانظر جوابي السؤالين: (7966) و (11561) للوقوف على قواعد حفظ كتاب الله.
ثالثاً:
من الأمور التي تقرب الطريق لطالب العلم: أن يكثر من المشايخ والعلماء، الذين يتلقى عليهم، فأقصر طريق لطلب العلم، وأحسنه لنيل المبتغى: أن ييسر الله له شيخاً، أو عالماً من علماء السنَّة يطلب على يده العلم , وانظر جواب السؤال رقم: (22037) .
رابعاً:
أما تنظيم الوقت فهو كالآتي:
أ. تحديد مواعيد الأشياء الثابتة في كل يوم، فمثلاً: تحديد موعد النوم، وموعد الوجبات، موعد الزيارات، موعد الجلسات، موعد المذاكرة.
ب. ومن الأمور التي تساعد على استغلال الوقت والمحافظة عليه: قتل مضيعات الأوقات في مهدها، ككثرة النوم , وكثرة الطعام والشراب , والاجتماعات على غير فائدة شرعية، وهي ما يسمَّى بفضول الكلام , وتجنب مضيعات الوقت من وسائل اللهو، من البرامج، والمسلسلات، والجرائد، والمجلات، والألعاب، والمباريات، والمسابقات.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
ينبغي لطالب العلم أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون على وجوه:
الوجه الأول: أن يدَع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
الوجه الثاني: أن يجلس إلى أصدقائه، ويتحدث بحديث لغو ليس فيه فائدة.
الوجه الثالث: وهو أضرُّها على طالب العلم: ألا يكون له همٌّ إلا تتبع أقوال الناس، وما قيل، وما قال، وما حصل، وما يحصل، في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ) - رواه الترمذي (2318) وصححه الألباني -.
والاشتغال بالقيل والقال، وكثرة السؤال: مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض، إذا دبَّ في الإنسان - نسأل الله العافية -: صار أكبر همِّه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء، من أجل اهتمامه بهذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم، بحجة أن هذا من باب الانتصار للحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان، أما إذا جاءك الخبر بدون أن تلقفه، وبدون أن تطلبه: فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، ولا تكون أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم، ويفسد عليه أمره، ويفتح في الأمة باب الحزبية، فتتفرق الأمَّة.
" كتاب العلم " (ص 143، 144) .
ت. ومن الأمور الضارة بمسألة تنظيم الوقت واستغلاله: قضية التسويف، والتسويف داء كبير يحرم من خيرات كثيرة، دنيوية، وأخروية.
ث. أعظم الربح في الدنيا: أن تشغل نفسك في كل وقت بما هو أولى بها، وأنفع لها في معادها، كما قال ابن القيم رحمه الله: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت، بما هو مقتضى ذلك الوقت، ووظيفته.
" مدارج السالكين " (1 / 88) .
ج. استثمار الوقت ما استطاع الإنسان لذلك سبيلاً , وعدم تضييع لحظة في غير طاعة، أو قربة , ولقد ضرب سلفنا رحمهم الله تعالى أمثلة عجيبة في الاستفادة من أوقاتهم، فهذا أبو نعيم الأصفهاني المتوفى سنة 430هـ كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قبيل الظهر على الشيخ، فإذا قام إلى داره ربما يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ، وهو لا يضجر.
وكان سليم الرازي شافعيّاً، فنزل يوماً إلى داره ورجع، فقال: لقد قرأت جزءاً في طريقي.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة الخطيب البغدادي: كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.
وكان ابن عساكر رحمه الله - كما يقول عنه ابنه -: لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع، والتسمية، حتى في نزهته وخلواته، يصطحب معه كتب العلم، والمصحف يقرأ، ويحفظ.
وكانوا يحرصون على استغلال الوقت في عمل أكثرِ مِن شيءٍ في الوقت نفسه، فقد كان بعضهم إذا حفي عليه القلم واحتاج إلى بريه يحرك شفتيه بذكر الله وهو يصلح القلم، أو يردد مسائل يحفظها لئلا يمضي عليه الزمان وهو فارغ.
وكان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة، وتعطل بصري عن المطالعة: أعملت فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وأعرف من أصابه مرض من صداع، وحمَّى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة: قرأ فيها، فإذا غلب: وضعه.
ح. وأما الجدول، وتنظيم الوقت: فهو كالآتي:
1. يبتدئ برنامج طالب العلم من الفجر؛ وهو وقت الحفظ – حفظ القرآن , الأحاديث , المتون -؛ فأفضل وقت للحفظ - لا سيما القرآن -: وقت السَّحَر، وما بعد الفجر، فالذهن يكون صافياً، وأقرب إلى سهولة الحفظ , فيصلي طالب العلم في المسجد، ويبقى إلى الشروق، أو ما بعد ذلك، ويحفظ، ويراجع محفوظه، فإن انتهى من ذلك: ابتدأ بحفظ المتون العلمية - متون الأحاديث، والفقه، والأصول، واللغة -.
2. فإن كان لديه عمل، أو دراسة: انطلق لها، وإلا تابع في الصباح الحفظ، والمراجعة , إلى الظهر، ثم القيلولة، وراحة الجسد.
3. وأما العصر فيجعله للمطالعة، والقراءة، أو المدارسة، أو حضور دروس العلم، أو مراجعة المحفوظ.
4. وبعد المغرب يُجعل لحضور مجالس العلم , وبعد العشاء: لمراجعة ما تم تقييده من العلم، أو يجعله للمطالعة.
وليعلم أن ما ذكرناه هنا هو من باب الترتيب الإجمالي للوقت، وإلا فإن مرجع الترتيب في الوقت يرجع للطالب بحسب ظروفه، فالطالب غير العامل، والمتزوج غير الأعزب، والمتفرغ غير المشغول، وهكذا، والمهم في ترتيب الوقت أن تكون ثمة ساعات في اليوم والليلة يلزم فيها نفسه بالحفظ، والقراءة، فالنفس تطلب الراحة، وتحب الكسل، فينبغي له أن يربيها على الجد، والنشاط، وأن يعودها على التنظيم، والترتيب، والإلزام في الطاعات، وإلا ضاع يومه، ثم ضاع عمره.
ولكيفية طلب العلم: انظر جواب السؤال رقم: (20191) .
وللوقوف على آداب طالب العلم: انظر جواب السؤال رقم: (10324) .
وانظر لمحاضرة " كيف ينظم المسلم وقته " مكتوبة هنا:
http://knol.google.com/k/-/-/2344rncejpadn/47#
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/522)
لديه الرغبة في دراسة الشريعة، ومتخوف من مستقبلها الوظيفي
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا الآن على مشارف اختبارات الثانوية العامة، وحقيقة: أني محتار جدّاً في تخصص دراستي الجامعية، أنا لديَّ الرغبة جدّاً في دراسة العلوم الشرعية، وأحبها، وأستمتع بها، وأطمح أن أكون عالماً، مفتياً، خطيباً، حصولي على شهادة الدكتوراة، لكني أواجه ردود أفعال كثيرة، منهم: من يقول إذا تخرجت أين تعمل؟ مدرس مثلاً؟ مرتبها قليل، اذهب إلى كلية الإدارة، أو الهندسة للحصول على مقعد ممتاز في العمل، ومِن ثمَّ خذ شهادة الشريعة انتساباً، مثل عدة مشايخ ... وإلخ من هذا الكلام، وبعضهم يقول: اذهب إلى الشريعة، الأمة محتاجة إلى علماء، ومفتين، علماً أن أبي مهندس، وأمي مدرِّسة رياضيات، واثنين من إخواني مهندسين، واثنين من أخواني - أيضاً - من كلية الإدارة الصناعية، ووضعنا المادي ممتاز - ولله الحمد -، لكن أخاف مستقبلاً إذا تخرجت من الشريعة أكون أقلَّ منهم ماديّاً، فلذلك أود أن تنصحني؛ لأنني بين أمرين مهمين في حياتي، وشكراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يكتب لك النجاح والتوفيق في دراستك، واختباراتك وأمورك كلها.
أولاً:
لاشك أن أعظم ما صرفت فيه الأوقات , وبذلت فيه الأموال: طلب العلم الشرعي؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يثن في شيء من كتابه كما أثنى على العلم، وأهله، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) الزمر/ 9، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/ 28.
قال ابن كثير رحمه الله:
أي: إنما يخشاه حق خشيته: العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم، القدير، العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى , كلما كانت المعرفة به أتمّ، والعلم به أكمل: كانت الخشية له أعظم، وأكثر.
" تفسير ابن كثير " (6 / 544) .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) رواه البخاري (71) ومسلم (1037) .
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَيْتُكَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: وَلاَ جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وابن ماجه (223) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (1/17) .
قال ابن القيم رحمه الله في وصف العلم الشرعي -:
وهو الحاكم، المفرق بين الشك واليقين , والغي والرشاد , والهدى والضلال , وبه يُعرف الله، ويُعبد، ويُذكر، ويُوحد، ويُحمد، ويُمجد , وبه اهتدى إليه السالكون , ومن طريقه وصل إليه الواصلون , ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام , وبه توصل الأرحام , وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب , وهو إمام، والعمل مأموم , وهو قائد، والعمل تابع , وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة , والكاشف عن الشبهة , والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه , والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه؛ مذاكرته تسبيح , والبحث عنه جهاد , وطلبه قُربة , وبذله صدة , ومدارسته تعدل بالصيام والقيام , والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: " الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين , وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " , وروِّينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: " طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ".
" مدارج السالكين " (2 / 469، 470) .
فلا ريب أن العلم الشرعي هو أفضل العلوم وأوْلاها , وبه يتحصل الإنسان خير الدنيا والآخرة , وهو مقدَّم على سائر العلوم، لا سيما إذا خلصت فيه نية الإنسان , وكان له رغبة وهمَّة في تحصيله وطلبه.
وانظر جواب السؤال رقم: (10471) .
ثانياً:
حثَّ الإسلام على طلب الكفاية في العلوم الدنيوية , وجعل طلبها واجباً كفائيّاً , وخصوصاً إذا احتاجت الأمة لتلك العلوم , كالعلوم العصرية المتقدمة.
فمَن تعلم العلوم الدنيوية ونيته أن يُصلح للمسلمين أمورَهم في معاشهم , ورفع مكانتهم، والاكتفاء عن الأمم الكافرة: فلا شك أن أجره عظيم، ويثاب على هذا العلم الذي يتعلمه , مع بيان أن الجمع بين العلوم الدينية والدنيوية أمر مقدور عليه , ولا يتنافيان , وقد كان كثير من العلماء السابقين يجمعون بين تخصصات مختلفة، فابن قيم الجوزية رحمه الله كان مبرزاً في العلوم الشرعية، ولا تخفى مكانته فيه , وكذلك كان مبرزاً في علوم الطب , ولا أدل على ذلك من كتابه " الطب النبوي " – وهو الجزء الرابع من كتابه " زاد المعاد " -، وهكذا الحال مع علماء آخرين.
وانظر جواب السؤال رقم: (2999) .
ثالثاً:
يجب أن يُعلم أنه لا بد للمسلم من أن يجرد نيته عن الحظوظ الدنيوية في طلبه للعلم الشرعي , وأن يكون هدفه الأجر والثواب من الله , فهذا أدعى لبقاء العلم، وانتفاع صاحبه به , وقبول الناس له، ولعلمه , فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ , وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ) رواه ابن ماجه (257) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح ابن ماجه ".
وعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود (3664) وابن ماجه (252) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
عَرفها: يَعْنِي: رِيحَهَا.
وطلب العلم الشرعي لا يتوقف على الدراسة النظامية في الكليات الشرعية، غير أن الحصول على تلك الشهادة صار مهماً حتى يتمكن طالب العلم من التدريس والإمامة والخطابة ... ونفع الناس.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في بيان آداب طلب العلم -:
"الأمر الأول: إخلاص النية لله عز وجل: بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله، والدار الآخرة ...
وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة، أو رتبة: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) - يعني: ريحها -، وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا، ولكن لأن النظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته، فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليماً، أو إدارة، أو نحوها: فهذه نية سليمة، لا تضره شيئاً؛ لأنها نية حق" انتهى باختصار.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (26 / 65، 66) ، و " كتاب العلم " (ص 21) .
رابعاً:
من المقرر في كتاب الله تعالى , وفي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم: أن من اتقى الله تعالى: كفاه الله ما أهمه، وأشغله , قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب) الطلاق/ 2، 3.
وقد تكفل الله تعالى برزق البلاد التي يتقي أهلها ربهم تعالى، فكيف بآحادهم، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) الأعراف/ 96، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) المائدة/ 66.
فالشاهد: أن أهل الخير والتقوى والصلاح: يكفيهم الله سبحانه وتعالى أمر دنياهم، فلا تخش - أخي السائل - من المستقبل , وتأكد أن الله سيكفيك أمر دنياك، وآخرتك، إن كانت نيتك في طلب العلم لله.
ولو ابتلي المؤمن بنقص في ماله، أو دنياه: فهو يحتسب ذلك لجنَّة عرضها السموات والأرض، أعدها الله للمتقين , ولتعلم أن المقياس في السعادة، والطمأنينة، والراحة، ليس في كثرة الأموال، أو الجاه، وإنما في طاعة الله تعالى , فخير الأعمال التي يندب الاشتغال لها: تعليم الناس الخير , فمعلِّم الناس الخير يستغفر له مَن في السموات، ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء , وهم أهل الخشية والتقوى , ولهم المنزلة والجاه العظيم في الدنيا والآخرة.
فالنصيحة لك ما دامت همتك، ومحبتك، ورغبتك أن تطلب العلم الشرعي: أن تسعى في تحصيل ذلك , ولا بأس أن تطلب الشهادة مع ذلك , ولكن مع تجريد النية والإخلاص لله تعالى في طلب العلم نفسه , وأن تكون هذه الشهادة عندك وسيلة لنيل العلم، وتعليم الناس، والدعوة إلى الله تعالى , ووسيلة للعمل الذي تفرضه كثير من القوانين لكثير من الوظائف، ولا تخف من المستقبل من قلة مال، أو دنيا، أو عدم إيجاد وظيفة؛ فالله سبحانه سيكفيك هموم ذلك كله , فمن صدق الله صدق الله معه.
وبما أن أهلك من المثقفين، والعقلاء: فيمكنك إقناعهم بدراسة الشريعة بسهولة، وذلك بإخبارهم
أن هذه رغبتك، وهم يعلمون أن دراسة ما لا رغبة فيه: فاشلة، ولا تؤتي ثمارها، وأن دراسة ما فيه رغبة: فيها النجاح، والإبداع، والراحة.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعطيك ما تتمنى، وأن يجعلك من أهل العلم، وطلبته.
وانظر – للأهمية – جواب السؤال رقم: (110419) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/523)
ما هو العمر المناسب الذي يتم فيه تعليم الأولاد الثقافة الجنسية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو العمر المناسب الذي يتم فيه تزويد الأبناء بالثقافة الجنسية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا بد أن تعلم أخي السائل أن الأولاد مسئولية في عنق الوالدين، كما جاء في الحديث عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) .
رواه البخاري (853) - واللفظ له - ومسلم (1829) .
ومن تلك المسئولية الملقاة على عاتق الأهل تجاه أولادهم: منعهم من كل يسبب إفسادهم، أو يؤثر في أخلاقهم سلباً.
ثانياً:
من المعلوم أن تدريس ما يسمَّى بـ " الثقافة الجنسية " عند الغرب أصبح هوساً وجنوناً، وصار شغلا شاغلا لهم، فخصصت له الحصص في المدارس؛ والبرامج في التلفاز , وعقدت له الندوات، والمؤتمرات؛ وللأسف أنه تأثر بهذه الثقافة الكثير من أبناء المسلمين , وخصوصاً من اغتر بثقافتهم وحضارتهم.
ولا شك أن تدريس مسائل الجنس، وما يتعلق بها، للأبناء في مراحل مبكرة من عمرهم: فيه مفاسد كثيرة.
وقد تقدم الحديث عن ذلك , فانظر جواب السؤال رقم: (113970) .
ثالثاً:
ليُعلم أن تعليم الأولاد – ذكوراً وإناثاً - الآداب الإسلامية المتعلقة بستر العورة , والنظر، والاستئذان: أنه يبتدئ ذلك معهم من الصغر، وعند التمييز، قبل البلوغ بمرحلة، وقد جاءت الأدلة من الوحي المطهر صريحة بهذا، ومنه:
1. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) النور/ 58.
قال ابن كثير - رحمه الله -:
فأمر الله تعالى المؤمنينَ أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم، وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحُلُم منهم في ثلاثة أحوال: الأول: من قبْل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرُشهم.
(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.
(وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) ؛ لأنه وقت النوم.
فيُؤمَرُ الخدمُ، والأطفال: ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال؛ لمَا يُخشى من أن يكون الرجل على أهله، ونحو ذلك من الأعمال.
" تفسير ابن كثير " (6 / 82) .
وأما عند بلوغ الأطفال: فإن الاستئذان يكون في كل الأوقات، كما قال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) النور/ 59.
2. وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) .
رواه أبو داود (495) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي – رحمه الله -:
قال المناوي في " فتح القدير شرح الجامع الصغير ": أي: فرِّقوا بين أولادكم في مضاجعهم التي ينامون فيها إذا بلغوا عشراً؛ حذراً من غوائل الشهوة، وإن كن أخوات.
وقال الطيبي: جمع بين الأمر بالصلاة، والفرق بينهم في المضاجع في الطفولية؛ تأديباً لهم، ومحافظة لأمر الله كله , وتعليماً لهم , والمعاشرة بين الخلق , وأن لا يقفوا مواقف التهم، فيجتنبوا المحارم.
" عون المعبود " (2 / 115) .
فهذه وصايا وإرشادات من الوحي المطهر فيما يتعلق بالعورات، وإثارة الشهوات، وهو – كما رأينا – يبدأ في سن العاشرة، وهو سن التمييز عند أكثر الأطفال.
وعند قرب البلوغ يعلَّم الأولاد علامات البلوغ، والصفات التي تفرِّق بين الرجال والنساء، وأنواع السوائل التي تَخرج من القبُل لدى الجنسين، ومثله أحكام الوضوء، والغسل، على أن تراعى الألفاظ المستعملة في التعليم، وعلى أن يكون ذلك حسب الحاجة لذلك.
وانظر - في بيان علامات البلوغ - جوابي السؤالين: (70425) و (20475) .
وثمة أمران مهمان غاية، يبدآن في سن مبكرة جدّاً – حوالي السنة الثالثة -، ولهما تعلق أصيل بالثقافة الجنسية، وهما:
1. ضرورة أن يفرِّق الطفل والطفلة بين الذكورة والأنوثة، والخلط بينهما في تلك السن المبكرة من شأنه أن يحدث خللاً وفساداً في التصور، والصفات، والأفعال، لدى الجنسين، لذا كان من الضروري إفهام الطفل أنه لا يلبس ملابس أخته، ولا يضع الحلق في أذنه، ولا يطوق معصمه بسوار؛ لأن هذا للإناث، لا للذكور، وهكذا يقال للبنت بالنسبة لأفعال، وصفات أخيها الذكَر.
2. تعليم الأطفال خصوصية العورة، وأنها مما ينبغي أن لا تُكشف أمام أحد، فتعليمهم هذا، وتربيتهم عليه: من شأنه يربي فيهم خلق العفاف، والحياء، وأن يمنع المعتدين الشاذين من الاعتداء عليهم.
رابعاً:
أما مسألة الثقافة الجنسية المتعلقة بالجماع، أو بعموم ما يكون بين الزوجين: فهذه تكون عند الحاجة إليها، كقرب زواجه – مثلاً -، أو نضجه بحيث يعقل مسائل العلم، كأحكام الزنا، وما يشبهه، مما له تعلق بالجماع، والعورات.
وليعلم أن ما يحتاج إليه من ذلك هو ـ في أصله ـ أمر فطري؛ وما يحتاج إلى التنبيه عليه ينبغي أن يصل إلى مسامع الأولاد تدريجيّاً، مع مراحل نموهم، وذلك من خلال دروس الفقه , ومجالس العلم؛ وحصص المدرسة؛ مع لزوم التحفظ في العبارة، ومراعاة السن المناسبة لطرح الموضوع , والتحذير من مظاهر الانحلال الخلقي عند الكفار , ومقابلة ذلك بذِكر محاسن الإسلام من حثه على الستر، والحياء، وحفظ الفروج عن الحرام.
وننصح بالاطلاع على كتاب: " يا بني لقد أصبحت رجلاً " للشيخ محمد بن عبد الله الدويش، ففيه بيان طرق المعالجة الشرعية للشهوة عند الأولاد.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/524)
القراءة على الشيوخ
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول بعض الناس: إن قراءة الكتب وحدها لا تنفع، ولابد أن تقرأ على شيخ، فهل هذا صحيح أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"نعم. إذا كان الشخص عامياً، وليس عنده أدوات العلم، ولم يتعلم ما يؤهله لمطالعة الكتب فلن يستفيد الفائدة المطلوبة، قد يستفيد إذا كان يفهم العربية، وإذا كان بلغته قد يستفيد إذا كان يفهم، كما يستفيد من كلام الله إذا قرأ القرآن، يستفيد باللغة التي يفهمها، لكنه لا يستفيد الفائدة الكاملة العظيمة إلا إذا تعلم على أهل العلم المعروفين بالخير، والعقيدة الصالحة، والطريقة السلفية التي يتبعون فيها السلف الصالح، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان.
هذا العالِم يُبصِّرك ويرشدك إلى ما يخفى عليك من كتاب الله ومن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويعينك على الفهم الصواب، أما وحدك فقد تخطئ كثيراً، ولا سيما إذا كنت لم تتعلم الأصول التي تهتدي بها إلى فهم النصوص، ولم تجالس أهل العلم، أما من جالس العلماء وحضر حلقات العلم واستفاد فإنه يمكنه أن يطالع ويستفيد، فنوصيك أن تجمع بين هذا وهذا، تطالع الكتب التي تفهمها، وتتدبر القرآن، وتعتني بقراءة القرآن بالتدبر والتعقل، وتسأل أهل العلم عما أشكل عليك، ولا تثق بنفسك، بل عليك أن تسأل أهل العلم المعروفين بالاستقامة والفضل والديانة والعبادة وصحة المعتقد، هذا هو الذي ينبغي لك" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/495) .
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
فتاوى نور على الدرب(8/525)
التزام ابن أخيه بحفظ القرآن أثَّر سلباً على تحصيله الدراسي فكيف يصنع أهله؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ي يختص بحفظ القرآن، حيث يبلغ ابن أخي من العمر 12 عاماً , وبدأ في الحفظ منذ حوالي 4 أشهر، وهو يذهب للمدرسة، ثم يذهب للمسجد لمدة ساعتين ونصف من يوم الاثنين إلى الجمعة، والمشكلة التي نواجهها الآن أن مستواه بدأ يتأثر في المدرسة نتيجة لمقدار العمل، والضغط الذي يتعرض له , وهو يحاول أن يقوم بأداء الفروض المدرسية، وحفظ القرآن , وقد تدنت درجاته , وهو الآن تحت المستوى المطلوب الأمر الذي يقلقنا؛ لأن أمامه اختبارات هامة في السنة المقبلة ستؤثر على تحديد الكلية التي سيلتحق بها، فماذا نفعل في هذا الموقف؟ وقد قيل لنا إنه من الخطأ أن نقوم بإيقاف حفظه للقرآن، وعلى الجانب الآخر فإن تعليمه هام بالنسبة له حتى يحصل على درجات عالية ويلتحق بجامعة جيدة , ونحن نريد أن نتخذ أفضل القرارات، لكننا في حيرة من أمرنا، فهل بوسعكم - رجاء - تقديم النصح في هذا الشأن، وتوضيح حكم الإسلام في هذه المواقف؟ . وشكراً، ونتطلع لتلقى رد منكم، والله الحافظ.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
تربية الأبناء منذ صغرهم على الدِّين، وتحفيظهم كتاب الله، وتعليمهم سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم: من الواجبات التي افترضها الله على الوالدين، وهو من محاسن أفعال الأهل مع أولادهم، ومما ينتفعون بها دنيا، وأخرى، إن شاء الله.
فنشكر أبوي هذا الطفل، ومن يشجعه على حفظ كتاب الله، وتعلمه، ونسأل الله أن يكتب لهم الأجر يوم القيامة، فما أعظم أن يلقى الإنسان ربَّه وفي صحيفته أعمال خير دلَّ عليها، أو ساهم في وجودها.
ومما لا شك فيه: أن مقياس التفاضل عند الله هو بما يكتسبه المسلم من تقوى، وإيمان، وأعمال صالحة، وقد اختصَّ الله تعالى حافظ القرآن بخصائص عظيمة، وميزات رفيعة، في الدنيا، والآخرة، وللوقوف على بعضٍ من تلك الميزات: يُنظر جواب السؤال رقم: (1403) .
ثانياً:
المطلوب من المسلم أن يوازن بين أمر الدنيا، وأمر الآخرة، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص/77.
قال الحسن وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك.
انظر "تفسير القرطبي" (13/314) .
وقال ابن كثير رحمه الله:
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القرُبات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة.
(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: مما أباح الله فيها من المآكل، والمشارب، والملابس، والمساكن، والمناكح، فإن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، ولزَوْرك عليك حقّاً، فآتِ كل ذي حقٍّ حقَّه.
"تفسير ابن كثير" (6/253، 254) .
فالمسلم يعمل لدنياه، كما يعمل لآخرته , وإن كان العمل للآخرة مقدَّماً عند التعارض؛ لأن الحياة الأبدية، والخلود، ليس في الدنيا، بل في الآخرة، إما في جنة، وإما في نار.
ثالثاً:
جَمْعُ المسلمِ بين حفظ كتاب الله، وبين مراجعة الدروس المدرسية: أمرٌ ليس صعب المنال، ولكن يحتاج إلى ترتيب الوقت، وتنظيمه؛ فيجعل وقتاً للحفظ، ومراجعة القرآن , ووقتاً لمراجعة الدروس المدرسية , ووقتاً للراحة , ووقتاً للترويح عن النفس، ويكون ذلك بعمل جدول للوقت، وتنظيمٍ لساعات يومه، مع مراعاة عدم الضغط، وعدم التشديد عليه.
كما ينبغي مراعاة مستوى الحفظ، والذكاء، لدى الطفل، والشاب، فلا يُحمَّل أحدٌ فوق طاقته، وأكثر من وُسعه؛ ولعل هذا يكون السبب في تقصير ذلك الشاب في جانب، دون الآخر؛ فإذا كان في مقدوره حفظ صفحة من القرآن يوميّاً: فلا يحمَّل حفظ وجهين، وهكذا؛ حتى يتسنَّى له وقت للواجبات المدرسية , وكذلك الأمر بالنسبة للواجبات المدرسة، فتحميله فوق طاقته يعرِّضه للضغط، والتشويش.
والذي نراه أن هذا الطالب يقلل القدر الذي يحفظه من القرآن الكريم يومياً، ويقلل المدة التي يبقاها في المسجد بسبب ذلك، حتى يحصل الجمع بين حفظ القرآن الكريم ومراجعته، وبين مذاكرة الدروس المدرسية.
ولا يمكننا نصحكم بإلغاء حفظ القرآن الكريم من أجل الدروس المدرسية.
فالنصيحة لوالدي الطفل:
أن يَعملوا على تنظيم وقت هذا الغلام الشاب؛ وعليهم الجمع، والموازنة، بين حفظ القرآن وتحسين أدائه المدرسي، من غير إخلال بواحدٍ منهما.
والله هو الموفق، والمعين , ومنه يستمد الحول، والقوة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/526)
دراسة اللغة الإنجليزية وفيها قصص الإلحاد والجنس
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس اللغة الإنجليزية، مستوى متقدم لأتأهل لتدريسها عندما أنتقل إلى أي بلد إسلامي. أنا وزوجتي مسلمون جدد ونريد أن ننتقل إلى مكة لدراسة العربية. في الكتب التي أدرسها للتحضير لامتحان اللغة الإنجليزية هناك بعض القصص والروايات والكتب التي تحتوي على الشرك والإلحاد والوصف الجنسي البذيء وأنا بقراءتي لهذه الكتب أحس أني أضيع وقتي ولكن كما قلت فأنا أريد أن أتأهل لتدريس اللغة الإنجليزية فقط وأتحصل على فرص عمل أفضل فما رأيكم؟ هل أترك هذه الدراسة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا حرج في دراسة اللغة الإنجليزية للتأهل لتدريسها في بلاد المسلمين.
وإذا اشتملت مواد الدراسة على قصص وروايات تتضمن الإلحاد أو الوصف الجنسي فلا يضرك قراءتها مع كراهة قلبك لما فيها، ولا يضرك حكاية مضمونها في الامتحان؛ لأن ناقل الكفر ليس بكافر، بشرط ألا يتضمن كلامك إقرارا أو ثناء على ما فيها، وإنما تحكي الأمر عن غيرك.
ويشترط لذلك أيضاً: أن لا تتأثر بما تقرأه، فإن وجدت أنك تميل معه فالواجب عليك الكف عن هذا فوراً، و (مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لله عَوَّضَهُ اللَّه خَيْرًا مِنْه) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ونسأل الله تعالى لكم التوفيق والسداد
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/527)
هل تؤخر الزواج لتتم حفظ القرآن وتسعى في طلب العلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لي رفض أي أحد يتقدم لخطبتي حتى ييسر الله لي الانتهاء من حفظ القرآن الكريم وطلب العلم الواجب فقط. فأنا لا أضمن أن من يتقدم لي يكون تقيا نقيا يعلمني ما أجهله من أمر ديني وإن كان كذلك فربما لا يتسع وقته لتعليمي. فبالإضافة إلى أن الزواج يشغل كثيرا من الوقت أنا أخشى على نفسي أن أضيع ولا تقوم لي في التزامي قائمة إذا تزوجت على هذه الحال من الجهل.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المبادرة بالزواج أمر مطلوب شرعاً لمن استطاع، ويتأكد هذا الأمر في حق الشباب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) رواه البخاري (1905) ومسلم (1400) .
قال النووي:
"وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الْأَمْر بِالنِّكَاحِ لِمَنْ اِسْتَطَاعَهُ وَتَاقَتْ إِلَيْهِ نَفْسه , وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ"
انتهى.
وقال الشيخ ابن باز:
" نصيحتي لجميع الشباب والفتيات البدار بالزواج والمسارعة إليه إذا تيسرت أسبابه، لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ... الحديث) متفق على صحته. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) . أخرجه الترمذي بسند حسن. وقوله عليه الصلاة والسلام: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ) . خرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان، ولما في ذلك من المصالح الكثيرة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، من غض البصر وحفظ الفرج وتكثير الأمة والسلامة من فساد كبير وعواقب وخيمة " انتهى.
"فتاوى إسلامية" (3 / 141) .
والواقع أن الزواج قد يشغل عن طلب العلم، ولكن ذلك ليس بلازم، فقد يكون الأمر بالعكس، فهناك من حفظت القرآن بعد الزواج، وتعلمت وتفقهت بعد الزواج.
والمطلوب منك أن تحسني الاختيار، فتختاري صاحب الدين والخلق، الحريص على التفقه في الدين، حتى يعين كل منكما الآخر على طاعة الله تعالى.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
إني متزوج والزواج سنة، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، هل أستطيع أن أطلق زوجتي لأذهب إلى طلب العلم؟
فأجابوا: "الزواج من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يكمل المرء دينه، حيث يغض بصره ويحفظ فرجه، فلا ينبغي لك أن تطلق زوجتك، والزواج لا يمنعك من طلب العلم إذا وجد منك قوة العزيمة" انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (20 / 5) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
هناك طالب علم شرعي يريد أن يتزوج ولكنه يخشى إن تزوج أن يتعطل وينشغل عن طلب العلم، فما نصيحتكم له؟ وماذا تشيرون عليه إذا أراد ترك الدراسة للجهاد؟
فأجاب رحمه الله:
"الزواج لا يعوق عن طلب العلم، بل ربما يعين على طلب العلم؛ قد يوفق الإنسان لامرأة تقرأ وتكتب وتساعده، فإن لم تكن فأقل ما يكون أن يذهب عنه الوساوس والتفكير في الزواج، فالزواج يعين على طلب العلم" انتهى.
"لقاء الباب المفتوح" (48 / 18) .
ثم ينبغي أن تعلمي أن القدر الواجب تحصيله من العلم، لا يحتاج إلى تأخير الزواج، لأن هذا القدر لا يحتاج إلى سنوات لتحصيله، بل يستطيع المسلم تحصيله في مدة يسيرة جداً، وستجدين بعد الزواج إن شاء الله من الوقت ما تستطيعين تحصيل العلم الشرعي فيه.
فالنصيحة لك: إذا تقدم لك من هو مرضي الدين والخلق أن تقبليه.
ونسأل الله تعالى أن ييسر لك أمرك ويوفقك للعلم النافع والعمل الصالح.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/528)
هل جعل ستارة بين الرجال والنساء في محاضرة إسلامية يعد إهانة للمرأة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجب أن يكون هناك ستار بين النساء والرجال عند حضورهم مؤتمرا (محاضرة) إسلامية؟ وهل يختلف الحكم ما إذا كان جزء من الحضور هم من غير المسلمين، وبعضهم يظن أن في إبقاء النساء في الخلف وراء ستار كبير إجراء متطرفا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد تأخير النساء في الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) وذلك لأنها في الصفوف الأولى تكون قريبة من الرجال فهي مأمورة بأن تبتعد عن الرجال مع أنهن كنّ يتسترن غاية التستر، قالت عائشة: كان يشهد صلاة الفجر مع النبي نساء متلففات بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغَلس. أي أنهن متسترات ويكنّ في آخر الصفوف ليسمعن القرآن. فإذا كان هناك ندوات أو محاضرات أو كما في خطبة العيد حيث كانت النساء بعيدات عن الرجال وكان هناك مساحة بينهم حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام ظن أنهن لم يسمعن الخطبة فأتى إليهن ووعظهن، أو أن يكون حاجز فاصل بينهم، وهذا ليس إهانة للنساء، إنما هو إكرام للمرأة بحفظها عن الابتذال لكل من أرادها ولا يختلف الحكم في حال وجود غير المسلمين.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(8/529)
الذين يؤخذ عنهم العلم من لدن نبينا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس عن الإسلام دراسة ذاتية ولا أجد من يعينني على فهم بعض الأشياء مما يجعلني أشعر بعدم الثقة والصحة في كل ما أقرأه فهل من الممكن أن تزودوني بمعلومات عمن يؤخذ منهم العلم من أهل العلم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحالي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نشكر لك حرصك على طلب العلم الشرعي، وتحرّيك الحق.
وقد أحسنت بالسؤال عمن يؤخذ منهم العلم، فليس كل من أوتي حسن منطق وبيان، وحفظ المسائل وأدلتها هو العالم الذي يؤخذ منه العلم، ولهذا قال محمد بن سيرين رحمه الله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
فلا يؤخذ العلم إلا عمن عُرف بالاستقامة والتقوى، وحسن الاعتقاد، وسلامة المنهج، فالفاسق والمبتدع والداعي إلى غير السنة لا يؤخذ عنهم العلم، عقوبةً لهم، وزجراً للناس عنهم، ولأنهم قد يدسون السم في العسل، فيلقنون طلابهم بدعهم من حيث لا يشعرون.
وأئمة أهل السنة والجماعة الذين يؤخذ عنهم العلم كثيرون جداً، بحيث لا يمكن حصرهم، ولكننا سنذكر بعضهم.
فعلى رأسهم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما الخلفاء الراشدون الأربعة (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) ، ثم كبار علماء الصحابة كابن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عباس وأبي موسى الأشعري، وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء، وأبي هريرة وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وأبي سعيد وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
ثم يتلوهم كبار التابعين كأبي العالية وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وابن سيرين ونافع مولى ابن عمر والحسن البصري.
ثم تلامذتهم كإبراهيم النخعي والزهري والشعبي والأعمش وأبي الزناد ومكحول والأوزاعي وابن المبارك والثوري وابن عيينة.
ثم الفقهاء الأربعة الأعلام، أئمة المذاهب المتبعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأمثالهم من أقرانهم كأبي ثور والليث بن سعد وابن وهب وإسحاق بن إبراهيم.
ثم أئمة المحدثين كالبخاري ومسلم وأهل السنن (أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) ، ثم أصحاب المصنفات في الحديث كابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والطحاوي والبيهقي.
ثم محررو المذاهب من متأخري الفقهاء كابن المنذر والنووي والعراقي وابن الصلاح والقرطبي وابن العربي وابن عبد البر وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير والعز بن عبد السلام وابن جماعة وابن الملقن وابن حجر وابن رجب.
ثم أتباعهم ومن أخذ عنهم وسار على نهجهم كابن أبي العز والسيوطي والشوكاني والصنعاني.
ثم مشايخ أهل السنة من المتأخرين كمحمد بن عبد الوهاب وأحمد شاكر ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ وعبد الرحمن السعدي وابن باز وابن عثيمين والألباني ومحمد الأمين الشنقيطي وعطية سالم وعبد الرزاق عفيفي وأبو بكر الجزائري وعبد الله بن حميد وصالح اللحيدان وصالح الفوزان وعبد الله بن جبرين وعبد الرحمن البراك.... وغيرهم كثير من علماء أهل السنة والجماعة.
ويحسن بنا في هذا المقام أن نذكّر أيضا ببعض الكتب والمصنفات في بعض فروع العلم، والتي لا غنى لطالب العلم عنها، فمن ذلك:
أولاً: العقيدة:
كتاب التوحيد وكشف الشبهات والأصول الثلاثة لابن عبد الوهاب.
والواسطية والحموية والتدمرية لابن تيمية.
العقيدة الطحاوية لأبي جعفر الطحاوي، وشرحها لابن أبي العز الحنفي.
ثانياً: الحديث وشروحه:
- الكتب الستة (صحيح البخاري , ومسلم , والنسائي , وأبو داود , وابن ماجه , والترمذي)
- فتح الباري وشرح مسلم للنووي وعون المعبود وتحفة الأحوذي.
- رياض الصالحين والأذكار للنووي وشرحهما لابن علام، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين.
- بلوغ المرام وشرحه سبل السلام وشرح آخر له للشيخ ابن عثيمين.
- المنتقى وشرحه "نيل الأوطار" للشوكاني.
ثالثاً: كتب الفقه:
- زاد المستقنع وشرحه الروض المربع وعمدة الفقه والشرح الممتع والمغني والمجموع.
رابعاً: التفسير:
تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير وفتح القدير للشوكاني والتحرير والتنوير والسعدي وأضواء البيان وتفسير ابن عثيمين.
خامساً الفتاوى:
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية وفتاوى ابن الصلاح والفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر ثم فتاوى الشيخ ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين والفوزان واللجنة الدائمة للإفتاء.
ونسأل الله تعالى لك التوفيق والسداد.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/530)
هل يشترط الاقتراب من الشيخ في الدرس حتى تحصل فضيلة حضور مجالس العلم والذكر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في مسجدنا تلقى بعض الدروس بين المغرب والعشاء وفي بعض الأحيان بعد العشاء ويقوم أحد الإخوة قبل الدرس بحثّ من في المسجد على الاقتراب من الشيخ على الرغم من أن الدرس يُلقى عبر مكبر الصوت ويمكن سماعه من أي مكان في المسجد فهل يشترط الاقتراب من المتحدث حتى يدخل الشخص في الوصف الذي جاء في الحديث: (.... حفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده..) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الاجتماع على طاعة الله عز وجل كحضور مجلس علم، أو اجتماع على تلاوة كتاب الله، ونحو ذلك، من أعظم أنواع البر.
فقد روى مسلم (2699) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) .
قال السندي:
" (حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ طَافُوا بِهِمْ وَأَدَارُوا حَوْلهمْ تَعْظِيمًا لِصَنِيعِهِمْ" انتهى.
وينبغي عند اجتماع المسلمين أن يحرصوا على التقارب وعدم التباعد، إلا إذا وجد سبب يقتضي خلاف هذا.
وهكذا كانت مجالس الصحابة، وهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا متقاربين، وإذا جاء أحدهم فوجد فرجة سدها وجلس فيها؛ فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ. قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ : أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) متفق عليه.
قال النووي:
" فِيهِ اِسْتِحْبَاب جُلُوس الْعَالِم لِأَصْحَابِهِ وَغَيْرهمْ فِي مَوْضِع بَارِز ظَاهِر لِلنَّاسِ , وَالْمَسْجِد أَفْضَل , فَيُذَاكِرهُمْ الْعِلْم وَالْخَيْر. وَفِيهِ جَوَاز حِلَق الْعِلْم وَالذِّكْر فِي الْمَسْجِد , وَاسْتِحْبَاب دُخُولهَا , وَمُجَالَسَة أَهْلهَا , وَكَرَاهَة الِانْصِرَاف عَنْهَا مِنْ غَيْر عُذْر , وَاسْتِحْبَاب الْقُرْب مِنْ كَبِير الْحَلْقَة لِيَسْمَع كَلَامه سَمَاعًا بَيِّنًا , وَيَتَأَدَّب بِأَدَبِهِ. وَأَنَّ قَاصِد الْحَلْقَة إِنْ رَأَى فُرْجَة دَخَلَ فِيهَا , وَإِلَّا جَلَسَ وَرَاءَهُمْ " انتهى.
وروى أبو داود (2628) عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ) فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ. صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وروى مسلم (430) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنَا حَلَقًا فَقَالَ: (مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ) ؟
قال النووي:
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ) أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ جَمَاعَة جَمَاعَة , مَعْنَاهُ النَّهْي عَنْ التَّفَرُّق وَالْأَمْر بِالِاجْتِمَاعِ " انتهى.
قال الألباني رحمه الله:
"أي: تجمعوا ولا تتفرقوا بأبدانكم، لا تتفرقوا بظواهركم؛ فإن الظاهر عنوان الباطن، والظاهر يؤثر في الباطن صلاحا أو فسادا" انتهى.
http://www.alathar.net/esound/index.php?page=tadevi&id=161&coid=2366 - 35k –
وروى أحمد في الزهد (ص181) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1 / 239) أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما حضره الموت قال: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
قال ابن عبد البر:
" معنى التزاحم بالركب في مجلس العالم الانضمام والالتصاق ينضم القوم بعضهم إلى بعض على مراتبهم " انتهى.
"التمهيد" (1 / 316) .
قال الشيخ الألباني رحمة الله:
"فمن أدب مجالس العلم التقارب بالأبدان، حتى يكون ذلك تفاؤلا حسنا وسببا شرعيا لتقارب القلوب، التي قد يكون بينها شيء من التنافر والاختلاف، وذلك مما ينهى الشارع الحكيم عنه" انتهى.
-
وقال الشيخ أيضا:
" وجلوس الناس اليوم في حلق العلم متفرقين في المسجد غير متحلقين أيضا من الشيطان، فينبغي على طلبة العلم التحلق في مجالس العلم " انتهى.
فهذه الأحاديث تدل على أن التقارب في مجالس العلم والذكر من السنة؛ لتأثير ذلك إيجابا على تقارب القلوب وعدم تنافرها، ولأن التقارب يجعل الشخص أكثر تأدباً بآداب المجلس، وتركيزاً فيما يقال، فلا يشغل نفسه بشيء آخر، بخلاف التباعد الذي قد يفضي إلى الانشغال عن متابعة الدرس، أو إمكانية الانصراف بسهولة فيحرم نفسه من الفائدة والخير.
ولكن ذلك ليس شرطا في حصول الفضيلة، من غشيان الرحمة وتنزل السكينة وحضور الملائكة، مادام في المجلس لم يخرج منه، ولم ينشغل بغيره، إلا أن التقارب أقرب للسنة، وأتم في حصول الفضيلة، وكل بحسب همته ونشاطه للمجلس، وقد تقدم الحديث في الرجل الذي دخل إلى الفرجة التي في المجلس وجلس فيها فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ) وفي الآخر الذي جلس خلف الحلقة، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ) . فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الرجلين، غير أن الأول منهما أفضل.
فإن احتاج بعض الناس إلى التأخر للركون إلى سارية المسجد أو الجدار لضعف أو مرض ونحو ذلك فلا بأس، مادام منصتا مصغيا.
وفق الله الجميع إلى ما يحب ويرضى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/531)
طلب العلم مقدم على الجهاد في سبيل الله
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الأفضل في هذا الوقت: الجهاد في سبيل الله أم طلب العلم ونفع الناس وإزالة الجهل؟ وما حكم الجهاد لمن لم يستأذن والديه في الجهاد وخرج للجهاد؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"طلب العلم من الجهاد، وهو واجب للتفقه في الدين وطلب العلم، وإذا وَجد جهادا في سبيل الله، الجهاد الشرعي شارك فيه إذا وَجد ذلك وهو من أفضل الأعمال، ولكن عليه أن يتعلم ويتفقه في الدين، وهو أفضل ومقدم على الجهاد؛ لأنه واجب عليه أن يتفقه في دينه، والجهاد مستحب فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لكن تعلم الإنسان العلم أمر مفروض عليه ليتفقه في دينه، وإذا يسر الله له جهادا إسلاميا فلا بأس، يشرع له المشاركة إذا قدر ولكن بإذن والديه.
أما الجهاد الواجب الذي يهجم العدو على البلد، فيجب على الجميع الجهاد إذا هجم العدو على بلاد المسلمين وجب عليهم كلهم أن يجاهدوا، وأن يدفعوا شر العدو كلهم، حتى النساء يجب عليهن أن يدفعن شر العدو بما استطعن، أما جهاد الطلب فكونه يذهب إلى العدو في بلاده ويجاهد في بلاده فهذا فرض كفاية على الرجال" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/74) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/532)
طالب علم تطلب منه أمه الاهتمام بدراسته الجامعية فكيف يوفق بين الأمرين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد طلب العلم الشرعي , وأنا - والحمد لله - أركز على طلب العلم , إلا أن أمي تقول لي إن عليك أن تركز على دروسك، وواجباتك الجامعية , فكيف لي أن أوفق بين هذين الأمرين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن مما يَحزن القلب أننا نجد بعض الشباب ممن يحبون العلم الشرعي، ويسعوْن في تحصيله: أنهم يقصِّرون في واجباتهم المنزلية، ويقصرون في دراستهم النظامية، وهذا – ولا شك – له أسوأ الأثر على الأهل، وهو مما يدعوهم إلى منع أولادهم من حضور حلَق العلم، ومن سماع الأشرطة العلمية النافعة، ومن قراءة الكتب الشرعية، وما جعلهم يفعلون ذلك هو ما يرونه من تقصير أولادهم فيما ذكرنا، ولو أنهم رأوا من يجمع بين الأمور كلها، ولا يغلِّب جانباً على آخر: لما أزعجهم سماع لشريط، ولا حضور لحلقة علم، ولا قراءة لكتاب في العلم الشرعي.
فلينتبه الشباب لهذا، وليعلموا أن كثيراً من الأهالي وأولياء الأمور يشْكُون تقصير الأبناء في المواد الدراسية، مما يتسبب عنه رسوب أولئك الشباب في امتحاناتهم أحياناً، وتحميل أهلهم أعباء إضافية من جهد، ومال.
نعم، هناك كثيرون يبالغون في الاهتمام بالدراسة، والامتحانات، حتى إن بعضهم لا يكاد يذكِّر أولاده بصلاة، ولا ذكر، فضلاً عن تشجيعه لأداء صلاة الجماعة في المسجد، وهؤلاء قد عظموا المدارس ومناهجها، وجعلوا منها سعادة وشقاء الأولاد، فجعلوا من معه شهادة هو من سيعيش ويأكل ويتزوج، ومن لم يحصل عليها فسيشقى، ولن تكون حياته سعيدة، مع أننا نرى عكساً لهذا في واقع الحياة، وبكل حال: فإننا نود من أهالي الشباب المستقيمين على طاعة الله، والراغبين في طلب العلم أن يخففوا من غلوهم في الاهتمام بالمدارس ومناهجها، ونود من إخواننا الشباب أن يحسنوا الموازنة بين الأمرين، وأن يوفروا أوقاتهم التي يضيعونها سدى فيما لا ينفع، ويوظفوا هذه الأوقات في الموازنة المطلوبة بين الأمرين.
ثانياً:
حتى تجمع أيها الأخ الشاب الراغب بالعلم، بين طلب العلم تحقيقاً للأمر النبوي بطلبه، وبين طاعة أمك التي لا تأمرك بما هو محرَّم: فحاول أن تنتصح بما نقوله لك، وما ندلك عليه، عسى الله أن ينفعك به، ومن ذلك:
1. أن تحرص على الصحبة الصالحة، وتبتعد عن جليس السوء، فالصحبة الصالحة تحفظ لك وقتك، وتذكرك بما هو واجب عليك، وحتى لو كنتم تتعاونون في طلب العلم الشرعي فإنهم سينصحونك بتخصيص شيء من وقتك للدراسة المنهجية، وستجد منهم خير معين لك، بخلاف الصحبة السيئة، وجليس السوء؛ فإنه لا يدلك على خير، ولا يرشدك إلى هدى.
2. أن تحفظ عليك وقتك بساعاته ودقائقه، وأن لا يكون منك تفريط في شيء منه، فالمحافظة على الوقت من شأنها أن تجعل في يومك فسحة للقراءة، وطلب العلم، مع اهتمامك بدروسك المنهجية.
قال ابن القيِّم:
وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمرّ أسرع من مرّ السحاب، فما كان من وقته لله، وبالله: فهو حياته، وعمره، وغير ذلك: ليس محسوباً في حياته، وإن عاش فيه: عاش عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة، والشهوة، والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة: فموت هذا خير له من حياته.
" الجواب الكافي " (ص 109) .
قال الحسن البصري: " أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على دراهمه، ودنانيره ".
3. ترتيب وقتك، وتنظيم ساعاته، ومن شأن هذا الأمر أن تعطي كل شيء حقَّه، فتجعل لنومك ساعات محددة، ولطلبك العلم أوقاتاً معينة، ولدروسك الجامعية أزمنة مقيَّدة، لا تزيد في كل ذلك، ولا تُنقص مه.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتناوب هو وأنصاري على حضور حلق العلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعلوا طلب الرزق معارضاً للعلم، فجمعوا بينهما من غير تفريط في أحدهما.
عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
رواه البخاري (89) وبوَّب عليه بقوله: باب التناوب في العلم، ومسلم (1479) نحوه.
4. اعلم أن طريق الدراسة الجامعية قصير محدود، وأن طريق طلب العلم طويل لا ينتهي إلا بموت صاحبه، فعجِّل قطع الطريق القصير على خير، وبأسرع وقت؛ لتتفرغ لسلوك ذلك الطريق الطويل من دون عوائق.
5. ترجم ما تعلمته من شرع الله على واقعك العملي، وليظهر أثر العلم على عملك، وعليه: فمن المتوقع منك أن يزداد برُّك بوالدتك، وأن تكون ذلك الابن النشيط، العاقل، الودود، طاهر القلب والبدن. ومن شأن تطبيق ما تعلمته على واقعك العملي أن تقدم لأسرتك، وللمجمتع من حولك رسالة مفادها: أن الإسلام يدعو إلى الأخلاق، وأنه لا يتعارض مع العلم، وأن طالب العلم هو القدوة الحسنة للشباب في سلوكه، وتصرفاته.
واستعن بالله تعالى على كل ما ذكرناه لك، ونصحناك به، واسأل ربك دوماً السداد، والتوفيق.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(8/533)
الموقف من الفتاوى الشاذة، من مفتيها، والآخذ بها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما موقف عامة الناس من الفتاوى الشاذة التي كثرت مؤخراً، مثل من أفتى بفك السحر بالسحر وغيرها من الفتاوى؟ وهل ننكر على من عمل بهذه الفتاوى؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الواجب قبل الكلام عن المستفتي أن نبدأ بالمفتي نفسه، فنقول: يجب على كل مسلم أن يحفظ عليه لسانه في الكلام على شرع الله تعالى بما لا يعلم، وليعلم كل مسلم أن القول على الله تعالى بغير علم من كبائر الذنوب، بل قد قرنه الله تعالى بالشرك، فقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.
قال ابن القيم رحمه الله:
"فرتَّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشدُّ تحريماً منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشدُّ تحريماً من ذلك كله، وهو: القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه" انتهى.
" إعلام الموقعين " (1 / 38) .
وقد رأينا في زماننا هذا عجباً، رأينا السياسي يفتي، والممثل يفتي، والإعلامي يفتي، بل حتى الراقصة تفتي! وأصبحت الفتوى حقاً لكل من هبَّ ودبَّ، وصار أهل الباطل من أصحاب القنوات الفضائية، والصحف اليومية والأسبوعية يلمعون هؤلاء، ويقدمونهم للناس على أنهم أصحاب علم، وأهل هدى، وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه الله، ففي " إعلام الموقعين " لابن القيم (4 / 207، 208) قال: رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعضُ مَن يفتي ههنا أحق بالسجن من السرَّاق.
ثم قال ابن القيم:
"قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر، أو غريب فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة، وآثار السلف، نصيب" انتهى.
وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن ربه تعالى بما ينسبه للشرع من أحكام، وقد كان السلف الصالح يتدافعون الفتيا، وكلٌّ يحول السائل إلى غيره، حتى تعود للأول منهم، والجرأة والعجلة في الفتوى ليستا محمودتين من صاحبهما، بل الواجب التأني، والتمهل، قبل إصدار الفتوى.
قال أبو شهاب الحناط: سمعت أبا حصين – وهو عثمان بن عاصم – يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر: لجَمَع لها أهل بدر.
" سير أعلام النبلاء " (5 / 416) .
وليكن قول " لا أدري " شعاراً له في حياته فيما لا يعرفه من أحكام الشرع، وهذه ملائكة الرحمن تقول ذلك فيما لا تدريه، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة/31،32. وليتجنب الغرائب من الأقوال، والشذوذات من الفتوى، وليتجنب ما لا يحسن الناس فهمه، أو ما يسبب رقة دين، أو فحش سلوك، كما يفعله من يوزع الفتاوى في طول الأرض وعرضها بإباحة المعازف، والتمثيل للنساء والرجال، وغير ذلك، وكما فعله من نشر فتوى جواز فك السحر بسحر مثله؛ فإن هذا يعني جواز فتح مكاتب للسحرة! وإيقاف الإنكار عليهم واستتابتهم، ويعني التواصي بين الناس على أفضل ساحر! وأوثق ساحر! وأرخص ساحر! ، ولذا لا يتصور صدور مثل تلك الفتاوى المفسدة لدين الناس وخلقهم من مفتٍ يعلم ما وصلت إليه أحوال الناس من البُعد عن الشرع.
ثانياً:
يجب الإنكار على كل من اتبع هواه في الأخذ بفتاوى المتساهلين من المفتين، أو بمن عرف بتبني الفتاوى الشاذة، القائمة على حب المخالفة.
ونحن نعلم أن من واجب الجاهل أن يسأل في دينه، وأن يقلد من يستفتيه، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، وبخاصة إذا علمنا أن ذاك العامي الجاهل يتقصد الأخذ بمن عرف عنه قلة العلم، أو قلة الدين، وإذا كنا ننكر على ذلك المفتي نفسه، فإننا ننكر أيضاً على العامي الذي يعلم أنه متساهل في الفتوى ثم يذهب يستفتيه ويأخذ بفتواه.
وقد كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلم ما تُحدثه الفتاوى المختلفة بين الناس، وكان موقفه منها صارماً، وأصرم منه موقفه فيمن يأتي بالشاذ من الأقوال.
روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " (1 / 313) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اخْتَلَفَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ أُبَيٌّ: ثَوْبٌ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَوْبَانِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا عُمَرُ فَلاَمَهُمَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَسُوؤُنِي أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمَا يَصْدُر النَّاسُ؟ أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَأْلُ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ.
وروى مالك في " الموطأ " (3 / 512) عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ.
فكم يا تُرى من يستحق أن يوجع بسبب فتوى شاذة نسبها لشرع الله تعالى المطهَّر، كمن أفتى الموظفة أن تُرضع زميلها في العمل لترتفع الخلوة! وكمن أفتى بإباحة تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية لقتل الشهوة! وكمَن أفتى بجواز تزوج المشرك من مسلمة! وكمن أفتى بجواز الفوائد الربوية! وهكذا في سلسلة ليس لها آخر، ينفخ الشيطان في نفس مصدرها وقائلها أنه أهلٌ للفتوى، وأنه ليس عليه أن يبالي بمن يخالفه.
ونحن لا ننكر وجود خلاف بين العلماء في مسائل الفقه، لكنا ننكر على المفتي تتبع الأقوال الشاذة والمهجورة منها، وننكر جعل ذلك الخلاف سبيلاً لاختراع أقوال باطلة ينسبها لدين الله تعالى، وهي ليست منه؛ ليرضي بها قاعدته! أو ساسته.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:
"ولم يفلح مَن جعل مِن هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب، ونادر الخلاف، وندرة المخالف، والتقاط الشواذ، وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس دينًا وشرعاً ... .
ومنها: إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية، وشهادات الاستثمار، وسندات الخزينة، وفتوى إباحة التأمين، وفتوى إباحة السفور، وفتوى إباحة الاختلاط، وكلها فتاوى شاذة فاسدة، تمالئ الرغبات، وبعض التوجهات" انتهى.
" المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل " (1 / 107، 108) .
والواجب على العامي أن يسأل أهل العلم الذين يثق بدينهم وعلمهم، أما من عرف بالتساهل وتتبع الرخص، وعدم الحرص على اتباع السنة، فلا يجوز لأحد أن يستفتيه، ولا أن يعمل بما يفتيه به. وينظر جواب السؤال رقم (112123) .
والله المستعان
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/534)
إذا كان الجاهل معذورا فهل يترك على جهله؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت السؤال رقم 111362 الذي يوضح قول الشيخ ابن عثيمين في العذر بالجهل، وعليه، فهل إقامة الحجة بالعلم على الناس غير جائز بحيث يتركون لجهلهم أفضل حتى لا تقوم عليهم الحجة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
العذر بالجهل من المسائل الاجتهادية التي حصل فيها نزاع بين العلماء، فمنهم من يطلق القول بعذر الجاهل، ومنهم من يقيد ذلك ببعض المسائل، وتفصيل ذلك لا يتسع له الجواب.
ثانيا:
ليس هناك أحد من أهل العلم القائلين بعذر الجاهل، يرى أن يترك الجاهل دون دعوة أو تعليم، وذلك لتظاهر الأدلة على وجوب نشر الدين، وتعليم الجاهلين، وإقامة الحجة على المكلفين، قال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) الأنعام/19، وقال سبحانه: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة/122، وقال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل/125.
وقال صلى الله عليه وسلم: (بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً) رواه البخاري (3461) .
وأرسل النبي صلى الله عليه أصحابه معلمين ومبشرين ومنذرين، ولو كان ترك الناس لجهلهم سائغا، لما بعثت الرسل، ولا أنزلت الكتب، ولا كلف الدعاة.
فليس لأحد أن يتوهم أن ترك الجهال على جهلهم جائز، فإن هذا لا يقوله عاقل فضلا عن عالم، وكون الله تعالى قد يعذر الجاهل الذي لم يفرط، لا يعني أن يترك العالم ما أُمر به من التبليغ والبيان.
قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) آل عمران/187.
وينبغي أن يعلم أن الجاهل إذا وجد من يعلمه، فقصر وفرط، كان آثما لتركه تعلم ما يجب عليه، ولم يكن معذوراًً، سواء كان ذلك في أمر العقيدة، أو العبادة، أو المعاملة، ولهذا ذم الله تعالى أهل الغفلة الذين يعلمون أمر دنياهم، ويجهلون أمر دينهم، فقال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم/7، وذم المقلدين الذين يتركون ما جاءهم من العلم والهدى، ويقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/535)
يحب العلم فكيف يصل إليه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب عمري 21 سنة محافظ على الواجبات ولله الحمد وأحفظ القرآن الكريم كاملا ولدي مقدرة جيدة على الحفظ وأحب الكتب جدا وأريد أن أطلب العلم، التحقت بحلقات ودروس علمية في الفقه والعقيدة الحديث، لكنني أيقن تماما أن هذا لا يكفي أبدا فالمعول على الطالب نفسه أريد أن أحفظ وأقرأ وأبحث ولا أدري كيف وبم ومن أين أبدأ، لي فترة وأنا أتخبط من كتاب إلى آخر بدون منهج وكل ما أخافه هو أن يضيع علي العمر النفيس في أمور يمكن اختصارها، طموحي أن أخلف الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وأنال من الأجر مثله وأكثر بإذن الله طال العمر أم قصر، هذا هو ما أصبو إليه وسأناله بمشيئة الله مهما كلف الأمر وسأدفع ثمنا لذلك شبابي وراحتي وسعادتي ولذيذ النوم والكسل.
ليس هذا مجرد كلام في وقت غلبني فيه الحماس بل هو ما يشغل تفكيري الليل والنهار فأنا جاد وأرجو منكم أن ترعوني اهتمامكم ولو بالإجابة على هذه الرسالة.، أريد أن أعرف هل يمكنني تحقيق ذلك -أي ما ذكرته أعلاه -أم أن الركب قد فاتني، وكيف السبيل إليه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحمد لله الذي رفع الهمة، وأسبغ النعمة، وهدى إلى طريق الحق بأوضح حجة.
والصلاة والسلام على نبي الأمة، ومُبَيِنِ الحُجَّة، ومرشد الخلق إلى طريق الجنة.
وبعد ...
أيها الأخ الكريم.. هنيئاً لك ثم هنيئاً لك ثم هنيئاً لك.
أي نعمة أنعم الله بها عليك؟ ... وأي فضل آتاك إياه؟ ... فقد وفقك إلى حفظ القرآن فلله الحمد أولاً وأخراً ... ثم حبب إليك العلم، وهذه من أعظم النعم " ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين "، ومن " أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر " لأن الله قال: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة.
ثم وهبك مزيد إنعام، فأعطاك همة عالية ونفساً وثابة، فنسأل الله لك الحسنى وزيادة.
إن علو الهمة من معالي الأمور , وشرف النفوس. فعليك بشكر الله والقيام بما أعطاك حق القيام.
وأما بالنسبة للكتب التي تدرسها فقد تقدمت الإشارة إليها في السؤال رقم (20191) . فارجع إليه للأهمية.
وبعد أن تحفظ المختصرات وتتقنها مع شرحها وتضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات، انتقل إلى بحث المبسوطات، مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر بك من الفوائد النفيسة، والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة، وحل المشكلات، والفروق بين أحكام المتشابهات، من جميع أنواع العلوم، ولا تستقل بفائدة تسمعها، أو قاعدة تضبطها، بل بادر إلى تعليقها وحفظها.
ولتكن همتك في طلب العلم عالية؛ فلا تكتفِ بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا تقنع من إرث الأنبياء صلوات الله عليهم بيسيره، ولا تؤخر تحصيل فائدة تمكنت منها ولا يشغلك الأمل والتسويف عنها؛ فإن للتأخير آفات، ولأنك إذا حصلتها في الزمن الحاضر؛ حصل في الزمن الثاني غيرها.
واغتنم وقت فراغك ونشاطك، وزمن عافيتك، وشرخ شبابك، ونباهة خاطرك، وقلة شواغلك، قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة.
وينبغي لك أن تعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنك؛ لأنها آلة التحصيل، ولا تجعل تحصيلها وكثرتها (بدون فائدة) حظك من العلم، وجمعها نصيبك من الفهم، بل عليك أن تستفيد منها بقدر استطاعتك. نسأل الله لك التوفيق.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/536)
حكم لبس الذهب المحلق للنساء
[السُّؤَالُ]
ـ[إن بعض النسوة عندنا تشككن وارتبن من فتوى العلامة: محمد ناصر الدين الألباني محدث الديار الشامية في كتابه: (آداب الزفاف) نحو تحريم لبس الذهب المحلق عموما، هناك نسوة امتنعن بالفعل عن لبسه، فوصفن النساء اللابسات له بالضلال والإضلال. فما قول سماحتكم في حكم لبس الذهب المحلق خصوصا وذلك لحاجتنا الماسة إلى دليلكم وفتواكم بعد ما استفحل الأمر وزاد، وغفر الله لكم وزادكم بسطة في العلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يحل لبس النساء للذهب محلقا وغير محلق، لعموم قوله تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) الزخرف/18حيث ذكر سبحانه أن الحلية من صفات النساء وهي عامة في الذهب وغيره. ولما رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند جيد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (إن هذين حرام على ذكور أمتي زاد ابن ماجة في روايته وحل لإناثهم) .
ولما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأخرجه أبو داود والحاكم وصححه وأخرجه الطبراني وصححه ابن حزم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) وقد أعل بالانقطاع بين سعيد بن أبي هند وأبي موسى، ولا دليل على ذلك يطمئن إليه، وقد ذكرنا آنفا من صححه، وعلى فرض صحة العلة المذكورة فهو منجبر بالأحاديث الأخرى الصحيحة كما هي القاعدة المعروفة عند أئمة الحديث.
وعلى هذا درج علماء السلف، ونقل غير واحد الإجماع على جواز لبس المرأة الذهب، فنذكر أقوال بعضهم زيادة في الإيضاح: -
قال الجصاص في تفسيره (ج/3، ص/388) في كلامه عن الذهب: (والأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أظهر وأشهر من أخبار الحظر، ودلالة الآية [يقصد بذلك الآية التي ذكرناها آنفا] أيضا ظاهرة في إباحته للنساء.
وقد استفاض لبس الحلي للنساء منذ قرن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل ذلك لا يعترض عليه بأخبار الآحاد) ا. هـ. وقال إلكيا الهراسي في تفسير القرآن (ج/4، ص/391) عند تفسيره لقوله تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) (فيه دليل على إباحة الحلي للنساء: والإجماع منعقد عليه، والأخبار في ذلك لا تحصى) .
وقال البيهقي في السنن الكبرى (ج/4، ص/142) لما ذكر بعض الأحاديث الدالة على حل الذهب والحرير للنساء من غير تفصيل ما نصه: (فهذه الأخبار وما في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة) ا. هـ.
وقال النووي في المجموع (ج/4، ص/442) : (ويجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة وبالذهب بالإجماع للأحاديث الصحيحة) ا. هـ.
وقال أيضا (ج/6، ص/40) : (أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعا كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والدمالج والقلائد والمخانق وكل ما يتخذ في العنق وغيره وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا) ا. هـ.
وقال في شرح صحيح مسلم في باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: (أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء) ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث البراء: " ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع، نهى عن خاتم الذهب. . . " الحديث قال (ج/10، ص/317) : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء) ا. هـ.
ويدل أيضا على حل الذهب للنساء مطلقا محلقا وغير محلق مع الحديثين السابقين ومع ما ذكره الأئمة المذكورون آنفا من إجماع أهل العلم على ذلك الأحاديث الآتية:
1 - ما رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها: (أتعطين زكاة هذا؟) قالت: لا قال: (أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟) فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله فأوضح لها النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الزكاة في المسكتين المذكورتين، ولم ينكر عليها لبس ابنتها لهما، فدل على حل ذلك وهما محلقتان، والحديث صحيح وإسناده جيد، كما نبه عليه الحافظ في البلوغ.
2 - ما جاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: " قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب به فص حبشي قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضا عنه أو ببعض أصابعه ثم دعا أمامة ابنة أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: (تحلي بذه يا بنية) "، فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أمامة خاتما، وهو حلقة من الذهب، وقال: (تحلي بها) ، فدل على حل الذهب المحلق نصا.
3 - ما رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم كما في بلوغ المرام عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب فقالت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز) ا. هـ.
وأما الأحاديث التي ظاهرها النهي عن لبس الذهب للنساء فهي شاذة، مخالفة لما هو أصح منها وأثبت، وقد قرر أئمة الحديث أن ما جاء من الأحاديث بأسانيد جيدة لكنها مخالفة لأحاديث أصح منها ولم يمكن الجمع ولم يعرف التاريخ فإنها تعتبر شاذة لا يعول عليها ولا يعمل بها. قال الحافظ العراقي رحمه الله في الألفية: " وذو الشذوذ ما يخالف الثقة فيه الملا فالشافعي حققه وقال الحافظ ابن حجر في النخبة ما نصه: فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ ومقابله الشاذ " ا. هـ. كما ذكروا من شرط الحديث الصحيح الذي يعمل به ألا يكون شاذا، ولا شك أن الأحاديث المروية في تحريم الذهب على النساء على تسليم سلامة أسانيدها من العلل لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على حل الذهب للإناث، ولم يعرف التاريخ، فوجب الحكم عليها بالشذوذ وعدم الصحة عملا بهذه القاعدة الشرعية المعتبرة عند أهل العلم. وما ذكره أخونا في الله العلامة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني في كتابه: (آداب الزفاف) من الجمع بينها وبين أحاديث الحل بحمل أحاديث التحريم على المحلق وأحاديث الحل على غيره غير صحيح وغير مطابق لما جاءت به الأحاديث الصحيحة الدالة على الحل؛ لأن فيها حل الخاتم وهو محلق وحل الأسورة وهي محلقة، فاتضح بذلك ما ذكرنا؛ ولأن الأحاديث الدالة على الحل مطلقة غير مقيدة، فوجب الأخذ بها لإطلاقها وصحة أسانيدها، وقد تأيدت بما حكاه جماعة من أهل العلم من الإجماع على نسخ الأحاديث الدالة على التحريم كما نقلنا أقوالهم آنفا، وهذا هو الحق بلا ريب. وبذلك تزول الشبهة ويتضح الحكم الشرعي الذي لا ريب فيه بحل الذهب لإناث الأمة، وتحريمه على الذكور. والله ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
(8/537)
محتار بين حفظ بلوغ المرام أو الجمع بين الصحيحين
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا محتار ومتردد بين حفظ: " بلوغ المرام "، وبين حفظ: " الجمع بين الصحيحين " في العطلة القادمة في الصيف، وأخشى أن أدخل دورة الصحيحين ثم لا أستطيع أن أواصل في الحفظ، حيث إن المقرر حفظ (20) وجها يوميا. فما مشورة إخواني طلاب العلم في الموقع؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نصيحتنا لك ألا تتردد في دخول دورة حفظ الصحيحين، وأن تقدمها على كل مشروع علمي تشتغل به الآن، فقد لمسنا فيها الخير الكبير، والفائدة العظيمة، والحق يقال: إنها من نعم الله تعالى على طلبة العلم في هذه الأيام، أن يجد الطالب – في مقتبل الطلب - فرصةَ التفرغ لحفظ أهم مصدر من مصادر الشريعة بعد كتاب الله تعالى، ويقضي أيامه وأوقاته بين يدي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحفظ عباراته، ويستظهر أقواله وأفعاله وسيرته صلى الله عليه وسلم، وقد يكون ذلك في المسجد الحرام، أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
فأي نعمة أعظم من هذه النعمة!
وأي فرصة ينتظر طالب العلم كي يحقق إنجازا عظيما كحفظ الصحيحين؟!
والله سبحانه وتعالى لا يخيب رجاء طالبٍ صادقٍ لجأ إليه سبحانه أن يعينه على الحفظ والفهم، وتوكل عليه سبحانه أن يسهل عليه كل عسير، ثم جلس في الروضة الشريفة يرجو أن يفتح الله عليه كما فتح على الإمام البخاري الذي كتب السنة والتراجم على ضوء القمر في هذا المكان المبارك.
هل ترى أخي الكريم أن الطالب الذي امتلأ قلبه بحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتمنى أن لو رآه بنفسه وماله وولده، واحتسب أن ييسر الله له بطلبه العلم سبيل الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هل ترى مثل هذا الطالب يخيب سعيه، ولا يرجع بالعلم والأجر والفضل، أم تراه وقع فيما سيندم عليه، ويراه – في مستقبل الأيام – مشغلة ومضيعة؟!
وقد سمعنا عن بعض أهل العلم المعاصرين من كاد قلبه يتفطر ألما أن فرصة مثل هذه فاتته في بداية طلبه، فلا تُفَوِّت أنت الفرصة، وبادر إلى الخير، واستعن بالله عز وجل.
أما حيرتك بين حفظ " الجمع بين الصحيحين "، وحفظ " بلوغ المرام ": فنحن نميل إلى أن حفظ الأول أولى وأفضل من نواحٍ عديدة:
أولا: حفظ واستظهار أحاديث الصحيحين يعني استيعاب – ولو بقدر ما – المصدر الثاني من مصادر التشريع، وهي السنة التي عليها مدار الدين والشريعة، وذلك يخلق في نفس الطالب قوة علمية تأصيلية متينة.
ثانيا: في حفظ " الجمع بين الصحيحين " أولا تدرج منهجي في حفظ السنة النبوية، فالبداية في الأحاديث المتفق عليها، ثم مفردات البخاري، ثم مفردات مسلم، ثم يستكمل الطالب زوائد السنن والمسانيد على الصحيحين، وهكذا حتى يستكمل حفظ مجمل السنة النبوية، ولا شك أن التدرج في الحفظ ينظم عقلية الطالب، ويرفع همته وهو يستشعر إنجاز مراحل الحفظ مرحلة بعد أخرى.
ثالثا: البداية بحفظ " الجمع بين الصحيحين " تسهل على الطالب معرفة مخرج الحديث ومصدره، أما البداية بكتب أحاديث الأحكام المنتقاة من كتب السنة كثيرا ما تؤدي إلى اختلاط مصادر الأحاديث في ذهن الطالب، فلا يكاد يستحضر من أخرج الحديث من أصحاب الكتب الستة.
رابعا: استحضار أحاديث الصحيحين يخلق في نفس الطالب دافعا قويا لاستكمال حفظ كتب السنة، فقد لمس فعليا إمكانية استظهار أحاديث أعظم كتابين من كتب السنة، فلا يرى حائلا يحول دون استكمال زوائد السنن إلا الوقت، وهذا حافز مهم جدا في النجاح والإبداع.
خامسا: مَن حفظ " الجمع بين الصحيحين " فهو أقدر على استكمال واستظهار أحاديث الأحكام من كتبها: كـ " المنتقى "، و " المحرر "، و " بلوغ المرام "، فإن هذه الكتب اقتصرت فقط على أحاديث الأحكام، أما الصحيحان فهما يشملان الأحاديث في أبواب الدين جميعها.
أما خشيتك من الضعف أو العجز عن اجتياز الدورة وإتمام النصاب المطلوب من الحفظ، فيمكننا أن نقدم لك فيه نصيحتين لعل فيهما إزالة هذه الخشية:
أما النصيحة الأولى: فهي أن تتذكر أن العقل البشري بحاجة إلى تدريب وتدرج في الحفظ، تماما كما يتدرب الرياضي بعضلات جسمه لتعتاد على بذل المجهود البدني الكبير، ولذلك قد تجد صعوبة على الحفظ في بداية أسابيع الدورة، ولكنك ستجد نفسك شيئا فشيئا أقدر على الحفظ والتسميع.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
" أي عضو كثرت رياضته قوي، وخصوصا على نوع تلك الرياضة، بل كل قوة فهذا شأنها، فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة، ولكل عضو رياضة تخصه " انتهى.
"زاد المعاد" (4/225)
وهذا أمر مجرب مشاهد، فلا تستجب لتثبيط الشيطان لك، فليس جميع من يشترك في دورات الحفظ هم من النوابغ العباقرة، ولست أقل شأنا من أي مشترك، وقد شاهدنا وسمعنا وقرأنا عن صغار لم يبلغوا الحلم أتموا الحفظ المتقن لهذه الكتب المباركة، كما شاهدنا من الكبار الذي تجاوزوا الخمسين من استطاع أن يحفظها أيضا، كل ذلك بفضل الله أولا، ثم بفضل العزيمة والتوكل على الله عز وجل.
أما النصيحة الثانية: فهي أن تحافظ على برنامج يومي لمراجعة ومذارة المحفوظ أثناء الدورة وبعدها، وتيقن أن برنامج المراجعة أهم وأولى وأعظم شأنا بكثير من برنامج الحفظ، لأن الحفظ لا يثبت إلا بالمذاكرة والمراجعة والتكرار، وهذا يحتاج إلى أيام طويلة، فاحتفظ بقدر – ولو يسير – بالمراجعة، وإلا فلا تدخل طريق الحفظ، فهو طريق لا يفلح فيه إلا من حافظ على نصاب يومي في المراجعة.
يقول الإمام الزهري رحمه الله:
" إنما يُذهِبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (3/63)
ولعل من أفضل الطرق التي نرشدك إليها في هذا الصدد، ما ذكره الزرنوجي - في رسالته " تعليم المتعلم طريق التعلم " (ص/41- 42) - وجربه كثير من طلبة العلم ونفعهم الله بها، وهي طريقة تجمع بين النفع والسهولة، حيث يقول رحمه الله:
" وينبغي لطالب العلم أن يكرر سَبْق - يعني: المقدار الذي يحفظه - الأمس خمس مرات، وسبق اليوم الذي قبل الأمس أربع مرات، والسبق الذي قبله ثلاث مرات، والذي قبله اثنين، والذي قبله مرة واحدة، فهذا أدعى إلى الحفظ " انتهى.
وأخيرا، فالحفظ كله خير إن شاء الله تعالى، والأهم منه المذاكرة المستمرة، والفهم الصحيح، والعمل بما علم، وتقوى الله تعالى سبب التوفيق والنجاح.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأوَّلُ ما يجني عليه اجتهادُه.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
" إنما يحفظُ الرجلُ على قدر نيته " انتهى.
"الجامع لأخلاق الراوي" (2/257)
وانظر نصائح مهمة ذكرها الخطيب البغدادي في العون على الحفظ، في " الجامع لأخلاق الراوي" (2/249-279)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/538)
منزلة الفقيه أعلى من منزلة راوي الحديث وفي كل خير
[السُّؤَالُ]
ـ[هل منزلة الفقيه أعلى من منزلة راوي الحديث؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الفقيه هو المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية، ويوضح مقررات الشريعة، ويشرح للناس أحكام دينهم، فدائرة حديثه مقاصد الدين، ومحكمات القرآن المبين، وتحقيق الفهم الصحيح لما يريده الله سبحانه وتعالى من العباد.
وهذا عمل لا يقوم به إلا أفراد الناس والقلائل منهم، لما يقتضيه من اطلاع واسع على النصوص، وممارسة طويلة لكلام أهل العلم، وذكاء في دراسة الواقع وتنزيل الأحكام الشرعية عليه.
أما راوي الحديث: فهو ناقل لما سمع من السنة النبوية، يؤدي ما تحمله بكل صدق وأمانة، ويعتني بتبليغ الحديث كما بلغ إليه بأي طريقة كانت، ولا يتكلف عناء شرح الحديث أو استنباط الأحكام الشرعية منه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، وإنما يقتصر دوره على الأداء والرواية.
وهذا عمل يتطلب الدقة والعناية النقلية، ولا يقتضي نظرا فقهيا ولا عناية أصولية.
وقد وصف الإمام الأعمش رحمه الله عملَ كلٍّ مِن الفقيه وراوي الحديث بوصف دقيق فقال:
" يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة " انتهى.
"نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادي" (1/45) .
ولا يخفى أن عمل كُلٍّ من الطبيب والصيدلي عمل متكامل، لا يستغني أحدهما عن الآخر، فكان لكل منهما من الفضل والتأثير القدر البالغ من الأهمية، وبذلك جاءت الشريعة أيضا تقر لكل من الفقيه والراوي بالفضل والأجر عند الله تعالى، مع مزيد فضل للفقيه (الطبيب) الذي يعتني بالفهم والاستنباط.
وقد استنبط بعض أهل العلم هذا التقرير من قوله صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ) رواه أبو داود (3660)
قال الرامهرمزي (ت 360هـ) رحمه الله: " ففرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين ناقل السنة وواعيها، ودل على فضل الواعي بقوله: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه) وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر، مثال ذلك أن تمثل بين مالك بن أنس وعبيد الله العمري، وبين الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي، وبين أبي ثور وابن أبي شيبة، فإن الحق يقودك إلى أن تقضي لكل واحد منهم بالفضل، وهذا طريق الإنصاف لمن سلكه، وعلم الحق لمن أمه ولم يتعده " انتهى.
"المحدث الفاصل" (1/169-170) .
وأما من جمع بين الحسنيين، فوعى مقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما جاء به من العلم، وتفقه في معانيه، فانتفع به في نفسه، ونفع به الناس، فهؤلاء خير أصناف الناس قاطبة.
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً.
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) رواه البخاري (79) ، ومسلم (2282) .
الغيث: المطر. الأجادب: الأرض التي لا تنبت كلأ. القيعان: جمع القاع وهو الأرض التي لا نبات فيها.
يقول الإمام النووي رحمه الله:
" أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:
فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيى بعد أن كان ميتا، وينبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.
والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم " انتهى.
"شرح مسلم" (15/47-48) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
" شبه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث، لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر.
وشبه القلوب بالأراضي التي وقع عليها المطر، لأنها المحل الذي يمسك الماء، فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته.
ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام، بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده:
أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط ... فهذا مثل الحفاظ الفقهاء، أهل الرواية والدراية.
القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رُزِقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه، ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: (إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه) . والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم تفاوت، فرب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب منه وهذا يسقى وهذا يزرع.
فهؤلاء القسمان هم السعداء، والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه، لا حفظا ولا فهما، ولا رواية ولا دراية؛ بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان، لا تنبت ولا تمسك الماء.
وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم، كل بحسب ما قبله ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسا ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهم وقود النار.
فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم، وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد.
وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.
قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس " انتهى.
"مفتاح دار السعادة" (1/65-66) .
فيا أيها الأخ الكريم، أين أنت من ذلك كله، ومن أي أنواع الأرض ـ يا ترى ـ طينتك، أمن التي انتفعت في نفسها، ونفعت الناس، فحفظت وتفقهت، وعملت وعلّمت؟ أمن التي حفظت لغيرها حتى انتفع، والدال على الخير كفاعله؟
إننا نعيذك بالله، ونكرمك عن أن تكون طينتك من الأرض السباخ، فلا أمسكت ولا أنبتت، ولا حفظت ولا تفقهت، ثم هي تقيم نفسها مقام الحكم بين الفريقين!!
انظر في همتك ـ يا عبد الله ـ ووطنها على معالي الأمور، واطلب لها الحفظ والفقه، فإن عجزت عن بعض ذلك، فليس أقل من أن تكون دالا على الخير، حافظا لما أمرت به.
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
(8/539)
سؤال العامي المفتي المعروف بالتساهل وتتبع الرخص
[السُّؤَالُ]
ـ[هنا في بلدنا يقول المفتي بجواز التعامل مع البنوك، وأنها ليست ربا. ويقول للمرأة المنتقبة أن تتقي الله ولا تنصح أختها التي ترتدي البنطال. فهل على عامة الناس شيء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أمر الله تعالى الجاهل أن يسأل أهل العلم والذكر، فقال: (فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43، فهذه فريضة الله على الجاهل، أن يسأل أهل العلم فيما سيقدم عليه من عبادة أو معاملة، فإن قصر في ذلك كان عاصيا آثما.
ولاشك أن مفتي البلد ينبغي أن يكون أحق من يسأل ويستفتى، ولكن لا يجوز حصر الفتوى على المفتي الرسمي للدولة فقط، فإن منصب المفتي الرسمي للدولة لم يعرفه المسلمون إلا من نحو مائتي سنة، وعاش المسلمون نحواً من ألف ومائتي سنة، يسألون كل من يثقون بدينه وعلمه، ولم تكن الفتوى محصورة في شخص معين، وبعد استحداث هذا المنصب، يجب على الحاكم أن يختار له أوثق الموجودين في دينه وعلمه، فإن لم يفعل ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، وضيع الأمانة الموضوعة في عنقه، والتي سيسأل عنها يوم القيامة.
وإذا عرف عن الشخص ـ مفتياً رسمياً أو غيره ـ اتباع الهوى، وتحليل الحرام، والتساهل في الأحكام الشرعية، لم يجز الرجوع إليه، وكان على السائل أن يلجأ إلى من يثق في دينه وتقواه وعلمه.
والفوائد البنكية ربا محرم لا شك فيه، وليس مع من يبيحها مستند صحيح، ولهذا اتفقت كلمة العلماء المعتبرين على تحريمها، وصدر بذلك قرارات عدة من المجامع الفقهية المعتبرة، كمجمع البحوث الإسلامية، ومجمع الفقه الإسلامي، وينظر جواب السؤال رقم (45691) .
وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم (22652) موقف المسلم من اختلاف العلماء والمفتين، وأنه إن كان طالب علم لزمه العمل بالدليل والأخذ بالراجح، وإن كان عاميا فعليه الأخذ بقول الأوثق علما ودينا.
والعامي لا يخفى عليه – غالبا- حال المتلاعب بالدين، المتتبع للرخص، الذي يفتي حسب ما ُيملى عليه وُيطلب منه، وبعض أصحاب المناصب الدينية الرسمية قد سقطوا من أعين الناس، ولم تعد لأقوالهم قيمة، بل كثير ما يتخذها الناس وسيلة للاستهزاء والسخرية في مجالسهم، فإن كان الأمر كذلك، فلا عذر له في تقليد من كان هذا حاله. وأما إن فرض أنه يجهل حاله، ووثق في منصبه وعلمه فأخذ بقوله، فهذا معذور قد امتثل ما أُمر به من سؤال أهل العلم.
والحاصل أن العامي مطالب بسؤال أهل العلم، ومطالب بتقوى الله تعالى في هذا السؤال، فلا يسأل من لا يثق في دينه وأمانته، ولا يسأل من يتتبع الرخص، ولا يسأل هو ليتتبع الرخص.
قال ابن عبد البر رحمه الله: " لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعا " انتهى نقلا عن "شرح الكوكب المنير" (4/578) .
وهذا مما ابتلي به كثير من الناس اليوم، يسأل من يثق في دينه، فإذا أفتاه بما يخالف هواه، ذهب فسأل غيره، حتى يحصل على مراده، وهذا حرام وفسق لا شك فيه.
وأما لبس المرأة الحجاب، فيجب على المرأة أن تستر جميع بدنها عن الرجال الأجانب عنها، بما لا يصف عورتها، ولا يظهر حجم عظامها، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم (11774) و (6991) .
ومن قال من العلماء إن سترها لوجهها وكفيها غير واجب، فإنه يقول إنه مستحب ومشروع، ومما يحبه الله.
وعلى هذا؛ فقد اتفقت كلمة العلماء على مشروعية ستر المرأة لجميع بدنها، وأن ذلك أفضل وأكمل، فمن خرج عن هذا الإجماع، واتبع غير سبيل المؤمنين، فهو متوعد بقوله تعالى، (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء/115.
وخروج المرأة بالبنطال أمام الرجال، منكر ظاهر لا يماري فيه أحد من أهل العلم، بل أكثر العامة يرون هذا منكرا وتبرجا وإن فعلوه. ومن اعتمد في إباحة ذلك وأشباهه من المحرمات على قول شيخ أو مفت، فإنما يخدع نفسه، وعليها يجني، وله نصيب من قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) الأحزاب/66-68، وقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة/31، وقد روى الترمذي (3095) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ) ، والحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي.
نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/540)
تلقي العلم عن أكثر من شيخ
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يتلقى الفن الواحد عن شيخ واحد أو أكثر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أنصح طالب العلم ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد (أي أن يأخذ كل فن من فنون العلم عن شيخ واحد) , مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة , ويختلفون في آرائهم أيضاً , فأنت تجعل لك عالماً تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا , أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد , وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه؛ لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلاً من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك , لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , صفحة 63.(8/541)
التخصصات في العلوم والفنون، حاجة الأمة لها، وضوابط وفوائد فيها
[السُّؤَالُ]
ـ[في ظل ما نعيشه في هذا الزمان المتسارع، وما تمر به الأمة من فتن وبلايا، وما يتمناه كل مسلم من رفع الغمة عن الأمة، ويحاول أن يقدِّم لها ما يرفع من مستواها، وإيماننا بالتخصص، وأهميته، وكيف يكون بسبب تلك الأدوار الرقي بالأمة في شتى مجالاتها، سؤالي: ما هي أهم التخصصات سواءً العامة أو الدقيقة التي تحتاجها الأمة خلال المرحلة القادمة، أو كنظرة إستراتيجية خلال 20 سنة؟ وما هي الكتب أو المواقع التي تكلمت في هذا الموضوع واستشرفت المستقبل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينتظم الكلام عن التخصص في الدراسات التي تحتاجها الأمة الإسلامية في مسائل وأحكام، منها:
1. لا شك أن الأمة الإسلامية تحتاج من أبنائها أن يكونوا قادة العالَم في العلوم النظرية والعملية، وأن لا يكونوا عالَة على غيرهم من الأمم، والإسلام دين العلم، بدأ الله تعالى وحيه لنبيه صلى الله عليه وسلم بكلمة (اقرأ) ، وحثَّ على العلم، ورفع من شأنه، وأوجب تعلم العلوم التي تحتاجها أمة الإسلام وجوباً كفائيّاً.
2. ونوصي أن يكون أصحاب الاختصاص ممن لهم ميل لهذا العلم، وذاك التخصص، فمن المعلوم أن المسلمين يتفاوتون فيما بينهم في الميل نحو علوم دون أخرى، ومن الأفضل أن نحث كل واحدٍ منهم نحو ما يميل له من العلوم، لا أن نجبره على تعلم شيء لا يرغبه، فضلاً عن المنع من إجباره نحو ما يكره.
وهذه المسألة عالجها أئمة الإسلام قديماً وحديثاً، بل إنهم أوصوا بها أن تنمَّى مع الطفل في صغره، دون الحاجة للانتظار لأن يكبر حتى يوجه لهذا العلم.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
ومما ينبغي أن يعتمد: حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له: فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً؛ فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له: لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيِّد الحفظ، واعياً: فهذه من علامات قبوله، وتهيؤه للعلم لينقشه في لوح قلبه ما دام خالياً؛ فإنه يتمكن فيه، ويستقر، ويزكو معه.
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب، والرمي، واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يُخلق له: مكَّنه من أسباب الفروسية، والتمرن عليها؛ فإنه أنفع له، وللمسلمين.
وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يُخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعداً لها، قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس: فليمكِّنه منها.
هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه؛ فإن ذلك ميسر على كل أحد لتقوم حجة الله على العبد، فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة.
" تحفة المودود في أحكام المولود " (ص 243، 244) .
ومن تأمل في حال الصحابة، ورأى تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم: علم مدى مطابقة ما قلناه لواقعهم رضي الله عنهم، فقد كان منهم العالِم الفقيه، ومنهم القارئ، ومنهم المجاهد، ومنهم الشاعر، وكلٌّ يؤدي ما يتقنه، ويساهم في بناء الدولة، وكما يكون الدفاع عن الإسلام بالمناظرة والحجة: فإنه يكون بالسيف والرمح، ولكل واحدٍ من هذه الفنون أهلها وأربابها، وقد اشتركوا جميعاً في معرفة الإسلام، ولم ينافِ ذلك أن يكون متخصصاً في فن، أو صنعة.
3. يجب التفريق بين الرجال والنساء في التوجه نحو الاختصاص في العلوم والفنون، فما يصلح للرجال ليس بالضرورة أن يصلح كله للنساء، فالعلوم الصناعية الثقيلة، والسياسية، والعسكرية لا تليق بالمرأة، ومما يليق بها وتشترك فيه مع الرجال: العلوم التربوية، والصناعية الخفيفة، والعلوم الطبية – وتختص عن الرجل بتوجيهها نحو طب النساء -.
4. ولا يجوز للرجال ولا للنساء مخالفة شرع الله تعالى في دراسة التخصصات، وتعلمها، فعليهم تجنب الاختلاط، والسفر لدول الكفر، وسفر المرأة وحدها دون محرمها، ومن المخالفات الشرعية في ذلك: الذهاب لبلاد الكفر للدراسة مع وجود هذا العلم والتخصص في بلاد المسلمين.
وإذا احتاجت الأمة الإسلامية لعلم ضروري فينبغي أن يُحسن اختيار من يقوم به، لا أن يفتح الباب على مصراعيه للجميع، فيذهب للبلاد الكافرة الشاب المراهق الأعزب، والضعيف في علمه الشرعي؛ لأن هذا أدعى لوقوعه في الفتنة، ونكون خسرناه وخسرنا ما ذهب من أجله، ولم نستفد شيئاً.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -:
" إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج؛ لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لا سيما في مجال التصنيع وأشباهه: فأرى أن يكوَّن لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية , واختيار مشرف على هذه البعثة، معروف بعلمه، وصلاحه، ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة , ويقوم بالدعوة إلى الله هناك , وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة , ويتفقد أحوالها، وتصرفات أفرادها , ويقوم بإرشادهم وتوجيههم , وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه، وتشكيك، وغير ذلك.
وينبغي أن يُعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم، ولو قصيرة، يدرَّسون فيها جميع المشاكل، والشبهات، التي قد تواجههم في البلاد التي يُبتعثون إليها , ويُبين لهم موقف الشريعة الإسلامية منها , والحكمة فيها، حسب ما دل عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم , وكلام أهل العلم، مثل أحكام الرق , وتعدد الزوجات بصفة عامة , وتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة , وحكم الطلاق , وحكمة الجهاد ابتداءً ودفاعاً، وغير ذلك من الأمور التي يورد ها أعداء الله على شباب المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للرد على ما يعرض لهم من الشبه.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (1 / 386 - 388) .
وقال علماء اللجنة الدائمة:
إذا كان الواقع كما ذكر من أن التخصص الذي تدرسه موجود في بلدك الإسلامي، وأن الدراسة في الخارج مشتملة على مفاسد كثيرة في الدين والأخلاق وعلى الزوجة والأولاد - فإنه لا يجوز لك السفر لهذه الدراسة؛ لأنها ليست من الضرورات، مع وجودها في بلدك الإسلامي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في التحذير من الإقامة في بلاد الكفار من غير مسوغ شرعي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين " وغيره من الأحاديث، وما وقع فيه بعض المسلمين من السفر إلى بلاد الكفار من غير ضرورة هو من التساهل الذي لا يجوز في دين الله، وهو من إيثار الدنيا على الآخرة، وقد قال الله جل وعلا: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) سورة الأعلى، الآيتان (16، 17) ، وقال سبحانه: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) سورة النساء، الآية: (77) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ عبد الله الغديان، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (26 / 93 - 96) .
5. وأخيراً: فإن العلوم كثيرة، وفي كل علم وفن تخصصات، فالطب تخصصاته كثيرة، والعضو الواحد من الجسد يكون فيه تخصصات، والأمة الإسلامية تحتاج لكل العلوم والفنون المباحة، من الطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم الذرة، والنووي، والعلوم العسكرية، والصناعات الثقيلة، وغير ذلك من العلوم والفنون، على أن يكون ذلك بحسن اختيار، ولمقصد شرعي أو مباح، مع الالتزام بالشرع أثناء تحصيله، ومع تحصيل قدرٍ كافٍ من العلوم الشرعية.
ولا نعلم – الآن – كتاباً معيَّناً نحيلك عليه.
ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لما يحب ويرضى، وأن يكتب لهم العز والتمكين.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/542)
أسئلة في طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب في كلية الهندسة، عمري (19 عاما) ، نويت وقررت أن أتفقه في ديني وأطلب العلم الشرعي، وأجمع بين العلمين، فاقتنيت الكتب التي أوصيت بها لطالب العلم المبتدئ كلها، كما في السؤال رقم (20191) ، وأفهم منها الكثير والحمد لله. وقد نبهت حفظك الله بأن أبدأ بحفظ القرآن الكريم، لكني أجد مشقة كبيرة في الحفظ للأسف، ولا أجد ذلك في حفظي الأحاديث، ولا أعلم السبب، فالسؤال هنا على عدة نقاط: 1. هل أستطيع أن أوفق بين العلمين (الهندسة والعلم الشرعي) ؟ 2. هل أستطيع أن أتنقل بين فروع العلم الشرعي قبل أن أكمل الفرع السابق، على سبيل المثال: أقرأ في الأصول الثلاثة في العقيدة، ثم أنتقل لكتاب شرح الآجرومية للشيخ محمد العثيمين رحمه الله قبل أن أنهي الأصول الثلاثة، وذلك حتى أخفف من حدة الروتين. هل يكفي حفظ الأدلة من النصوص القرآنية من غير حفظ القرآن (أقصد حفظ السور) ؟ علما أنه لا يوجد هناك مشقة في حفظ الأدلة مع الفهم. أرجو ذكر أسماء الأشرطة التي تنصح فيها لشرح الدروس، لا المحاضرات العامة كما نبهت لذلك في السؤال رقم (104174) . أرجو إفادتي بذكر أسماء بعض الكتب الموثوقة في سرد حياة السلف الصالح، بداية من الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة الكرام، وذلك لما في الكتب الكثير من التدليس والكذب نسأل الله السلامة والعافية. 3. هل من كتاب مبسط موثوق يشرح كتاب " عمدة الفقه " لطالب العلم المبتدئ، وكتاب آخر يشرح كتاب " عمدة الأحكام "، علما أني أجد بعض الصعوبة في فهمهما.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والعون والسداد.
واعلم ـ أخانا الكريم ـ أن طريق طلب العلم الشرعي طريق طويل، يقتضي منك الصبر والأناة والمثابرة، فالعلم لا يأتي جملة، وإنما مع الأيام والليالي، بشرط الحرص والمتابعة، والحذر من الفتور والانقطاع.
ونبشرك بإمكان تحصيل قدر من العلم الشرعي الجيد مع التخصص الدنيوي، لكن بشرط استمرار الهمة العالية على الدوام، والمحافظة على قدر معتدل من المطالعة والدراسة الشرعية.
أما إذا ملك التخصص الدنيوي على الطالب وقته وعمره، ولم يكد يجد في اليوم الساعة أو الساعتين للقراءة الشرعية، ثم يريد أن يصبح فقهيا أو محدثا أو متخصصا في العلوم الشرعية في سنوات معدودة: فذلك أمر لا يقع في سنن الله المعهودة؛ لأن العلم الشرعي يستغرق عمر الإنسان إن سلكه فيه، فكيف إن أعطاه الفضلة من وقته فقط.
وقد كان العلماء في القديم ينبهون الطلاب إلى ضرورة تفريغ القلب عن الشواغل والعلائق، كي تصفو القريحة، وتنجلي النفس لاستظهار العلوم الشرعية، وفهمها، والزيادة عليها، وتحقيق الصحيح منها، وإدراك أحكام النوازل، إلى جانب الدعوة إليها، والعمل بما فيها، فالعلم الشرعي مدرسة، بل حياة كاملة تنقضي الأعمار، وتنطوي الأجيال، ولا تنقضي دقائقه وأسراره.
عقد الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/425) بابا جاء فيه: " باب حذف المتفقه العلائق: كان بعض الفلاسفة لا يُعَلِّمُ أحدا يتعلق بشيء من الدنيا، ويقول: العلم أجَلُّ مِن أَن يُشتغَلَ عنه بغيره – ثم روى بسنده عن مليح بن وكيع قال -: سمعت رجلا، يسأل أبا حنيفة: بم يستعان على الفقه حتى يحفظ؟ قال: بجمع الهم. قال: قلت: وبم يستعان على حذف العلائق؟ قال: بأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد.
كما روى بسنده في "الفقيه والمتفقه" (2/466) عن إبراهيم بن سيار النظام قال: " العلم: شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك، من إعطائه البعض على خطر " انتهى.
ومع ذلك لا ينبغي لمن سلك سبيل التخصصات الدنيوية أن ييأس من تحصيل العلم الشرعي، فالأيام تتقلب، والظروف تختلف، وإن لم يجد الوقت الكافي للطلب اليوم، لعله يجده غدا، أما إن كان يجد الوقت الكافي فلا ينبغي له أن يضيع على نفسه الفرصة، وليحرص على تحصيل الفوائد وضبط المسائل، وهو في ذلك كله يتدرج بالمسألة والمسألتين، ولا يستعجل الضبط والتمكين، فالأمر يحتاج إلى سنوات وسنوات.
عن حصين، قال: جاءت امرأة إلى حلقة أبي حنيفة، وكان يطلب الكلام، فسألته عن مسألة له ولأصحابه، فلم يحسنوا فيها شيئا من الجواب، فانصرفت إلى حماد بن أبي سليمان، فسألته فأجابها، فرجعت إليه، فقالت: غررتموني، سمعت كلامكم، فلم تحسنوا شيئا.
فقام أبو حنيفة فأتى حمادا، فقال له: ما جاء بك؟ قال: أطلب الفقه. قال: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها شيئا حتى يتفق لك شيء من العلم، ففعل، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع.
يقول الخطيب البغدادي بعد رواية هذه القصة:
" وينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلا قليلا، حسب ما يحتمله حفظه، ويقرب من فهمه، فإن الله تعالى يقول: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .
وينبغي أن يراعي ما يحفظه، ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة، ولا يغفل ذلك، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنسانا مسألة من العلم، سأله عنها بعد مدة، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم، فأقبل عليه وزاده، وإن لم يره قد حفظها، وقال له المتعلم: كنت قد حفظتها فأنسيتها، أو قال: كتبتها فأضعتها، أعرض عنه ولم يعلمه " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" (2/462-464)
وهذا كله من باب مسايسة النفس لحملها على المواصلة والمثابرة، ومن ذلك أيضا التنقل بين نوعين فأكثر من أنواع العلوم، لدفع السآمة والملل، واستجلاب القوة والنشاط، وهو أسلوب مستعمل لدى العلماء الأولين، لكن بشرط التأني في ضبط المسائل وحفظها ومراجعتها، وليس تنقلا عبثيا يحمل عليه العجلة والاضطراب.
ومن حسن التعلم أيضا أخذ المسائل والعلوم على قدر الوسع والطاقة، فلا يتكلف الطالب حفظ ما يعد غاية في الصعوبة في عرف العلماء، كذلك الطالب الذي يكابد لحفظ آيات القرآن الكريم، ثم تجده يشرع في حفظ أسانيد الأحاديث، أو أبيات المنظومات المطولة، وهو يتعثر في حفظ كلام الله عز وجل، فذلك خطأ منهجي ظاهر.
وذلك لا يعني قعود الطالب عن الحفظ بدعوى العجز، بل ينبغي المثابرة والمصابرة، وخاصة إذا كان المقصود حفظ القرآن الكريم، فحفظ أكثره واستظهار آياته ضروري لكل مسلم، فكيف لطالب العلوم الشرعية، أما إن عجز عن الحفظ ويئس، فلا أقل من حفظ المفصل من القرآن، وهو من سورة " ق" حتى ختام المصحف، على المشهور، يستعين به على عبادته وصلاته، ويعمر به فؤاده، ثم حفظ آيات الأحكام، والإكثار من القراءة والتأمل في كلام الله عز وجل.
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله:
" اعلم أن القلب جارحة من الجوارح، تحتمل أشياء، وتعجز عن أشياء، كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا، وكذلك منهم من يمشي فراسخ في يوم، لا يعجزه، ومنهم من يمشي بعض ميل، فيضر ذلك به، ومنهم من يأكل من الطعام أرطالا، ومنهم من يتخمه الرطل فما دونه.
فكذلك القلب: مِن الناس مَن يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ عشر ورقات تشبها بغيره لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، ولم ينتفع بما سمع، فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدارٍ يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه، فإن ذلك أعون له على التعلم من الذهن الجيد والمعلم الحاذق.
قال بعض الحكماء: إن لهذه القلوب تنافرا كتنافر الوحش، فألفوها بالاقتصاد في التعليم، والتوسط في التقويم، لتحسن طاعتها، ويدوم نشاطها، ولا ينبغي أن يُمْرِج نفسه [أي: يرسلها بلا ضابط] فيما يستفرغ مجهوده، وليعلم أنه إن فعل ذلك فتعلم في يوم ضعف ما يحتمل أضر به في العاقبة، لأنه إذا تعلم الكثير الذي لا طاقة له به، وإن تهيأ له في يومه ذلك أن يضبطه، وظن أنه يحفظه، فإنه إذا عاد من غد وتعلم نسي ما كان تعلمه أولا، وثقلت عليه إعادته، وكان بمنزلة رجل حمل في يومه ما لا يطيقه، فأثر ذلك في جسمه، ثم عاد من غد، فحمل ما يطيقه فأثر ذلك في جسمه، وكذلك إذا فعل في اليوم الثالث، ويصيبه المرض وهو لا يشعر.
ويدل على ما ذكرته: أن الرجل يأكل من الطعام ما يرى أنه يحتمله في يومه مما يزيد فيه على قدر عادته، فيعقبه ذلك ضعفا في معدته، فإذا أكل في اليوم الثاني قدر ما كان يأكله أعقبه لباقي الطعام المتقدم في معدته تخمة.
فينبغي للمتعلم أن يشفق على نفسه من تحميلها فوق طاقتها، ويقتصر من التعليم على ما يبقي عليه حفظه، ويثبت في قلبه.
وينبغي أن يجعل لنفسه مقدارا، كلما بلغه وقف وقفة أياما لا يزيد تعلما، فإن ذلك بمنزلة البنيان: ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء، بناه أذرعا يسيرة، ثم تركه حتى يستقر، ثم يبني فوقه، ولو بنى البناء كله في يوم واحد لم يكن بالذي يستجاد، وربما انهدم بسرعة، وإن بقي كان غير محكم، فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حدا، كلما انتهى إليه وقف عنده، حتى يستقر ما في قلبه، ويريح بتلك الوقفة نفسه، فإذا اشتهى التعلم بنشاط عاد إليه، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرض له " انتهى باختصار.
"الفقيه والمتفقه" (2/481-483) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
" الناس طبقات في العلم، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم فيه، فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه، نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" (2/465) .
أما الأشرطة العلمية التي ننصحك بها فهي أشرطة العلماء المعاصرين المشهورين، كأشرطة الشيخ ابن عثيمين، احرص عليها كلها، وغيره من العلماء والمتخصصين الذين تجد شروحاتهم العلمية في موقع طريق الإسلام ومكتبة المشكاة، فتجد فيها أيضا إن شاء الله شروحا مهمة لعمدة الفقه وعمدة الأحكام وغيرها من الكتب الفقهية.
وفي أبواب سير العلماء يمكنك قراءة كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، فهو من أوسع وأشمل ما كتب في هذا الموضوع، فإن وجدته طويلا فقد اختصره بعض المعاصرين في أربعة مجلدات، يمكن لمن لا يجد الوقت الكافي القراءة منه، ولكنا ننصح بقراءة الكتاب نفسه على ما فيه من طول، ففيه فوائد تربوية وفقهية وحديثية وتاريخية كثيرة.
واستعن بالله تعالى ربك أن يعينك على هذه العبادة – طلب العلم –، وداوم على دعائه بأن ييسر لك الصعب ويسهله، ولا تنس الإخلاص في الطلب فهو سر النجاح والتوفيق في الدارين.
وأما شروح عمدة الأحكام المعاصرة فمن أيسرها وأقربها: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للشيخ عبد الله البسام، رحمه لله، وهناك شروح صوتية مسجلة لعدد من أهل العلم عليه، ومن أوسعها شرح الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله.
وللشيخ البسام رحمه الله أيضا تعليقات مختصرة على عمدة الفقه، مع أهمية الاستعانة بالشروح المسموعة لها، مثل شرح الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله، وغيره من أهل العلم الذين شرحوها، وهي كثيرة جدا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/543)
هل يأثم إذا استمر في استعمال الحاسوب وهو يؤذي عينيه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أقضي تقريباً معظم وقتي أمام شاشة الحاسوب، وأنت تعلم أن الأشعة التي تنبعث منها مُضرة بالعين، وأنا لا أستعمل أي واقٍ على عيني، وقد تسببت لنفسي أن ضعف بصري، ولم أعد أرى جيداً بسبب أشعة الحاسوب، وأعلم أن الله عز وجل يقول: (ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ما أريد أن أعرفه هو: هل ما أقوم به أنا الآن حرام أم حلال؟ يعني هل أُعتبر مُعرضا نفسي للتهلكة التي نهانا الله تعالى عنها في الآية الكريمة؟ علماً أنني لا أقوم بشيء مُحرم أمام الحاسوب، فقط التفقه في الدين والبحث عن الاستفادة..؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز لك الاستمرار في إهمال عينيك وإلحاق الضرر بهما، وإن كنت لا تكترث لما يصيبك من الأذى فالشريعة لا ترضى بذلك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع أنواع الأذى والضرر بقوله: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار) رواه ابن ماجه (2340) .
قال الشاطبي رحمه الله في "الموافقات" (3/16) :
" الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات، كقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) ، (ولا تضاروهن) ، ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال.
فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك " انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " المعنى: كل شيء يضر بالشخص في دينه أو دنياه محرم عليه تعاطيه: من سم أو دخان أو غيرهما مما يضره؛ لقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (6/23-24) .
فاحرص على اتباع نصائح الطبيب في طريقة استعمال الحاسوب، ومراعاة الوسيلة التي لا تضر عينيك، واستغفر الله على ما فات من تفريطك، ولا تفرط في صحتك، ولا تهمل شأنك في مستقبل أمرك؛ فهذا كله من نعم الله تعالى التي يجب المحافظة عليها، ثم إن استمر الضرر في عينيك – بعد أخذك بأسباب الوقاية – فلا حرج عليك حينها إن شاء الله تعالى، بل لك الأجر إن صبرت واحتسبت.
نسأل الله لنا ولك الصحة والعافية.
وانظر جواب السؤال رقم: (107305) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/544)
هل القراءة واستماع الشروح طريقة صحيحة في طلب العلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طريقتي في طلب العلم أقرأ الكتب العلمية في العقيدة وغيرها من الاستماع للشروحات في المسجل، للشيخ العثيمين رحمه الله، فهل تعد هذه الطريقة صحيحة في الطلب؟ وهل أقول أن الشيخ العثيمين أو غيره من المشائخ (شيخي) إذا كنت لم أثن الركب عنده، ولم أحضر مسجده، أي أنني تابعته في الأشرطة فقط؟ وجزاكم الله خيراً كثيراً، وبارك الله فيكم وفي علمكم..]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
العلم الشرعي يقوم على ثلاثة أركان:
1- الحفظ: وأعني به حفظ ما يتيسر من: النصوص القرآنية والنبوية والأفكار والمعلومات والمتون العلمية.
2- الفهم: فهم المسائل الكلية والجزئية ومعرفة تعليلها وتفسيرها.
3- التحليل والاستنتاج والابتكار: بناء على الربط بين النصوص، وفهم المقاصد الشرعية والقواعد الكلية في أنواع العلوم الشرعية.
وأما القراءة وحضور الدروس واستماع المحاضرات المسجلة وسؤال أهل العلم ما هي إلا وسائل لتحصيل هذه الأركان، وكلما تنوعت هذه الوسائل تحققت النتيجة الأفضل، ولا شك أنها جميعها وسائل مهمة، إلا أنَّ مَن لم تتيسر له جميعها فلا يعدم أن يجتهد في المتيسر منها، خاصة أن القراءة وسيلة سهلة ميسورة اليوم، وهي أفضلها وأجمعها على الإطلاق، فمن اجتهد فيها وفي استماع المحاضرات فقد حصَّل خيرا كثيرا، بشرط أن يلتفت إلى أركان العلم الثلاثة المذكورة فيسعى في تنميتها وتطويرها في نفسه من خلال القراءة، فلا يجعل القراءة غاية، بل هي وسيلة لتحصيل تلك الأركان، وذلك يعني العناية التامة بحفظ المهم من المقروء ومراجعته بين الحين والآخر، وفهمه الفهم الحسن على وجهه، مع محاولة مناقشة وجهه وتفسيره ونقده إن أمكن، فإذا تعود القارئ على هذا النوع من القراءة حصل الفائدة المرجوة، وإلا لم يَجنِ مِن قراءته إلا الثقافة العامة والاطلاع العام.
ثانيا:
استماع المحاضرات المسجلة أيضا من الوسائل المفيدة في تحصيل العلم الشرعي، وتعويض العجز عن السفر والرحلة للقاء العلماء والمشايخ، بل وتوفير الوقت والجهد والمال، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة التي قد سبق بيانها في جواب السؤال رقم: (89575)
يقول الشيخ عبد العزيز السدحان في "معالم في طريق طلب العلم" (41-42) :
" الأشرطة السمعية: هي والله نعمة، لكن كثيرا منا فرط فيها، وسبب التفريط في هذه النعمة يعود إلى عدم الاهتمام بترتيب الوقت، ولقد قرأت أثرا في أول الموضوع أن السلف كانوا يقولون: إن العلم يؤتى ولا يأتي، والآن يؤتى ويأتي بواسطة هذه الأشرطة التي تعين طالب العلم، ولقد ذكر المستمعون لها أن فيها خيرا كثيرا، ولقد انتفعت بها واستفدت خيرا، أقول هذا من باب التحدث بالنعمة. والصنعاني يقول في منظومته في الحج:
ومن لم يجرب ليس يعرف قدره فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه.
أليس من نعمة الله عليك أن يكون العلم مصاحبا لك في سيرك، وفي اضطجاعك على فراشك، وفي جلوسك على مائدتك؟
وإن الواحد منا إذا أحسن انتقاء الأشرطة، ورتب وقتا لسماعها في سيارته أو منزله لوجد في ذلك خيرا كثيرا.
وقد حدثت أن أحد الشباب الصالحين قد حفظ القرآن الكريم كله بفضل الله، ثم بسبب هذه الأشرطة، ويقول عن نفسه: إنه كان يستمع إلى قراءة الشيخ محمد صديق المنشاوي سنتين كاملتين، كلما انتهى من شريط أعاده حتى أصبح القرآن سلسا على لسانه.
فلا تستبعد هذا على نفسك، ولكن رتب وقتك، ورتب هذه الأشرطة في أثناء سماعك لها، ولا تدخل شريطا على آخر حتى تفرغ من الأول، فإن لم تستفد من الشريط الأول فأعده مرة ومرتين وكرات ومرات.
وإذا أردت أن تعرف قدر الساعات التي تهدر فانظر في سيرك كم تسمع خلاله من شريط، فإذا كان الشريط الواحد مدته ساعة أو ساعة ونصف، فهذه أوقات تهدر لا يفطن لها الواحد منا إلا إذا نبه لها، فرتب لنفسك وقتا تسمع فيه درسا في أثناء سيرك، خاصة وقد تباعدت المنازل والدور، وكثر الذهاب والإياب، لأجل العمل والزيارات، كزيارة رحم أو زيارة أخ في الله، وقضاء حاجة من متطلبات المنزل وغيرها، ثم حافظ على هذا الترتيب وسترى أنك لا تنزل من سيارتك إلا وقد سمعت من الفوائد الشيء الكثير.
ذكرت هذا لكثرتها، ولأن فيها من العلم الشيء الكثير، ولأن مشايخنا وكبار مشايخنا علمهم محفوظ فيها، وتباع بأيسر الأثمان، ويستطيع الواحد منا أن يتناولها في كل وقت.
وأعرف إخوة شغلوا عن حضور الدروس لكثرة الأعمال والأشغال، فعوضوا هذا بالاستماع إلى الأشرطة فنفعهم الله بها " انتهى.
ثالثا:
لفظ الشيخ قد استعمله علماء الحديث ـ في هذا السياق ـ بمعنى الراوي الذي يروي الحديث لمن دونه، فيكون هو شيخه وذاك تلميذه، ولو سمع منه حديثا واحدا فقط.
وأطلقه كثير من العلماء المتأخرين على العالم الذي لازمه الطالب، فأخذ عنه علمه وهديه وسمته، وصاحبه زمانا يتحقق فيه مقصد التفقه والتعليم.
ولعل هذا الاصطلاح الأخير هو السائد في عصرنا اليوم. وبناء عليه:
فالذي يريد أن يسمي واحدا من العلماء بأنه " شيخه "، فينسب نفس إليه، ينبغي أن يراعي اختلاف المدلول الذي يحمله هذا اللفظ عبر العصور، ومراعاة ذلك تكون بالصدق وعدم الإيهام، فلا ينبغي أن تطلق على أحد العلماء بأنه " شيخك " موهما أنك لازمته وحضرت له وأخذت عنه الشيء الكثير، في حين أنك لم تسمع منه شيئا، ولم تحضر دروسه إلا القليل، وقد تكون لم تره أصلا، فمن أوقع المستمعين في هذا الوهم يُخشى عليه أن يشملَه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)
البخاري (5219) ومسلم (2129)
يقول النووي في "شرح مسلم" (14/110) :
" قال العلماء: معناه: المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل، فهو مذموم " انتهى.
أما من أطلق لفظة " شيخي " – يقصد بها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله مثلا – وكان المستمعون يدركون أنه إنما يعني تلمذة استماع المحاضرات والأشرطة، وليس الحضور والملازمة الحقيقية، فلا حرج عليه حينئذ، فهو لم يزور الحقائق، ولم يستكثر بما لم يعط. وقد كان الشيخ صديق حسن خان القنوجي، المولود سنة (1248هـ) ينقل عن الإمام الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ) ويقول: قال شيخنا. ولا يقصد به التلمذة الحقيقية، لأن الشوكاني توفي وعمره سنتان فقط، ولكنه أراد مشيخة القراءة والكتب، فقد اشتغل القنوجي بكتب الشوكاني وعلومه، وتبع منهجه فيها.
وللتوسع انظري جواب السؤال رقم: (1813) ، (10124) ، (20191) ، (22330)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/545)
ما يجب تعلمه من القرآن والحديث
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي السور والآيات التي يجب على كل مسلم حفظها، وما هي الأحاديث التي يجب على كل مسلم تعلمها واتباعها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
وبعد، فالعلم الشرعي منه ما هو فرض على كل واحد من المكلفين، ويسمى فرض العين، وضابطه: أن يتوقف عليه معرفة عبادةٍ من العبادات التي يكلف بها، أو معاملة يريد القيام بها.
ومنه ما هو مفروض على مجموع الأمة؛ إذا أداه بعضها على الوجه المراد سقط الطلب عن الباقين، وإلا أثم جميع القادرين على القيام به، ويسمى هذا فرض الكفاية.
وحفظ القرآن والحديث هو من النوع الثاني، فيجب على الأمة أن تحفظ كتاب الله تعالى وحديث رسوله، إما في الصدور وإما في السطور، بحيث لا يضيع شيء من مصدري التشريع، قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمة شرح المهذب (1/51) : " القسم الثاني –أي من أقسام العلم الشرعي- فرض الكفاية وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والحديث وعلومهما والأصول ... ". إلى آخر ما قاله رحمه الله.
أما ما يجب حفظه من القرآن والحديث وجوباً عينياً – أي على كل مكلف من المسلمين - فإنه لا يجب حفظ شيء من ذلك، حفظ صدر بل يجب عليه تعلم ما لا تصح الصلاة إلا به فالفاتحة يجب على كل ملكف أن يتعلمها أي يحسن قراءتها فإن حفظها فذاك أمر حسن وإن لم يحفظها في صدره وجب عليه أن يقرأها من مصحف أو ورقة ونحوها.
قال النووي في المجموع (3/335) : " قال أصحابنا: إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة وجب عليه تحصيل القدر بتعلم , أو تحصيل مصحف يقرؤها فيه بشراء أو إجارة أو إعارة , فإن كان في ليل أو ظلمة لزمه تحصيل السراج عند الإمكان , فلو امتنع من ذلك عند الإمكان أثم ولزمه إعادة كل صلاة صلاها قبل قراءة الفاتحة , ودليلنا: القاعدة المشهورة في الأصول والفروع: أن ما لا يتم الواجب إلا به وهو مقدور للمكلف , فهو واجب " انتهى.
وفي كشاف القناع، للبهوتي رحمه الله (1/34) : " (ويلزم الجاهل) يعني من لم يحسن الفاتحة (تعلمها) لأنها واجبة في الصلاة , فلزمه تحصيلها إذا أمكنه كشروطها (فإن لم يفعل) أي: لم يتعلم الفاتحة (مع القدرة عليه لم تصح صلاته) لتركه الفرض وهو قادر عليه " انتهى.
وقال مصطفى الرحيباني الحنبلي في مطالب أولى النهى (1/432) : " ويلزم جاهلا تعلم الفاتحة لأنها واجبة في الصلاة , فلزم تحصيلها إذا أمكنه كشروطها " انتهى.
والحديث كذلك؛ فإنه لا يجب على المسلم والمسلمة المكلفين حفظ شيء منه، لكن يجب تعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، كالحديث الذي ورد في بيان لفظ التشهد في الصلاة. قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (1/ 315) : " أقل ما يجزئ التحيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أو أن محمداً رسول الله." انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/546)
حضور المرأة اختبار التجويد على مشايخ في غرفة مغلقة
[السُّؤَالُ]
ـ[امرأة تسأل تقول أنها ستتقدم لاختبار في أحكام التجويد لكتاب الله إن شاء الله، وسوف تختبر منفردة في غرفة مع ثلاثة شيوخ أفاضل، فما حكم هذا الفعل هل هو جائز؟، مع العلم أنه لا يوجد نساء يقمن مقام هؤلاء الشيوخ الأفاضل الثلاثة في هذا الامتحان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا حرج فيما ذكرت من حضور المرأة اختبار التجويد أمام ثلاثة من الشيوخ، بشرط أن يكون كلامها فيما تدعو إليه الحاجة، ومن غير خضوع بالقول، والأولى أن يتم اختبارها عن طريق النساء، أو يكون اختبارها في حضور محرم لها، لكن إذا لم يتيسر ذلك فلا حرج، وذلك لأمرين:
الأول: أن وجود المرأة مع جماعة من الرجال، مع انتفاء الريبة، لا حرج فيه عند بعض أهل العلم؛ لما روى مسلم (2173) عن عَبْد اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ دَخَلُوا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ (أي: زوجته) فَرَآهُمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لَمْ أَرَ إِلَّا خَيْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: (لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوْ اثْنَانِ) .
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم": " الْمُغْيِبَة هِيَ الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوْجهَا. وَالْمُرَاد: غَابَ زَوْجهَا عَنْ مَنْزِلهَا , سَوَاء غَابَ عَنْ الْبَلَد بِأَنْ سَافَرَ , أَوْ غَابَ عَنْ الْمَنْزِل , وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَد. لأَنَّ الْقِصَّة الَّتِي قِيلَ الْحَدِيث بِسَبَبِهَا وَأَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ غَائِب عَنْ مَنْزِله لَا عَنْ الْبَلَد.
ثُمَّ إِنَّ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث جَوَاز خَلْوَة الرَّجُلَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَة بِالْأَجْنَبِيَّةِ , وَالْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا تَحْرِيمه , فَيَتَأَوَّل الْحَدِيث عَلَى جَمَاعَة يَبْعُد وُقُوع الْمُوَاطَأَة مِنْهُمْ عَلَى الْفَاحِشَة لِصَلَاحِهِمْ , أَوْ مُرُوءَتهمْ , أَوْ غَيْر ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ الْقَاضِي إِلَى نَحْو هَذَا التَّأْوِيل " انتهى.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " لا يجوز ركوب المرأة مع سائق ليس محرماً لها وليس معهما غيرهما؛ لأن هذا في حكم الخلوة، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يخلونَّ رجل بامرأةٍ إلا ومعها ذو محرَم " رواه البخاري (5233) ومسلم (1341) ، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يخلونَّ رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما". أما إذا كان معهما رجل آخر أو أكثر أو امرأة أخرى أو أكثر: فلا حرج في ذلك إذا لم يكن هناك ريبة؛ لأن الخلوة تزول بوجود الثالث أو أكثر " انتهى من "فتاوى المرأة المسلمة" (2 /556) .
وينظر: فتاوى الشيخ ابن باز (5/78) .
الثاني: أن صوت المرأة ليس بعورة على الصحيح.
قال في "مغني المحتاج" من كتب الشافعية (4/210) : " وصوت المرأة ليس بعورة , ويجوز الإصغاء إليه عند أمن الفتنة , وندب تشويهه إذا قُرع بابها فلا تجيب بصوت رخيم , بل تغلظ صوتها بظهر كفها على الفم " انتهى.
وفي " كشاف القناع" من كتب الحنابلة (5/15) : " وصوتها أي الأجنبية ليس بعورة، ويحرم التلذذ بسماعه ولو كان بقراءة خشية الفتنة " انتهى.
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (17/202) : " صوت المرأة نفسه ليس بعورة، لا يحرم سماعه إلا إذا كان فيه تكسر في الحديث، وخضوع في القول، فيحرم منها ذلك لغير زوجها، ويحرم على الرجال سوى زوجها استماعه؛ لقوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقّيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الََّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) " انتهى.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/547)
من أين يبدأ من يريد حفظ القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا أراد الإنسان حفظ القرآن فبماذا تنصحونه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سُئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال السابق فأجاب رحمه الله بقوله: الذي ننصحه به أن يبدأ من البقرة , إلا إذا كان حفظه من المفصل؛ لأن بعض الناس يسهل عليه الحفظ من المفصل من أجل قصر سوره وآياته، وكونه يسمعه من الأئمة في المساجد كثيراً , فإذا كان هذا سهل عليه فليبدأ بما هو أسهل , وننصحه أيضاً أن يهتم بما كان حَفِظَه أكثر من اهتمامه بكثرة الحفظ؛ لأن العناية بالموجود أولى من العناية بالمفقود.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (212) .(8/548)
كيف ومن أين تبدأ في تعليم مبادئ الإسلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عند رغبة أحدهم فى تعليم آخر تعاليم الإسلام فكيف عليهما أن يبدءا؟ ومن أين عليهما البدء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العلم بالإسلام وأحكامه ومبادئه فرض على كل مسلم ومسلمة، بالقدر الذي يحتاج إليه في إقامة العقيدة والعبادات والأخلاق تبعا لما يريده الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ)
رواه ابن ماجه (224) وحسنه بكثرة طرقه وشواهده: المزي، والزركشي، والسيوطي، والسخاوي، والذهبي، والمناوي، والزرقاني، وهو في "صحيح ابن ماجه "للألباني.
وانظر جواب السؤال رقم (10471) ، (20092) .
أما تعليم العلم فهو وظيفة الأنبياء، يحملها العلماء من بعدهم كي تبقى حجة الله قائمة على خلقه، ولتبقى دعوة التوحيد غضة طرية يتلقاها الناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقنها أصحابه.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) رواه أبو داود (3641) وغيره، وصححه الألباني.
قال ابن القيم رحمه الله: " هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإن الانبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم. ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به، إلا العلماء، كانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم، فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم، فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء " انتهى.
مفتاح دار السعادة (1/66) .
غير أن هذا الذي قررناه إنما هو فيمن يقوم مقام الأنبياء في تعليم الناس، وفتوى الناس في نوازلهم وما يحتاجون إليه، وسياستهم بدين الله تعالى.
وأما من يقوم بتبليغ ما علمه من دين الله تعالى لغيره، إما آية حفظها، وإما حديث علمه ووعاه، وإما فتوى سمعها من بعض أهل العلم الثقات، فإن هذا لا يشترط فيه أن يكون عالما، إلا بالأمر الذي يبلغه ويأمر الناس به فقط، وليس عالما بالمعنى المطلق الذي يعرفه الناس من ذلك اللفظ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)
رواه البخاري (3461) .
وقال عَبْدُ اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ..) رواه البخاري (4809) .
فإذا عدنا إلى سؤالك: كيف عليهما أن يبدآ؟
فالنصيحة لهما إذا وجدنا من سبقهما إلى طلب العلم والالتزام بأحكامه وآدابه، من أهل السنة، أن يسترشدا به، ويستفيدا من تجربته، فهذا الأمر سوف يوفر عليهما كثيرا من الوقت والجهد إن شاء الله.
وسواء تيسر له في مكانه من أهل العلم وطلابه من يعينه على ذلك، أو لم يجد، فإننا ننصحه بالنصائح التالية:
1- العناية بكتاب الله تعالى حفظا وقراءة وتدبرا، فإن القرآن الكريم هو كتاب الهداية الأول، وكتاب العلم الذي بنيت عليه جميع علوم الشريعة، مع العناية بفهم معانيه، ومطالعة شيء من تفاسيره المناسبة، وفي هذه المرحلة ننصح بمطالعة كتاب التفسير الميسر، ط مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، فهو كتاب نافع جدا، وكتاب أيسر التفاسير للشيخ أبو بكر الجزائري، وتفسير الشيخ السعدي رحمه الله، ولا نعني أن يطالعها جميعا، بل ما تيسر له منها، يهتم بمطالعته ومدارسته.
2- في الحديث يهتم بحفظ الأربعين النووية، وتكملتها لابن رجب رحمه الله، مع مطالعة شيء من شروحها الميسرة، مثل شرح الشيخ ابن عثيمين، أو غيره، ويستحسن أن يتابع شيئا من شروحها المسموعة، على قناة المجد، أو مواقع أهل السنة. فإذا انتهى من ذلك، وأمكنه أن يطالع جامع العلوم والحكم، لابن رجب، فهو حسن إن شاء الله.
ثم يهتم بمطالعة، يومية إن أمكنه، لكتاب رياض الصالحين، للإمام النووي رحمه الله، مع حفظ حديث من كل باب، وقراءة شرح الشيخ ابن عثيمين له.
3- بالنسبة للعقيدة: يبدأ بالأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومطالعة شيء من شروحها، للشيخ العثيمين، أو الشيخ لفوزان، ولو أمكن سماعه فهو أحسن.
ثم ينتقل إلى كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مع شيء من شروحه الميسرة مثل شرح الشيخ صالح آل الشيخ، فهو ميسر نافع إن شاء الله، أو غيره من الشروح.
ويضم إليه العقيدة الواسطية مع شرحها، للشيخ الفوزان، أو الشيخ ابن عثيمين.
فهذه يهتم بدراستها وضبطها.
وأما في القراءة والمتابعة الدائمة، فيهتم بسلسلة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة، للشيخ عمر سليمان الأشقر، حفظه الله.
4- وأما الفقه: فهناك بعض الكتب الميسرة التي يمكن البدء بها، مثل: أركان الإسلام، للشيخ عبد العزيز بن باز، وفقه العبادات للشيخ ابن عثيمين، رحمهما الله، ومختصر صفة الصلاة للشيخ الألباني رحمه الله، وتيسير العلام شرح عمدة الأحكام للشيخ البسام رحمه الله، وننصح بالاستفادة من كتب الفتاوى لعلمائنا المعاصرين، ومنها: فتاوى علماء البلد الحرام، جمع د. خالد الجريسي، فهو مجموع نافع إن شاء الله.
5- بالنسبة للسيرة، يمكن مطالعة مختصر زاد المعاد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، والرحيق المختوم، للشيخ المباركفوري، رحمهم الله جميعا.
وبالنسبة للتاريخ العام والتراجم، يطالع في كتاب: التاريخ الإسلامي، للأستاذ محمود شاكر، وفي بعض كتب التراجم، مثل سير أعلام النبلاء.
6- في الأخلاق والرقائق، يكثر من مطالعة كتب ابن القيم، مثل الداء والدواء، الرسالة التبوكية، ورسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ويطالع في كتاب: مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، أو: تهذيب موعظة المؤمنين، للشيخ القاسمي رحمه الله، ويهتم برسائل ابن رجب رحمه الله، مثل كشف الكربة، وشرح حديث ما ذئبان جائعان، وتحقيق كلمة الإخلاص، وغيرها، وقد جمعت معظمها في مجموع واحد أربعة مجلدات.
7- أن يهتموا بمدارسة الأذكار النبوية، فهو باب عظيم من أبواب العلم والعمل، مع حفظ شيء من كتبها الميسرة، مثل: صحيح الكلم الطيب، لشيخ الإسلام ابن تيمية، اختصار الألباني، أو حصن المسلم، مع قراءة كتاب: الوابل الصيب، لابن القيم.
وأخيرا، فإننا نعود ونؤكد على الاهتمام بالتلقي والاستماع لأهل العلم والمتخصصين في الشريعة، وهو أمر متيسر اليوم - بحمد الله - من خلال بعض الفضائيات النافعة، ومن خلال الشبكة المعلوماتية، ولعلكم سمعتم بقناة المجد العلمية التي تعرض من دروس العلم السهلة والميسرة ما يستفيد منه جميع الناس، كما يمكنكم المشاركة في برنامجها العلمي الذي يتدرج فيه الطالب في المراحل التي تناسبه، أما الشبكة المعلوماتية فهي مليئة بفضل الله بدروس العلم للعلماء الموثوقين، ويمكنكم متابعة كثير منها مباشرة في غرف البالتوك، أو تحميل المسجل منها من موقع طريق الإسلام.
ومن الأمور المهمة في التعلم مراعاة المنهج الصحيح، ونعني به التدرج السليم في مراحل التعلم، فيبدأ الطالب بالعلوم السهلة والكتب المختصرة، ثم ينتقل إلى شيء من الشرح والتوسع، حتى يتمكن بعد ذلك من القراءة في الكتب المطولة والأبحاث المتخصصة.
ولا بد أن يختار من الدروس العلمية التي تعرض على قناة المجد أو في الإنترنت ما يكون مناسبا لحاله، ولا يحاول أن يتتبع كل درس يعرض، فقد لا يكون مناسبا له الآن.
ويمكن الاطلاع على بعض النصائح فيها في موقعنا في جواب السؤال رقم (14082) ، (20191)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/549)
تأتيها الدورة متقطعة وتزيد وتنقص
[السُّؤَالُ]
ـ[يشق علي كثيرا تحديد الطهر الحقيقي، ذلك أن حالاتى دائما شبه متجددة، عندي إفرازات شبه ملازمة وتتغير ألوانها وأشكالها وقد يصاحبها دم، أما في الحيض فيسيل الدم بضعة أيام وقد ينقطع ويعود مرارا وهذا من عادة حيضي لكن في الأخير يتجدد عندي الأمر فأحيانا أعرف القصة البيضاء وأحيانا لا وهكذا بين اليبوس وعدمه بين السيلان والانقطاع والطول في المدة والقصر , وقد احترت وأصبحت في حرج ولا أستطيع الخروج من الفتاوى بشيء فقل لي قولا واحدا أتبعه. 2ـ ليس لدينا أولاد ولله الحمد وقد من الله علي بمعرفة طريق الحق وأريد ملأ عمري بعبادة مولاي وحبيبي ربي وإلهي ومن أجل ذلك أطمع كثيرا في تحصيل العلم الشرعي ولطالما انتظرت هذه الفرصة – الإنترنت- فأرجو أن تدلني وتوجهني كيف أطلب ميراث الحبيب صلى الله عليه وسلم وأرجو أن تدلني على أخوات تقيات فقيهات ... أشد على أيديهن....فإني في غربة وحيرة....مع العلم أن الوسيلة الوحيدة لدي الآن هي هذه الشبكة نفعنا الله بها 3ـ أرجوك أن تدعو لي بالثبات ولزوجي بالهداية والرجوع إلى الله فإنه بعيد عن الحق وأهله، وكذلك أدع لوالدي وإخوتي، أسأل الله لنا جميعا الهداية والصلاح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الإفرازات المستمرة، لها حكم سلس البول فعليك أن تتوضئي لكل صلاة بعد خول وقتها، ثم لا يضرك ما نزل بعد ذلك، ولو كان ذلك أثناء الصلاة.
ثانيا:
الأصل في الدم النازل على المرأة أنه دم حيض، والحيض قد يتقدم ويتأخر، ويزيد وينقص، فإذا جاء الدم فهذا هو الحيض ما لم يتجاوز خمسة عشر يوما، وعند بعض أهل العلم ما لم يبلغ أكثر الشهر.
فإن تجاوز خمسة عشر يوماً، كان استحاضة، والمستحاضة كما سبق تتوضأ بعد دخول الوقت لكل صلاة.
ثالثا:
من النساء من يأتيها الحيض أياما، ثم تطهر، ثم يأتيها الحيض مرة أخرى، والمقصود أن حيضها يكون متقطعاً ويتخلله طهر، وهذا لا إشكال فيه، فإذا طهرت من الحيض، اغتسلت وصلت، فإن عاد إليها الدم فهو حيض، لا تصلي فيه، وهكذا ما لم يتجاوز المجموع خمسة عشر يوما.
والطهر يعرف بإحدى علامتين: نزول القصة البيضاء، أو حصول الجفاف التام، بحيث لو احتشت بقطنة ونحوها خرجت نظيفة، فإذا حصل الطهر فاغتسلي وصلي، وإذا لم يحصل فأنت لا زلت في الحيض، ولو كان الدم خفيفا أو متقطعا.
رابعا:
نهنئك بما أنعم الله عليك من الاستقامة ومعرفة طريق الحق، ونسأله سبحانه أن يزيدك إيمانا وعلما ويقينا، وأن يهدي زوجك، ويصلح حاله، ويقر أعينكم بالذرية المؤمنة الصالحة.
ولا شك أن آكد ما عليك الآن هو تحصيل العلم الشرعي الذي تحتاجين إليه لتصحيح عقيدتك وعبادتك ومعاملتك، وهذا القدر من العلم فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
وطرق تحصيل العلم كثيرة، أهمها حضور مجالس العلم وحلقاته على يد أهله، فإن لم يتيسر ذلك فمتابعة هذه المجالس عبر التلفاز أو الإنترنت أو الأشرطة، وهذا مما يسره الله تعالى في هذه الأزمنة، وإليك بعض الأمثلة والنماذج التي يمكنك الاستفادة منها:
1- متابعة قناة المجد العلمية، والانتظام في سماع ما يلقى فيها من دروس في علوم شتى، ومتابعة الأكاديمة العلمية على الإنترنت:
http://www.islamacademy.net/Arabic/index.asp
2- الدراسة في إحدى الجامعات التي تتاح فيها الدراسة عن بعد.
3- الاستفادة من المواقع الإسلامية، المشتملة على البحوث والفتاوى، كموقعنا هذا، وموقع الشبكة الإسلامية، وموقع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، وغير ذلك من المواقع الإسلامية الرائدة.
4- التعرف على بعض الصالحات والاستفادة من صحبتهن، من خلال بعض المنتديات النسائية، كمنتدى لك:
http://www.lakii.com/
ويمكنك الوصول إلى كثير من المواقع النافعة، عن طريق هذا الرابط:
http://www.sultan.org/a/
5- حضور المحاضرات الدعوية التي تقام في المساجد أو المراكز الإسلامية.
6- الالتحاق ببرامج تحفيظ القرآن الكريم في المساجد أو في دور التحفيظ.
إلى غير ذلك من الوسائل الكثيرة المتنوعة.
نسال الله لنا ولك التوفيق والثبات.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/550)
هل يؤجر المسلم على استماعه دروس العلم المسجلة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أستَمِعُ كثيرا لأشرطتكم حفظكم الله، وأشرطة المُحَدِّث الشيخ الألباني رحمه الله والإمامين الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله، واستفيد كثيرا، فهل أُجزى يا شيخ على سماعي هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لِلَّه
طلب العلم من أفضل الأعمال، وهو خير ما يقضي به الإنسان عمره، وخير طريق يسلكه المسلم إلى الجنة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
(الدراسة صلاة) "جامع بيان العلم" (1/104)
ويقول سفيان الثوري:
(ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم) "حلية الأولياء" (6/361)
وقال الزهري رحمه الله:
(ما عُبِدَ اللَّهُ بمثل الفقه) "جامع بيان العلم" (1/119)
وعن عبد الله بن وهب قال: كنت عند مالك بن أنس، فجاءت صلاة الظهر أو العصر وأنا أقرأ عليه، وأنظر في العلم بين يديه، فجمعت كتبي وقمت لأركع، فقال لي مالك: ما هذا؟ قلت: أقوم للصلاة. قال: إن هذا لعجب، فما الذي قمت إليه بأفضل من الذي كنت فيه، إذا صحت النية فيه. "جامع بيان العلم" (122)
ولا شك أن استماع دروس العلماء الحاضرة والمسجلة من أهم وسائل تحصيل العلم، وقد يسر الله لنا – بحمد الله - في هذه العصور وسائل كثيرة للاستفادة مما يلقيه العلماء في دروسهم، ومن ذلك الدروس المسجلة في أشرطة التسجيل وبرامج التسجيل، وفي الاهتمام بهذه الدروس المسجلة عدة فوائد:
1- تربية الطالب على الاستماع والإنصات، وهو أدب رفيع، وخلق عظيم، أن يعتاد طالب العلم على تلقي العلم والاستفادة من المتحدث، وقطع الطمع عن تصدر الحديث.
يقول سفيان الثوري كما في "روضة العقلاء" بسنده (34) :
(أول العلم الإنصات، ثم الاستماع، ثم الحفظ، ثم العمل به، ثم النشر)
2- إمكان مراجعة كلام العالم إذا لم يفهمه الطالب من المرة الأولى، إذ قد يشكل على الطالب بعض الحديث، فإذا أعاده وسمعه مرة أخرى اتضح له وجه الكلام.
3- تيسر تدوين الفوائد والتحكم في ذلك.
4- اختصار المسافات الطوال على طلاب العلم الذين قد لا يتيسر لهم السفر للتلقي عن العلماء مباشرة، وقد أصبحت المكتبة الصوتية الإسلامية اليوم تزخر بمئات الشروح والدروس العلمية المفيدة، التي تختصر على الطالب عمرا وجهدا ومالا.
5- إمكان اصطحاب هذه الدروس والاستماع إليها في أحوال مختلفة: أثناء الطريق في السيارة، أو أثناء العمل ونحوه، وفي ذلك استغلال للوقت، وملء لأوقات الفراغ العارضة.
وهذه الفوائد والمزايا لا تعني أبدا الاستغناء عن حضور مجالس العلم والتلقي عن العلماء مباشرة، فإن لكل وسيلة فوائدها ومزاياها، وطالب العلم الناجح هو الذي يحسن استغلال الفرص، ويعرف كيف يأخذ من رحيق جميع أزهار البستان.
كما نرجو أن يكتب الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه لكل من يستمع الدروس المسجلة الأجر، وأن ينزل عليه السكينة، ويشمله الله برحمته، كما في الحديث الشريف المشهور:
(وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) رواه مسلم (2699)
انظر جواب السؤال رقم (1813) ، (22330)
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/551)
هل يدخل تعليم إمام مسجد اللغة الإنجليزية في التعاون على الإثم والعدوان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لدينا إمام جديد فى جاليتنا، وقد تخرج من الأزهر، وبالرغم من وجود بعض الجوانب الحسنة فيه: فيبدو أن منهجه خاطئ، وأنه متساهل بعض الشيء، فهو يرتكب بعض الصغائر، كتقصير لحيته بشكل كبير، وبعض الأشياء الأخرى، وسؤالي هو: إن والداي قد أمراني بتعليمه اللغة الإنجليزية، فهل تنطبق على تلك الحالة الآية التى تأمرنا بأن لا نتعاون على الإثم والعدوان، حيث إنه من الممكن أن يستخدم تلك اللغة الإنجليزية لتعليم هذا المنهج الخاطئ؟ . وحاليّاً يبدو أنه يقوم بأفعال حسنة أكثر من الأفعال السيئة، ومع ذلك فمن الممكن أن يتغير لإقامته ببلد كافر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما يطلبه منك والداك من تعليم ذلك الإمام ليس من التعاون على الإثم والعدوان، ومخالفة ذلك الإمام للشرع في بعض المسائل توجب عليك نصحه وتذكيره؛ لئلا يستمر في المخالفة، ولئلا يقع في غيرها، وبخاصة أنه ستربطك به علاقة خاصة وذلك من خلال تدريسك له اللغة الإنجليزية..
والتعاون على الإثم والعدوان إنما يكون لو كنتَ سبباً في وجود المعصية أو استمرارها أو انتشارها، أو أعنتَ صاحبها بفكرة أو مال أو مساعدة بدنية.
ومن أمثلة التعاون على الإثم والعدوان: تأجير المحلات للبنوك الربوية وللمحلات التي تبيع المحرمات، ومشاركة تاجر يعمل في بيع وشراء وتصنيع المنكرات، وإعانة أهل البدع والضلال بالمال وتمكينهم من مخاطبة المسلمين، إلى غير ذلك من الأمثلة.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
وقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات، وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم، والمحارم.
" تفسير ابن كثير " (2 / 12، 13) .
وبما أن ذلك الإمام له جوانب حسنة فنرجو منك تقويتها فيه، وإعانته على تحقيقها، والإكثار منها؛ ليكون ذلك من التعاون على البر والتقوى، وما فيه من جوانب سيئة فنرجو منك إنكارها عليه ونصحه في تركها، وهذا يدخل في التعاون على البر والتقوى، ويدخل في النصح الواجب.
واعلم أن الخوف من تأثر ذلك الإمام ببقائه في بلاد الكفر ليس عليه وحده، بل عليه وعليك وعلى جميع المسلمين، وما نراه من الشواهد، ونسمعه من القصص، وتصل إلينا أخباره من الأحوال كافٍ في إثبات وقوع التأثر..
وقد بيَّنا أنه لا يجوز الإقامة في بلاد الكفر إلا بعذر شرعي وبشروط شرعية، وقد سبق بيان هذا مراراً فيمكنك مراجعة السؤال رقم (12866) و (6154) و (13363)
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/552)
هل كبر السن يمنع من طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا في ال 32 من عمري، فهل فاتني الوقت للبدء بطلب العلم، فمعلوم أن العلم في الصغر ليس كالعلم في الكبر، أيضاً فإني أحتاج إلى سنوات عديدة للدراسة، وقد تذهب قوتي وجلَدي على الدعوة حينما أكبر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نعم، الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر، لكن ينبغي التنبه لأمور في هذا الباب، منها:
1. أن الحفظ في الصغر إن لم يكن معه متابعة للحفظ، وإحياء له: ضاع، وكالحجر قابل لترسب الأتربة عليه، وتغطية نقوشه كلها.
2. أن هذا ليس حصراً للحفظ في سن مبكرة، بل هو تشجيع لأولياء الأمور بالاهتمام بالطفل في سنهم المبكرة، فإن الأطفال في سنهم المبكرة ليس عندهم قدرة على الفهم، فتكون طاقاتهم متوجهة نحو الحفظ فقط، بخلاف الكبير فإنه يجمع بين الحفظ والفهم، فليس هذا حصراً لسن الحفظ، وإلا فقد وجدنا كثيراً ممن حفظ متأخراً في سنه كأنه نقش في الحجَر كذلك.
3. أن الحفظ ليس هو كل العلم، بل هو جزء منه، ومن فاته الحفظ في صغره: فلا يفوِّت الحفظ والعلم في كبَره، بل يستطيع أن يجمع بينهما، ولا ينبغي له الاستعجال على نفسه، فهو في عبادة عظيمة – وهي طلب العلم – فلا يستعجل قطف الثمرة.
ثانياً:
أنت أخي الفاضل في بداية الثلاثين من عمرك، ولم يفتك الوقت لتبدأ طلب العلم، فلا زلت في ريعان الشباب وقوته ونشاطه، بل إن بعض العلماء يرى أن سماع الحديث يبدأ من سن الثلاثين! .
قال السيوطي – رحمه الله -:
قال جماعة من العلماء: يُستحب أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة، وعليه أهل الشام ... .
" تدريب الراوي " (1 / 414) .
ولتعلم أن مَن أسلم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا كلهم صغاراً، بل الكثرة الكاثرة كانوا كباراً في السن، وما منعهم سنهم من الطلب والتعلم، وهم أساتذة الدنيا في العلم الشرعي، وإليهم المرجع في فهم نصوص القرآن، والسنَّة، فأبو بكر الصدِّيق هو أعلم هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ في طلب العلم قريباً من الأربعين، ثم الخليفة عمر الفاروق، بدأ العلم قريباً من الثلاثين، وهكذا غيرهم كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي كتاب " العلم " من صحيح البخاري قال البخاري – رحمه الله -:
باب الاغتباط في العلم والحكمة وقال عمر: " تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا ".
قال أبو عبد الله – يعني: البخاري نفسه -: وبعد أن تسوَّدوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنِّهم.
" صحيح البخاري " (ص 39) .
وقُل مثلَ ذلك فيمن طلب العلم متأخراً من الأئمة والعلماء المشهورين، وإليك نماذج طيبة من هؤلاء؛ لترفع همتك، وتجدد نشاطك، وتحيي قوتك:
1. أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، المعروف بـ " القفّال "، شيخ الشافعية في زمانه، المتوفى سنة 417 هـ.
قال السبكي الشافعي – رحمه الله -:
الإمام الجليل أبو بكر القفال الصغير، شيخ طريقة خراسان، وإنما قيل له " القفَّال " لأنه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها، حتى صنع قفلا بآلاته ومفتاحه وزن أربع حبات، فلما كان ابن ثلاثين سنة أحس من نفسه ذكاء: فأقبل على الفقه، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، وصار إماماً يُقتدى به فيه، وتفقه عليه خلقٌ من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدَّث وأملى ... .
انظر " طبقات الشافعية " للسبكي (5 / 54)
2. أصبغ بن الفرج، مفتي الديار المصرية في زمانه، ومن علماء المالكية.
قال الذهبي – رحمه الله -:
الشيخ الإمام الكبير، مفتي الديار المصرية، وعالِمها، أبو عبد الله الأموي مولاهم، المصري، المالكي.
مولده بعد الخمسين ومئة.
وطلب العلم وهو شاب كبير، ففاته مالك، والليث. " سير أعلام النبلاء " (10 / 656) .
3. عيسى بن موسى غنجار، أبو أحمد البخاري، محدِّث ما وراء النهر.
قال الحاكم:
هو إمام عصره، طلب العلم على كبر السنِّ، وطوَّف.
" شذرات الذهب " (1 / 330) .
4. قاضي القضاة بمصر: الحارث بن مسكين، توفي سنة 250 هـ.
قال الذهبي – رحمه الله -:
وإنما طلب العلم على كبَر.
" سير أعلام النبلاء " (12 / 54) .
وغير هؤلاء كثير، وقد ذكر في طلب غير هؤلاء وهم كبار في السن كأمثال الفضيل بن عياض، وابن العربي، وابن حزم، والعز بن عبد السلام، فلم يمنعهم سنهم من الطلب حتى صاروا نجوماً في سماء العلم.
قيل لعمرو بن العلاء: هل يحسن بالشيخ أن يتعلم؟
قال: إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم!!
وهذا ابن عقيل رحمه الله يقول إني لأجد من لذة الطلب وأنا ابن ثمانين أشد مما أجد وأنا ابن أربعين.
ثالثاً:
وهذه فتاوى ووصايا بعض العلماء في الموضوع نفسه:
1. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبَر سنِّه؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ؟ .
فأجاب:
نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه، وقل فهمه، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالماً يثق بعلمه ليطلب العلم عليه؛ لأن طلب العلم عن طريق المشايخ أوفر، وأقرب، وأيسر، فهو أوفر؛ لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو، والتفسير، والحديث، والفقه وغيره، فبدلاً من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتاباً يتيسر تحصيله من الشيخ، وهو لذلك يكون أقصر زمناً، وهو أقرب للسلامة كذلك؛ لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفاً لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام.
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخًا موثوقًا، ويأخذ منه؛ لأن ذلك أوفر له، ولا ييأس، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا؛ لأنه بذلك يَحرم نفسه من العلم.
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يوماً بعد صلاة الظهر فجلس، فقال له أحد الناس: قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبَّر ليصلي ركعتين فقال له الرجل: لا تصلِّ فهذا وقت نهي، فقال: لا بد أن أطلب العلم، وبدأ في طلب العلم حتى صار إماماً، فكان هذا الجهل سببًا لعلمه، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق: فقد تجمع من العلم الشيء الكثير.
" كتاب العلم " (السؤال رقم 63) .
2. وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين – حفظه الله -:
يعتذر البعض عن طلب العلم بحجة كبَر السن، وفوات وقت الطلب، ويعتذر آخرون بكونهم لا زالوا صغاراً ينتظرون أن يتقدم بهم العمر؟
فأجاب:
متى تيسر للمسلم التعلم والتفقه: لزمه ذلك، ولا يجوز الاعتذار عن التعلم بتقدم السن؛ فإن الكثير من الصحابة تعلموا وهم شيوخ، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، والعباس، وابن عوف، وأبي عبيدة، وغيرهم، ثم من علماء التابعين من تعلموا في الكبر، كصالح بن كيسان، فقد أدرك ابن عمر وابن الزبير وتتلمذ على الزهري وطال عمره فمات سنة 140 هـ، ولما كان طلب العلم قد يكون واجبا على المسلم لم يخرج عن ذلك الكبير، ولا الصغير، وقد روي عن مكحول مرسلاً: " لا يستحي الشيخ أن يتعلم من الشاب "؛ أي: لأن بقاءه على الجهل نقص وعيب، وليس في تعلمه من الصغار غضاضة.
وأما الشاب: فعليه التعلم في حداثته؛ فإن ذلك أقوى لمعلوماته، فقد قال الحسن رحمه الله: " طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر "، وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: " تعلموا العلم فإنكم إن تكونوا صغار قومٍ تكونوا كبارهم غداً "، وقال الزهري: " لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر رضي الله عنه إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم "، وأيضاً: فإن الشاب عنده وقت فراغ، ولا يدري ما يحدث بعده من العوائق.
" كيف تطلب العلم " (السؤال رقم 43) من موقع الشيخ.
لذا، بادر أخي الفاضل لطلب العلم، ولا يمنعنك سنك، وقد سبقت نماذج طلبوا العلم بعد سنك هذا بزمن، واحرص على الإخلاص، واجعل طلبك للعلم بنية التقرب إلى الله، وأداء الواجب الذي أوجبه الله عليك في الطلب، واقصد بعلمك رفع الجهل عن نفسك، ثم ساهم في الجهل عن الناس، وجد واجتهد في الطلب، واحرص على مشايخ أهل السنة والجماعة، الزمهم، وخذ علمهم، وإياك وأهل البدعة والضلالة، واسأل ربك أن يوفقك، وأن يسهل لك الطلب والحفظ والفهم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/553)
هل صحت أحاديث في فضل طلب العلم في المدينة النبوية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل توجد أي أحاديث شريفة في فضل طلب العلم في المدينة المنورة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أوجب الشرع على المسلم تعلم العلم الشرعي.
عن أنس بْنِ مَالِكٍ قَالَ:عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنه قالَ: (طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ) . رواه ابن ماجه (224) .
وحسَّنه بكثرة طرقه وشواهده: المزي والزركشي والسيوطي والسخاوي والذهبي والمناوي والزرقاني، وهو في " صحيح ابن ماجه " للألباني.
ومن ضعَّف هذا الحديث، كالإمام أحمد وغيره من الأئمة المتقدمين [انظر: المنتخب من العلل للخلال ص (128-129) ، وحاشية المحقق] ؛ فإن معناه مستقيم عندهم، وإن كان إسناده لا يثبت.
قال الإمام إسحاق بن راهويه، رحمه الله: " طلب العلم واجب، ولم يصح فيه الخبر؛ إلا أن معناه: أن يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال، وكذلك الحج وغيره، قال: وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في الخروج إليه وما كان منه فضيلة لم يخرج إلى طلبه حتى يستأذن أبويه "
قال ابن عبد البر رحمه الله: " يريد إسحاق، والله أعلم، أن الحديث في وجوب طلب العلم في أسانيده مقال لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم، وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافا متقاربا على ما نذكره ها هنا إن شاء الله "
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/52-53ـ ط الزهيري) ، وانظر المنتخب من العلل، حاشية المحقق.
قال علماء اللجنة الدائمة:
العلم الشرعي على قسمين: منه ما هو فرض على كل مسلم ومسلمة، وهو معرفة ما يصحح به الإنسان عقيدته وعبادته، وما لا يسعه جهله، كمعرفة التوحيد، وضده الشرك، ومعرفة أصول الإيمان وأركان الإسلام، ومعرفة أحكام الصلاة، وكيفية الوضوء، والطهارة من الجنابة، ونحو ذلك، وعلى هذا المعنى فسِّر الحديث المشهور (طلب العلم فريضة على كل مسلم) .
والقسم الآخر: فرض كفاية، وهو معرفة سائر أبواب العلم والدين، وتفصيلات المسائل وأدلتها، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن باقي الأمة.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (12 / 90، 91) .
ولأجل ما ورد في طلب العلم والسعي في تحصيله من الفضائل، كما في صحيح مسلم (2699) : (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) ، جدَّ أولو الهمم العالية في طلبه، ورحل كثير من العلماء حرصا على تحصيله، بل إن بعضهم رحل من أجل سماع حديث واحد! وقد جمع قصص هؤلاء الخطيب البغدادي في كتابه " الرحلة في طلب الحديث "، واستمرت رحلات بعضهم ثلاثين أو أربعين سنة!
- وفضل طلب العلم يشمل بقاع الأرض كلها، والرحلة في طلبه لم تكن لبلدٍ واحدٍ دون غيره، بل كانت لأصقاع الدنيا؛ قال عبد الله بن عبيد بن عمير: " كان يقال: العلم ضالة المؤمن يغدو في طلبه، فإذا أصاب منه شيئا حواه " رواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/322) .
- ولا نعلم حديثاً صحيحاً يذكر فضل طلب العلم في المدينة النبوية، وقد وردت روايات في فضل طلب العلم في المسجد النبوي في المدينة النبوية، لكنها ضعيفة لا تصح.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ) .
رواه أحمد (14 / 257) وابن ماجه (223) .
والحديث صححه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " (87) ، والراجح: أنه ضعيف، وقد أعلَّه الدراقطني، وضعَّفه شعيب الأرنؤوط.
سئل الإمام الدارقطني – رحمه الله -:
عن حديث المقبرى عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلِّمه: فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله) .
فقال:
اختُلف فيه على سعيد المقبري، فرواه أبو صخرة حميد بن زياد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خالفه عبيد الله بن عمر، فرواه عن سعيد المقبري عن عمر بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن كعب الأحبار قولَه، ورواه ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن كعب الأحبار قولَه، وقول عبيد الله بن عمر أشبه بالصواب.
" علل الدارقطني " (10 / 380، 381) .
ومع التسليم بصحة الحديث فإنه لا يصح تخصيص ذلك الفضل في مسجده صلى الله عليه وسلم، بل يَحتمِل أنه بسبب أن العلم لم يكن له منطلق في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا مسجده.
قال السندي في تعليقه على " سنن ابن ماجه ":
قوله (من جاء مسجدي هذا) : أراد مسجده، وتخصيصه بالذِّكر: إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلا للكلام حينئذ، وحكم سائر المساجد كحكمه.
انتهى
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/554)
أسباب انتكاسة المستقيم حديثاً ونصائح لمن يريد طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد نصيحة لمن التزم حديثاً، وماذا يفعل لكي لا ينتكس؟ ونصائح بماذا يبدأ بالقراءة من الكتب بعد القرآن.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يفرح الله تعالى بتوبة عبده مع أنه تعالى هو الموفِّق لهذا التائب أن يتوب، وهو سبحانه لا تضره معاصي الخلق ولو كثرت، وهذا من عظيم رحمة الله تعالى بخلقه، وعظيم فضله، والذي ننصح به إخواننا المستقيمين على الهداية والمتوجهين نحو طريق الخير هو:
1. حمد الله تعالى وشكره بصدق وإخلاص، أن وفقهم لأن يهتدوا لطريق الجنة، وأن يعلموا أنه لولا الله ما اهتدوا ولا صلوا، ويحتاج مع الحمد والشكر إلى دعاء الله تعالى أن يثبته على الدين والحق؛ فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك) ونحن أولى بهذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم.
2. التزام طاعة الله تعالى بأداء الواجبات المفروضة، والحرص على زيادة التقرب إلى الله تعالى بعد الفرائض بفعل السنن؛ لتحصيل محبة الله تعالى، ومن أحبَّه الله ثبَّته على الطريق، وزاده هدى وتوفيقاً.
فعَنْ أَبِي هُريرة رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تَعالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً، فَقَدْ آذنتُهُ بالحربِ، وما تَقَرَّب إليَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افترضتُ عَليهِ، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أَحْبَبْتُهُ، كُنتُ سَمعَهُ الّذي يَسمَعُ بهِ، وبَصَرَهُ الّذي يُبْصِرُ بهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطُشُ بها، ورِجْلَهُ الّتي يَمشي بِها، ولَئِنْ سأَلنِي لأُعطِيَنَّهُ، ولَئِنْ استَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) . رواهُ البخاريُّ (6137) .
3. التطلع إلى رضوان الله تعالى، والتشوق للقائه سبحانه، وعدم الانشغال بالدنيا، بمباحاتها وملذاتها، ولتكن همة هذا المستقيم على الطاعة علوية لا سفلية، وليكن هدفه تحصيل السعادة الأبدية في دار لا يهرم فيها ولا يمرض، وهي الجنة.
4. وعليه بطلب العلم، وأول الطلب البداءة بحفظ كتاب الله تعالى، ثم النظر في السنَّة المطهرة، والقراءة في كتب العقيدة السلفية والتوحيد والفقه، ومن شأن معرفة المسلم لدينه أن يزداد تمسكاً به، ومن أعظم أسباب الانتكاس والسقوط في الطريق، الجهل بالدين وعدم معرفته.
5. وعليه أن يحرص على الصحبة الصالحة، وترك الصحبة الفاسدة، وخاصة من كان معه في طريق الغواية من قبل؛ لئلا يكون هؤلاء سبباً في رجوعه طريقه القديم، وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك، فهو إما أن يعطيك منه، وإما أن تشم منه رائحة طيبة، وشبَّه جليس السوء بنافخ الكير، فهو إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تشم منه رائحة خبيثة، وهكذا هو الصاحب الصالح، والصاحب السيئ، فالأول إما أن يدلك على الخير، ويرشدك إلى الصواب، وإلا فإنك سترى منه الخير في سمته وهديه وخلُقه، وأما الصاحب السيئ فهو إما أن يدلك على المعصية فتفعلها، أو أنه يباشرها بنفسه فلا ترى منه إلا شرّاً وتشجيعاً على فعل الفواحش، فيجب الحرص على الصحبة الصالحة، كما يجب هجر الصحبة الفاسدة.
6. الحذر من المعاصي الصغائر منها والكبائر، فإن معظم النار من مستصغر الشرر، والمعصية تأتي بأختها، والقلب إذا أظلم واسودَّ بسبب المعاصي: لم يعد قلباً حيّاً يعرف المعروف، وينكر المنكر، فالحذر الحذر من المعاصي.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ (أي: طعامهم) ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا (أي: شيئاً كثيراً) ، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) .
رواه أحمد (37 / 467) وحسَّنه شعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني.
7. الحذر من فتنة المال، فعلى من رزقه الله تعالى مالاً أن يجعل ذلك المال عوناً له على طاعة الله، وينفقه في مرضات الله، كبناء المساجد، وطباعة الكتب، وتسجيل الأشرطة، وتوزيع المطويات، وليحرص على أداء العمرة والحج، وليحذر من إسرافه في المباحات، أو تبذيره في المحرمات، فقد يكون المال سبباً لفتنة الإنسان في دينه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) التغابن/15
8. على المهتدي تعمير قلبه بالإيمان، فالقلب إذا صلح صلحت الأعضاء، وإذا فسد فسدت الأعضاء، فليحرص على قراءة القرآن، والاستكثار من الطاعات.
9. وقد يكون من أسباب انتكاس الشاب: عدم وجود زوجة، فليحرص على الواج، وتكوين أسرة، وليحرص على تأديبهم وتعليمهم، وكونه عزباً مظنة للوقوع في المعاصي، والتعلق بالشهوات، وكثرة السهر، وترك الحياة الجدية، والرضا بحياة الراحة والدعة والكسل.
10. وأخيراً: فإن المتهدي حديثاً يحتاج إلى التعقل في أداء الطاعات، والحكمة في دعوة الناس؛ فإن بعض من يهديه الله تعالى لطريق الحق يُشدِّد على نفسه بالطاعات، ويقسو على الآخرين في دعوتهم وتذكيرهم، ولعلَّ هذا أن يكون سبباً في انتكاسته، فليحرص على التعقل، والحكمة، والرفق، وليحرص على مشاورة أهل العلم والاستفسار منهم، واستنصاحهم، فإن في ذلك الخير العظيم له.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ) .
رواه ابن حبان في " صحيحه " (1 / 187) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (56) .
وانظر شرح هذا الحديث وتفصيل هذه النقطة في جواب السؤال رقم: (70314) .
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق ويرزقنا الإخلاص والصدق في القول والعمل.
ثانياً:
وأما طالب العلم المبتدئ في الطلب: فلا بد من توجيه نصائح له في طلبه للعلم؛ حتى يكون مأجوراً مثاباً على الطلب، وإلا صار عليه نكالاً:
1. أخلص في نيتك في طلب العلم.
واعلم أن طلب العلم عبادة، وأن الله تعالى لا يقبل من العبادات إلا ما كان خالصاً لوجهه، فلا تطلب العلم من أجل الشهرة والرفعة والتعالي والمال ومجاراة السفهاء ومماراة العلماء، بل اجعل طلبك خالصاً لوجه الله تعالى، تمتثل به أمر الله تعالى، وترفع الجهل عن نفسك، وعن غيرك.
2. اصبر في الطلب، ولا تستعجل قطف الثمرة، فالطريق طويل وشاق، و " من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة ".
3. اعمل بما تعلم، فقد " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ".
4. ابدأ بصغار العلم قبل كباره، فلا تبدأ بـ " فتح الباري " و " المجموع " و " المحلى "، بل ابدأ بالمتون الصغيرة إلى أن تصل إلى تلك الكبيرة.
5. احرص على أن تقرأ على شيخ موثوق في دينه وعلمه، فإن لم يكن فطالب علم ممن سبقوك في الطريق.
6. نوِّع طرق الطلب حتى لا تمل، فاجعل منها القراءة والسماع والمشاهدة.
7. احرص على اقتناء الكتب المحققة.
8. لا تبدأ بكتب الخلاف قبل ضبط أصول الأدلة من القرآن والحديث الصحيح.
9. تواضع لله تعالى، وإياك من داءين خطيرين: الكبر، والحسد، وقد كان السلف يسمعون ممن هو أكبر منهم ليتعلموا الأدب، وممن هو أصغر منهم ليتعلموا التواضع، وممن هو مثلهم ليزيلوا داء الحسد من قلوبهم.
10. لا تستعجل الفتوى، واحرص على المذاكرة، وتلخيص ما تقرأ، وتدوين الفوائد، ومراجعتها، واحرص على تعليم الجاهل ما استفدته من العلم، وقد قال تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) البقرة/3.
وانظر جواب السؤال رقم (10324) ففيه جملة من آداب طالب العلم.
ثالثاً:
وأما الكتب التي يبدأ بقراءتها بعد قراءة كتاب الله تعالى، والحرص على حفظه: فهي كثيرة، وقد ذكرنا أهم هذه الكتب الموثوقة، وما يناسب كل مرحلة من مراحل طلب العلم، فانظرها في جوابي السؤالين: (14082) و (20191)
وننبه على أن في موقعنا هذا تحت تصنيف " العلم والدعوة / العلم " جملة وافرة من الأجوبة التي يستفيد منها طالب العلم في الآداب والأحكام والنصائح.
ونسأل الله دائما أن يوفقك، وأن ييسر لك العلم النافع، والعمل الصالح، ومن يهده الله تعالى فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/555)
كيفية طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يحتاج المرء حتى يصبح عالماً إسلامياً/ طالب علم شرعي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فالعلم هو عنوان التوفيق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه. مفهومه أن من لم يُرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.
وقال البخاري رحمه الله: " بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَقَالَ {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} وقال {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَقَالَ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ "
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ وَيُقَالُ الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ "
وعن قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي فَقَالَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ قَالَ لا قَالَ أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ قَالَ لا قَالَ مَا جِئْتُ إِلا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ. " رواه الترمذي (2606) وصححه الألباني.
هذه بعض فضائل العلم وهي "غيض من فيضٌ " ولو ذُكرت فضائل العلم كلها لطال الكلام ولعل في ما ذُكر تذكرة لمن كان له قلب أو ألقىَ السمع وهو شهيد. راجع السؤال رقم (10471)
أما الطريق إلى نيل العلم فهي تقوى الله ومراقبته في السرِّ والعلن، ثم الأخذ عن العلماء الموثوقين في علمهم ودينهم، فإذا وجدت عالماً تتوفر فيه هذه الصفات فالزمه واستشره في طريقة أخذ العلم، فإن لم تجد عالماً، فابحث عن طالب علم، فإن لم تجد فعليك بالدراسة عن طريق الأشرطة، والكتب التأصيلية.
فإن قلت ما هي الكتب التي نقوم بدراستها؟
فالجواب: ينبغي أولاً التدرج في تحصيل العلم الشرعي، ولكل فنٍ كتبٌ معينة، فليكن أول ما تدرس من العلوم العقيدة ثم العلوم التي تساعد على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النحو وأُصول الفقه، ومصطلح الحديث، ثم الفقه والتفسير.... وقبل كل شئ ابدأ بحفظ القران فكل العلوم إنما تُدرس للوصول إلى فهم القران فهماً صحيحاً.
وإليك الآن قائمة بأسماء الكتب، مرتبة على حسب الأولوية:
ففي العقيدة: تبدأ أولاً بكتاب الأصول الثلاثة ثم كتاب التوحيد ثم كتاب كشف الشبهات، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ثم كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وبعد أن تنتهي من دراسة هذه الكتب وحفظها، انتقل إلى كتاب الآجرومية في النحو ثم (كتاب الأصول من علم الأُصول في أُصول الفقه ثم كتاب أُصول التفسير) الكتابان للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ثم انتقل إلى دراسة كتاب الأربعين النووية في الحديث ثم كتاب عمدة الأحكام في الحديث أيضاً، ثم ابدأ في الفقه ولا بأس بدراسة متن فقهي لأحد المذاهب الفقهية المعتبرة مثل (بداية السالكين - عمدة الفقه - متن أبي شجاع - متن خليل) ، وليس مقصودنا أن تتعصب لمذهب معين وإنما تكون دراستك دراسةً مرتبة مبنية على الأصول المعتبرة، حتى تتقوى في طلب العلم، فتتبع الدليل ولا تتعصب لمذهبٍ معين.
وتنبه إلى أن الكتب السابقة لابد لدراستها من الحفظ والفهم. واحرص على اقتناء أشرطة العلماء الذين شرحوا تلك الكتب كالشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ عبد الله بن جبرين وغيرهم.
ثم بعد الانتهاء من الفقه خذ كتاباً في التفسير، وابدأ بكتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ثم تفسير ابن كثير.
هذه أهم الكتب التي يدرسها طالب العلم، فإذا انتهيت من دراستها فهناك كتب أعلى منها سنخبرك بها بعد انتهائك من الكتب المذكورة. فكن معنا على اتصال، والسلام.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/556)
ما هو حكم طلب العلم الشرعي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حكم طلب العلم الشرعي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة , وقد يكون طلب العلم واجباً على الإنسان عيناً أي فرض عين , وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها , فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد الله بهذه العبادة , وكيف يقوم بهذه المعاملة , وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حين طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال , بل هو من الجهاد في سبيل الله , ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر , وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم , وبدأ الجدل في كثير من الناس , فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولاً: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانياً: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثاً: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم.
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع , وعندهم فقه في الدين , وعندهم حكمة في توجيه عباد الله , لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم , وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , صفحة 23.(8/557)
تريد نصائح وتوجيهات لتناظر النصارى
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد في الجامعة التي أدرس فيها هناك نسبة نصارى ليست باليسيرة في جامعتي , وقد وصل بهم الحد إلى أن صار بعضهم من دعاة التبشير والتنصير، وهم في بلاد الإسلام، وبين أظهر المسلمين!!
حتى إن إحداهن كانت تحضر معها الإنجيل، وكتابا آخر عن (الإيمان) ، وعليه صورة مريم العذراء عليها السلام، وكانت ترغِّب البنات في قراءته وتشوقهم إليه!
ثم تبين لي ـ فيما بعد ـ من كلامي معها أنها نشيطة في الكنيسة، وأنها تدرس الأطفال فيها!
والآن أنا حائرة في كيفية التعامل معها، ومع مثيلاتها؛ فهل أقطعها وأحذر زميلاتي منها، أو أحاول أن أناظرها وأناقشها في معتقداتها؟
علما بأنني حاولت ـ مرة ـ أن أستخرج بعض ما عندها، لأعرف كيف أناقشها، فوجدتها على وعي تام بمسائل النقاش، وكأنها قد تلقنت ماذا يجب أن تقول، وتتسلح به فيما معاملتها ومناقشتها للمسلمين!! ولم يكن عندي من العلم ما أرد به عليها، أو يمكنني من الاسترسال معها في النقاش.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نشكر لكِ ـ أيتها الأخت الكريمة ـ غيرتِك على دين الله تعالى، وعلى الاهتمام بالدعوة إلى الله، ونسأل الله لنا ولك التوفيق والثبات.
ثانياً:
لا ننصحك بمحاورة زميلاتك من النصارى، أو مجادلة أحد منهم، لأنكِ ذكرتِ أن عندهم من الشُّبَه ما تعجزين عن رده، وذكرتِ أنك في أول طريق طلب العلم، وهذا يجعلنا نؤكد على هذه النصيحة في حقك وحق من كان مثلك؛ فالجدال إنما (يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة) [فتح القدير، للشوكاني 1/527] .
وهذه المصلحة التي ترجى من مجادلة أهل الكتاب، أو غيرهم من أصناف أهل الشرك بالله، أو أهل الأهواء والبدع، لا تتم إلا بأن يقوم بهذه المناظرة من هو أهلها ممن كان عنده من العلم بدينه ودين المخالف ما يمكنه من مناظرته، ثم يتزين بأدب الشرع لنا في ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار وأهل البدع، بالعلم والعدل، لا بالظن وما تهوى الأنفس. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ رجل علم الحق وقضى به، فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار) رواه أبو داود وغيره، [صححه الألباني في صحيح الجامع] ؛ فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض، إذا لم يكن عالما عادلا، كان في النار، فكيف بمن يحكم في الملل والأديان، وأصول الإيمان والمعارف الإلهية والمعالم الكلية، بلا علم ولا عدل كحال أهل البدع والأهواء.. " [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/107-108] .
ولأجل ما ذكره شيخ الإسلام هنا من أدب الجدل، قال الله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت/46 قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا، إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل لذلك. وأن لا يكون القصد منها، مجرد المجادلة والمغالبة، وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق، وهداية الخلق. " اهـ. [تفسير السعدي 743]
ثم عليكِ ـ أيتها الأخت الكريمة ـ أن تلتفتي لنفسك وطلب العلم، وقبل أن يعرف المسلم ما عند غيره، يجب أن يعرف ما في دينه من أحكام، فابحثي عن أخوات من طالبات العلم وابدئي معهن في تعلم دينك، ويمكنك أن تستعيني ـ أيضا ـ بأشرطة علماء أهل السنة الداعين إلى منهج السلف الصالح، لاسيما إذا لم يتيسر لك من يعلمك.
ولتكن عنايتك الأولى بمعرفة ما يصحح لك عقيدتك، وعبادتك، واهتمي بالوقوف على معاني كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه هي الطريقة السليمة التي ينبغي أن تبدئي بها، ودعي نقاش النصارى وغيرهم من أهل الانحراف والضلال للمتخصصين، فهم أقدر على مواجهتهم وتبيين زيفهم، ولا يزال في الأمة الإسلامية – ولله الحمد – من يقوم بهذا الواجب.
وإذا رأيتِ من يمكن أن يتأثر بدعوات التنصير من أخواتك المسلمات: فيجب عليك تحذيرهن من مصاحبة أولئك الكافرات والسماع لهن، ويمكنك تزويدهن بكتب وأشرطة تبين الإسلام الصحيح، وتحذِّر من المذاهب والأديان الباطلة.
ونسأل الله أن يوفقك لما فيه رضاه، وأن ييسر لك العلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/558)
حول طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ي يا شيخ يتكون من عدة نقاط، لكنها متصلة ببعضها البعض، وهى تدور حول طلب العلم، وأرجو من فضيلتكم عند الإجابة على الأسئلة أن تضع أمام عينيك أني أريد أن أكون يوماً ما كالشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين، قد تتهمني بالجنون أو السفه، ولكن يعلم الله أن هذين العالمين الربانيين هما قدوتي في طلب العلم. 1- الزواج: هل يتعارض الزواج مع طلب العلم، خاصةً أنى فى بداية الطلب، وقد تأخرت كثيراً فى الطلب، فعمري الآن 25 عاما، ولكني عندي رصيد معقول من المسائل، ولكن بدون تأصيل علمي، ولكن هناك أمر، وهو أني شاب أنعم الله علي بقوة البنية وحسن الهيئة، وأخاف على نفسي في زمن الفتن الذي نعيشه، كما أن الفتاة التي أنوي الزواج منها لا يمكن تعويضها بسهولة؛ لأنها من بيت ملتزم جداً، وأن أحب والدها وإخوانها الذكور، وأتمنى أن يكون بيننا مصاهرة. 2- ساعات التحصيل: كم ساعة يجب علي أن ألتزم بها في تحصيل العلم، بخلاف الوقت المخصص للقرآن، فأنا أجعل له وقتاً خاصاً به تلاوةً وحفظاً. 3- الإنترنت والفضائيات: أنا أقضي حوالي ساعة ونصف يومياً في تصفح المواقع الدينية عبر الإنترنت، كموقعكم وموقع المسلم (د/ ناصر العمر) وموقع الشبكة الإسلامية، وكذلك أقضي حوالي ساعة يومياً في متابعة قناة الجزيرة الإخبارية، أو أي برنامج يناقش قضية مهمة على أي قناة أخرى، وذلك بهدف التثقيف في مختلف جوانب الحياة، فهل أستمر على ذلك، أم أستفيد من ذلك الوقت في طلب العلم وكذلك العبادة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أبارك لك أخي السائل هذه الهمة العالية، وأبارك لك ما أنعم الله عليك من حرصٍ وسعيٍ لتحصيل العلم، فإن العلم الشرعي أشرف ما يقطع به الإنسان عمره، ويُفني له شبابه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(الدُّنيَا مَلعُونَةٌ، مَلعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكرُ اللَّهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ أَوَ مُتَعَلِّمٌ)
رواه الترمذي (2322) وقال: حسن غريب، وحسنه ابن القيم في عدة الصابرين (260) والألباني في الصحيحة (2797)
ومسيرة العلم أخي مسيرة طويلة، فهي مشروع عمر، وهي فكرة حياة كاملة، ولا يزال طالب العلم في طلبه حتى يلقى الله على ذلك.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لَن يَشبَعَ المُؤمِنُ مِن خَيرٍ يَسمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنتَهَاهُ الجَنَّةُ)
رواه الترمذي (2686) وقال: حسن غريب، وصححه الحاكم (4/129) ووافقه الذهبي، وقد ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي.
وهذه نصائح فيها إجابة على ما سألت عنه:
أولا:
أنفع ما يكون طلب العلم في سن الشباب، حيث يكون الذهن متوقدًا، والهمةُ حَيَّةً كبيرةً، ولا يضر المرء أن فاتت سنون صغره وطفولته دون حفظ العلوم أو دراستها، فإن الطالب في شبابه قادر على تعويض ما فاته، بالحرص والجد والمتابعة.
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (5/284) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:
" تفقهوا قبل أن تُسَوَّدُوا "
قال أبو عبيد في "غريب الحديث" (3/369) :
" يقول: تعلموا العلم ما دمتم صغارا قبل أن تصيروا سادة " انتهى.
ولما ذكر البخاري في صحيحه (ص/39) قول عمر معلقا، أتبعه بقوله:
" وبعد أن تُسَوَّدُوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم " انتهى.
يريد البخاري رحمه الله، بيان أن كبر السن والسيادة لا تمنع من العلم، فقد أسلم كثير من الصحابة في كبر سنهم، مثل أبي بكر رضي الله عنه، ثم صاروا أئمة علم ونور وهداية.
كما أبشرك أخي السائل بأن سن العشرين هو أفضل سنين الطلب، فهو سن القوة والشباب، وقد اختاره أهل العلم لتعلم العلوم الصعبة، وما فات قبله إنما هو لحفظ القرآن وبعض المتون.
جاء في تدريب الراوي (1/414) :
" قال جماعة من العلماء: يُستَحَبُّ أن يبتدئ بسماع الحديث بعد ثلاثين سنة، وعليه أهل الشام، وقيل بعد عشرين سنة وعليه أهل الكوفة، وقال سفيان الثوري: كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبَّدَ قبل ذلك عشرين سنة، وقال أبو عبد الله الزبيري من الشافعية: يستحب كَتْبُ الحديث في العشرين؛ لأنها مجتمع العقل، قال: وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض، أي: الفقه " انتهى.
فأنت الآن في بداية الطلب، ولم يفتك شيء إن شاء الله، فاحرص على أن تكون بداية صحيحة قوية، ولا تضيع من عمرك شيئا، فإن ما يفوت لا يرجع أبدا.
ثانيا:
لما كان طلب العلم مشروع عُمْر، لا يتوقف إلا بانخرام هذا العمر بالموت، كان لا بد أن يعوِّد الطالب نفسه على التوفيق بين حاجات الدنيا وبين تكليفات الطلب، ومن ذلك أمر الزواج، فالزواج لا يكون أبدا عائقا عن طلب العلم، فإذا كان الطالب يرى العلم في همه وفكره أعظم عبادة يستغرق بها سنين عمره، فلن يكون الزواج أو العمل أو القيام بتكاليف الدنيا كلها إلا خادما لمشروع العمر الكبير، ألا وهو عبادة الله بالتعلم.
وهكذا كان الصحابة والتابعون والعلماء السالفون، منهم التاجر ومنهم الوالي ومنهم المتزوج بالواحدة ومنهم المتزوج بالأربع، ومنهم صاحب العيال، فلم يشغلهم ذلك عن العلم والتعلم.
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله "إحياء علوم الدين" (2/44) :
" فإن انتفت في حقه الآفات واجتمعت الفوائد، بأن كان له مال حلال وخلق حسن، وجِدٌّ في الدِّينِ تَامٌّ، لا يشغله النكاح عن الله، وهو مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة، ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل والتحصن بالعشيرة، فلا يُمارَى في أن النكاح أفضل له " انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "لقاء الباب المفتوح" (3/56) :
هناك طالب علم شرعي يريد أن يتزوج، ولكنه يخشى إن تزوج أن يتعطل وينشغل عن طلب العلم، فما نصيحتكم له؟
فكان جواب الشيخ رحمه الله:
" الزواج لا يَعُوقُ عن طلب العلم، بل ربما يعين على طلب العلم، قد يوفق الإنسان لامرأة تقرأ وتكتب وتساعده، فإن لم تكن، فأقل ما يكون أن تذهب عنه الوساوس والتفكير في الزواج، فالزواج يعين على طلب العلم، لأنه يهيء للإنسان الجو المناسب لطلب العلم، من حيث الهدوء والراحة، وكذلك فإن الزوجة توفر على زوجها كثيرا من الوقت الذي كان يضيع منه في قضاء حاجاته في البيت، فنصيحتي لهذا الشاب أن يقدم على الزواج، فإن فيه خيرا كثيرا، وامتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعا لسنته وسنة إخوانه المرسلين " انتهى.
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله "فتاوى علماء البلد الحرام" (277) :
" نصيحتي لجميع الشباب والفتيات البدار بالزواج والمسارعة إليه إذا تيسرت أسبابه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء) ولما في ذلك من المصالح الكثيرة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، من غض البصر وحفظ الفرج وتكثير الأمة والسلامة من فساد كبير وعواقب وخيمة " انتهى.
ثالثا:
أما الكلام على ساعات التحصيل، فذاك فصل تنافس فيه المتنافسون، لا يملك أحد أن يحدَّه بحدٍّ أو يقدِّرَه بوقت، وأنا أسوق لك هنا بعض الأمثلة، ثم أترك لك التقدير بعد ذلك:
قال ابن العطار تلميذ النووي:
" ذكر لي شيخنا رحمه الله أنه كان لا يضيِّع له وقتا، لا في ليل ولا في نهار، إلا في الاشتغال بالعلم، حتى في الطريق يكرر أو يطالع، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف، وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة بعد عشاء الآخرة، ويشرب شربة واحدة عند السحر، ويقول أخاف أن يرطب جسمي ويجلب لي النوم " انتهى.
ويقول ابن عقيل الحنبلي:
" إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّرُه، وأنا أُقَصِّر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسِّيَه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجلُّ تحصيل عند العقلاء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة " انتهى. انظر "صلاح الأمة" (4/169 – 175)
رابعا:
لا ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يهمل أو يُغفل الاطلاع الجيد على أحداث عصره، وظروف مجتمعه، فذلك من ضرورات العلم والفقه، والفقيه هو الذي يحسن فهم النصوص، وفهم الواقع الذي ينزلها عليه.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "لقاء الباب المفتوح" (1/330) :
" من المعلوم أن واقع الناس لا بد أن يكون معلوما لدى الإنسان، حتى يعرف ماذا يعيش فيه، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن: (إِنَّكَ تَأتِي قَومًا أَهلَ كِتَابٍ) فأخبره عن واقعهم وحالهم، لكن لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يطغى على الفقه في الدين، وأن لا يكون للشاب أو لغير الشاب هَمٌّ إلا أن يبحث ما حصل، وماذا حصل، في أمر لا يمكنه إصلاحه، أيضا لو أراد الإصلاح فالفقه في الدين هو الأصل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) والفقه في الواقع نحتاج إليه لنطبق الفقه في الدين على أحوال الناس، لكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يطغى فقه الواقع على الفقه في الدين، بحيث لا يكون للإنسان هَمٌّ إلا مطالعة الجرائد والمجلات، وما أشبه ذلك، ويعرض بذلك عن مطالعة الكتاب والسنة " انتهى.
ولكنك تعلم أخي السائل أن كثيرا مما يعرض على القنوات الفضائية مما لا يجوز للمسلم مشاهدته أو متابعته، وذلك بسبب ظهور النساء المتبرجات فيه، ومصاحبة الموسيقى له، وقد أغنانا الله سبحانه وتعالى عن ذلك – والحمد لله -، إذ يمكنك متابعة ما تحتاجه في قناة بعيدة عن المخالفات الشرعية، أو موقع إخباري إسلامي موثوق بالقائمين عليه؛ لا سيما إذا فهمنا أن المطلوب، في مثل حالك، هو الإلمام الجملي بالأحداث وأحوال الناس، ثم الاهتمام بما يتعلق بحياتك العلمية والدعوية، لا سيما إذا كان منكرا يمكنك المشاركة في تغييره، أو معروفا تستطيع الأمر به أو المشاركة في قيامه.
وأما أن تكون همتك ـ أخي الكريم ـ تدعوك لأن تبلغ في العلم ما بلغ الأئمة الكبار، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما ذلك على الله بعزيز، لكن لكل قول حقيقة، فلتكن حقيقة قولك أن تجد وتجتهد في تحصيل العلم، وصرف النفس والنفيس في العناية به، والعمل به، ثم الافتقار إلى الله تعالى في أن يبلغك مرتبة الإمامة في العلم والدين؛ فذلك مما أثنى الله تعالى به على عباده؛ فقال سبحانه في صفات عباد الرحمن:
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74)
غير أنا نحذرك من المبالغة في أحلام اليقظة، التي يكون مؤداها أن تغرق صاحبها في الخدر ساعات أو أياما، ثم لا يلبث أن يرى نفسه يراواح بين قدميه، وهو ـ بعد ـ في مكانه؛ وسرعان ما يصيبه اليأس والإحباط.
وإنما نوصيك بقول الله تعالى:
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) ونذكرك بقول النبي صلى الله عليه وسلم للسالكين في طريقهم إلى الله تعالى:
(سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)
رواه البخاري (6463) ومسلم (2818) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/559)
هل يترك دراسته بالأزهر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا من بلد تركمنستان خرجت من بلدي لطلب العلم، إلى مصر، والآن أنا أدرس في معاهد الأزهر، لكن في الأزهر فساد كثير وأنا لا أريد هذا. أنا أريد عقيدة صحيحة، والآن أنا أريد أسافر إلى السعودية في وقت العمرة وهذا الطريق سهل بالنسبة لي، وبعد العمرة أريد أن أبقى في السعودية بدون إقامة وأطلب العلم، وأقدم الأوراق لجامعات وأنتظر حتى يخرج نتيجة من الجامعات، هل هذا يجوز أم لا بدون إقامة في السعودية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أخي الكريم نهنئك على هذه الهمة العالية في طلب العلم ونربط على يديك ونحفزك على تعلم العقيدة الصحيحة ونصرتها، عقيدة أهل السنة والجماعة.
ثانياً:
لا نشجعك أبداً بعد تحملك عناء السفر وحصولك على فرصة الدراسة في الأزهر التي يسرها الله لك لأمر مظنون قد يحصل وقد لا يحصل.
والعاقل لا يترك شيئاً إلا لما هو خير منه، فلا تترك الخير الذي في يديك لأمر مشكوك فيه.
نعم، في الأزهر أشياء تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن ليس كل أساتذة الأزهر كذلك، بل فيهم من هو من أهل السنة والجماعة، فاجتهد أن تستفيد منهم، وأن تتتلمذ على أيديهم، ولو خارج المعهد والدراسة النظامية.
وهناك من الدعاة وطلبة العلم في مصر من ليسوا مدرسين ولا أساتذة في الأزهر، ولكنهم معروفون بالحرص على تعلم السنة واتباعها، فاحرص على صحبتهم وحضور مجالسهم.
ثالثاً:
لو أتيت إلى بلاد الحرمين بهذه الطريقة التي ذكرت فلن تستطيع أن تقدم أوراقك لأي جهة فضلاً عن أن تنتظر قبولاً لأنك ستكون مطارداً من الجهات الأمنية لمخالفتك لنظام الإقامة.
ويمكنك مراسلة الجامعات التي تريدها وأنت بمصر من غير أن تضيع الفرصة التي بين يديك، فإن وجدت قبولاً فتستطيع وقتها أن تقارن بين الأصلح لك، مع استخارة الله عز وجل، واستشارة بعض إخوانك وأساتذتك.
نسأل الله أن يرزقك العلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/560)
طلب العلم على كِبَر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن طلب العلم الشرعي لمن بلغ عمره الخامسة والعشرين ولم يلتزم إلا من حوالي سنتين ونصف ولا يحفظ من القراًًن إلا ثلاثة أجزاء؟
والمراد تعلمه هو معالي العلم بطريقة منهجية كما بينه مشايخنا الأفاضل كالشيخ ابن العثيمين في كتابه العلم، وما أريده من تعلمي العلم هو رفع الجهل عن نفسي أولا وأن أعبد الله على علم، ثم أحاول أن أرفع الجهل عمن حولى.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعلم أخي ـ وفقك الله ـ أن أعظم نعمة ينعمها الله على عبده أن يهديه من الضلال، وينقذه من الغواية، فإذا شرح الله صدر عبده لتعلم العلم الشرعي وتعليمه، فقد أبلغ في الفضل وزاد في الإكرام، فاستوجب ذلك من العبد مزيدا من الشكر لربه، والعمل بمرضاته.. ومن ذلك الاجتهاد في تحصيل العلم الموروث عن سيد الرسل صلى الله عليه وسلم..
وأما ما ذكرته من بلوغك سن الخامسة والعشرين؛ فأي شيء في ذلك؟!
فعليك بالاجتهاد في حفظ كتاب الله، وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتون العلمية النافعة، ودراسة كتب أهل العلم، وقراءتها، وملازمة الشيوخ الربانيين أصحاب الاعتقاد الصحيح والفهم المستقيم، سائراً في ذلك على المنهجية التي حث عليه العلماء من أمثال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وغيره من أهل العلم والفضل.
وستجد في هذا الموقع، وفي موقع " المختار الإسلامي " زاوية خاصة متعلقة بالعلم وطلبه، فعليك بتصفحها، فستجد فيها بإذن الله إجابات كثيرة عما قد يجول في خاطرك من أسئلة حول هذا الموضوع.
واعلم بأن طريق العلم طريق طويل، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فشد من عزمك، واستعن بربك، ولا يصدنك ما انقضى من عمرك، فلعل ما بقي خير وأبرك مما مضى بإذن الله.
واعلم أن كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعلموا العلم إلا والشيب يزين مفارقهم، وقد مضى من عمرهم أكثر مما مضى من عمرك، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى صاروا سادة العلماء وأئمة الدنيا، وفيهم أسوة لكل مؤتس، كما أن أخبار العز بن عبد السلام وابن حزم وغيرهم ممن طلبوا العلم كباراً ليست عنا ببعيدة.. فاستعن بالله ولا تعجز.
سائلين الله لك التوفيق والسداد
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/561)
يريد أسماء كتب متخصصة في حل مشكلات المجتمع
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد التخصص في حل مشاكل المجتمع - من الكتاب والسنة طبعاً - فما هي الكتب التي يجب دراستها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مشكلات المجتمع كثيرة، فمنها ما يتعلق بالأزواج، وبالزوجات، وبالشباب، وبالبنات، وبالمرأة، وبالأسرة عموماً.
وقد أحسن الأخ السائل في سؤاله عن الكتب المتخصصة في حل هذه المشكلات وفق الكتاب والسنَّة؛ لأنه لا خير في حلٍّ لا يستند إلى وحي الله تعالى الذي خلق الناس ويعلم ما يصلح لهم فدلَّهم عليه، وحذَّرهم مما يضرهم.
ومن هذه الكتب التي تعتني بحل المشكلات – على تنوعها -:
1. " أثر تطبيق الشريعة الإسلامية في حل المشكلات الاجتماعية "، إبراهيم بن مبارك الجوير.
2. " أسرة بلا مشاكل "، مازن عبد الكريم الفريح.
3. " أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي "، عبد الله قادري الأهدل.
4. " واجبات المرأة المسلمة في ضوء الكتاب والسنة "، الشيخ خالد العك.
5. " من أخطاء الزوجات "، الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد.
6. " تربية الأبناء والبنات في ضوء الكتاب والسنة "، الشيخ خالد العك.
7. " التقصير في تربية الأولاد، المظاهر، سبل الوقاية، العلاج "، الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد.
8. " علاج الهموم "، الشيخ محمد صالح المنجد.
9. " مشكلات وحلول "، الشيخ محمد صالح المنجد.
10. " أربعون نصيحة لإصلاح البيوت "، الشيخ محمد صالح المنجد.
11. " خمسون حالة نفسية " الدكتور محمد الصغير.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/562)
هل يجبُ تعلُّمُ فقهِ البيوعِ والمعاملاتِ الماليةِ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعلُّم فقهِ البيوعِ والمعاملاتِ الماليَّةِ واجبٌ (فرضُ عينٍ) على كل من تعاملَ بالبيعِ والشراء، كالصيادلةِ ومندوبي شركاتِ الأدوية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا علمَ المسلمُ أن المقصدَ والغايةَ من خلقه في الحياةِ الدنيا هو الالتزامُ بتكاليفِ اللهِ وشرعِه، والتعبدُ للهِ سبحانه وتعالى بذلك، علمَ أيضًا أنه يجبُ عليه تعلُّمُ أحكامِ شرع الله، ومعرفةُ تكاليفِه، وذلك أن ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ.
وجاء في الحديثِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنه قالَ: (طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ) . رواه ابن ماجه (224) وحسنه بكثرة طرقه وشواهده: المزي والزركشي والسيوطي والسخاوي والذهبي والمناوي والزرقاني، وهو في "صحيح ابن ماجه" للألباني.
وقد نصَّ أهلُ العلمِ على صحَّةِ معنى هذا الحديثِ.
قال ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله:
" ولكنَّ معناه صحيحٌ عندهم، وإن كانوا قد اختلفوا فيه اختلافًا متقاربًا " انتهى.
"جامع بيان العلم" (1/53) .
وبنحوه قال النووي في "المنثورات" (ص287) ، وابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (1/480) .
وقال ابن عبد البر أيضاً:
" قد أجمعَ العلماءُ على أنَّ من العلمِ ما هو فرضٌ متعيِّنٌ على كل امرئٍ في خاصَّتِه بنفسِه، ومنهُ ما هو فرضٌ على الكفاية، إذا قامَ به قائمٌ سقطَ فرضُه على أهلِ ذلك الموضع " انتهى.
"جامع بيان العلم وفضله" (1/56) .
وقد بيَّنَ العلماءُ رحمهم الله العلمَ الواجبَ وجوبًا عينيّاً، وتكلموا في المقدارِ الذي هو فرضُ عينٍ على كل مسلمٍ تعلُّمُه , وذكروا أن منه: تعلم أحكام البيوع لمن يعمل بالتجارة , حتى لا يقع في الحرام أو الربا وهو لا يدري , وقد ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ما يؤيد ذلك.
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنه: لاْ يَبِعْ فِيْ سُوْقِنَا إِلاْ مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِيْ الدِّيْنِ. رواه الترمذي (487) وقال: حسن غريب. وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
وقالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه: مَنِ اتَّجَرَ قبلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِيْ الرِّبَا، ثُمَّ ارْتَطَمَ، ثُمَّ ارْتَطَمَ. أي: وقع في الربا.
"مغني المحتاج" (2/22) .
قال ابنُ عبدِ البر:
" والذي يلزمُ الجميعَ فرضُه من ذلك:
ما لا يسعُ الإنسانَ جهلُه من جملةِ الفرائضِ المفترضةِ عليه:
نحو: الشهادةُ باللسانِ والإقرار بالقلبِ بأنَّ اللهَ وحدَه لا شريكَ له ... وأنَّه لم يزل بصفاتِه وأسمائِه، ليس لأوَّليتِه ابتداءٌ، ولا لآخريَّتِه انقضاءٌ، وهو على العرشِ استوى.
والشهادةُ بأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ البعثَ بعدِ الموتِ للمجازاةِ بالأعمالِ، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، وما فيه حقٌ.
وأنَّ الصلواتِ الخمسَ فرضٌ، ويلزمُه من علمِها علمُ ما لا تتمُّ إلا به من طهارتِها وسائرِ أحكامِها.
وأنَّ صومَ رمضانَ فرضٌ، ويلزمُه علمُ ما يُفسِدُ صومَه وما لا يتِمُّ إلا بِهِ.
وإن كان ذا مالٍ وقدرةٍ على الحجِّ، لزمَه فرضًا أن يعرفَ ما تجبُ فيه الزكاةُ، ومتى تجبُ، وفي كم تجبُ، ويلزمه أن يعلمَ بأن الحجَّ عليه فرضٌ مرةً واحدةً في دهرِه إن استطاعَ إليه سبيلًا.
إلى أشياءَ يلزمُه معرفةُ جُمَلِها، ولا يُعذَرُ بجهلِها نحوُ: تحريمِ الزنا والربا، وتحريمِ الخمرِ والخنزيرِ وأكلِ الميتةِ والأنجاسِ كلِّها، والغصبِ والشهادةِ بالزورِ وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، وتحريمِ الظلمِ كلِّهِ، وتحريمِ نكاحِ الأمهاتِ والأخواتِ ومن ذُكِرَ معهنَّ، وتحريمِ قتلِ النفسِ المؤمنةِ بغيرِ حقٍ.
وما كان مثلَ هذا كلِّه مما قد نطقَ الكتابُ به، واجتمعت الأمةُ عليه " انتهى.
"جامع بيان العلم" (1/57) .
وجاءَ في الموسوعةِ الفقهيةِ (30/293) :
" قال ابنُ عابدين نقلاً عن العَلاميّ:
وفرضٌ على كلِّ مكلّفٍ ومكلّفةٍ بعدَ تعلّمِه علمَ الدينِ والهدايةِ، تعلُّمُ علمِ الوضوءِ والغسلِ والصلاةِ الصومِ وعلم الزكاة لمن له نصاب، والحجّ لمن وجب عليه.
والبيوعِ على التّجّارِ ليحترزوا عن الشّبهاتِ والمكروهاتِ في سائرِ المعاملاتِ، وكذا أهلِ الحِرَفِ.
وكلُّ من اشتغلَ بشيءٍ يُفرَضُ عليه علمُه وحكمُه ليمتنعَ عن الحرامِ فيه.
وقالَ النوويُّ: وأمّا البيعُ والنّكاحُ وشبههُما - ممّا لا يجبُ أصلُه - فيحرُمُ الإقدامُ عليه إلاّ بعدَ معرفةِ شرطِه " انتهى.
وقال الغزاليُّ رحمه اللهُ:
" كما أنَّه لو كان هذا المسلمُ تاجرًا وقد شاعَ في البلدِ معاملةُ الربا، وجبَ عليهِ تعلُّمُ الحذرِ من الربا، وهذا هو الحقُّ في العلمِ الذي هو فرضُ عينٍ، ومعناه العلمُ بكيفيةِ العملِ الواجب " انتهى.
"إحياء علوم الدين" (1/33) .
وقالَ علي بن الحسن بن شقيق لابنِ المبارك:
ما الذي يسعُ المؤمنَ من تعليمِ العلمِ إلا أن يطلبَه؟ وما الذي يجبُ عليه أن يتعلَّمَه؟
قال: لا يسعُه أن يُقدِمَ على شيءٍ إلا بعلمٍ، ولا يسعُه حتى يسألَ.
رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/56) .
وقال الغزاليُّ رحمه الله:
" كلُّ عبدٍ هو في مجاري أحوالِه في يومِه وليلتِه لا يخلو من وقائعَ في عبادتِه ومعاملاتِه عن تجددِ لوازمَ عليه، فيلزمُه السؤالُ عن كلِّ ما يقعُ له من النوادرِ، ويلزمُه المبادرةُ إلى تعلُّمِ ما يَتَوَقَّعُ وقوعَه على القربِ غالبًا " انتهى.
"إحياء علوم الدين" (1/34) .
والنصيحةُ لِمَن يشتغلُ بالتجارةِ والبيعِ والشراء، أن يقرأَ بعضَ الكتبِ المختصرةِ في فقهِ المعاملاتِ، مثل: "الملخص الفقهي" للشيخ صالح الفوزان , وكتاب "ما لا يسعُ التاجرَ جهلُه" للأستاذين عبد الله المصلح وصلاح الصاوي.
واللهُ أعلم
وانظر سؤال رقم (20092) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/563)
هل يجوز له الكذب على والديه للخروج لطلب العلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[بعد أن مَنَّ الله علي بالإسلام، أحببت أن أخرج لطلب العلم ولكن أبواي منعاني ويعارضان ذلك بشدة، فاضطررت إلي الخروج لطلب العلم في أحد البلاد المجاورة دون إذنهما، ومن ورائهما وكنت إذا تأخرت في المرواح إلى المنزل، يسألاني، فأكذب عليهم، إضافة إلى ذلك أنا أقضي يوماً كاملاً من الأسبوع خارج المنزل على اعتبار أنني أذاكر مع أحد الزملاء، وهكذا أقوم كثيراً بالكذب عليهم ... فسؤالي الأول 1- هل يجوز ذلك (أعني الكذب عليهم) لمعرفتي أن الكذب جريمة بشعة وذنب عظيم ولكنه هو الطريقة الوحيدة للاستمرار في طلب العلم 2- ماذا أفعل إذا عرفا ما كنت أخفيه وواجهاني بالأمر، بالتأكيد سيمنعاني، فهل أنزل على رغبتهما أم أستمر في طلب العلم، علماً بأنهم قد يخرجاني من البيت إذ لم أفعل، وأنا ما زلت طالباً في كلية الطب، ولا أتقن أي عمل أشتغل به خارج المنزل طلباً للرزق فماذا أفعل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
طلب العلم الشرعي قربة من أعظم القربات، وعنوان على توفيق الله للعبد ومحبته له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) رواه البخاري (71) ومسلم (1037) .
وهذا العلم ينقسم إلى فرض عين؛ وإلى فرض كفاية، ففرض العين منه، ما يحتاجه المسلم لتصح عقيدته وعبادته ومعاملته.
وما عدا ذلك فهو نفل في حق الفرد، فرض كفاية على مجموع الأمة.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل دراسة العلم الشرعي فرض؟
فأجابوا: "العلم الشرعي على قسمين: منه ما هو فرض على كل مسلم ومسلمة، وهو معرفة ما يصحح به الإنسان عقيدته وعبادته، وما لا يسعه جهله، كمعرفة التوحيد وضده الشرك، ومعرفة أصول الإيمان وأركان الإسلام، ومعرفة أحكام الصلاة وكيفية الوضوء والطهارة من الجنابة ونحو ذلك، وعلى هذا المعنى فُسر الحديث المشهور: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) .
والقسم الآخر: فرض كفاية، وهو معرفة سائر أبواب العلم والدين، وتفصيلات المسائل وأدلتها، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن باقي الأمة " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (12/90) .
ثانيا:
الأصل في الكذب أنه حرام، ولا يباح إلا في حالات خاصة بينتها الشريعة، تحقيقا للمصلحة العظيمة أو دفعا للمضرة، وانظر هذه الحالات في جواب السؤال رقم (47564) .
ثالثا:
الخروج لطلب العلم بغير إذن الوالدين أو مع مخالفتهما، فيه تفصيل:
1- إن كان العلم فرضا متعينا، فلا يشترط إذن الوالدين، وإن منعاه فلا طاعة لهما في ذلك، إلا أن الكذب عظيم، وفي المعاريض مندوحة عنه، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: "باب المعاريض مندوحة عن الكذب. وقال إسحاق: سمعت أنسا: مات ابن لأبي طلحة، فقال: كيف الغلام؟ قالت أم سليم: هدأ نَفسُه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أنها صادقة".
والتعريض: ضد التصريح، والمراد به التورية، والمندوحة: الفسحة والسعة.
قال الحافظ: " وشاهد الترجمة منه قول أم سليم: هدأ نَفَسُه، وأرجو أن قد استراح؛ فإن أبا طلحة فهم من ذلك أن الصبي المريض تعافى؛ لأن قولها: هدأ، بمعنى سكن. والنفَس مشعر بالنوم، والعليل إذا نام أشعر بزوال مرضه أو خفته، وأرادت هي أنه انقطع بالكلية بالموت، وذلك قولها: وأرجو أنه استراح. فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية، ومرادها أنه استراح من نكد الدنيا وألم المرض، فهي صادقة باعتبار مرادها، وخبرُها بذلك غير مطابق للأمر الذي فهمه أبو طلحة، فمن ثَمَّ قال الراوي: وظن أنها صادقة، أي باعتبار ما فهم". انتهى من "فتح الباري" (10/594) .
وقال ابن قتيبة رحمه الله: " فمن المعاريض قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في امرأته: إنها أختي، يريد أن المؤمنين إخوة ". انتهى من "تأويل مختلف الحديث" ص 35.
فلو سئلتَ عن تأخرك مثلا فلك أن تقول: إنك كنت تذاكر أو تدرس مع زميلك، فيُظن أنك تقصد مذاكرة دروس الطب، والواقع أنك تقصد الدروس الشرعية، أو أن تقول: كنت عند زميلي، وتقصد زميلك في طلب العلم، أو أنك مررت على زميلك بالفعل بعد رجوعك من درس العلم، وهذه المعاريض إنما تستعمل عند الحاجة، وأما الإكثار منها بغير حاجة فلا؛ لأن ذلك باب إلى الكذب، وسقوط الهيبة، وانعدام الثقة فيما يقوله المرء.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل طلب العلم المفروض مشترط فيه إذن الأبوين أم لا؟
فأجابوا: طلب العلم الذي يتوقف عليه صحة إيمانك وأداء الفرائض، لا يتوقف على إذن الوالدين، وما كان من العلوم فرض كفاية فاستأذن فيه الوالدين " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (12/78) .
2- وإن كان الوالدان يمنعان من حضور حلقات العلم كراهة في العلم الشرعي، فلا إذن لهما ولا طاعة في ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ... وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي فهؤلاء لا طاعة لهما، ولا ينبغي له أن يستأذن منهما إذا خرج؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي " وانظر تمام كلامه في جواب السؤال رقم (11558) .
3- وإن كان الخروج لطلب العلم يستلزم السفر والغياب عنهما مع حاجتهما إليك لخدمتهما ونحو ذلك، فلابد من إذنهما؛ أما إذا كان طلب العلم في البلد التي أنت بها، ولا يحتاجان إليك فترة غيابك فلا يشترط إذنهما في ذلك.
روى الخلال عن أحمد رحمه الله: " أن رجلا سأله: إني أطلب العلم، وإن أمي تمنعني من ذلك، تريد حتى أشتغل في التجارة؟ قال لي: دارِها وأَرضها، ولا تدع الطلب.
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/646) : "ذكر صاحب النظم: لا يطيعهما في ترك نفل مؤكدٍ، كطلب علم لا يضرهما به" انتهى.
رابعا: ينبغي أن تعلم أن طرق تحصيل العلم كثيرة، لا سيما في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الأشرطة والاسطوانات والكتب، فمن ذلك:
1-الاستفادة من الكتب والأشرطة والشروح الموجود على الإنترنت.
2-الاستفادة مما يعرض في بعض القنوات الفضائية، كالدروس العلمية النافعة التي تعرضها قناة المجد التعليمية.
3-قراءة الكتب، مع سؤال أهل العلم، عن طريق الإنترنت وغيره، عما أشكل.
وانظر جواب السؤال رقم: (20191) ففيه بيان كيفية طلب العلم.
نسأل الله لك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/564)
هل الأذان ورعاية المسجد أفضل أم طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا ملتزم منذ فترة ولله الحمد، ووفقني الله تعالى أن أواظب على الصلاة في جماعة في جميع الأوقات ولما رأت إدارة المسجد هذه المواظبة أصبحت مسؤولا عن فتح وغلق المسجد وعن الأذان ولكن هناك العديد من الدروس في الفقه والتوحيد تقام في مساجد بعيدة عن مسجدنا وقال لي الإخوة إن طلب العلم أفضل من الأذان وأنا أصبحت مرتبطا بالمسجد في جميع الأوقات مع أنني أحضرت أسطوانات لهذه الدروس وأسمعها فهل الأذان أفضل أم طلب العلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأذان والتبكير إلى الصلاة ورعاية المسجد، كل ذلك من القربات العظيمات، والأعمال الصالحات النافعات، وقد جاءت الشريعة بالحث على ذلك والترغيب فيه في أحاديث كثيرة مشهورة.
وكذلك دلت النصوص على فضل العلم وشرفه، والترغيب في طلبه.
وينبغي أن يُعلم أن العلم قد يكون فرض عين على الإنسان، وهو العلم الذي يصح به اعتقاده، وتستقيم به عبادته ومعاملته، فهذا لا يجوز التفريط فيه، ولا الانشغال عنه، لا بالأذان ولا بغيره.
ومن العلم المفروض: علم العقيدة والتوحيد إجمالا، وعلم أحكام الصلاة والصيام ومعرفة أحكام الزكاة لمن عنده مال يزكيه، وعلم أحكام الحج لمن أراد أن يحج.
ومن ذلك تعلم أحكام البيع والشراء لمن أراد أن يتعامل بذلك، وكذا أحكام النكاح والطلاق والأطعمة والأشربة وغيرها من المعاملات لم أراد الإقدام على شيء منها.
قال المناوي رحمه الله: (قد تباينت الأقوال وتناقضت الآراء في هذا المفروض في نحو عشرين قولا، وكل فرقة تقيم الأدلة على علمها....وأجود ما قيل قول القاضي: ما لا مندوحة عن تعلمه كمعرفة الصانع [الله عز وجل] ونبوة رسله، وكيفية الصلاة ونحوها، فإن تعلمه فرض عين) انتهى من فيض القدير 4/267
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجبا على الإنسان عينا أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يُشْعِر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي) انتهى من كتاب العلم
وقد أحسنت في إحضار أسطوانات الدروس، فإن ذلك من وسائل طلب العلم، وإن كان لا يغني عن مجالسة العلماء، والتأدب بآدابهم، وسؤالهم عما يغمض ويشكل.
والذي يظهر بالنسبة لحالك في مقام المفاضلة بين الأذان ورعاية المسجد، وبين طلب العلم غير المفروض عينا: أن تحاول الجمع بين الخيرين، فتواظب على بعض الدروس، وتستمر في رعاية المسجد، وتعتمد فيما فاتك من الدروس على الأسطوانات، مع سؤال أهل العلم عما أشكل فيها، فإن لم ترض إدارة المسجد بغيابك بعض الأوقات، فتفرغ لطلب العلم، فإنه الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة، لاسيما وأن المسجد والأذان لن يعدم من يقوم عليه على وجهه، أما العلم فإن المقبلين عليه بحرص وجدٍّ قليلون.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان فضل العلم: (الوجه الثامن والمائة: أن كثيرا من الأئمة صرحوا بأن أفضل الأعمال بعد الفرائض طلب العلم، فقال الشافعي: ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وهذا الذي ذكر أصحابه عنه أنه مذهبه، وكذلك قال سفيان الثوري وحكاه الحنفية عن أبي حنيفة، وأما الإمام أحمد، فحُكي عنه ثلاث روايات:
إحداهن أنه العلم، فإنه قيل له أي شيء أحب إليك، أجلس بالليل أنسخ أو أصلي تطوعا؟ قال: نسخك تعلم به أمور دينك، فهو أحب إلي، وذكر الخلال عنه في كتاب العلم نصوصا كثيرة في تفضيل العلم، ومن كلامه فيه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب.
الرواية الثانية: أن أفضل الأعمال بعد الفرائض صلاة التطوع، واحتج لهذه الرواية بقوله: " واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة "
وبقوله في حديث أبي ذر وقد سأله عن الصلاة فقال: " خير موضوع " وبأنه أوصى من سأله مرافقته في الجنة بكثرة السجود وهو الصلاة، وكذلك قوله في الحديث الآخر: "عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة" وبالأحاديث الدالة على تفضيل الصلاة.
والرواية الثالثة: أنه الجهاد فإنه قال: لا أعدل بالجهاد شيئا من ذا يطيقه، ولا ريب أن أكثر الأحاديث في الصلاة والجهاد.
وأما مالك فقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: إن أقواما ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم فخرجوا على أمة محمد بأسيافهم، ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك. قال مالك: وكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب أنه قرأ القرآن عندنا عدد كذا وكذا فكتب إليه عمر أن افرض لهم من بيت المال، فلما كان في العام الثاني كتب إليه أنه قد قرأ القرآن عندنا عدد كثير لأكثر من ذلك، فكتب إليه عمر أن امحُهم من الديوان فإني أخاف من أن يسرع الناس في القرآن أن لا يتفقهوا في الدين فيتأولوه على غير تأويله. وقال ابن وهب: كنت بين يدي مالك بن أنس فوضعت ألواحي وقمت إلى الصلاة، فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته) انتهى من مفتاح دار السعادة 1/119
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/565)
السفر لطلب العلم بدون إذن الأبوين
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لي السفر لبلد آخر لطلب العلم الشرعي دون إذنهما؟ وماذا إذا لم يسمحا لي بالذهاب؟ قرأت أن الإمام أحمد لا يرى بأساً في هذا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
طلب العلم إذا كان هذا العلم فرضا فلا يشترط إذنهما، أما إذا كان نفلا فلا بد من إذنهما.
روى مسلم (2549) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله. قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما.
وطلب العلم نوع من أنواع الجهاد، فلا يجوز النفل منه إذا كان يقتضي السفر عنهما إلا بإذنهما.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/35-36) :
وأما من خرج يبتغي علما فلا بد له من الخروج بإذن الأبوين؛ لأنه فضيلة فالنوافل لا تُبتغى إلا بإذن الآباء.
وقال المروذي لأبي عبد الله (أي الإمام أحمد) : الرجل يطلب العلم ويستأذن والدته، فتأذن له، وهو يعلم أن المقام أحب إليها؟ قال: إذا كان جاهلا لا يدري كيف يُطلق ولا يصلي، فطلب العلم أحب إلي، وإن كان قد عرف فالمقام عليها أحب إلي.
وروى الخلال عنه أن رجلا سأله: إني أطلب العلم، وإن أمي تمنعني من ذلك، تريد حتى أشتغل في التجارة؟ , قال لي: دارها وأرضها، ولا تدع الطلب.
وقال له: رجل غريب عن بلده طلب العلم أحب إليك أم أرجع إلى أمي؟ فقال له: إذا كان طلب العلم مما لا بد أن تطلبه فلا بأس.
وسأله رجل: قدمت الساعة وليس أدري شيئا ما تأمرني؟ فقال أبو عبد الله: عليك بالعلم.
وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون له أبوان موسران يريد طلب الحديث ولا يأذنان له قال: يطلب منه بقدر ما ينفعه , العلم لا يعدله شيء." أهـ
وقد تبين مما سبق ما هو المراد من كلام الإمام أحمد. وهو: إذا كان العلم فرضاً فلا يشترط إذن الوالدين، وإذا كان نفلاً فلا بد من إذنهما.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/566)
الصابوني وكتابه " صفوة التفاسير "
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأي فضيلتكم في كتاب " صفوة التفاسير " للشيخ الصابوني , حيث إن بعض الشباب الملتزمين يعيبون علينا قراءة هذا الكتاب , ويقولون بأن عقيدة الشيخ الصابوني معتزلية أو أشعرية، وتفسيره للقرآن كذلك , وحيث إني لا علم لي بهذا الشيخ فصرت أقرأ في هذا الكتاب لبساطتهِ ومنهجه الجذاب، فما رأيكم في هذا الكتاب وفي مؤلفه؟ وما الكتب التي توصون بها التي تهم كل مسلم (غير مختص بالعلوم الشرعية) في عقيدته وحياته من عبادات ومعاملات.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الأستاذ محمد علي الصابوني , من أساتذة كلية الشريعة بمكة المكرمة، كان له نشاط في علوم القرآن والتفسير, ومن ثم قام بتأليف عدة كتب في التفسير وعلوم القرآن , أكثرها مختصرات , كـ " مختصر تفسير ابن كثير " , و " مختصر تفسير الطبري " , و " التبيان في علوم القرآن " , و " روائع البيان في تفسير آيات الأحكام " , و " قبس من نور القرآن " , و " صفوة التفاسير " , وهو الكتاب الذي نحن بصدده.
وهو تفسير موجز , قال عنه مؤلفه: إنه شامل، جامع بين المأثور والمعقول , مستمد من أوثق التفاسير المعروفة كالطبري والكشاف! وابن كثير والبحر المحيط! وروح المعاني , في أسلوب ميسر سهل التناول , مع العناية بالوجوه البيانية واللغوية.
وقال في المقدمة:
وقد أسميت كتابي " صفوة التفاسير " , وذلك لأنه جامع لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصلة , مع الاختصار والترتيب , والوضوح والبيان.
طبع الكتاب في ثلاث مجلدات , وكان تاريخ التأليف سنة (1400 هـ) .
أما من حيث اعتقاد المؤلِّف فهو أشعري الاعتقاد، وهو ما جعل كتبه واختصاراته عرضة للنقد والرد، بل جعله هذا يبتر بعض نصوص الأحاديث، ويحرف بعض النقول عن العلماء كما سيأتي.
قال الشيخ سفر الحوالي:
أما الصابوني فلا يؤسفني أن أقول إن ما كتبه عن عقيدة السلف والأشاعرة يفتقر إلى أساسيات بدائية لكل باحث في العقيدة، كما أن أسلوبه بعيد كثيراً عن المنهج العلمي الموثق وعن الأسلوب المتعقل الرصين.
" منهج الأشاعرة في العقيدة " (ص 2) .
وقد رد عليه كثير من أهل العلم مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والشيخ الألباني رحمه الله والشيخ صالح الفوزان والشيخ بكر أبو زيد والشيخ محمد جميل زينو وغيرهم.
وأما كتابه " صفوة التفاسير " فهو من أكثر كتبه التي ردَّ عليها العلماء، وهذه قائمة بأسماء بعض من ردَّ عليه مع ذِكر أسماء كتبهم:
1. " الرد على أخطاء محمد علي الصابوني في كتابه " صفوة التفاسير " و " مختصر تفسير ابن جرير "، للشيخ محمد جميل زينو – مدرس التفسير في دار الحديث في مكة -.
2. " تنبيهات هامة على كتاب " صفوة التفاسير " "، للشيخ محمد جميل زينو.
3. " ملاحظات على كتاب " صفوة التفسير " " للشيخ سعد ظلاَّم – عميد كلية اللغة العربية في مصر -.
4. " ملاحظات على صفوة التفاسير " للشيخ عبد الله بن جبرين.
5. " ملاحظات عامة على كتاب " صفوة التفاسير " " للشيخ صالح الفوزان.
6. " التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير " للشيخ بكر أبو زيد، وهو ضمن كتابه الكبير " الردود ".
وهذه الردود والتعقبات دفعت وزارة الأوقاف في المملكة العربية السعودية أن تمنع تداول الكتاب وتأمر بمصادرته، وذلك في: " تعميم وزارة الحج والأوقاف برقم 945 / 2 / ص، في 16 / 4 / 1408 هـ من المديرية العامة للأوقاف والمساجد في منطقة الرياض المتضمن مصادرة " صفوة التفاسير " وعدم توزيعه حتى يصلح ما فيه من أخطاء عقدية.
قال الشيخ بكر أبو زيد:
" صفوة التفاسير " اسم فيه تغرير وتلبيس، فأنَّى له الصفاء وهو مبني على الخلط بين التبر والتبن، إذ مزج بين تفسيري ابن جرير وابن كثير السلفييْن، وتفسير الزمخشري المعتزلي، والرضي الرافضي، والطبرسي الرافضي، والرازي الأشعري، والصاوي الأشعري القبوري المتعصب، وغيرهم، ولا سيما وهذا المزج على يد من لا يعرف الصنعة ولا يتقنها كهذا الذي تسوَّر هذا الصرح بلا سلَّم، وإلا فإن أهل العلم يستفيدون من المفسرين المتميزين بما لا يخرج عن الجادة: مسلك السلف، وضوابط التفسير، وسَنن لسان العرب.
" الردود " (ص 311) .
وقال:
فيفيد وصفه بالجهل أنه: يصحح الضعاف، ويضعِّف الصحاح، ويعزو أحاديث كثيرة إلى الصحيحين، أو السنن الأربعة أو غيرها وليس في الصحيحين – مثلاً – أو ليس في بعضها، ويحتج بالإسرائيليات، ويتناقض في الأحكام.
ويفيد وصفه بالإخلال بالأمانة العلمية: بتر النقول، وتقويل العالم ما لم يقله، وتحريف جمع من النصوص والأقوال، وتقريره مذهب الخلَف في كتب السلف.
ويفيد خَلْفيته في الاعتقاد: مسخه لعقيدة السلف في مواضع من تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير، وبأكثر في " صفوة التفاسير "، وما تحريفه لعدد من النصوص إلا ليبرر هذه الغاية.
" الردود " (ص 313، 314) .
وقد نصحه الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – قائلاً:
نوصيك بتقوى لله، والحرص التام على التقيد بمذهب السلف الصالح في جميع مؤلفاتك، ونوصيك أيضاً بالإكثار من تدبر القرآن الكريم، والسنَّة المطهرة، وكلام سلف الأمَّة، والاستفادة مما كتبه الإمام العلاَّمة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلاَّمة ابن القيم، ونوصيك بمطالعة رسالتيْ " التدمرية " و " الحموية " لشيخ الإسلام، و " الصواعق " و " اجتماع الجيوش الإسلاميَّة " لابن القيم، وغيرها من كتب السلف.
" الردود " (ص 375) .
ثانياً:
أما ما أردت بيانه من الكتب التي يحتاجها المسلم في حياته: فيمكنك الاطلاع على السؤال: (14082) ففيه بيان ما أردت وزيادة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/567)
المرأة وطلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا امرأة مسلمة بالغة وأريد أن أتبع الحياة الإسلامية السليمة في أدق الأشياء وأحاول أن أجد المعرفة بطرق شتى ولكن أشعر أنه لا بد أن يكون هناك طريق محدد للعلم ليكون لدي فكرة طيبة عن القرآن والسنة ولا أستطيع أن أذهب إلى مدرسة لأنه ليست هناك مدارس قريبة مني وأريد أن أدعو إلى الإسلام لكن ليس في موضوعات محددة. فهل هناك نظام دراسي محدد لاكتساب هذه المعرفة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نشكر الأخت السائلة حرصها على طلب العلم والدعوة إلى الله، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعلنا هداة مهتدين، ولابد لمن يدعو إلى الله أن يتسلح بالعلم، قال الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف / 108
وقد يسَّر الله تعالى في هذا الزمان طرقاً كثيرة لطلب العلم دون عناء ولا حتى خروج من البيت، وذلك عن طريق أشرطة (الكاسيت) و (الكمبيوتر) و (الإنترنت) .
ولا بدَّ للمرأة – بل وللرجل – أن تسلك طرق العلم مبتدأة بالسهل اليسير قبل الدخول في الأمور الصعبة، ولا بدَّ من الاعتدال في طلب العلم فلا يكلف نفس ما يشق عليها حتى لا تدخل السآمة في النفس.
وإننا ننصح الأخت السائلة بما يلي:
الإخلاص لله تعالى في طلب العلم – بل وفي كل الأمور – وأن تنوي بطلبها رفع الجهل عن نفسها وعن غيرها والتقرب إلى الله قبل ذلك بهذه العبادة، وأن لا ترائي الناس بعلمها ولا تماري السفهاء به.
أن تحفظ شيئاً من القرآن، وهذا لا يتم إلا بعمل برنامج يومي تلتزم فيه بحفظ قدر معين ولا بأس أن يكون قليلاً ولا تتجاوزه حتى لو وجدت وقتاً ونشاطاً، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
أن تقرأ المختصرات في كل علم، وتدع المطولات إلى حينها، ففي كل علم تقريباً كتب يمكن أن تتدرج فيه على مراحل تبدأ من المختصرات وتنتهي بالشروح المطولات.
أن تحرص على حفظ هذه المتون إن استطاعت، فإن الحافظ للدليل سواء من القرآن أو السنة، والحافظ لمتون العلم يسلك الطريق الصحيح في الطلب، وقد قال العلماء " من حفظ المتون حاز على الفنون ".
أن تحرص على اقتناء شروح لهذه الكتب، والأفضل أن تكون مسموعة، ونوصي الأخت السائلة وكل مسلم بشروح الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، فإنه ما ترك فنّاً إلا وشرحه في أشرطة يسهل الحصول عليها وهي موجودة الآن بموقعه على الإنترنت.
أن تبحث في أخواتها عمن يعينها على طلب العلم، فتقرأ معها وتدارسها.
وكما جعلت للقرآن وقتاً معيناً فلتجعل لباقي العلوم الأمر نفسه، فتقرأ في التوحيد جزءً يسيراً وكذا في الحديث والفقه وباقي العلوم.
ولتستعن بالله تعالى في طلبها ودعوتها إلى الله، فإن التوكل عليه سبحانه مع بذل الأسباب ودعاءه سبحانه بأن ييسر الأمور ويسهلها من أعظم الطرق النافعة التي توصل الإنسان إلى ما يريد ولا يمنعك الحياء من طلب العلم والسؤال.
قال بعض السلف " لا يطلب العلم مستحٍ ولا متكبر "، فلا ينبغي أن يمنعك الحياء من السؤال عن الشرع، كما أن الكِبر ضار لصاحبه في الدنيا والآخرة، ومن ضرره الدنيوي أنه يمنع صاحبه من السؤال والتعلم.
وأما تحديد الكتب والمنهج الذي يسير عليه طالب العلم فيراجع سؤال رقم (14082) فإن به مجموعة من الكتب التي ينبغي لطالب العلم دراستها وكذلك سؤال رقم (20191)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/568)
تريد معرفة العلم والعمل
[السُّؤَالُ]
ـ[إننا بصفتنا مسلمين علينا العمل بكتاب الله وسنَّة نبيِّنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وأنا إن شاء الله حريصة لذلك لمرضاة الله، وقد ظهرت فتن واختلطت الإفتاءات.
المهم، أسأل كيف أعلم وسيلة العمل بكتاب الله وسنَّة نبيِّه عليه الصلاة السلام.
أريد العمل بما أنزل الله وما أمر وأسأل كيف ذلك إن شاء الله؟ .
وكيف أجد الأحكام والأوامر؟
وأنا الحمد لله أقرأ القرآن وكتب السيرة والأحاديث فهل من شيء يفهمني أحكام الله وسننه ونواهيه وما إلى ذلك من الكتاب والسنَّة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن أوامر الله تعالى ونواهيه موجودان في كتاب الله تعالى وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن ذلك العلماء في كتبهم سواء الحديثية أو الفقهية.
وقد جمع بعض العلماء كتباً خاصَّة في " آيات الأحكام "، وآخرون جمعوا كتباً في " أحاديث الأحكام "، ثم تتابعت الشروحات لهذه الكتب وهذه المتون فكان منها " أحكام القرآن " للجصاص، و " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار " و " سبل السلام شرح بلوغ المرام "، و " إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ".
فيستطيع المسلم الوصول لأحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه عن طريقين:
الأول: الكتب الموثوق بها.
ويمكنكم مراجعة الأسئلة التالية ففيها زيادة بيان في أسماء الكتب الموثوقة: (14082) ، (20191) .
والثاني: العلماء الموثوق بهم.
قال الشيخ ابن عثيمين:
ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والتي ألَّفها علماء معروفون بعلمهم، وأمانتهم، وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات ...
الثاني: أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه، وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري، إما لسوء فهمه، أو قصور علمه، أو لغير ذلك من الأسباب ... وإذا جمع الطالب بين الطريقين: كان ذلك أكمل وأتم، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم، وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها، حتى يكون مترقيّاً من درجة إلى درجة أخرى، فلا يصعد درجة حتى يتمكن من التي قبلها، حتى يكون صعوده سليماً.
" كتاب العلم " (ص 64، 65) .
وأما العمل بما أنزل الله: فلا يمكن أن يكون قبل العلم بما أنزل الله، فعلى المسلم أن يحرص على العلم ثم إذا علم فعليه أن يعمل بما علمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال أبوعبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن: عثمان بن عثمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبي صلَّى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
وقال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عنى بها.
وقد قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} ، وتدبر الكلام إنما يُنتفع به إذا فُهم، وقال: {إنَّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون} ، فالرسل تبيِّن للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين، والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل، والعقل يتضمن العلم والعمل، فمن عرف الخير والشر فلم يتبع الخير ويحذر الشر: لم يكن عاقلاً، ولهذا لا يعدُّ عاقلاً إلا من فعل ما ينفعه واجتنب ما يضره، فالمجنون الذي لا يفرق بين هذا وهذا قد يلقي نفسه في المهالك، وقد يفر مما ينفعه.
" مجموع الفتاوى " (15 / 108) .
والعمل بما أنزل الله يكون بالوقوف على الأوامر وتنفيذها، وعلى النواهي والابتعاد عنها، وعلى القصص والأخبار وتصديقها والاعتبار بما فيها من عظات وعبَر.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(8/569)
هل الخلاف معتبر في تارك الصلاة والحكم بغير ما انزل الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أعرف أن هناك خلافاً بين السلف على مسائل مثل حكم تارك الصلاة أو الحاكم بغير ما أنزل الله. فهل هذا خلاف معتبر؟ من هم الذين اختلفوا في هذين الأمرين من السلف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الخلاف في حكم تارك الصلاة موجودٌ بين المذاهب الإسلامية المعتبرة، وهو خاصٌ بمن يُقر بوجوبها، أمَّا من ينكر وجوبها فهو كافرٌ قطعاً، وجمهور السلف من الصحابة والتابعين على كفر تارك الصلاة للنصوص الصريحة الصحيحة في ذلك، وانتشر الخلاف بعدهم، والمرجَّح عند أهل التحقيق من العلماء أن تارك الصلاة كافرٌ كفراً أكبر مخرج من الملة، وهو المفتى به الآن.
والحكم بغير ما أنزل الله مع الاعتراف بأن حكم الله أكمل وأشمل، وأنفع للناس من غيره، قال جمعٌ من أهل العلم بأنه كفرٌ دون كفر، وأمَّا تفضيل القوانين الوضعية وتقديمها على شرع الله، واعتقاد أن شرع الله لا يناسب هذا الزمان مثلا ً، فإنه كفرٌ أكبر مخرج عن الملة، والخلاف بين العلماء فيمن حكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاد أنَّّ شرع الله أكمل وأصلح، هل هو كافرٌ كفراً أكبر أو دون كفر، لأنَّ الله وصف من حكم بغير ما أنزل الله بأوصاف مختلفة، فمرَّة قال: فأولئك هم الكافرون، ومرَّة قال: هم الفاسقون، ومرَّة قال: هم الظالمون، فإما أن تنزل على أنواع من حكم بغير ما أنزل الله، وإما أن يكون معناها واحد لأن الكافر فاسقٌ ظالم. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ عبد الكريم الخضير(8/570)
الدراسة في مجتمع لا يتمسك بشعائر الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب مسلم أعبد الله وأريد أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكلة أنني أعيش في وسط قوم أكثرهم لا يصلون ولا يصومون ولا يتصدقون، ويعملون بالبدع ومحدثات الأمور، ويحلفون بغير الله، وينذرون لغير الله، وبعض الناس يكفر بالله ورسوله باللفظ، وأنا شاب أدرس في المرحلة المتوسطة، وأكثر طلابها سيئو الأخلاق، لا يفعلون أوامر الله، وتوجد معنا فتيات غير محجبات، والمدرسات كذلك، حتى أصبح فعل الشر سهلا وارتكاب المحرم ميسورا، وأمورا يطول شرحها، لكن والدي لا يسمح لي أن أترك الدراسة وأنا أرغب أن أترك هذه المدرسة، وأبتعد عن هذا الجو، وأعمل في الزراعة وأعبد الله بعيدا عن شر الناس، لكن والدي لا يسمح لي بذلك، وأريد أن أسأل هل يجوز لي أن أترك المدرسة؟ وهل يجوز لي السفر من هذه البلاد إلى بلاد أخرى، ولو لم يرض والدي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كان الحال ما ذكره السائل فالواجب عليك ترك هذه المدرسة والحذر من شرها والبعد عنها وعن أهلها، حفاظا على دينك وحذرا على عقيدتك وأخلاقك من هؤلاء السيئين من طلبة وطالبات ومجتمع سيئ، عليك أن تبذل وسعك في الانتقال إلى مدرسة سليمة أو إلى بلدة سليمة أو إلى مزرعة أو إلى ما تكون فيه بعيدا عن الخطر على دينك وعلى أخلاقك، هذا هو الواجب عليك، ولو لم يرض والدك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالجلوس بين أهل الشر وأهل الشرك وتاركي الصلوات وبين الفتيات المتبرجات والسافرات فيه خطر عظيم على العقيدة والأخلاق، فلا يجوز للمسلم البقاء على هذه الحال، بل يجب عليه أن يحذر هذا المجتمع ويبتعد عنه إلى مجتمع أصلح وأسلم لدينه ولو بالسفر من بلد إلى بلد آخر كمكة والمدينة للدراسة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، لوجود مدرسين فيهما من أهل العلم والفضل والعقيدة السلفية، سواء رضيا والداه أم لم يرضيا؛ لأن الطاعة لهما إنما تكون في المعروف لا في المعاصي، كما تقدم، والله المستعان.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز 6 / 344(8/571)
طلب العلم على أشرطة العلماء
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك بعض الشباب الذين عرفوا طريق الهداية إلى الله عز وجل وهم راغبون في طلب العلم، ويريدون طلب العلم، ولكن ظروفهم لا تسمح لهم، فهل تكفيهم أشرطة المشايخ، وهل يكون طالب علم كغيره أم لا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما كونها تكفيهيم فلا شك أنه تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم فهذا يكفيهم للضرورة.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا؟ نقول: نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهاداً كثيراً، كما يمكن أن يكون الإنسان عالماً إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة، أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم، لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه. (وكذلك فإن طالب العلم عند العلماء أبعد عن الزلل والخطأ في الفهم من الذي يطلب العلم على الأشرطة والكتب) .
[الْمَصْدَرُ]
لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين 54/103(8/572)
كيفية تعامل المسلم مع كتب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يتعامل المسلم مع كتب العلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأمر الأول: كيف تتعامل مع الكتاب؟
التعامل مع الكتاب يكون بعدة أمور:
الأول: معرفة موضوعه: حتى يستفيد الإنسان منه؛ لأنه يحتاج إلى التخصص , ربما يكون كتاب سحر أو شعوذة أو باطل , فلا بد من معرفة موضوع الكتاب حتى تحصل الفائدة منه.
الثاني: معرفة مصطلحاته:
لأن معرفة المصطلحات يحصل بها أنك تحفظ أوقاتاً كثيرة , وهذا يفعله العلماء في مقدمات الكتب , فمثلاً نعرف أن صاحب (بلوغ المرام) إذا قال متفق عليه يعني رواه البخاري ومسلم , لكن صاحب (المنتقى) على خلاف ذلك فإذا قال - صاحب المنتقى - متفق عليه فإنه يعني رواه الإمام أحمد , والبخاري ومسلم , وكذلك في كتب الفقه يفرق كثيرٌ من العلماء بين القولين , والوجهين , والروايتين , والاحتمالين , فالروايتان عن الإمام , والوجهان عن الأصحاب , وهم أصحاب المذاهب الكبار أهل التوجيه , والاحتمالان للتردد بين قولين , والقولان أعم من ذلك كله.
كذلك يحتاج أن تعرف مثلاً إذا قال المؤلف إجماعاً أو وفاقاً , إذا قال إجماعاً يعني بين الأمة , وإذا قال وفاقاً يعني مع الأئمة الثلاثة كما هو اصطلاح "صاحب الفروع" في فقه الحنابلة , وكذلك بقية أصحاب المذاهب كل له اصطلاح , فلا بد أن تعرف اصطلاح المؤلف.
الثالث: معرفة أسلوبه وعباراته:
ولهذا تجد أنك إذا قرأت الكتاب أول تقرأ لا سيما في الكتب العلمية المملوءة علماً تجد أنه تمر بك العبارة تحتاج إلى تأمل وتفكير في معناها؛ لأنك لم تألفه , فإذا كررت هذا الكتاب ألفته.
وهناك أيضاً أمر خارج مع الكتاب وهو: التعليق بالهوامش أو الحواشي , فهذا أيضاً مما يجب على طالب العلم أن يغتنمه , وإذا مرت به مسألة تحتاج إلى شرح أو إلى دليل , أو إلى تعليل , ويخشى أن ينساه فإنه يُعلّق إما بالهامش - وهو الذي على اليمين أو اليسار - أو بالحاشية - وهي التي بالأسفل - وكثيراً ما يفوت الإنسان مثل الفوائد التي لو علقها لم تستغرق عليه إلا دقيقة أو دقيقتين , ثم إذا عاد ليتذكرها بقي مدة يتذكرها وقد لا يذكرها.
فينبغي على طالب العلم أن يعتني بذلك لا سيما في كتب الفقه , يمر بك في بعض الكتب مسألة وحكمها ويحصل عندك توقف وإشكال , فإذا رجعت للكتب - التي أوسع من الكتاب الذي بين يديك - ووجدت قولاً يوضح المسألة فإنك تعلق القول من أجل أن ترجع إليه مرة أخرى إذا احتجت إليه دون الرجوع إلى أصل الكتاب الذي نقلت منه , فهذا مما يوفر عليك الوقت.
الأمر الثاني: مطالعة الكتب على نوعين:
أولاً: مطالعة تدبر وتفهم ,فهذه لا بد أن يتأمل الإنسان ويتأَنّى.
ثانياً: مطالعة استطلاع فقط ينظر من خلالها على موضوع الكتاب , وما فيه من مباحث , ويتعرف على مضمون الكتاب , وذلك من خلال تصفح وقراءة سريعة للكتاب , فهذه لا يحصل فيها من التأمل والتدبر ما يحصل في النوع الأول , والطريقة المثلى في قراءة الكتب , التدبر والتفكر في المعاني , والاستعانة بذوي الفهم من أهل العلم الصحيح , ولا يخفى أن أولى الكتب بذلك؛ كتاب الله عز وجل. وعليك بالصبر والمثابرة , فما أعطى الإنسان عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
الأمر الثالث: جمع الكتب:
ينبغي لطالب العلم أن يحرص على جمع الكتب , ولكن يبدأ بالأهم فالأهم , فإذا كان الإنسان قليل ذات اليد , فليس من الخير وليس من الحكمة أن يشتري كتباً كثيرة يُلزم نفسه بغرامة قيمتها , فإن هذا من سوء التصرف , وإذا لم يمكنك أن تشتري من مالك فيمكنك أن تستعير من أي مكتبة.
الأمر الرابع: الحرص على الكتب المهمة:
يجب على طالب العلم أن يحرص عل الكتب الأمهات الأصول دون المؤلفات حديثاً؛ لأن بعض المؤلفين حديثاً ليس عنده العلم الراسخ , ولهذا إذا قرأت ما كتبوا تجد أنه سطحي , قد ينقل الشيء بلفظه , وقد يحرفه إلى عبارة طويلة لكنها غثاء , فعليك بالأمهات كتب السلف فإنها خير وأبرك بكثير من كتب الخلف.
لأن غالب كتب المتأخرين قليلة المعاني , كثيرة المباني , تقرأ صفحة كاملة يمكن أن تلخصها في سطر أو سطرين , لكن كتب السلف تجدها هينة , لينة , سهلة رصينة , لا تجد كلمة واحدة ليس لها معنى.
ومن أجلِّ الكتب التي يجب على طالب العلم أن يحرص عليها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - ومن المعلوم أن كتب ابن القيم أسهل وأسلس , لأن شيخ الإسلام ابن تيمية كانت عباراته قوية لغزارة علمه , وتوقد ذهنه , وابن القيم رأى بيتاً معموراً فكان منه التحسين والترتيب , ولسنا نريد بذلك أن نقول إن ابن القيم نسخة من ابن تيمية بل ابن القيم حر إذا رأى شيخه خالف ما راه صواباً تكلم , لما رأى وجوب فسخ الحج إلى العمرة , وأن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرى أنه يجب على من لم يسق الهدي إذا أحرم بحج أو قِران أن يفسخه إلى عمرة , وكان شيخ الإسلام أن الوجوب خاص بالصحابة , قال: وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا , فصرح بمخالفته , فهو رحمه الله مستقل , حر الفكر , لكن لا غرو أن يتابع شيخه رحمه الله فيما يراه حقاً وصواباً , ولا شك أنك إذا تأملت غالب اختيارات شيخ الإسلام وجدت أنها هي الصواب وهذا أمر يعرفه من تدبر كتبهما.
الأمر الخامس: تقويم الكتب:
الكتب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: كتب خير.
القسم الثاني: كتب شر.
القسم الثالث: كتب لا خير ولا شر.
فاحرص على أن تكون مكتبتك خالية من الكتب التي ليس فيها خير أو التي فيها شر , وهناك كتب يقال إنها كتب أدب , ولكنها تقطع الوقت وتقتله من غير فائدة , وهناك كتب ضارة ذات أفكار معينة وذات منحى معين , فهذه أيضاً لا تدخل المكتبة سواء كان ذلك في المنهج أو كان ذلك في العقيدة مثل كتب المبتدعة التي تضر في العقيدة , والكتب الثورية التي تضر في المنهج.
وعموماً كل كُتُب تضر فلا تدخل مكتبتك؛ لأن الكتب غذاء للروح كالطعام والشراب للبدن , فإذا تغذيت بمثل هذه الكتب صار عليك ضرر عظيم واتجهت اتجاهاً مخالفاً لمنهج طالب العلم الصحيح.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , من الصفحة (87) إلى (91) .(8/573)
إذا تعارض طلب العلم مع بر الوالدين
[السُّؤَالُ]
ـ[عن طالب علم يريد أن يذهب مع إخوانه في الله لطلب العلم وكان الحائل بينه وبين الذهاب معهم هو أهله , والده وأمه , فما الحكم في خروج هذا الطالب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الطالب إن كان هناك ضرورة لبقائه عندهم فهذا الأفضل , مع أنه يمكنه أن يبقى عندهم مع طلب العلم؛ لأن بر الوالدين مُقّدمٌ على الجهاد في سبيل الله , والعلم من الجهاد وبالتالي فيكون بر الوالدين مُقدّماً عليه إذا كانا في حاجة إليه.
أما إذا لم يكونا في حاجة إليه ويتمكن من طلب العلم أكثر إذا خرج فلا حرج عليه أن يخرج في طلب العلم في هذه الحال , ولكنه مع هذا لا ينسى حق الوالدين في الرجوع إليهما وإقناعهما إذا رجع , وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي فهؤلاء لا طاعة لهما , ولا ينبغي له أن يستأذن منهما إذا خرج؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (149) .(8/574)
هل يؤجر المسلم على تعلم الرياضيات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعليم الطالب الرياضيات إذا كان الشخص ينوي بها وجه الله له أجر أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كانت هذه الرياضيات مما تنفع المسلمين في معاشهم ونوى الشخص بذلك نفع الناس بها فإنه يؤجر على نيته , ولكنها ليست كالعلوم الشرعية فإنها إذا كانت من المباحات تكون وسيلة , فإذا كانت وسيلة إلى ما ينفع الناس في معاشهم أثيب الشخص عليها؛ لأن القاعدة الشرعية أن المباح قسم واسع فقد يكون حراماً وقد يكون مكروهاً وقد يكون مستحباً وقد يكون واجباً.
ونقول مثلاً: أن الأصل في البيع الحل، ولكن قد يكون واجباً أحياناً وقد يكون حراماً , وقد يكون مستحباً , وقد يكون مكروهاً , فإذا أراد شخص أن يشتري منك شيئاً ينقذ به حياته مثل الطعام والشراب فما حكم البيع؟ الحكم واجب , وشخص آخر أراد أن يشتري منك عنباً ليجعله خمراً فهذا البيع حرام , وشخص آخر أراد أن يشتري ماءً ليتوضأ به وليس عنه ماء فالشراء واجب؛ فعلى هذا نقول: إن المباح إذا كان وسيلة لأمر مشروع كان مشروعاً وإذا كان ذريعة لأمر محرم كان محرماً
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم، الصفحة (143) .(8/575)
هل يمكن طلب العلم عن طريق الأشرطة
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض طلبة العلم يكتفون بسماع أشرطة العلماء من خلال دروسهم فهل تكفي في تلقي العلم؟ وهل يعتبرون طلاب علم؟ وهل يؤثر في معتقدهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا شك أن هذه الأشرطة تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور , وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة , لكن إذا لم يمكنهم الحضور فهذا يكفيهم.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا؟
نقول: نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهاداً كثيراً، كما يمكن أن يكون الإنسان عالماً إذا أخذ العلم من الكتب , ولكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة , أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم , لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه.
وأما قول السائل: هل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم؟ !
فالجواب: نعم يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها , أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم , فلا يؤثر على معتقداتهم , بل يزيدهم إيماناً ورسوخاً واتباعاً للمعتقد الصحيح.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , صفحة (219) .(8/576)
عند الإشكال في أمور الدين من هو الذي يُسأل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما يشكل علي أمر من أمور ديني، كالصلاة والصيام والحج والمعاملات والطلاق، فهل يكفيني رأي واحد من علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والصلاح والتقوى، وأنهم أهل الفتوى كأحد هيئة كبار العلماء، أو من في علمهم، وأن آخذ منه جواباً ثابتاً وألتزم به، أو إنه يتوجب علي التوجه بما أشكل علي إلى سائلاً العديد منهم، ومن ثم اختيار ما يناسبني من هذه الآراء في حالة اختلافها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا أشكل عليك شيء من أمور دينك فإن عليك سؤال أهل العلم؛ كما قال الله تعالى: (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، فإن أفتاك من تثق بعلمه وتقواه فيجب عليك الالتزام بتلك الفتوى. ولا يجوز للإنسان أن يسأل عدداً من العلماء لكي يختار من فتاويهم الأسهل له أو ما يوافق هواه ورأيه.
[الْمَصْدَرُ]
اللجنة الدائمة 12 / 307.(8/577)
شروط السفر إلى بلاد الكفار للدراسة
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الشباب يريدون أن يتعلموا الطب وبعض العلوم الأخرى ولكن هناك عوائق مثل الاختلاط والسفر إلى بلاد الخارج فما الحل؟ وما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نصيحتي لهؤلاء أن يتعلموا الطب , لأننا في بلادنا في حاجة شديدة إليه , وأما مسالة الاختلاط فإنه هنا في بلادنا والحمد لله يمكن أن يتقي الإنسان ذلك بقدر الاستطاعة.
وأما السفر إلى بلاد الكفار فلا أرى جواز السفر إلا بشروط:
الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات، لأن هناك في بلاد الكفار يوردون على أبناء المسلمين الشبهات حتى يردوهم عن دينهم.
الثاني: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، فلا يذهب إلى هناك وهو ضعيف الدين , فتغلبه شهوته فتدفع به إلى الهلاك.
الثالث: أن يكون محتاجاً إلى السفر بحيث لا يوجد هذا التخصص في بلاد الإسلام.
فهذه الشروط الثلاثة إذا تحققت فليذهب , فإن تخلف واحد منها فلا يسافر؛ لأن المحافظة على الدين أهم من المحافظة على غيره - انظر تفصيل هذه المسألة في (مجموع الفتاوى) للشيخ ابن عثيمين 3/28 -.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (144) .(8/578)
ضوابط للدراسة في الخارج
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز السفر إلى بلاد أمريكا للدراسة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز لك أن تأخذ العلم إلا عن أهله الثقات المأمونين، وخاصة العلوم الدينية والعربية، وذلك متوفر بحمد الله في الدول الإسلامية، فلا يجوز السفر إلى الدول الكافرة للدراسة بها، إلا فيما لا يتيسر لك دراسته على المسلمين في البلاد الإسلامية من العلوم الدنيوية، كالطب والهندسة ونحوهما، ولم يتيسر استقدام من يُضطر إليه من المتخصصين الأمناء في العلوم الكونية إلى الدولة الإسلامية للقيام بتدريسها للطلاب المسلمين، وكانت أمتك مضطرة إلى هذا العلوم، لتكتفي بأبنائها بعد التخرج في القيام بما تحتاج إليه عن استقدام كفار يقومون به، وكنت في نفسك مُحصّناً في دينك بالثقافة الإسلامية، ولا يخشى عليك من الفتن أيام دراستك في بلاد الكفار، وإقامتك مدة الدراسة بين أظهرهم، فيجوز لك حينئذ أن تسافر للدراسة في بلاد الكفار، وأمريكا ونحوها في ذلك سواء.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/137.(8/579)
سلبيات الاقتصار على الكتب في التعلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي طرق تلقي العلم؟ وما هي العقبات التي تواجه الطالب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
- ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها , والتي ألفها علماء معرفون بعلمهم , وأمانتهم , وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات.
وأخذ العلم من بطون الكتب لا بد للإنسان أن يصل فيه إلى غاية ما. لكن هناك عقبتان:
العقبة الأولى: الطول , فإن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل , ومعاناة شديدة , وجهد جهيد حتى يصل إلى ما يرومه من العلم , وهذه عقبة قد لا يقوى عليها كثير من الناس , لا سيما وهو يرى من حوله قد أضاعوا أوقاتهم بلا فائدة , فيأخذه الكسل فيكل ويمل ثم لا يدرك ما يريد.
العقبة الثانية: أن الذي يأخذ العلم من بطون الكتب علمه ضعيف غالباً , لا ينبني على قواعد أو أصول , ولذلك نجد الخطأ الكثير من الذي يأخذ العلم من بطون الكتب؛ لأنه ليس له قواعد وأصول يقَعِّد عليها ويبني عليها الجزئيات التي في الكتاب والسنة , نجد بعض الناس يمر بحديث ليس مذكوراً في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح والمسانيد وهذا الطريق يخالف ما في هذه الأصول المعتمدة عند أهل العلم بل عند الأمة , ثم يأخذ هذا الحديث ويبني عقيدته عليه , وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن الكتاب والسنة لهما أصول تدور عليها الجزئيات فلا بد أن ترد هذه الجزئيات إلى أصول بحيث إذا وجدنا في هذه الجزئيات شيئاً مخالفاً لهذه الأصول مخالفة لا يمكن الجمع فيها , فإننا ندع هذه الجزئيات.
الثاني:
من طرق تحصيل العلم أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه , وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه , أو قصور علمه , أو لغير ذلك من الأسباب , أما الطريق الثاني فيكون فيه المناقشة والأخذ والرد مع المعلم فينفتح بذلك للطالب أبواب كثيرة في الفهم , والتحقيق , وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة , ورد الأقوال الضعيفة , وإذا جمع الطالب بين الطريقين كان ذلك أكمل وأتم، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم , وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقياً من درجة إلى درجة أخرى فلا يصعد إلى درجة حتى يتمكن من التي قبلها ليكون صعوده سليماً.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , ص/68-70.(8/580)
كيفية تعلم قراءة القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[لا أستطيع أن أجيد تلاوة القرآن وحفظه، فما هي الطريقة لحسن التلاوة والحفظ كذلك؟ علماً بأنه لا يوجد من يعلمنا ويدرسنا ونحن قد كبرنا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الطريقة المثلى لتجويد القرآن أن يعرض الشخص قراءته على شيخ متقن، فإن لم يوجد في بلده فالسفر لأجل تحصيل هذا العلم مطلوب ومرغب به شرعاً، فإن لم يتيسر ذلك فينبغي للمسلم أن يستفيد من إخوانه، ومن الأشرطة المسجلة بأصوات القراء المجودين، وإذا علم الله صدق نية العبد فتح له أبواب الخير.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/111.(8/581)
كتب مهمة لطالب العلم الشرعي
[السُّؤَالُ]
ـ[نريد نصيحة في الكتب التي يقتنيها طالب العلم الشرعي ويدرسها ويرجع إليها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: العقيدة:
1- كتاب (ثلاثة الأصول) .
2- كتاب (القواعد الأربعة) .
3- كتاب (كشف الشبهات) .
4- كتاب (التوحيد) .
وهذه الكتب الأربعة لشيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ.
5- كتاب (العقيدة الواسطية) وتتضمن توحيد الأسماء والصفات , وهي من أحسن ما أُلف في هذا الباب وهي جدير بالقراءة والمراجعة.
6- كتاب (الحموية) .
7- كتاب (التدمرية) وهما رسالتان أوسع من (الواسطية) .
وهذه الكتب الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ.
8- كتاب (العقيدة الطحاوية) للشيخ أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي.
9- كتاب (شرح العقيدة الطحاوية) لأبي الحسن علي بن أبي العز.
10- كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ـ رحمه الله تعالى ـ.
11- كتاب (الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية) لمحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي , وفيها بعض الإطلاقات التي تخالف مذهب السلف كقوله:
وليس ربنا بجوهر ولا عرض ولا جسم تعالى في العلى
لذلك لا بد لطالب العلم أن يدرسها على شيخ مُلم بالعقيدة السلفية لكي يبين ما فيها من الإطلاقات المخالفة لعقيدة السلف الصالح.
ثانياً: الحديث:
1- كتاب (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله تعالى ـ.
2- كتاب (سبل السلام شرح بلوغ المرام) للصنعاني , وكتابه جامع بين الحديث والفقه.
3- كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار) للشوكاني.
4- كتاب (عمدة الأحكام) للمقدسي , وهو كتاب مختصر , وأحاديثه كلها في الصحيحين أو في أحدهما فلا يحتاج إلى البحث عن صحتها.
5- (كتاب الأربعين النووية) لأبي زكريا النووي - رحمه الله تعالى - وهذا كتاب طيب؛ لأن فيه آداباً , ومنهجاً جيداً , وقواعد مفيدة جداً مثل حديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أخرجه الإمام أحمد (1 - 201) , والترمذي (2318) , وحسنه النووي في (رياض الصالحين) صلى الله عليه وسلم 73 , وصححه أحمد شاكر (المسند) (1737) . فهذه قاعدة لو جعلتها هي الطريق الذي تمشي عليه لكانت كافية , وكذلك قاعدة في النطق حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) أخرجه البخاري , كتاب الأدب , ومسلم , كتاب اللقطة , باب الضيافة.
6- كتاب (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر العسقلاني وهو كتاب نافع ومفيد , لا سيما وأنه يذكر الرواة , ويذكر من صحح الحديث ومن ضعفه , ويعلق على الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً.
7- كتاب (نخبة الفكر) للحافظ ابن حجر العسقلاني , وتعتبر جامعة , وطالب العلم إذا فهمها تماماً وأتقنها فهي تغني عن كتب كثيرة في المصطلح , ولابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ طريقة مفيدة في تأليفها وهي السبر والتقسيم , فطالب العلم إذا قرأها يجد نشاطاً لأنها مبنية على إثارة العقل وأقول: يَحْسُن على طالب العلم أن يحفظها لأنها خلاصة مفيدة في علم المصطلح.
8- الكتب الستة (صحيح البخاري , ومسلم , والنسائي , وأبو داود , وابن ماجه , والترمذي) وأنصح طالب العم أن يكثر من القراءة فيها؛ لأن في ذلك فائدتين:
الأولى: الرجوع إلى الأصول.
الثانية: تكرار أسماء الرجال على ذهنه , فإذا تكررت أسماء الرجال لا يكاد يمر به رجل مثلاً من رجال البخاري في أي سند كان إلا عرف أنه من رجال البخاري فيستفيد هذه الفائدة الحديثية.
ثالثاً: كتب الفقه:
1- كتاب (آداب المشي إلى الصلاة) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ.
2- كتاب (زاد المستقنع في اختصار المقنع) للحجاوي , وهذا من أحسن المتون في الفقه , وهو كتاب مبارك مختصر جامع , وقد أشار علينا شيخنا العلامة عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ بحفظه , مع أنه قد حفظ متن (دليل الطالب) .
3- كتاب (الروض المربع شرح زاد المستقنع) للشيخ منصور البهوتي.
4- كتاب (عمدة الفقه) لابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ.
5- كتاب (الأصول من علم الأصول) وهو كتاب مختصر يفتح الباب للطالب.
رابعاً: الفرائض:
1- كتاب (متن الرحبية) للرحبي.
2- كتاب (متن البرهانية) لمحمد البرهاني , وهو كتاب مختصر مفيد جامع لكل الفرائض , وأرى أن (البرهانية) أحسن من (الرحبية) لأن (البرهانية) أجمع من (الرحبية) من وجه , وأوسع معلومات من وجه آخر.
خامساً: التفسير:
1- كتاب (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ وهو جيد بالنسبة للتفسير بالأثر ومفيد ومأمون , ولكنه قليل العرض لأوجه الإعراب والبلاغة.
2- كتاب (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) للشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ وهو كتاب جيد وسهل ومأمون وأنصح بالقراءة فيه.
3- كتاب (مقدمة شيخ الإسلام في التفسير) وهي مقدمة مهمة وجيدة.
4- كتاب (أضواء البيان) للعلامة محمد الشنقيطي ـ رحمه الله تعالى ـ وهو كتاب جامع بين الحديث والفقه والتفسير وأصول الفقه.
سادساً: كتب عامة في بعض الفنون:
1 - في النحو (متن الأجرومية) وهو كتاب مختصر مبسط.
2 - في النحو (ألفية ابن مالك) وهي خلاصة علم النحو.
3 - في السيرة وأحسن ما رأيت كتاب (زاد المعاد) لابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ وهو كتاب مفيد جداً يذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله ثم يستنبط الأحكام الكثيرة.
4 - كتاب (روضة العقلاء) لابن حبان البُستي ـ رحمه الله تعالى ـ وهو كتاب مفيد على اختصاره , وجمع عدداً كبيراً من الفوائد ومآثر العلماء والمحدثين وغيرهم.
5 - كتاب (سير أعلام النبلاء) للذهبي وهذا الكتاب مفيد فائدة كبيرة ينبغي لطالب العلم أن يقرأ فيه ويراجع.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم الصفحة (92) .(8/582)
الجمع بين التخصص الدنيوي والعلم الشرعي
[السُّؤَالُ]
ـ[إن أحد إخواني في حيرة من أمره، ويتعلق الأمر بدراسته، حيث هو مجتهد جداً في الرياضيات والفيزياء، ولكنه يريد أن يدرس العلم الشرعي بالجامعة العام المقبل إن شاء الله، وقال لي بأنه إذا واصل في اختصاصه - يعني الرياضيات والفيزياء - فإنه سينشغل عن التبحر في علوم الشرع، وهو في أخذ ورد في أي الطريقين يكون النجاح حليفه، فبماذا تنصحونه وفقكم الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بإمكان أخيك أن يواصل دراسته في التخصص المذكور، ويدرس العلوم الشرعية على أحد العلماء، أو يلتحق بعدما يفرغ من دراسته بأحد المعاهد والكليات الشرعية، ليتعلم أمور دينه، ويتفقه في الشريعة، وإن خاف أن تشغله العلوم الرياضية إذا استمر فيها عن العلوم الشرعية فلينصرف عنها، وليشتغل بدراسة العلوم الشرعية، لكونها أهم وأعظم نفعاً، ولأنه مخلوق ليعبد ربه على بصيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالله ثم بالعناية بدراسة العلوم الشرعية، يسر الله أمره وبارك في علومه وأوقاته.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/102.(8/583)
اطلبوا العلم ولو في الصين حديث مكذوب
[السُّؤَالُ]
ـ[أدرس في أمريكا، وعندما أذهب لجامعتي فأنا أغطي نفسي بملابس فضفاضة وأرتدي الحجاب. لكن المشكلة هي أن الجامعة جامعة مختلطة. وأنا أحاول أن أتجنب التحدث إلى الرجال، لكني أجبر أحيانا على التحدث إليهم. أريد أن أكمل دراستي هنا ثم أنتقل لأعيش في أي بلد إسلامي. هل يجوز لي أن أدرس في أمريكا؟ وهل ينطبق هذا الحديث: " لو كان عليك أن تذهب للصين لطلب العلم، فاذهب " على النساء أيضا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما دراسة الفتاة في مثل هذا المجتمع المختلط وهذا الوضع الفاسد فيراجع جواب سؤال رقم (5384)
أما الحديث المذكور وهو حديث: (اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)
قال الشيخ الألباني في ضعيف الجامع (موضوع) برقم (906) .
والحديث الثابت هو ما رواه ابن ماجة من حديث أنس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) (220) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة. والمقصود بالعلم هنا هو العلم الشرعي. قال الثوري: هو العلم الذي لا يُعذر العبد في الجهل به، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/584)
اختيار التخصص الدراسي للمسلم في بلاد الغرب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي في رأيك العلوم التي تنصح بها المسلمين في الغرب، حيث الظروف أحضرتنا هنا للدراسة الجامعية في العلوم الدنيوية، لأنني حتى الآن لم أفكر بماذا أتخصص.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عليك أن تراعي عند اختيارك لتخصص ما أموراً:
1- قدراتك الذاتية: فلا تختار تخصصاً لا يلائمك فتخفق فيه.
2- حاجة المسلمين لهذا التخصص: بحيث أنك تحاول سد كفاية المسلمين في هذا الباب.
3- الميول النفسية: فإنه قلَّ أن يجتمع الميول والرغبة في التعلم مع موافقة القدرات إلا أبدع الإنسان وابتكر.
4- سلامة هذا التخصص من المخالفات الشرعية أما التخصصات في العلوم المحرمة كعلم الموسيقى والفلسفة وما إلى ذلك فلا يجوز الدخول فيها..
ثم استعن بالله على السداد، وأصلح النية، والتوفيق أولا وآخرا من الكريم الرحيم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/585)
العلم في الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مدى اهتمام الإسلام بالعلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق الله الإنسان وزوده بأدوات العلم والمعرفة وهي السمع والبصر والعقل قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل/78.
والإسلام دين العلم فأول آية نزلت من القرآن، تأمر بالقراءة التي هي مفتاح العلوم قال تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) العلق/1-5.
والعلم في الإسلام يسبق العمل , فلا عمل إلا بعلم كما قال سبحانه: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) محمد/19.
وقد حذر الله كل مسلم من القول بلا علم فقال سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) الإسراء/36.
وتنويهاً بمقام العلم والعلماء استشهد الله العلماء على وحدانيته فقال سبحانه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران/18.
ومعرفة الله وخشيته تتم بمعرفة آياته ومخلوقاته والعلماء هم الذين يعلمون ذلك ولذلك أثنى الله عليه بقوله: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) فاطر/28.
وللعلماء في الإسلام منزلة شريفة تعلو من سواهم في الدنيا والآخرة قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة/11.
ولأهمية العلم أمر الله رسوله أن يطلب المزيد منه فقال: (وقل رب زدني علماً) طه/114.
وقد مدح الله العلماء وأثنى عليهم بقوله: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) الزمر/9.
وأهل العلم هم أسرع الناس إدراكاً للحق وإيماناً به: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم) الحج/54.
والإسلام يدعو إلى طلب العلم , وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم وبين فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ًو لا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وأخبر عليه الصلاة والسلام أن طلب العلم طريق إلى الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) رواه البخاري (كتاب العلم/10) .
والإسلام يدعو إلى تعلم سائر العلوم النافعة والعلوم درجات فأفضلها علم الشريعة ثم علم الطب ثم بقية العلوم.
وأفضل العلوم على الإطلاق , علوم الشريعة التي يعرف بها الإنسان ربه , ونبيه ودينه , وهي التي أكرم الله بها رسوله وعلمه إياها ليعلمها الناس: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) آل عمران/164.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه أخرجه البخاري/69.
وفي العناية بالقرآن تعلماً وتعليماً يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه البخاري/4639.
ولا خير في علم لا يصدقه العمل ولا في أقوال لا تصدقها الأفعال: (يا أيها الذين آمنوا لم َ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف/2- 3.
والأمة تحتاج إلى العلماء في كل زمان ومكان وأمة بلا علم ولا علماء تعيش في الأوهام وتتخبط في الظلمات إذا تعلم الإنسان ما شرع الله , ومن كتم هذا العلم , وحرم الأمة منه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة واستحق اللعنة إلا من تاب كما قال سبحانه: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم) البقرة/195- 160.
وللعالم ثواب عظيم والدال على الخير كفاعله وإذا مات العالم فإن أجره عند الله لا ينقطع بموته , بل يجري له ما انتفع الناس بعلمه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم/1631.
وإذا نشر العالم علمه بين الناس كان له مثل أجور من اتبعه قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً , ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم/2674.
والفقه في الدين من أفضل خصال الخير التي يتشرف بها المسلم كما قا عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) متفق عليه.
وقراءة القرآن , وتعلمه وتعليمه من أفضل الأعمال كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) أخرجه البخاري/73 ومسلم/815.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.(8/586)
الدراسة على مشايخ من الأشاعرة
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن طلبة نتلقى العلم , وندرس العقيدة على معلمين يدرسونا العقيدة الأشعرية , ويفسرون يد الله تعالى بقدرته أو نعمته واستواءه على عرشه بالاستيلاء عليه ونحو ذلك , فما حكم الدراسة على هؤلاء المعلمين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هؤلاء الذين يفسرون القرآن بهذا التفسير سواء سميناهم أشعرية أو غير هذا الاسم , لا شك أنهم أخطئوا طريقة السلف الصالح , فإن السلف الصالح لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه هؤلاء المتأولون , فليأتوا بحرف واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر , أو عمر , أو عثمان , أو علي , أنهم أولوا اليد بالقدرة أو بالقوة أو أوَّلوا الاستواء بالاستيلاء , أو أولوا الوجه بالثواب , أو أولوا المحبة بالثواب أو بغير الثواب , ليأتوا بحرف واحد عن هؤلاء أنهم فسروا هذه الآيات وأمثالها بما فسَّر به هؤلاء، فإذا لم يأتوا فيقال: إما أن يكون السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتقين عليه الصلاة والسلام إما أن يكونوا على جهل بمعاني هذه العقيدة العظيمة , وإما أن يكونوا على علم , ولكن كتموا الحق وكلا الأمرين لا يمكن أن يوصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين ولا من صحابته المرضيين , فإذا كان ذلك لا يمكن في هؤلاء وجب أن نسير على هديهم.
وأن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل , وأن يدعوا قول فلان وفلان وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وأن يعلموا أن لهم مرجعاً يرجعون إلى الله تعالى فيه , ولا يمكن أن يكون لهم حجة فيما قال فلان وفلان , والله إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً إن الله تعالى يقول: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) القصص/65, ولم يقل ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم فلان وفلان وإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العظيم: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف / 158. فأمر بالإيمان به واتباعه وإذا كان كذلك فهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالله ورسوله تمام الإيمان ثم يعدل عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في عقيدته بربه ويحرف ما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لمجرد وهميات يدعونها عقليات.
إنني أنصحهم أن يرجعوا إلى الله عز وجل وأن يدعوا كل قول , لقول الله ورسوله فإنهم إن ماتوا على ذلك ماتوا على خير وحق وإن خالفوا ذلك فهم على خطر عظيم , ولن يغنوا عنهم من الله شيئاً , قال الله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) النحل / 111.
أكرر النصيحة لكل مؤمن أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , فيما يعتقده بربه ومعبوده جل وعلا وفيما يعتقده في الخلفاء الراشدين المهديين من بعده , وفيما كان عليه أئمة المسلمين الذين قادوا الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , دون التحاكم إلى العقول التي هي وهميات في الحقيقة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته. ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية حق الإجادة في قوله عن أهل الكلام: (أنهم أوتوا فهوماً ولم يؤتوا علوماً , وأوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء) , فعلى الإنسان أن يوسع مداركه في العلوم المبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , أسأل الله تعالى أن يتوفانا جميعاً على الإيمان , وأن نلقاه وهو راضٍ عنا إنه على كل شيءٍ قدير , والحمد لله رب العالمين , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وإني أدعوكم يا طلبة العلم أن تدعوا إخوانكم إلى ما سمعتم , فإنه والله هو الحق , ومن اطلع على حق سواه فإننا له قابلون وبه مستمسكون.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , صفحة (226) .(8/587)
التحرج من طلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجاب على ذلك بأمور:
أحدها: أن لا يقصدوا الشهادة لذاتها , بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات , والناس غالباً لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا , وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً - ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق/2-3، وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يُقال بأنه مخلص؟
فالجواب:
أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقاً فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمراً مادياً من ثمرات العبادة , فليس كالمرائي الذي يتقرب من الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به , لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية؛ فمثلاً يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب , وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات , والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة , ولذلك بيَّن الله تعالى في كتابه حكمة الصوم - مثلاً -
أنه سبب للتقوى , فالفوائد الدينية هي الأصل , والدنيوية ثانوية , وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية , وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، كتاب العلم، الصفحة (100) .(8/588)
أيها أفضل التفرغ للدعوة أو لطلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أيهما أفضل: التفرغ للدعوة إلى الله عز وجل أم التفرغ لطلب العلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
طلب العلم أفضل وأولى , وبإمكان طالب العلم أن يدعو وهو يطلب العلم , ولا يمكن أن يقوم بالدعوة إلى الله وهو على غير علم , قال الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) يوسف/108 , فكيف يكون هناك دعوة بلا علم؟ ولا أحد دعا بدون علم أبداً , ومن يدعو بدون علم لا يُوفق.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم، الصفحة (145) .(8/589)
أخذ العلم من العلماء الموثوقين
[السُّؤَالُ]
ـ[إنني طالب علم، وأحبه وأجاهد في سبيل أن أتعلم، فأدرس عند أحد العلماء (أي: سيد) ، دراسة في الفقه والنحو والتجويد، وأجد بعض الأخوة يقولون: إن هؤلاء يسبون بعض الصحابة، وفعلاً وجدت بعضهم كذلك، ولكت ما زلت أدرس عندهم، فأرجو منكم أن توجهونني نحو الأصح، وأكمل دراستي أو أبحث عن علماء غيرهم؟
كذلك أرسل إلى بلاد فارس، ويرسلون لي بكتب دينية وغيرها، ولكنها إمامية أي مغالية في أهل البيت بزيادة، فهل تنصحونني أن أكمل مراسلتي لهم؟
وإنني أقرأ القرآن الكريم في رمضان بزيادة، ولكن وجدت عندي أخطاء في قراءتي له، فمضيت إلى أحد العلماء، وطلبت منه أن يدرسني، ولكنني أكتشف عنده أخطاء، فلم أدر ما هو الحل؟ مع أن منطقتي لا يوجد فيها حافظ، وخلال رمضان أقيم في قريتي، فهل يجوز أن أشتري لي أشرطة للقرآن؟ أو ابحث عن عالم يدرسني القرآن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عليك بالدراسة على العلماء المعروفين بعلمهم، وسلامة اعتقادهم، والبعد عن المبتدعة والمخالفين لأهل السنة، ومنهم الشيعة والإمامية لا تدرس عليهم، ولا تجالسهم ولا تراسلهم ولا تنظر في كتبهم لئلا يضلوك عن سبيل الله، وكذلك ادرس القرآن على مقرئ يجيد القراءة، ويكون سليماً في عقيدته ودينه، ولا مانع من الاستماع للأشرطة المسجلة من القرآن ليستفيد منه.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 12/99.(8/590)
الأسباب المعينة على قوة الحفظ ومقاومة النسيان
[السُّؤَالُ]
ـ[أنسى كثيرا من الأشياء التي تتعلق بنشاطاتي اليومية، فهل تستطيع أن ترشدني إلى أي عمل يساعدني في هذا الأمر من القرآن والسنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
من طبيعة الإنسان النسيان كما قال الشاعر:
وما سُمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وقد قالوا قديما: إن أول نَاسٍ أولُ الناس، والمقصود بذلك آدم عليه السلام، لكن النسيان يتفاوت من إنسان إلى آخر بحسب طبيعته، فيكثر عند البعض ويقلّ عند آخرين، ومما يُساعد على مقاومة النسيان ما يلي:
أولاً: الابتعاد عن الذنوب، لأن شؤم المعصية يورث سوء الحفظ وقلّة التحصيل في العلم ولا تجتمع ظلمة المعصية مع نور العلم، ومما يُنسب إلى الشافعي رحمه الله قوله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال إن علم الله نورٌ ونور الله لا يعطى لعاصي
وروى الخطيب في الجامع (2/387) عن يحيى بن يحيى قال سأل رجل مالك بن أنس: يا أبا عبد الله! هل يصلح لهذا الحفظ شيء قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي.
وعندما يقارف الإنسان ذنباً، فإن خطيئته تحيط به ويلحقه من جراء ذلك همّ وحزن وينشغل تفكيره بما قارفه من إثم فيطغى ذلك على أحاسيسه ويُشغله عن كثير من الأمور النافعة ومنها حفظ العلم.
ثانيا: كثرة ذكر الله عزّ وجلّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغيرها، قال الله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) .
ثالثا: أن لا يكثر الأكل، فإن كثرة الأكل جالبة لكثرة النوم والبلادة وقصور الذهن وفتور الحواس، وكسل الجسم، وهذا مع ما فيه من التعرض لخطر الأسقام البدنية
كما قيل:
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
رابعا: ذكر بعض أهل العلم مطعومات تزيد في الحفظ ومن ذلك شرب العسل وأكل الزبيب ومضغ بعض أنواع اللبان:
قال الإمام الزهري: عليك بالعسل فإنه جيد للحفظ
وقال أيضاً: من أحب أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب من " الجامع " للخطيب (2/394) .
وقال إبراهيم: عليكم باللبان فإنّه يشجع القلب ويذهب النسيان. من الجامع للخطيب (2/397)
كما ذكروا أن الإكثار من الحوامض من أسباب البلادة، وضعف الحفظ.
رابعا: ومن الأمور التي تساعد على الحفظ وتقاوم النسيان: الحجامة في الرأس وهذا معروف بالتجربة. (وللمزيد يُنظر الطب النبوي لابن القيم) . والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(8/591)
مشكلة نسيان القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما كنت صغيراً كنت أذهب لمدرسة داخلية وأحفظ القرآن، تركت مدرسة التحفيظ بعد أن حفظت 4 أجزاء وذلك لاني لم أستطع التوفيق بين مدرسة التحفيظ والمدرسة العادية في نفس الوقت، كان عمري وقتها 12-13 عاما ولم أكن قد بلغت حينها.
فهل آثم الآن بعد 20 عاما وقد نسيت الأجزاء الأربعة التي حفظتها؟
الناس قالوا لي أنه ذنب عظيم ويجب علي أن أراجعها مرة أخرى، وأنا حائر فأرجو المساعدة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا شك أن النسيان فطري في الإنسان، وما سميّ الإنسان إلا لنسْيه، وهو يختلف عادة من شخص لآخر فيقلّ ويكثر بحسب ما فاوت الله بين العباد في قوّة الذاكرة.
والقرآن الكريم يتفلّت من الصدور إذا لم يبادر المسلم إلى المراجعة الدائمة والتعاهد المستمر لما يحفظه منه.
ولعل في ذلك حكماً منها الابتلاء والامتحان لقلوب العباد لكي يتميز الفرق بين القلب المتعلق بالقرآن المواظب على تلاوته والقلب الذي تعلّق به وقت الحفظ ثم فترت همته وانصرف عنه حتى نسيه.
ولعلّ من الحِكَم أيضا تقوية دافع المسلم إلى الإكثار من تلاوة القرآن الكريم لينال الآجر العظيم بكل حرف يتلوه ولو أنه حفظ فلم ينس لما احتاج إلى كثرة التلاوة فيفوت عليه أجر المراجعة والتعاهد، فخشية النسيان تدفعك إلى الحرص على التلاوة ليزيد أجرك عند ربك، ولك بكل حرف تتلوه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
ولقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تعاهد القرآن الكريم خشية النسيان وحذر من التهاون في ذلك كما جاء في أحاديث عديدة، منها.
1- ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ. البخاري 5031
والمعروف أن الإبل إذا ذهبت وتفلتت من صاحبها لا يقدر على الإمساك بها إلا بعد تعب ومشقة فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعاهد حفظه بالتكرار والمراجعة انفلت منه واحتاج إلى مشقة كبيرة لاسترجاعه.
· قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/79) في شرحه لهذا الحديث: ما دام التعاهد موجوداً فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدوداً بالعقال فهو محفوظ، وخصّ الإبل الذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفوراً، وفي تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبة.
2- وروى مسلم في صحيحه رقم (790و791) عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عُقُلها
3- وروى البخاري رحمه الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ. صحيح البخاري 5032
قال الحافظ في الفتح (9/81) : قال ابن بطال هذا حديث يوافق الآيتين: قوله تعالى {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} وقوله تعالى {ولقد يسرنا القرآن للذكر} .
فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسّرّ له، ومن أعرض عنه تفلّت منه.
وفي هذا حض على دوام مراجعة الحفظ وتكرار التلاوة خشية النسيان وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المثل لأنه أقرب في توضيح المقصود، كما أكد ذلك بالقسم (فو الذي نفس محمد بيده) تأكيداً على أهمية تعاهد القرآن ومراجعة الحفظ.
3ـ وأما ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها.
فهو حديث ضعيف ضعفه البخاري والترمذي وانظر تخريج مشكاة المصابيح للألباني رقم (720)
قال الإمام ابن المنادى رحمه الله في متشابه القرآن (ص 52) :
مازال السلف يرهبون نسيان القرآن بعد الحفظ لما في ذلك من النقص.
وقال السيوطي في الإتقان (1/106) :
ونسيانه كبيرة صرح به النووي في الروضة وغيرهما لحديث عُرضت علي ذنوب أمتي..
ومن أعظم ما يٌعين على تذكّر القرآن وتثبيت حفظه: القيام به في الصلاة وتلاوته فيها وخصوصا قيام الليل وكان السّلف يتلونه في النهار ويقومون به في الليل.
فإذا كنت أيها الأخ السائل مجتهدا في مراجعة القرآن ومتعاهدا له فليس عليك إثم ولو حصل لك نسيان بعضه وإنما الذمّ واللوم على من فرّط وضيّع وأهمل وترك المراجعة والتعاهد نسأل الله المغفرة.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكّرنا منه ما نُسّينا إنك أنت السميع العليم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/592)
التنفير من كتب الدعاة المعاصرين
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأي فضيلتكم فيمن ينفر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها؟ ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف - رحمهم الله - وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سُئل العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ وأعلى درجته في المهديين السؤال السابق فأجاب - رحمه الله بقوله -: أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء , وهذا رأينا جميعاً بلا شك , ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف.
أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون , فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى , فإذا أتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق فلنأخذ نحن مما أخذوا منه , ولكن أموراً قد استجدت هم بها أبصر منا , ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها , ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين , فيعتمد أولاً على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وثانياً على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين , ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء لم تحدث في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , صفحة (216 , 217) .(8/593)
تحصيل العلم الشرعي عن طريق الأشرطة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعتبر أشرطة التسجيل طريقة من طرق العلم؟ وما هي الطريقة المثلى للاستفادة منها؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سُئل العلامة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال السابق فأجاب رحمه الله بقوله:
أما كون هذه الأشرطة وسيلة من وسائل تحصيل العلم فهذا لا يَشُكُّ فيه أحد , ولا نجحد نعمة الله علينا في هذه الأشرطة التي استفدنا كثيراً من العلم بها؛ لأنها توصّل إلينا أقوال العلماء في أي مكان كنا.
ونحن في بيوتنا قد يكون بيننا وبين هذا العالم مفاوز ويسهل علينا أن نسمع كلامه من خلال هذا الشريط , وهذه من نعم الله - عز وجل - علينا , وهي في الحقيقة حجة لنا وعلينا , فإن العلم انتشر انتشاراً واسعاً بواسطة هذه الأشرطة.
وأما كيف يستفاد منها؟
فهذا يرجع إلى حال الإنسان نفسه , فمن الناس من يستطيع أن يستفيد منها وهو يقود السيارة , ومنهم من يستمع إليه أثناء تناوله لطعام الغداء أو العشاء أو القهوة.
المهم أن كيفية الاستفادة منها ترجع إلى كل شخص بنفسه , ولا يمكن أن نقول فيها ضابطاً عاماً.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم، صفحة (193) .(8/594)
هل يمكن الجمع بين الدعوة وطلب العلم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم بمن يترك الدعوة بحجة التفرغ لطلب العلم , وأنه لا يتمكن من الجمع بين الدعوة والعلم في بداية الطريق , لأنه يغلب على ظنه ترك العلم إذا اشتغل بالدعوة , ويرى أن يطلب العلم حتى إذا أخذ منه نصيباً اتجه لدعوة الناس وتعليمهم وإرشادهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سُئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال السابق فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى مرتبة عالية ومقام عظيم , لأنه مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام وقد قال الله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) . فصلت /33.. وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) . يوسف /108.
ومن المعلوم أنه لا يمكن الدعوة بغير علم كما في قوله هنا (على بصيرة) وكيف يدعو الشخص إلى شيء لا يعلمه؟ ومن دعا إلى الله تعالى بغير علم كان قائلاً على الله ما لا يعلم , فالعلم هو المرتبة الأولى للدعوة.
ويمكن الجمع بين العلم والدعوة في بداية الطريق ونهايته , فإن تعذر الجمع كان البدء بالعلم , لأنه الأصل التي ترتكز عليه الدعوة , قال البخاري رحمه الله في صحيحه في الباب العاشر من كتاب العلم: باب العلم قبل القول والعمل واستدل بقوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقّلبكم ومثواكم) محمد /19. قال فبدأ بالعلم.
ومن ظن أنه لا يمكن الجمع بين العلم والدعوة فقد أخطأ , فإن الإنسان يمكنه أن يتعلم ويدعو أهله وجيرانه وأهل حارته وأهل بلدته وهو في طلب العلم.
والناس اليوم في حاجة بل ضرورة إلى طلب العلم الراسخ المتمكن في النفوس المبني على الأصول الشرعية , وأما العلم السطحي الذي يعرف الإنسان به شيئاً من المسائل التي يتلقاها كما يتلقاها العامة دون معرفة لأصولها وما بنيت عليه فإنه علم قاصر جداً لا يتمكن الإنسان به من الدفاع عن الحق وقت الضرورة وجدال المبطلين.
فالذي أنصح به شباب المسلمين أن يكرسوا جهودهم لطلب العلم مع القيام بالدعوة إلى الله بقدر استطاعتهم وعلى وجه لا يصدهم عن طلب العلم , لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله تعالى , ولهذا قال أهل العلم: إذا تفرغ شخص قادر على التكسب من أجل طلب العلم فإنه يُعطى من الزكاة , لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله بخلاف ما إذا تفرغ للعبادة , فإنه لا يُعطى من الزكاة , لأنه قادر على التكسب.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , ص168 - 170.(8/595)
هل الأفضل لطالب العلم أن يلازم شيخاً واحداً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ذكر الخطيب البغدادي جانباً من جوانب تعلم العلم وهو لزوم أحد العلماء , أو أحد المشائخ فما رأي فضيلتكم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال السابق فأجاب رحمه الله بقوله: هذا جيد كون الإنسان يركز على شيخ من المشائخ يجعله هو الأصل لا سيما المبتدئ الصغير , المبتدئ الصغير إذا طلب العلم على عدة أناس تذبذب , لأن الناس ليسوا على رأي واحد خصوصاً في عصرنا الآن , كان فيما سبق أي قبل مدة كان الناس هنا في المملكة لا يخرجون أبداً عن الإقناع والمنتهى؛ فتجد فتاواهم واحدة , وشروحهم واحدة , لا يختلف واحد عن آخر إلا في الإلقاء وحسن الأسلوب , لكن الآن لما كان كل واحد حافظاً حديثاً أو حديثين قال: أنا الإمام المقتدى به والإمام أحمد رجل ونحن رجال , فصارت المسألة فوضى , صار الإنسان يفتي , أحياناً تأتي الفتوى تبكي وتضحك وكنت أهمَّ أن أدوَّن مثل هذه الفتاوى لكن كنت أخشى أن أكون ممن تتبع عورات إخوانه فتركته تحاشيناً مني إلا نقلنا أشياء بعيدة عن الصواب بُعد الثريا عن الثرى.
فأقول: ملازمة عالم واحد مهمة جداً ما دام الطالب في أول الطريق لكي لا يتذبذب , ولهذا كان مشائخنا ينهوننا عن مطالعة المغني وشرح المهذب والكتب التي فيها أقوال متعددة عندما كنا في زمن الطلبة , وذكر لنا بعض مشائخنا أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين ـ رحمه الله ـ وهو من كبار مشائخ نجد ذكروا أنه كان مكبَّاً على الروض المربع لا يطالع إلا إياه ويكرره , كل ما خلص منه كرره لكن يأخذه بالمفهوم والمنطوق والإشارة والعبارة فحصل خير كثير.
أما إن توسعت مدارك الإنسان فهذا ينبغي له أن ينظر أقوال العلماء يستفيد منها فائدة علمية وفائدة تطبيقية , لكن في أول الطلب أنا أنصح الطالب أن يركز على شيخ معين لا يتعداه.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (107) .(8/596)
أهمية علم أصول الفقه للمتفقه
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا أراد طالب العلم الفقه فهل له الاستغناء عن أصول الفقه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سُئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال السابق فأجاب فضيلته بقوله:
إذا أراد طالب العلم أن يكون عالماً في الفقه فلا بد أن يجمع بين الفقه وأصول الفقه ليكون متبحراً متخصصاً فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه وتكون فقيهاً بدون علم الفقه أي أنه لا يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه ولا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه إذا كان يريد الفقه , ولهذا اختلف علماء الأصول هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه حتى يبني الفقه عليها , أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه , حيث إن الإنسان يحتاج إليه في عمله , في عبادته ومعاملاته قبل أن يتقن أصول الفقه , والثاني هو الأولى وهو المتبع غالباً.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (190) .(8/597)
طريقة عملية لحفظ القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد طريقة سهلة لحفظ القرآن الكريم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
...
الطريق إلى حفظه هو:
أن يواظب الإنسان على حفظه وللناس في حفظه طريقان:
أحدهما: أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثاً ثلاثاً حسب طول الآيات وقصرها.
الثاني: أن يحفظه صفحة صفحة.
والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها , ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم.
ثم إنه أيضاً ينبغي سواء بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئاً حتى يكون قد أتقنه لئلا يبني على غير أساس , وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصاً في الصباح , فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درساً جديداً.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم صفحة (157 , 158) .(8/598)
إلقاء الرجل محاضرة على النساء بدون حاجز
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لإمام أن يلقي محاضرة على مجموعة من النساء في غرفة واحدة دون حاجز بينهم أم يجب عليه أن يلقي المحاضرة عن طريق شاشة عرض؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجوز للرجل أن يلقي درساً على النساء في نفس القاعة بدون حاجز بينه وبين النساء إذا توفرت الشروط التالية:
1- إذا كانت النساء ملتزمات بالحجاب الكامل (مع تغطية الوجه واليدين)
2- أن لا يخضع النساء بالقول.
3- أن تؤمن الفتنة من الطرفين.
والأفضل وجود حاجز لأنه أبعد عن الفتنة وتكون النساء وراء الحاجز في وضع أكثر راحة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(8/599)
زوجها يكسل عن تعلم العلم الشرعي
[السُّؤَالُ]
ـ[أسلمت أنا وزوجي منذ عدة سنوات وقد بدأت أتعلم عن الإسلام منذ إسلامي لكن زوجي لم يحاول التعلم. أريد أن أعرف ماذا أفعل لأجعل زوجي مهتماً بالإسلام؟ إنه يجعل من الصعب علي أن أطبق تعاليم الإسلام وكذلك أولادي. أرجو منكم النصيحة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإسلام يعني أن يؤمن الإنسان بربه تبارك وتعالى، ويعبد الله عز وجل على ما شرعه، ومن هنا يحتاج من يدخل في الدين أن يبذل جهدا في تعلم أحكامه، فالمسلم لا يمكن أن يعرف الحلال والحرام، أو كيفية العبادات وأحكامها، وما يبطلها وما لا يبطلها، وإذا أهمل تعلم العلم الشرعي فسوف يقع في الحرام، ويرتكب مخالفات قد تؤدي إلى بطلان عبادته وعدم صحتها.
ومن الأمور التي يمكن أن تعين زوجك على تعلم أحكام الإسلام:
_ أن تربطيه بأحد المراكز الإسلامية القريبة.
_ أن تقومي بإحضار بعض الكتب والأشرطة المناسبة وتضعيها في المنزل.
_ أن تستفيدي من بعض المواقع الإسلامية في الإنترنت، ويمكن أن تقومي بنسخ بعض المواد بحيث تكون قريبة من متناوله.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد الدويش.(8/600)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في البيع والشراء
[السُّؤَالُ]
ـ[أرغب في معرفة السنَّة في التجارة , كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتاجر، ويصف السلَع، ويتبادلها، ويعيدها ... الخ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يمكن تلخيص هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التجارة، والبيع، والشراء فيما يلي:
1. عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة مع عمه أبي طالب؛ وعمل لخديجة كذلك، وسافر لذلك إلى بلاد الشام , وكان أيضا يتاجر في الأسواق؛ فمجنة، وعكاظ: كانت أسواقاً في الجاهلية، وكان التجار يقصدونها للبيع، والشراء.
2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر البيع بنفسه، كما سيأتي في حديث جمل عمر، وجمل جابر رضي الله عنهما، أو يُوكل ذلك إلى أحدٍ من أصحابه، كما في عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ قَالَ: أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِينَاراً يَشْتَرِي بِهِ أُضْحِيَةً - أَوْ شَاةً - فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ.
رواه الترمذي (1258) وأبو داود (3384) وابن ماجه (2402) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
3. كان صلى الله عليه وسلم يأمر التجار بالبرِّ، والصدق، والصدقة.
أ0 عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) .
رواه البخاري (1973) ومسلم (1532) .
ب. عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ) ، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ: (إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً، إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ) .
رواه الترمذي (1210) وابن ماجه (2146) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (1785) .
ج. وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ قال: كان صلى الله عليه وسلم يقول: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ) .
رواه الترمذي (1208) وأبو داود (3326) والنسائي (3797) وابن ماجه (2145) ، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
4. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالسماحة، واليسر، في البيع والشراء.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى) .
البخاري (1970)
قال ابن حجر - رحمه الله -:
وفيه الحض على السماحة في المعاملة , واستعمال معالي الأخلاق , وترك المشاحة , والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم.
" فتح الباري " (4 / 307) .
ومن صور سماحته صلى الله عليه وسلم:
أ. عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: (بِِعْنِِيهِِ) قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (بِعْنِيهِ) فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ) .
رواه البخاري (2610) .
ب. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ قَالَ: فَلَحِقَنِى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ فَسَارَ سَيْرا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ قَالَ: (بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) قُلْتُ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: (بِعْنِيهِ) ، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِى فَقَالَ: (أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ) .
رواه البخاري (1991) ومسلم (715) - واللفظ له -.
5. وكان صلى الله عليه وسلم يحسن أداء الحقوق لأهلها، ويحث عليه.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: (أَعْطُوهُ) ، فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَّ سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ (أَعْطُوهُ) ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) .
رواه البخاري (2182) ومسلم (1601) .
8. وكان صلى الله عليه وسلم يحث على إقالة النادم.
عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
رواه أبو داود (3460) وابن ماجه (2199) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
والإقالة: هي المسامحة، والتراجع عن البيع، أو الشراء، وتدل على كرمٍ في النفس.
" وصُورَة إِقَالَة الْبَيْع: إِذَا اِشْتَرَى أَحَد شَيْئًا مِنْ رَجُل ثُمَّ نَدِمَ عَلَى اِشْتِرَائِهِ، إِمَّا لِظُهُورِ الْغَبْن فِيهِ أَوْ لِزَوَالِ حَاجَته إِلَيْهِ، أَوْ لِانْعِدَامِ الثَّمَن: فَرَدَّ الْمَبِيع عَلَى الْبَائِع، وَقَبِلَ الْبَائِع رَدَّهُ: أَزَالَ اللَّه مَشَقَّته وَعَثْرَته يَوْم الْقِيَامَة، لِأَنَّهُ إِحْسَان مِنْهُ عَلَى الْمُشْتَرِي , لِأَنَّ الْبَيْع كَانَ قَدْ بَتَّ فَلَا يَسْتَطِيع الْمُشْتَرِي فَسْخه " انتهى. من "عون المعبود".
6. وكان صلى الله عليه وسلم يساوم في الشراء، ولا يبخس الناس بضاعتهم، كما مر معنا في حديث جمل جابر.
وعن سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ " هَجَرَ " فَأَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي، فَسَاوَمَنَا بِسَرَاوِيلَ، فَبِعْنَاهُ.
رواه الترمذي (1305) وقال: حسن صحيح، وأبو داود (3336) والنسائي (4592) وابن ماجه (2220) .
7. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر برجحان الوزن.
عن سُوَيْد بْنِ قَيْسٍ قَالَ: (رأى) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَزِنُ بِالأَجْرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (زِنْ وَأَرْجِحْ) .
وهو تتمة الحديث السابق.
8. وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإنظار المعسر، والحط عنه.
عن أبي اليسر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ) .
رواه مسلم (3006) .
9. وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التعامل بالربا، وبيع الغرر، وبيع العِينة، والتجارة بالمحرمات , وعن الغش والخداع.
والأدلة على ذلك كثيرة، ومشتهرة.
وليس عندنا تفاصيل بيعه وشرائه في كل معاملاته التجارية صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانت تجارته في الجاهلية، ولم يكن نبيّاً حتى تُنقل تصرفاته من أصحابه، وما نُقِلَ عن سنَّته صلى الله عليه وسلم كافٍ إن شاء الله.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/1)
المآخذ على كتاب " مرآة الزمان ".
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم في كتاب (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان) تصنيف سبط ابن الجوزي، لما وجدت فيه من قصص للأنبياء، فيها إسرائيليات؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
كتاب " مرآة الزمان في تاريخ الأعيان " هو من تأليف أبي المظفر شمس الدين يوسف بن الأمير حسام الدين قِزُغْلِي، المعروف بسبط ابن الجوزي.
ولد ونشأ ببغداد، ورباه جده أبو الفرج ابن الجوزي، وانتقل إلى دمشق فاستوطنها، وتوفي فيها سنة (654) هـ.
وهذا الكتاب تحدث فيه مؤلفه عن تاريخ البشرية، منذ بدء الخليقة وابتداء العالم وحتى حتى وفاته سنة 654هـ، ورتبه على السنين.
وقد اهتم بعض العلماء بهذا الكتاب ورفع من شانه حتى قال بعضهم بعد أن ذكر كتب التواريخ: " فرأيت أجمعها مقصداً، وأعذبها مورداً، وأحسنها بياناً، وأصحها روايةً، تكاد جنة ثمرها تكون عياناً: مرآة الزمان ". نقله ابن حجر في " لسان الميزان " (6/328) .
وقال ابن كثير: " له مرآة الزمان في عشرين مجلداً، من أحسن التواريخ.. ومن أبهج التواريخ ". انتهى " البداية والنهاية" (13/194) .
ومع ذلك فالكتاب لا يخلو من وجود بعض الملاحظات عليه، ومن أهمها:
إيراد الأحاديث والأخبار الضعيفة والموضوعة، والحكايات المنكرة والمستبشعة، وذكر بعض المثالب في الصحابة والخلفاء الراشدين.
قال الحافظ الذهبي: " وألف كتاب مرآة الزمان، فتراه يأتي فيه بمناكير الحكايات، وما أظنه بثقة فيما ينقله، بل يجنف ويجازف، ثم إنه ترفض ". انتهى "ميزان الاعتدال" (4/ 471) .
وقال عنه في " تاريخ الإسلام " (حوادث عام 597) : " كثير الحَشَف والمجازفة ". (42/38) .
وأنه " إنه خسَّاف، مجازف، لا يتورَّع في مقاله ". انتهى من "تاريخ الإسلام" (حوادث عام 581) . (54/405) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فهذا الرجل يذكر في مصنَّفاته أنواعاً من الغثِّ والسمين، ويحتجُّ في أغراضه بأحاديث كثيرةٍ ضعيفةٍ وموضوعة.
وكان يصنِّفُ بحسبِ مقاصد الناس، يصنِّف للشيعة ما يناسبهم، ليعوِّضوه بذلك، ويصنِّف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك، لينال بذلك أغراضه.
فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟
قال: في أي مدينةٍ؟
ولهذا يوجدُ في كتبه ثلبُ الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم ". انتهى " منهاج السنة النبوية " (4/ 98) .
وإذا كانت هذه حال الكتاب وصاحبه، فينبغي الحذر من التسليم بما فيه، وأن يكون المطالعة فيه للمتخصص القادر على مراجعة غيره من التواريخ، واعتبار ما فيه بمقياس الخطأ والصواب.
وبالإمكان الرجوع إلى كتب التواريخ المعتمدة، مثل: الكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية، للحافظ ابن كثير رحمه الله، والعبر وتاريخ الإسلام، ونحوها، للحافظ الذهبي رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/2)
هل تزوج نبي الله يوسف عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تزوج نبي الله يوسف وخلف الأبناء؟ وهل كان من بينهم أنبياء؟ وهل من دليل على ذلك في القرآن أو السنة؟ لأن الكثير من الناس يقولون أن زليخة امرأة العزيز أسلمت، فأرجع الله لها شبابها، وزوجها نبيه يوسف، فهل هذا صحيح؟ بارك الله فيكم]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ينقل المؤرخون والمفسرون أن يوسف عليه السلام تزوج من امرأة العزيز التي راودته عن نفسه، وذلك بعد توبتها، وذكروا كذلك أنه أنجب منها ولدين اثنين.
قال محمد بن إسحاق رحمه الله:
" لما قال يوسف للملك: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) قال الملك: قد فعلت! فولاه فيما يذكرون عمل إطفير، وعزل إطفير عما كان عليه، يقول الله: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء) ، الآية.
قال: فذكر لي - والله أعلم - أن إطفير هَلَك في تلك الليالي، وأن الملك الرَّيان بن الوليد، زوَّج يوسف امرأة إطفير " راعيل "، وأنها حين دخلت عليه قال: أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين؟ قال: فيزعمون أنها قالت: أيُّها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسنًا وجمالا، ناعمةً في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلكَ الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي على ما رأيت.
فيزعمون أنه وجدَها عذراء، فأصابها، فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف، وميشا بن يوسف، وولد لأفرائيم نون، والد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب عليه السلام. " انتهى.
رواه ابن أبي حاتم في " التفسير " (7/2161) ، والطبري في " جامع البيان " (16/151) من طريق سلمة، عن ابن إسحاق به.
وورد نحوه عن زيد بن أسلم التابعي الجليل، وعن وهب بن منبه المعروف بالرواية عن الإسرائيليات.
نقل ذلك السيوطي في " الدر المنثور " (4/553)
ولما كانت حكاية محمد بن إسحاق من القصص التاريخية القديمة، ولا يعرف لها إسناد متصل، ويغلب على الظن أنها مأخوذة عن علماء أهل الكتاب، لم يكن لنا أن نصدقها ولا أن نكذبها كذلك، وإنما نوردها على سبيل الحكاية السردية المجردة، مفوضين العلم بحقيقتها إلى الله عز وجل.
على أننا ننبه إلى أن الانشغال بمثل هذه الغرائب، وتفاصيل الأحوال التي لا تتعلق بأمر الدين والرسالة، مما لا فائدة ترجى من ورائه، ولذلك لم يأت تفصيل، بل ولا ذكر لها في ديننا، ولو كان مما يعنينا معرفته، والوقوف على تفاصيله: لأوشك أن يأتينا بذلك خبر عن الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/3)
من هو تبع المذكور في القرآن الكريم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد من فضيلتكم إلقاء بعض الضوء مما ثبت عن تُبع الذي ورد ذكره في الآية: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) والآية (وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وهل كان تبع هذا شخصاً؟ وهل كان موحدًا أم كافرًا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم " تبعا " هذا في موضعين اثنين، في معرض الإخبار عن كفر قومه وذكر ما حل بهم من عذاب الله وسخطه.
قال الله تعالى: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الدخان/37.
وقال سبحانه: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ق/12-14.
وكان تبع هذا ـ كما ذكر المفسرون ـ أحد ملوك اليمن، وكان مشركاً ثم أسلم، وكان يعبد الله على شريعة موسى عليه السلام، وقد توقف نبينا صلى الله عليه وسلم في شأنه، في بادئ الأمر، هل كان رجلاً صالحاً أم لا؟ ثم بعد ذلك نزل عليه الوحي بأنه كان رجلاً صالحاً، فنهانا عن سبه فقال صلى الله عليه وسلم: (لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ) رواه أحمد في " المسند " (37/519) عن سهل بن سعد رضي الله عنه وقال المحققون: حسن لغيره. وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2423) .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره شيئاً من سيرة تبع هذا، فقال:
" كانت حِمْيَر - وهم سبأ - كلما ملك فيهم رجل سموه " تُبَّعًا "، كما يقال: كسرى: لمن ملك الفرس، وقيصر: لمن ملك الروم، وفرعون: لمن ملك مصر كافرا، والنجاشي: لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مَصَّر الحيرة، فاتفق أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يَقْرُونه بالليل، فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مُهَاجَرُ نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة، فنهياه عن ذلك أيضًا، وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناية إبراهيم الخليل، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها، وكساها الملاء والوصائل والحبير، ثم كر راجعًا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه السلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه السلام، فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة، وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة، أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر أنه ملك دمشق، وأنه كان إذا استعرض الخيل صُفَّت له من دمشق إلى اليمن.
ثم ساق من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ ولا أدري تبع لعينًا كان أم لا؟ ولا أدري ذو القرنين نبيًّا كان أم ملكا) ، وقال غيره: (أعزيرًا كان نبيًّا أم لا؟) . – رواه أبو داود (4674) -
وكأنه - والله أعلم - كان كافرًا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجُرهُميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة، عن أبي بن كعب، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس، وكعب الأحبار، وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضًا، وهو أثبت وأكبر وأعلم.
وكذا روى قصته وهب بن مُنَبِّه، ومحمد بن إسحاق في السيرة، كما هو مشهور فيها.
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة " تُبَّع " هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن " تُبَّعًا " هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما مات عادوا بعده إلى عبادة الأصنام والنيران، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ.
وقال سعيد بن جبير: كسا " تُبَّعٌ " الكعبة، وكان سعيد ينهى عن سبه.
و" تُبَّع " هذا هو تُبَّع الأوسط، واسمه أسعد أبو كُرَيْب بن مَلْكيكرب اليماني، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة عام، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مُهَاجَرُ نبي في الزمان اسمه أحمد قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة، وكانوا يتوارثونه ويروونه خلفًا عن سلف، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو:
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّه ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَم ...
فَلَو مُدَّ عُمْري إلى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزيرا له وابن عَم ...
وَجَاهَدْتُ بالسَّيفِ أعْدَاءَهُ ... وَفرَّجتُ عَنْ صَدْرِه كُلَّ غَم ...
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام، فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: " هذا قبر حبي ولميس – وروي: حبي وتماضر- ابنتي " تُبَّع "، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئًا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
قال قتادة: ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في " تُبَّع ": نُعِت نَعْت الرجل الصالح، ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، قال: وكانت عائشة تقول: لا تسبوا " تُبَّعًا "؛ فإنه قد كان رجلا صالحًا " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (7/256-259) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/4)
هل غرق جميع من على الأرض بعد الطوفان العظيم زمن نوح عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل غرق جميع من في الأرض - عدا من كان مع نوح - على ظهر السفينة عندما أرسل الله الطوفان؟ وهل كل مَن في الأرض الآن يعتبرون مِن نسل مَن كان في السفينة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يدل صريح القرآن الكريم على أن جميع من على الأرض أغرقوا بالطوفان، ولم ينج من البشر ولا من الحيوان إلا مَن حمله نوح عليه السلام معه في السفينة.
قال الله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ) الشعراء/119-120.
وقال عز وجل: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) هود/40.
وقال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) يونس/73.
كما جاء النص في القرآن الكريم على أن الأرض إنما عمرت بعد ذلك من نسل ذرية نوح عليه السلام فقط، وأما المؤمنون الذين نجوا معه في السفينة فلم تبق لهم ذرية، فجميع أهل الأرض الآن من ذرية نوح عليه السلام.
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ. إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) الصافات/77-81.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام.
وقال قتادة في قوله: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) قال: الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام.
"تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (7/22) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسا، وقيل: كانوا عشرة.
قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعا، وعَمَّ جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير.
قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملؤوا السهل والجبل.
...
فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه السلام. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم: سام وحام ويافث" انتهى باختصار.
"البداية والنهاية" (1/111-114) .
وقال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله:
" ضمير الفصل في قوله: (هُمُ الْبَاقِينَ) للحصر، أي: لم يبق أحد من الناس إلا من نجاه الله مع نوح في السفينة من ذريته، ثم من تناسل منهم، فلم يبق من أبناء آدم غير ذرية نوح، فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة، وظاهر هذا أن من آمن مع نوح غير أبنائه لم يكن لهم نسل. قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) هود/40، وهذا جار على أن الطوفان قد عم الأرض كلها، واستأصل جميع البشر، إلا من حملهم نوح في السفينة" انتهى.
"التحرير والتنوير" (23/47) .
وأما قوله سبحانه وتعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) الإسراء/3. وقوله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) مريم/58.
فلا يدل على استمرار نسل المؤمنين الذين حملهم نوح عليه السلام معه، بل المقصود أبناء نوح عليه السلام الذين استمر نسلهم دون باقي المؤمنين.
قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) ، بين أن ذرية من حمل من نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) " انتهى.
"أضواء البيان" (3/13) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/5)
متى وُلد عيسى بن مريم؟ وهل في القرآن إشارة إلى أنه وُلد في الصيف؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لا شك بأن موعد ميلاد المسيح لم يكن في شهر " كانون أول "، وخصوصاً أن موسم الرطَب هو في شهر الصيف، فما هو التاريخ التقريبي لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
مسألة تحديد وقت ميلاد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عليها تنبيهات:
1. أنها من الغيب الذي لا يمكن لأحدٍ الجزم به، إلا أن يكون ممن يوحي لهم الله تعالى بوحيٍ من عنده؛ لأنه لا سبيل لمعرفة ذلك إلا به؛ لانقطاع الأسانيد بيننا وبين ذلك الزمان، ولاختلاف النقلة في تحديد وقت ميلاده عليه السلام.
2. أن معرفة ذلك الوقت علم لا ينفع، والجهل به غير ضارٍّ، ولو كان في معرفة ذلك فائدة لجاءتنا النصوص به، ثم لو عرفنا وقت ميلاده: فما هو وقت ميلاد موسى، وإبراهيم، وغيرهما من الأنبياء والرسل؟! وما فائدة معرفة ذلك الوقت؟! وهذا يقودنا إلى التنبيعه الثالث.
3. ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أقرب من ميلاد عيسى بن مريم، وكان ابناً في بيئة تتجه لها أنظار العالَم – مكة المكرمة -، وكان ابنا لشرفاء وسادة تلك البقعة، ومع ذلك كله لا يُعرف على التحديد وقت ميلاده صلى الله عليه وسلم، والخلاف في تحديد مشهور.
ثانياً:
وجزم الأخ السائل بأنه " لا شك بأن موعد ميلاد المسيح لم يكن في شهر كانون أول ": في غير مكانه، وليس مع أثبت شيئاً أو نفاه أدلة يطمئن القلب لها، ولا هو بالشيء الذي يُجزم بحدوثه على التحديد.
وثمة اتجاهات في إثبات وقت ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام عند النصارى، فضلاً عن المسلمين، فالنصارى يزعمون أنهم أتباع دينه، وهو ربٌّ لكثير منهم! أو ابن ربِّهم! ومع ذلك ليس ثمة اتفاق بينهم على تحديد ميلاده! .
ولا يختلف المسلمون عن النصارى في الخلاف في تحديد وقت ميلاد عيسى عليه السلام، إلا أن الخلاف عندنا منطلقه الفهم لآيات من كتاب الله تعالى فيها التصريح بوجود رطَب على شجرة نخيل عند ولادة عيسى عليه السلام، ومن ثَمَّ اختلف العلماء عندنا هل كان وقت ميلاده عليه السلام في " الصيف " لكون ذلك الوقت موسم تلك الثمرة، أو كان الأمر كرامة من الله تعالى في إيجاد تلك الثمرة في غير موسمها، كما أجرى الله تعالى الماء من تحت أمه مريم وقت ولادة ابنها عيسى عليه السلام، وكما أنطق الله تعالى ابنها وهو طفل صغير؟! خلاف بين العلماء، والأظهر – والله أعلم – هو القول الثاني.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -:
قوله تعالى: (وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) لم يصرِّح جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه، ولكنَّه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو: " الرطَب الجني " المذكور، والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه بـ " السري "، كما تقدم، هذا هو الظاهر.
وقال بعض العلماء: إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به: كان جذعاً يابساً؛ فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني.
وقال بعض العلماء: كان الجذع جذع نخلة نابتة، إلا أنها غير مثمرة، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر، وجعله رطباً جنيّاً.
وقال بعض العلماء: كانت النخلة مثمرة، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجوداً.
والذي يُفهم من سياق القرآن: أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة، ولم يكن الرطَب، والنهر، موجودين قبل ذلك، سواء قلنا إن الجذع كان يابساً، أو نخلة غير مثمرة، إلا أن الله أنبت فيه الثمر، وجعله رطباً جَنيّاً، ووجه دلالة السياق على ذلك: أن قوله تعالى: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة؛ لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به، فوجود هذه الخوارق، من تفجير النهر، وإنبات الرطب، وكلام المولود: تطمئن إليه نفسها، وتزول به عنها الربية، وبذلك يكون قرة عين لها؛ لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسياً منسيّاً: لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت، كما هو ظاهر، وخرق الله لها العادة بتفجير الماء، وإنبات الرطب، وكلام المولود: لا غرابة فيه، وقد نص الله جل وعلا في " آل عمران " على خرقه لها العادة في قوله (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
قال العلماء: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وإجراء النهر، وإنبات الرطب: ليس أغرب من هذا المذكور في سورة " آل عمران ".
" أضواء البيان " (3 / 397) .
هذا هو الذي نراه راجحاً صحيحاً، وبه نعلم أنه لا يمكننا تكذيب من نقل ميلاد عيسى عليه السلام في الشتاء، بل هو الأقرب للصواب؛ لأنه ليس موسماً للرطَب، لكن هذا القول ليس متفقاً عليه عند النصارى، ولا عند المسلمين، وسنذكر فيما يلي عمَّن يرجِّح خلاف ما رجحناه، ويذكر الخلاف عند النصارى في تحديد ميلاد عيسى عليه السلام.
قال الأستاذ محمد عزت الطهطاوي:
هل وُلد المسيح حقّاً في فصل الشتاء في 25 ديسمبر، كما يقول النصارى الغربيون، أو في يناير، كما يقول النصارى الشرقيون؟ .
ورد في إنجيل " لوقا " حكاية عن ميلاد المسيح عليه السلام: " وكان في تلك الكورة رعاة متبدين، يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً، فقال لهم الملاك: " لاتخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم، يكون لجميع الشعب، إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح ".
(إنجيل " لوقا "، إصحاح 2، عدد 8-9-10-11) .
ومعنى ذلك: أن يكون الميلاد في وقت يكون الرعي فيه ممكناً في الحقول القريبة من " بيت لحم " المدينة التي ولد فيها المسيح عليه السلام، وهذا الوقت يستحيل أن يكون في الشتاء؛ لأنه فصل تنخفض فيه درجة الحرارة - وخصوصاً بالليل - بل وتغطي الثلوج تلال أرض " فلسطين "، وجعْل عيد الميلاد للسيد المسيح في فصل الشتاء: لا أساس له إذاً، بل هو من مخترعات الوضاع يجعله في فصل الشتاء وفي هذه التواريخ المذكورة انفا.
ولندلل على ذلك بالاتي:
1- يقول الأسقف " بارنز ": غالباً لا يوجد أساس للعقيدة القائلة بأن يوم 25 ديسمبر كان بالفعل ميلاد المسيح، وإذا ما كان في مقدورنا أن نضع موضع الإيمان قصة " لوقا " عن الميلاد مع ترقب الرعاة بالليل في الحقول قريباً من " بيت لحم "؛ فإن ميلاد المسيح لم يكن ليحدث في الشتاء حينما تنخفض درجة الحرارة ليلاً وتغطي الثلوج تلال أرض اليهودية، ويبدو أن عيد ميلادنا قد اتفق عليه بعد جدل كثير ومناقشات طويلة حوالي عام 300 بعد الميلاد.
كتاب " ظهور المسيحية " للأسقف بارنز.
2- وهذا الرأي الذي ذهب إليه الأسقف " بارنز " قد استمده الذين كتبوا بيانات عن عيد الميلاد في " دائرة المعارف البريطانية "، ودائرة " معارف شاميرز "، فقد ورد في الطبعة الخامسة عشرة من المجلد الخامس في الصفحة (642، 643 أ) من " دائرة المعارف البريطانية " ما يلي: " لم يقنع أحد مطلقاً بتعين يوم أو سنة لميلاد المسيح - ولكن صمم آباء الكنيسة في عام 340 بعد الميلاد على تحديد تاريخ للاحتفال بالعيد - اختاروا بحكمة يوم الانقلاب الشمسي في الشتاء، الذي استقر في أذهان الناس، وكان أعظم أعيادهم أهمية، ونظراً إلى التغيرات التي حدثت في التقاويم: تغير وقت الانقلاب الشمسي، وتاريخ عيد الميلاد بأيام قليلة ".
3- ورد في دائرة " معارف شاميرز " الآتي: " كان الناس في كثير من البلاد يعتبرون الانقلاب الشمسي في الشتاء يوم ميلاد الشمس، وفي روما كان يوم 25 ديسمبر يحتفل فيه بعيد وثني قومي - ولم تستطع الكنيسة أن تلغي هذا العيد، بل باركته، كعيد قومي لشمس البر ".
4- يقول " بيك " من علماء تفسير الكتاب المقدس: " لم يكن ميقات ولادة المسيح شهر ديسمبر على الإطلاق، فعيد الميلاد عندنا قد بدأ التعارف عليه أخيراً في الغرب.
" تفسير الكتاب المقدس " للدكتور بيك (ص 727) .
5- هناك دليل تاريخي ثابت موثوق به يوضح أن المسيح ولد في شهر أغسطس، أو سبتمبر، فقد كتب الدكتور جون د. أفيز في كتابه " قاموس الكتاب المقدس " تحت كلمة " سنة ": أن البلح ينضج في الشهر اليهودي أيلول، كما ورد في صفحة (117) من كتاب " تفسير الكتاب المقدس " لـ " بيك " العبارة الاتية: " إن شهر أيلول يطابق عندنا شهر أغسطس، وسبتمبر ".
6- ويقول الدكتور " بيك " في مناقشة " جون ستيوارت " لمدونة " من معبد انجورا ": وعبارة وردت في مصنف صيني قديم، يتحدث عن رواية وصول الإنجيل للصين سنة 25 – 28 ميلادية، حيث حدد ميلاد المسيح في عام 8 قبل الميلاد، في شهر سبتمر، أو أكتوبر، وحدد وقت الصلب في يوم الأربعاء عام 24 ميلادية.
النتائج التي تستخلص مما تقدم:
1- ونخلص من كل ذلك طبقا للبحوث السابقة التي أجريت حاليّاً على أصول المسيحية: أن المسيح لم يولد في ديسمبر، أو يناير، ولكن في أغسطس، أو سبتمبر، ويكون حمْل السيدة مريم لم يبدأ في مارس، أو إبريل، كما يريد مؤرخو الكنيسة أن يلزموا الناس باعتقاده، بل بدأ حملها في نوفمبر، أو ديسمبر.
2- إن القران الكريم يُستخلص من تفسيره أن المسيح مولود في أغسطس، أو سبتمبر، وهذا يتفق مع الحقائق التاريخية، ومع رواية إنجيل " لوقا "، وإن كان ذلك دون قصد، وأنه يظهر مما حكاه القرآن عن السيدة " مريم ": أنها كانت ترقد عند ولادتها في سقيفة على مكان مرتفع من التل حيث تقف نخلة على منحدر منه، وكان من الميسور لها أن تصل إلى جذعها، وتهزه، وكثرة النخيل في " بيت لحم " واضحة في الكتاب المقدس في الإصحاح الأول من " سِفر القضاة "، وكذلك " قاموس الكتاب المقدس " المؤلَّف بمعرفة الدكتور " جونر يفنز "، كما أن حقيقة إرشاد السيدة " مريم " إلى نبع - كما ورد في القران الكريم - لتشرب منه: تشير إلى أن ميلاد المسيح قد حدث فعلاً في شهر أغسطس، أو سبتمبر، وليس في ديسمبر حيث يكون الجو بارداً كالثلج في كورة اليهودية، وحيث لا رُطَب فوق النخيل حتى تهز جذع النخلة فتساقط عليها رطباً جنيّاً، قال تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) ، والمعنى: أنه جعل قربَها جدولاً صغيراً كان قد انقطع ماؤه، ثم جرى، وامتلأ، وسمي سريّاً لأن الماء يسري فيه، وأنه في إمكانها أن تتناول من الرطَب الصالحة للاجتناء إذا أرادت أن تأكل، وإذا أرادت أن تشرب: أمكنها ذلك من جدول الماء، الذي كان يسري بجانبها.
" النصرانية والإسلام " الأستاذ محمد عزت الطهطاوي (ص 241 – 244) مكتبة النور.
والخلاصة:
ليس في شرعنا ما يثبت تحديد ولادة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، لا السنة، والشهر، واليوم، ومن قال إن القرآن فيه إشارة إلى أن مولده كان في فصل " الصيف ": فمردود، بما نقلناه من خلاف العلماء أولاً، وبما هو لائق من كون ذلك الإيجاد للرطَب كان في غير موسمه، وأما النصارى: فغالبهم يرى أن مولده كان في شهر " ديسمبر "، أو " يناير "، وكان فصل الشتاء، وثمة من نقد ذلك عندهم، وبيَّن أنه خطأ، وأن مولده عليه السلام كان في " الصيف ".
وبكل حال: ليس ثمة ما يُجزم به، وليس هذا من العلم النافع، ولولا تعلق الإجابة بشرح آية من كتاب الله: لما تجشمنا الرد على السؤال، وإذا كان النصارى قد اختلفوا في أصل عيسى عليه السلام ما هو، واختلفوا في أصل الاعتقاد: فأنَّى لهم الاتفاق على ما هو دونه؟! .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/6)
الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته ولم يروه يسمون "المخضرمون"
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يُسَمَّى الناس الذين كانوا أحياء في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلموا لكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من لم يتشرف بلقيا النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة فليس من الصحابة، ولذلك فقد عد المحدثون جميع من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يروه من التابعين، وأطلقوا عليهم اسم " المخضرمون من التابعين ". لأنهم أدركوا الجاهلية والإسلام.
قال أبو عبد الله الحاكم رحمه الله:
" فأما المخضرمون من التابعين ـ هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست لهم صحبة ـ فهم: أبو رجاء العطاردي، وأبو وائل الأسدي، وسويد بن غَفَلَة، وعثمان النهدي، وغيرهم من التابعين " انتهى.
" معرفة علوم الحديث " (ص/44) .
وقال الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله:
" المخضرمون من التابعين: هم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم. واحدهم مخضرَم - بفتح الراء - كأنه خُضْرِم: أي قُطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها. وذكرهم (مسلم) فبلغ بهم عشرين نفسا منهم:
أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وعبد خير بن يزيد الخَيْوَانِي، وأبو عثمان النهدي، وعبد الرحمن بن مل، وأبو الحَلَال العَتَكي ربيعة بن زرارة " انتهى.
" المقدمة " (179)
والمخضرم مأخوذ من الشيء المتردد بين أمرين.
قال الحافظ العراقي رحمه الله:
" المخضرم متردد بين الصحابة لإدراكه زمن الجاهلية والإسلام، وبين التابعين لعدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متردد بين أمرين " انتهى باختصار.
" التقييد والإيضاح " (ص/323)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/7)
هل ثبت حرق عمر لبيت فاطمة وهدم الباب عليها وإسقاطها جنينها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من أسقط جنين فاطمة رضي الله عنها؟ وما موقفنا ممن فعل من قام بذلك؟ وكيف أرد على اتهامات الشيعة في ذلك؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لقد كذب الرافضة في قصة انتحلوها في هذا الباب، وملخصها: أن أبا بكر رضي الله عنه آذى عليّاً لما امتنع من البيعة، وأنه بعث إليه عمر بن الخطاب – أو من يسمَّى " قنفذ " كما في بعض الروايات عندهم -، مع آخرين، فهدموا بيت فاطمة، بعد أن اقتحموه، ثم حرقوه! وأن عمر بن الخطاب ضغط فاطمة بين الباب والجدار فأُسقط جنينها من بطنها! وأنهم أخرجوا عليّاً بذل وهوان؛ لإجباره على البيعة لأبي بكر، وكل ذلك كذب، وبهتان، ولا يقبل أن يصدقه إلا من كان مثلهم في الضلالة، والبهيمية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يُقدِم على علي والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولاً، وآخراً، وغاية ما يقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه، وأن يعطيه لمستحقه، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز، فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء، وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى: فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم، والدِّين، وإنما يَنقل مثل هذا جهال الكذابين، ويصدقه حمقى العالَمين، الذين يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة، وضربوا بطنها حتى أسقطت، وهذا كله دعوى مختلقة، وإفك مفترى، باتفاق أهل الإسلام، ولا يروج إلا على مَن هو مِن جنس الأنعام.
" منهاج السنة النبوية " (8 / 208) .
وقال – رحمه الله – أيضاً -:
ومنهم من يقول: إن عمر غصب بنت علي حتى زوَّجه بها! وأنه تزوج غصباً في الإسلام! ومنهم من يقول: إنهم بعجوا بطن فاطمة حتى أسقطت، وهدموا سقف بيتها على من فيه، وأمثال هذه الأكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب، فهم دائما يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها، وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها، فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ) العنكبوت: من الآية68، فهم يفترون الكذب، ويكذبون بالحق، وهذا حال المرتدين.
" منهاج السنة النبوية " (4 / 493) .
وبيان كذبهم من وجوه:
1. إن تعدِّي رجل واحد على امرأة يعد من الأمور المنكرة المستبشعة، فكيف إذا كانوا مجموعة من الرجال، ومن الصحابة، وعلى ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتم حرق بيتها، وإسقاط جنينها؟! فأنَّى لعاقل أن يصدِّق حصول تلك الحادثة مع سكوت الناس عنها، وعدم مدافعتهم عن أخص بيت النبوة؟! ووالله لو حصل هذا مع عربي لعدَّ عاراً عليه، ولعدَّ مجرماً غاية الإجرام، لكن هؤلاء الكذبة حبكوا القصة بهذه الطريقة ليوهموا أتباعهم – والسذَّج ممن يستمع إليهم - أن الصحابة جميعاً اشتركوا في الحادثة، من باشر تنفيذها، ومن سكت عنها! وهو كذب رخيص يليق بعقولهم، ويمشي على أتباعهم فقط، لا على العقلاء.
2. ثم إنهم ليخترعون قصصاً وحكايات لعلي بن أبي طالب تدل على علمه بالغيب! وعلى عظيم قوته، وشجاعته، فلماذا لم يحذِّر فاطمة من قدوم أولئك المفسدين؟ وأين شجاعته وقوته في التصدي لهم ومحاربتهم؟ فأين في هذه الحكاية المفتراة دفاعه عن عرضه؟
وعلى ما نسجوه من كذب في هذه الحكاية فإن علي بن أبي طالب لا يصلح للخلافة! فمن عجز عن الدفاع عن عرضه فليس جديراً بأن يكون خليفة للمسلمين، ومن الذي سيبايعه إذا كان الناس كلهم قد سكتوا عن اقتحام بيته، وإسقاط جنين امرأته؟! أما أهل السنَّة فيثبتون شجاعة علي رضي الله عنه، وطهارة فاطمة رضي الله عنها، وينفون تلك الحكاية الخبيثة؛ لما فيها من الطعن بعدالة ودين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
3. ومما يدل على كذب هذه الحكاية ما يجمع بين علي وعمر رضي الله عنهما من العلاقة الحسنة، والتي وصلت إلى تزوج عمر بابنة علي وفاطمة، وهي " أم كلثوم "! فكيف تصدَّق هذه الحكاية الخبيثة ونحن نرى حرص عمر على التقرب من علي وفاطمة بتلك المصاهرة، ونرى موافقة الأبوين عليه أن يكون زوجاً لابنتهم، وأما الرافضة فجنَّ جنونهم لهذه المصاهرة، وتفكروا في التخلص منها فقادهم إبليس إلى القول بأن الزواج تمَّ بالإكراه! وأن هذا " فرجٌ غُصبناه "!
وهؤلاء الضُّلال ـ وأمثالهم ـ لا يهمهم ما يدفعونه من ثمن في الطعن بالصحابة، ولو بمثل هذه التخريجات التي مؤداها الدياثة، والخساسة، وحاشا أهل البيت من الرافضة وكذبهم.
4. وإذا قال الرافضة إن عليّاً كان ضعيفاً مستضعفاً، حتى هدم بيته – وفي رواية أنه حُرق! – وحتى أُكره على زواج باطل لابنته: فأين إذن باقي أهل البيت؟ ولم لم يدافعوا عن ابنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟! فهل يُعقل أن يجتمعوا جميعاً على الخنوع، والخور؟! .
5. ولأن هذه القصة تحتوي على ما لا يُصدَّق، وتحتوي على ما فيه الطعن بأشرف بيت، وأجل امرأة: رأينا من كذَّبها من بعض رؤوس الرافضة، لا تنزيها للصحابة أن يفعلوها، بل تنزيهاً لعلي أن يكون موقفه هذا! .
أ. قال محمد حسين آل كاشف الغطاء – وهو من كبار أئمتهم -:
ولكن قضية ضرب الزهراء، ولطم خدها: مما لا يكاد يقبله وجداني، ويتقبله عقلي، وتقتنع به مشاعري، لا لأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة، بل لأن السجايا العربية، والتقاليد الجاهلية، التي ركزتها الشريعة الإسلامية، وزادتها تأييداً، وتأكيداً: تمنع بشدة ضرب المرأة، أو تمد إليها يد سوء، حتى إن بعض كلمات أمير المؤمنيين ما معناه: أن الرجل كان في الجاهلية إذا ضرب المرأة يبقى ذلك عاراً في أعقابه ونسله ... .
" جنة المأوى " (ص 135) .
فهذا أخوهم في ضلالتهم ينزِّه العرب الجاهليين عن مثل هذا الفعل، ثم يزعم بكل صفاقة أن الصحابة الذين زادوا على ما عند الجاهليين من أخلاق حسنة بأخلاق الإسلام: يزعم أنهم يمكن أن يفعلوا مثل هذا! وهو ينزه عنها العرب الجاهليين ويثبتها للصحابة المسلمين! ويرى أن امتناعهم عن فعلها بسبب بيئتهم العربية، لا بسبب إسلامهم! ويهمنا أنه يكذبها، ويكذِّب مشايخ دينه، ودجاجلته الذين يتناقلونها، ويؤججون عواطف أتباعهم بذكرها دائماً.
وهو الأمر الذي يقرره هبة الله ابن أبي الحديد، الشيعي المعتزلي، بقوله:
" أما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال " قنفذ " إلى بيت فاطمة عليها السلام! ، وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج، وبقي أثره إلى أن ماتت، وأن عمر أضغطها بين الباب والجدار، فصاحت: يا أبتاه، يا رسول الله! وألقت جنيناً ميتاً، وجُعل في عنق علي عليه السلام حبلٌ يقاد به وهو يعتل، وفاطمة خلفه تصرخ، وتنادى بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان، وأن عليّاً لما أُحضر سلموه البيعة، فامتنع، فتهدد بالقتل، فقال: إذن تقتلون عبد الله، وأخا رسول الله! فقالوا: أما عبد الله: فنعم! وأما أخو رسول الله: فلا، وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها، وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: فكله لا أصل له عند أصحابنا! ولا يثبته أحد منهم! ولا رواه أهل الحديث، ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله ".
" شرح نهج البلاغة " (2 / 60) طبعة إحياء الكتب العربية.
مع التنبيه على عدم صحة نسبة كتاب " نهج البلاغة " لعلي بن أبي طالب، وانظري في ذلك جواب السؤال رقم: (30905) .
6. هذه القصة الخيالية لا توجد في أهم الكتب الشيعية المعتمدة مثل كتاب " الكافي "، حيث لم يذكرها مؤلفه الكليني، ولا تُعرف هذه القصة من إلا من كتاب " السقيفة " للرافضي سلَيم بن قيس الهلالي (يقال توفي سنة 90 هـ) ، وهو كتاب حوى الخبيث من القول، والفحش من الحكايات، وفيه نصوص تدل على وقوع تحريف القرآن، وهو كتاب ساقط عند كثير من أئمة الرافضة أنفسهم، وقد شكك بعضهم بوجود هذه الشخصية أصلاً! :
قال الشيخ ناصر القفاري – حفظه الله -:
وقد لحظت في دراستي لكتاب سليم بن قيس - أول كتاب ظهر لهم - أنهم يضعون روايات، أو كتباً لأشخاص لا وجود لهم، حتى قال بعض شيوخهم - وهو يعترف بأن كتاب سليم بن قيس موضوع عليه -: " والحق أن هذا الكتاب موضوع لغرض صحيح، نظير كتاب " الحسنية "، و " طرائف بن طاوس "، و " الرحلة المدرسية "، وتبين لنا فيما سلف أن سليم بن قيس قد يكون اسماً لا مسمَّى له.
" أصول الشيعة " (ص 386) .
وأيد الشيخ حفظه الله كلامه هذا بنقولات مهمة عن بعض كبار علماء الرافضة، ومنهم:
أ. محمد بن محمد بن النعمان المفيد (توفي 413 هـ) حيث قال: " وينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بجميع ما في كتاب سليم؛ لأنه خليط من الكذب، والتدليس، قال ابن داود: هناك منكرات في كتاب سليم، يعني: فيه أكاذيب واضحة، وأنا أعده موضوعاً، ومختلقاً، وقد ذُمَّ في في قاموس الرجال " انتهى
ب. عبد الله المامقاني (توفي 1351هـ) حيث قال: " يقول أصحابنا الشيعة، وعلماء الشيعة أن سليماً لم يُعرف، ويُشَك في أصل وجوده، ولم يذكروه بالخير، والكتاب المنسوب إليه موضوع قطعاً، وفيه أدلة كافية للدلالة على وضعه " انتهى.
ج. وقد رأينا في " موقع السيستاني " – مرجع الرافضة المعاصر – الخاص بالفتاوى والمسمى " السراج في الطريق إلى الله " - سئل:
كتاب " سليم بن قيس الهلالي العامري الكوفي " صاحب أمير المؤمنين علي عليه السلام! المتوفى سنة 90 هجرية، الذي قال الإمام الصادق عليه السلام عن كتابه: " أنه سرٌّ من أسرار آل محمد "! ، فما مدى صحة هذا الكتاب؟ وماذا يقول العلماء عنه، خاصة مع اختلاف طبعاته في الوقت الحاضر؟ .
فأجاب:
في سنده إشكال! .
انتهى من السؤال رقم (171) من الموقع.
وقد بيَّن الشيخ ناصر القفاري حفظه الله أن اختلاف طبعاته تعود لتزوير الرافضة في الكتاب زيادة ونقصاناً؛ لأن في الكتاب أوابد كتأليه علي رضي الله عنه، وفيه ما ينقض مذهب الرافضة، حيث جعل الأئمة ثلاثة عشر، بزيادة " زيد بن علي بن الحسين "! .
وهذا هو حال الكتاب الأصل الذي نقلت منه تلك الحكاية المختلقة، وقد رأينا حكم بعض كبار علماء الرافضة على المؤلِّف، وعلى كتابه، فسقط النقل عنه، وثبت كذب الرواية.
7. ومن الأدلة على بطلان الحكاية: أنه ثمة من ينقل القصة مع اختلاف في وقائعها:
فقد قال كبيرهم الطبرسي صاحب كتاب " الاحتجاج " (1 / 51) : " إن عمر هدَّد المعتصمين في بيت فاطمة قائلاً: " والذي نفس عمر يده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه "، فقيل له: إن فاطمة بنت رسول الله، وولد رسول الله، وآثار رسول الله صلى الله عليه وآله فيه، وأنكر الناس ذلك من قوله، فلما عرف إنكارهم قال: " ما بالكم! أتروني فعلت ذلك؟ إنما أردت التهويل " انتهى.
وهو يدل على عدم إجادتهم الكذب، فما كان حقيقة واقعيّاً: صار محتملاً، وما كان: يقيناً صار مشكوكاً فيه، وهذا حال من ليس لهم إسناد، وصدق أئمتنا حين قالوا: " لولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء ".
وقد تبين بما لا مزيد عليه كذب ما افتروه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من حرق بيت فاطمة، وإسقاط جنينها، وإخراج علي رضي الله عنه ذليلا ليبايع أبا بكر، وما ذكرناه مما رواه البخاري ومسلم هو اللائق بدين الصحابة، وأخلاقهم، وهو المعتمد.
ثانياً:
مما يُضحك منه: ما حاول بعض الكتاب من الرافضة إيهام العامة من أهل السنَّة أنه يوجد من يثبت هذه الحكاية من أهل السنَّة! وبيان كذبهم وتدليسهم في أمور:
1. أوهموا أن الشهرستاني يثبتها في كتابه " الملل والنِّحَل "!
والذي لا يستراب فيه أن هذا من الكذب الرخيص، وأصل ذلك: أن الشهرستاني كان يترجم في كتابه للمعتزلي " إبراهيم بن سيار النظَّام "، وذكر في أثناء ذلك أن تلك الحكاية هي مما افتراه النظّام! ، وهذا نص كلامه:
قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني – رحمه الله – في تعداد أوابد النظَّام -:
الحادية عشرة: ميله إلى الرفض، ووقيعته في كبار الصحابة، قال: ".. وزاد في الفرية فقال: " إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة، حتى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصيح: " احرقوا دارها بمن فيها "، وما كان في الدار غير علي، وفاطمة، والحسن، والحسين.
" الملل والنحل " (1 / 52) .
2. ومما نقلوه في ذلك ببلاهة غريبة: ما نقلوه عن " ميزان الاعتدال " و " سير أعلام النبلاء " كلاهما للإمام الذهبي، و " لسان الميزان " لابن حجر عن أبي بكر بن أبي دارم في إثبات إسقاط عمر لجنين فاطمة! من قراءة بعض الناس عليه من كتاب! فكيف نقلوا ذلك بتلك البلاهة؟ قالوا:
" روى عنه الحاكم، وقال: رافضي، غير ثقة، وقال: محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ بعد أن أرخ موته: كان مستقيم الأمر عامة دهره، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه: إن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن ".
وانظري كيف جمع الله لهؤلاء الجهل مع الغباء، فهو ينقل عن أئمة السنَّة أن هذا الخبيث المُترجم له: رافضيّ، غير ثقة، ثم ينقل عنه بكل بلاهة - إسقاط عمر لجنين فاطمة - سواء من كتابته، أو من كتابة غيره، مما يُقرأ عليه.
قال الذهبي في ترجمته:
أبو بكر بن أبي دارم: كان موصوفاً بالحفظ، والمعرفة، إلا أنه يترفض، قد ألف في الحط على بعض الصحابة، وهو مع ذلك ليس بثقة في النقل.
وقال:
قال الحاكم: هو رافضي، غير ثقة.
وقال محمد بن حماد الحافظ: كان مستقيم الأمر عامة دهره، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه: أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت محسناً..
قلت: شيخ ضال معثر.
" سير أعلام النبلاء " (15 / 577، 578) .
وقد ذكر نحوا من ذلك في "ميزان الاعتدال" بأطول مما هنا، وبدأ ترجمته بقوله: " أحمد بن محمد..، أبو بكر، الكوفي، الرافضي الكذاب".
وهكذا نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في " لسان الميزان ".
وأنتِ ترين أن هؤلاء العلماء حكموا على ابن أبي دارم بالرفض، ونقلوا عن الحافظ محمد بن حمَّاد أنه ترك حديثه، ثم جاء هؤلاء ليتكثروا بالنقولات، وقد أخزاهم الله بأن جعلها عليهم، لا لهم.
3. ومما نقلوه: رواية عن أبي بكر رضي الله عنه فيها قوله: " وددت أني لم أحرق بيت فاطمة "! .
وينظر تخريج هذه الرواية، وبيان بطلانها، في جواب السؤال (98641) .
وقد أتى على تفصيلها، وبيان ما فيها – وفي أمثالها – من ضعف: كتاب " أحاديث يحتج بها الشيعة " للشيخ عبد الرحمن دمشقية وفقه الله.
4. وقد نقلوا في إثبات الحكاية المنكرة عن المسعودي في كتابه " مروج الذهب "، وابن قتيبة في كتابه " الإمامة والسياسة ".
والرد:
أما المسعودي: فهو رافضي مثلهم، ولا يوثق بنقله.
وأما ابن قتيبة: فهو من رؤوس أهل السنَّة، لكن الكتاب لا تصح نسبته إليه، بل هو لرافضي خبيث، وينظر في ذلك جواب السؤال رقم: (121685) .
ومما سبق يتبين كذب الحكاية الملفقة على الصحابة الكرام، وأنه ليس ثمة جنين أسقط لفاطمة رضي الله عنها، لا من " قنفذ "، ولا من " عمر "، وتبين لكل منصف أن الله تعالى قد أكرم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر الصدِّيق، يجلهم، ويعظمهم؛ تنفيذا لوصية نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا في مقام يليق بهم في دولته، وأنه ما أساء لأولئك الأطهار إلا الزنادقة والضلال.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/8)
بطلان نسبة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة رحمه الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة الدينوري من تأليفه أم منسوب إليه كما يقال في بعض المنتديات ويحذرون من التعامل معه بحذر شديد؟ وهل آخذ معلوماته بعين الصحة أم أرفضه كله؟ إذا كان الرفض لجميع الكتاب فكيف أصبح مصدرا هاما عند كثير من المؤرخين المعاصرين؟ أما إذا كان الرفض لبعضه فهل هناك نسخة صحيحة منه؟ أو هل يوجد من بين من المؤرخين الصحيح فيه والمكذوب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كتاب الإمامة والسياسة لا يصح نسبته لابن قتيبة رحمه الله، وقد بين ذلك عدد من الباحثين وساقوا أدلة ظاهرة على ذلك.
قال الشيخ الدكتور علي نفيع العلياني حفظه الله في كتابه "عقيدة الإمام بن قتيبة" عن كتاب الإمامة والسياسة: " وبعد قراءتي لكتاب الإمامة والسياسة قراءة فاحصة ترجح عندي أن مؤلف الإمامة والسياسة رافضي خبيث , أراد إدماج هذا الكتاب في كتب ابن قتيبة نظرًا لكثرتها ونظرًا لكونه معروفًا عند الناس بانتصاره لأهل الحديث , وقد يكون من رافضة المغرب , فإن ابن قتيبة له سمعة حسنة في المغرب , ومما يرجح أن مؤلف الإمامة والسياسة من الروافض ما يلي:
* أن مؤلف الإمامة والسياسة ذكر على لسان علي رضي الله عنه أنه قال للمهاجرين: (الله الله يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم , ولا تدفعوا أهله مقامه في الناس وحقه , فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت , ونحن أحق بهذا الأمر منكم.. والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله) . ولا أحد يرى أن الخلافة وراثية لأهل البيت إلا الشيعة.
* أن مؤلف الإمامة والسياسة قدح في صحابة رسول الله قدحًا عظيمًا فصور ابن عمر رضي الله عنه جبانًا , وسعد بن أبي وقاص حسودًا , وذكر محمد بن مسلمة غضب على علي بن أبي طالب لأنه قتل مرحبًا اليهودي بخيبر , وأن عائشة رضي الله عنها أمرت بقتل عثمان. والقدح في الصحابة من أظهر خصائص الرافضة , وإن شاركهم الخوارج , إلا أن الخوارج لا يقدحون في عموم الصحابة.
* أن مؤلف الإمامة والسياسة يذكر أن المختار بن أبي عبيد قتل من قبل مصعب بن الزبير لكونه دعا إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر خرافاته وادعاءه الوحي , والرافضة هم الذين يحبون المختار بن أبي عبيد لكونه انتقم من قتلة الحسين , مع العلم أن ابن قتيبة رحمه الله ذكر المختار من الخارجين على السلطان وبين أنه كان يدعي أن جبريل يأتيه.
* أن مؤلف الإمامة والسياسة كتب عن خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين صفحة فقط , وكتب عن الفتنة التي وقعت بين الصحابة مائتي صفحة , فقام المؤلف باختصار التاريخ الناصع المشرق وسود الصحائف بتاريخ زائف لم يثبت منه إلا القليل , وهذه من أخلاق الروافض المعهودة , نعوذ بالله من الضلال والخذلان " انتهى.
وقال الشيخ مشهور حسن سلمان في كتابه "كتب حذر منها العلماء" (2/298-301) : " الإمامة والسياسة: كتاب مكذوب على ابن قتيبة ـ رحمه الله تعالى ـ، وعلى الرغم من ذلك؛ فهو مصدر هام عند كثير من المؤرخين المعاصرين، ويجب التعامل مع هذا الكتاب بحذر شديد؛ إذ حوى مغالطات كثيرة، ولذا؛ شكك ابن العربي من نسبة جميع ما فيه لابن قتيبة.
والأدلة على عدم صحة نسبة هذا الكتاب لابن قتيبة كثيرة. منها:
1. أن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكروا هذا الكتاب بين ما ذكروه له، اللهم إلا القاضي أبا عبد الله التوزي المعروف بابن الشباط، فقد نقل عنه في الفصل الثاني من الباب الرابع والثلاثين من كتابه (صلة السمط) .
2. أن الكتاب يذكر أن مؤلفه كان بدمشق. وابن قتيبة لم يخرج من بغداد إلا إلى دينور.
3. أن الكتاب يروى عن أبي ليلى، وأبو ليلى كان قاضياً بالكوفة سنة (148هـ) أي قبل مولد ابن قتيبة بخمس وستين سنة.
4. أن المؤلف نقل خبر فتح الأندلس عن امرأة شهدته، وفتح الأندلس كان قبل مولد ابن قتيبة بنحو مائة وعشرين سنة.
5. أن مؤلف الكتاب يذكر فتح موسى بن نصير لمراكش، مع أن هذه المدينة شيدها يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين سنة (455هـ) وابن قتيبة توفي سنة (276هـ) .
6. أن هذا الكتاب مشحون بالجهل والغباوة والركة والكذب والتزوير؛ ففيه أبو العباس والسفاح شخصيتان مختلفتان، وهارون الرشيد هو الخلف المباشر للمهدي، وأن الرشيد أسند ولاية العهد للمأمون، وهذه الأخطاء يتجنبها صغار المؤرخين، فضلاً عمن هو مثل ابن قتيبة الذي قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (…. وكان أهل المغرب يعظمونه ويقولون: من استجاز الوقيعة فيه يتهم بالزندقة، ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه) .
7. أن مؤلف (الإمامة والسياسة) يروي كثيراً عن اثنين من كبار علماء مصر، وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ من هذين العالمين؛ فدل هذا على أن الكتاب مدسوس عليه.
وقد جزم بوضع الكتاب على ابن قتيبة غير واحد من الباحثين، من أشهرهم:
1- محب الدين الخطيب في مقدمة كتاب ابن قتيبة (الميسر والقداح) ص 26-27.
2- ثروت عكاشة في مقدمة كتاب ابن قتيبة (المعارف) ص 56.
3- عبد الله عسيلان في سالة صغيرة مطبوعة بعنوان (كتاب الإمامة والسياسة في ميزان التحقيق العلمي) ، ساق فيها اثني عشر دليلاً على بطلان نسبة هذا الكتاب لابن قتيبة.
4- عبد الحميد عويس في كتابه (بنو أمية بين الضربات الخارجية والانهيار الداخلي) ص 9-10.
5- سيد إسماعيل الكاشف في كتابه (مصادر التاريخ الإسلامي) ص33.
6- وقد قُدِّمت في الجامعة الأردنية كلية الآداب عام 1978م رسالة ماجستير عنوانها (الإمامة والسياسة دراسة وتحقيق) ، قال الباحث فيها: وعلى ضوء هذه الدراسة؛ فقد تبين أن ابن قتيبة الدينوري بعيد عن كتاب (الإمامة والسياسة) ، وبنفس الوقت؛ فإنه لم يكن بالإمكان معرفة مؤلف الكتاب، مع تحديد فترة وفاته بحوالي أواسط القرن الثالث الهجري، 7- وقد جزم ببطلان نسبة هذا الكتاب لابن قتيبة أيضاً السيد أحمد صقر في مقدمة تحقيقه لـ (تأويل مشكل القرآن) ص32؛ فقال: (كتاب مشهور شهرة بطلان نسبته إليه) ، ثم قال بعد أن ساق بعض الأدلة الآنفة الذكر: (إن هذا وحده يدفع نسبة الكتاب إلى ابن قتيبة، فضلاً عن قرائن وأدلة أخرى كلها يثبت تزوير هذه النسبة) . وإلى هذا ذهب الحسيني في رسالته (ص77-78) ، والجندي في كتابه عن ابن قتيبة (169-173) ، وفاروق حمادة في (مصادر السيرة النبوية) ص91، وشاكر مصطفى في (التاريخ العربي والمؤرخون) (1/241-242) ، والله الموفق " انتهى.
وإذا كان الكتاب لا يعرف مؤلفه، وفيه من الانحراف والضلال ما مر عليك، فلا وزن له ولا قيمة، وفي كتب التاريخ المعروفة غنية وكفاية.
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (105660) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/9)
زيد بن أسلم وأبوه من موالي عمر بن الخطاب رضي الله عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[في ترجمة زيد بن أسلم، يُذكر أنه مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووفاة زيد بن أسلم كانت سنة 136هـ أو نحوها، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففي سنة 23هـ، فيستبعد أن يكون أدركه.. فكيف يكون مولًى له؟ في بعض المصادر وجدت أن (أسلم) والد (زيد بن أسلم) كان مولى لعمر رضي الله عنه، هل لهذا علاقة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أسلم " وكنيته أبو زيد، اشتراه بمكة في موسم الحج في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذكر ذلك محمد بن إسحاق.
واختلفت الروايات في نسبه، فقيل هو حبشي، وقيل يماني من الأشعريين، وقيل قرشي عدوي، والله أعلم بالصواب.
وقد لازم أسلمُ عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه، وحفظ عنه، وروى عنه الأحاديث الكثيرة، وروى عن أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم، حتى وصفه الإمام الذهبي بأنه الفقيه الإمام، وهو من رواة الكتب الستة، توفي سنة ثمانين للهجرة.
انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/98-99) .
وأما ابنه " زيد بن أسلم " فهو من أئمة العلم والحديث أيضا، وصفه الذهبي بأنه الإمام الحجة القدوة الفقيه، وله من الأبناء من رواة الحديث والتفسير: أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، وقال البخاري: كان علي بن الحسين يجلس إلى زيد بن أسلم، فكُلِّمَ في ذلك فقال: إنما يجلس الرجل إلى مَن ينفعه في دينه. توفي " زيد بن أسلم " سنة (136هـ) .
وزيد لم يدرك عمر بن الخطاب قولا واحدا، بل لم يدرك الكثير من الصحابة، وحديثه عن كثير منهم مرسل، وإنما يقال عنه إنه مولى عمر بن الخطاب لأن أباه كان مولاه، فيجوز وصفه ووصف جميع أبنائه بأنهم من موالي عمر بن الخطاب وإن لم يدركوه.
وكثيرا ما يكون قصد الكاتب وصف والده " أسلم " أنه مولى عمر بن الخطاب، فيقول: " زيد بن أسلم مولى عمر " فيفهم القارئ أن قوله " مولى عمر " تعود على زيد، وإنما المقصود عودها على " أسلم "، وإن كان عودها على " زيد " صحيح أيضا كما سبق.
وننقل هنا شيئا من ترجمة الإمام زيد بن أسلم، لما فيها من فوائد وعبر:
جاء في ترجمته في "تهذيب الكمال" (10/15) للحافظ المزي رحمه الله:
" قَال الواقدي، عن مالك: كانت لزيد بن أسلم حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَقَال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال لي أبو حازم: لقد رأيتنا في مجلس أبيك أربعين حبرا فقهاء، أدنى خصلة منا التواسي بما في أيدينا، فما رئي منا متماريان، ولا متنازعان في حديث لا ينفعهما قط.
قال: وكان أبو حازم يقول: اللهم، إنك تعلم أني أنظر إلى زيد فأذكر بالنظر إليه القوة على عبادتك، فكيف بملاقاته ومحادثته؟ .
وَقَال مالك: كان زيد بن أسلم يحدث من تلقاء نفسه، فإذا سكت قام، فلا يجترئ عليه إنسان. قال: وكان يقول: ابن آدم، اتق الله يحبك الناس وإن كرهوا.
وَقَال مصعب بن عَبد الله الزبيري، عَن أبيه، عن جده: سمعت زيد بن أسلم يقول: انظر من كان رضاه عنك في إحسانك إلى نفسك، وكان سخطه عليك في إساءتك إلى نفسك، فكيف تكون مكافأتك إياه " انتهى باختصار.
وانظر: "سير أعلام النبلاء" (5/316) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/10)
لماذا لم تلبس النساء النقاب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؟
[السُّؤَالُ]
ـ[روى البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه حينما استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده بعض النساء يسألنه، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، إلى آخر الحديث، فهل تدل هذه الحادثة أن النقاب كان معروفاً لدى النساء حينها، ولكنه لم يكن فرضاً عليهن فلم ترتديه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روى البخاري (3120) ومسلم (2396) عن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: (اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ أَيْ: عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
وليس في هذا الحديث ما يدل على جواز كشف المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب عنها.
1. لأن هؤلاء النسوة اللاتي كن عند النبي صلى الله عليه وسلم هن بعض أمهات المؤمنين، بدليل قوله: (يستكثرنه) ، أي: يسأله زيادة النفقة.
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (7 / 47) : " (وعنده نسوة من قريش) هنَّ مِن أزواجه، ويحتمل أن يكون معهنَّ من غيرهن، لكن قرينة قوله: (يستكثرنه) يؤيد الأول" انتهى.
2. على فرض أنه كان مع أمهات المؤمنين غيرهن من النساء، فليس في الحديث أن هذا كان بعد فرض الحجاب، فيحتمل أنه كان قبل ذلك.
قال السندي في حاشيته على صحيح البخاري " (4 / 21) : " لا يخفى أن المبادرة إلى الحجاب لازمة عند دخول الأجنبي سواء كان عمر أو لا، فما وجه التعجب؟ .
فلعلَّ الواقعة كانت قبل آية الحجاب، أو لعل فيهن من يجوز لها الكشف عند عمر كحفصة مثلاً، فالتعجب بالنظر إلى قيامها، أو لعل التعجب من إسراعهن قبل أن يعلمن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يأذن له أم لا؟ وهذا أقرب إلى لفظ الحديث، والله تعالى أعلم " انتهى.
ثم لا يصح أن يقال: إن كشفهم وجوههن أمام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على جواز كشف المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب عنها؛ وذلك لأن من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما اختاره الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" ـ أنه يجوز له النظر إلى وجه المرأة، وأن يخلو بها، كما جاز له أن يتزوج أكثر من أربع، وأن يتزوج بلا ولي.
وللفائدة ينظر جواب السؤال رقم (45696) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/11)
هل حدث زلزال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل وقعت زلازل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يثبت في كتب السنة والأثر بالسند المتصل الصحيح أن المدينة زلزلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد في ذلك إنما جاء بأسانيد ضعيفة مرسلة، وهذا بيانها:
أولا:
عن محمد بن عبد الملك بن مروان قال: (إن الأرض زلزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عليها ثم قال: اسكني فإنه لم يأن لك بعد، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه) رواه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" (رقم/18) قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني علي بن محمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو مريم، قال: أخبرنا العطار ابن خالد الحرمي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الملك بن مروان به.
وهذا إسناد ضعيف، فيه عدة علل، منها:
1- الإعضال والإرسال، فوفاة محمد بن عبد الملك بن مروان كانت سنة (266) ، فكيف يُحَدِّثُ عن أمر وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقله غيره.
2- العطار بن خالد الحرمي: لم أجد له ترجمة.
ثانيا:
عن شهر بن حوشب قال: (زلزلت المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/357) قال: حدثنا حفص عن ليث عن شهر به.
وهذا إسناد ضعيف، فيه عدة علل:
1- الإرسال، فشهر بن حوشب توفي سنة (112هـ) ، ولم يدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
2- ثم هو مضعف في نفسه عند بعض أهل العلم، قال شعبة: لم أعتد به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات المعضلات، وعن الأثبات المقلوبات. وقال البيهقي: ضعيف. ووثقه آخرون، لذلك قال فيه الحافظ ابن حجر: صدوق كثير الإرسال والأوهام. انظر "تهذيب التهذيب" (4/371) .
3- ليث بن أبي سليم: اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك. انظر: "تهذيب التهذيب" (8/468) .
لذلك قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/222) : " هذا مرسل ضعيف " انتهى.
وقد روي هذا القول من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، كما جاء في تفسير الطبري (17/478) : حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا) ، وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذَّكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يا أيها الناس! إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
والحاصل أنه لم يثبت وقوع الزلزال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع بعده في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، روى ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/358) وغيره، عن نافع عن صفية قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر فخطب الناس فقال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم. ذكر ذلك ابن الجوزي في "المنتظم" في أحداث سنة عشرين للهجرة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/12)
هل يوجد أحدٌ الآن من " آل البيت "؟ وماذا عن ادعاءات كثيرين له؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوجد أحد من نسل النبي صلى الله عليه وسلم ويكون جدهم عن طريق فاطمة رضي الله عنها؟ وما قولك في الذين يدعون أنهم من آل البيت من السنَّة والشيعة في يومنا هذا، ويقولون: نحن لا نأكل الصدقات؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
علم الأنساب علم جليل، وقد كان أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه أعلم الناس بالنسب، وقد أخطأ من قال: إنه علمٌ لا ينفع، والجهل به لا يضر، وكيف يكون هذا مع الأمر منه صلى الله عليه وسلم بالتعرف على النسب لأجل صلة الرحم؟ وكيف يكون هذا مع الوعيد على من انتسب إلى غير أبيه، أو إلى غير قبيلته؟ .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) . رواه الترمذي (1979) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
(مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) يَعْني: زِّيَادَة فِي الْعُمُرِ.
قال ابن عبد البر رحمه الله: " ولعمْري ما أنصف القائل: " إن عِلْم النسب عِلْم لا يَنفع، وجَهالة لا تضر "؛ لأنه بيِّن نفعُه لما قدّمنا ذكره؛ ولما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كُفْرٌ بالله تبرُّؤ من نسب وإن دق، وكفر بالله ادعاء إلى نَسب لا يُعرف) – رواه أحمد وابن ماجه، وحسَّنه الأرناؤط والألباني -.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مثلُه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صَرفاً ولا عدلاً) – رواه الترمذي، وصححه الألباني -.
فلو كان لا منفعة له: لمَا اشتغل العلماء به، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان أعلم الناس بالنسب، نسب قريش، وسائر العرب، وكذلك: جُبير بن مطعم، وابن عباس، وعقيل بن أبي طالب، كانوا مِن أعلم بذلك، وهو عِلم العرب الذي كانوا به يتفاضلون، وإليه ينتسبون " انتهى.
"الإنباه عن قبائل الرواة" (ص1) .
ثانياً:
النسب الشريف ادَّعاه كثيرون، من أجل الشهرة، وتسويق البدع والانحرافات، ومن أجل الاستيلاء على أموال الناس، وأكثر من ادَّعى هذا النسب الشريف للنبي صلى الله وسلم هم الرافضة، والمتصوفة، ومنهم رؤوس لتلك الفرق الضالة.
1. قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الحسن الشاذلي (توفي 656 هـ) وهو رأس الطائفة الشاذلية -:
" وقد انتسب في بعض مؤلفاته في التصوف إلى " علي بن أبي طالب "، ثم ذكر هذا النسب الذي ادعاه: ابن يوشع بن ورد بن بطال بن محمد بن أحمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي رضي الله عنه.
ثم قال الذهبي: وهذا نسب مجهول لا يصح ولا يثبت، وكان الأولى به تركه، وترك كثير مما قاله في تواليفه في الحقيقة " انتهى.
"تاريخ الإسلام" (48/273، 274) .
2. وفي " العبيديين " – أبناء عبيد بن ميمون القداح – الباطنية، الذين تسموا – كذباً وزوراً بـ " الفاطميين " – قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فالشاهد لهم بالإيمان: شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم، وكذلك " النسب "، قد عُلم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم، وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه؛ فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم.
وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه: فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة، وغيرهما من أهل العلم بذلك، حتى صنَّف العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم، كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بيَّن فيه أن مذاهبهم شرٌّ من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية " علي "، أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (35 / 128، 129) .
وأما الذين يدعون هذا النسب الشريف من الرافضة العجم فهم كثير في زماننا هذا.
ثالثاً:
ثبوت النسب الشريف له طرق كثيرة:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " وأما طريق ثبوت النسب الشريف: فذلك يعرف من أمور كثيرة:
أحدها: النص من المؤرخين الثقات أن البيت الفلاني، أو آل فلان من أهل البيت، ويعرف أن الشخص الذي يشتهر فيه من أهل ذلك البيت المنصوص عليه من المؤرخين الثقات.
ومنها: أن يكون بيد من يدَّعي أنه من أهل البيت وثيقة شرعية من بعض القضاة المعتبرين، أو العلماء الثقات: أنه من أهل البيت.
ومنها: الاستفاضة عند أهل البلد أن آل فلان من أهل البيت.
ومنها: وجود بيِّنة عادلة، لا تنقص عن اثنين، تشهد بذلك، مستندة في شهادتها إلى ما يحسن الاعتماد عليه، من تاريخ موثوق، أو وثائق معتبرة، أو نقل عن أشخاص معتبرين.
وأما مجرد الدعوى التي ليس لها مبرر: فلا ينبغي الاعتماد عليها، لا في هذا، ولا في غيره " انتهى.
"فتاوى إسلامية" (4/531) .
رابعاً:
لا يمكن لأحدٍ إنكار وجود من ينتسب إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم انتساباً صحيحاً، سواء من بني هاشم - وهم آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب -، أو من بني المطلب – والمطلب هو أخو هاشم -.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" إذا قال قائل: هل هؤلاء موجودون؟ أعني: بني هاشم، والمطلب؟ .
قلنا: نعم، موجودون، وقد ذكروا أن مِنْ أثبت الناس نسباً لبني هاشم: ملوك اليمن الأئمة، الذين انتهى ملكهم بثورة الجمهوريين عليهم قريباً، فهم منذ أكثر من ألف سنة متولون على اليمن، ونسبهم مشهور، معروف بأنهم من بني هاشم.
ويوجد ناس كثيرون أيضاً ينتمون إلى بني هاشم، فمن قال: أنا من بني هاشم: قلنا: لا تحل لك الزكاة؛ لأنك من آل الرسول صلّى الله عليه وسلّم " انتهى.
" الشرح الممتع " (6 / 257) .
والنسب الشريف لا يجوز حصره في آل علي – وهم ذرية علي بن أبي طالب – فقط دون غيره، فقد سبق أن هذا النسب يسع غيرهم ممن ذكرناهم.
مع التنبيه على أن النسب الشريف لا ينفع صاحبه إن كان كافراً، أو فاجراً، ولا يضر المسلم الطائع لربه تعالى أن يكون عبداً مملوكاً، فالمسلم يلقى ربه بأعماله الصالحة، وهو مما يملك أن يزيد فيها وينقص، وأما النسب الشريف: فهو ليس في اختيار المسلم، ولن يكون لصاحبه فضل في الآخرة بمجرد انتسابه ذاك.
قال الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/97.
خامساً:
أما بخصوص تحريم الصدقات: فننبه على أمرين:
1. الصدقات الممنوعة على آل النبي صلى الله عليه وسلم هي الصدقات الواجبة ـ كالزكاة والكفارات ـ دون صدقات التطوع.
2. لا تحرم الزكاة على كل الأشراف، بل المنع والتحريم على " بني هاشم " منهم فقط، وهم ذرية هاشم بني عبد مناف، وهو الجد الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ولفظ " الأشراف " لا يتعلق به حكم شرعي، وإنما الحكم يتعلق بـ " بني هاشم "، كتحريم الصدقة، وأنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك " انتهى.
" منهاج السنة النبوية " (4 / 559) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" إذا كانت الصدقة صدقة تطوع: فإنها تُعطى إليهم، ولا حرج في هذا، وإن كانت الصدقة واجبة: فإنها لا تعطى إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ) ، وبنو هاشم شرَّفهم الله عز وجل بألا يأخذوا من الناس أوساخهم، أما صدقة التطوع: فليست وسخاً في الواقع، وإن كانت لا شك تكفر الخطيئة، لكنها ليست كالزكاة الواجبة، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنهم يعطون من صدقة التطوع، ولا يعطون من الصدقة الواجبة " انتهى.
"مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (18/429) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/13)
تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تقسيم العرب إلى عرب عاربة ومستعربة صحيح؟ وهل هذا يتعارض مع القرآن أم لا؟ وهل صحيح أن هذا التقسيم أتى من اليهود؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
توارد الأخباريون والمؤرخون والنسَّابون على تقسيم العرب – من حيثُ القِدَمُ - إلى طبقات ثلاثة: عربٌ بائدة، وعربٌ عاربة، وعربٌ مستعربة.
1- أما العرب البائدة: فهم مثل أقوام عاد، وثمود، وجديس، وعبيل، وجُرهُم، أطلق عليهم اسم " البائدة " لقدمهم النسبي، ولاندثارهم قبل الإسلام.
2- وأما العرب العاربة فهم القحطانيون، أبناء قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، كما يذكر ذلك أكثر النسابين.
3- وأما العرب المستعربة أو المتعربة، ويقال لهم " العدنانيون "، أو " النزاريون "، أو " المعديون "، وهم من صلب سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، الذي تزوج من رعلة الجرهمية، فتعلم منهم العربية، فسموا المستعربة، وصار نسلهم من العرب، واندمجوا فيهم، وهم ينتسبون إلى عدنان من نسل سيدنا إسماعيل عليه السلام، غير أن ثمة خلافا كبيرا بين النسابين في عدد الآباء بينهما.
ومضمون هذا التقسيم لا تكاد تختلف فيه كتب التاريخ والأنساب، ولكن الخلاف واقع في الأسماء، فبعضهم يسمي العرب البائدة بالعاربة، وآخرون يسمونهم بالعرباء ونحو ذلك من الخلاف.
ولا نجد أي تعارض بين هذا التقسيم وبين الحقائق الواردة في القرآن الكريم، كما نستبعد جدا أن يكون مضمون هذا التقسيم مأخوذا عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك لسببين اثنين:
السبب الأول:
توارد جميع كتب التاريخ والأنساب على تقسيم العرب إلى القحطانيين والعدنانيين، حتى قال الحافظ ابن عبد البر في مقدمة كتابه "الإنباه على قبائل الرواه" (ص/2) :
" هذا كتاب أخذته من أمهات كتب العلم بالنسب وأيام العرب، بعد مطالعتي لها، ووقوفي على أغراضها، فمن ذلك: كتاب أبي بكر محمد بن إسحاق، وكتاب أبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وكتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى، وكتاب محمد بن سليمان، وكتاب محمد بن حبيب، وكتاب أبي عبد الله أحمد بن محمد بن عبيد العدويّ في نسب قريش، وكتاب الزبير بن بكار في نسب قريش، وكتاب عمه مصعب بن عبد الله الزبيري في ذلك، وكتاب علي بن كيسان الكوفي في أنساب العرب قاطبة، وكتاب علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكتاب عبد الملك بن حبيب الأندلسي، إلى فِقَرٍ قيّدتها من الحديث والآثار، ونوادر اقتطفتها من كتب أهل الأخبار " انتهى.
فانظر عدد هذه المراجع القديمة، فضلا عمن جاء بعدهم، أو فات ابن عبد البر ذكرهم، وقد ذكر الحافظ في كتابه هذا التقسيم المشهور للعرب.
السبب الثاني: عدم ورود شيء عن العرب البائدة في التوراة المحرفة التي بين أيدي الناس اليوم، بل إن اليهود ينكرون وجود أقوام عاد وثمود ونحوهم، فكيف يكون هذا التقسيم مأخوذا عنهم.
يقول الطبري رحمه الله: " فأما أهل التوراة، فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه " انتهى.
"تاريخ الأمم والملوك" (1/141) .
وقد تمكن علماء الآثار من الوقوف على حقائق جغرافية وتاريخية تدل على وجود هؤلاء الأقوام، وعدمُ ذكر التوراة لهم إنما هو لأن أكثرهم عاشوا بعد التوراة، أو لأن التوراة لا تهتم بأخبار العالم من غير العبرانيين.
يقول الدكتور جواد علي:
" اتفق الرواة وأهل الأخبار، أو كادوا يتفقون، على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة وعرباء وهم الخلص، والمتعربة.
واتفقوا أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث النسب إلى قسمين: قحطانية، منازلهم الأولى في اليمن. وعدنانية، منازلهم الأولى في الحجاز.
واتفقوا، أو كادوا يتفقون، على أن القحطانيين هم عرب منذ خلقهم الله، وعلى هذا النحو من العربية التي نفهمها ويفقهها من يسمع هذه الكلمة، فهم الأصل، والعدنانية الفرع منهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، شرح الله صدر جدهم إسماعيل، فتكلم بالعربية، بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه التي كانت الآرامية، أو الكلدانية، أو العبرانية على بعض الأقوال.
ونجد الأخباريين والمؤرخين يقسمون العرب أحيانًا إلى طبقتين: عرب عاربة، وعرب مستعربة ... وظل الرواة يتوارثون هذا التقسيم كلما بحثوا في تأريخ العرب قبل الإسلام، وفي موضوع الأنساب.
وتقسيم العرب إلى طبقات - وذلك من ناحية القدم والتقدم في العربية - هو تقسيم لا نجد له ذكرًا لا في التوراة أو الموارد اليهودية الأخرى، ولا في الموارد اليونانية أو اللاتينية، أو السريانية، ويظهر أنه تقسيم عربي خالص، نشأ من الجمع بين العرب الذين ذكر أنهم بادوا قبل الإسلام، فلم تبقَ منهم غير ذكريات، وبين العرب الباقين، وهم إما من عدنان، وإما من قحطان " انتهى باختصار.
"المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (1/294 فما بعدها) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/14)
ترجمة موجزة للحافظ ابن كثير
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو ابن كثير؟ عرفت أن ابن كثير كان شافعيًا فلماذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الكلام في ترجمة الحافظ ابن كثير ضمن الفقرات الآتية:
أولا: اسمه ونسبه ومولده.
هو الحافظ المؤرخ المفسر عماد الدين أبو الفداء: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء القرشي البصروي، ثم الدمشقي.
ولد بمجدل من أعمال دمشق سنة (701هـ) ، ثم انتقل إلى دمشق مع أخيه كمال الدين سنة (707هـ) بعد موت أبيه.
ثانيا: طلبه للعلم.
حفظ القرآن الكريم وختم حفظه في سنة (711هـ) ، وقرأ القراءات وبرع في التفسير، وحفظ متن " التنبيه " في الفقه الشافعي سنة (718هـ) ، وحفظ مختصر ابن الحاجب، وتفقه على الشيخين برهان الدين الفزاري، وكمال الدين ابن قاضي شهبة.
ثم صاهر الحافظ أبا الحجاج المزي، فتزوج ابنته زينب، ولازمه، وأخذ عنه، وأقبل على علم الحديث فتخرج عليه فيه، وصحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكانت له به خصوصية، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأوذي.
وقرأ الأصول على الأصفهاني وسمع علي أبي نصر ابن الشيرازي، وأبي القاسم بن عساكر، وآخرين كثيرين جدا.
وأقبل على حفظ المتون، ومعرفة الأسانيد والعلل والرجال والتاريخ، حتى برع في ذلك وهو شاب، وأفتى ودرس وناظر وبرع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن النظر في الرجال والعلل.
ثالثا: مكانته العلمية.
ولي العديد من المدارس العلمية في ذلك العصر، منها: دار الحديث الأشرفية، والمدرسة الصالحية، والمدرسة النجيبية، والمدرسة التنكزية، والمدرسة النورية الكبرى.
رابعا: ثناء العلماء عليه وذكر بعض مصنفاته.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمته:
" إسماعيل بن عمر بن كثير: الإمام، الفقيه، المحدث الأوحد، البارع، عماد الدين البصروي الشافعي، فقيه متقن، ومحدث متقن، ومفسر نقال، وله تصانيف مفيدة، يدري الفقه، ويفهم العربية والأصول، ويحفظ جملة صالحة من المتون والتفسير والرجال وأحوالهم، سمع مني، وله حفظ ومعرفة " انتهى.
"معجم المحدثين" (1/56) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القيسي البصروي، الشيخ عماد الدين.
ولد سنة سبعمائة أو بعدها بيسير، ومات أبوه سنة (703) ، ونشأ هو بدمشق، وسمع من ابن الشحنة، وابن الزراد، وإسحاق الآمدي، وابن عساكر، والمزي، وابن الرضى، وطائفة.
وأجاز له من مصر الدبوسي، والواني، والختني، وغيرهم.
واشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله، فجمع التفسير، وشرع في كتاب كبير في الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذي سماه البداية والنهاية، وعمل طبقات الشافعية، وخرج أحاديث أدلة التنبيه، وأحاديث مختصر ابن الحاجب الأصلي، وشرع في شرح البخاري ولازم المزي، وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته، وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه، وامتحن لسببه، وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق المحدثين في تحصيل العوالي وتمييز العالي من النازل ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدثي الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد " انتهى.
"الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" (1/445-446) .
خامسا: مذهبه.
تفقه الإمام ابن كثير على فقهاء الشافعية في زمانه، فحفظ كتبهم، ودرس علومهم، بل وكتب الكتب المختصة بهم، فقد كان مذهب الشافعية هو المذهب المنتشر في بلاد الشام ومصر.
يقول الإمام السبكي رحمه الله:
" وهذان الإقليمان – يعني الشام ومصر - وما معهما من عيذاب - وهي منتهى الصعيد إلى العراق - مركز ملك الشافعية منذ ظهر مذهب الشافعي، اليد العالية لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم، ومنذ انتشر مذهبه لم يول أحد قضاء الديار المصرية إلا على مذهبه، إلا ما كان من القاضي بكار، ولم يول في الشام قاض إلا على مذهبه، إلا البلاساغوني، وجرى له ما جرى، فإنه ولي دمشق وأساء السيرة، ثم أراد أن يعمل في جامع بني أمية إماما حنفيا، وجامع بني أمية منذ ظهور مذهب الشافعي لم يؤم فيه إلا شافعي، ولا صعد منبره غير شافعي، فأراد هذا القاضي إحداث إمام حنفي.
قال ابن عساكر: فأغلق أهل دمشق الجامع، ولم يمكنوه، ثم عزل القاضي، واستمرت دمشق على عادتها لا يليها إلا شافعي إلى زمن الظاهر بيبرس التركي، ضم إلى الشافعي القضاة من المذاهب الثلاثة.
قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: وقبل ظهور مذهب الشافعي في دمشق لم يكن يلي القضاء بها والخطابة والإمامة إلا أوزاعي، على رأي الإمام الأوزاعي " انتهى.
"طبقات الشافعية الكبرى" (1/326) .
فليس من المستغرب أن يكون ابن كثير شافعي المذهب.
ولا يلزم مما سبق خلو بلاد الشام من المذاهب الأخرى، فقد كان للحنابلة – مثلا - حضور ظاهر في الشام، يتمثل حضورهم بعبد الغني المقدسي وعائلته ومن جاء بعدهم، وبآل تيمية أيضا، وبغيرهم من علماء المذاهب الأخرى.
سادسا: وفاته.
توفي في شعبان سنة (774هـ) ، وكان قد أضر في أواخر عمر.
انظر ترجمة موسعة له في مقدمة تحقيق "البداية والنهاية" بإشراف د. عبد الله التركي (1/13-33) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/15)
هل في الكتاب والسنَّة إشارة إلى حصول "الاحتباس الحراري"؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يقول القرآن والإسلام في المشكلة الكبيرة جدّاً في العالم كله، والمسمَّاة بـ " ارتفاع درجة حرارة الأرض "؟ يقولون: إن ثلوج العالم ستنصهر خلال عدة عقود، مما سيكون له تأثيرات خطيرة، هل ذكر شيء في القرآن والإعجاز العلمي فيه عن هذا الأمر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مشكلة " الاحتباس الحراري " تعد من أبرز مشكلات العصر البيئية، والتي عقد من أجلها الخبراء المؤتمرات الكثيرة، ونشرت أبحاث متعددة تحذر من عواقبها الوخيمة، وهؤلاء الخبراء يُعزون هذا الارتفاع في الحرارة لما تسببه المصانع، ومحطات الطاقة، وعوادم السيارات من غازات تتراكم في غلاف الأرض، مما يسبب ارتفاعاً لحرارة الهواء، وحرارة المحيطات، وينذر ذلك بذوبان الجليد وتدفقه في الأرض، مما يتوقع أن يغير ذلك من معالم كاملة لبعض الدول، ومن تغيير كبير في مناخ مساحات شاسعة في الأرض.
ولم نجد ما يتعلق بهذا في القرآن والسنَّة إلا حديثاً واحداً، ذكر بعض العلماء المتخصصين في الشرع والعلوم البيئية أن له تعلُّقاً بالموضوع، وأقرَّهم على ذلك بعض أبرز الاختصاصيين في العالم، وهو رجوع جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، وقد عزوا ذلك إلى تغير كامل في مناخ الأرض، وهو ذوبان " القطب الشمالي المتجمد " بسبب الاحتباس الحراري.
والذي نراه أن رجوع جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً أمر لا شك فيه، ولكن لا يمكن الجزم بأن ذلك سيكون بسبب الذوبان الجليدي، فإن علم ذلك عند الله تعالى، ولكننا نذكر هذا القول استئناساً، ولأنه قد قيل من قبل اختصاصيين من مسلمين، وكفار.
والحديث هو:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) رواه مسلم (157) . والمروج: هي الأرض الواسعة كثيرة النبات.
1. قال الدكتور " زغلول النجار " – وفقه الله -:
"وهذا الحديث الشريف من المعجزات العلمية التي تصف حقيقة كونية لم يدركها العلماء إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، حين ثبت لهم بأدلة قاطعة أن " جزيرة العرب " كانت في القديم مروجاً وأنهاراً , كما تشير الدراسات المناخية إلى أن تلك الصحراء القاحلة في طريقها الآن للعودة مروجاً وأنهاراً مرة أخرى , وذلك لأن كوكب الأرض يمر - في تاريخه الطويل - بدورات مناخية متقلبة تتم على مراحل زمنية طويلة ومتدرجة - كما قد تكون فجائية , ومتسارعة.
وتشير الدراسات المناخية إلى أننا مقدمون على فترة مطيرة جديدة، شواهدها بدايات " زحف للجليد " في نصف الكرة الشمالي باتجاه الجنوب , وانخفاض ملحوظ في درجات حرارة فصل الشتاء.
وإشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفترة الجليدية في حديثه الكريم (حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) : مما يشهد له بالنبوة، وبالرسالة , وبأنه عليه الصلاة وأزكى التسليم كان دوماً موصولاً بالوحي , ومُعَلَّمًا من قِبَل خالق السماوات والأرض" انتهى باختصار، من: http://www.eqraa.com/forums/index.php? showtopic=3687
2. وقال الشيخ عبد المجيد الزنداني – وفقه الله -:
"العالم البروفسيور " الفريد كرونير " من أشهر علماء الجيولوجيا في العالم، حضر مؤتمراً جيولوجيّاً في كلية " علوم الأرض " في جامعة " الملك عبد العزيز "، قلت له: هل عندكم حقائق أن جزيرة العرب كانت بساتين وأنهاراً؟ فقال: نعم، هذه مسألة معروفة عندنا، وحقيقة من الحقائق العلمية، وعلماء الجيولوجيا يعرفونها؛ لأنك إذا حفرت في أي منطقة تجد الآثار التي تدلك على أن هذه الأرض كانت مروجاً وأنهاراً , والأدلة كثيرة، قلت له: وهل عندك دليل على أن بلاد العرب ستعود مروجاً وأنهاراً؟ قال: هذه مسألة حقيقية، ثابتة، نعرفها نحن الجيولوجيون، ونقيسها، ونحسبها , ونستطيع أن نقول بالتقريب متى يكون ذلك، وهي مسألة ليست عنكم ببعيدة، وهي قريبة، قلت: لماذا؟ قال: لأننا درسنا تاريخ الأرض في الماضي، فوجدنا أنها تمر بأحقاب متعددة من ضمن هذه الأحقاب المتعددة، حقبة تسمَّى " العصور الجليدية "، وما معنى العصر الجليدي؟ معناه: أن كمية من ماء البحر تتحول إلى ثلج، وتتجمع في " القطب المتجمد الشمالي "، ثم تزحف نحو الجنوب، وعندما تزحف نحو الجنوب: تغطي ما تحتها، وتغير الطقس في الأرض , ومن ضمن تغيير الطقس: تغيير يحدث في بلاد العرب , فيكون الطقس بارداً , وتكون بلاد العرب من أكثر بلاد العالم أمطاراً وأنهاراً.
قلت له: تأكد لنا هذا؟ .
قال: نعم، هذه حقيقة لا مفر منها.
قلت له: اسمع، مَن أخبر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بذلك؟ هذا كله مذكور في حديث رواه مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) مَن قال لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أرض العرب كانت مروجاً وأنهاراً؟! ففكَّر، وقال:
الرومان! ، فقلت له: ومَن أخبره بأن أرض العرب ستعود مروجاً وأنهاراً؟ ففكر، وفكر وقال: (فيه فوق!!) وهنا قلت له: اكتب، فكتب بخطه: " لقد أدهشتني الحقائق العلمية التي رأيتها في القرآن والسنَّة، ولم نتمكن من التدليل عليها إلا في الآونة الأخيرة بالطرق العلمية الحديثة، وهذا يدل على أن النبي محمَّداً صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى هذا العلم إلا بوحي علوي ".
والله هذا الألماني ما مرَّ بيني وبينه سوى ساعتين ونصف ساعة حتى قال هذا كله، وهذا عملاق من عمالقة العلم، ويكتب هذا، ويقره، وهذا يدل على أن هناك عِلماً واحداً، وحقيقة واحدة، وإلهاً واحداً" انتهى باختصار من: http://www.science4islam.com/index.aspx?act=da&id=133
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/16)
القبة الخضراء في المدينة، تاريخها، وحكم بنائها، وبقائها
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كانت القبة الخضراء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمؤدية إلى الشرك، فلماذا لا تزيلها الحكومة السعودية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
تاريخ القبة الخضراء
لم تكن القبة التي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم موجودة إلى القرن السابع، وقد أُحدث بناؤها في عهد السلطان قلاوون، وكان لونها أولاً بلون الخشب، ثم صارت باللون الأبيض، ثم اللون الأزرق، ثم اللون الأخضر، واستمرت عليه إلى الآن.
قال الأستاذ علي حافظ حفظه الله:
"لم تكن على الحجرة المطهرة قبة، وكان في سطح المسجد على ما يوازي الحجرة حظير من الآجر بمقدار نصف قامة تمييزاً للحجرة عن بقية سطح المسجد.
والسلطان قلاوون الصالحي هو أول من أحدث على الحجرة الشريفة قبة، فقد عملها سنَة 678 هـ، مربَّعة من أسفلها، مثمنة من أعلاها بأخشاب، أقيمت على رؤوس السواري المحيطة بالحجرة، وسمَّر عليها ألواحاً من الخشب، وصفَّحها بألواح الرصاص، وجعل محل حظير الآجر حظيراً من خشب.
وجددت القبة زمن الناصر حسن بن محمد قلاوون، ثم اختلت ألواح الرصاص عن موضعها، وجددت، وأحكمت أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد سنة 765 هـ، وحصل بها خلل، وأصلحت زمن السلطان قايتباي سنة 881هـ.
وقد احترقت المقصورة والقبة في حريق المسجد النبوي الثاني سنة 886 هـ، وفي عهد السلطان قايتباي سنة 887هـ جددت القبة، وأسست لها دعائم عظيمة في أرض المسجد النبوي، وبنيت بالآجر بارتفاع متناه،....
بعد ما تم بناء القبة بالصورة الموضحة: تشققت من أعاليها، ولما لم يُجدِ الترميم فيها: أمر السلطان قايتباي بهدم أعاليها، وأعيدت محكمة البناء بالجبس الأبيض، فتمت محكمةً، متقنةً سنة 892 هـ.
وفي سنة 1253هـ صدر أمر السلطان عبد الحميد العثماني بصبغ القبة المذكورة باللون الأخضر، وهو أول من صبغ القبة بالأخضر، ثم لم يزل يجدد صبغها بالأخضر كلما احتاجت لذلك إلى يومنا هذا.
وسميت بالقبة الخضراء بعد صبغها بالأخضر، وكانت تعرف بالبيضاء، والفيحاء، والزرقاء" انتهى.
" فصول من تاريخ المدينة المنورة " علي حافظ (ص 127، 128) .
ثانياً:
حكمها
وقد أنكر أهل العلم المحققين - قديماً وحديثاً – بناء تلك القبة، وتلوينها، وكل ذلك لما يعلمونه من سد الشريعة لأبواب كثيرة خشية الوقوع في الشرك.
ومن هؤلاء العلماء:
1. قال الصنعاني – رحمهُ اللهُ – في " تطهير الاعتقادِ ":
"فإن قلت: هذا قبرُ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم قد عُمرت عليه قبةٌ عظيمةٌ انفقت فيها الأموالُ.
قلتُ: هذا جهلٌ عظيمٌ بحقيقةِ الحالِ، فإن هذه القبةَ ليس بناؤها منهُ صلى اللهُ عليه وسلم، ولا من أصحابهِ، ولا من تابعيهم، ولا من تابعِ التابعين، ولا علماء الأمةِ وأئمة ملتهِ، بل هذه القبةُ المعمولةُ على قبرهِ صلى اللهُ عليه وسلم من أبنيةِ بعضِ ملوكِ مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملكِ المنصورِ في سنةِ ثمانٍ وسبعين وست مئة، ذكرهُ في " تحقيقِ النصرةِ بتلخيصِ معالمِ دارِ الهجرةِ "، فهذه أمورٌ دولية لا دليليةٌ " انتهى.
2. وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
هناك من يحتجون ببناء القبة الخضراء على القبر الشريف بالحرم النبوي على جواز بناء القباب على باقي القبور، كالصالحين، وغيرهم، فهل يصح هذا الاحتجاج أم ماذا يكون الرد عليهم؟
فأجابوا:
" لا يصح الاحتجاج ببناء الناس قبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم على جواز بناء قباب على قبور الأموات، صالحين، أو غيرهم؛ لأن بناء أولئك الناس القبة على قبره صلى الله عليه وسلم حرام يأثم فاعله؛ لمخالفته ما ثبت عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) رواهما مسلم في صحيحه، فلا يصح أن يحتج أحد بفعل بعض الناس المحرم على جواز مثله من المحرمات؛ لأنه لا يجوز معارضة قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس أو فعله؛ لأنه المبلغ عن الله سبحانه، والواجب طاعته، والحذر من مخالفة أمره؛ لقول الله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر/ 7.
وغيرها من الآيات الآمرة بطاعة الله وطاعة رسوله؛ ولأن بناء القبور، واتخاذ القباب عليها من وسائل الشرك بأهلها، فيجب سد الذرائع الموصلة للشرك " انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (9 / 83، 84) .
3. وقال علماء اللجنة الدائمة – أيضاً -:
" ليس في إقامة القبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين؛ لأن إقامة القبة على قبره: لم تكن بوصية منه، ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم، ولا من التابعين، ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، إنما كان ذلك من أهل البدع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألاَّ تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم؛ فإذا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم بناء قبة على قبره، ولم يثبت ذلك عن أئمة الخير، بل ثبت عنه ما يبطل ذلك: لم يكن لمسلم أن يتعلق بما أحدثه المبتدعة من بناء قبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (2 / 264، 265) .
4. وقال الشيخ شمس الدين الأفغاني رحمه الله:
" قال العلامة الخجندي (1379 هـ) مبيِّناً تاريخ بناء هذه القبة الخضراء المبنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، محققاً أنها بدعة حدثت بأيدي بعض السلاطين، الجاهلين، الخاطئين، الغالطين، وأنها مخالفة للأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة؛ جهلاً بالسنَّة، وغلوّاً وتقليداً للنصارى، الضلال الحيارى:
اعلم أنه إلى عام (678 هـ) لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة - (678هـ) ، فعملت تلك القبة.
قلت: إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلاً منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؛ كما قلدهم الوليد في زخرفة المسجد، فتنبه، كذا في " وفاء الوفاء " ...
اعلم أنه لا شك أن عمل قلاوون هذا -: مخالف قطعاً للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الجهل بلاء عظيم، والغلو في المحبة والتعظيم وباء جسيم، والتقليد للأجانب داء مهلك؛ فنعوذ بالله من الجهل، ومن الغلو، ومن التقليد للأجانب" انتهى.
" جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية " (3 / 1660 - 1662) .
ثالثاً:
سبب عدم هدمها
فقد بَيَّن العلماء الحكم الشرعي في بناء القبة، وأثرها البدعي واضح على أهل البدع، فهم متعلقون بها بناءً ولوناً، ومدحهم وتعظيمهم لها نظماً ونثراً كثير جدّاً، ولم يبق إلا تنفيذ ذلك من ولاة الأمر، وليس هذا من عمل العلماء.
وقد يكون المانع من هدمها درءً للفتنة، وخشيةً من أن تحدث فوضى بين عامة الناس وجهلتهم، وللأسف فإن هؤلاء العامة لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تعظيم تلك القبَّة إلا بقيادة علماء الضلالة وأئمة البدعة، وهؤلاء هم الذي يهيجون العامة على بلاد الحرمين الشريفين، وعلى عقيدتها، وعلى منهجها، وقد ساءتهم جدّاً أفعالٌ كثيرة موافقة للشرع عندنا، مخالفة للبدعة عندهم! .
وبكل حال: فالحكم الشرعي واضح بيِّن، وعدم هدمها لا يعني أنها جائزة البناء لا هي ولا غيرها على أي قبر كان.
قال الشيخ صالح العصيمي حفظه الله:
" إن استمرارَ هذه القبةِ على مدى ثمانيةِ قرونٍ لا يعني أنها أصبحت جائزة، ولا يعني أن السكوتَ عنها إقرارٌ لها، أو دليلٌ على جوازها، بل يجبُ على ولاةِ المسلمين إزالتها، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه في عهدِ النبوةِ، وإزالة القبةِ والزخارفِ والنقوشِ التي في المساجدِ، وعلى رأسها المسجدُ النبوي، ما لم يترتب على ذلك فتنةٌ أكبر منه، فإن ترتبَ عليه فتنةٌ أكبر، فلولي الأمرِ التريث مع العزمِ على استغلالِ الفرصة متى سنحت " انتهى.
" بدعِ القبورِ، أنواعها، وأحكامها " (ص 253) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/17)
كتب التاريخ الموثوقة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما أكثر ما في الكتب من دس للروايات عن هارون الرشيد، والدولة الأموية، والعباسية، وسيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم. أتمنى منكم أن ترشدوني إلى أفضل وأصح الكتب التي تتحدث عما ذكرت.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تاريخُ الإسلامِ صفحاتٌ عظيمةٌ من الأحداث والوقائع المتنوعة، اختلطت فيها جوانب السياسة والاجتماع والاقتصاد، وامتزجت بالكثير من العوارض المختلفة أو المتناقضة، فاحتملت لذلك في طبيعتها مادة خصبة استغلها الكثير من أهل الأغراض والأهواء، فلم يتورعوا عن التشويه والتحريف والزيادة والنقصان.
وإذا غضضنا الطرف عن العوامل الخارجية التي أدت إلى وجود الخلل في أحداث التاريخ المروية، وقَصَرْنَا النظرَ على طبيعة المادة المنقولة والمدونة، لوجدنا أن ذلك الخلل يرجع إلى سببين اثنين رئيسين:
السبب الأول: غياب التدوين المباشر للتاريخ مِن قِبَل شهود العيان، ومَن عاصر الأحداث، أو على الأقل غياب الإسناد المقبول لتلك الأحداث، فقد غلب الإرسال والانقطاع بين المدون والراوي وبين الوقائع المروية، ففقدت المنهجية العلمية الركن الرئيس فيها، وغدت أحداث التاريخ نهبة لمن شاء أن يحكي فيها ما يريد، فالكل يكتب ويشارك، سواء أسند أم أرسل. كما قال الإمام أحمد رحمه الله: " ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير " انتهى.
رواه الخطيب في "الجامع" (2/162) وفسره بقوله: المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة، غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها، لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصاص فيها "، وفسرها شيخ الإسلام ابن تيمية بكثرة المراسيل في هذه الأبواب.
والسبب الثاني: غياب الحس النقدي لدى كثير من كُتَّاب التاريخ الأول، فلا تكاد تجد في المؤرخين القدامى من يزيد على الحكاية والرواية، فقد كان هذا سعيهم الأول، ولعلهم أوكلوا النقد بالتصديق أو التكذيب إلى القارئ الذي غالبا ما يتيه بين آلاف الصفحات المسطرة.
ولعل القراءة المجردة في "تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري، وفي "الإمامة والسياسة" المنسوب خطأ لابن قتيبة، وفي "مروج الذهب" لعلي بن الحسين المسعودي، وفي "تاريخ اليعقوبي"، و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وفي "العقد الفريد" لابن عبد ربه، وفي "تاريخ التمدن الإسلامي" لجرجي زيدان – لعل القراءة المجردة فيها توقف القارئ على الصورة الحقيقية لقدر التشويه الذي لحق بمصنفات التاريخ ومدوناته.
وانظر للتوسع عن كتب التاريخ المشوهة كتاب "كتب حذر منها العلماء" للشيخ مشهور حسن سلمان، الجزء الثاني.
يقول ابن خلدون في "المقدمة" (ص/9-10) :
" وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مَظِنَّةُ الكذب، ومَطِيَّةُ الهَذَر، ولا بد من ردها إلى الأصول، وعرضها على القواعد " انتهى.
والأدوات التي يحتاجها المؤرخ الناقد متنوعة ما بين علم بأحوال الرواة وطبائع الأمم وقواطع العادات والسنن ودقة في الملاحظة والقياس، وذلك ما لا يتوفر إلا في القليل من المؤرخين المتقدمين والمتأخرين.
يقول ابن خلدون في "المقدمة" (ص/28) :
" فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل خبره، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه.
وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك، حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما، وأمثالهم من علماء الأمة، وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه، فاختلط المرعي بالهمل، واللباب بالقشر، والصادق بالكاذب، وإلى الله عاقبة الأمور " انتهى.
ونحن وإن كنا نستشعر النقص في التحقيق التاريخي، والنقد المنهجي، إلا أننا لا ننفي وجوده، فقد سطر نقاد العلماء كتبا محققة محكمة، محَّصوا فيها الصادق من الكاذب، والحقيقي من الزائف، فيمكن الاستفادة منها والرجوع إليها، والأهم من ذلك: البناء عليها، ومنها:
"العواصم من القواصم" لأبي بكر ابن الربي المالكي، "البداية والنهاية" لابن كثير، و "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، وكتب الحافظ الذهبي عموما: "تاريخ الإسلام" و "سير أعلام النبلاء"، و"العبر" وغيرها.
وهناك أيضا كثير من الدراسات المعاصرة النافعة والمفيدة في هذا المجال، مثل كتاب "التاريخ الإسلامي" للأستاذ محمود شاكر الحرستاني، و "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري" للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى، وكتب الدكتور محمد علي الصلابي التاريخية ـ بصفة عامة ـ كـ " السيرة النبوية"، وكتبه عن الخلفاء الراشدين، "الدولة الأموية"، "الدولة الفاطمية"، "دولة السلاجقة"، "الدولة العثمانية" وغيرها كثير، وأيضا كتاب "تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة" تأليف الدكتور محمد آمحزون.
ففي هذا الكتب، إن شاء الله، غنية لمن أراد القراءة في التاريخ، خاصة لغير المتخصص في دارسة التاريخ أو العلوم الشرعية.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/18)
هل سبقت محاولات لنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي حقيقة محاولات سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أرجو من حضرتكم التفصيل في شرح ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تذكر كتب التاريخ حوادث أربعة في محاولات نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، محاولتان تولَّى كِبرَهما بعضُ النصارى، والثالثة والرابعة باء بإثمهما الحاكم العبيدي الزنديق الذي ادعى الربوبية.
المحاولة الآثمة الأولى:
تبوأ إثمها ووزرها الحاكم العبيدي الزنديق: منصور بن نزار بن معد المصري الإسماعيلي المدعي الربوبية، قال فيه الذهبي "سير أعلام النبلاء" (15/174) :
" كان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النِّحلة، عظيم المكر، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع " انتهى باختصار.
وقال السمهودي في "وفاء الوفا" (2/652) :
"وقد وقع بعد الأربعمائة من الهجرة ما نقله الزين المراغي عن "تاريخ بغداد" لابن النجار قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن المبارك المقري، عن أبي المعالي صالح بن شافع الجلي، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن محمد المعلم، ثنا أبو القاسم عبد الحليم بن محمد المغربي: أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وزين له ذلك، وقال: متى تم لك ذلك شد الناس رحالهم
من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة لسكانها.
فاجتهد الحاكم في ذلك، وأعد مكاناً، أنفق عليه مالا جزيلا. قال: وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد علموا ما جاء فيه، وحضر معهم قارئ يعرف بـ " الزلباني "، فقرأ في المجلس: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) التوبة/12، 13 فماج الناس، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند، ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم: الله أحق أن يخشى، والله لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية.
فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحا كادت الأرض تزلزل من قوتها، حتى دحرجت الإبل بأقتابها، والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك أكثرها وخَلْقٌ من الناس، فانشرح صدر أبي الفتوح، وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه " انتهى بتصرف.
المحاولة الآثمة الثانية:
ويبدو أنها محاولة ثانية من الحاكم العبيدي أيضا، ينقلها أيضا السمهودي في "وفاء الوفا" (2/653) فيقول:
" ونقل ابن عذرة في كتاب "تأسي أهل الإيمان فيما جرى على مدينة القيروان" لابن سعدون القيرواني ما لفظه:
ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل الذي أراد نبشه دارا بقرب المسجد، وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فرأوا أنوارا، وسمع صائح: إن نبيكم ينبش، ففتش الناس، فوجدوهم، وقتلوهم " انتهى.
المحاولة الآثمة الثالثة:
وقعت سنة (557هـ) في عهد السطان الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله، وكان الذي تولى كبرها النصارى.
رأى السلطان نور الدين رحمه الله في نومه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: أنجدني! أنقذني من هذين!
فاستيقظ فزعا، ثم توضأ وصلى ونام، فرأم المنام بعينه، فاستيقظ وصلى ونام، فرآه أيضا مرة ثالثة، فاستيقظ وقال: لم يبق نوم. وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل إليه، وحكى له ما وقع له، فقال له: وما قعودك؟ اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت.
فتجهز في بقية ليلته، وخرج إلى المدينة، وفي صحبته الوزير جمال الدين.
فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحضر معه أموالا للصدقة، فاكتبوا من عندكم. فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر يأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلى الله عليه وسلم له فلا يجد تلك الصفة، فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انفضت الناس.
فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة؟ قالوا: لا. فقال: تفكروا وتأملوا. فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئا، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج. فانشرح صدره وقال: علي بهما، فأُتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليهما بقوله: أنجدني أنقذني من هذين.
فقال هما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة في هذا المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: اصدقاني، فصمما على ذلك. فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة.
وأثنى عليهما أهل المدينة بكثرة الصيام والصدقة، وزيارة البقيع وقباء.
فأمسكهما وحضر إلى منزلهما، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرا في البيت، فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك، وقال السلطان عند ذلك: اصدقاني حالكما! وضربهما ضربا شديدا، فاعترفا بأنهما نصرانيان، بعثهما النصارى في حجاج المغاربة، وأعطوهما أموالاً عظيمة، وأمروهما بالتحيل لسرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانا يحفران ليلا، ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة.
فلما اعترفا، وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره، بكى بكاء شديدا، وأمر بضرب رقابهما، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقا عظيما حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورٌ رصاصٌ، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى، وأمر أن لا يستعمل كافر في عمل من الأعمال.
ذكر هذه الحادثة جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي (ت 772هـ) في رسالة له اسمها: " نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى " ويسميها بعضهم بـ " الانتصارات الإسلامية " نقلها عنه علي بن عبد الله السمهودي (ت 911هـ) في كتابه " وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى " (2/648-650) .
وذكرها الحافظ جمال الدين عبد الله بن محمد بن أحمد المطري (ت 765هـ) ، وكان رئيس المؤذنين في الحرم النبوي، وهو مؤرخ، له كتاب " الإعلام فيمن دخل المدينة من الأعلام " قال: " سمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر عمن حدثه من أكابر من أدرك، أن السلطان محمودا ... وذكر القصة بنحو ما سبق مع اختلاف يسير.
نقلا عن "وفاء الوفا" (2/650) .
المحاولة الآثمة الرابعة:
يحدثنا عن هذه المحاولة العلامة الرحالة ابن جبير، أبو الحسين محمد بن أحمد، المتوفى سنة (614هـ) ، يذكرها في "رحلته" في أحداث سنة (578هـ) (ص/34-35) ، وذلك بعد وصوله إلى الإسكندرية، حيث قال:
" لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا – يعني ذي القعدة -، عاينَّا مجتمعا من الناس عظيما، بروزا لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقا وجزعا: وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم – البحر الأحمر -، ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بِكِراء – أي بأجرة - اتفقوا معهم عليه، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم، وأكملوا إنشاءها وتأليفها، ودفعوها في البحر، وركبوها قاطعين بالحجاج، وانتهوا إلى بحر النعم، فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا، وانتهوا " عيذاب " – اسم مكان - فأخذوا فيها مركبا كان يأتي بالحجاج من جدة، وأخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص " عيذاب "، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا، وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي ذلك الموضع قط.
ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة، وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخراجه من الضريح المقدس.
أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم، فأخذهم الله باجترائهم عليه، وتعاطيهم ما تَحُولُ عنايةُ القدرِ بينهم وبينه، ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم، فدفع الله عاديتهم بمراكب مرت من مصر والإسكندرية، دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغربة البحريين، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم، وكانت آية من آيات العنايات الجبارية، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان، نيف على شهر ونصف أو حوله، وقتلوا وأسروا، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها، ووجه منهم مكة والمدينة، وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما، والحمد لله رب العالمين " انتهى.
فهذه هي المحاولات التي وقفنا عليها، والله تعالى حافظ جسد نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تصل إليه أيدي أعدائه بسوء، وللمزيد حول هذا الموضوع يراجع كتاب "القبة الخضراء ومحاولات سرقة الجسد الشريف" لمحمد علي قطب، الدار الثقافية.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/19)
هل حمل التتار الإسلام إلى آسيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأيكم فيمن يقول: إن التتار في هجومهم على المسلمين في بغداد دخلوا بعد ذلك دين الله، وحملوا الدين إلى رقاع من آسيا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ينبه بعض المحققين من المؤرخين المعاصرين على أن الجيوش التي غزت بلاد المسلمين بقيادة " جنكيزخان " (ت 624هـ، 1227م) فأهلكت الحرث والنسل هي جيوش مغولية الأصل، وليست تتارية، وبين هذين الجنسين والعرقين فرق كبير، وسبب الخلط بينهما هو أن المغول بقيادة " جنكيزخان " بعد أن تغلبوا على التتار أرغموا بعضهم على الانضمام إلى جيوشهم ومشاركتهم في حروبهم قسرا، ومع قيام بعض الأسباب السياسية، وخاصة في العصور المتأخرة، اشتهر اسم " التتار " على تلك الجيوش، بل وأصبح وصف " التتار " علما على الهمجية والقسوة والوحشية، في تفاصيل معقدة من تاريخ شعوب تلك المنطقة، يمكن الاطلاع عليها في دراسة متقنة للدكتور: أبرار كريم الله، بعنوان " مَن هم التتار ".
ثانيا:
ديانة المغول الأولى عبادة الكواكب والسجود للشمس، وكانوا يرون أن (تَنْكَرَى) وهو الرب الذي يعلو السماء الزرقاء يبارك خطواتهم، وأنهم خلقوا ليحكموا العالم كله، ولهذا سمى زعيمهم نفسه بـ " جنكيز خان " أي: حاكم العالم. وكان يحكم بكتاب جمعه من شرائع مختلفة أسماه " الياسق " جعله القانون الذي يتحاكمون إليه.
غير أن المغول تأثروا بالبلاد التي غزوها – وهي بلاد واسعة تمتد من روسيا إلى أوروبا إلى بلاد الشام، فكان بعضهم يعتنق البوذية أو النصرانية، وآخرون يعتنقون الإسلام، وبعضهم يبقى على ما هو عليه.
أما اعتناقهم للإسلام فقد ذكره المؤرخون في كتبهم عن كثير من كبار قادتهم، أنهم انتسبوا للإسلام وأعلنوا انتماءهم له، غير أن كثيرا من محققي العلماء والفقهاء في عصرهم – ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - لم يقبلوا انتسابهم الاسمي إلى دين الإسلام، وطالبوهم بتحقيقه قولا وفعلا، وأفتوا بكفر فئاتهم التي لم تعمل بالإسلام في شعائرها الظاهرة، ومن أهمها الصلاة والأذان والحكم بالشريعة واعتقاد حرمة المسلم على المسلم.
ولكننا نذكر هنا ما ينقله المؤرخون، كي نعطي صورة " مجتزأة " للإسلام الذي حمله المغول.
جاء في دراسة الدكتور محمود السيد " التتار والمغول " (ص/150 – 154) :
" اعتنق " كورجوز " حاكم فارس من قبل " أجتاي خان " الديانة الإسلامية في أواخر عهده، بعد اعتناق بركة خان القبيلة الذهبية 654هـ - 666هـ للعقيدة الإسلامية في أول نصر حقيقي للإسلام، خاصة بعد أن تبعه السواد الأعظم من رعيته، حتى إن كل رجال جيوشه كانوا مسلمين وهم مغول، وتبع ذلك توثيق الروابط السياسية بين " بركة خان " و" بيبرس " سلطان مصر، وتحالف كلاهما ضد أسرة " هولاكو " في فارس.
ولما انتشر المغول في بلاد الصين، واعتنق بعض ملوكهم دين الإسلام في القرن السابع الهجري، وجعلوا مدينة " كاشغر "/غرب الصين عاصمة دولتهم الجديدة، أشير على ملك الصين المغولي " بركة خان " زعيم القبيلة الذهبية بمهادنة الخليفة المستعصم العباسي 640هـ.
ولما انتشر العنصر المغولي المسلم في الجبهة الغربية والشمالية من البلاد أخذ الصينيون الأصليون يتربصون بالمسلمين الدوائر، لا سيما عندما أعلن الأمير " يعقوب خان " 679هـ استقلاله بمملكة " كاشغر " في الشمال الغربي.
ولما أراد دعم الوحدة الإسلامية بايع السلطان العثماني بالخلافة، وانضوى تحت لوائه، ليكون له سندا، وطلب من دار الخلافة خبراء في الفنون الحربية، وسائر الصناعات الهندسية.
كما توطدت العلاقات بين " بركة خان " زعيم القبيلة الذهبية والظاهر " بيبرس "، بل وتحالف الفريقان ضد عدوهما المشترك الذي يمثل " هولاكو " في فارس، ولم يدخر وسعا " هولاكو "، فأسرع في البحث عن حلفاء يناصرونه على هؤلاء المسلمين، فتحالف مع زعماء الصليبيين في بلاد الشام، وقد شجعت " هولاكو " زوجته المسيحية على هذا الخط لتصرفه عن الديانة الإسلامية.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود، وأن نفوذ المسلمين بدأ يقوى على مر الزمن، دخل كثيرون من الحكام المغول في الإسلام.
فعندما تولى " غازان محمود " أحد إيلخانات الحكم في فارس 694 – 703هـ اعتنق الدين الإسلامي، وطالب رعاياه بالدخول في الإسلام، وأعلن أن دين الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.
ومنذ ذلك الحين بدأ الإسلام ينتشر انتشارا سريعا في دولة إيلخانات المغول في فارس.
واستقر المغول في البلاد الإسلامية، وتشبعوا بالروح الإسلامية تدريجيا، وأسسوا أسرة إيلخانات المغول في فارس، وتطبعوا بالطابع الإسلامي مع ارتباطهم بالشعب المغولي في شرق آسيا، مما أدى إلى سهولة تبادل المعلومات في مختلف نواحي الحياة بين شرق آسيا وغربها.
قوي نفوذ المسلمين بعد اعتناق " تكودار أحمد " الديانة الإسلامية 680هـ، وهو أحد أبناء هولاكو، عمل على جذب أتباعه إلى الإسلام، فقدم العطايا والمنح لكل من يعتنق الإسلام، ومنحهم ألقاب الشرف في دولته " انتهى باختصار.
ويقول الدكتور عبد الرحمن المحمود:
" مسألة تأثر التتار واعتناق بعضهم الإسلام تحتاج إلى تفصيل؛ لأن بعض التتار- من أبناء عم هولاكو- دخلوا في الإسلام قبل معركة عين جالوت ولذلك يمكن توضيح هذا الأمر كما يلي:
1- قسم جنكزخان مملكته بين أولاده، فكان من نصيب أحدهم وهو " جوشى " أكبر أبنائه؛ البلاد الواقعة بين نهر " أرتش " والسواحل الجنوبية لبحر قزوين، وكانت تلك البلاد تسمى القبشان، ويطلق عليها اسم القبيلة الذهبية - نسبة إلى خيام معسكراتها ذات اللون الذهبي - فلما مات " جوشى " خلفه أحد أولاده الذي تلقب بـ " خان " القبائل الذهبية ثم تولى بعده ولده، ثم تولى بعده " بركة خان " سنة 654 هـ، وكان بركة هذا مسلما، لذلك عمل على نشر الإسلام بين قبيلته وأتباعه، وأظهر شعائر الإسلام واتخذ المدارس وأكرم الفقهاء وكان يميل إلى المسلمين ميلا شديدا. وقد بدا هذا في ظاهرتين:
أولاهما: محاربته لابن عمه " هولاكو "، خاصة بعد استيلائه على بغداد وقتله
للخليفة، وقد ظهرت بينهما خصومات ومعارك. وقد أقلق موقفه وإسلامه الطاغية " هولاكو " الذي اتجه إلى محالفة المسيحين ضد " بركة " وحلفائه.
ثانيهما: دخوله ومن جاء بعده في حلف سلاطين المماليك، الظاهر " بيبرس "، والناصر " قلاوون " وغيرهما، وقد توطدت العلاقة بين هاتين الدولتين، خاصة بعد المصاهرة التي تمت بينهم، وتبادل الرسل والهدايا، ومواجهتهم لعدو مشترك هم التتار الكفار.
2- أما دولة المغول الكبرى في إيران وما جاورها والتي منها انطلقت جحافلهم لغزو العراق والشام، فقد حدث في عام 680 هـ أن أسلم أحد أولاد " هولاكو " وهو السلطان " تكودار بن هولاكو " الذي تسمى بعد إسلامه باسم أحمد، فصار اسمه: أحمد بن هولاكو، وقد أعلن إسلامه في منشور أصدره لما جلس على العرش ووجهه إلى أهل بغداد، كما أرسل رسالة إلى السلطان المنصور " قلاوون " يعلن اهتداءه إلى الإسلام، ويدعو إلى المصالحة ونبذ الحرب، ولم يتخل - كما هو واضح من رسالته هذه - عن افتخاره واستعلائه على سلطان المماليك، وقد رد عليه السلطان " قلاوون "، ثم تبودلت الرسائل بينهم، ولكن لم تكن العلاقات بينهم جيدة كما يظهر من صيغة الرسائل المتبادلة.
ومما يجدر ذكره أن السلطان أحمد دخل لوحده في الإسلام، ولم يستطع أن يفرضه على أتباعه ولا على أمراء المغول من حوله، فصار دخوله في الإسلام فرديا، وهذا ما يفسر سرعة القضاء عليه وقتله من جانب منافسيه من أمراء المغول الذين تآمروا عليه فقتلوه سنة 683 هـ
3- في سنة 693هـ تولى محمود قازان عرش المغول، ثم في سنة 694هـ دخل في الإسلام، يقول الذهبي عن هذه السنة:
" وفيها دخل ملك التتار غازان ابن أرغون في الإسلام، وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه " نوروز "، ونثر الذهب واللؤلؤ على رأسه، وكان يوما مشهودا، ثم لقنه " نوروز " شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار "
وقد أعلن غازان الإسلام دينا رسميا للدولة المغولية في إيران، كما غير المغول زيهم فلبسوا العمامة، كما أمر بتدمير الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، والأصنام البوذية، كما أمر أهل الذمة بأن يتميزوا بلباس خاص بهم. وهكذا اختلف إسلام قازان عن إسلام السلطان أحمد بأن إسلامه لم يكن فرديا وإنما حوله إلى دين رسمي للدولة.
لكن هذه الصورة التي قد تبدو جميلة سرعان ما تتغير حين يتابع المرء الأحداث التي تمت في عهد هذا السلطان، فقد هاجم وجيشه الشام مرات ودارت بينهم وبين أهل الشام – ومعه سلاطين مصر- معارك كبيرة، وانتصر المغول في أولاها وهزموا فيما تلاها، وقد عاث الجيش التتري فسادا في الأرض وفعلوا – كما قال ابن تيمية لقازان نفسه لما التقى به - ما لم يفعله أسلافه من حكام التتار الوثنيين. وقد بقيت الأمور على هذه الحال إلى ما بعد وفاة غازان سنة 703هـ
وقد كان التتار يقدسون دستورهم الذي وضعه لهم جنكيز خان، وكان يسمى " إلياسا " أو " اليساق " وكانوا يتحاكمون إليه، وبعد إسلامهم لم يتركوا التحاكم إلى هذا الدستور.
4- بعد وفاة قازان تولى من بعده أخوه " أولجاتيو خدابنده "، وصار اسمه محمد بن أرغون، وقد تولى عرش المغول سنة 703 هـ إلى سنة 716 هـ، وقد بدأ عهده بتحسين العلاقة مع سلطان المماليك، فأرسل إليه هدية وكتابا خاطب فيه السلطان بالأخوة " وسأله إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، فأجيب، وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله ".
ولكن لم يكد يمضي سنة من توليه سلطة المغول حتى حدث تحول خطير عند محمد بن أرغون هذا، فقد اعتنق مذهب الشيعة، وعمل على نشره في الجهات الغربية من دولته، حتى إنه غير الخطة، وأسقط اسم الخلفاء سوى علي رضي الله عنه، وأظهر عداءه للمماليك السنيين، وطلب من النصارى أن يساعدوه ضدهم، ثم هاجم الشام سنة 712 هـ
ومما ينبغي ملاحظته أن تشيع هذا السلطان كان بتأثير من أحد كبار الرافضة - وهو ابن المطهر الحلي -، الذي صارت له منزلة كبيرة في عهده، وقد أقطعه عدة بلاد، ولعل نفوذ وشهرة هذا الرافضي- وهو صاحب كتاب منهاج الكرامة - دعا ابن تيمية رحمه الله إلى إفراد الرد على كتابه هذا بكتابه العظيم: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ".
وقد استمر سلطان المغول على تشيعه حتى مات، ثم تولى ابنه أبو سعيد - وهو صغير - الذي لعب كثير ممن حوله به، ثم لما كبر مال إلى العدل وإقامة السنة وإعادة الخطبة بالترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي وفرح الناس بذلك " انتهى باختصار يسير من "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (1/99-102) .
ثالثا:
ولعل الأقرب في الجواب عن السؤال أن يقال: لا شك أن تأثير الإسلام في النفوس تأثير بالغ عظيم، حتى في قلوب الغزاة الذين يتربصون بأمة الإسلام الدوائر، فلا يستبعد أن تتأثر فئات من المغول - نتيجة اختلاطهم بالمسلمين واطلاعهم على النور الذي أنزل إليهم – بدين الإسلام العظيم، ولكن الإنصاف يقضي أيضا بخطأ اختزال العوامل الكثيرة التي ينتشر الإسلام بسببها في عامل واحد هو " المغول ".
يؤكد ذلك أمران اثنان:
1- أن دين الإسلام كان قد انتشر في آسيا منذ القرون الهجرية الأولى على يد القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي سنة (94هـ) ، حيث فتح " كاشغر " عاصمة الصين آنذاك، ثم توقفت الفتوحات العسكرية لتبدأ الفتوحات المعرفية بنشر الإسلام في جميع بقاع آسيا عن طريق العلم والدعوة والأخلاق الحميدة.
انظر كتاب "ظاهرة انتشار الإسلام" محمد فتح الله الزيادي (ص/222-224)
2- أن أكثر المغول الذين انتسبوا إلى الإسلام لم يعرفوه حق معرفته، ولم يقفوا عند حدوده وشرعه، ولم يمنعهم الدين الجديد الذي انتسبوا إليه من اقتحام بلاد المسلمين، وتكرار اعتداءاتهم عليها بعد عصر " جنكيز خان " الطاغية، ولم تختلف سيرتهم كثيرا عن سيرة أسلافهم من المجرمين، مما حدا بأهل العلم إلى الفتوى بكفرهم وعدم صحة إسلامهم، وهي فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية المشهورة، حتى إنه كان يقول:
" إذا رأيتموني من ذلك الجانب – يعني الذي فيه المغول – وعلى رأسي مصحف فاقتلوني "، لما كان يجزم به من كفرهم وظلمهم وعدوانهم. انظر "البداية والنهاية" (14/24)
فكيف لهؤلاء أن يحملوا دعوة التوحيد والمعرفة والسلام إلى العالم، وكيف للشعوب في بلاد آسيا أن تتبعهم على دينهم بعد أن لقوا منهم العذاب والنكال!!
(يمكن الرجوع إلى المصادر الآتية لاستكمال تفاصيل البحث: " وثائق الحروب الصليبية والغزو المغولي للعالم الإسلامي " محمد ماهر حمادة، " المغول في التاريخ من جنكيز خان إلى هولاكو خان " فؤاد الصياد، " تاريخ المغول " عباس إقبال، وغيرها)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/20)
كذبة رافضية في شأن عمر بن الخطاب مع فاطمة رضي الله عنهما
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت من بعض الشيعة أن عمر الفاروق رضى الله عنه قد ضرب باب فاطمة رضى الله عنها، وأشعل به النيران، وبأنها قد ماتت إثر سقوط الباب عليها. الرجاء توضيح هذا الأمر مع ذكر المراجع. جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
يذكر المؤرخون والمحدِّثون حادثةً في صدر التاريخ، فيها ذكر قدوم عمر بن الخطاب وطائفة من أصحابه بيتَ فاطمةَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلبُ تقديم البيعة لأبي بكر الصديق، رضي الله عنهم جميعا.
وثمة قدر متفق عليه بين الروايات، جاء من طرق صحيحة، واشتهر ذكره بين أهل العلم، كما أن هناك قدرا كبيرا من الكذب والاختلاق الذي أُلصق بهذه الحادثة.
ونحن نرجو من القارئ الكريم التنبه واليقظة؛ كي يصل معنا إلى أقرب تصوير لتلك الحادثة، فلا يخلط عليه الكذَّابون والمفترون ما يدسُّونه في التاريخ كذبا وزورا.
الثابت المعلوم أن عليا والعباس والفضل بن العباس والزبير بن العوام تأخروا عن حضور بيعة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، وذلك لانشغالهم بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن، فوجدوا في أنفسهم: كيف ينشغل الناس بأمر الخلافة ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفن بعد، أما باقي الصحابة رضوان الله عليهم فعملوا على تعيين الخليفة كي لا يبيت المسلمون من غير أمير ولا قائد، وأرادوا بذلك أن يحفظوا على المسلمين أمر دينهم ودنياهم.
فلما دُفن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل علي بن أبي طالب ومن معه من بعض قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأيام الأولى ولم يبايعوا، ليس رغبة عن البيعة، ولا حسدا لأبي بكر، ولا منازعةً له، إنما لِما رآه عليٌّ من الخطأ في استعجال أمر الخلافة قبل الدفن، حتى جاء عمر بن الخطاب وبعض الصحابة بيت فاطمة رضي الله عنها، وطلب منها إبلاغ علي والزبير ومن معهم بلزوم المبادرة إلى بيعة أبي بكر الصديق، درءا للفتنة، وحفظا لجماعة المسلمين، فلما سمعوا تشديد عمر بن الخطاب في هذا الأمر، سارعوا بإعلان البيعة، وذكروا فضل أبي بكر رضي الله عنه وأحقيته بالخلافة، واعتذروا عن تأخرهم بما اعتذروا به.
روى أسلم القرشي - مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، قال: (حين بُويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، وايم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت.
قال: فلما خرج عمر جاؤوها فقالت: تعلمون أن عمر قد جاءني، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وايم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرِفوا راشدين، فَرُوا رأيَكم ولا ترجعوا إلّيَّ، فانصرفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)
أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1/364) وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/432) وعنه ابن أبي عاصم في "المذكر والتذكير" (1/91) ورواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/975) من طريق البزار – ولم أجده في كتب البزار المطبوعة – وأخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/75) مختصرا: كلهم من طريق محمد بن بشر ثنا عبيد الله بن عمر عن زيد بن أسلم عن أبيه به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، فإن محمد بن بشر العبدي (203هـ) ثقة حافظ من رجال الكتب الستة، وكذا عبيد الله بن عمر العمري المتوفى سنة مائة وبضع وأربعون، وكذا زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب (136هـ) ، وكذا أبوه أسلم مولى عمر، جاء في ترجمته في "تهذيب التهذيب" (1/266) أنه أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يكن في المدينة في وقت أحداث البيعة، لأن محمد بن إسحاق قال: بعث أبو بكر عمر سنة إحدى عشرة، فأقام للناس الحج، وابتاع فيها أسلم مولاه. فيكون الحديث بذلك مرسلا، إلا أن الغالب أن أسلم سمع القصة من عمر بن الخطاب أو غيره من الصحابة الذين عاشوا تلك الحادثة.
وقد جاء في بعض الروايات القوية أيضا أنه حصلت بعض المنازعات بين عمر بن الخطاب ومن معه، وبين الزبير بن العوام الذي كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك في بيت فاطمة رضي الله عنها، إلا أن الله سبحانه وتعالى وقاهم فتنة الشيطان، ودرأ عنهم الشقاق والنزاع.
روى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: (أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله عز وجل في سر وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قُلِّدتُ أمرا عظيما ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم. فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به.
قال علي رضي الله عنه والزبير: ما غضبنا إلا لأنا قد أُخِّنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لَنعلم بشرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي)
أخرجه موسى بن عقبة في "المغازي" – كما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/302) - ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" (3/70) ، وعنه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/152) ، وعنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/287)
قلت: وإسناد هذه القصة صحيح، على شرط البخاري، فهو من طريق إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف به.
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " انتهى.
وقال الذهبي في "التلخيص": " على شرط البخاري ومسلم " انتهى.
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/250) : " إسناد جيد " انتهى.
وروى الإمام الزهري (124هـ) قال: (وغضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر رضي الله عنه، منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما السلاح، فجاءهما عمر رضي الله عنه في عصابة من المسلمين فيهم: أسيد، وسلمة بن سلامة بن وقش - وهما من بني عبد الاشهل -، ويقال: فيهم ثابت بن قيس بن الشماس أخو بني الحارث بن الخزرج، فأخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره)
رواه موسى بن عقبة (140هـ) عن شيخه الزهري، ومن طريقه أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة" (2/553-554)
قلت: ورواية السير والمغازي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري من أصح الروايات، حتى قال ابن معين: " كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب ". وكان الإمام مالك يقول: " عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة ". وقال الإمام الشافعي: " ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة ". وقال الذهبي: " وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها، وغالبها صحيح ومرسل جيد " انتهى. انظر "سير أعلام النبلاء" (6/114-118) ، والزهري لم يدرك تلك الحادثة، إلا أن روايته هذه جاءت موافقة لما سبق من روايات صحيحة، والله أعلم.
وبذلك تمت مبايعة أبي بكر رضي الله عنه، واعتراف كُلٍّ بما للآخر من فضلٍ ومنزلة، وتم الاتفاقُ على نبذ الخلاف والنزاع.
ولا يجد القارئ والمتأمل في هذه الروايات الصحيحة الثابتة شيئا من وقوع القتال بين الصحابة رضوان الله عليهم، ولا اعتداءَ بعضِهم على بعضٍ، وخاصة في شأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما قال: (وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك) ، فقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم لها قدرها ومنزلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسعَ أحدٌ في تعمُّدِ أذيتها أو في إغضابها، بل ولا في تهديدها، إنما غاية ما فيه توجيه التخويف والتشديد لكلٍّ من علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، كي يدركا خطورةَ أمرِ الخلافة، فلا يتأخرا عن البيعة، ولا يشقا عن المسلمين جماعتهم، فلما أدركوا جميعا أن تأخرهم عن البيعة – وهم مؤمنون بأحقية أبي بكر بالخلافة – اجتهاد خاطئ، قد يؤدي إلى مفسدة أعظم، عجلوا بالبيعة عن رضا واختيار، ونبذوا ما وجدوه في أنفسهم في ذلك الشأن.
يقول المحب الطبري في تفسير كسر سيف الزبير بن العوام في تلك الحادثة – كما في "الرياض النضرة في مناقب العشرة" (115) :
" وهذا محمول - على تقدير صحته - على تسكين نار الفتنة، وإغماد سيفها، لا على قصد إهانة الزبير " انتهى.
ثانيا:
وكل ما ورد من زيادة على هذا القدر الصحيح، إنما هو من الخطأ الفاحش الذي أخطأ في نقله بعض الرواة، أو من الكذب الفج القبيح المُتَعَمَّد.
فمن ذلك ما جاء عن سليمان التيمي وابن عون قالا: (أن أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة، فلم يبايع. فجاء عمر ومعه قبس – أي: شعلة نار - فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الخطاب! أتراك مُحَرِّقًا عَلَيَّ بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك. وجاء علي فبايع وقال: كنت عزمت أن لا أخرج من منزلي حتى أجمع – يعني: أحفظ – القرآن)
أخرجه البلاذري أحمد بن يحيى (توفي بعد 270هـ) في كتابه "أنساب الأشراف" (2/12 طبعة دار اليقظة العربية – دمشق ت محمد الفردوس العظم)
قال فيه: المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن سليمان التيمي، وعن ابن عون.
قلت: وهذا السند فيه علل:
الأولى: مسلمة بن محارب الزيادي الكوفي، لم أقف على توثيق ولا تجريح له في شيء من كتب الرجال، اللهم إلا ذكر البخاري له في "التاريخ الكبير" (7/387) ، وكذا ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/266) ذكرا مجردا. وذكره ابن حبان في "الثقات" (7/490) ، مع أن رواية أبي الحسن المدائني عنه مشهورة جدا في كتب التاريخ والسير والأدب، يبدو منها أنه مكثر من رواية التاريخ.
الثانية: الإرسال، فإن سليمان – هو ابن طرخان - التيمي المتوفى سنة (143هـ) وعبد الله بن عون أبو عون البصري المتوفى سنة (150هـ) على الصحيح، لم يدركا الحادثة جزما، وهما إمامان ثقتان، انظر تراجمهم في "تهذيب التهذيب" (4/202) ، (5/348) ، وقد قال يحيى بن سعيد القطان في سليمان التيمي: مرسلاته شبه لا شيء.
والمدائني هو شيخ البلاذري أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الإخباري صاحب التصانيف توفي سنة (224هـ) ، قال فيه ابن عدي في "الكامل" (5/213) : ليس بالقوي في الحديث، وهو صاحب الأخبار. وترجم له في "لسان الميزان" (4/253) فنقل توثيقه عن يحيى بن معين وأبي عاصم النبيل والطبري. وترجمه أيضا الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/400)
ومما يدلك على نكارة وخطأ هذه الرواية – إضافة إلى ما سبق من بيان ضعف السند – أمور:
1- كيف يحمل عمر بن الخطاب النار ليحرق بيت فاطمة، ثم لا يُذكَرُ أيُّ تَدَخُّلٍ لزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا، وهو القوي المعروف بشجاعته وفروسيته، وهل يعقل أن يترك زوجته فاطمة تتصدى لعمر بن الخطاب يتهجم ليحرق عليها منزلها! ، ثم أين هم بنو عبد المطلب وبنو هاشم، أليس فيهم من ينتصر لابنتهم التي هي بنت أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
2- ثم في ظاهر هذا الخبر أن عليا إنما استجاب للبيعة خوفا من عمر، فقد رفض البيعة ابتداء، ثم جاء فبايع بعد تهجُّمِ عمر على بيت فاطمة، فهل يُصَدَّقُ مثل هذا الكذب، وهل يعقل أن عليا يبايع مكرها خوفا من تهديد غيره من الصحابة؟!
3- وفي هذا الخبر أيضا مناقضة صريحة لما ثبت بالأسانيد الصحيحة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع أبا بكر الصديق موافقا عن رضا وطيب خاطر، وأن ذلك كان على الملأ في المسجد، كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه حديث رقم (4240) وكذا الإمام مسلم (1759) ، وفيه أيضا مناقضة لما سبق ذكره في الروايات الصحيحة أن عمر بن الخطاب إنما ذهب يدعو إلى بيعة أبي بكر ليدفع عن الأمة فتنة الفرقة والاختلاف، ولم يكن معه شيء من نار، ولا تَعَرَّضَ لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خاطبها بأحسن الخطاب وعاملها بأكرم الأخلاق.
4- ثم في الخبر قول عمر مخاطبا فاطمة (وذلك أقوى فيما جاء به أبوك) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك سوء أدب مع الرسول الكريم، فلو كان حقا صدر من عمر مثل هذا الخطاب، لسارع سائر الصحابة إلى الإنكار عليه وعقوبته، ولكنَّ الكذب والبهتان في هذا الخبر ظاهر، لا ينطلي على صغار المسلمين، فقد عُرفَ عن الصحابة عموما، وعن عمر بن الخطاب خصوصا حبهم وتقديرهم واحترامهم الشديد لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- وأخيرا، فقد كانت الصلة بين عمر بن الخطاب وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الصلات، فكانوا يتبادلون المودة والمحبة، ويعرفون لبعضهم أقدار بعض، ولم يكن بينهم إلا كل خير وأخوة، حتى جاء بالأسانيد الصحيحة التي يرويها البخاري (3677) ومسلم (2389) عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: (وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ بن أبي طالب، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَوْ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا)
ثالثا:
مثل الرواية السابقة – في الضعف والنكارة - ما يروى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (دخلت على أبي بكر رضي الله عنه أعوده في مرضه الذي توفي فيه، فسلمت عليه وسألته كيف أصبحت؟ فاستوى جالسا فقلت: أصبحت بحمد الله بارئا ... - وذكر كلاما طويلا وفيه -: أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلهن ... - وذكر منها قوله -: فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته، وإن أُغلق على الحرب ... إلى آخر الخبر)
أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في "الأموال" (ص/173) وابن زنجويه في "الأموال" (364) والطبري في "تاريخ الأمم والملوك" (2/353) والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/419) والطبراني في "المعجم الكبير" (1/62) وعنه أبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء" (1/34) ، وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/417-430) جمعهم من طرق مدارها على علوان بن داود البجلي.
قلت: وهذا السند منكر، علته علوان بن داود البجلي:
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/366) : " وفيه علوان بن داود البجلي وهو ضعيف، وهذا الأثر مما أنكر عليه " انتهى. قال الذهبي في ترجمته في "ميزان الاعتدال" (3/108) : " علوان بن داود البجلي، مولى جرير بن عبد الله، ويقال علوان بن صالح، قال البخاري: علوان بن داود - ويقال ابن صالح: منكر الحديث. وقال العقيلى: له حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. وقال أبو سعيد بن يونس: منكر الحديث " انتهى.
ومما يدل على ضعفه ونكارته اضطرابه في روايته هذه:
حيث رواه مرة عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن. كما عند أبي عبيد وابن عساكر والعقيلي.
ومرة عن أبي محمد المدني عن صالح بن كيسان. كما عند ابن عساكر (30/420) .
ومرة عن الماجشون عن صالح بن كيسان. كما عند ابن عساكر (30/422)
ومرة عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد عن صالح بن كيسان. كما عند أبي عبيد الطبراني وابن عساكر (30/422)
ومرة عن حميد بن عبد الرحمن عن صالح بن كيسان عن عمر بن عبد الرحمن. كما عند الطبري.
ولا شك أن هذا الاختلاف والاضطراب دليل على وهمه ونكارة مرويه.
فكيف يريد الكذابون منا أن نصدق بخبر رواه رجل منكر الحديث، اتفقت كلمة المحدثين على تضعيفه ورده، ومن أين لهم أن قوله (كشفت بيت فاطمة) – إن كان ثابتا - يعني به الاعتداء عليها وحرقه أو هدمه، وكيف يتوقعون أن يصدقهم الناس في أن أبا بكر الصديق – خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء – آذى فاطمة بنت رسول الله في بيتهما أو بدنها، وأنه اعتدى على حرمتها واقتحم دارها.
بل الثابت في صحيح البخاري (4240) وصحيح مسلم (1759) (أن علي بن أبي طالب لم يزل يكلم أبا بكر، حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته)
رابعا:
أما ما يتناقله الرافضة في كتبهم ومواقعهم، وينقلونه عن بعض الرواة الكذابين منهم، أن عمر بن الخطاب أحرق بيت فاطمة فعلا، وضربها حتى أدمى عضدها، وأنها أسقطت ما في بطنها بسبب ذلك، وفي بعض الروايات أنها كشفت عن شعرها، فكل ذلك من الكذب الذي لا يدري المسلم أيضحك منه أم يبكي عليه؟
أيضحك بسبب سماجة هذه الكذبات التي لا يشك من يقرؤها أنها موضوعة مصنوعة، لأن من يذكرها لا يذكرها بسند صحيح متصل، إنما ينقلها عن بعض كتب التاريخ التي شحنها الكذابون بالقصص المختلقة؟!!
أم يبكي على ما وصلت إليه عقول بعض الناس من تصديق الخرافات وتناقل الكذبات، وعدم الاكتراث لحق الصحابة الكرام الذين قال الله تعالى فيهم (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة النبوية" (8/208) :
" ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يُقدِم على علي والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولا وآخرا، وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه، وأن يعطيه لمستحقه، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز، فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء، وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين، وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين، ويصدقه حمقى العالمين، الذين يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة، وضربوا بطنها حتى أسقطت، وهذا كله دعوى مختلقة، وإفك مفترى باتفاق أهل الإسلام، ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام." انتهى.
ونحن لا نقول هذا جزافا ومغامرة، وإنما عن دراسة استقرائية لجميع من ذكر القصة من المؤرخين السنة والشيعة.
أما السنة فقد سبق ذكر المرويات الصحيحة والضعيفة عندهم.
وأما الشيعة فقد ذكروا هذه القصة في عشرات الكتب، ليس في شيء منها إسناد معتمد، ولعل أول وأقدم من ذكرها، كتاب سُليم بن قيس العامري الهلالي، يسمى كتابه بـ "السقيفة"، جاءت فيه القصة مسندة (ص/385) من طبعة محمد باقر الأنصاري، وسندها هو: أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس قال: كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ومعنا جماعة من شيعة علي عليه السلام، فحدثنا فكان فيما حدثنا أن قال: ... وذكر رواية طويلة فيها تفصيل للقصة المكذوبة في اعتداء الصحابة على بيت فاطمة رضي الله عنها.
والجواب عن هذا أن يقال:
إن كتاب سُليم بن قيس كتاب مكذوب، فيه أول نص على تحريف القرآن الكريم، وقد تشكك في نسبته علماء الشيعة أنفسهم:
يقول ابن المطهر الحلي في كتاب الرجال (ص/206) : " أبان بن أبي عياش ضعيف جداً، وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه " انتهى.
وجاء في كتاب محمد بن علي الأردبيلي (1101هـ) "جامع الرواة" (1/9) : " أبان بن أبي عياش، فيروز، تابعي ضعيف،..وزاد في (صه) عن (غض) لا يلتفت إليه، وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه " انتهى.
ويقول المامقاني (1351هـ) في كتابه "تنقيح المقال" (2/25) : " يقول أصحابنا الشيعة وعلماء الشيعة أن سليماً لم يُعرف، ويُشَك في أصل وجوده ولم يذكروه بالخير، والكتاب المنسوب إليه موضوع قطعاً وفيه أدلة كافية للدلالة على وضعه " انتهى.
وقال الشيخ المفيد في كتاب "تصحيح اعتقادات الإمامية" (149-150) :
" هذا الكتاب غير موثوق به، وقد حصل فيه تخليط وتدليس؛ فينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه، ولا يُعول على جملته، والتقليد لروايته، وليفزع إلى العلماء (!!) فيما تضمنه من الأحاديث، ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد " انتهى بنصه، وهو كلام غني عن التعليق!!
ويقول الموسوي في كتابه "لله ثم للتاريخ" (ص/83) :
" أما كتاب سليم بن قيس فهو مكذوب على سليم بن قيس، وضعه أبان بن أبي عياش ثم نسبه إلى سليم " انتهى.
ثم على فرض صحة نسبة الكتاب، فإن سليم بن قيس لم يكن في المدينة في خلافة أبي بكر الصديق، كما تذكر ذلك جميع الكتب الشيعية التي ترجمت له، نص على ذلك محقق كتاب سُليم بن قيس وهو محمد باقر الأنصاري (ص/58) ، فيظهر بذلك أن ثمة انقطاعا ظاهرا بين سليم بن قيس وأحداث القصة، لا يُدرى عمَّن أخذها من الرواة الكذابين، أو من كذبها عليه.
ونزيد أيضا أنه في ميزان النقد الحديثي، لا تعرف لسليم بن قيس رواية عن عبد الله عباس، فلم يذكره أحد في تلاميذ ابن عباس، ولا يعرف له سماع منه، فثمة سقط ظاهر في السند.
كما أن أبان بن أبي عياش حكم عليه علماء الحديث بالترك والنكارة والضعف، قال الإمام أحمد: متروك الحديث، ترك الناس حديثه منذ دهر، وقال: لا يكتب حديثه كان منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال ابن المديني: كان ضعيفاً، وقال شعبة: ابن أبي عياش كان يكذب في الحديث. انظر "تهذيب التهذيب" (1/97-101)
خامسا:
وأخيرا: إذا نقلنا عن علماء الشيعة أنفسهم تكذيب هذه القصة التي يرويها مؤرخوهم، فهل سيبقى بعد ذلك حجة لأحد في تصديقها؟!
يقول إمام الإمامية الأكبر محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه "جنة المأوى" (ص/135) طبعة دار الأضواء:
" ولكن قضية ضرب الزهراء ولطم خدها مما لا يكاد يقبله وجداني، ويتقبله عقلي، وتقتنع به مشاعري، لا لأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة، بل لأن السجايا العربية والتقاليد الجاهلية (؟!!) التي ركزتها الشريعة الإسلامية وزادتها تأييدا وتأكيدا، تمنع بشدة ضرب المرأة، أو تمد إليها يد سوء، حتى إن بعض كلمات أمير المؤمنيين ما معناه: أن الرجل كان في الجاهلية إذا ضرب المرأة يبقى ذلك عارا في أعقابه ونسله ... فكيف يقتحمون هذه العقبة الكؤود، ولو كانوا أعتى وأعدى من عاد وثمود؟!! ...
ويزيدك يقينا بما أقول أنها –ولها المجد والشرف - ما ذكرت ولا أشارت إلى ذلك في شيء من خطبها ومقالاتها المتضمنة لتظلمها من القوم وسوء صنيعهم معها، مثل خطبتها الباهرة الطويلة التي ألقتها في المسجد على المهاجرين والأنصار، وكلماتها مع أمير المؤمنين بعد رجوعها من المسجد، وكانت ثائرة متأثرة حتى خرجت عن حدود الآداب (؟!!) التي لم تخرج من حظيرتها مدة عمرها، فقالت له: يا ابن أبي طالب، افترست الذئاب وافترشت التراب - إلى أن قالت له: هذا ابن أبي فلانة يبتزني نحلة أبي، وبلغة ابني، لقد أجهد في كلامي، وألفيته الألدّ في خصامي، ولم تقل إنه أو صحابه ضربني، أو مدّت يد إليّ، وكذلك في كلماتها مع نساء المهاجرين والأنصار بعد سؤالهن: كيف أصبحت يا بنت رسول الله؟ فقالت: أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن، ولا إشارة فيها إلى شيء عن ضربة أو لطمة، وإنما تشكو: أعظم صدمة، وهي غصب فدك، وأعظم منها غصب الخلافة، وتقديم من أخّر الله، وتأخير من قدّم الله، وكل شكواها كانت تنحصر في هذين الأمرين، وكذلك كلمات أمير المؤمنيين بعد دفنها، وتهيج أشجانه وبلابل صدره لفراقها ذلك الفراق المؤلم، حيث توجّه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: السلام عليك يا رسول الله! عني وعن ابنتك النازلة في جوارك..إلى آّخر كلماته التي ينصرع لها الصخر الأصم لو وعاها، وليس فيها إشارة إلى الضرب واللطم، ولكنه الظلم الفظيع والامتهان الذريع، ولو كان شيء من ذلك لأشار إليه سلام الله عليه؛ لأن الأمر يقتضي ذكره ولا يقبل سنده، ودعوى أنها أخفته عنه ساقطة بأن ضربة الوجه ولطمة العين لا يمكن اخفاؤها "
انتهى باختصار.
(تنبيه: تعمدنا نقل النص على طوله - رغم ما فيه من الباطل المفترى والكذب المختلق والتعدي على الصحابة الكرام - كي يفهم القارئ الكريم السياق، وكيف يطعن واحد من أكبر مرجعيات الشيعة في هذه القصة، وإذا فهم القارئ أنه من مراجع القوم، فلا جرم فيما قال وألم، فكل إناء بما فيه ينضح!!)
أسأل الله أن يهدي ضال الناس إلى الحق.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(9/21)