علم المكي والمدني من سور القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الفرق بين السور المكية والسور المدنية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عناية المسلمين بالقرآن الكريم عناية فائقة، ولا يعرف كتاب على وجه الأرض نال من الدراسة والشرح والبيان ما ناله القرآن، حتى أنشأ العلماء مئات العلوم المستقلة المتعلقة به، كان من أهمها علم: " المكي والمدني ".
ويمكن أن نوجز ببيان هذا العلم من علوم القرآن الكريم في المسائل الآتية:
أولا: بيان معنى مصطلح: " المكي والمدني ".
هو اصطلاح أطلقه العلماء ليميزوا بين الآيات والسور التي نزلت في المرحلة المكية للدعوة الإسلامية، وبين ما نزل في المرحلة المدنية، فاشتهر بين أكثر أهل العلم هذا التقسيم، وجعلوا مناطه ومداره على الزمان، وليس على المكان:
فالمكي من الآيات والسور: ما نزل قبل الهجرة النبوية، سواء كان في مكة أو ضواحيها.
والمدني من الآيات والسور: ما نزل بعد الهجرة النبوية، سواء كان مكان نزوله المدينة، أو مكة بعد فتحها، أو أي مكان في الجزيرة ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أهمية هذا العلم وفوائده.
1- معرفة الناسخ من المنسوخ: وهذه فائدة عظيمة مفيدة في فهم القرآن وبيانه، فالنسخ – وهو إزالة حكم الآية بحكم جديد – واقع في القرآن، ولتحديد الآية الناسخة لا بد من معرفة زمان نزولها، هل هو قديم في بداية الإسلام، أو متأخر، فتكون الآية المدنية ناسخة للمكية، إذا ثبت وقوع النسخ في حكمها.
2- معرفة تاريخ التشريع ومراحله، وتلمس الحكمة في تدرج أحكامه وآياته، حتى بلغت الكمال في آخر العهد النبوي، ولا شك أن معرفة مراحل التشريع مفيدة جدا في فهم الشريعة ومقاصد القرآن وحكمته.
3- الوصول إلى الفهم الصحيح لآيات القرآن وسوره، لأن معرفة تاريخ النزول وظرف الآيات يساعد كثيرا على فهمها واستجلاء مقاصدها، فمن قطع النصوص عن سياقها الزماني أو المكاني فقد قطع على نفسه سبيل الحقيقة والفهم السليم.
4- ومن فوائده بيان عظيم عناية المسلمين بالقرآن الكريم، حيث لم يحفظوا نصوصه فقط، بل حفظوا ونقلوا الزمن الذي نزلت فيه، ليكون ذلك شاهدا على الثقة المطلقة التي يمنحها المؤمنون لهذا الكتاب العظيم.
5- التذوق اللغوي لأساليب البيان العالية في القرآن الكريم، فقد تميزت سور كل مرحلة مكية أو مدنية بأساليب بيانية تناسب ما تضمنته من معاني ومقاصد، وكل هذه الأساليب لها من الرونق والبريق ما يأخذ الألباب ويدهش الأسماع، ومعرفة المكي والمدني يساعد على هذا التذوق ويقربه للأذهان.
6- معرفة السيرة النبوية، فقد استغرق تنزل القرآن الكريم ثلاثة وعشرين عاما، رافق فيها جميع الأحداث التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فهم " المكي والمدني " رافدا من روافد علم السيرة النبوية، ومكملا لدراساته.
ثالثا: الفرق بين المكي والمدني.
تبين للعلماء – بعد تأمل السور المكية والسور المدنية – أن ثمة فرقا في الغالب بينهما من جهتين اثنتين: المضمون، والأسلوب.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" يتميز القسم المكي عن المدني من حيث الأسلوب والموضوع:
أ- أما من حيث الأسلوب فهو:
1- الغالب في المكي قوة الأسلوب، وشدة الخطاب؛ لأن غالب المخاطبين معرضون مستكبرون، ولا يليق بهم إلا ذلك، أقرأ سورتي المدثر، والقمر.
أما المدني: فالغالب في أسلوبه اللين، وسهولة الخطاب؛ لأن غالب المخاطبين مقبلون منقادون، أقرا سورة المائدة.
2- الغالب في المكي قصر الآيات، وقوة المحاجة؛ لأن غالب المخاطبين معاندون مشاقون، فخوطبوا بما تقتضيه حالهم، أقرا سورة الطور.
أما المدني: فالغالب فيه طول الآيات، وذكر الأحكام مرسلة بدون محاجة؛ لأن حالهم تقتضي ذلك، أقرأ آية الدين في سورة البقرة.
ب- وأما من حيث الموضوع فهو:
1- الغالب في المكي تقرير التوحيد والعقيدة السليمة، خصوصا ما يتعلق بتوحيد الألوهية والإيمان بالبعث؛ لأن غالب المخاطبين ينكرون ذلك.
أما المدني: فالغالب فيه تفصيل العبادات والمعاملات؛ لأن المخاطبين قد تقرر في نفوسهم التوحيد والعقيدة السليمة، فهم في حاجة لتفصيل العبادات والمعاملات.
2- الإفاضة في ذكر الجهاد وأحكامه والمنافقين وأحوالهم في القسم المدني لاقتضاء الحال، ذلك حيث شرع الجهاد وظهر النفاق، بخلاف القسم المكي " انتهى.
"أصول التفسير" (ص/13)
ويقول الدكتور مناع القطان رحمه الله:
" استقرأ العلماء السور المكية والسور المدنية، واستنبطوا ضوابط قياسية لكل من المكي والمدني، تبين خصائص الأسلوب والموضوعات التي يتناولها، وخرجوا من ذلك بقواعد ومميزات:
ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية:
1- كل سورة فيها سجدة فهي مكية.
2- كل سورة فيها لفظ " كلا " فهي مكية، ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن. وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة.
3- كل سورة فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وليس فيها: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواُ) فهي مكية، إلا سورة الحج، ففي أواخرها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) ، ومع هذا فإن كثيرًا من العلماء يرى أن هذه الآية مكية كذلك.
4- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية، سوى البقرة.
5- كل سورة فيها آدم وإبليس فهي مكية، سوى البقرة كذلك.
ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية:
1- كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية.
2- كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، سوى العنكبوت، فإنها مكية.
3- كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية.
هذا من ناحية الضوابط، أما من ناحية المميزات الموضوعية، وخصائص الأسلوب، فيمكن إجمالها فيما يأتي:
1- بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.
2- مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم.
3- الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
4- طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر الشريعة ويوضح أهدافها ومراميها " انتهى.
"مباحث في علوم القرآن" (62-64)
وأخيرا:
من أراد التفصيل في هذا العلم، والاطلاع على كلام العلماء وتعدادهم للسور المكية والمدنية، واختلافهم في بعضها، وكذلك الجواب على الشبه الساقطة التي أوردها المستشرقون حول هذا الموضوع، فنحيله إلى المراجع الآتية:
"البرهان في علوم القرآن" للزركشي (1/187-206) ، "الإتقان في علوم القرآن" (1/34-59) ، "مناهل العرفان في علوم القرآن" لمحمد عبد العظيم الزرقاني (1/135-167)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/33)
حكم الإنصات لقارئ القرآن من المسجل، وهل يقرأ مع القارئ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عادة إذا كنت أسمع لشيخ يقرأ القرآن في الإذاعة، أو المسجل، أو التلفاز: أردد معه الآيات في نفس وقت قراءته، وأسترجع بذلك حفظي، أو أشجع نفسي، ويكون بذلك إنصاتي أقوى، وتدبري أفضل، مع تعلمي للقراءة الصحيحة، إلا أن هناك من نهاني من ذلك مستشهداً بقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) ، وقوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) فهل عملي خاطئ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
سبق في جواب السؤال رقم: (88728) أن ذكرنا اختلاف العلماء في حكم الإنصات لقراءة قارئ القرآن خارج الصلاة، وأن من العلماء من قال بالوجوب، ومنهم من قال بالاستحباب، وهو ما رجحناه.
وعلى هذا؛ فإذا كانت القراءة مسجلة فلا يجب الإنصات لها.
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
هل السامع للقارئ في الشريط له حكم سامع القارئ العادي تلاوةً، من وجوب الإنصات إليه؟
فأجاب:
"إذا سجل الإنسان في الشريط: فقد انتهى من أول مرة , وانقطع أجره وثوابه , اللهم إلا أن ينتفع أحد بالاستماع إلى صوته عبر الشريط، فيؤجر على هذا الانتفاع , أما بالنسبة للاستماع إليه: فلا يجب الاستماع إليه، ولا إلى القارئ مباشرة، قال الإمام أحمد رحمه الله في قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/ 204: قال: أجمعوا على أن هذا في الصلاة، يعني: إذا كان المأموم خلف الإمام , أما الإنسان يقرأ إلى جنبك، وأنت مشغول بذكرك الخاص: فإنه لا يجب عليك الإنصات، ثم إذا فرض أن هذا القارئ عبر الشريط مر بآية سجدة هل تسجد؟ الجواب: لا تسجد إذا مر بآية سجدة.
أولاً: لأنه لم يسجد هو....
فالحاصل: أن الاستماع إلى القراءة من الشريط ليست كالاستماع من القارئ المباشر , وأيضاً لا يجب الإنصات، لا للشريط، ولا للقارئ المباشر؛ لأن قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/ 204 - كما سمعتم - قال الإمام أحمد: أجمعوا أن ذلك في الصلاة" انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " (118 / السؤال رقم 4) .
ثانياًَ:
الترديد مع القارئ من أجل إتقان القراءة، أو من أجل مراجعة الحفظ: أمرٌ لا حرج في فعله.
فقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
ما حكم القراءة مع القارئ الذي من المسجل، وهل هذا يخالف قول الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/ 204؟ .
فأجاب:
"إذا كان للحفظ: فلا بأس به، وإذا كان لغيره: فيقال: الأفضل أن تنصت" انتهى.
" الفتاوى الثلاثية ".
وأما قوله تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) القيامة/ 16، 17: فإن الذي نهى عنه الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم هو العجلة بالقراءة مع جبريل من أجل أن يحفظ ما يُلقى إليه من الوحي، فليس في الآية ما يدل على النهي عن القراءة مع القارئ إذا كان ذلك من أجل المراجعة أو إتقان التلاوة.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"قوله تعالى: (وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) : كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه صلى الله عليه وسلم، من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي، فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل، بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي، ثم يقرؤه هو بعد ذلك، فإن الله ييسر له حفظه، وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع، كقوله في " القيامة ": (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة/ 16- 19، وقال البخاري في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان رسول الله صلى الله لعيه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه. فأنزل الله تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال: جمعه لك في صدرك، ونقرأه (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ) قال: فاستمع له وأنصت (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثم علينا أن نقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النَّبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه" انتهى.
" أضواء البيان " (4 / 174) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/34)
هل يترك قراءة القرآن اكتفاءاً بقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كانت قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات تعادل ثواب قراءة القرآن فهل على المسلم إثم إذا ترك تلاوة القرآن اكتفاء بقراءة هذه السورة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة) ثلاثا، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
والنصيحة لكتاب الله تعالى تكون بتلاوته، وتدبر آياته، والاتعاظ بمواعظه، والوقوف عند حدوده، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا شك أن الاكتفاء بقراءة سورة الإخلاص دون سائر كتاب الله لا يتفق مع النصيحة لكتاب الله، ولا يتأتى لمن يكتفي بذلك النصح لنفسه بما يحصل له من تلاوة كتاب الله من الأجر والمثوبة، وزيادة الإيمان، ومعرفة الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمسنون والمكروه، والتأدب بآداب القرآن، والتخلق بأخلاقه، وكفى بانتقاص العبد هذه الأمور زاجرا عن ترك تلاوة كتاب الله، والرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه بفضل هذه السورة، وإخباره بأنها تعدل ثلث القرآن، وزيادة حرصه على عظم الأجر والثواب، لم يقتصر على تلاوة هذه السورة، بل كان يداوم على تلاوة سائر كتاب الله، وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب/21.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن منيع.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (4/29-30) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/35)
كتابة آيات من القرآن ومحوها بالماء ثم شربها
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يكتبون آيات من القرآن ويمحونها بالماء ويشربونها، وإذا اعترض عليهم قالوا: إنه كلام الله نستشفي به. هل يجوز هذا العمل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"هذا العمل جائز، يجوز للإنسان أن يكتب القرآن بمداد يجوز شربه، ثم يوضع هذا المكتوب في ماء ويرج ثم يشرب، وقد كان بعض السلف يفعلون هذا، ويفعلونه في الأواني كالصحون وما أشبهها، إذا فعل الإنسان ذلك فله سلف فيه، وقد يستدل لهذا بعموم قول الله تبارك وتعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الإسراء/82، فإذا استشفي بالقرآن على هذا الوجه، وجُرِّبَ وصار نافعاً فإنه يدخل في عموم هذه الآية الكريمة" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"اللقاء المفتوح" (ص112) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/36)
هل تقرأ البسملة في وسط السورة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[البسملة في وسط السورة بعض الفقهاء رحمهم الله قالوا: إنها مستحبة؛ لأنه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع أو أبتر) فهل هي مستحبة، أو غير مشروعة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الصحيح أن البسملة إذا قرأ الإنسان من أثناء السورة لا تستحب؛ لأن الله قال في كتابه: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل/98، ولم يأمر بسوى ذلك، فما دامت المسألة فيها نص خاص بأن المطلوب ممن أراد قراءة القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فإن هذا يخصص العام وهو قوله: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر) " انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"لقاءات الباب المفتوح" (1/177) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/37)
أخوف آية في القرآن العظيم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الكلام، وما مدى صدقه، فقد ذكر بمنتديات كثيرة، واختلفنا بين مؤيد ومعارض، ولم نجد مصدرا لصحة هذا الكلام ... فالرجاء إفادتنا بأسرع وقت ممكن، وجزاكم الله كل خير. السؤال هو: أكثر آيات القرآن تخويفا للمؤمنين، أتعلمون ما هي أخوف آية في القرآن؟ أتعلمون أن أخوف آية في القرآن هي قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) الفرقان/23، إنها حقا من أكثر آيات القرآن تخويفا للمؤمنين.. وتتحدث عن فئة من المسلمين تقوم بأعمال كجبال تهامة من حج، وصدقات، وقراءة قرآن، وأعمال بر كثيرة، وقيام ليل، ودعوة، وصيام، وغيرها من الأعمال.. وإذا بالله تعالى ينسف هذه الأعمال فيكون صاحبها من المفلسين! وذلك لأن عنصر الإخلاص كان ينقص تلك الأعمال، فليس لصاحب تلك الأعمال إلا التعب والسهر والجوع، ولا خلاص يوم القيامة من العذاب والفضيحة إلا بالإخلاص، ولا قبول للعمل إلا بالإخلاص. هذا ما يتم تناقله عبر المنتديات، وكثيرون يعارضون هذا الكلام، وأنه لا صحة له، ولا مصدر يصدقه، وآخرون يوافقونه. فما مدى صدقه، رجاء الإفادة، جزاكم الله كل خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
أولا:
التعبد لله عز وجل مبني على الإخلاص والاتباع، فهو أساس كل العبادات، وهو مقصد جميع الأنبياء، وعليه مدار الثواب والعقاب يوم القيامة، فمن عمل صالحا يقصد به وجه الله تعالى، من غير التفات إلى حظوظ دنيوية عاجلة كان من الفائزين، أما من راقب الجاه والمال والسمعة كان عمله وبالا عليه يوم القيامة.
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (6/103) :
" وقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) ، هذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم – شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي: إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) البقرة/264 " انتهى مختصرا.
وقد اتفق أهل العلم على أن الرياء يحبط ثواب العمل المراءى به، لقوله عليه الصلاة والسلام: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) رواه مسلم (2985)
يقول النووي في "شرح مسلم" (18/116) :
" والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به " انتهى.
فلا شك أن مثل هذا الوعيد مخوف للمسلم أشد التخويف، ودافع له نحو مراقبة الإخلاص لله في قلبه، وقطع كل أسباب المراءاة والتسميع، وإلا فقد خسر أعماله التي راءى بها ولو كانت كأمثال الجبال.
وللنظر في تفصيلات الفقهاء حول موضوع إحباط الثواب بالرياء ينظر "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/384)
أما حديث ثوبان رضي الله عنه المشهور، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا.
قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.
قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) ، فهذا رواه ابن ماجه في سننه (رقم/4245) ، والروياني في "المسند" (1/425) ، والطبراني في "الأوسط" (5/46) و"الصغير" (1/396) ، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/242) : " رواته ثقات " انتهى، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة": " إسناده صحيح " انتهى.
والذي يبدو من حال هؤلاء هو الجرأة على معاصي السر، حين يستخفون من الناس، مع إظهار الصلاح والاستقامة أمام الناس.
ثانيا:
أما الأعمال التي أخلص العبد فيها لله سبحانه، ولم يقصد بها غير وجهه عز وجل، فهذه يكتب الله له به الحسنات، ويثيبه عليها في الجنة، ولا يحبطها وقوع الرياء في أعمال أخرى، ولا ارتكابه المعاصي في أبواب أخرى، فهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين، ولا يظلم مؤمنا حسنة عملها، وقد قرر ذلك في قاعدة عامة في سورة الزلزلة فقال:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة/7-8
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (10/321) -:
" صاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته. وعند أهل السنة والجماعة يُتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصيا في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره " انتهى باختصار.
ثالثا:
في القرآن الكريم الكثير من آيات الترهيب التي تتضمن من المعاني الثقيلة العظيمة التي تحدث في قلوب المؤمنين من تقوى الله والخوف من عقابه ما يكون له أكبر الأثر في ارتقائهم مدارج السالكين، وفوزهم بأعلى درجات النعيم.
عن سفيان قال: " ما في القرآن آية أشد علي مِن (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) المائدة/68. " انتهى.
وعن ابن سيرين: " لم يكن شيء عندهم أخوف من هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) البقرة/8 " انتهى.
وعن أبي حنيفة: " أخوف آية في القرآن: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) آل عمران/131 " انتهى.
وعن الشافعي قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) العصر/2-3.
وقيل إن أخوف آية في القرآن: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) آل عمران/28، وقيل: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ) الرحمن/31، وقيل: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) التكوير/26، وقيل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) النساء/123، وقيل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون/115، وقيل: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) البروج/12، وقيل: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية/21
يمكن مراجعة هذه الأقوال في "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (2/430) وفي "الحاوي" له أيضا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/38)
حكم مس المصحف من الغلاف من غير وضوء
[السُّؤَالُ]
ـ[أود سؤالكم عن حكم لمس غلاف المصحف وأنا غير طاهرة؟ لأني سمعت أن المصحف الذي يكون مغلف بأخضر يجوز لمس غلافه إذا لم أكن طاهرة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
غلاف المصحف المتصل به إما بالخياطة أو اللصق أو غير ذلك له حكم المصحف فلا يجوز لغير المتوضئ أن يمسه، أما الغلاف المنفصل عن المصحف، كالجراب الذي يوضع فيه المصحف لحفظه، فلا حرج في مسه من غير وضوء.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يمتنع على غير المتطهّر مس جلد المصحف المتّصل , والحواشي الّتي لا كتابة فيها من أوراق المصحف , والبياض بين السطور , وكذا ما فيه من صحائف خاليةٍ من الكتابة بالكلّيّة , وذلك لأنّها تابعة للمكتوب وذهب بعض الحنفيّة والشّافعيّة إلى جواز ذلك" انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "لا يجوز مس المصحف للمسلم إلا على طهارة من الحدثين الأكبر والأصغر، وهكذا نقله من مكان إلى مكان، إذا كان الناقل على غير طهارة.
لكن إذا مسه أو نقله بواسطة، كأن يأخذه في لفافة أو في جرابه، أو بعلاقته فلا بأس، أما أن يمسه مباشرة وهو على غير طهارة فلا يجوز على الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم؛ لما تقدم، وأما القراءة فلا بأس أن يقرأ وهو محدث عن ظهر قلب، أو يقرأ ويمسك له القرآن من يرد عليه ويفتح عليه فلا بأس بذلك" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (10/149، 150) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/39)
نسخ التلاوة في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[أعرف أن آيات من القرآن قد نسخت بآيات أخرى، بعض الآيات نسخت نسخ تلاوة، كآية الرجم مثلا، أريد أن أعرف كم آية في القرآن نسخت نسخ تلاوة؟ قرأت حديثا ورد في صحيح مسلم، أن سورا كاملة نسخت نسخ تلاوة، كانت تلك السور طويلة، ربما في طول سورة التوبة. (رجاء النظر في صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن يكون له واديا آخر) . أريد أيضا أن أعرف هل تحدي الكفار في أن يأتوا بمثل القرآن متضمن للآيات المنسوخة؟ أسأل لأن الآية المذكورة في حديث صحيح مسلم لا تبدو لي كآية من القرآن إطلاقا!]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ذهب جماهير الأصوليين والفقهاء والمحدثين والمفسرين إلى جواز وقوع نسخ التلاوة والرسم مع بقاء الحكم الشرعي المتضمن في الآية ثابتا.
واستدلوا على ذلك بما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم من نصوص تدل على ذلك، ونحن نذكر هنا بعض ما وقفنا عليه من الأمثلة المنقولة:
1- نسخ تلاوة آية الرجم.
دليله قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو يخطب الناس على المنبر -:
(إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ. فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الاِعْتِرَافُ) رواه البخاري (6830) ومسلم (1691) .
يقول أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله:
" وقول عمر: (كان مما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الرَّجم، فقرأناها، ووعيناها، وعقلناها) ، هذا نصٌّ من عمر رضى الله عنه على أنَّ هذا كان قرآنًا يُتلى. وفي آخره ما يدلُّ على أنَّه نُسخً كَونُها من القرآن، وبقي حُكْمُها معمولاً به، وهو الرَّجم. وقال ذلك عمر بمحضرِ الصحابة رضى الله عنهم، وفي مَعْدن الوحي، وشاعت هذه الخطبة في المسلمين، وتناقلها الرُّكبان، ولم يسمع في الصحابة ولا فيمن بعدهم من أنكر شيئًا مِمَّا قاله عمر، ولا راجعه في حياته ولا بعد موته، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحة هذا النوع من النسخ، وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ولا يلتفت لخلاف من تأخر زمانه، وقل علمه في ذلك، وقد بيَّنا في الأصول: أن النسخ على ثلاثة أضرب: نسخ التلاوة، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم " انتهى.
"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (5/85)
وانظر جواب السؤال رقم: (111382) .
2- نسخ تلاوة آية: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) .
دليله قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه – في تكملة الحديث السابق -: (ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: " أَنْ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ ") رواه البخاري (6830) ومسلم (1691) .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قوله: (ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله) أي: مما نسخت تلاوته، قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم) ، أي: لا تنتسبوا إلى غيرهم " انتهى.
"فتح الباري" (12/148) .
3- نسخ تلاوة آية: (ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) .
دليله ما رواه قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه: (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لِحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لِحْيَانَ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: " أَلاَ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا "، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ) انتهى.
رواه البخاري (3064) .
4- نسخ تلاوة سورة طويلة، ذُكر أن مِن آياتها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا) .
دليله عن أبي الأسود رحمه الله قال: (بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ:
أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ "، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم (1050) ، يقول الحافظ ابن حجر في معرض الحديث عن إحدى الروايات التي تذكر هذه الآية (لو كان لابن آدم ... ) : " وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم، وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما، وإن كان حكمه مستمرا. ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي موسى قال: " قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها: ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا" الحديث، ومن حديث جابر: " كنا نقرأ لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله " انتهى. "فتح الباري" (11/258) .
يقول أبو العباس القرطبي رحمه الله:
" قوله: (كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها) وهذا ضرب من النسخ، فإن النسخ على مانقله علماؤنا على ثلاثة أضرب: أحدها: نسخ الحكم وبقاء التلاوة. والثاني: عكسه، وهو نسخ التلاوة وبقاء الحكم. والثالث: نسخ الحكم والتلاوة، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى، فإنهما رُفِعَ حُكْمَهُما وتلاوتُهما. وهذا النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: (مَا نَنْسخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) ، على قراءة من قرأها بضم النون، وكسر السين، وكذلك قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إلا ما شاء الله)
وهاتان السورتان مما شاء الله تعالى أن يُنْسِيَه بعد أن أنزله، وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد، قادر على ما يشاء؛ إذ كل ذلك ممكن.
ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء، فإن ذلك باطل؛ بدليل قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزْلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفتي المصحف، من غير زيادة ولا نقصان، كما قررناه في أصول الفقه " انتهى.
"المفهم" (3/93-94)
ويقول السيوطي رحمه الله:
" هذا من المنسوخ تلاوة الذي أشير إليه بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) ، فكان الله ينسيه الناس بعد أن حفظوه، ويمحوه من قلوبهم، وذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إذ لا نسخ بعده " انتهى.
"الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" (3/129)
5- وأشياء آخرى متفرقة:
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها أو لم يبق، مثل ... حديث أبي بن كعب: (كانت الأحزاب قدر البقرة) ، وحديث حذيفة: (ما يقرءون ربعها) يعني براءة، وكلها أحاديث صحيحة.
وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه " كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله، ويقول: إن منه قرآنا قد رفع ".
وليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب؛ لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى.
"فتح الباري" (9/65)
ثانيا:
يجب الإيمان بأن لله الحكمة البالغة في هذا الشأن، فهو سبحانه منزه عن العبث، وله في خلقه وأمره حكم عالية رفيعة، قد نعلمها، وقد لا نعلمها، ولكن العلماء يحاولون دائما تلمس الحكم وتأملها استجابة لأمر الله سبحانه بالتفكر والتدبر في آياته عز وجل.
يقول الزرقاني رحمه الله – في معرض الجواب عن الشبه التي يذكرها بعضهم في نسخ التلاوة دون الحكم -:
" يقولون: إن الآية دليل على الحكم، فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم، وفي ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له في اعتقاد فاسد.
وندفع هذه الشبهة بان تلك اللوازم الباطلة، تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة وعلى إبقاء الحكم، أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها، وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره، كما في رجم الزناة المحصنين، فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط.
يقولون: إن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم؛ لأنه من التصرفات التي لا تعقل لها فائدة؟
وندفع هذه الشبهة بجوابين:
أحدهما: أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة، ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا، بل فيه فائدة أي فائدة، وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه، وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص؛ لأن اكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف، وشد ما يقابل بالإنكار، وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل، مصداقا لقوله سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية، حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط، رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال، وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال، تيسيرا لحفظه، وضمانا لصونه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ثانيهما: أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ، فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء، وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم، ثم إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها، وإن كنا لا نعلمها على التعيين، وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها، أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه، والمحبوبين لديه، وفوق كل ذي علم عليم، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
ولا بدع في هذا، فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم، على حين أنه في الواقع مفيد، وهم يأتمرون بأمره، وإن كانوا لا يدركون فائدته، والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته، على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره، وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته.
كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه، وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم " انتهى.
"مناهل العرفان" (2/156-158)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/40)
هل يقل الأجر إذا قرأ القرآن من الجوال أو من حفظه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يقل الأجر إذا قرأت القرآن من الجوال أو من حفظي ولم أقرأ القرآن من المصحف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأفضل في حال القراءة أن يفعل الإنسان ما يزداد به خشوعه، فإن كان يزيد خشوعه بالقراءة من حفظه، فهو أفضل، وإن كان يزيد خشوعه بالقراءة من المصحف أو من الجوال فهو أفضل.
قال النووي رحمه الله في: "الأذكار" (ص 90-91) :
" قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة من حفظه، هكذا قال أصحابنا، وهو مشهور عن السلف رضي الله عنهم، وهذا ليس على إطلاقه، بل إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب والبصر أكثر مما يحصل من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل، وهذا مراد السلف " انتهى.
وقد رويت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث ضعيفة لا يصح الاستدلال بها في فضل النظر في المصحف، وينظر في ذلك جواب السؤال رقم 32594.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: هل هناك فرق في الأجر بين قراءة القرآن من المصحف أو عن ظهر قلب؟ وإذا قرأت القرآن في المصحف فهل تكفي القراءة بالعينين أم لابد من تحريك الشفتين؟ وهل يكفي تحريك الشفتين أم لا بد من إخراج الصوت؟
فأجاب: "لا أعلم دليلا يفرق بين القراءة في المصحف أو القراءة عن ظهر قلب، وإنما المشروع التدبر وإحضار القلب، سواء قرأ من المصحف أو عن ظهر قلب، وإنما تكون قراءة إذا سمعها. ولا يكفي نظر العينين ولا استحضار القراءة من غير تلفظ. والسنة للقارئ أن يتلفظ ويتدبر، كما قال الله عز وجل: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)
وقال عز وجل: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وإذا كانت القراءة عن ظهر قلب أخشع لقلبه وأقرب إلى تدبر القرآن، فهي أفضل، وإن كانت القراءة من المصحف أخشع لقلبه، وأكمل في تدبره كانت أفضل، والله ولي التوفيق " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (24/352) .
وبهذا يتبين أنه إذا قرأت القرآن في الجوال بخشوع وتدبر، لم ينقص أجرك عن قراءته في المصحف إن شاء الله، فالمدار كله على حضور القلب وانتفاعه بالقرآن.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/41)
معنى التغني بالقرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى التغني بالقرآن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"جاء في السنة الصحيحة الحث على التغني بالقرآن، يعني تحسين الصوت به، وليس معناه أن يأتي به كالغناء، وإنما المعنى تحسين الصوت بالتلاوة، ومنه الحديث الصحيح: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) وحديث: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ) ومعناه: تحسين الصوت بذلك كما تقدم.
ومعنى الحديث المتقدم: (ما أذن الله) أي: ما استمع الله (كإذنه) أي: استماعه، وهذا استماع يليق بالله لا يشابه صفات خلقه، مثل سائر الصفات، يقال في استماعه سبحانه وإذنه مثل ما يقال في بقية الصفات، على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى، لا شبيه له في شيء سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى/11، والتغني: الجهر به مع تحسين الصوت والخشوع فيه، حتى يحرك القلوب، لأن المقصود تحريك القلوب بهذا القرآن، حتى تخشع، وحتى تطمئن، وحتى تستفيد، ومن هذا قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ، فجعل يستمع له عليه الصلاة والسلام، وقال: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) فلما جاء أبو موسى أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، قال أبو موسى: لو علمت يا رسول الله أنك تستمع إليّ لحبرته لك تحبيراً. ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، فدل على أن تحبير الصوت وتحسين الصوت والعناية بالقراءة أمر مطلوب، ليخشع القارئ والمستمع، ويستفيد هذا وهذا" انتهى.
"مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله" (11/348- 350) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/42)
ترديد الإمام لبعض آيات الرحمة أو العذاب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم ترديد الإمام لبعض آيات الرحمة أو العذاب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لا أعلم في هذا بأساً، لقصد حث الناس على التدبر والخشوع والاستفادة، فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه ردد قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المائدة/118، رددها كثيراً عليه الصلاة والسلام.
فالحاصل: أنه إذا كان لقصدٍ صالحٍ لا لقصد الرياء، فلا مانع من ذلك، لكن إذا كان يرى أن ترديده لذلك قد يزعجهم ويحصل به أصوات مزعجة من البكاء فترك ذلك أولى، حتى لا يحصل تشويش، أما إذا كان ترديد ذلك لا يترتب عليه إلا خشوع وتدبر وإقبال على الصلاة، فهذا كله خير" انتهى
"مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله" (11/343، 344) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/43)
وضع دعاء أو قرآن أو أذان لانتظار الرد على الاتصال
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم (خدمة صدى) وأقصد تحديدا وضع دعاء أو قرآن أو أذان لانتظار الرد أثناء الاتصال بشخص ما؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خدمة "صدى" تسمح باختيار صوت معين يسمعه المتصل فقط، وبعض الناس يختار أن يكون هذا الصوت قرآناً أو أذاناً، أو دعاء ًَ، أو نشيداً مفيداً، وبعضهم يختار أن يكون أغنية أو موسيقى..... إلخ.
ولا بأس من حيث الأصل بهذه الخدمة، على أن يكون الصوت المختار ليسمعه المتصل شيئاً مباحاً أو مفيداً.
ولا يجوز أن يكون هذا الصوت موسيقى أو أغنية هابطة، لما ثبت من تحريم الأغاني والموسيقى، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (5000) .
وأما اختيار صوت قارئ يقرأ القرآن، فهذا قد يكون فيه نوع امتهان للقرآن الكريم، فإن الله تعالى أنزل القرآن ليُقرأ ويُتدبر ويُتعبد بتلاوته ويُعمل بما فيه.
وكلام الله تعالى أعظم من أن نجعله مجرد وسيلة لشغل الفراغ أو التنبيه.
وكذلك الأذان فإنه شرع للإعلام بأفضل وأهم عبادات الإسلام وهي الصلاة، فله من التعظيم والإجلال ما يليق به، فلا ينبغي استعماله في هذه الخدمة.
أما الدعاء فالأمر فيه أهون.
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ما رأيكم فيمن يضع في الجوال بدلا من الموسيقى أذان أو قراءة القرآن الكريم؟
فأجاب: "هذا امتهان للأذان والذكر والقرآن الكريم، فلا يتخذ لأجل التنبيه، ما يتخذ القرآن لأجل التنبيه.
يقال: هذا خير من الموسيقى! فهل الموسيقى أنت ملزم بها؟! اترك الموسيقى، ضع شيئا منبها، لا فيه موسيقى ولا فيه قرآن، منبه فقط " انتهى من "مجلة الدعوة" عدد 2097.
وينظر جواب السؤال رقم (34494) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/44)
ضرب الأمثلة من القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[نسمع كثيراً من الناس يستخدمون الآيات القرآنية لضرب أمثلة أو ما شابه ذلك، كقوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) الغاشية/7، وقوله: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) طه/55، ومن تلك الآيات القرآنية الكريمة التي لا يمكن التلفظ بها إلا لما يفيد وينفع، لا للسخرية والاستهتار، كالدارج على ألسنة بعض الناس، وما نسمعه أو نقرأه، فهل هذا جائز أم لا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" لا بأس بالتمثيل بالقرآن، إذا كان ذلك لغرض صحيح، كأن يقول: هذا الشيء لا يسمن ولا يغني من جوع، أو يقول: منها خلقناكم وفيها نعيدكم، إذا أراد التذكير بحالة الإنسان مع الأرض وأنه خُلق منها ويعود إليها، فالتمثيل بالقرآن إذا لم يكن على وجه السخرية والاستهزاء فلا بأس به، أما إذا كان على وجه السخرية والاستهزاء - كما يقول السائل، فهذا يعتبر ردة عن الإسلام، لأن من استهزأ بالقرآن أو بشيء من ذكر الله عز وجل، فإنه يرتد عن دين الإسلام، كما قال تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة/65، 66، فيجب تعظيم القرآن واحترامه، ولا يمنع هذا أن الإنسان يتمثل به على وجه نزيه، وعلى وجه طيب، لا مانع من ذلك، أما استعماله من باب السخرية والاستهزاء، فهذا ردة عن الإسلام" انتهى. والله تعالى أعلم.
"مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان" (1/127) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/45)
حرق أوراق المصحف الذي تمزق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز حرق أوراق من المصحف الشريف إذا خيف عليها الامتهان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم، إذا تمزَّق المصحف وخُشي عليه من الامتهان وأصبح في حالة لا يمكن الانتفاع به والقراءة فيه، فلا بأس أن يُحرق أو أن يُدفن في أرض طاهرة، لأنَّ كلاً من الأمرين فعله الصحابة رضي الله عنهم فقد دفنوا المصاحف، وكذلك حرَّقوا المصاحف لمَّا جمعوا النَّاس على مصحفٍ واحد، وهو مصحف عثمان رضى الله عنه، حرَّقوا ما عداه من بقية المصاحف.
فالمصحف إذا كان في حالةٍ لا يُمكن الانتفاع به لتمزقه، فإنَّه إمَّا أن يُدفن في مكان طاهر، وإمَّا أن يُحرق، وكلا الأمرين فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
"مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان" (1/127) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/46)
بداية الاحتفالات والندوات بقراءة القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم بداية الاحتفالات والندوات والاجتماعات بقراءة شيء من القرآن الكريم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس ذلك من السنة، فلم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ فيما نعلم ـ، فالمداومة على ذلك يدخل في الابتداع في الدين. وخير الهدي هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
عن إدارة مدرسة تريد أن تبدأ الإذاعة المدرسية يومياً بقراءة شيء من القرآن الكريم.
فأجاب:
"الذي ينبغي أن لا يتخذ ذلك سنة دائمة - أعني: البداءة بالقرآن الكريم عند فتح الإذاعة -، لأن البداءة بالقرآن الكريم عبادة، والعبادة تحتاج إلى توقيف من الشرع، ولا أعلم أن الشرع سن للأمة أن تبتدأ خطاباتها ومحاضراتها وما أشبه ذلك بالقرآن الكريم، لكن إّذا ابتدأ أحد بقراءة ما يناسب المحاضرة مثلا تقدمةً لها، ولعل المحاضر يتكلم على معاني الآيات التي قرأها فإن هذا طيب لا بأس به، مثل أن تكون المحاضرة عن الصيام فيقوم أحد الناس يقرأ آيات الصيام قبل بدأ المحاضرة، أو تكون المحاضرة في الحج فيقوم أحد ويقرأ آيات الحج، فإن هذا لا بأس به، لأنه مناسب، فهو كالتقدمة لهذه المحاضرة التي تتناسب مع هذه الآيات، أما اتخاذ هذا سنة راتبة كلما أراد المحاضرة، أو كلما أردنا كلاما قرأنا القرآن، فهذا ليس بسنة" انتهى.
http://www.ibnothaimeen.com/all/noor/article_8296.shtml
وقال الشيخ بكر أبو زيد:
"ومن المحدثات التي لم تكن في هدي من مضى من صالح سلف هذه الأمة: التزام افتتاح المؤتمرات، والاجتماعات، والمجالس والمحاضرات، والندوات بآيات من القرآن الكريم، ولا أعلم حدوث هذا في تاريخ المسلمين إلا بعد عام 1342 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فلا، فهذا قدوة الأمة رسول رب العالمين لم يعهد من هديه فعل ذلك ولا مرة واحدة، لا سيما في حال جمعه لوجوه الصحابة رضي الله عنهم للمشورة في مهمات الأمور، وهكذا الخلفاء الراشدون من بعده رضي الله عنهم من اجتماع السقيفة إلى الآخر، وهكذا في حياة من تبعهم بإحسان.
هذا إذا كان الأمر المفتتح مشروعاً، أما إذا كان محظوراً أو محرماً أو مكروهاً؛ فيحرم شرعاً افتتاحه بالقرآن لعدم شرعية السبب، ولما فيه من تعريض كلام الله تعالى للامتهان في مجلس محظور مثل دورات الرهان المحرم على لعب محرم في ميادين الكرة، والمصارعة، والملاكمة، ونطاح الحيوانات، وسباق السيارات، والدراجات، إلى غير ذلك من أمور مبنية على الرهان المحرم، وما تفضي إليه من محرمات أخرى" انتهى.
"تصحيح الدعاء" (ص 298) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/47)
المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قول الله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) الآية، وماذا يفعل من لبس عليه بسبب تشابه القران؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) آل عمران/7
المراد منه أن القرآن الكريم فيه المحكم والمتشابه، والمحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس أمره، وهذا هو الغالب في القرآن، فهو أمّ الكتاب وأصل الكتاب، وأما المتشابه، فهو الذي يشتبه أمره على بعض الناس دون بعض، فيعلمه العلماء ولا يعلمه الجهال، ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
وأهل الحق يردون المتشابه إلى المحكم، وأما أهل الزيغ فيتبعون المتشابه، ويعارضون به المحكم، ابتغاء الفتنة، وجريا خلف التحريف والتضليل.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/6) : " يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد ...
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله.
وقوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: تحريفه على ما يريدون " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قسم الله تبارك وتعالى القرآن الكريم إلى قسمين: محكم ومتشابه، والمراد بالمحكم هنا الواضح البين الذي لا يخفى على أحدٍ معناه مثل السماء والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وما أشبهها، هذا محكم؛ لأنه لا اشتباه في معناه، وأما المتشابهات فهي الآيات التي يشتبه معناها ويخفى على أكثر الناس ولا يعرفها إلا الراسخون في العلم، مثل بعض الآيات المجملة التي ليس فيها تفصيل، فتفصلها السنة مثل قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإن إقامة الصلاة غير معلومة، والمعلوم من هذه الآية وجوب إقامة الصلاة فقط، لكن كيف الإقامة، هذا يعرف من دليل آخر، والحكمة من أن القرآن نزل على هذين الوجهين الابتلاء والامتحان؛ لأن من في قلبه زيغ يتبع المتشابه، فيبقى في حيرةٍ من أمره، وأما الراسخون في العلم فإنهم يؤمنون به كله، متشابهه ومحكمه، ويعلمون أنه من عند الله وأنه لا تناقض فيه. ومن أمثلة المتشابه: قول الله تبارك وتعالى (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) مع قوله (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) فيأتي الإنسان ويقول: هذا متناقض كيف يقولون (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَاكُنَّا مُشْرِكِينَ) ثم يقال عنهم إنهم (لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) فيضرب الآيات بعضها ببعض؛ ليوقع الناس في حيرة، لكنّ الراسخين في العلم يقولون: كله من عند الله ولا تناقض في كلام الله، ويقولون: إن يوم القيامة يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، فتتغير الأحوال وتتبدل، فتُنزّل هذه على حال وهذه على حال " انتهى من "فتاوى نور على الدرب".
وقال أيضا: " وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك فضلوا، وأضلوا وتوهموا بهذا المتشابه مالا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله.
مثال الأول: قوله تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى) . وقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ونحوهما مما أضاف الله فيه الشيء إلى نفسه بصفة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد.
وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو) . ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت بما وقع لك من الاشتباه قد كفّرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد) أي كفروا بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
ومثال الثاني: قوله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تهدي من أحببت) وقوله: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) ففي الآيتين موهم تعارض، فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضاً وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض.
وأما الراسخون في العلم فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره. والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة وهذه تكون من الله تعالى، ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين ... " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (4/186) .
وهذه كلها أمثلة للمتشابهة النسبي الذي يخفى على بعض الناس، ويعلمه الراسخون في العلم، وأما المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله فمثل حقيقة وكيفية صفات الله تعالى، وحقيقة ما يكون عند الله تعالى من نعيم لأهل الجنة، وعذاب لمن عصاه؛ فهذا كله لا يعلمه إلا الله.
ثانيا:
من التبس عليه أمر شيء من المتشابه، فليرده إلى المحكم، إن كان من أهل العلم القادرين على الاستدلال والاستنباط، وإلا فليسأل أهل العلم، كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43
وليقل في كل حال: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وقد عمد قوم من أهل الزيغ والزندقة قديما وحديثا إلى تتبع المتشابه من القرآن والسنة، ابتغاء الفتنة والتشكيك، وتصدى أهل العلم لذلك، وألفوا مؤلفات نافعة في رد هذا التشكيك، ومن ذلك ما ألفه الإمام ابن قتيبة رحمه الله بعنوان: تأويل مختلف الحديث. وما ألفه الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله بعنوان: دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب.
فليس بحمد الله بين آيات الكتاب تناقض ولا اضطراب، وليس بين السنة والقرآن تعارض؛ لأن الأمر كله من عند الله، وقد قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء/82
ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد والعلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/48)
حكم مس الكافر للمصحف
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أحد الدعاة في الصين يقول: إن مس المصحف بغير طهارة حرام بالنسبة للمسلم، وأما الكافر فيجوز له ذلك، حتى يتمكن من معرفة الإسلام، فهل هذا الكلام صحيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز للمحدث مس المصحف؛ لما جاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وفيه: (ألا يمس القرآن إلا طاهر) رواه مالك (468) وابن حبان (793) والبيهقي (1/87) . قال الحافظ ابن حجر: " وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة" انتهى من "التلخيص الحبير" (4/17) .
والحديث صححه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (1/158) .
وهذا يشمل المحدث حدثا أصغر أو أكبر، والكافر جامع للحدثين، إذ تصيبه الجنابة، فلا يغتسل منها، ولو اغتسل لم يصح غسله.
ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى منع الكافر من مس المصحف، وتحريم تمكينه منه، وهو أولى بالمنع من المسلم؛ لأنه يُخشى من امتهانه له، ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، كما روى البخاري (2990) ومسلم (1869) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ.
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (2/85) : " قال أصحابنا: لا يمنع الكافر سماع القرآن، ويمنع مس المصحف " انتهى.
وقال الرملي رحمه الله: " ويمنع الكافر من وضع يده على المصحف لتجليده، كما قاله ابن عبد السلام، وإن رجي إسلامه " انتهى من "نهاية المحتاج" (3/389) .
وقال الباجي في "المنتقى" (3/165) : " ولو أن أحدا من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف يتدبره لم يرسل إليه به؛ لأنه نجس جنب ولا يجوز له مس المصحف، ولا يجوز لأحد أن يسلمه إليه ذكره ابن الماجشون " انتهى.
وجاء في "الموسوعة الفقهية": " مس الكافر المصحف وعمله في نسخ المصاحف وتصنيعها: يمنع الكافر من مسّ المصحف , كما يمنع منه المسلم الجنب , بل الكافر أولى بالمنع " انتهى.
وفيها أيضا: " ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للكافر مس المصحف لأنّ في ذلك إهانةً للمصحف.
وقال محمّد بن الحسن: لا بأس أن يمسّ الكافر المصحف إذا اغتسل , لأنّ المانع هو الحدث وقد زال بالغسل , وإنّما بقي نجاسة اعتقاده وذلك في قلبه لا في يده " انتهى.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: ما حكم مس النصراني للمصحف، وكذلك مسه لترجمة معاني القرآن الكريم؟
فأجاب: " هذا فيه نزاع بين أهل العلم، والمعروف عند أهل العلم منع النصراني واليهودي وسائر الكفرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، قال: لئلا تناله أيديهم، فدل ذلك على أنهم لا يمكنون منه، وإنما يمكنون من السماع، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) الآية، يعني: يتلى عليهم حتى يسمعوه ولكن لا يدفع إليهم القرآن. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك إذا رجي إسلام الكافر واحتجوا على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم قوله جل وعلا: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) الآية،
قالوا: هذه الآية العظيمة آية من كتاب الله وقد كتبها إلى هرقل.
والصواب أنه ليس بحجة، وإنما يدل على جواز الكتابة للآية والآيتين من كتاب الله. أما تسليم المصحف فليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
أما بالنسبة لكتاب ترجمة معاني القرآن فلا حرج في أن يمسه الكافر؛ لأن المترجم معناه أنه كتاب تفسير وليس بقرآن، أي أن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسه الكافر أو من ليس على طهارة فلا حرج؛ لأنه ليس له حكم القرآن، وحكم القرآن يختص بما إذا كان مكتوبا بالعربية وحدها وليس فيه تفسير، أما إذا كان معه الترجمة فحكمه حكم التفسير، والتفسير يجوز أن يحمله المحدث والمسلم والكافر؛ لأنه ليس كتاب القرآن ولكنه يعتبر من كتب التفسير " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (24/340) .
وعُلم من هذا جواز مس الكافر للترجمة، لأن الترجمة ليست قرآنا، فإذا أريد دعوته أعطي ترجمةً لمعاني القرآن الكريم.
وانظر جواب السؤال رقم (96646)
وفق الله الجيع لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/49)
الوصايا العشر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوجد في القرآن شيء شبيه بالوصايا العشرة الموجودة في الإنجيل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
شكرا لك على توجيه هذا السؤال الذي يظهر منه الاهتمام بالقرآن الكريم ونقدّم لك جواب سؤالك بكلّ سرور:
في القرآن الكريم آيات أطلق عليها بعض العلماء آيات الوصايا العشر نظرا لاشتمالها على عشر وصايا عظيمة من الله للبشرية، وهذه الآيات في موضعين من القرآن الكريم:
الأول في سورة الأنعام في قول الله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) سورة الأنعام
والموضع الثاني في سورة الإسراء ويكاد أن يكون شرحا للموضع الأول، قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) .
ولعلك أيها السّائل بعد تمعّنك في هذه الآيات يكون لك موقف من القرآن أجود بكثير من ذي قبل، وأن يكون ذلك فاتحة لتغيّر جذري في حياتك، وسبيلاً كريماً لاعتناق دين الإسلام ونتمنى لك التوفيق دائما، والسلام على من اتّبع الهدى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/50)
كتابة القرآن في الجوال بغير الرسم العثماني
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن شركة كمبيوتر تقوم بتطوير برنامج أذكار ليعمل على أجهزة الهاتف المحمولة. ضمن مواصفات البرنامج: عرض بعض الأذكار وبعض الآيات والأحاديث التي تحث على الذكر والدعاء وذلك على شاشة الجهاز. يوجد بعض الصعوبات الفنية في عرض الآيات بالرسم العثماني وبالتشكيل. السؤال هو هل يجوز عرض بعض الآيات القليلة بدون رسم عثماني وبدون تشكيل وذلك على شاشة جهاز الهاتف لتذكير صاحبه بالذكر والدعاء؟ وجزاكم الله خيرا]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
المصحف لا تجوز كتابته بغير الرسم العثماني المتفق عليه منذ عهد الصحابة:
قال أشهب: " سئل مالك رحمه الله: هل تَكتب المصحف على ما أخذتْه الناس من الهجاء؟ فقال: لا؛ إلا على الكِتْبة الأولى.
رواه أبو عمرو الداني في المقنع، ثم قال: " ولا مخالف له من علماء الأمة " ...
وقال الإمام أحمد رحمه الله: " تحرم مخالفة خط مصحف عثمان فى ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك " ...
وقد قال البيهقي في شعب الإيمان: " من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يغير مما كتبوه شيئا؛ فإنهم أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا؛ فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.
وروى بسنده عن زيد قال: القراءة سنة. قال سليمان بن داود الهاشمى يعنى ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع.
قال: وبمعناه بلغني عن أبى عبيد في تفسير ذلك وترى القراء لم يلتفوا إلى مذهب العربية في القراءة إذا خالف ذلك خط المصحف واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن القائمة التى لا يجوز لأحد أن يتعداها. " انتهى.
[انظر: البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1/379) والإتقان للسيوطي (4/146) ]
وقال السيوطي رحمه الله في الإتقان: " أجمعوا على لزوم اتباع رسم المصاحف العثمانية في الوقف إبدالا وإثباتا وحذفا ووصلا وقطعا " انتهى من الإتقان في علوم القرآن (1/250) .
وهذا كله فيما إذا كان الغرض كتابة المصحف، يعني: كاملا.
وأما كتابة آية منه، أو بعض آيات، ونقلها في كتب العلم، أو المجلات النافعة، أو نحو ذلك، فلا بأس به، وعليه جرى عمل الناس في كتبهم، وإن كان الأحسن مراعاة رسم المصحف، متى أمكن ذلك، بنقله من المصحف مباشرة.
وقد سبق بيان حكم ذلك في السؤال رقم (97741)
وعليه:
فلا حرج فيما ذكرت من عرض بعض الآيات الكريمة على شاشة الجوال بغير الرسم العثماني، إذا تعذّر عرضها بالرسم العثماني، مع مراعاة أن تكون الآيات المكتوبة بهذه الطريقة مما يسهل قراءتها عادة، ولا يحصل فيها الغلط، ومراعاة ضبط ما يشكل منها حتى لا يحصل الخطأ في قراءتها ونشرها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/51)
لبس الطبيبة والممرضة معطفا أبيض فوق الثياب
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالبة فى كلية الطب وأرتدى النقاب والحمد لله ولكني أرتدي معطفا أبيض طويلا فضفاضا كجزء من الزى الرسمى لكليتى أثناء تواجدى بالكلية وأرتدى عباءة طويلة عندما أذهب إلى السوق أو أي مكان آخر خلاف الكلية. فهل من الضرورى ارتداء العباءة أثناء ارتداء المعطف الطويل الذى يصل إلى الركبة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سبق بيان الشروط المعتبرة في لباس المرأة، وانظري جواب السؤال رقم (6991)
ولا حرج فيما ذكرت من لبس معطف أبيض طويل فضفاض فوق ملابسك.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " الواجب على الطبيبات وغيرهن من ممرضات وعاملات أن يتقين الله تعالى وأن يلبسن لباسا محتشما لا يبين معه حجم أعضائهن أو عوراتهن , بل يكون لباسا متوسطا لا واسعا ولا ضيقا , ساترا لهن سترا شرعيا مانعا من أسباب الفتنة " انتهى من "فتاوى الشيخ ابن باز" (9/427) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/52)
من الذي سمّى القرآن بهذا الاسم
[السُّؤَالُ]
ـ[من الذي سمّى القرآن بهذا الاسم؟ قرأت في مجلة أنه أبو بكر رضي الله عنه إلا أنني لا أعتقد أن هذا صحيح، حيث أن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الإنسان: " إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ".
أخي العزيز: رجاءً أعطني صورة واضحة حول هذا الموضوع.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أيها الأخ السائل لقد أجبت نفسك بنفسك فإن الله هو الذي سمى كتابه بـ " القرآن ". قال تعالى:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) البقرة / 185
وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) النساء / 82
وقال: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف / 204
وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) التوبة / 111
وقال: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يونس / 37
وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف / 2
وقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ) سورة يوسف / 3
وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الحِجْر / 87
وقال: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل / 98
وقال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الإسراء / 9
وقال: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) الإسراء / 82
وقال: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء / 88
وقال: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) الإسراء / 106
وقال: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) طه / 2
وقال: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه / 114
وقال: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) النمل / 1
وقال: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) النمل / 6
وقال: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) القصص / 85
وقال: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) سورة يس
وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر / 40
وقال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) الواقعة / 77
وقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) الحشر / 21
وقال: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) المزم / 4
وقال: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) البروج / 21
فهل بقي بعد ذلك شكّ في أنّ الله هو الذي سمّى كتابه الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم " القرآن "؟؟ وليس أبو بكر رضي الله عنه ولا غيره.
والقرآن في اللغة العربية من القَرْء وهو الجمع والضمّ سمي بذلك لأنّه جمع السور بعضها إلى بعض وقيل لأنّه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلّة كلها، وقيل لأنه جمع أنواع العلوم كلها. (انظر الإتقان للسيوطي 1/162 - 163)
وأخيرا نوصيك بالتثبّت وحسن الانتقاء لما تقرأ حتى لا تشوّش عليك المصادر غير الموثوقة من الكتب والمجلات فكرك وتشكّكك بالحقّ. وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/53)
مصحف التجويد الملون
[السُّؤَالُ]
ـ[أود السؤال عن مصحف التجويد الذي يحتوي على الحروف الملونة التي تساعد على صحة نطق الحروف ومخارجها؟ هل ما يحويه هذا المصحف من ألوان ومربعات ومسافات للوقفات يعتبر من البدع أم لا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بعد الاطلاع على مصحف التجويد الملون، تبين أنه لا محذور في استعمال هذه الألوان، بل فيها تيسير تعلم التجويد، على من لا يستطيع التلقي المباشر عن أهل الاختصاص.
وقد نشر موقع دار المعرفة صورة من اعتماد مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر لهذا المصحف الذي استعملت فيه الألوان، كما نقل موافقة شيخ قراء الديار الشامية الشيخ محمد كريم راجح، وموافقة الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي، وهذا نص ما ورد في الموقع:
" وفيما يتعلّق بعملنا هذا، بيّن شيخ قرّاء الديار الشاميّة محمد كريم راجح في 21 صفر1412 هـ، بأنّ هذا العمل (مقبول وإذا لم ينفع لم يضر، ثمّ هو يُذكر ويدل، ولا يغني عن التلقّي من أفواه المشايخ) ، في حين بيّن الشيخ القارئ محي الدين الكردي في 18 صفر 1415هـ (بأنّه قد يستفيد من هذا العمل البعيدُ عن التعلّم والكبير، فإنّهم لا يستطيعون التلقّي) .
وقد بيّن الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي عضو مجمّع الفقه الإسلامي بجدّة ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق في 18 محرم 1415 هـ ما يلي: (يقول الله تعالى: (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكِر) وفي هذا دلالة واضحة على أنّ كل ما يُيَسّر تلاوة القرآن المفروض شرعاً تدبّره وفهم معانيه وإدراكه، والعمل بما جاء فيه، أمر واجب شرعاً على أولي العلم والفقه وتفسير كتاب الله، وإذا كان ترتيل القرآن المجيد واجباً شرعاً على النحو المعروف في علم التجويد، فإنّ كل أسلوب يُسهّل على القارئ معرفة أحكام التجويد والالتزام بها في التلاوة أمر جائز شرعاً، سواء أكانت حروف الطباعة بلون واحد أم بألوان مختلفة، والقراءة الناجحة هي التي ترتسم حروف كلماتها في الذهن، وهذه الطبعة للقرآن المجيد بالألوان تتفق مع تيسير القرآن وترتيله، وتثبيت الأحكام في الذهن، فذلك أسلوب معاصر مرغوب فيه ولا ينافي المأثور والرسم المنقول، والله الموفق لدار المعرفة على هذا العمل المبرور" انتهى.
وينظر صورة اعتماد مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تحت هذا الرابط:
http://www.dar-al-maarifah.com/ar/azhar.htm
ولا وجه للحكم ببدعية هذه الألوان، فقد كان علماء الضبط قديما من زمن التابعين يشكلون المصاحف وينقطونها باللون الأحمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " لم يكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونها حيث كانوا عربا لا يلحنون، فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل يعملون، وتعملون، فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى.
ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعملون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء أمامه، ثم مدوا النقطة الحمراء، وصاروا يعملون الشدة بقولك " شد " ويعملون المدة بقولك " مد "، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين؛ لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك وصارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة، كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، كما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل (أنا) وعلى شكل (ثنا) وتنازع العلماء هل يكره تشكيل المصاحف وتنقيطها على قولين معروفين، وهما روايتان عن أحمد، لكن لا نزاع بينهم أن المصحف إذا شكل ونقط وجب احترام الشكل والنقط، كما يجب احترام الحرف) انتهى من "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (12/101) .
وقال الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق حفظه الله: " لا يدخل في الرسم العثماني الأمور التالية:
أولا: النقط التي تتميز بها الحروف فإنها إنما ألحقت بالحروف العربية في عصر التابعين وكانت الحروف قبل ذلك تكتب غير منقوطة. قال أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المتوفى سنة 444 هـ: " باب ذكر من نقط المصاحف أولا من التابعين ومن كره ذلك ومن ترخص فيه من العلماء: اختلفت الرواية لدينا فيمن ابتدأ بنقط المصاحف من التابعين فروينا أن المبتدئ بذلك كان أبا الأسود الدؤلي.
وروينا أن ابن سيرين كان عنده مصحف نقطه يحيى بن يعمر وأن يحيى أول من نقطها" [كتاب النقط المطبوع مع المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ص129] .
ثانيا: الحركات والتنوين وأول من وضعها أبو الأسود الدؤلي وكانت نقطا، وذلك أنه أراد أن يعمل كتابا في العربية يقوّم الناس به ما فسد من كلامهم إذ كان ذلك قد نشأ في خواص الناس وعوامهم فأحضر من يمسك المصحف، وأحضر صبغا يخالف لون المداد، وقال للذي يمسك المصحف عليه: إذا فتحت فاي فاجعل نقطة فوق الحرف، وإذا كسرت فاي فاجعل نقطة تحت الحرف، وإذا ضممت فاي فاجعل نقطة أمام الحرف، فإن أتبعت هذه الحروف غنّة يعني تنوينا، فاجعل نقطتين حتى آتي على آخر المصحف. وقيل إن أول من فعل ذلك نصر بن عاص الليثي. [كتاب النقط المطبوع مع المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ص129] .
ثم إن الخليل بن أحمد طور ذلك حيث اخترع الحركات المأخوذة من الحروف. [الإتقان في علوم القرآن ص 219] .
ثالثا: الهمزة والتشديد والرَّوْم والإشمام، وأول من وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي.
رابعا: علامات التجويد وعلامات الوصل والوقف فإنها لم تكن في الرسم العثماني وإنما كتبت بعد الكتابة في علم التجويد " انتهى من "كتابة القرآن الكريم بخط برايل للمكفوفين" منشور في مجلة البحوث الإسلامية (66/337) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/54)
متى يجب الإنصات لتلاوة القرآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حكم إذا كنا جالسين في مجلس كبير يقرأ فيه القرآن، وكنت أنا ورفيق لي منفصلين بحوار آخر عن الموجودين. إذا كنا في سيارة أو حافلة والسائق يستمع إلى القرآن أو يقرؤه ولم نكن مشاركين له فيما يقرأ. إذا كنا في غرفة ما، ويوجد من يصلي جهراً، أو يقرأ القرآن جهرا. أو أي حالة أخرى في مكان يقرأ القرآن فيه ولم نكن نرغب أو نشارك فيما يقرأ، فهل يجب علينا أن ننصت حتى يفرغ القارئ، وتنطبق علينا الآية الكريمة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
اختلف العلماء في حكم الإنصات لقراءة القرآن خارج الصلاة، على قولين:
القول الأول: الوجوب، وهو مذهب الأحناف، وبعضهم جعله وجوبا عينيا، وآخرون قالوا وجوب كفائي، واستدلوا بعموم قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/204
جاء في "الموسوعة الفقهية" (4/86) :
" الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم حين يقرأ خارج الصلاة واجبٌ إن لم يكن هناك عذرٌ مشروعٌ لترك الاستماع.
وقد اختلف الحنفيّة في هذا الوجوب، هل هو وجوبٌ عينيٌّ، أو وجوبٌ كفائيٌّ؟
قال ابن عابدين: الأصل أنّ الاستماع للقرآن فرض كفايةٍ، لأنّه لإقامة حقّه، بأن يكون ملتفتاً إليه غير مضيّعٍ، وذلك يحصل بإنصات البعض، كما في ردّ السّلام.
ونقل الحمويّ عن أستاذه قاضي القضاة يحيى الشّهير بمنقاري زاده: أنّ له رسالةً حقّق فيها أنّ سماع القرآن فرضُ عينٍ.
نعم إنّ قوله تعالى في سورة الأعراف (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قد نزلت لنسخ جواز الكلام أثناء الصّلاة، إلاّ أنّ العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب، ولفظها يعمّ قراءة القرآن في الصّلاة وفي غيرها " انتهى.
القول الثاني: الاستحباب والندب، وحملوا الآية التي في سورة الأعراف في حال الصلاة فقط، أما في غير الصلاة فالأمر على الندب والاستحباب، وهذا قول جماهير أهل العلم.
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (2/372) :
" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/204: يعني في الصلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد الله بن المغفل. وقال ابن جرير: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا بشر بن المفضل حدثنا الجريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقص فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت، فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما. قال: فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/204
وكذا رواه غير واحد عن مجاهد وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بذلك في الصلاة.
وهذا اختيار ابن جرير: أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة كما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة " انتهى.
ويظهر أن هذا القول هو القول الراجح، لأن الوجوب يلزمه دليل صريح، وإلا ألزمنا الناس بما فيه مشقة ظاهرة من غير دليل.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في "لقاءات الباب المفتوح" (لقاء رقم/197، سؤال رقم/26) :
كان مجموعة في السيارة يمشون، وشغل أحدهم شريط قرآن، فهل يجب على الجميع استماع هذا الشريط، وهل يأثم من يتكلم والشريط شغال؟
فكان الجواب:
قال الإمام أحمد رحمه الله في هذه الآية: هذا في الصلاة. وقال: أجمعوا على أن ذلك في الصلاة. وعلى هذا فلو كنت بجوار شخص يقرأ القرآن ويجهر به، وأنا أسبح وأهلل - ذكر خاص - فإنه لا يلزمني أن أستمع له، وإنما ذلك في الصلاة فقط.
ولكني أقول للأخ الذي شغل المسجل: لا تشغل والناس غافلون؛ لأن هذا أدنى ما نقول فيه أنه يشبه من قال الله فيهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فصلت/26، فإذا رأيت إخوانك لا يريدون الاستماع، إنما هم مشغولون بالحديث بينهم، فلا تشغل المسجل، وإذا كنت تشتاق لهذا فهناك سماعة صغيرة أدخلها في أذنك، ويجعل الصوت له وحده " انتهى.
وجاء في "المنتقى من فتاوى الفوزان" (3/سؤال رقم 437)
" أقضي بعض الأوقات الساعات الطوال في المطبخ، وذلك لإعداد الطعام لزوجي، وحرصًا مني على الاستفادة من وقتي؛ فإنني أستمع إلى القرآن الكريم، سواء كان من الإذاعة، أو من المسجل؛ فهل عملي هذا صحيح أم أنه لا ينبغي لي فعل ذلك؛ لأن الله تعالى يقول:
(وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ؟
الجواب: لا بأس باستماع القرآن الكريم من لمذياع أو من المسجل والإنسان يشتغل، ولا يتعارض هذا مع قوله: (فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ) ؛ لأن الإنصات مطلوب حسب الإمكان، والذي يشتغل ينصت للقرآن حسب استطاعته " انتهى.
واختيار القول بالاستحباب لا يعني التساهل وتعمد التغافل عن الإنصات لكلام الله سبحانه وتعالى حين يتلى، فالحرص على الإنصات لا بد أن يكون أصلا ثابتا في حياة المسلم، ولا ينصرف عنه إلا لشغل أو حاجة.
يقول النووي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (92) :
" ومما يُعْتنى به ويتأكد الأمر به: احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين، فمن ذلك: اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة، إلا كلاما يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى: (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وليقتد بما رواه ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان إذا قُرئ القرآنُ لا يتكلم حتى يُفرَغَ منه) " انتهى.
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "لقاءات الباب المفتوح" (لقاء رقم/146،سؤال رقم 9) :
" ليس من الآداب أن يتلى كتاب الله ولو بواسطة الشريط وأنت متغافل عنه " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/55)
التكبير من سورة الضحى إلى سورة الناس
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز التهليل والتكبير من بعد سورة الضحى إلى سورة الناس؟ وهل ثبت ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اختلف العلماء في حكم التكبير بعد كل سورة، من سورة الضحى إلى الناس، فاستحبه الإمام أحمد، وخالفه باقي الأئمة؛ وعن الإمام أحمد رواية أخرى توافق قول الجمهور، والصحيح أنه لا يشرع التكبير، ولم يثبت هذا في حديث مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يصح التكبير عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما ثبت ذلك عن بعض قراء أهل مكة.
عن عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت (وَالضُّحَى) قال لي: كبِّر كبِّر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك.
رواه الحاكم في " المستدرك " (3 / 304) .
والحديث ضعيف، في إسناده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث، لا أُحَدِّث عنه، وقال العقيلي: منكر الحديث، وقال الذهبي: هذا حديث غريب، وهو مما أنكر على البزي، قال أبو حاتم: هذا منكر، وقال: وصحح له الحاكم حديث التكبير، وهو منكر.
انظر: " الضعفاء " للعقيلي (1 / 127) ، و" ميزان الاعتدال " (1 / 144، 145) و " سير أعلام النبلاء" (12 / 51) كلاهما للإمام الذهبي.
قال ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله -:
" واستحب أحمد التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم، ذكره ابن تميم وغيره، وهو قراءة أهل مكة، أخذها البزي عن ابن كثير، وأخذها ابن كثير عن مجاهد، وأخذها مجاهد عن ابن عباس، وأخذها ابن عباس عن أبيّ بن كعب، وأخذها أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى ذلك جماعة منهم: البغوي في تفسيره، والسبب في ذلك انقطاع الوحي.
وهذا حديث غريب، رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، وهو ثبت في القراءة، ضعيف في الحديث.
وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر ... .
وعنه – أي: عن الإمام أحمد - أيضاً: لا تكبير، كما هو قول سائر القراء " انتهى.
" الآداب الشرعية " (2 / 295، 296) .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
عن جماعة اجتمعوا في ختمة وهم يقرؤون لعاصم وأبى عمرو فإذا وصلوا إلى سورة الضحى لم يهللوا ولم يكبروا إلى آخر الختمة، ففعلهم ذلك هو الأفضل أم لا؟ وهل الحديث الذي ورد في التهليل والتكبير صحيح بالتواتر أم لا؟
فأجاب:
" الحمد لله، نعم، إذا قرؤوا بغير حرف ابن كثير كان تركهم لذلك هو الأفضل، بل المشروع المسنون؛ فإن هؤلاء الأئمة من القراء لم يكونوا يكبرون لا في أوائل السور، ولا في أواخرها، فإن جاز لقائل أن يقول إن ابن كثير نقل التكبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاز لغيره أن يقول إن هؤلاء نقلوا تركه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ من الممتنع أن تكون قراءة الجمهور التي نقلها أكثر من قراءة ابن كثير قد أضاعوا فيها ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن أهل التواتر لا يجوز عليهم كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي إلى نقله، فمن جوَّز على جماهير القراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأهم بتكبير زائد فعصوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا ما أمرهم به: استحق العقوبة البليغة التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك ... .
وأما التكبير: فمن قال إنه من القرآن: فإنه ضال باتفاق الأئمة، والواجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فكيف مع هذا ينكر على من تركه؟! ومن جعل تارك التكبير مبتدعاً أو مخالفاً للسنَّة أو عاصياً: فإنه إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام، والواجب عقوبته؛ بل إن أصرَّ على ذلك بعد وضوح الحجة وجب قتله.
ولو قدِّر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتكبير لبعض من أقرأه: كان غاية ذلك يدل على جوازه، أو استحبابه، فإنه لو كان واجباً: لما أهمله جمهور القراء، ولم يتفق أئمة المسلمين على عدم وجوبه، ولم ينقل أحد من أئمة الدين أن التكبير واجب، وإنما غاية من يقرأ بحرف ابن كثير أن يقول: إنه مستحب، وهذا خلاف البسملة، فإن قراءتها واجبة عند من يجعلها من القرآن، ومع هذا فالقراء يسوغون ترك قراءتها لمن لم ير الفصل بها، فكيف لا يسوغ ترك التكبير لمن ليس داخلا في قراءته؟ " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (13/ 417 - 419) .
وقال – رحمه الله -:
" والتكبير المأثور عن ابن كثير ليس هو مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسنده أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا البزي، وخالف بذلك سائر من نقله، فإنهم إنما نقلوه اختياراً ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، وانفرد هو برفعه، وضعَّفه نقلة أهل العلم بالحديث والرجال من علماء القراءة وعلماء الحديث، كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (17 / 130) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
بعض قراء القرآن يفصلون بين السورة والأخرى بقول " الله أكبر " دون بسملة، هل يجوز ذلك، وهل له دليل؟
فأجاب:
هذا خلاف ما فعل الصحابة رضي الله عنهم من فصلهم بين كل سورة وأخرى بـ " بسم الله الرحمن الرحيم "، وخلاف ما كان عليه أهل العلم من أنه لا يفصل بالتكبير في جميع سور القرآن.
غاية ما هناك أن بعض القراء استحب أن يكبر الإنسان عند ختم كل سورة من الضحى إلى آخر القرآن مع البسملة بين كل سورتين، والصواب: أنه ليس بسنة؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالمشروع أن تفصل بين كل سورة وأخرى بالبسملة " بسم الله الرحمن الرحيم " إلا في سورة " براءة " فإنه ليس بينها وبين الأنفال بسملة " انتهى.
" فتاوى إسلامية " (4 / 48) .
وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله - في كتابه " بدع القراء " (ص 27) سبعة أمور تتعلق بختم القرآن نذكر منها:
التكبير في آخر سورة الضحى إلى آخر سورة الناس داخل الصلاة أو خارجها.
ثم قال:
" فهذه الأمور السبعة: لا يصح فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته رضي الله عنهم، وعامة ما يُروى في بعضها مما لا تقوم به الحجة، فالصحيح عدم شرعية شيء منها " انتهى.
وألَّف شيخ المقرئين في المدينة النبوية الشيخ إبراهيم الأخضر رسالة بعنوان " تكبير الختم بين القراء والمحدثين "، وقد ذكر في خاتمة هذه الرسالة ما نصه:
" ومن خلال ما تقدم من بحث أحوال الروايات، وتحقيق سندها، وتراجم رجالها: لم نجد غير رواية البزي - كما ذكر العلماء -، وهي رواية تسلسلت بالضعفاء والمجروحين، ولم تعضدها رواية أخرى من غير طريق البزي، وذلك كما صرح كثير من علماء الروايات، على أن بعضاً من مشاهير القراء كابن مجاهد في كتابه " السبعة " لم يورد التكبير، وكذلك أبو القاسم الهذلي في كتابه " الكامل " لم يورد التكبير أيضاً، وهذا مما يدل على عدم ثبوت الرواية عندهما، والله أعلم ... .
وبهذا فلا نثبت سنَّة بخبر كهذا، بل الأفضل والأولى تركه سواء في رواية البزي أو رواية غيره من القراء، وذلك صوناً لكتاب الله، وتجريداً له عن كل ما ليس منه ممن يظن أنه سنَّة وهو ليس بسنَّة، والحمد لله رب العالمين " انتهى.
ثانياً:
وقد ذُكر في سبب التكبير أسباب عديدة، أشهرها أنه صلى الله عليه وسلم كان قد انقطع عنه الوحي مدة، فلما عاد بعد انقطاع نزل عليه بسورة الضحى، وفيها (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) فكبَّر فرحاً بهذا، وهذا لو صحَّ فإنه لا يدل على استحباب التكبير الذي قال به بعض القراء، وذلك من وجوه:
1. أنه ليس فيه تكبير من بعد كل قراءة للسورة.
2. وليس فيه أنه كبَّر إلى سورة الناس.
3. وأنه كان التكبير مرة واحدة ولسبب مجيء الوحي بعد انقطاعه.
4. وأنه ليس في كل السور الأخرى ما في سورة الضحى من معاني.
على أن هذه الرواية لم يأتِ لها سند صحيح بل ولا ضعيف.
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -:
" وذكر القرَّاء في مناسبة التكبير من بعد سورة الضحى: أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة ثم جاءه الملَك فأوحى إليه: (وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) السورة بتمامها: كبَّر فرَحاً، وسروراً.
ولم يُروَ ذلك بإسناد يُحكم عليه بصحة أو ضعف، فالله أعلم " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (8 / 423) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/56)
التكرار في القرآن الكريم أنواعه وفوائده
[السُّؤَالُ]
ـ[أبحث في موضوع وهو: مظاهر التكرار في القرآن الكريم]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه بعض المباحث اليسيرة في " التكرار في القرآن "، وهي تتناسب مع طبيعة الموقع، ويمكنك التوسع في الموضوع فيما نحيل عليه من مراجع، ومن كتب علوم القرآن عموماً.
أولاً: تعريف التكرار لغة واصطلاحاً.
قال ابن منظور:
الكَرُّ: الرجوع، يقال: كَرَّه وكَرَّ بنفسه، يتعدّى ولا يتعدّى، والكَرُّ مصدر كَرَّ عليه يَكُرُّ كرًّا ... والكَرُّ: الرجوع على الشيء، ومنه التَّكْرارُ ... (قال) الجوهري: كَرَّرْتُ الشيء تَكْرِيراً وتَكْراراً.
" لسان العرب " (5 / 135) .
التكرار في الاصطلاح: تكرار كلمة أو جملة أكثر من مرة لمعاني متعددة كالتوكيد، والتهويل، والتعظيم، وغيرها.
ثانياً:التكرار من الفصاحة.
اعترض بعض من لا يفقه لغة العرب فراح يطعن بالتكرار الوارد في القرآن، وظن هؤلاء أن هذا ليس من أساليب الفصاحة، وهذا من جهلهم، فالتكرار الوارد في القرآن ليس من التكرار المذموم الذي لا قيمة له – كما سيأتي تفصيله – والذي يرد في كلام من لا يحسن اللغة أو لا يحسن التعبير.
قال السيوطي – رحمه الله -:
التكرير وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة خلافاً لبعض من غلط.
" الإتقان في علوم القرآن " (3 / 280) طبعة مؤسسة النداء.
ثالثاً:أنواع التكرار.
قسَّم العلماء التكرار الوارد في القرآن إلى نوعين:
أحدهما: تكرار اللفظ والمعنى.
وهو ما تكرر فيه اللفظ دون اختلاف في المعنى، وقد جاء على وجهين: موصول، ومفصول.
أما الموصول: فقد جاء على وجوه متعددة: إما تكرار كلمات في سياق الآية، مثل قوله تعالى (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ) المؤمنون/36، وإما في آخر الآية وأول التي بعدها، مثل قوله تعالى (وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً) الإنسان/15، 16، وإما في أواخرها، مثل قوله تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً) الفجر/21، وإما تكرر الآية بعد الآية مباشرة، مثل قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الشرح/5، 6.
وأما المفصول: فيأتي على صورتين: إما تكرار في السورة نفسها، وإما تكرار في القرآن كله.
مثال التكرار في السورة نفسها: تكرر قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في سورة " الشعراء " 8 مرات، وتكرر قوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) في سورة " المرسلات " 10 مرات، وتكرر قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في سورة " الرحمن " 31 مرة.
ومثال التكرار في القرآن كله: تكرر قوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) 6 مرات: في " يونس " (48) و "الأنبياء" (38) و " النمل " (71) و "سبأ" (29) و " يس " (48) و " الملك " (25) ، وتكرر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مرتين: في " التوبة " (73) و " التحريم " (9) .
والثاني: التكرار في المعنى دون اللفظ.
وذلك مثل قصص الأنبياء مع أقوامهم، وذِكر الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها.
رابعاً: فوائد التكرار
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وليس في القرآن تكرار محض، بل لابد من فوائد في كل خطاب.
" مجموع الفتاوى " (14 / 408) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في التعليق على تكرار قصة موسى مع قومه -:
وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن، يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعاً غير النوع الآخر، كما يسمَّى اللهُ ورسولُه وكتابُه بأسماء متعددة، كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار، بل فيه تنويع الآيات مثل أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: محمد، وأحمد، والحاشر، والعاقب، والمقفى، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة.
وكذلك القرآن إذا قيل فيه: قرآن، وفرقان، وبيان، وهدى، وبصائر، وشفاء، ونور، ورحمة، وروح: فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر.
وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور: فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذي في الاسم الآخر، فالذات واحدة، والصفات متعددة، فهذا في الأسماء المفردة.
وكذلك في الجمل التامة، يعبَّر عن القصة بجُمَل تدل على معانٍ فيها، ثم يعبر عنها بجُمَل أخرى تدل على معانٍ أُخَر، وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة، ففي كل جملة من الجُمَل معنًى ليس في الجُمَل الأُخَر.
" مجموع الفتاوى " (19 / 167، 168) .
وقال السيوطي – رحمه الله -:
وله – أي: التكرار - فوائد:
منها: التقرير، وقد قيل " الكلام إذا تكرَّر تقرَّر "، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) .
ومنها: التأكيد.
ومنها: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول، ومنه (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ) ، فإنه كرر فيه النداء لذلك.
ومنها: إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيها تطرية له وتجديداً لعهده، ومنه (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) ، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) ، (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) إلى قوله (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ، (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) ، (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ) .
ومنها: التعظيم والتهويل نحو (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ) ، (الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ) ، (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) .
" الإتقان في علوم القرآن " (3 / 281، 282) طبعة مؤسسة النداء.
خامساً: فوائد تكرار بعض القصص والآيات
1. قال أبو الفرج ابن الجوزي – رحمه الله -:
فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله: (فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ) ؟ .
الجواب: أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها، قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز؛ لأن افتنان المتكلِّم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ، يقول القائل منهم: واللهِ لا أفعله، ثم واللهِ لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله، كما يقول: واللهِ أفعلُه، بإضمار " لا " إذا أراد الاختصار، ويقول القائل المستعجِل: اعْجَل اعْجَل، وللرامي: ارمِ ارمِ، ... .
قال ابن قتيبة: فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ [هو من لم يحج قط] ؟ أفَتُنْكِرُ هذا؟ . " زاد المسير " (5 / 461) .
2. قال القرطبي – رحمه الله -:
وأما وجه التكرار – أي: {قل يا أيها الكافرون} - فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم، كما تقول: والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله.
قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد، قال الله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ، (ويل يومئذ للمكذبين) ، (كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون) ،
و (فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا) : كل هذا على التأكيد.
" تفسير القرطبي " (20 / 226) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/57)
حكم الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في الصلاة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الاستعاذة قبل قراءة القرآن في الصلاة؟ هل هي واجبة أم مستحبة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ قبل قراءة الفاتحة في الصلاة. رواه أبو داود (775) وصححه الألباني.
ثانياً:
اختلف العلماء في حكم الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في الصلاة فذهب بعضهم إلى الوجوب، وذهب إليه عطاء والثوري والأوزاعي وداود، نقله ابن حزم في "المحلى" (3/247-248) واختاره، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن بطة كما في "الإنصاف" (2/119) ، واختار هذا القول من المتأخرين الشيخ الألباني رحمهم الله جميعا.
وذهب آخرون إلى الاستحباب فقط وليس الوجوب، وهو قول جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المعتمد من مذهبه.
انظر: "تبيين الحقائق" (1/107) ،"المجموع" (3/280-282) ، "المغني" (1/283) ، "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/332) .
واستدل القائلون بالوجوب بقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) النحل/98، قالوا: وفي الآية أمر بالاستعاذة، والقاعدة أن الأمر يفيد الوجوب ما لم تأت قرينة – يعني دليل – آخر يدل على أن المقصود بالأمر الاستحباب.
قال ابن حزم في "المحلى" (2/279) :
" وأما قول أبي حنيفة والشافعي أن التعوذ ليس فرضا فخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ، ومن الخطأ أن يأمر الله تعالى بأمر ثم يقولَ قائل بغير برهان من قرآن ولا سنة: هذا الأمر ليس فرضا، لا سِيَّما أمره تعالى بالدعاء في أن يعيذنا من كيد الشيطان، فهذا أمر مُتَيَقَّنٌ أنه فرض؛ لأن اجتناب الشيطان والفرار منه وطلب النجاة منه لا يختلف اثنان في أنه فرض، ثم وضع الله تعالى ذلك علينا عند قراءة القرآن " انتهى.
وأجاب الجمهور عن هذا الدليل بأنه قد جاءت بعض القرائن فصرفت الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذه القرائن هي:
1- حديث المسيء صلاته: فقد عَلَّمَه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فقال له: (إِذَا قُمتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّر ثُمَّ اقرَأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ اركَع..إلخ) رواه البخاري ومسلم (397) ولم يذكر له الاستعاذة.
قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/208) :
" وإن تركه ناسيا أو جاهلا أو عامدا لم يكن عليه إعادة ولا سجود سهو، وأكره له تركه عامدا، وأحب إذا تركه في أول ركعة أن يقوله في غيرها، وإنما منعني أن آمره أن يعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ رجلا ما يكفيه في الصلاة فقال: (كَبِّر ثُمَّ اقْرَأ) قال: ولم يُروَ عنه أنه أمره بتعوذ ولا افتتاح، فدل على أن افتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيارٌ، وأن التعوذ مما لا يُفسِدُ الصلاةَ إن تركه " انتهى.
2- وجاء في "الموسوعة الفقهية" (4/6) :
" واحتجّ الجمهور بأنّ الأمر للنّدب، وصرفه عن الوجوب إجماع السّلف على سنّيّته " انتهى.
وقد اختار القول بأنه سنة مستحبة وليست واجبة علماء اللجنة الدائمة للإفتاء، والشيخ ابن عثيمين.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (6/383) :
ما حكم من نسي الاستعاذة من الشيطان الرجيم وتذكر بعد انقضاء الصلاة، أو ذكر أنه لم يقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو بالصلاة؟
فأجابت:
" الاستعاذة سنة، فلا يضر تركها في الصلاة عمدًا أو نسيانا " انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين: هل الاستعاذة في كل ركعة أو في الأولى فقط؟
فأجاب:
" الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة سنة.
واختلف العلماء - رحمهم الله - هل يستعيذ في كل ركعة، أم في الركعة الأولى فقط، بناء على القراءة في الصلاة: هل هي قراءة واحدة، أم لكل ركعة قراءة منفردة؟
والذي يظهر لي: أن قراءة الصلاة واحدة، فتكون الاستعاذة في أول ركعة، إلا إذا حدث ما يوجب الاستعاذة، كما لو انفتح عليه باب الوساوس، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان إذا انفتح عليه باب الوساوس أن يتفل عن يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (13/110) .
وسبق اختيار هذا القول في جواب السؤال رقم (65847)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/58)
كيف يقرأ سورة البقرة في البيت؟ وهل تجزئ القراءة من المسجل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قراءة سورة البقرة في البيت وطردها للشياطين: هل يلزم قراءتها بصوت مرتفع؟ وهل استخدام المسجل يؤدي الغرض؟ وهل يجزئ قراءتها منفصلة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضل العظيم لسورة البقرة كاملة، ولبعض آياتها العظيمة مثل " آية الكرسي " وآخر آيتين منها، ومما ذكره صلى الله عليه وسلم في فضلها أن الشياطين تفر من البيت الذي تُقرأ فيه هذه السورة، وأنها نافعة في الوقاية من السحر وفي علاجه.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفِر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم (780) .
قال النووي – رحمه الله -:
هكذا ضبطه الجمهور " ينفِر " ورواه بعض رواة مسلم " يفرُّ " وكلاهما صحيح.
" شرح مسلم " (6 / 69) .
عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البَطَلة) رواه مسلم (804) .
البَطَلة: السحرة.
ولا يشترط قراءتها بصوت مرتفع، بل يكفي أن تُقرأ وتتلى في البيت، ولو مع خفض الصوت، كما لا يشترط أن تُقرأ دفعة واحدة، بل يمكن أن تُقرأ على مراحل، ولا يشترط أن يكون القارئ واحداً من أهل البيت، بل لو وزعت بينهم لجاز، وإن كان الأفضل في كل ذلك أن تُقرأ دفعة واحدة ومن شخص واحد.
ولا يجوز أن يُعتد بقراءة الصوت الخارج من إذاعة أو شريط، بل لا بدَّ من مباشرة القراءة من أهل البيت أنفسهم.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان لو قرأ سورة " البقرة " لا يدخل الشيطان في بيته، لكن لو كانت السورة مسجلة على شريط هل يحصل نفس الأمر؟
فأجاب:
لا، لا، صوت الشريط ليس بشيء، لا يفيد؛ لأنه لا يقال " قرأ القرآن "، يقال: " استمع إلى صوت قارئ سابق "، ولهذا لو سجَّلنا أذان مؤذن فإذا جاء الوقت جعلناه في " الميكرفون " وتركناه يؤذن هل يُجزئ؟ لا يجزئ، ولو سجلنا خطبة مثيرة، فلما جاء يوم الجمعة وضعنا هذا المسجل وفيه الشريط أمام " الميكرفون " فقال المسجل " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " ثم أذَّن المؤذن، ثم قام فخطب، هل تُجزئ؟ لا تُجزئ، لماذا؟ لأن هذا تسجيل صوتٍ ماضٍ، كما لو أنك كتبته في ورقة أو وضعتَ مصحفاً في البيت، هل يُجزئ عن القراءة؟ لا يُجزئ.
" أسئلة الباب المفتوح " (السؤال رقم 986) .
لكن إن لم يكن في أهل البيت من يستطيع أن يقرأ سورة البقرة، ولم يكن هناك من يقرؤها لهم في البيت، واستخدموا المسجل في قراءتها، فالأظهر، إن شاء الله، أنه يحصل لهم هذه الفضيلة في البيت: فرار الشيطان منه؛ لاسيما إن كان من أهل البيت من يستمع القراءة من المسجل.
والله أعلم
هل قراءة سورة البقرة من المسجل يطرد الشيطان من المنزل؟
السؤال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) . وسؤالي: هل يكفي أن يأتي الإنسان بالمسجل، ويضع فيه شريطا مسجلا عليه سورة البقرة، ويقوم بتشغيله حتى يقرأ كامل السورة؟ أو لا بد أن يقرأ الإنسان بنفسه أو من ينوب عنه السورة؟
الجواب:
الحمد لله
الأظهر- والله أعلم- أنه يحصل بقراءة سورة البقرة كلها من المذياع أو من صاحب البيت ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من فرار الشيطان من ذلك البيت، ولكن لا يلزم من فراره أن لا يعود بعد انتهاء القراءة، كما أنه يفر من سماع الأذان والإقامة ثم يعود حتى يخطر بين المرء وقلبه، ويقول له: اذكر كذا، واذكر كذا. . كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمشروع للمؤمن أن يتعوذ بالله من الشيطان دوما، وأن يحذر من مكائده ووساوسه وما يدعو إليه من الإثم، والله ولي التوفيق " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/413) .
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
فتاوى نور على الدرب
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/59)
قراءة القرآن مع الإخلال بنطق بعض الحروف كالثاء والذال
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تجوز قراءة القرآن المجيد على طريقة أهل بعض البلاد غير العربية في نطق الحروف؟ فمثلا هم يلفظون بالحرف (ث) وكأنه (س) ، والحرف (ذ) وكأنه (ز) إلى غير ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجب قراءة القرآن الكريم بحروفه التي أنزله الله بها، قراءةً عربية صحيحة، كما قال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء/192-195. وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف/2.
ولا يجوز لأحد أن يتعمد تبديل حرف منه بحرف، مع قدرته على النطق بالحرف الصحيح، وهذا من اللحن الجلي الذي يأثم صاحبه.
ومن وجد صعوبة في النطق بالحرف الصحيح - كأهل البلاد الذين لا توجد في لغتهم بعض الحروف العربية كالثاء والذال والخاء - فهؤلاء يلزمهم تعلم النطق الصحيح، فإن عجزوا عنه فهم معذورون، لكن لا يُقتدى بهم في ذلك، وينبغي دعوتهم إلى بذل الجهد في التعلم والتصحيح، كما لا ينبغي تقديم أحدهم للإمامة، إلا أن يؤم أمثاله ممن لا يحسن النطق.
قال ابن الجزري رحمه الله: " فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى باللفظ الصحيح العربي الفصيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح، استغناءً بنفسه، واستبداداً برأيه وحدْسه واتكالاً على ما ألِفَ من حفظه، واستكباراً عن الرجوع إلى عالمٍ يوقفه على صحيح لفظه، فإنه مقصر بلا شك، وآثم بلا ريب، وغاش بلا مرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
أما من كان لا يطاوعه لسانه، أو لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها " انتهى من "النشر في القراءات العشر" (1/299) .
وينبغي أن يُعلم أن الله تعالى قد يسر حفظ القرآن وتلاوته، كما قال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ٍ) القمر/17.
ولهذا نرى كثيراً من إخواننا في البلاد المشار إليها يجيدون النطق بالحروف إجادة لا تقل عن إجادة إخوانهم من أهل العربية، فينبغي الاجتهاد في تعلم النطق الصحيح وتجويد القرآن وعدم اليأس من ذلك.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/60)
هل تصلَّى التراويح مفردة أم جماعة؟ وهل ختم القرآن في رمضان بدعة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أنه من المندوب إليه أن يؤدي المسلم التراويح مفردة كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بمفرده عدا 3 مرات، هل هذا صحيح؟
كما أني سمعت أن من البدعة قراءة القرآن كاملا في التراويح في رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا، فهل هذا صحيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
تشرع صلاة القيام في رمضان جماعةً، وتشرع مفردةً، وفعلها جماعةً أفضل من فعلها منفرداً، فقد صلاها النبي صلى الله عليه بأصحابه جماعةً عدة ليالٍ.
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ليالٍ، ولما كانت الثالثة أو الرابعة لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: (لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) . رواه البخاري (1129) ، وفي لفظ مسلم (761) (وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا) .
فثبتت الجماعة في التراويح بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم المانع من الاستمرار في صلاتها جماعة، وهو خوف أن تُفرض، وهذا الخوف قد زال بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لما مات صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي فأمن من فرضيتها، فلما زالت العلة وهو خوف الفريضة بانقطاع الوحي، فحينئذ تعود السنية لها.
انظر " الشرح الممتع " للشيخ ابن عثيمين (4 / 78) .
قال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله -:
وفيه: أن قيام رمضان سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، مندوب إليها، مرغوب فيها، ولم يسن منها عمر بن الخطاب إذ أحياها إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويرضاه، ولم يمنع من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما - صلى الله عليه وسلم -، فلما علم ذلك عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أن الفرائض لا يزاد فيها ولا ينقص منها بعد موته عليه الصلاة والسلام: أقامها للناس وأحياها وأمر بها، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة، وذلك شيء ادخره الله له وفضَّله به.
"التمهيد " (8 / 108، 109) .
وقد صلاها الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جماعات وأفراداً حتى جمعهم عمر رضي الله عنه على إمام واحد.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ - يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ - وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. رواه البخاري (1906) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - في معرض رده على الذين يحتجون بقول عمر: " نعمت البدعة " على تجويز البدع -:
أما قيام رمضان فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنَّه لأمَّته، وصلَّى بهم جماعة عدة ليالٍ، وكانوا على عهده يصلون جماعة وفرادى، لكن لم يداوموا على جماعة واحدة؛ لئلا تفرض عليهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم استقرت الشريعة، فلما كان عمر رضي الله عنه جمعهم على إمامٍ واحدٍ، وهو أُبي بن كعب الذي جمع الناس عليها بأمر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه هو من الخلفاء الراشدين، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " يعنى الأضراس؛ لأنها أعظم في القوة، وهذا الذي فعله هو سنة لكنه قال " نعمت البدعة هذه "، فإنها بدعة في اللغة لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: من الاجتماع على مثل هذه، وهي سنة من الشريعة ". " مجموع الفتاوى " (22 / 234، 235) .
وللمزيد: راجع السؤال (21740) ، (45781)
ثانياً:
ختم القرآن في رمضان في الصلاة وخارجها أمر محمود لصاحبه، وقد كان جبريل عليه السلام يدارس القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه دارسه إياه مرتين.
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال (66504) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/61)
هل في السنة دعاء بعد ختم القرآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو منكم إرسال دعاء ختم القرآن الكريم كما ورد في السنة النبوية.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس في السنة النبوية دعاء خاص بعد ختم القرآن الكريم، ولا حتى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو الأئمة المشهورين، ومن أشهر ما ينسب في هذا الباب الدعاء المكتوب في آخر كثير من المصاحف منسوباً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا أصل له عنه.
انظر: "فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (14/226) .
والدعاء بعد ختم القرآن إما أن يكون بعد ختمه في الصلاة، أو خارجها، ولا أصل للدعاء بعد الختمة في الصلاة، وأما خارجها فقد ورد فعله عن أنس رضي الله عنه.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم دعاء ختم القرآن في قيام الليل في شهر رمضان؟ فأجاب:
" لا أعلم في ختمة القرآن في قيام الليل في شهر رمضان سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة أيضا، وغاية ما ورد في ذلك أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. وهذا في غير الصلاة " انتهى.
"فتاوى أركان الإسلام" (ص 354) .
وللشيخ بكر أبو زيد رسالة نافعة في هذه المسألة، ومما جاء في خاتمتها:
من مجموع السياقات في الفصلين السالفين نأتي إلى الخاتمة في مقامين:
المقام الأول: في مطلق الدعاء لختم القرآن:
والمتحصل في هذا ما يلي:
أولاً:
أن ما تقدم مرفوعا وهو في مطلق الدعاء لختم القرآن:
لا يثبت منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم , بل هو إما موضوع أو ضعيف لا ينجبر،
ويكاد يحصل القطع بعدم وجود ما هو معتمد في الباب مرفوعاً؛ لأن العلماء الجامعين الذين كتبوا في علوم القرآن وأذكاره أمثال: النووي , وابن كثير , والقرطبي , والسيوطي , لم تخرج سياقاتهم عن بعض ما ذكر، فلو كان لديهم في ذلك ما هو أعلى إسناداً لذكروه.
ثانياً:
أنه قد صح من فعل أنس بن مالك رضي الله عنه الدعاء عند ختم القرآن، وجمع أهله وولده لذلك , وأنه قد قفاه (أي: تابعه) على ذلك جماعة من التابعين , كما في أثر مجاهد بن جبر رحمهم الله تعالى أجمعين.
ثالثاً:
أنه لم يتحصل الوقوف على شيء في مشروعية ذلك في منصوص الإمامين: أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى.
وأن المروي عن الإمام مالك رحمه الله: أنه ليس من عمل الناس، وأن الختم ليس سنة للقيام في رمضان.
رابعاً:
أن استحباب الدعاء عقب الختم , هو في المروي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى , كما ينقله علماؤنا الحنابلة , وقرره بعض متأخري المذاهب الثلاثة.
المقام الثاني: في دعاء الختم في الصلاة:
وخلاصته فيما يلي:
أولاً:
أنه ليس فيما تقدم من المروي حرف واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم يفيد مشروعية الدعاء في الصلاة بعد الختم قبل الركوع أو بعده لإمام أو منفرد.
ثانياً:
أن نهاية ما في الباب هو ما يذكره علماء المذهب من الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية حنبل والفضل والحربي عنه - والتي لم نقف على أسانيدها -: من جعل دعاء الختم في صلاة التراويح قبل الركوع.
وفي رواية عنه - لا يعرف مخرجها -: أنه سهل فيه في دعاء الوتر ...
انظر: " مرويات دعاء ختم القرآن ".
وانظر جواب السؤال رقم (12949) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/62)
حكم تعليق الآيات للحفظ والحماية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم وضع المصحف في السيارة من أجل التبرك والحصن من العين وأيضا خشية أن تصدم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حكم وضع المصحف في السيارة دفعا للعين أو توقيا للخطر بدعة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يحملون المصحف دفعا للخطر أو للعين، وإذا كان بدعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " (سؤال على الهاتف الشيخ محمد بن صالح العثيمين) (البدع والمحدثات وما لا أصل له ص259)
وسئل أيضا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي: يعلق بعض الناس آيات قرآنية وأحاديث نبوية في غرف المنازل أو في المطاعم أو المكاتب، وكذلك في المستشفيات والمستوصفات يعلقون قوله تعالى " وإذا مرضت فهو يشفين " وغير ذلك.. فهل تعليق ذلك يعتبر من التمائم المنهي عنها شرعا، علما بأن مقصودهم استنزال البركات وطرد الشياطين، وقد يقصد من ذلك أيضا تذكير الناسي وتنبيه الغافل، وهل من التمائم وضع المصحف في السيارة بحجة التبرك به؟
فأجاب سماحته قائلا: إذا كان المقصود بما ذكره السائل تذكرة الناس وتعليمهم ما ينفعهم فلا حرج في ذلك، أما إذا كان المقصود اعتبارها حرزا من الشياطين أو الجن فلا أعلم لهذا أصلا وهكذا وضع المصحف في السيارة للتبرك بذلك ليس له أصل وليس بمشروع، أما إذا وضعه في السيارة ليقرأ فيه بعض الأحيان أو ليقرأ فيه بعض الركاب فهذا طيب ولا بأس.. والله ولي التوفيق
[الْمَصْدَرُ]
(فتاوى إسلامية 4/29) (الشيخ ابن باز)(3/63)
سماعات مسجّل القرآن بمستوى أقدام الركّاب
[السُّؤَالُ]
ـ[في بعض السيارات تكون سماعات المسجل مساوية للأقدام، وقد توضع الأقدام والحذاء على السماعات، فهل عندما يُشغل القرآن يكون هذا امتهان لكتاب الله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا كانت السماعات كما ذكرت تحت الأقدام أو حذاء الأقدام، فإنه لا يفتحه على القرآن الكريم، لأن كون القرآن الكريم يسمع من تحت قدم الإنسان أو حذاء قدم الإنسان لا شك أن فيه إهانة للقرآن، وإذا كان الإنسان لا بد أن يستمع إلى القرآن فليرفع السماعة عن محاذاة الأقدام.
[الْمَصْدَرُ]
لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين /165(3/64)
هل يؤجر قارئ القرآن الذي لا يعرف معنى ما يقرأ
[السُّؤَالُ]
ـ[أداوم على قراءة القرآن لكنني لا أفهم معانيه.. فهل أثاب من الله على ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن الكريم مبارك كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} . فالإنسان مأجور على قراءته سواء أفهم معناه أم لم يفهم.. ولكن لا ينبغي للمؤمن أن يقرأ دون أن يسعى لأن يفهم معناه، فالإنسان لو أراد أن يتعلم الطب مثلاً ودرس كتب الطب فإنه لا يمكن أن يستفيد منها حتى يفهم معناها وتشرح له، بل هو يحرص كل الحرص على أن يفهم معناها من أجل أن يطبقها، فما بالك بكتاب الله سبحانه وتعالى الذي هو شفاء لما في الصدور وموعظة للناس أن يقرأه الإنسان بدون تدبر وبدون فهم لمعناه.. ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فالإنسان مثاب ومأجور على قراءة القرآن سواء أفهم معناه أم لم يفهم ولكن ينبغي له أن يحرص كل الحرص على فهم معناه وأن يتلقى هذا المعنى من العلماء الموثوقين بعلمهم وفي أمانتهم، فإن لم يتيسر له عالم يفهمه المعنى فليرجع إلى كتب التفسير الموثوقة مثل تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير وغيرهما والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ ابن عثيمين. لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين /165(3/65)
هل يجب قراءة القرآن بالتسلسل لمن أراد الختمة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في رمضان إذا أراد المرء أن يختم القرآن هل يجب قراءة القرآن بالتسلسل؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يستحب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان، فهو شهر القرآن، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة/185.
وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن. رواه البخاري (5) ومسلم (4268) .
وروى البخاري (4614) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن جبريل (كان يعْرضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، فَعرضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ) .
وهذا يدل على استحباب ختم القرآن ومدارسته في رمضان.
ولذلك كان السلف يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
" فكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة.
وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليال، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين.
وكان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر " انتهى من مجالس شهر رمضان للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص 65.
ثانياً:
الأفضل قراءة القرآن على ترتيب السور الوارد في المصحف، وهو الترتيب الذي عرض به جبريل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته.
انظر: "التحبير في علم التفسير" للسيوطي ص 637.
قال النووي رحمه الله في "التبيان":
" قال العلماء رحمهم الله: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة ثم آل عمران، ثم النساء إلى أن يختم بـ (قُلْ أَعوذ بربِ النَّاس) سواء قرأ في الصلاة أم خارجاً عنها، ويستحب أيضاً إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها السورة التي تليها، ولو قرأ في الركعة الأولى: (قُلْ أَعوذ بربِ النَّاس) يقرأ في الثانية من البقرة.
ودليل هذا: أن ترتيب المصحف لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ في الركعة الأولى: (ألم تَنزيل) وفي الثانية: (هَلْ أتَى) وصلاة العيدين (قاف) و (اقتربت) .
ولو خالف الترتيب فقرأ سورة ثم قرأ التي قبلها، أو خالف الموالاة فقرأ قبلها ما لا يليها جاز وكان تاركاً للأفضل، وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فمتفقٌ على منعه وذمِّه؛ فإنه يُذهب بعض أنواع الإعجاز، ويزيل حِكمة الترتيب " انتهى كلام النووي.
وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على عدم وجوب قراءة القرآن مرتباً.
روى البخاري (4993) عن يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ. قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ. قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلامِ نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ. لَقَالُوا: لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا! وَلَوْ نَزَلَ: لا تَزْنُوا. لَقَالُوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا! لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلا وَأَنَا عِنْدَهُ.
قال الحافظ:
" اَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّ هَذَا الْعِرَاقِيّ كَانَ مِمَّنْ يَأْخُذ بِقِرَاءَةِ اِبْن مَسْعُود , وَكَانَ اِبْن مَسْعُود لَمَّا حَضَرَ مُصْحَف عُثْمَان إِلَى الْكُوفَة لَمْ يُوَافِق عَلَى الرُّجُوع عَنْ قِرَاءَته وَلا عَلَى إِعْدَام مُصْحَفه. . . فَكَانَ تَأْلِيف مُصْحَفه مُغَايِرًا لِتَأْلِيفِ مُصْحَف عُثْمَان. (تأليف المصحف هو جمع سوره مرتبة) وَلا شَكّ أَنَّ تَأْلِيف الْمُصْحَف الْعُثْمَانِيّ أَكْثَر مُنَاسَبَة مِنْ غَيْره , فَلِهَذَا أَطْلَقَ الْعِرَاقِيّ أَنَّهُ غَيْر مُؤَلَّف. . .
قَالَ اِبْن بَطَّال: لا نَعْلَم أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِ تَرْتِيب السُّوَر فِي الْقِرَاءَة لا دَاخِل الصَّلاة وَلا خَارِجهَا , بَلْ يَجُوز أَنْ يَقْرَأ الْكَهْف قَبْل الْبَقَرَة وَالْحَجّ قَبْل الْكَهْف مَثَلا , وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ السَّلَف مِنْ النَّهْي عَنْ قِرَاءَة الْقُرْآن مَنْكُوسًا فَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَقْرَأ مِنْ آخِر السُّورَة إِلَى أَوَّلهَا , وَكَانَ جَمَاعَة يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فِي الْقَصِيدَة مِنْ الشِّعْر مُبَالَغَة فِي حِفْظهَا وَتَذْلِيلا لِلِسَانِهِ فِي سَرْدهَا , فَمَنَعَ السَّلَف ذَلِكَ فِي الْقُرْآن فَهُوَ حَرَام فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَتَرْتِيب السُّوَر لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي التِّلاوَة وَلا فِي الصَّلاة وَلا فِي الدَّرْس وَلا فِي التَّعْلِيم فَلِذَلِكَ اِخْتَلَفَتْ الْمَصَاحِف , فَلَمَّا كُتِبَ مُصْحَف عُثْمَان رَتَّبُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الآن , فَلِذَلِكَ اِخْتَلَفَ تَرْتِيب مَصَاحِف الصَّحَابَة ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو كَلام اِبْن بَطَّال " انتهى من فتح الباري ملخصا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/66)
يقرأون القرآن قبيل صلاة التراويح ثم يكملون في الصلاة
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن في أمريكا، سيعقد حلقة قرآن بعد الإفطار في تمام الساعة 7:15 إلى الساعة 7:30 ثم تقام الصلاة للعشاء وبعدها التراويح، في حلقة القرآن سيقرأ أحد المسلمين ويستخدم الميكرفون ليسمعه الرجال والنساء، والتخطيط أن يقرأ 12 وجهاً، ثم يكملون في التراويح 8 أوجه، وبذلك يكملوا كل ليلة جزءً إلى أن يتم ختم القرآن في نهاية الشهر، هل الجلسة لقراءة القرآن بهذه الطريقة من السنة أم من البدعة؟
وهل من الأفضل قراءة القرآن على المأمومين أثناء التراويح أم في حلقة القرآن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا حرج عليكم من عمل هذه الجلسة، فقراءة القرآن من واحدٍ منكم واستماع الباقين له أمرٌ مشروع، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
عَن ابن مَسعودٍ رضي اللَّه عنه قالَ: قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: " اقْرَأْ علَّي القُرآنَ " قلتُ: يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ ، قالَ: " إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً} النساء/40 قال: " حَسْبُكَ الآن " فَالْتَفَتَّ إِليْهِ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ. رواه البخاري (4763) ومسلم (800) .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز:
ويشرع للمسلمين في هذا الشهر العظيم دراسة القرآن الكريم ومدارسته في الليل والنهار تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يدارس جبرائيل القرآن كل سنة في رمضان، ودارسه إياه في السنة الأخيرة مرتين، ولقصد القربة والتدبر لكتاب الله عز وجل والاستفادة منه والعمل به، وهو من فعل السلف الصالح فينبغي لأهل الإيمان من ذكور وإناث أن يشتغلوا بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وتعقلا ومراجعة لكتب التفسير للاستفادة والعلم. " مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (11 / 319، 320) .
والأفضل أن يكون مع القراءة تعليم لأحكام القرآن، وفهم لمعانيه، فإذا أضفتم إلى القراءة تفسيراً لما تقرأون أو بعضه فقد جمعتم خيراتٍ متعددة، منها: إصابة السنة في فعلكم، ومدارستكم القرآن، وتعليمكم المسلمين، وإعانتهم على التدبر القرآن. . .
وإذا كانت هذه الختمة في صلاة التراويح كانت أفضل من كونها خارجها.
قال شيخ الإسلام في "الفتاوى الكبرى" (2/297) :
" إِنَّ الأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهَا يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ , فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاةِ أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَ الصَّلاةِ , وَمَا وَرَدَ مِنْ الْفَضْلِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ " انتهى.
فإذا شقَّ على الناس ختم القرآن في الصلاة فيمكنكم أن تجمعوا بين الخيرين: المدارسة للقرآن قبل الصلاة، والقراءة لباقيه في الصلاة، كما تعتزمون.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. رواه البخاري (3048) ومسلم (2308) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
هل يمكن أن يستفاد من مدارسة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان أفضلية ختم القرآن؟
فأجاب:
يستفاد منها المدارسة وأنه يستحب للمؤمن أن يدارس القرآن من يفيده وينفعه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام دارس جبرائيل للاستفادة؛ لأن جبرائيل هو الذي يأتي من عند الله جل وعلا، وهو السفير بين الله والرسل.
فجبرائيل لا بد أن يفيد النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جهة الله عز وجل، من جهة إقامة حروف القرآن ومن جهة معانيه التي أرادها الله، فإذا دارس الإنسان من يعينه على فهم القرآن ومن يعينه على إقامة ألفاظه فهذا مطلوب، كما دارس النبي صلى الله عليه وسلم جبرائيل، وليس المقصود أن جبرائيل أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام، لكن جبرائيل هو الرسول الذي أتى من عند الله فيبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمره الله به من جهة القرآن ومن جهة ألفاظه ومن جهة معانيه، فالرسول عليه الصلاة والسلام يستفيد من جبرائيل من هذه الحيثية، لا أن جبرائيل أفضل منه عليه الصلاة والسلام بل هو أفضل البشر وأفضل من الملائكة عليه الصلاة والسلام، لكن المدارسة فيها خير كثير للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة؛ لأنها مدارسة لما يأتي به من عند الله وليستفيد مما يأتي به من عند الله عز وجل.
وفيه فائدة أخرى وهي: أن المدارسة في الليل أفضل من النهار، لأن هذه المدارسة كانت في الليل، ومعلو أن الليل أقرب إلى اجتماع القلب وحضوره والاستفادة أكثر من المدارسة نهاراً.
وفيه أيضا من الفوائد: شرعية المدارسة وأنها عمل صالح حتى ولو في غير رمضان، لأن فيه فائدة لكل منهما ولو كانوا أكثر من اثنين فلا بأس يستفيد كل منهم من أخيه ويشجعه على القراءة وينشطه، فقد يكون لا ينشط إذا جلس وحده لكن إذا كان معه زميل له يدارسه أو زملاء كان ذلك أشجع له وأنشط له مع عظم الفائدة فيما يحصل بينهم من المذاكرة والمطالعة فيما قد يشكل عليهم كل ذلك فيه خير كثير.
ويمكن أن يفهم من ذلك أن قراءة القرآن كاملة من الإمام على الجماعة في رمضان نوع من هذه المدارسة لأن في هذا إفادة لهم عن جميع القرآن، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يحب ممن يؤمهم أن يختم بهم القرآن وهذا من جنس عمل السلف في محبة سماع القرآن كله، ولكن ليس هذا موجبا لأن يعجل ولا يتأنى في قراءته، ولا يتحرى الخشوع والطمأنينة بل تحري هذه الأمور أولى من مراعاة الختمة. " مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (11 / 331 – 333) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله - أيضاً -:
يحرص كثير من الأئمة على أن يختموا القرآن في التراويح والتهجد لإسماع الجماعة جميع القرآن فهل في ذلك حرج؟
فأجاب:
هذا عمل حسن فيقرأ الإمام كل ليلة جزءا أو أقل لكن في العشر الأخيرة يزيد حتى يختم القرآن ويكمله هذا إذا تيسر بدون مشقة ... وقد عقد العلامة ابن القيم رحمه الله بابا في كتابه: " جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام " ذكر فيه حال السلف في العناية بختم القرآن فنوصي بمراجعته للمزيد من الفائدة. " مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (11 / 333، 334) .
وانظر أجوبة الأسئلة: (46088) و (1505) و (4039) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/67)
ما حكم سماع القران قبل النوم من مسجل أو غيره؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم سماع القرآن أثناء النوم من مسجل أو غيره لتكون خاتمة المسلم على ذكر الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا حرج من أن يستمع المسلم قبل نومه للقرآن، أو لمحاضرة، أو لشيء مباح، بل قد جاء في السنَّة الصحيحة أن من أذكار ما قبل النوم أدعية وقراءة آيات وسورٍ من القرآن.
قال البخاري:
باب التعوذ والقراءة عند المنام
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده. رواه البخاري (5960) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث - فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدقك وهو كذوب، ذاك شيطان ". رواه البخاري (3101) .
وسماع القرآن قبل النوم وبعده - في رمضان وفي غيره – يورث طمأنينة للقلوب، وانشراحاً للصدور، قال تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد/28.
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: بعض الناس يقول لي: لا ينام إلا على سماع القرآن، إذا كان كذلك فلا بأس إذا كان مضطجعاً ينتظر النوم ما عنده شغل، فيستمع هذا لا بأس به، ومن استعان بسماع كلام الله على ما يريد الإنسان من الأمور المباحة، لا بأس ليس هناك مانع. " لقاءات الباب المفتوح " (146 / سؤال رقم 9) .
وقال الشيخ عبد الله بن منيع – حفظه الله -: لا يظهر لي بأس في ذلك، وكونك أخذك النوم وأنت تستمع القرآن: لا تثريب عليك، فالأمر باستماع القرآن حين يُتلى موجه إلى السامع العاقل، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف/204.
" مجموع فتاوى وبحوث الشيخ عبد الله المنيع " (1 / 266) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/68)
تحذير من موقع في الإنترنت لتحريف القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أبلغني صديق لي بوجود موقع على الإنترنت يحرف فيه صاحبه آيات القرآن ويقول إنه من القرآن. فما الذي نفعله لوقف هذا العمل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قبل الإجابة على هذه السؤال ينبغي التنبيه على أهمية التحلي بالحكمة في إنكار المنكر وأن لا يُستدرج المسلم إلى فخّ الدّعاية والإعلان لمواقع تعادي الإسلام فيروّجها - عن غير قصد - بين المسلمين بحيث يتّجه إليها الجميع للاطّلاع عليها وقراءة ما فيها فيكون قد أسهم بشكل غير مباشر في إشهار شأن هذا التّافه الذي يزعم أنّه يقلّد القرآن ويأتي بسور مثله، والإتيان بمثل القرآن أمر محال لأنّ الله جلّ وعلا تحدّى أحدا أن يفعل ذلك وتحدّى فصحاء العرب وشعراءهم المتقنين للعربية وكانوا حين نزول القرآن في قمّة فصاحتهم وبيانهم فقال عزّ وجلّ: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) سورة الطّور، فلما عجزوا تحدّاهم أن يأتوا بعشر سور مثل سوره فقال سبحانه: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) سورة هود
فلمّا عجزوا تحدّاهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط على مستوى فصاحة القرآن وبلاغته وحكمته فقال عزّ وجلّ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) سورة يونس
ودعاهم إلى الاستعانة بمن شاءوا للمحاولة وقبول التحدّي فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) سورة البقرة
فلمّا عجزوا أخبرهم بأنّهم لا يستطيعون ذلك مطلقا في أيّ وقت وفي أيّ زمان ومهما استعانوا بأحد فقال سبحانه: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) سورة الإسراء
فلا يوجد أحد غير الله يأتي بمثله لأنّ القرآن - كما قال عزّ وجلّ - (كِتَابٌ أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) سورة هود
ولما حاول بعض المفترين أن يقلّدوا القرآن أتوا بسخافات يضحك منها الصّبيان فضلا عن كبار النّاس وعقلائهم كقول مسيلمة الكذّاب: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطّين. وغير ذلك من الترّهات التي قالها هو وغيره ممن ادّعى النّبوة. أنظر صيد الخاطر لابن الجوزي ص: 404.
وقد يروج بعض الباطل على بعض النّاس لجهلهم وعدم علمهم بقواعد اللغة العربية وأساليب البلاغة فيها، ولكن يُمكن لمن عنده فهم أو فطنة أن يميّز على الأقلّ ويعرف أنّ هذا الكلام المُفترى لا يُمكن أن يكون قرآنا، ولو ألقينا نظرة على الموقع المُشار إليه في السّؤال لوجدنا الكفر ينطق في تلك السّور المزيّفة كالنّص على أنّ المسيح ابن الله وأنّه هو الله والدّعوة إلى مذهب الرافضة الخبيث إلى غير ذلك من الترّهات ثم تجد التّناقض العجيب، ففي الوقت الذي يقول فيه الكذّاب في السّورة التي افتراها وسمّاها سورة التجسّد في الآية السادسة - حسب زعمه -: سبحانه رب العالمين أن يتخذ من خلقه ولدا. تجد في الآية التاسعة من سورة الإيمان - المزعومة - قوله: أنت هو ابن الله حقّا بك آمنّا..، لقد صدق ربنا حين قال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) سورة النساء.
ثمّ يجد النّاظر أيضا في تلك السور المفتريات عبارة سخيفة أخرى يدّعي فيها الكذّاب أن الله سمح لنبيّه أن يغيّر ويبدّل في القرآن كما يشاء، فتقول العبارة السخيفة فيما عدّه الآية السادسة من سورة الوصايا: فانسخ ما لك أن تنسخ مما أمرناهم به فقد سمحنا لك أن تجري على قراراتنا تغييرا!!
إنّ كلّ مسلم يعلم قدر الإفك الذي انطوت عليه هذه العبارة المنبعثة من عقل المُغرض الذي ألّفها، فهل رأيت بالله عليك أيّها القارئ اللبيب كلاما سخيفا مثل هذا، هل يُمكن أن ينزّل الله قرآنا يأمر فيه بالتطبيق والتنفيذ والالتزام بما في كتابه كما في قوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) سورة الأنعام، ويأمر رسوله بالتمسك بالقرآن قائلا - سبحانه -: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) سورة الزخرف، ويتهدّد رسوله إن لم يبلّغ ما أوحاه إليه بالنصّ دون تغيير أو إخفاء كما في قوله سبحانه: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَ نَصِيرًا (75) سورة الإسراء، وكما في قوله سبحانه: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) سورة الحاقّة وغير ذلك من الآيات، ثمّ تأتي بعد ذلك كلّه سورة مزعومة بأنّ للرسول الحقّ أن ينسخ ما شاء من القرآن ويغيّر ويبدّل وأنّه مخوّل بذلك وعنده صلاحيّة الإلغاء وشطب ما يشاء من الأحكام؟؟
إنّ الذي ينسخ من القرآن ما يشاء هو الذي أنزل القرآن سبحانه وحده لا غير، كما قال عزّ وجلّ: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) سورة الرّعد، وقال: (مَا نَنْسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) سورة البقرة، والواجب على رسولنا وعلينا التدّبر والتنفيذ لا التحريف والإلغاء والتبديل، قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُواءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ (29) سورة ص
لقد رأينا في السّور الزائفة المفتراة في ذلك الموقع على شبكة الانترنت مثالا واقعيا لما تضمنّه قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) سورة آل عمران.
نسأل الله أن ينصر دينه ويُعلي كتابه ويعزّ أولياءه كما نسأله سبحانه أن يذلّ أعداءه وأن يجعل الصّغار عليهم ويردّهم خائبين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/69)
حكم قراءة القرآن بشكل جماعي
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم قراءة القرآن في المسجد جماعة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السؤال فيه إجمال، فإذا كان المقصود أنهم يقرؤون جميعاً بصوت واحد ومواقف ومقاطع واحدة فهذا غير مشروع وأقل أحواله الكراهة لأنه لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم لكن إذا كان ذلك من أجل التعليم فنرجو أن يكون ذلك لا بأس به وإن كان المقصود أنهم يجتمعون على قراءة القرآن لحفظه أو تعلمه ويقرأ أحدهم وهم يستمعون أو يقرأ كل منهم لنفسه غير ملتق بصوته ولا بموافقة مع الآخرين فذلك مشروع لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة 4/112.(3/70)
أيهما أفضل قراءة القرآن من المصحف أو عن ظهر قلب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل القراءة من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر قلب، نرجو الإفادة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما من جهة قراءة القرآن في غير الصلاة فالقراءة من المصحف أولى لأنه أقرب إلى الضبط وإلى الحفظ إلا إذا كانت قراءته عن ظهر قلب أحفظ لقلبه وأخشع له فليقرأ عن ظهر قلب.
وأما في الصلاة، فالأفضل أن يقرأ عن ظهر قلب وذلك لأنه إذا قرأ من المصحف فإنه يحصل له عمل متكرر في حمل المصحف وإلقائه وفي تقليب الورق وفي النظر إلى حروفه وكذلك يفوته وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في حال القيام وربما يفوته التجافي في الركوع والسجود إذا جعل المصحف في إبطه ومن ثم رجحنا قراءة المصلي عن ظهر قلب على قراءته من المصحف.
هذا وبعض المأمومين نشاهدهم خلف الإمام يحملون المصحف يتابعون قراءة الإمام وهذا أمر لا ينبغي لما فيه من الأمور التي ذكرناها ولأنه لا حاجة بهم إلا أن يتابعوا الإمام.
نعم لو فرض أن الإمام ليس بجيد الحفظ وقال لأحد المأمومين: صلّ ورائي وتابعني في المصحف إذا أخطأت فإن هذا لا بأس به.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ ابن عثيمين من كتاب فتاوى إسلامية 4/8.(3/71)
أحكام المد في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تخبرني ما هو تأثير الرمز "~" على معاني كلمات القرآن؟
إذا لم يمد شخص الحرف الذي يقع تحت هذا الرمز فهل يغير هذا المعنى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تستخدم هذه العلامة " ~ " للدلالة على مواضع المد الزائد على المد الطبيعي، فتستخدم في المد اللازم مثل " الطآمّة " وتمد بمقدار ست حركات تقدر الحركة تقريبا بمقدار قبض الإصبع أو بسطه.
وتستخدم في المد المتصل مثل " سوآء علينا " ويمد من أربع حركات إلى ست حركات.
وتستخدم في الكتابة بدلا عن الهمزة التي تأتي بعدها ألف مثل (آمن، آذاننا، آدم) وأصلها (ءامن، ءاذاننا، ءادم) .
وليس لهذه الإشارة تأثير على معاني الكلمات، وإنما هي دلالة على بعض المدود كما سبق.
والمد الذي هو فوق المد الطبيعي لا يتغير المعنى عند الإتيان به، ولكن على الإنسان أن يحافظ على سنة القراءة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمد في قراءته. والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/72)
حكم تعليق الآيات على الجدران
[السُّؤَالُ]
ـ[عند زيارة لبعض بيوت المسلمين أجد أن كثيراً منهم يقومون بتعليق لوحات على الجدران مكتوب عليها آيات من القرآن وأسماء الله الحسنى أو غير ذلك؟ ما حكم الشريعة الإسلامية في هذا العمل؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن تعليق اللوحات والخِرَق التي فيها آيات من القرآن في البيوت أو المدارس أو النوادي أو المحلات التجارية فيه عدد من المنكرات والمحاذير الشرعية ومنها:
1- أنّ تعليقها في الغالب هو للزينة وتجميل الجدران بنقوش الآيات والأذكار المزخرفة الملونة وفي هذا انحراف بالقرآن عما أنزل من أجله من الهداية والموعظة الحسنة والتعهد بتلاوته ونحو ذلك. والقرآن لم ينزل لتزيين الحيطان وإنما نزل هدى للناس وبياناً.
2- أنّ عدداً من الناس يعلّقونها للتبرّك بها وهذا من البدع فإنّ التبرّك المشروع هو بتلاوة القرآن لا بتعليقه ووضعه على الأرفف وتحويله إلى لوحات ومجسّمات.
3- أن في ذلك مخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم فإنهم لم يكونوا يفعلون ذلك والخير في اتباعهم لا في الابتداع، بل التاريخ يشهد في بلاد الأندلس وتركيا وغيرها أنّ الزخرفة وعمل هذه اللوحات والزّينات ونقش الآيات في جدران البيوت والمساجد لم يكن إلا في عصور ضعف المسلمين وهوانهم.
4- أن في التعليق ذريعة للشرك فإنّ بعض الناس يعتقد أنّ هذه اللوحات أو المعلّقات هي حروز تحمي البيت وأهله من الشرور والآفات وهذا اعتقاد شركيٌّ محرّم فالذي يحمي فعلا هو الله جل وعلا ومن أسباب حمايته تلاوة القرآن والأذكار الشرعية بخشوع ويقين.
5- ما في الكتابة عليها من اتخاذ القرآن وسيلة لترويج التجارة فيها والزيادة في كسبها وينبغي أن يُصان القرآن عن أن يكون مجالا لذلك، ومعلوم أنّ بعض هذه اللوحات في شرائها إسراف أو تبذير.
6- أنّ كثيرا من هذه اللوحات مطلية بالذّهب فتشتدّ حرمة استعمالها وتعليقها.
7- أنّ في بعض هذه اللوحات عبث واضح كالكتابات الملتوية المعقّدة التي لا يُنتفع بها لأنّها لا تكاد تُقرأ، وبعضها مكتوب على هيئة طائر أو رَجُل ساجد ونحو ذلك من صور ذوات الأرواح المحرّمة.
8- أنّ في ذلك تعريض آيات القرآن وسوره للامتهان والأذى، فمثلا عند الانتقال من بيت إلى آخر توضع مع الأثاث المتراكم على اختلاف أنواعه كما وتوضع فوقها أشياء أخرى وكذلك يحدث عند تنزيلها لطلاء الجدران أو تنظيف البيت.
9- أنّ بعض المسلمين المقصّرين يعلّقونها إشعارا لأنفسهم بأنهم يقومون بأمور من الدّين ليخفّفوا من لوم ضمائرهم لهم مع أنّها لا تُغني عنهم شيئا.
وبالجملة فإنه ينبغي إغلاق باب الشر والسير على ما كان عليه أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ أهلها أفضل المسلمين في عقائدهم وسائر أحكام دينهم.
ثمّ إذا قال قائل بأننا لن نهينها ولن نجعلها زينة ولن نغالي فيها وإنما نريد بها تذكير الناس في المجالس، فالجواب على ذلك أننا إذا نظرنا في الواقع فهل سنجد أنّ ذلك هو الذي يحدث فعلا؟ وهل يذكر الجالسون الله أو يقرؤون الآيات المعلقة إذا رفعوا رؤوسهم إليها؟
إن الواقع لا يشهد بذلك بل يشهد بخلافه فكم من المجالس ذات الآيات المعلّقة يخالف الجالسون فيها ما هو معلّق فوق رؤوسهم ويكذبون ويغتابون ويسخرون ويفعلون المنكر ويقولونه، ولو فرضنا أنّ هناك من يستفيد منها فعلا فإنهم قلة قليلة لا تأثير لها في حكم هذه المسألة.
فينبغي على المسلمين أن يُقبلوا على كتاب الله يتلونه ويعملون بما فيه، نسأل الله أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/73)
يجتمعون ويقرأ كل منهم جزءاً فهل تعتبر ختمة لكل واحد
[السُّؤَالُ]
ـ[لسؤال:
هناك أناس يجلسون لقراءة القرآن في السر، وكل فرد يقرأ جزءا من القرآن، بدعوى ختم القرآن كاملا في هذه الجلسة، فهل هذا العمل جائز أم يعتبر من قبيل البدعة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
أرى أن العمل المذكور لا يجوز، ولا أذكر أنه نقل مثله عن السلف، والإنسان إنما يثاب على ما قرأه بنفسه، أو أنصت له للاستفادة، فأما قراءة غيره وهو لا يستمعها فأجرها لصاحبها، ولا يعتبر هؤلاء قد ختموا القرآن، وإنما قرأ كل واحد جزءاً فله أجره، فعليهم أن لا يفعلوا مثل هذا، بل إما أن يقرأ أحدهم والبقية يستمعون، وإما أن يقرأ كل منهم بنفسه من غير ارتباط بقراءة غيره.
[الْمَصْدَرُ]
اللؤلؤ المكين من فتاوى الشيخ ابن جبرين ص 50.(3/74)
نسخ آية حبس الزانية في البيت
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف معنى الآية الخامسة عشر من سورة النساء التي تقول بحبس المرأة الزانية في البيت حتى الموت أو يحدث فرج بطريقة ما. هل يعنى هذا معاقبة الزانية بذلك أو سجنها بقية عمرها؟ وما معنى أن الله سيجعل لها طريقاً؟ أريد أن أتوصل لفهمٍ أحسن للإسلام بواسطة المسلمين أنفسهم. وشكراً على إتاحة الوقت.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى في سورة النساء: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ولهذا قال: "واللاتي يأتين الفاحشة" يعني الزنا "من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم وكذا رُوِيَ عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة وهو أمر متفق عليه - قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب والبكر بالبكر الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة". وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية:
هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام.. قاله ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه.. غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية.. وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .. وقد قال بعض العلماء: أن الأذى والتعيير باق مع الجلد، لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع.. والله أعلم.
ولإتمام الفائدة يحسن معرفة تفسير الآية التي تليها أيضا في سورة النساء وهي قوله تعالى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:
" وقوله تعالى "واللذان يأتيانها منكم فآذوهما" أي واللذان يفعلان الفاحشة فآذوهما قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم وقال عكرمة وعطاء والحسن وعبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا.. وقوله "فإن تابا وأصلحا" أي أقلعا ونزعا عما كان عليه وصلحت أعمالهما وحسنت "فأعرضوا عنهما" أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له "إن الله كان توابا رحيما" وقد ثبت في الصحيحين "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها" أي لا يعيرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت. "
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/75)
مخالفة الترتيب في السور والآيات عند التلاوة
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي يتعلق بترتيب قراءة سور القرآن في الصلاة الجهرية أو السرية.
هل على المصلي أن يقرأ السور والآيات حسب الترتيب الذي وردت به في القرآن، بمعنى، قراءة سورة النصر في الركعة الأولى ثم سورة الكوثر في الركعة الثانية، وهل يجوز قراءة الآيات 50-60 من سورة البقرة (مثلا) في الركعة الأولى ثم قراءة الآيات 10-20 في الركعة الثانية؟
أرجو توضيح هذا الأمر وبيان السبب.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قراءة المتأخر قبل المتقدم من القرآن يسمى تنكيساً، وهو أقسام:
تنكيس الحروف
تنكيس الكلمات
تنكيس الآيات
تنكيس السور
أما تنكيس الحروف، فهو تقديم الحروف المتأخرة على المتقدمة في الكلمة الواحدة، فيقرأ - مثلاً - بدلاً من {رب} : " بر "!
و"هذا لا شك في تحريمه، وأن الصلاة تبطل به؛ لأنه أخرج القرآن عن الوجه الذي تكلم الله به، كما أن الغالب أن المعنى يختلف اختلافاً كثيراً."
" الشرح الممتع لابن عثيمين " (3 / 110) .
أما تنكيس الكلمات، فهو أن يقدم الكلمة اللاحقة على التي قبلها، فيقرأ - مثلاً - بدلاً من {قل هو الله أحد} : " أحد الله هو قل "!
و"هذا أيضاً محرم بلا شك؛ لأنه إخراج لكلام الله عن الوجه الذي تكلم الله به."
" الشرح الممتع " (3 / 110) .
وأما تنكيس الآيات، وهو قراءة الآية اللاحقة قبل الآية السابقة، فيقرأ {من شر الوسواس الخناس} قبل {إله الناس} !
فقد قال عنه القاضي عياض رحمه الله:
ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى على ما هي عليه الآن في المصحف , وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم.
من " شرح النووي " (6 / 62) ، وكذا قال ابن العربي كما في " الفتح " (2 / 257) .
وقال الشيخ ابن عثيمين:
تنكيس الآيات أيضاً محرم على القول الراجح؛ لأن ترتيب الآيات توقيفي، ومعنى توقيفي: أنه بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
" الشرح الممتع " (3 / 110) .
وأما تنكيس السور، فهو قراء السورة اللاحقة قبل السابقة، فيقرأ - مثلاً - " آل عمران " قبل " البقرة ".
حكمه:
من قال من العلماء إن ترتيب السور ليس توقيفياً: لم ير بذلك بأساً.
ومن رأى أن الترتيب توقيفي، أو أن إجماع الصحابة على ترتيبه حجة: لم ير جواز ذلك.
والصحيح:
أن الترتيب ليس توقيفيّاً، وإنما هو من اجتهاد بعض الصحابة.
وأنه لا إجماع على الترتيب بين الصحابة، إذ كان مصحف " عبد الله بن مسعود " - مثلاً - على خلاف تلك المصاحف ترتيباً.
وفي السنة ما يؤيد الجواز:
أ. عن حذيفة قال: صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها…… رواه مسلم (772) .
الشاهد في الحديث أنه قرأ النساء قبل آل عمران.
قال النووي:
قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف , وإنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم بل وَكَله إلى أمته بعده. قال: وهذا قول مالك وجمهور العلماء , واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، قال ابن الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما.
قال: والذي نقوله: إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين، والتعليم , وأنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نص، ولا حدٌّ تحرم مخالفته، ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان.
قال: واستجاز النبي صلى الله عليه وسلم والأمة بعده في جميع الأعصار ترك ترتيب السور في الصلاة والدرس والتلقين.
قال: وأما على قول من يقول من أهل العلم: إن ذلك بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم حدده لهم كما استقر في مصحف عثمان، - وإنما اختلاف المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير -، فيتأول قراءته صلى الله عليه وسلم النساء أولا ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب , وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ.
قال: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة.
قال: وقد أباحه بعضهم.
وتأويل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها.
قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله تعالى على ما هي عليه الآن في المصحف , وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. هذا آخر كلام القاضي عياض. والله أعلم. " شرح مسلم " (6 / 61، 62) .
وقال السندي:
قوله (ثم افتتح آل عمران) مقتضاه عدم لزوم الترتيب بين السور في القراءة. " شرح النسائي " (3 / 226) .
ب. عن أنس بن مالك رضي الله عنه كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ {قل هو الله أحد} حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى فإما تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى فقال ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال إني أحبها فقال حبك إياها أدخلك الجنة. رواه البخاري معلقاً، والترمذي من طريق البخاري (2901) .
والشاهد منه: قراءة الرجل سورة الإخلاص في صلاته قبل المتقدِّم عليها، وقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم.
ج. وهو فعل عمر رضي الله عنه:
قال الإمام البخاري:
وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف أو يونس وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما.
" باب الجمع بين السورتين في الركعة " من كتاب الأذان.
5. أما القسم الأخير من السؤال، فنقول:
يجوز قراءة الآية من (50 - 60) من البقرة في الأولى ثم القراءة من (1 - 20)
من سورة البقرة في الركعة الثانية؛ لأن المعنى يكون تاماً.
أما من (10-20) : ففيه انقطاع بالمعنى والأحسن تركه، ولعلك ذكرت الأرقام على سبيل التمثيل ولا تقصد ذات الآيات، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/76)
بخصوص إدعاء عدم وجود دليل على أثر القرآن في القرن السابع
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أنه لا يوجد دليل أن القرآن كان له أثر مكتوب في القرن السابع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الكلام باطل لا حقيقة له، وإنما يقوله الطاعنون في الإسلام لصدّ الناس عن الإسلام، ويكفي أن يُعلم أن الله تكفل بحفظ القرآن، فقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر / 9.
ثم التواتر في نقل القرآن - الجماعات عن الجماعات - حفظاً وكتابات معلوم لمن لديه أدنى اطّلاع على العلم الشرعي، لا سيما علم القراءات والقرّاء.
ولا يزال كثير من الناس إلى اليوم يتلقون القرآن بالمشافهة بالأسانيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عجائب حفظ الله سبحانه للقرآن: أنه ما من أحد يريد تحريف القرآن إلا ويُكتشف.
والحاصل أن جميع ما كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكتب بين يديه مباشرة، كما كان لبعض الصحابة مصاحف، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جمع الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن في صحف واحتفظ بها، ثم جمعه الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه في مصاحف استناداً إلى تلك المصاحف التي جمعها أبو بكر الصديق إضافة إلى الحفظ.
فإذا علمنا أن القرآن قد كتبه الصحابة وجمعوه، وأرسل عثمان نسخاً من المصحف في عهده إلى أمصار الإسلام الرئيسية، لتكون مرجعاً لهم، فلا يختلفوا، فكيف يقال بعد ذلك ليس للقرآن أثر مكتوب في القرن السابع، وبالإضافة إلى ذلك توجد أعداد من المخطوطات القديمة للقرآن في عدد من المكتبات والمتاحف العلمية تشهد عياناً بوجود نسخ محفوظة من القرآن قديمة تثبت بأنه لم يطرأ على كتاب الله تعالى أي تغيير ولا تبديل. قال تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت / 42. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/77)
مواضع سجود التلاوة في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الآيات في القرآن التي ينبغي أن نسجد عندها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مواضع السجود في القرآن خمسة عشر موضعاً فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم والدارقطني وحسنه المنذري والنووي وهي:
1- (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) (الأعراف/206) .
2- (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال) . (الرعد/15) .
3- (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) (النحل/49) .
4- (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا) (الإسراء/107) .
5- (إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً) (مريم/58) .
6- (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) (الحج/18) .
7- (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) (الحج/77)
8- (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزداهم نفوراً) . (الفرقان/60) .
9- (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) (النمل/25) .
10- (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) (السجدة/15) .
11- (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) (ص/24) .
12- (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) (فصلت/37) .
13- (فاسجدوا لله واعبدوا) (النجم/63) .
14- (وإذا قرء عليهم القرآن لا يسجدون) (الانشقاق/21) .
15- (كلا لا تطعه واسجد واقترب) (العلق/19) .
فقه السنة 1/186-188
قال الألباني في تمام المنة 269 معلقا:
" كلا ليس بحسن، لأن فيه مجهولين، فقد قال الحافظ في التلخيص بعد أن نقل تحسين المنذري والنووي للحديث: وضعفه عبد الحق وابن القطان وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي وهو لا يعرف أيضاً وقال ابن ماكولا: ليس له غير هذا الحديث ".
ولذلك اختار الطحاوي أن ليس في الحج سجدة ثانية قرب آخرها وهو مذهب ابن حزم في المحلى قال:
" لأنه لم يصح فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجمع عليها وصح عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي الدرداء السجود فيها "
ثم ذهب ابن حزم إلى مشروعية السجود في السجدات الأخرى المذكورة في الكتاب وذكر أن العشر الأولى متفق على مشروعية السجود فيها عند العلماء وكذلك حكى الاتفاق عليها الطحاوي في شرح المعاني (1/211) إلا أنه جعل سجدة (فصلت) بدل سجدة (ص) ثم أخرجا كلاهما بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد في (ص) (والنجم) والانشقاق) و (اقرأ) وهذه الثلاث الأخيرة من المفصل التي أشير إليها في حديث عمرو المذكور آنفا.
وبالجملة فالحديث مع ضعف إسناده قد شهد له اتفاق الأمة على العمل بغالبه، ومجيء الأحاديث الصحيحة شاهدة لبقيته إلا سجدة الحج الثانية فلم يوجد ما يشهد لها من السنة والاتفاق، إلا أن عمل بعض الصحابة على السجود فيها قد يستأنس بذلك على مشروعيتها ولا سيما ولا يعرف لهم مخالف.
والخلاصة أنّ السجود للتلاوة في الخمسة عشر موضعا المذكورة والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/78)
من ينظر في المصحف دون تحريك الشفتين هل يثاب على ذلك؟
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يأخذون المصحف ويطالعون فيه دون تحريك شفتيهم هل هذه الحالة ينطبق عليها اسم قراءة القرآن؟ أم لابد من التلفظ بها والإسماع، لكي يستحقوا بذلك ثواب قراءة القرآن؟ وهل المرء يثاب على النظر في المصحف؟ أفتونا جزاكم الله خيراًَ.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر والتعقل وفهم المعنى، لكن لا يعتبر قارئاً ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفظ بالقرآن ولو لم يسمع من حوله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم.
ومراده صلى الله عليه وسلم بأصحابه: الذين يعملون به، كما في الأحاديث الأخرى، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها) خرجه الترمذي، والدارمي بإسناد صحيح، ولا يعتبر قارئاً إلا إذا تلفظ بذلك. والله ولي التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/8 ص / 363.(3/79)
حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا حرج في ذلك والواجب إخراج الكلب وعدم بقائه في المنزل إلا إذا كان لأحد ثلاثة أمور وهي: الصيد والحرث والماشية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد، أو ماشية، أو زرع، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان) متفق عليه. والله ولي التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/8ص / 362.(3/80)
يجوز أخذ أجر على تعليم القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من الصواب أخذ مال مقابل تعليم القرآن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سئلت اللجنة الدائمة عن جواز أخذ أجر على تعليم القرآن فأجابت:
نعم يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن في أصح قولي العلماء، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) رواه البخاري، ولمسيس الحاجة إلى ذلك. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى اللجنة الدائمة م/4 ص/91.(3/81)
القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين
[السُّؤَالُ]
ـ[أخبرني المزيد عن القرآن.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن: هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته.
وهذا التعريف للقرآن جامع مانع.
فقولنا " كلام الله ": خرج به: كلام البشر وغيرهم.
وقولنا " المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ": خرج به: الذي أنزل على غيره كالإنجيل والتوراة والزبور.
وقولنا " المتعبد بتلاوته ": خرج به الأحاديث القدسية.
وهو نور ويقين، وهو الحبل المتين، وهو منهج الصالحين، فيه أخبار الأولين من الأنبياء والصالحين وكيف أن من عصى أمرهم ذاق بأس الله وكان من الأذلين، وفيه آيات تحكي معجزات الله وقدرته في هذا الكون المتين، وفيه بيان لأصل هذا الآدمي الذي كان من ماء مهين، وفيه أحكام العقيدة التي يجب أن ينطوي عليها كل قلب مستكين، وفيه أحكام الشريعة التي تبين المباح من الحرام وتبين الباطل من الحق المبين، وفيه بيان المعاد ومصير الآدمي إما إلى نار يخزى فيها فيكون من الصاغرين، وإما إلى جنة ذات جنات وعيون وزروع ومقام أمين.
وفيه شفاء للصدور، وفيه للأعمى تبصرة ونور، قال الله تعالى: (وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً) الإسراء / 82
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآيات:
يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد إنه (شفاء ورحمة للمؤمنين) أي: يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل، فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا يزيده سماعه القرآن إلا بعداً وكفراً والآفة من الكافر لا من القرآن، قال تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك يُنادون من مكان بعيد) فصلت / 44، وقال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) التوبة / 124 – 125، والآيات في ذلك كثيرة.
قال قتادة - في قوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) -: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه، {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} ، أي: لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
" تفسير ابن كثير " (3 / 60) .
وقال الله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) يونس / 57، وقال الله تعالى: (ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته ءاعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) فصلت / 44.
وفيه هداية الناس من الضلال إلى الحق قال الله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) البقرة / 2، وقال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) الشورى / 9، وقال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) الشورى / 52 – 53.
وفيه ما لا يستطيع عده جهد العادِّين، فيجب على كل من أرد السعادتين في هذين الدارين أن يحتكم إليه ويعمل بأمره.
يقول الإمام ابن حزم:
ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه: (وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) الأنعام / 38، فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده.
" الإحكام " (1 / 92) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/82)
من الذي كتب القرآن وكيف تم تجميعه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من الذي كتب القرآن وكيف تم تجميعه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا: قد تكفل الله تعالى بحفظ هذا القرآن بنفسه فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره (14/8) :
يقول تعالى ذكره إنا نحن نزلنا الذكر وهو القرآن وإنا له لحافظون قال وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه اهـ
وقال السعدي في تفسيره (ص: 696) :
إنا نحن نزلنا الذكر أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر.
وإنا له لحافظون أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف مُحَرِّف معنىً من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم اهـ
أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً، على مدى ثلاث وعشرين سنة، قال الله تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا) الإسراء/106.
قال السعدي رحمه الله:
أي: وأنزلنا هذا القرآن مفرقًا، فارقًا بين الهدى والضلال، والحق والباطل.
(لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) أي: على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه.
(وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا) أي: شيئًا فشيئًا، مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة اهـ
تفسير السعدي (ص: 760) .
ثانيا:
كانت الكتابة قليلة في العرب، وقد وصفهم الله بذلك في قوله: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) الجمعة / 2، فكانوا يحفظون القرآن في صدورهم، وقليل منهم كان يكتب بعض آيات أو سور على الجلود والحجارة الرقاق ونحو ذلك.
ثالثا:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر عن كتابة شيءٍ سوى القرآن ونهاهم عن كتابة كلامه مؤقتا حتى تتوافر همم الصحابة على حفظ القرآن وكتابته ولا يختلط كلام النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الله تعالى فيبقى القرآن محفوظاً من الزيادة فيه أو النقص.
رابعا:
وكَّل النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة الأمناء الفقهاء حتى يكتبوا الوحي، وهم ما عرفوا في تراجمهم بكتاب الوحي كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
خامساً:
أنزل القرآن على سبعة أحرف كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. رواه البخاري (2287) ، ومسلم (818) وهي لغات العرب المشهود لها بالفصاحة.
سادساً:
بقي القرآن محفوظاً في صدور الحفاظ من الصحابة وعلى الجلود وغيرها إلى زمان الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي حروب الردة قتل كثير من حفاظ القرآن من الصحابة فخشي أبو بكر- رضي الله عنه - أن يذهب القرآن ويضيع في صدور الصحابة، فاستشار كبار الصحابة لجمع القرآن كاملا في كتابٍ واحدٍ حتى يبقى محفوظاً من الضياع، وأوكل المهمة إلى جبل الحفظ زيد بن ثابت رضي الله عنه فأخرج البخاري في " صحيحه " (4986) عن زَيْدَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ [أي: كثر] يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. قال زيد: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... ) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
العُسُب: جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض.
واللخاف: الحجارة الرقاق.
وكان الصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه يحفظ القرآن ولكن اتخذ منهجا في التثبت فكان لا يقبل أن يكتب آية إلا أن يُشهد على ذلك اثنين من الصحابة أنهما سمعاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستمر هذا المصحف بيد الخلفاء إلى زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد تفرقوا في البلاد وكانوا يقرؤون القرآن على حسب ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحرف السبعة، فكان تلاميذهم يقرأ كل واحد منهم على حسب ما أقرأه شيخه.
وكان التلميذ إذا سمع قارئاً يقرأ بخلاف قراءته أنكر عليه وخطأه وهكذا حتى خشي بعض الصحابة أن تحدث فتنة بين التابعين ومن بعدهم فرأى أن يجمع الناس على حرف واحد وهو لغة قريش التي نزل القرآن عليها أولاً لرفع الخلاف وحسم الأمر فاستشار عثمان رضي الله عنه فوافق على هذا الرأي.
فروى البخاري في "صحيحه" (4988) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.
وبذلك انقطع الخلاف واتفقت الكلمة وبقي القرآن متواترا ومحفوظا في صدور الرجال إلى يوم القيامة وكان هذا من حفظ الله تعالى لكتابه مصداقاً لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر / 9.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/83)
أيما أفضل قراءة القرآن الجماعية أم الفردية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي صورة مدارسة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان للقرآن؟ وهل يدل على أن الاجتماع أفضل من الانفراد على القرآن؟ وهل هناك مزية لليل على النهار؟ نرجو التوضيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" أولاً:
أما كيفية المدارسة فلا أعلم عن كيفيتها.
ثانياً:
وأما هل المستحب أن يجتمع الناس على القرآن أو أن يقرأ كل إنسان بمفرده؟
فهذه ترجع إلى الإنسان نفسه، إن كان إذا اجتمع إلى إخوانه لتدارس القرآن صار أخشع لقلبه، وأنفع في العلم فالاجتماع أفضل، يعني إذا كان الاجتماع صار هناك حضور قلب وخشوع وتدبر للقرآن، وتساؤل فيما بينهم فهذا أفضل، وإن كان الأمر بالعكس فالانفراد أفضل.
ثالثاًَ:
وأما مدارسة جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام فهو من أجل تثبيت القرآن بقلب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الفقرة الثالثة من السؤال وهي: هل هناك مزية لليل على النهار فهذا نعم، لكن قد يكون للإنسان أعمال لا يستطيع معها أن يدرس القرآن في الليل، فيجعل أكثر دراسته في النهار، فالإنسان ينظر ما هو أنفع له، لعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «احرص على ما ينفعك» فما كان أنفع لك إذا لم يكن محظوراً شرعاً فهو أفضل "
[الْمَصْدَرُ]
انتهى مجموع الفتاوى 8/78.(3/84)
سورة فيها لفظ الجلالة في كل آية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي السورة التي ذكر اسم الله في كل آية منها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السورة هي: المجادلة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/85)
الأوقات التي يجوز فيها قراءة القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز قراءة سورة الفاتحة في أي وقت؟ لقد سمعت أنه لا يجوز قراءتها إلا في أوقات محددة، مثل الصلاة أو وفقا لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور محددة. وإذا كان الأخير هو الصحيح، فأنا أرجو أن تقدم لي قائمة بالأوقات المناسبة لقراءة الفاتحة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجوز لك أن تقرأ القرآن أو أي سورة منه، في أي وقت وعلى أي حال، إلا إذا كنت جنباً، فإنه يحرم عليك حينئذٍ قراءة القرآن، لحديث عَلِيٍّ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا " رواه الترمذي (الطهارة/136) قَالَ الترمذي: حَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ قَالُوا يَقْرَأُ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَلا يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَق انظر ضعيف سنن الترمذي للألباني حديث رقم 22.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أجمع الأئمة على تحريم قراءة القرآن للجنب.
وليس من الأدب مع القرآم قراءته على جنب وهو كلام الله عز وجل، الذي يجب احترامه وتعظيمه وأن يُبْعَد عن كل ما يَمَسّ كرامته وقُدْسِيَّته من الأمكنة القذرة والمَحَالِّ المُحَرَّمة، ولأن الجُنُبَ قادر على رفع الجنابة عنه متى شاء، فَمُنِع من ذلك، أما إذا كان عليك حدث أصغر فيجوز لك القراءة فقط دون مس المصحف، يراجع سؤال رقم 10672، أما المرأة في حالة الحيض والنفاس فيراجع سؤال 2564.
والله أعلم
يراجع كتاب توضيح الأحكام للبسام 1/309.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/86)
هل يُحتفل بختمة القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[فتاة ختمت القرآن تلاوة للمرة الأولى وتريد دعوة صاحباتها للاحتفال بهذه المناسبة فماذا تكتب في بطاقات الدّعوة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إنه عمل جليل أن تنهي فتاة مسلمة في هذا السنّ (أحد عشر عاما) تلاوة كتاب الله تعالى كاملا في بلاد غربة الدّين وسط ذلك المجتمع المنحرف وكما أخفت هذه الفتاة اسمها في السؤال وهو من علامات الإخلاص إن شاء الله فإنني أرى أن لا يُعلن ذلك إلا على سبيل تشجيع الآخرين للقيام بالأمر نفسه، فلو اقتصر الأمر على دعوة عادية تقوم بها بعض قريباتك أو صاحباتك تحضرين فيها مع زميلاتك وتذكرين فيها تجربتك في ختم القرآن للحاضرات لتحميسهنّ لا رياء ولا سمعة ويكون هناك تعليقات من بعض الأمهات حول عظمة القرآن الكريم وفضل تلاوته وأدب المسلم مع القرآن، وكذلك لو دعت هذه الفتاة صاحباتها إلى وليمة بهذه المناسبة من باب شكر النّعمة وفرحا بحصولها فلا بأس بذلك مع الحرص أن لا يتحوَّل ذلك إلى مظهر من مظاهر الاحتفال.
يتضح مما تقدم أن الاحتفال بختم القرآن حفظاً أو تلاوة وجمع الناس وصنع الطعام بهذه المناسبة يخشى فيه من فتنتين: إحداهما الرياء والسمعة والفخر والغرور، والثانية: الدخول في البدعة باعتقاد أن هذا الاحتفال من الدّين وأن كل من ختم القرآن يشرع له ذلك وتحصل السلامة من الآفة الأولى بمجاهدة النفس على الإخلاص لله تعالى، ومن الآفة الثانية بالاقتصار على العدد القليل من الحضور من الأهل والأقارب، وينبغي ترك ذلك الاجتماع أحيانا حتى لا يظن أنه سنة. أسأل الله أن يزيدك من فضله ويرزقك قوة الحفظ والإخلاص في القول والعمل. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/87)
ترتيب السور والآيات في المصحف
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لم ترتب سور المصحف على أولية النزول؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإجماع والنصوص الكثيرة على ترتيب الآيات في السورة الواحدة أمر معلوم ومشهور، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. انتهى
وأما النصوص فمنها: ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني والى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظنت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (المستدرك) (2/330)
(ومنها) ما أخرجه أحمد في المسند (4/218) بإسناد حسن عن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ ثُمَّ صَوَّبَهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْزِقَهُ بِالأَرْضِ قَالَ ثُمَّ شَخَصَ بِبَصَرِهِ فَقَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
(ومنها) ما أخرجه البخاري في الصحيح برقم (4536) عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا إِلَى قَوْلِهِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
(ومنها) ما رواه مسلم برقم (1617) عن عمر قال ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال ألا تكفيك آية الصّيْف التي في آخر سورة النساء.
(ومنها) الأحاديث في خواتيم سورة البقرة.
(ومنها) ما رواه مسلم برقم (809) عن أبي الدرداء مرفوعاً من حفظ عشر آيات من أول الكهف عصم من الدجال وفي لفظ عنده من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف.
وقراءته صلى الله عليه وسلم للسور المختلفة بمشهد من الصحابة يدلّ على أن ترتيب آياتها توقيفي وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيباً سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافة فبلغ ذلك مبلغ التواتر.
قال القاضي أبو بكر في الانتصار: ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم فقد كان جبريل يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا.
وقال أيضاً: الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتّبه عليه رسوله من آي السور لم يُقدّم من ذلك مؤخّر ولا أخّر منه مقدّم وأن الأمة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب آي كل سورة ومواضعها وعرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة..
وقال البغوي في شرح السنة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرّقاً عند الحاجة وترتي النزول غير ترتيب التلاوة.
وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضاً أو هو باجتهاد من الصحابة؟ في هذه المسألة خلاف فجمهور العلماء على الثاني منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه
قال ابن فارس: جمع القرآن على ضرْبين أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا الذي تولته الصحابة وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور فهو توفيقي تولاه النبي صلى الله عله وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه ومما استدل به لذلك اختلاف السلف في ترتيب السور فمنهم من رتبها على النزول وهو مصحف عليّ كان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل وهكذا وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة ثم النساء ثم آل عمران على اختلاف شديد وكذا مصحف أبيّ.
وقال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب وعليه كان صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين وكان آخر الآيات نزولاً {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا والدين.
وقال الزركشي في البرهان: والخلاف بين الفريقين لفظي لأن القائل بالثاني يقول أنه رمز إليهم ذلك ليعلّمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك إنما ألّفوا القرآن (أي جمعوه) على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قوليّ أو بمجرد إسناد فعليّ بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر.
وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتباً سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق.
وقال ابن عطية: كثير من السور كان قد عُلم ترتيبها في حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصّل وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فَوَّض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
وقال أبو جعفر: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف كقوله اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران رواه مسلم برقم (804) .
وروى البخاري برقم (4739) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلادِي (أي من قديم ما قرأته) .
وقال أبو جعفر النحاس المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة أعطيت مكان التوارة السبع الطوال "، قال فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم..
وقال ابن حجر ترتيب بعض السور على بعضها أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفاً، قال: ومما يدل على أن ترتيبها توقيفي ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ.. سَأَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحْنَا قَالَ قُلْنَا كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ قَالُوا نُحَزِّبُهُ سِتَّ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً وَثَلاثَ عَشْرَةَ سُورَةً وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ق حَتَّى تَخْتِمَ. قال فهذا يدل على أن ترتيب السور - على ما هو في المصحف الآن - كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن الذي كان مرتباً حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ماعداه.. أنظر (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي (1/62 ـ 65) . والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/88)
دخول الخلاء بعقد فيه آيات قرآنية
[السُّؤَالُ]
ـ[لدى زوجتي عقد يحتوي على آيات قرنية فهل يجوز لها أن تدخل الحمام وهي تلبسه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز دخول الخلاء بشيء فيه آيات من القرآن الكريم لما يفضي إليه من الإهانة لكلام الله عزّ وجلّ، وبالتالي يجب على زوجتك خلعه قبل الدّخول للخلاء، والنّصيحة أن لا تعلّق المرأة ولا الطفل ولا أحد من الناس في العنق شيئا فيه آيات ولا تعويذات لما في ذلك من المحاذير حتى ولو لم يدخل الخلاء بها. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/89)
القرآن والطب
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت في محاضرة بأن علماء الطب والدكاترة يدعون بأن العديد من الأدوية والعلاجات تم اكتشافها والوصول إليها عن طريق استنتاج حقائق من القرآن الكريم.
وعليه , فهذا هو سؤالي: هل الموجود بين أيدينا هو جميع ما يتعلق بالطب الذي ورد ذكره في القرآن الكريم؟ أم أن القرآن يحتوي على المزيد الذي يمكننا الاستفادة منه؟
أسأل عن ذلك بسبب طلب جاد تقدم به أحد أصدقائي، وهو هندوسي ويدعى "فيقنيش", حيث سأل عما إذا بقي في القرآن الكريم أمور لم تكتشف بعد تتعلق بالسيطرة على الأمراض القاتلة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أرسل الله تعالى محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدين شامل لكل نواحي الحياة كما قال أبو ذر رضي الله عنه: " لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ".
رواه أحمد (20399) انظر" مجمع الزوائد " (8 / 263) . قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة.
فجاء الإسلام ليسد حاجات الناس في كل شؤون حياتهم.
ثانياً:
وما جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مكمِّل لما جاء في القرآن، وهذان المصدران هما المصدران الرئيسيان عند المسلمين، وقد بيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ".
رواه البخاري في (5678) .
ثالثاً:
وما ذكره السائل عن بعض المسلمين من كون كثير من العلاجات اكتشفت عن طريق القرآن الكريم: فنقول إن هذا من الأمور المبالغ فيها.
فالقرآن الكريم ليس كتاب طبٍّ ولا كتاب (جغرافيا) ولا (جيولوجيا) كما يحلو لبعض المسلمين أن يقول ذلك أمام الغرب، بل هو كتاب هداية للناس ومن أعظم معجزاته: بلاغته وقوة معانيه، وهو الأصل في إعجازه، فقد أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في زمان بلغت الفصاحة والبلاغة فيه مبلغاً عظيماً فجاء هذا الكتاب ليعجز أولئك القوم فيما يتقنونه ليبيِّن لهم أنه من عند الله.
وهذا الأمر ليس بالمستغرب ولا بالمبتدع في هذا الدين، فقد جاءت آيات موسى عليه السلام – العصا واليد – من جنس ما انتشر في زمانه وهو السحر، وكانت آيات عيسى عليه السلام – من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص – من جنس ما أتقنه قومه وانتشر عندهم وهو الطب.
لذا نقول: إن أعظم ما في القرآن الكريم هو فصاحته وبلاغته، ولا زال العلماء إلى هذا الوقت يتبيَّن لهم ذلك بالتدبر والتفكر في آياته.
وهذا لا يعني أنه ليس فيه غير ذلك، بل ذكر الله تعالى فيه بعض الآيات في بيان تركيب جسم الإنسان، وتدرج خلقه، وبعض مظاهر الطبيعة، وغير ذلك.
أما بالنسبة لما يتعلق بالعلاج الذي ذكره السائل، فإن القرآن الكريم شفاء للمؤمنين، وهذا يشمل شفاء القلوب والأبدان، وذكر الله تعالى فيه (العسل) وبيَّن أنه شفاء للناس، وذكر فيه أصل حفظ الصحة والوقاية من الأمراض، فمن قال إن القرآن ذكر كثيراً من الأدوية بهذا المعنى فقد أصاب، وأما غير ذلك فغير صحيح، بل هو من مبالغات بعض المسلمين، فالقرآن الكريم ليس كتاب طب، وقد جاءت أمراض لم تكن في سالف الأزمان، فكيف يأتي علاجها – باعتبار ما قاله السائل – قبل مجيئها؟ .
رابعاً:
أ. وهذه بعض الآيات الدالة على أن القرآن شفاء.
قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين} الإسراء / 82.
قال ابن القيم رحمه الله:
قال الله تعالى: {وننزل مِن القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}
والصحيح: أن {مِن} ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم موعظة مِن ربكم وشفاء لما في الصدور} .
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحدٍ يؤهل ولا يوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه: لم يقاومه الداء أبداً.
وكيف تقاوم الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدَّعها؟ ، أو على الأرض لقطَّعها؟ فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه فهماً في كتابه.
" زاد المعاد " (4 / 352) .
ب. والقرآن الكريم فيه علاج للنفوس والأرواح، ومن صحَّ ذلك فيه: كان سبباً لطرد الآفات والأمراض من بدنه، والقرآن بهذا الاعتبار شفاء وعلاج لكثير من الأمراض.
قال ابن القيم رحمه الله:
وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأغلظهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.
" زاد المعاد " (4 / 12) .
ج. وفي القرآن سورة الفاتحة وهي رقية للأمراض.
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جُعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الحمد لله رب العالمين} فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري (2156) ومسلم (2201) .
قلبة: داء أو ألم يتقلب منه صاحبه.
قال ابن القيم رحمه الله عن سورة الفاتحة:
ومَن ساعده التوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال وإثبات الشرع والقدر والمعاد وتجريد توحيد الربوبية والإلهية وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحها ودفع مفاسدهما وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقيق بها: أغنته عن كثير من الأدوية والرقى، واستفتح بها من الخير أبوابه ودفع بها من الشر أسبابه.
" زاد المعاد " (4 / 347) .
د. وفي القرآن ذكر أصول حفظ الصحة.
وقال ابن القيم:
وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة.
وقد جمعها الله تعالى له ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه:
فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} النساء / 42 والمائدة / 6. فأباح التيمم للمريض حمية له كما أباحه للعادم.
وقال في حفظ الصحة: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} البقرة / 181.
فأباح للمسافر الفطر في رمضان حفظاً لصحته لئلا يجتمع على قوته الصوم ومشقة السفر فيضعف القوة والصحة.
وقال في الاستفراغ في حلق الرأس للمُحرم: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} البقرة / 196.
فأباح للمريض ومَن به أذى مِن رأسه وهو محرم أن يحلق رأسه ويستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة الرديئة التي تولد عليه القمل، كما حصل لكعب بن عجرة، أو تولد عليه المرض.
وهذه الثلاثة هي قواعد الطب وأصوله، فذكر من كل جنس منها شيئاً وصورة تنبيها بها على نعمته على عباده في أمثالها من حميتهم، وحفظ صحتهم، واستفراغ مواد أذاهم، رحمة لعباده ولطفا بهم ورأفة بهم وهو الرؤوف الرحيم.
" زاد المعاد " (1 / 164، 165) .
قال ابن القيم: وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر، فقال: والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة لكان سفراً قليلاً أو كما قال
إغائة اللهفان 1 / 25
هـ - ذِكر العسل في القرآن وأنه شفاء للناس.
قال الله تعالى {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} النحل / 69.
قال ابن القيم رحمه الله:
وأما هدية في الشراب فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد، وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء، فإنَّ شُربَه ولعقَه على الريق يذيب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويجلو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويسخنها باعتدال، ويفتح سددها، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة، وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصفراء لحدته وحدة الصفراء فربما هيَّجها، ودَفْع مضرته لهم بالخلِّ فيعود حينئذ لهم نافعاً جدّاً وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرها، ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة، ولا ألفها طبعه فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمة العسل ولا قريبا منه والمحكم في ذلك العادة فإنها تهدم أصولا وتبني أصولا.
وأما الشراب إذا جمع وصفي الحلاوة والبرودة فمن أنفع شيء للبدن ومن أكبر أسباب حفظ الصحة، وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه وإذا كان فيه الوصفان حصلت به التغذية وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها أتم تنفيذ الطعام إلى الأعضاء وإيصاله إليها أتم تنفيذ.
" زاد المعاد " (4 / 224، 225) .
وقال رحمه الله:
والعسل فيه منافع عظيمة: فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء وغيرها محلل للرطوبات أكلاً وطلاء، نافع للمشايخ وأصحاب البلغم ومن كان مزاجه بارداً رطباً، وهو مغذٍّ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين ولما استودع فيه، مُذهب لكيفيات الأدوية الكريهة، منقٍّ للكبد والصدر، مُدِّر للبول، موافق للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شرب حارّاً بدهن الورد: نفع من نهش الهوام وشرب الأفيون، وإن شرب وحده ممزوجاً بماء: نفع من عضه الكلْب الكلِب، وأكل الفُطُر القتَّال، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك إن جعل فيه القثاء والخيار والقرع والباذنجان ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويسمى الحافظ الأمين، وإذا لطخ به البدن المقمَّل والشَّعر: قتَل قمله وصئبانه وطوَّل الشعر وحسَّنه ونعَّمه، وإن اكتحل به: جلا ظلمة البصر، وإن استن به: بيض الأسنان وصقلها وحفظ صحتها وصحة اللثة، ويفتح أفواه العروق، ويدرُّ الطمث، ولعقه على الريق: يُذهب البلغم، ويغسل خمل المعدة، ويدفع الفضلات عنها ويسخنها تسخيناً معتدلاً ويفتح سددها، ويفعل ذلك بالكبد والكلى والمثانة وهو أقل ضرراً لسدد الكبد والطحال من كل حلو.
وهو مع هذا كله مأمون الغائلة، قليل المضار مضر بالعَرَض للصفراويين ودفعها بالخل ونحوه فيعود حينئذ نافعاً له جدّاً.
وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، فما خُلق لنا شيءٌ في معناه أفضل منه ولا مثله ولا قريبا منه، ولم يكن معوَّل القدماء إلا عليه، وأكثر كتب القدماء لا ذِكر فيها للسكر البتة ولا يعرفونه فإنه حديث العهد حدث قريباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الريق، وفي ذلك سر بديع في حفظ الصحة لا يدركه إلا الفطن الفاضل.
" زاد المعاد " (4 / 33، 34) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/90)
دعوى تحريف القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تجيب على هذا السؤال فهو مهم بالنسبة لي، فقد كنت أقرأ في صفحة معادية للإسلام على الإنترنت حيث قال أحد النصارى بأن الشيخ السجستاني قال في كتابه " المصاحف " بأن الحجاج قد غيَّر في حروف المصحف وغيَّر على الأقل عشر كلمات، يدَّعي بأن السجستاني قد ألَّف كتاب اسمه " ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان " وقد ادَّعى هذا النصراني بأنَّه جمع الكلمات العشر التي تم تغييرها باللغة العربية.
حاولتُ الحصول على نسخةٍ من هذا الكتاب دون جدوى فأرجو التوضيح، فأنا لا أتخيَّل أنَّ جميع العلماء والحفَّاظ يسمحون لشخصٍ بأن يغيِّر القرآن ولا يقولوا شيئاً، حتى ولو أن السجستاني روى هذا.
هذا الأمر لا يُعقل أبداً لأننا لسنا كاليهود والنصارى لا نحفظ كتابنا ونتركه لرجال الدين، فالمسلمون يحفظ كثير منهم القرآن وكلهم يتلوه فلا يعقل أن لا يلاحظ أحد الفروق والاختلافات.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا يمكن أن يتطرق الشك بالنسبة للمسلم في ثبوت القرآن، فقد تكفَّل الله تعالى بحفظ القرآن فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر / 9، وقد كان القرآن محفوظاً في صدور الحفاظ من الصحابة وعلى جذوع الأشجار واللخاف (الخزف) إلى زمان الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي حروب الردة قتل كثير من حفاظ الصحابة فخشي أبو بكر- رضي الله عنه -أن يذهب القرآن ويضيع في صدور الصحابة، فاستشار كبار الصحابة لجمع القرآن كاملا في كتابٍ واحدٍ حتى يبقى محفوظاً من الضياع، وأوكل المهمة إلى جبل الحفظ زيد بن ثابت وغيره من كتاب الوحي فأخرج البخاري في " صحيحه " (4986) عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: " أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال عمر: هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما ".
ثانياً:
وأما الحجاج فلم يباشر بنفسه كتابة المصحف، بل أمره بعض الحاذقين بذلك، وإليك القصة كاملة:
قال الزرقاني:
والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً … وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام – أي: تنقيط - المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان، إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت واختلط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة، هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ فأمر الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب " الحجاج " طاعة لأمير المؤمنين رجلين يعالجان هذا المشكل هما: نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني، وكلاهما كفء قدير على ما ندب له، إذ جمعا بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن، وقد اشتركا أيضاً في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي، ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة، والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف على ثلاث، وشاع ذلك في الناس بعدُ فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف.
وقيل: إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر، ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية، ثم تبعه ابن سيرين، وأن عبد الملك أول من نقط المصحف، ولكن بصفة رسميَّة عامَّة ذاعت وشاعت بين الناس دفعاً للبس، والإشكال عنهم في قراءة القرآن.
" مناهل العرفان " (1 / 280، 281) .
ثالثاً:
وأما ما جاء في السؤال نقلاً عن كتاب " المصاحف " لابن أبي داود: فإليك الرواية فيه والحكم عليها:
عن عبَّاد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفاً، قال: كانت في البقرة: 259 {لم يتسن وانظر} بغير هاء، فغيرها " لَم يَتَسَنه ".
وكانت في المائدة: 48 {شريعة ومنهاجاً} ، فغيّرها " شِرعَةً وَمِنهاجَاً ".
وكانت في يونس: 22 {هو الذي ينشركم} ، فغيَّرها " يُسَيّرُكُم ".
وكانت في يوسف: 45 {أنا آتيكم بتأويله} ، فغيَّرها " أنا أُنَبِئُكُم بِتَأوِيلِهِ ".
وكانت في الزخرف: 32 {نحن قسمنا بينهم معايشهم} ، فغيّرها " مَعِيشَتَهُم ".
وكانت في التكوير: 24 {وما هو على الغيب بظنين} ، فغيّرها {بِضَنينٍ} … الخ..
كتاب " المصاحف " للسجستاني (ص 49) .
وهذه الرواية ضعيفة جدّاً أو موضوعة؛ إذ فيها " عبَّاد بن صهيب " وهو متروك الحديث.
قال علي بن المديني: ذهب حديثه، وقال البخاري والنسائي وغيرهما: متروك، وقال ابن حبان: كان قدريّاً داعيةً، ومع ذلك يروي أشياء إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع، وقال الذهبي: أحد المتروكين.
انظر " ميزان الاعتدال " للذهبي (4 / 28) .
ومتن الرواية منكر باطل، إذ لا يعقل أن يغيِّر شيئاً من القرآن فيمشي هذا التغيير على نسخ العالم كله، بل إن بعض من يرى أن القرآن ناقص غير كامل من غير المسلمين كالرافضة - الشيعة – أنكرها ونقد متنها:
قال الخوئي – وهو من الرافضة -: هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين وخرافات المجانين والأطفال، فإنّ الحجّاج واحدٌ من ولاة بني أُمية، وهو أقصر باعاً وأصغر قدراً من أن ينال القرآن بشيءٍ، بل هو أعجز من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية، وكثرة الدواعي إلى نقله؟ وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج وانتهاء سلطته؟ وهب أنّه تمكّن من جمع نسخ المصاحف جميعها، ولم تشذّ عن قدرته نسخةٌ واحدةٌ من أقطار المسلمين المتباعدة، فهل تمكّن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلاّ الله.
" البيان في تفسير القرآن " (ص 219) .
وما نقله السائل عن الإمام السجستاني من أنه ألَّف كتاباً اسمه " ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان ": غير صحيح بل كذب ظاهر، وكل ما هنالك أن الإمام السجستاني ترجم للرواية سالفة الذكر عن الحجاج بقوله: (باب ما كتب الحجَّاج بن يوسف في المصحف) .
وعلى هذا فإنه لا يمكن أن يعتمد على هذا الرواية بحال من الأحوال، ويكفي في تكذيبها أنه لم يثبت حتى الآن أن أحداً نجح في محاولة لتغيير حرف واحد، فلو كان ما روي صحيحاً لأمكن تكراره خاصة في عصور ضعف المسلمين وشدة الكيد من أعدائهم، بل مثل هذه الشبهات التي تثار هي أحد الأدلة على بطلان هذه الدعاوى، وأن الأعداء قد عجزوا عن مقارعة حجج القرآن وبيانه فلجؤوا للطعن فيه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/91)
الرد على من يحاول أن يثبت عدم صحة القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت مؤخرا بحثاً كتبه باحثون ألمان عن صحة القرآن. بعض ما قالوه نوقش في مقال في مجلة أتلانتك الشهرية بعنوان "ما هو القرآن؟ " كتبه توبي ليستر نُشر في عدد يناير 1999 من تلك المجلة. لب القضية كان عن وجود نسخة قديمة جدا من القرآن في مسجد في اليمن يرى تحريفاً في القرآن الموجود. في بعض المواضع الكتابة التي كانت توجد في هذه النسخة قد مُسحت وكُتب فوقها.
المقال يحاول أن يلقي الشبهة للمسلمين في نظرتهم للقرآن بأنه موثوق به تماماً، وحاول أن يثبت أن القرآن عبارة عن كلام يتعرض للتغيير مثل أي كلام آخر.
أنا غير مسلمة ولكنني أعلم بأن القرآن له مكانة في الإسلام كمكانة المسيح في النصرانية.
بالنظر لهذا، كيف تجيب على محاولة الذي يريد أن يفند صحة القرآن؟ وهل يوجد لديك رد آخر على هذا الهجوم على صدق القرآن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. إن ثبوت صحة ما في أيدينا من نسخ القرآن الكريم لم يثبت عندنا بدليل أو بدليلين، بل ثبت بأدلة كثيرة متوافرة لا يقع عليها عاقل منصف إلا ويقطع أنه هو كما أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
2. وقد تعاقبت الأجيال جيلا بعد جيل تتلو كتاب الله وتتدارسه بينهم، فيحفظونه ويكتبونه، لا يغيب عنهم حرف، ولا يستطيع أحد تغيير حركة حرف منه، ولم تكن الكتابة إلا وسيلة من وسائل حفظه وإلا فإن الأصل أن القرآن في صدورهم.
3. ولم يُنقل القرآن لنا وحده حتى يمكن تطرق التحريف المدَّعى إليه، بل نقل تفسير آياته، ومعاني كلماته، وأسباب نزوله، وإعراب كلماته، وشرح أحكامه، فأنَّى لمثل هذه الرعاية لهذا الكتاب أن تتطرق إليه أيدي آثمة تحرِّف فيه حرفاً، أو تزيد كلمة، أو تسقط آية؟
4. وإن تحدَّث القرآن عن أشياء غيبية مستقبلية، أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ليبيِّن أنه من عند الله، وأن البشر لو أرادوا كتابة كتاب فإنهم قد يبدعون في تصوير حادث، أو نقل موقف، لكن أن يتحدث أحدهم عن أمر غيبي فليس له في هذا المجال إلا الخرص والكذب، وأما القرآن فإنه أخبر عن هزيمة الروم من قبل الفرس، وليس هناك وسائل اتصال تنقل لهم هذا الحدث، وأخبر في الآيات نفسها أنهم سيَغلبون فيما بعد في مدة معينة، ولو أن ذلك لم يكن لكان للكفار أعظم مجال للطعن في القرآن.
5. ولو جئت إلى آية من كتاب الله تعالى فذهبت إلى أمريكا أو آسيا أو أدغال أفريقيا أو جئت إلى صحراء العرب أو إلى أي مكان يوجد فيه مسلمون لوجدت هذه الآية نفسها في صدورهم جميعاً أو في كتبهم لم يتغير منها حرف.
فما قيمة نسخة مجهولة في (اليمن) لم نرها يمكن أن يحرِّف فيها أحد العابثين في هذا العصر آية أو كلمة؟
وهل يقوم مثل هذا الكلام في سوق البحث والنظر؟ وخاصة أن القوم يدَّعون البحث والإنصاف والعدل في القول.
فماذا يكون رد هؤلاء لو جئنا إلى كتاب من كتبهم الموثوقة لمؤلِّفين معروفين، ولهذا الكتاب نسخ كثيرة في العالم، كلها على نسقٍ واحدٍ، ثم ادَّعى مدَّعٍ وجود نسخة من هذا الكتاب في بلدٍ ما، وفيها زيادات وتحريفات عما في نسخهم، فهل يعتدون بها؟
جوابهم هو جوابنا.
6. والنسخ المخطوطة عند المسلمين لا تثبت بهذا الشكل الساذج، فعندنا خبراء يعرفون تاريخ الخط، وعندنا قواعد يضبط فيها إثبات صحة هذه المخطوطة كوجود السماعات والقراءات عليها، واسم وتوقيع من سمعها وقرأها.
ولا نظن أن هذا قد وجد في هذه النسخة المزعومة من اليمن أو من غيرها.
7. ويسرنا أن نختم ردنا بهذه القصة الحقيقية والتي حدثت في بغداد في العصر العباسي، حيث أراد يهودي أن يعرف صدق الكتب المنسوبة لله من أهلها وهي التوراة عند اليهود، والإنجيل عند النصارى، والقرآن عند المسلمين.
فراح إلى التوراة فزاد فيها ونقص أشياء غير ظاهرة جداً، ثم دفعه إلى ورَّاقٍ – كاتب – منهم وطلب نسخ هذه النسخة، قال: فما هو إلا زمن يسير حتى صارت نسختى في معابد اليهود وبين كبار علمائهم.
ثم راح إلى الإنجيل فزاد فيه ونقص كما فعل في التوراة، ودفعه إلى ورَّاقهم وطلب نسخه فنسخه، قال: فما هو إلا زمن يسير حتى صار يقرأ في كنائسهم وتتناوله أيدي علمائهم.
ثم راح إلى القرآن فزاد فيه ونقص كما فعل في التوراة والإنجيل، ودفعه إلى ورَّاق المسلمين لينسخه له.
فلما رجع إليه لاستلام نسخته ألقاه في وجهه وأعلمه أن هذا ليس قرآن المسلمين!
فعلم هذا الرجل من هذه التجربة أن القرآن هو كتاب الله بحق وأن ماعداه لا يعدو أن يكون من صنع البشر.
وإذا كان ورَّاق المسلمين قد علم تحريف هذه النسخة فهل يمكن أن تمشي هذه على علماء المسلمين؟
وإذا أرادت السائلة تحويل هذه التجربة القديمة إلى واقع حالي فما عليها إلا أن تفعل فعل ذلك اليهودي الذي أسلم وتزيد وتنقص من هذه الكتب الثلاثة ولتر نتيجة تجربتها.
ولن نقول لها اعرضي نسختك من القرآن على ورَّاق، بل سنقول اعرضيها على صبيان وأطفال المسلمين ليكشفوا لك خطأ نسختك!
وقد طبعت بعض الدول الإسلامية مصاحف فيها أخطاء كان مكتشفها من الأطفال الصغار قبل الكبار.
والله الهادي.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/92)
تحريف القرآن عند الرافضة
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت من أحد الزملاء الشيعة بأنه يوجد عندهم سورة لا توجد في مصحفنا، فهل هذا صحيح؟ هذه السورة تُسمى سورة " الولاية ".]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما " سورة الولاية " فقد أقر بعض علماء الشيعة وأئمتهم بوجودها، ومن أنكر ذلك منهم فإنما يفعل ذلك تقية، وممن صرَّح بوجودها المسمَّى " ميرزا حسين محمد تقي النوري الطبرسي " – توفي سنة 1320 هـ - فقد ألف كتاباً زعم فيه أن القرآن الكريم قد حرف، وأن الصحابة قد أخفوا منه أشياء منها سورة الولاية، وقد أكرمه " الرافضة " بعد موته بدفنه في " النجف "، وقد طبع كتاب الطبرسي هذا في إيران سنة 1298هـ، وعند طبعه قامت حوله ضجة لأنهم كانوا يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصوراً في خاصتهم ومتفرقاً في مئات الكتب المعتبرة عندهم، وأن لا يجمع ذلك كله في كتاب واحد، قال في بداية كتابه:
هذا كتاب لطيف وسفر شريف ويسمى، بـ" فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب " ... وقد ذكر آيات وسوراً يزعم أن الصحابة حذفوها وأخفوها، ومنه " سورة الولاية " ونصها عندهم – كما في الكتاب -:
" يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي الذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم نبي وولي بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير ... "، وسورة أخرى عندهم يسمونها سورة النورين: " يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم. بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا وصية الرسول أولئك يسقون من حميم ...
إلى آخر هذه السخافات.
ويمكنك مشاهدتها كاملة مع صورة التلغراف من المصحف الفارسي:
http://arabic.islamicweb.com/shia/nurain.htm
وقد اطلع الأستاذ محمد علي سعودي - الذي كان كبير خبراء وزارة العدل بمصر - على مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق " براين " فنقل منه هذه السورة بالتلغراف، وفوق سطورها العربية ترجمتها باللغة الإيرانية.
وكما أثبتها الطبرسي في كتابه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب " فإنها ثابتة أيضاً في كتابهم " دبستان مذاهب " باللغة الإيرانية لمؤلفه محسن فاني الكشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة، ونقل عنه هذه السورة المكذوبة على الله المستشرق " نولدكه " في كتابه " تأريخ المصاحف " (2 / 102) ، ونشرتها " الجريدة الآسيوية الفرنسية " سنة 1842 (ص 431 – 439) .
وقد ذكرها – أيضاً -: ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي في كتابه " منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة " (2 / 217) ، ومحمد باقر المجلسي في كتابه " تذكرة الائمة " (ص 19، 20) باللغة الفارسية منشورات مولانا- ايران.
انظر كتاب: " الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة " لمحب الدين الخطيب
وهذا الزعم منهم تكذيب لقول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر / 9، ولذلك أجمع المسلمون على كفر من زعم أن في القرآن تبديلاً وتحريفاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك، وهؤلاء يسمَّون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم.
" الصارم المسلول " (3 / 1108 – 1110) .
قال ابن حزم:
القول بأن بين اللوحين تبديلا: كفر صحيح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
" الفِصَل في الأهواء والملل والنِّحَل " (4 / 139) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/93)
نزول القرآن على سبعة أحرف
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت أنه أثناء خلافة عثمان، شُكلت لجنة يشرف عليها زيد بن ثابت لتتبع القرآن الكريم بكامله. لكن هذا النص "العثماني" لم يوفر قراءة موحدة، حيث أن اللغة العربية الأولى لم يكن فيها حروف علة، كما أن بعض الأحرف الصحيحة لم يكن لها نفس الشكل. وقد أوجدت علامات جديدة للتفريق بين الأحرف المختلفة. لكن ذلك لم يوقف الطرق المتعددة لقراءة القرآن.
ففي النصف الأول من القرن الرابع/العاشر توصل إمامُ قراءِ القرآن في بغداد، ابن مجاهد، لحل لهذه المشكلة. فقد قال إن الكلمة "حرف" يمكن أن تحل مكان "قراءة". وقد أعلن عن سبع طرق للقراءة الصحيحة. لأنه حسب ما يراه، فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن القرآن نزل بسبعة أحرف، تعني أن هناك سبع طرق موحاة لقراءة القرآن.
وفي هذه الأيام فإن القراءات المشهورة والمستخدمة هي: ورش ونافع وحفص عن عاصم.
أرجو أن تخبرني عن هذه الطرق المختلفة للقراءة. هل توجد أحاديث تتعلق بهذا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اعلم –وفقك الله – أنّ القرآن نزل على حرف واحد أول الأمر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يستزيد جبريل حتى أقرأه على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ والدليل على ذلك حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أقرأني جبريل على حرف فراجعته فزادني فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى على سبعة أحرف ". رواه البخاري (3047) ومسلم (819) .
ثانياً:
ما معنى الأحرف؟
أحسن الأقوال مما قيل في معناها أنها سبعة أوجه من القراءة تختلف باللفظ وقد تتفق بالمعنى واٍن اختلفت بالمعنى: فاختلافها من باب التنوع والتغاير لا من باب التضاد والتعارض.
ومعنى " حرف " في اللغة: الوجه، قال تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) سورة الحج /11.
ثالثاً: قال بعض العلماء: إن معنى الأحرف لغات العرب وهذا بعيد لحديث عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها عليه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال: هكذا أنزلت. ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال هكذا أنزلت. إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه. رواه البخاري (2287) ومسلم (818) .
ومما هو معلوم أن " هشاماً " أسدي قرشي، وأن " عمر " عدوي قرشي فكلاهما من قريش وليس لقريش إلا لغة واحدة، فلو كان اختلاف الأحرف اختلافاً في اللغات لما اختلف القرشيان.
وقد ذكر العلماء قرابة أربعين قولاً في هذه المسألة! ولعل الأرجح ما قد ذكرنا آنفاً. والله اعلم
رابعاً:
تبين أن الأحرف نزلت على ألفاظ متعددة كما بينه حديث عمر لأن إنكار عمر وقع على الحروف وليس على المعاني والخلاف بهذه الحروف ليس للتضاد ولكنه للتنوع كما قال ابن مسعود ((هو بمنزلة قول أحدكم هلمّ أقبل تعال)) .
خامساً:
أما تحديد القراءات السبعة فهي ليست من تحديد الكتاب والسنة ولكنها من اجتهاد ابن مجاهد رحمه الله فظن الناس أن الأحرف السبعة هي القراءات السبعة لاتفاقها في العدد، وإنما جاء العدد مصادفة واتفاقاً أو قصداً منه ليوافق ما ورد من كون الأحرف سبعة وقد ظن بعض الناس أن الأحرف هي القراءات وهذا خطأ، ولا يُعرف هذا عن أهل العلم. والقراءات السبعة هي إحدى الأحرف السبعة وهي الحرف الذي جمع عثمان عليه المسلمين.
سادساً:
لما نسخ عثمان المصحف نسخه على حرف واحد ولكنه ترك النقط والتشكيل ليتسع هذا الرسم لحمل ما يستطيع حمله من الأحرف الأخرى فجاء المصحف برسمه محتملاً لبعض الأحرف فما احتمله جاءت به القراءة وما لم يحتمله نُسخ، وذلك لأن الناس أنكر بعضهم على بعض عند اختلافهم في القراءة فجمعهم عثمان على نُسخه واحدة ليجمع شملهم.
سابعاً:
قولك إن مجاهداً ظن أن القراءة تحل محل الحرف فهذا غير صحيح. كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه. مجموعة الفتاوى / ج13 / 210
ثامناً:
وأما القرّاء السبعة فهم:
1- نافع المدني 2- ابن كثير المكي 3- عاصم الكوفي
4- حمزة الزيات الكوفي 5- الكسائي الكوفي 6- أبو عمرو بن العلاء البصري 7- عبد الله بن عامر الشامي
وأقواهم سنداً في القراءة: نافع وعاصم.
وأفصحهم: أبو عمرو والكسائي.
ويروي عن نافع: ورش وقالون.
ويروي عن عاصم: حفص وشعبة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/94)
يدعي نقصاً في بلاغة القرآن وفصاحته
[السُّؤَالُ]
ـ[في سورة البقرة (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) البقرة / 87
يقول زميلي المسيحي انظر كيف عطف جملة الماضي (تقتلون) على جملة الماضي (كذبتم) .
فيجب أن تكون الآية - والعياذ بالله أن نبدل بكتابه العزيز - (ففريقا كذبتم وفريقا قتلتم) ، ويجب أن يكون الفعل تقتلون بالماضي؛ لأن الأنبياء قد انتهوا ومحمد هو خاتم الأنبياء - علما بأنه لا يعتقد بأن النبي محمد هو نبي بل النبي عيسى هو آخر الرسل.
وفي سورة آل عمران آية 47 (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، ويعتقد زميلي المسيحي بأنها ضعيفة أيضا، ويقول الأصح أن تكون - والعياذ بالله من أن نبدل كتابه العزيز - كن فكان، الرجاء التوضيح لأستطيع الرد عليه، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا: ينبغي لمن لا قدرة له على النقاش أن يتقى الله في نفسه، ولا يدخل نفسه في نقاش مع الغير، بل يحرص على صيانة دينه من المراء مع الجهلة، أو أصحاب الشبه.
ثانيا: بالنسبة لما ذكر من الشبه - والتي هي أوهى من بيت العنكبوت – الجواب عنها من طريقين:
الطريق الأولى: طريق مجمل، وهي:
أن القرآن كتاب الله، نزل على عرب أقحاح، فاقوا الأمم في ميدان الفصاحة والبلاغة، واعتنوا بذلك أتم العناية، وبلغوا المنزلة العظمى في التفنن في البيان، فأقاموا الأسواق في الشعر والخطابة، وعلقوا معلقاتهم على الكعبة رفعا لشأن البلاغة والبيان، وتنافسوا في جميل القصائد، وروائع الخطب، وكانت قصائدهم تجري في عروقهم، فلا تنفك عنهم في فرح ولا حزن، ولا موت ولا حياة، ولا سعادة وشقاء، ولا نصر ولا هزيمة، وشهد لهم به القاصي والداني، ولم يعرف مثل هذا لأمة سواهم.
لهذا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن أنزل لهم هذا القرآن بهذه اللغة التي يفتخرون بها، وتعالوا بها على الأمم، فبهرهم القرآن ببديع ألفاظه، وجميل معانيه، وعظيم مقاصده ومبانيه، فخضعوا وخنعوا له هيبةً أن يتكلموا فيه طعنا في لفظ، أو إعراب، أو بيان.!!
وتحداهم الله سبحانه في كتابه أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فضلا أن يأتوا بما يخل به من إعراب أو فصيح في الكمال، فقال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الاسراء / 88.
ثم تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله، فقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) هود / 13
فلما عجزوا عن ذلك انتقل التحدي إلى أن تحداهم الله بأن يأتوا بسورة مثله، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) البقرة / 23 فما كان لمن جاء بعد فساد اللغة، واختلاط لغته بلغة العجم أن يأتي بمثل هذه الترهات التي لا تدل إلا على عمق الجهل، وضحالة الفكر والمنطق، وعجمة اللغة، وكما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
أما الطريق الثاني: وهو الجواب المفصل ببيان وجوه البلاغة والفصاحة فيما انتقده، فنقول:
أما قوله تعالى: (فريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) .
قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير 1/598) :
" وجاء (تقتلون) بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة، وهي حال قتلهم رسلهم، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ) فاطر / 9، مع ما في صيغة (تقتلون) من مراعاة الفواصل، فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم." انتهى كلامه.
ونقل الشيخ ابن عثيمين في تفسيره (1 / 283) عن بعض العلماء فائدة أخرى من التعبير بالفعل المضارع (تقتلون) الذي يفيد الاستمرار وهي (أن هؤلاء اليهود استمر قتلهم الرسل حتى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوه له في خيبر، فإنه صلى الله عليه وسلم ما زال يتأثر منه حتى إنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته قال: (ما زالت أكلت خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأبهر مني) أبو داود (4512) والبخاري معلقاً، وقال الألباني في صحيح أبي داود حسن صحيح (3784) .
وأما قوله تعالى (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) آل عمران / 47، فهذه أدل وأدل على جهل هذا المعترض لأن الآية إنما تتحدث عن إرادة الله للشيء في المستقبل لا في الماضي بدليل ظرف الزمان (إذا) وهو ظرف لما يستقبل من الزمان، لذلك أتى الفعل (يقول) بالمضارع الدال على الاستقبال، وتلاه الفعل (يكون) بالمضارع الدال على الاستقبال أيضاً.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/95)
هل للأحجار الكريمة ذكر في القرآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كم عدد الأحجار الكريمة التي تم ذكرها في القرآن؟ وفي أي سورة ذُكرت؟ وهل لهذه الأحجار أي أهمية روحانية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
مقصود القرآن الأعظم هو دلالة الخلق على الله، ليوحدوه ويعبدوه، وليفوزوا بجنته ورضوانه، وليس القرآن كتاب علوم أو طب أو فلك، وإن اشتملت آياته على شيء من ذلك.
ولهذا فلا ينبغي للمسلم أن ينشغل عن الهدف الأعظم من تلاوة القرآن إلى البحث عن عدد الأحجار أو الأنهار أو أنواع الحيوانات المذكورة فيه.
وقد ورد ذكر بعض الأحجار الكريمة كالياقوت واللؤلؤ والمرجان
قال سبحانه: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) الرحمن / 58.
وقال: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) الرحمن / 22.
وقال: (كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) الواقعة / 23.
وقال: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الإنسان / 19.
وليس لهذه الأحجار أهمية روحانية، وإنما ذكرت في القرآن الكريم لبيان ما أنعم الله على عباده من البحار وما يستخرج منها، أو للتشبيه وتقريب الصورة، فشبّه الحور العين بالياقوت والمرجان واللؤلؤ المكنون، بجامع الصفاء في الياقوت، والبياض في اللؤلؤ والمرجان.
وشبه الولدان باللؤلؤ المنثور دلالة على الجمال وحسن المنظر.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/96)
هل الأفضل قراءة القرآن حفظاً أم من المصحف؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الأفضل أن أقرأ القرآن وأنا أنظر إلى المصحف، أو أقرأ حفظاً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما في الصلاة؛ فالأفضل أن يقرأ من حفظه. راجع السؤال رقم (3465) .
وأما خارج الصلاة؛ فالأفضل في هذا أن يفعل الإنسان ما يزداد به خشوعه، فإن كان يزيد خشوعه بالقراءة من حفظه، فهو أفضل، وإن كان يزيد خشوعه بالقراءة من المصحف فهو أفضل، فإن استوى خشوعه في الحالين فالقراءة من المصحف أفضل، لأنه يجمع بين القراءة والنظر، ويحفظ بصره من الالتفات إلى ما يشغله عن القراءة والتدبر.
قال النووي في: " الأذكار " (ص 90-91) :
قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة من حفظه، هكذا قال أصحابنا، وهو مشهور عن السلف رضي الله عنهم، وهذا ليس على إطلاقه، بل إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب والبصر أكثر مما يحصل من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل وإن استويا فمن المصحف أفضل، وهذا مراد السلف اهـ.
وقد رويت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث ضعيفة لا يصح الاستدلال بها في فضل النظر في المصحف. نذكرها للتنبيه على ضعفها، منها:
حديث: (النظر في المصحف عبادة، ونظر الولد إلى الوالدين عبادة، والنظر إلى علي بن أبي طالب عبادة) . وهو حديث موضوع، كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة (1/531) .
وحديث: (أعطوا أعينكم حظها من العبادة: النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه) وهو موضوع كذلك [سلسلة الأحاديث الضعيفة 4/88] .
وحيث: (خمس من العبادة: قلة الطعام، والقعود في المساجد، والنظر إلى الكعبة، والنظر في المصحف، والنظر إلى وجه العالم) . وهو حديث ضعيف جدا [ضعيف الجامع الصغير رقم:2855] .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/97)
لماذا لم يذكر القرآن قصة هاجر وزمزم
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لا يذكر القرآن عادة الختان وقصة هاجر ومعجزة بئر زمزم، بينما يذكر الكتاب المقدس ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كان من الأولى أن تسأل فتقول: لماذا لم يفصل القرآن في ذكر عدد الصلوات في اليوم والليلة، وعدد كل صلاة، وماذا يُقرأ فيها، وما صفة الصلاة ... وهكذا الزكاة والحج والصيام وغيرها.
أخي السائل: إن الله جعل سنّة النبي عليه الصلاة والسلام مبيّنة ومفصلة لما أُجمل في القرآن كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) . فهذه الأمور التي تذكرها بينتها السنة وكلاهما وحيٌ من عند الله: السنة والقرآن.
الشيخ سعد الحميد.
وإليك من السنة في قصة هاجر وزمزم ما يغنيك عن كل الأناجيل التي لا نعلم صحة ما فيها:
فقد روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قصة هاجر زوجة إبراهيم وأم ابنه إسماعيل فقال في الرّواية: جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدَُا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإنْسَ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ.. ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ وَأُعِينُكَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قَالَ فَجَعَلا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) صحيح البخاري 3113.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/98)
تفسير قوله: (آتاني الكتاب وجعلني نبيا)
[السُّؤَالُ]
ـ[في قوله تعالى من سورة مريم بسم الله الرحمن الرحيم: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) مريم/30. صدق الله العظيم. سؤالي: ما هو الكتاب الذي كان يعنيه سيدنا عيسى عليه السلام، هل هو الإنجيل؟ وإذا كان هو، كيف يعطى لطفل في المهد؛ هل يعني أنه يحفظه غيبا؟ وكيف علمه للناس؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المقصود بالكتاب في قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) مريم/30 - هو الإنجيل، وقد عبر بلفظ الماضي (آتاني) ليدل على تحقق الوقوع، فسيؤتيه الله الكتاب مستقبلا، أو أن المراد: قضى أن يؤتيني الكتاب.
قال عكرمة: " (آتَانِيَ الْكِتَابَ) أي: قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى " حكاه ابن كثير عنه في تفسيره (5/ 229) .
وقال الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان": " وقوله: في هذه الآية الكريمة: (آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) ، التحقيق فيه إن شاء الله: أنه عبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع. ونظائره في القرآن كثيرة، كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، وقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ) - إلى قوله -: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وقوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل، تنزيلاً لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل، ونظائرها كثيرة في القرآن.
وهذا الذي ذكرنا ـ من أن الأفعال الماضية في قوله تعالى: (آتَانِيَ الْكِتَابَ) الخ، بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله. خلافاً لمن زعم أنه نبىء وأوتي الكتاب في حال صباه، لظاهر اللفظ " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/99)
الحكمة في اختلاف اللفظ القرآني للحدث أو الموقف
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو سبب اختلاف اللفظ القرآني لنفس الحدث أو الموقف على لسان قائليه، مثال ذلك قصة إبليس عليه لعنة الله، في سورة الأعراف يقول إبليس: ( ... قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) آية/2، بينما في سورة الحجر يقول: (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) آية/33. فلماذا اختلف النصان هنا مع العلم بأن الموقف واحد؟ وأمثلة هذا كثيرة في القرآن الكريم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا بد أن نعرف في بداية الجواب أن الكلام المحكي في القرآن الكريم على ألسنة المتكلمين إنما هو بالمعنى وليس باللفظ، وذلك لدليلين ظاهرين:
1-أن القرآن كلام الله، وليس كلام أحد من المخلوقين، ولما كان كذلك كانت الأقوال المحكية على ألسنة المتكلمين بها من الناس والدواب، هي من كلام الله، يقص به أخبار الأولين، وينقل كلامهم. فهي تنسب إليهم باعتبار مضمون الكلام ومعناه.
2-أن لغات الأمم السابقة لم تكن هي العربية الواردة في القرآن الكريم، وبذلك نجزم أن الكلام المنقول على ألسنتهم إنما هو كلام الله عز وجل، متضمنا معاني كلام المذكورين من الأمم السابقة.
جاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (4/6-7) :
" الكلام يطلق على اللفظ والمعنى، ويطلق على كل واحد منهما وحده بقرينة.
وناقله عمن تكلم به من غير تحريف لمعناه ولا تغيير لحروفه ونظمه: مُخبِرٌ مُبَلِّغٌ فقط، والكلام إنما هو لِمَن بدأه.
أمَّا إن غيَّر حروفه ونظمه مع المحافظة على معناه، فينسب إليه اللفظ: حروفه ومعناه، وينسب من جهة معناه إلى من تكلم به ابتداءً.
ومن ذلك ما أخبر الله به عن الأمم الماضية، كقوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) غافر/27، وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) غافر/36.
فهاتان تسميان قرآناً، وتنسبان إلى الله كلاماً له باعتبار حروفهما ونظمهما؛ لأنهما من الله لا من كلام موسى وفرعون؛ لأن النظم والحروف ليس منهما.
وتنسبان إلى موسى وفرعون باعتبار المعنى، فإنه كان واقعاً منهما.
وهذا وذاك قد علمهما الله في الأزل وأمر بكتابتهما في اللوح المحفوظ، ثم وقع القول من موسى وفرعون بلغتهما طبق ما كان في اللوح المحفوظ، ثم تكلم الله بذلك بحروف أخرى ونظم آخر في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فنسب إلى كلٍّ منهما باعتبار.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود " انتهى.
ثانيا:
أسلوب تكرار العبارة والقصة في القرآن الكريم، ولكن في سياقات مختلفة وألفاظ مترادفة: هو من سمات القصص القرآني الظاهرة، حيث يتكرر ذكر القصة الواحدة في كثير من السور، وفي كل مرة يتنوع السياق، ويتعدد الأسلوب، وترد القصة بعبارات جديدة، تفتح آفاقا للمعاني والفوائد، وأنماطا متنوعة من أساليب البلاغة والبيان، ولذلك عد العلماء والمفسرون هذا التنوع في اللفظ والعبارة من مظاهر الفصاحة والبيان، ونصوا على أن من مقاصد القصص القرآني تفريق الحدث الواحد في سياقات مختلفة، بل وألفوا في هذا الفن مؤلفات خاصة، منها كتاب " المقتنص في فوائد تكرار القصص " لبدر الدين بن جماعة، كما ذكر ذلك السيوطي في " الإتقان " (2/184)
يقول الزركشي رحمه الله:
" إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة " انتهى.
" البرهان في علوم القرآن " (3/26)
وإذا رحنا نعدد الفوائد التي يضفيها هذا الأسلوب على مجمل ما في القرآن الكريم لعددنا شيئا كثيرا، ولكنا نذكر ههنا بعض هذه الفوائد:
1-زيادة بعض التفاصيل التي لم تذكرها الآيات من قبل، والمثال الوارد في السؤال واحد من صور هذه الفوائد، فقد زادت الآيات في سورة الحجر قيدا في وصف الأصل الذي خلق منه آدم عليه السلام، وهو كونه من صلصال من حمإ مسنون، في حين لم تذكر ذلك آيات سورة الأعراف المتعلقة بالقصة.
2-تأكيد التحدي الذي جاء به القرآن لمشركي العرب أن يأتوا بشيء من مثله، فقد كشف هذا التنوع في العبارة عن عجزهم عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء، وبأي عبارة عبَّروا.
3-إذهاب السآمة والملل عن القصة، وذلك أن العرض الجديد يشد الأسماع، ويلفت الأنظار، ويبقي صلة المتعة والفائدة بين القارئ والنص المقدس، وهذا من المقاصد العظيمة أيضا، " فيجد البليغ ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ "
4-" ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد، وقد كان المشركون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير النظم، وبيان وجوه التأليف، فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد"
5-التناسق مع الموضوع والمناسبة التي وردت القصة لأجلها، فأحيانا تقتضي هذه المناسبة إبراز معنى في الحوار الدائر لم يكن من الضروري إبرازه في مناسبة أخرى وردت فيها القصة، وهذه الفائدة باب واسع من أبواب اكتشاف بحور بلاغة القرآن وإعجازه، وأمثلتها التفصيلية موجودة في بطون كتب التفسير.
يمكن الاطلاع على هذه الفوائد وغيرها في كتاب " البرهان في علوم القرآن " (3/26-29)
يقول الدكتور فضل حسن عباس حفظه الله:
" المنهج القصصي في القرآن الكريم هو المنهج البديع المعجز، حيث ذكرت القصة في سور كثيرة، وإن خصت بعض السور بذكر حدث واحد، ثم توزعت هذه المشاهد والأحداث على السور التي ذكرت فيها القصة، قلت أم كثرت، بحيث تجد في كل سورة ما لا تجده في غيرها، وبحيث يذكر في كل سورة ما يتلاءم مع موضوعها وسياقها، وبحيث تذكر القصة في السورة في الموضع الذي اختيرت له والذي اختير لها " انتهى.
" القصص القرآني " (ص/81)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/100)
تفسير قوله تعالى ففروا إلى الله
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير قوله تعالى: (ففروا إلى الله إنني لكم منه نذير مبين) ، ولماذا لم يصدّر الآية بكلمة (قل) كما في كثير من الآيات؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
هذه الآية من أعظم آيات القرآن الكريم، تجمع معاني الخوف والرجاء: الخوف من الله تعالى، واللجوء إليه سبحانه، إذ لا منجا منه إلا إليه عز وجل، أمر بالفرار منه إليه ليدل العباد على أنه أرحم بهم من كل من سواه، وأنه عز وجل يريد بالعباد الرحمة والمغفرة. وفي " مدارج السالكين " (1/469-481) للعلامة ابن القيم كلام مطول مفيد عن منزلة " الفرار " من منازل السائرين.
يقول الله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الذاريات/50.
قال الإمام الطبري رحمه الله:
" يقول تعالى ذكره: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) يقول: إني لكم من الله نذير أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحلَّه بهؤلاء الأمم الذين قصّ عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة. وقوله: (مُبِينٌ) يقول: يبين لكم نذارته " انتهى.
" جامع البيان " (22/440)
وقال القرطبي رحمه الله:
" لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم لذلك، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد، أي قل لقومك: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) أي: فروا من معاصيه إلى طاعته.
وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه: فروا منه إليه واعملوا بطاعته.
وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: (ففروا إلى الله) اخرجوا إلى مكة.
وقال الحسين ابن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه.
وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن.
وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل، ففروا إلى الله يمنعكم منه.
وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر.
وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم.
وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله، ولا تعتمدوا على حركاتكم.
وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله.
(إني لكم منه نذير مبين) أي: أنذركم عقابه على الكفر والمعصية " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (17/53-54)
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" لما دعا العباد للنظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور فقد استكمل الدين كله، وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب.
وسمى الله الرجوع إليه فرارًا: لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ؛ أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بَيِّنُ النذارة " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/811)
ثانيا:
أما كلمة (قل) فقد وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم، عددها نحو العشرة وثلاثمائة آية، وذلك في سياقات متعددة، ومواقف كثيرة، ومعان عديدة، غير أن ذلك لا يعني أن كل أمر يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه للناس لا بد وأن يبدأ بكلمة (قل) ، فللقرآن أسلوبه المعروف، ولغة العرب تسع ألوانا عديدة من البيان البليغ، والتفنن في الأساليب هو من وجوه جمالها وتميزها.
وحول هذه الكلمة المذكورة بخصوصها، يقول الدكتور فضل حسن عباس:
" أما كلمة (قل) فالمتدبر لآي القرآن وأسلوبه يجد أنها تأتي حينما تدعو الحاجة إليها، وذلك حينما يكون الأسلوب أسلوبا تلقينيا، سواء كان هذا التلقين تعليميا أم ردا على شبهات، وذلك كما في السور الأخيرة الثلاث، الإخلاص والمعوذتين، وكما في الآيات التالية: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الأنعام/14-16.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) الأنعام/46، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام/161-162
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة لا يرتاب في أنها جاءت في سياق خاص تلقينا وتعليما " انتهى.
"قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية " (ص/57) .
ومن المهم أن نعلم أن التماس مثل هذه الحكم: إنما هو أمر اجتهادي؛ قد يأتي باحث آخر بحكمة أخرى مع هذه، أو هي أرجح وأولى، ومثل هذه الأمور تحتاج إلى تتبع إلى أساليب القرآن في التعبير، والسياقات المختلفة التي وردت فيها الكلمة، لالتماس محلها من البلاغة، وتعرف الحكمة في ورودها.
وفوق كل ذي علم عليم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/101)
قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[أثنى الله عز وجل في سورة آل عمران على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، وقد أثبت العلم الحديث توافق أشياء كثيرة مع ما ذكر في القران، ولكن مع هذا هناك بعض الناس من يقول إنه ينبغي أن لا تنزل المكتشفات العلمية الحديثة على الحقائق التي في القرآن؛ لأن العلم دائماً في تغير مستمر، بينما القرآن ثابت معجز في كل زمان ومكان، فقد يكتشف العلم الحديث شيئاً ويسارع الناس لتنزيل هذا المكتشف على ما جاء في القران، ثم ما يلبث هذا المكتشف أن يثبت عكسه، فيتأثر بذلك مَن في قلبه مرض. وقد قرأت مقالات لأحد العلماء يتحدث فيها عن العلم الحديث والقرآن، وأنه لا يمكن أن يتعارضا مع بعض، ولكن مع هذا كله ما زال كثير من الناس يصرون على عدم استخدام هذه الحقائق العلمية حتى في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام. فما هو رأيكم في ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
النظر في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، هو كغالب القضايا العلمية والفكرية: يكتنفه طرفان: إفراط وتفريط، والتوسط بين هذين الطرفين عادة ما يكون هو الأوفق والأقرب للصواب:
1-فمن الخطأ والتقصير الظاهر عدم الاستفادة من حقائق العلم الحديث في تفسير كثير من الآيات الكونية في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة في السنة المطهرة، ونحن نؤمن أن خالق الكون ومنزل القرآن الكريم إله واحد، فلا بد أن تتطابق التفاصيل الواردة فيهما، والعلم الحديث خير معين على كشف هذا التطابق.
2-ومن الخطأ الظاهر أيضا المبالغة في هذا التوجه، وتحميل الآيات ما لا تحتمل من أوجه المجاز المخالفة للسياق، أو المخالفة لما ثبت في السنة المطهرة من تفسير هذه الآيات، أو التسرع في عرض الفرضيات والنظريات على أنها حقائق علمية.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" الإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره، لا ننكر أن في القرآن أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة، لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي، حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة، وهذا خطأ.
فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا تنبغي؛ لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات، والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالاًّ على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.
ولهذا اعتني في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات، وبين دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها، لكن علم الكون لم يأتِ على سبيل التفصيل.
ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي وأن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة؛ لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) " انتهى.
" مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " (26/28) .
وقد قام كثير من الباحثين والعلماء المعاصرين – جزاهم الله خيرا – بكتابة الأبحاث العلمية الرصينة المتزنة في هذا الباب، وقامت لذلك هيئات علمية متخصصة، ومؤتمرات دولية، ومجامع عامة يمكن أن تثمر فيما تثمره تقعيدا مؤصلا منضبطا لقضايا هذا العلم الجديد، حتى يصل إلى درجة من الكمال الممكن، كحال كل علم ينشأ غرسا صغيرا، ثم يكبر ويثبت بدراسات العلماء الأفذاذ المتخصصين.
ونحن ننقل هنا بعض الضوابط المهمة للوصول إلى نتائج سليمة في هذا المنهج العلمي:
يقول الدكتور عبد الله المصلح حفظه الله:
" إن المراد بهذه الضوابط تلك القواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي وفق الأصول الشرعية المقررة، مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة.
وتكمن أهمية هذه الضوابط في كونها مناط استرشاد للباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وخصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال الباحثين والكاتبين على هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع، وذلك لتميز هذا العصر بالعلم ومكتشفاته، حتى أصبح العلم سمة من سماته.
وهذا الاهتمام من غير سير على ضوابط واضحة أوجد مزالق كثيرة حتى عند بعض المخلصين، وإسهاما في علاج ذلك جاءت هذه الضوابط علها أن تكون مانعا من الوقوع في تلك الأخطاء، وحافزا للكتابة في هذا الموضوع الحيوي.
والتزام هذه الضوابط يساعد كذلك على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له؛ لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح.
وتلك الضوابط هي:
1- ثبوت النص وصحته إن كان حديثا، لتواتر القرآن دون الحديث.
2- ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتا قاطعا، وتوثيق ذلك علميا متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى القانون العلمي.
3- وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.
فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز.
ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط التالية:
1-جمع النصوص القرآنية أو الحديثية المتعلقة بالموضوع، ورد بعضها إلى بعض لتخرج بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النصوص، بل يؤيدها.
2-جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالموضوع إن وجدت، وكذلك روايات الحديث بألفاظها المختلفة.
3-معرفة ما يتعلق بالموضوع من سبب نزول ونسخ، وهل يوجد شيء من ذلك أو لا؟
4- محاولة فهم النص الواقع تحت الدراسة على وفق فهوم العرب إبان نزول الوحي، وذلك لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت، ولهذا يقتضي الأمر الإلمام بمسائل تعين على فهم النص والتمكن من تقديم معنى على آخر، وهي كالآتي:
أ-إن النص مقدم على الظاهر، والظاهر مقدم على المؤول.
ب -إن المنطوق مقدم على المفهوم، وإن المفاهيم بعضها مقدم على الآخر كذلك.
ت -أن يخضع في تناوله للنص لقاعدة: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وأن العموم مقدم على الخصوص، والإطلاق مقدم على التقييد، والإفراد على الاشتراك، والتأصيل على الزيادة، والترتيب على التقديم والتأخير، والتأسيس على التأكيد، والبقاء على النسخ، والحقيقة الشرعية على العرفية، والعرفية على اللغوية.
ث -مراعاة السياق والسباق وعدم اجتزاء النص عما قبله وما بعده.
ج - مراعاة قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ح - معرفة معاني الحروف، وعدم تفسير حرف أو حمله على معنى لا يقتضيه الوضع العربي.
خ - مراعاة أوجه الإعراب، وعدم القول بتوجيه لا يسانده إعراب صحيح أو قرينة أخرى.
د - أن المشترك اللفظي يمكن حمله على واحد من معانيه دون نفي الآخر أو القطع بأن هذا الصواب وحده ما لم تكن هناك قرينة راجحة.
5- إظهار وجه الإعجاز: فإذا تم ذلك لم يبق على الباحث سوى أن يظهر الربط بين الحقيقة الشرعية والعلمية بأسلوب واضح مختصر.
6-أن هناك أمورا من قبيل المتشابه لا مجال لفهمها أو تناولها بالبحث.
7-عدم البحث في الأمور الغيبية، كموعد قيام الساعة، وبداية الخلق، والجنة والنار.
8-عدم الاعتماد على الإسرائيليات أو الروايات الضعيفة.
9- الاعتماد على المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها، كأمهات التفسير والحديث وكتب غريب القرآن والسنة، مع الإشارة إلى جهود الدراسات السابقة إن وجدت.
10-الابتعاد عن تسفيه آراء السلف من علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل؛ لأن القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر، والكل يفهم منها بقدر ما يفتح الله عليه، وبحسب ما يبذله من جهد وما هو متوفر لديه من وسائل، ولن يحيط بفهم الوحي أهل عصر إلى قيام الساعة، فلا مجال للتسفيه والتجهيل، وإنما هي الاستفادة والتكميل والدعاء لمن تقدم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِاْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) الحشر/10، بل الواجب اتباع فهم السلف رضي الله عنهم، وخصوصا الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، فهم العمدة والعدول بخبر الله تعالى، وعنهم أخذ التابعون، وعلى نهجهم ساروا، فمن عدل عن تفسيرهم إلى ما يخالفه كان مخطئا، بل ومبتدعا، لأنهم كانوا أعلم بتفسير كتاب الله من غيرهم، وأورع، وأتقى.
11-ينبغي أن تحصر الدراسة فيما تمكن القدرة عليه، فالأفراد يمكن أن يقصروا بحوثهم فيما يتعلق بالاكتشافات فيما هو خاضع لتجاربهم المخبرية، ليصلوا من خلال ذلك إلى الحق، وللجامعات والمراكز والدول مجالات أكثر وأكبر.
12-ينبغي أن يعلم الباحث في هذا المجال أن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم صدق وحق، ولا يمكن بحال أن يخالف حقيقة علمية؛ لأن منزل القرآن هو الخالق العالم بأسرار الكائنات، قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك/14، ومعرفة ذلك تقتضي منا التريث وعدم تحميل النص ما لا يحتمله من أجل أن يوافق ما نظنه حقيقة، فإذا لم يتيسر ذلك بشكل واضح فعلينا أن نتوقف دون نفي أو إثبات، ونبحث عن موضوع آخر، والزمن كفيل بانكشاف الحق بعد ذلك.
13-على الباحث أن يتحرى الصدق والصواب وأن يخلص نيته لله في تبيين الحق للناس من أجل هدايتهم، وأن يعلم خطورة ما يتناوله، ويعبر عنه، فهو عندما يقول: هذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى: فهو يفسر كلام رب العالمين، لذا يجب عليه أن يتذكر دائما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. (رقم/2950) ، وضعفه الألباني في " ضعيف الترمذي ".
14-ينبغي أن يتصف الباحث كذلك بالصبر، مع توفر الكفاءة العلمية المكتسبة، حتى يميز الحق من الباطل، ويقبله ويلتزم بالموضوعية، ومعناها هنا: حصر المعلومات ودراستها من غير تحيز لفكرة أو رأي سابق، مع التقيد بالمنهج العلمي في التوثيق والاقتباس والإحالات " انتهى.
" الإعجاز العلمي في القرآن والسنة تاريخه وضوابطه " (ص/30-37)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/102)
تفسير قوله تعالى ـ عن النحل ـ: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) .
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله تعالى في سورة النحل: (ثم كلي من كل الثمرات) فمن المعلوم أن النحل لا تأكل الثمرات ذاتها، وإنما تمتص (تأكل) من أزهار الثمار فقط، فما تفسير هذه الآية تمامًا؟ أرجو التوضيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية من الآيات الكونية الدالة على عظيم خلق الله ودقيق إبداعه في صنعه، وقد جعل عز وجل للبشر في خلق النحل وعجائب هدايته له ما يبهر العقول ويحير الألباب، وهذا ما ندعو إلى التأمل فيه، وليس التنقير عن شبهات يختلقها بعض الناس في المنتديات، تذهب ببريق الحكمة والعظة من كلام الله عز وجل، وهو أمر لا ينطلي إلا على ضعاف العقول، أو من هانت عليه نفسه، وهان عليه أمر دينه، ففتح قلبه للشهوات، وجعل نفسه تبعا لكل ناعق!!
يقول العلامة السعدي رحمه الله:
" في خلق هذه النحلة الصغيرة، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة، ويسر لها المراعي، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها، وهدايته لها، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى، وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره، ويُدعَى سواه " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (444)
وعلى كل حال: فأساس هذه الشبهة الضعف البالغ في فهم أساليب اللغة العربية وأبواب البيان والمجاز فيها، وليس أي شيء آخر، والجهل أساس كل داء.
يقول الله تعالى:
(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) النحل/68-69.
فقوله تعالى: (كلي من كل الثمرات) يتضمن مسائل لغوية مهمة، منها:
أولا:
قوله عز وجل (مِن) يحتمل ثلاثة معاني:
1- يحتمل أن يراد به (مِن) التبعيضية.
2-ويحتمل أن يراد به (مِن) التي هي لابتداء الغاية، وهذان المعنيان من معاني حرف الجر (مِن) أشهر معانيها التي تفيدها، كما ذكر ذلك ابن هشام في " مغني اللبيب " (ص/419-420) .
3- ويحتمل أن يراد بها (مِن) التي هي لبيان الجنس.
فإذا قلنا إنها (مِن) التبعيضية: أفادت أن إلهام الله للنحل كان بأن تأكل جزءا من الثمار، وليس كل الثمار، وهذا الجزء هو ما تأخذه النحلة من رحيق الأزهار، وإن كان العلماء المتقدمون يذكرون في كتبهم أن النحل يصنع العسل من أكله لأوراق الشجر أيضا، بل ومن بعض الذرات التي تكون في الهواء، ولكن العلم الحديث لا يذكر ذلك، فاكتفينا بما يذكره العلم الحديث، والقرآن الكريم ذكر (من) التبعيضية، ولم يحدد هذا البعض الذي تأكله النحلة فتصنع منه العسل.
وإطلاق (الثمرات) على الأزهار هو من المجاز المعروف باعتبار ما سيكون، تماما كقوله تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) يوسف/36، وهو إنما يعصر العنب، ولكن أطلق عليه الخمر باعتبار ما سيكون عليه عصير العنب بعد وقت، وهكذا، أطلق على الأزهار أنها ثمار، باعتبار ما ستؤول إليه من الثمار النافعة، بقرينة المشاهد المحسوس من معاينة كل الناس، أن النحل إنما تقف على الأزهار، ولا تأكل من الثمرات الحقيقية شيئا.
يقول القرطبي رحمه الله:
" قوله تعالى: (ثم كلي من كل الثمرات) : وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (10/135)
ويقول ابن جزي الغرناطي:
" (من) للتبعيض، وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار، وقيل المعنى من كل الثمرات التي تشتهيها " انتهى.
" التسهيل " (2/257)
ويقول أبو حيان الأندلسي رحمه الله:
" وظاهر (مِن) في قوله: (من كل الثمرات) أنها للتبعيض، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلاً.
قال ابن عطية: إنما تأكل النوّار من الأشجار " انتهى.
" البحر المحيط " (5/496)
وأما إذا قلنا: إن (مِن) هنا لابتداء الغاية، فالمعنى المقصود أن النحل تأكل الرحيق، ويكون أكلها مبتدأ من هذه الأزهار، وليس من مكان آخر.
وإذا قلنا: إن (مِن) ههنا لبيان الجنس، كقوله تعالى: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الكهف/31، أفادت معنى بيان ما ألهم الله النحل أن تأكله، وهو الثمرات، وليس أي جنس آخر من أجناس الطعام.
وكل هذه المعاني صحيحة، لا تعارض بينها، واتساع اللغة العربية يضيف إلى آيات القرآن الكريم آفاقا كثيرة من المعاني والدلالات البديعة الجميلة.
يقول الخطيب الشربيني:
" لفظ (من) هذا للتبعيض، أو لابتداء الغاية " انتهى.
" السراج المنير " (2/273) .
ثانيا:
وأما قوله تعالى في هذه الآية: (كل الثمرات) :
فيحتمل أن تكون الكلية ههنا مقصودة، فتدل الآية على أن من هدي النحل وجبلته أخذ رحيق الأزهار، من أي زهرة كانت.
ويحتمل ألا يكون التعميم مقصودا، بل أغلبيا على سبيل المجاز، كقوله تعالى: (لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) البقرة/266.
والحقيقة أننا لا نستطيع الجزم بأحد هذين الاحتمالين، إذ كل منهما معقول محتمل، ولم نقف على دراسة علمية حديثة تحدد طبيعة الأزهار التي يقف عليها النحل، ويصنع من رحيقها العسل المعروف، على أن أكثر المفسرين حملوا ذلك على التبعيض، وأن العموم غير مراد. قال ابن قتيبة رحمه الله:
" (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) أي: من الثمرات، وكلّ هاهنا ليس على العموم، ومثل هذا قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) " انتهى.
" غريب القرآن " (ص/246) . وينظر: " البحر المحيط "، لأبي حيان (2/326) .
وقال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله:
" (كُلَّ) هنا مستعملة في معنى الكثير، وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح، قال تعالى: (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) يونس/97 " انتهى.
" التحرير والتنوير " (23/160) .
وقال الدميري رحمه الله:
" القرآن يدل على أنها ترعى الزهر، فيستحيل في جوفها عسلاً وتلقيه من أفواهها، فيجتمع منه القناطير المقنطرة قال الله تعالى: (ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) ، وقوله: (من كل الثمرات) ، المراد به بعضها، نظيره قوله تعالى: (وأوتيت من كل شيء) يريد البعض، واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمرعى، وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى " انتهى.
" حياة الحيوان الكبرى " (2/463)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/103)
هل يمكن إلغاء فريضة الحج والعمرة بسبب انتشار مرض "انفلونزا الخنازير"؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن إلغاء فريضة الحج والعمرة بسبب انتشار مرض " انفلونزا الخنازير "؟ وهل يعتبر ذلك طاعوناً؟ وهل مكة والمدينة في مأمن من الأوبئة بحفظ الله أو يمكن انتقال العدوى في هذه الأماكن؟ وهل قوله تعالى: (ومن دخله كان آمناً) يشمل أيضا الأوبئة، أي: يكون آمناً من الأوبئة؟ . أفيدونا مأجورين؛ لأني مقدم على العمرة خلال شهر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا ريب أن الأمراض والأوبئة الفتاكة التي من طبيعتها الانتشار بالعدوى: تقاس على مرض الطاعون، من حيث أحكامه المتعلقة بما يسمَّى " الحجر الصحي ".
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ ... .
فجاء عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْماً، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ) رواه البخاري (5397) ومسلم (2219) .
قال النووي رحمه الله:
وأما الطاعون: فهو قروح تخرج في الجسد، فتكون في المرافق، أو الآباط، أو الأيدي، أو الأصابع، وسائر البدن , ويكون معه ورم، وألَم شديد , وتخرج تلك القروح مع لهيب، ويسودّ ما حواليه، أو يخضر، أو يحمر حمرة بنفسجية، كدرة، ويحصل معه خفقان القلب، والقيء , وأما الوباء: فقال الخليل وغيره: هو الطاعون، وقال: هو كل مرض عام , والصحيح الذي قاله المحققون: أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض، دون سائر الجهات , ويكون مخالفاً للمعتاد من أمراض في الكثرة، وغيرها , ويكون مرضهم نوعاً واحداً، بخلاف سائر الأوقات؛ فإن أمراضهم فيها مختلفة، قالوا: وكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعوناً , والوباء الذي وقع في الشام في زمن عمر كان طاعوناً , وهو طاعون " عمواس " , وهى قرية معروفة بالشام.
" شرح النووي " (14 / 204) .
وعليه: فكل مرض فتاك من شأنه الانتقال للآخرين بالعدوى التي يقدِّرها الله فيه: فإن له حكم الطاعون؛ لأن الشريعة لا تفرِّق بين متماثلين.
ثانياً:
أخذ العلماء من الحديث السابق أنه لا يجوز القدوم على أرض بها وباء فتَّاك ينتقل بالعدوى , ولا الخروج من أرض وقع فيها، كما هو ظاهر النص السابق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
وفِي هذا الحَدِيث جَوَاز رُجُوع مَن أَرَادَ دُخُول بَلدَة فَعَلِمَ أَنَّ بِهَا الطَّاعُون، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيسَ مِن الطِّيَرَة، وَإِنَّمَا هِيَ مِن مَنْع الإِلقَاء إِلَى التَّهْلُكَة، أَو سَدّ الذَّرِيعَة ... .
وَفِي الحَدِيث أَيضاً: مَنْع مَنْ وَقَعَ الطَّاعُون بِبَلَدٍ هُوَ فِيها مِن الخُرُوج مِنهَا.
" فتح الباري " (10 / 186، 187) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
"وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها , ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه: كمال التحرز منه؛ فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضاً للبلاء , وموافاة له في محل سلطانه , وإعانة للإنسان على نفسه , وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها، وهي حمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية" انتهى.
" زاد المعاد " (4 / 42 - 44) .
ثالثاً:
اختلف العلماء في المقصود بالأمن في قوله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) آل عمران/97 على أقوال، ومنها ما هو مقبول، ومنها ما هو ضعيف لا يلتفت إليه.
أما الأقوال الضعيفة، أو الباطلة في معنى الآية:
1. فمنها قول من قال: إن من دخله يأمن من عذاب النار في الآخرة! .
2. وكقول من قال: إن من دخله يأمن من الموت على غير الإسلام! .
3. وكقول من قال: إن المعنى: أن من دخل الحرم يأمن من الأمراض.
4. وكقول من قال: إن معنى الآية: الأمن من القتل.
لوجود كل ذلك في واقع الأمر، كمن مات على الكفر، والردة، وكان قد دخل الحرم، ولوجود المرض، والوباء فيه، وكذا حصول القتل فيه، قديماً، وحديثاً.
05 وقيل: إن (مَن) ها هنا لمن لا يعقل، والآية في أمان الصيد.
وأما الأقوال المعتبرة في الآية:
1. أن معنى الآية: أن هذا الأمن على النفس من آيات الحرم؛ لأن الناس كانوا يُتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، فقصد الله تعالى بذلك تعديد النعم على كل مَن كان بها جاهلاً، ولها منكراً من العرب، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) العنكبوت/ 67، فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه: أمِن من الغارة، والقتل.
2. أنه أراد به: أن مَنْ دخله عام " عمرة القضاء " مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمِناً، كما قال تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ) الفتح/ 27.
3. أنها خبر بمعنى الأمر، تقديره: " ومَن دخله: فأمِّنوه "، كقوله تعالى: (فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج) البقرة/ 197، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا.
قال ابن القيم رحمه الله:
وهذا إما خبر بمعنى الأمر؛ لاستحالة الخُلْفِ في خبره تعالى، وإما خبرٌ عن شرعه ودينه الذي شرَعه في حرمه، وإما إخبارٌ عن الأمرِ المعهود المستمِرِّ في حرمه في الجاهلية والإسلام، كما قال تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) العنكبوت/ 67، وقوله تعالى: (وَقَالُواْ إن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ) القصص/ 57، وما عدا هذا من الأقوال الباطلة: فلا يُلتفت إليه، كقول بعضهم: " ومَن دخله كان آمناً مِن النار "، وقول بعضهم: " كان آمناً مِن الموت على غير الإسلام "، ونحو ذلك، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (3 / 445) .
والقول الأول الذي ذكره ابن القيم هو الأليق بمعنى الآية.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
ويقول سبحانه: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يعني: وجب أن يؤمَّن , وليس المعنى أنه لا يقع فيه أذى لأحدٍ , ولا قتل , بل ذلك قد يقع , وإنما المقصود: أن الواجب تأمين من دخله , وعدم التعرض له بسوء.
وكانت الجاهلية تعرف ذلك , فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يؤذيه بشيء حتى يخرج.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (3 / 380) .
وعلى هذا: ليس المقصود بالأمنِ الأمنَ مِنَ الأمراض والأوبئة؛ فالأمراض والأوبئة قد تنزل أرض الحرم المكي والمدني , وهذا معروف، قديماً، وحديثاً.
وقد سبق في جواب السؤال رقم (131887) أن مكة والمدينة محفوظتان من الطاعون، وليستا محفوظتين من سائر الأوبئة والأمراض العامة.
رابعاً:
نحمد لله على أن هذا الوباء لم يبلغ مكة، أو المدينة، وإنما هي بضع حالات في عموم المملكة العربية السعودية، كما هو في أكثر الدول، مع الوجود الكبير اليومي من المصلين، والمعتمرين، ومع ذلك فلا بأس أن يأخذ الإنسان بأسباب السلامة، كلبس الكمامات , وغير ذلك من أسباب الوقاية من المرض.
والملاحظ أن بعض وسائل الإعلام تهول من هذا الأمر , ويستغل بعض الحاقدين والمتربصين ذلك للتنفير من شعائر الإسلام , مع أن هناك تجمعات كبيرة مماثلة - كملاعب كرة القدم، والمهرجانات الغنائية - ولم نر، أو نسمع، من أولئك التحذير والتنفير من تلك التجمعات، بل على العكس من ذلك، نرى التشجيع على الحضور، والمشاركة.
وإن تعجب فعجب من بعض العلماء حيث يفتون بعدم جواز الذهاب إلى الحج هذا العام بسبب ظهور بضع حالات في المملكة العربية السعودية! وكانوا يشددون أن النص النبوي في الطاعون لا يقبل الجدال أنه منطبق على هذه الحالة! وقد ظهر المرض في كثير من الدول، وشفي كثير منها، ولم يصل الأمر إلى إغلاق الدول الأبواب على نفسها.
وبكل حال: فإذا صارت بلد موبوءة بمرض " انفلونزا الخنازير "، أو " الطاعون ": فالحكم واحد، ولا فرق بين المملكة العربية السعودية، وغيرها، لكن ليس الحكم في هذا لأحدٍ من الناس، إلا أن يُعلن من مختصين أن تلك البقعة صارت موبوءة، فحينئذٍ نطبق عليها الحكم الشرعي، من تحريم دخولها، وتحريم خروج أحدٍ منها، لكن لا يتعجلن أحد بالحكم على موسم الحج، أو العمرة بالإلغاء، قبل دارسة ذلك من أهل الاختصاص من الأطباء، ثم اعتماد علمائنا ذلك وإصدارهم فتوى في الموضوع.
قال الدكتور أحمد الريسوني - الخبير في " مجمع الفقه الإسلامي " -:
إن مسألة إلغاء العمرة في رمضان أو موسم الحج المقبل بسبب " إنفلونزا الخنازير ": يرجع القرار فيها إلى الأطباء المسلمين المختصين.
وقال:
إن " منظمة المؤتمر الإسلامي "، أو " مجمع الفقه الإسلامي الدولي " مطالبان في هذه الحالة بتنظيم لقاء للأطباء المسلمين من عدد من الدول الإسلامية؛ ليتدارسوا الوضعية، ويقدروا الاحتمالات، ويصدروا توصياتهم، وبناء عليها يقرر الفقهاء في " مجمع الفقه الإسلامي "، أو أي هيئة فقهية تشكَّل لهذا الغرض ما إذا كانت الضرورة تدعو لإلغاء الشعيرتين.
وقال:
إن تقدير أطباء غير مسلمين، من أمريكا، أو كندا، أو غيرهما: لا يكفي؛ لأن الأمر يتعلق بالعالم الإسلامي، والحجاج والمعتمرين القادمين منه، ويتعلق كذلك بموازنة بين فريضة الحج وشعيرة العمرة، وما لهما من أهمية، مع احتمالات الخطورة، وانتشار الوباء.
وقال:
إذا قرر الأطباء المسلمون أن هناك احتمالات مرتفعة لانتشار الوباء بواسطة تجمع الحج، والعمرة: فيتعين حينئذ على جميع الدول الإسلامية، وعلى المملكة العربية السعودية على الخصوص، اتخاذ التدابير اللازمة لوقف هذه التجمعات، وتعليقها إلى حين انجلاء هذا الوباء.
وقال:
إن هذا الإجراء لا غبار عليه، وعلى مشروعيته، ووجوبه؛ لأن الله تعالى يقول: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان الوباء - أو الطاعون - في بلد فلا تخرجوا منه ولا تدخلوا إليه) ، وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه أوقف سير جيش بكامله كان يتجه إلى الشام لما علم أن بها وباء الطاعون.
وقال:
لكن لا ينبغي التعجل، بل اتخاذ الخطوات اللازمة التي تبتدئ بتقرير، وتقدير الأطباء المختصين بشكل جماعي، وتنتهي بفتوى الفقهاء، ثم بتنفيذ المسؤولين السياسيين في البلدان المعنية، وخاصة المملكة العربية السعودية.
انتهى من موقعه.
http://www.raissouni.org/affdetail.asp?codelangue=6&info=300
فالنصيحة للسائل أن يتوكل على الله , ويتوجه لأداء العمرة , والحج، وأن يأخذ بأسباب السلامة - كما تقدم -، إلا أن يظهر – لا قدَّر الله – ما يستوجب التوقف عن دخول البلد الحرام، ويظهر ذلك بفتاوى أهل العلم الثقات، والله هو المأمول أن يحفظنا وإياكم من كل سوء وشر.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/104)
هل أنزل الله تعالى المائدة على الحواريين؟
[السُّؤَالُ]
ـ["قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ" هناك اختلاف بين المفسرين حول ما إذا كان الله تعالى أنزل المائدة أم لا. أرجوا أن تخبرونا رأيكم في هذا الأمر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اختلف السلف في المائدة: هل أنزلها الله تعالى على أصحاب عيسى عليه السلام، أم إنهم خافوا لما قال الله تعالى لنبيه عيسى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) فلم ينزلها عليهم؟
فجمهور السلف على أن الله تعالى أنزلها عليهم؛ لقوله عز وجل (إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ) ووعد الله حق لا يتخلف.
وهو المروي عن سلمان الفارسي وعمار بن ياسر وابن عباس، وإسحاق بن عبد الله ووهب بن منبه وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وعطية العوفي وأبي عبد الرحمن السلمي وعطاء بن السائب، وغيرهم.
وقال مجاهد والحسن: لم ينزلها عليهم.
ووجه ذلك: أن الله لما أوعد على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم، فاستعفوا عن إنزال المائدة، فعلى هذا تقدير قوله: (إني منزلها عليكم) يعني إن سألتم، إلا أنهم استعفوا فلم تنزل.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله:
"والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه.
فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، حين سأله ما سأله من ذلك: (إني منزلها عليكم) ، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره: (إني منزلها عليكم) ، ثم لا ينزلها؛ لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: (إني منزلها عليكم) ، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: (فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين) ، ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك " انتهى مختصرا.
"تفسير الطبري" (11/ 232)
وقال ابن كثير رحمه الله:
" وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ) الآية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى، وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم.
ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، وهذا القول هو - والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم " انتهى مختصرا.
"تفسير ابن كثير" (3/230-231)
فالقول الصحيح في ذلك: أنها أنها نزلت فعلا، وهو قول جمهور أهل العلم، واختاره ابن الجوزي والسمعاني وأبي جعفر النحاس وابن جزي والقرطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن عاشور والشوكاني وغيرهم.
ينظر: "تفسير البغوي" (3/118) ، "زاد المسير" (2/462) ، "معاني القرآن" (2/387) ، "التسهيل" (1/342) ، تفسير القرطبي" (6/369) "التحرير والتنوير" (ص1236) ، "فتح القدير" (2/136) "الجواب الصحيح" (3/ 127) .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
" ففي هذا بيان شيء من قدرة الله جل وعلا , وأنه سبحانه القادر على كل شيء قدير , وأنه سبحانه في العلو , لأن الإنزال يكون من الأعلى إلى الأسفل.
فإنزال المائدة وطلب إنزالها , كل ذلك دليل على أن القوم قد عرفوا أن ربهم في العلو , فهم أعرف بالله وأعلم به من الجهمية وأضرابهم ممن أنكر العلو. فالحواريون طلبوا ذلك، وعيسى بين لهم ذلك، والله بين ذلك أيضا , ولهذا قال: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) فدل ذلك على أن ربنا جل وعلا يطلب من أعلى , وأنه في العلو سبحانه وتعالى فوق السماوات وفوق جميع الخلائق وفوق العرش , قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته , لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (2/56-57)
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/105)
تفسير قول الله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) .
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: "وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" (الزمر: 55) أريد منكم أن تقوموا بتفسير هذه الآية تفسيرا موثقا، وما هو معني "أحسن ما أنزل" في الآية؟ وهل تكون السنة مساوية للقرآن الكريم بأي حال من الأحوال؟]ـ
[الْجَوَابُ]
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
" فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة؛ فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكر، وأتبعته الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فلم يجز الله ـ والله اعلم ـ أن يقال: الحكمة ـ ها هنا ـ إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض؛ إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به
". انتهى. "الرسالة" (78) .
وروى أبو داود (4604) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وروى أبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجة (13) عن أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ، وإلا فَلاَ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" وغيره.
وروى الترمذي (2664) وابن ماجة (12) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) .
صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة".
وعن إسماعيل بن عبيد الله قال: " ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فهو عندنا بمنزلة القرآن ".
"السنة" لمحمد بن نصر المروزي (ص 88)
وعن حسان بن عطية قال: " كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمه السنة كما يعلمه القرآن ".
"الزهد" لابن المبارك (ص 23)
وقال ابن القيم رحمه الله:
" قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة " انتهى.
"إعلام الموقعين" (1 / 48)
وقال أيضا:
" أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) وقال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة) وقال تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) .
والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف.
وما أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، لا ينكره إلا من ليس منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أوتيت الكتاب ومثله معه) " انتهى.
"الروح" (ص 75) .
فتبين بذلك أن السنة هي وحي من عند الله، وأنها لازمة الطاعة والاتباع على كل من آمن بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا مراد السائل، فقد تبين كلام أهل العلم فيه، وإلا فبينهما من الفروق الأخرى أشياء كثيرة:
فالقرآن هو كتاب الله تعالى، الذي أنزله على رسوله وحيا باللفظ والمعنى، وهو معجِز ومتعبَّد بتلاوته، ولا تجوز روايته بالمعنى، ولا يجوز مسه للمحدث حتى يتطهر.
بخلاف السنة فإن لفظها من عند الرسول، وهو غير معجِز، وتجوز روايتها بالمعنى لمن لا يُخِلُّ به، ولا يَحْرُم مَسُّها على المُحدِث.
والقرآن يتعبد بتلاوته في الصلوات بخلاف السنة، فإنه لا يجوز أن يقرأ بها في الصلوات.
ومن كذب بحرف واحد من كتاب الله كفر، وليس كذلك الحال في السنة.
وهناك فروق أخرى، يمكن مراجعتها في بابه من كتب علوم القرآن والسنة، وكتب أصول الفقه.
والله أعلم.
الجواب:
الحمد لله
أولا:
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) الزمر/55
قال ابن جرير الطبري رحمه الله:
" يقول تعالى ذكره: واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل: ومن القرآن شيء هو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن، وليس معنى ذلك ما توهمت، وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر، والمثل، والقصص، والجدل، والوعد والوعيد؛ أحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه؛ لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلك وجهه " انتهى. "تفسير الطبري" (21/ 312)
وقال البغوي رحمه الله:
" (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قاله الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره. قال السدي: " الأحسن " ما أمر الله به في الكتاب " انتهى.
"تفسير البغوي" (7/ 128)
وقال السعدي رحمه الله:
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) مما أمركم من الأعمال الباطنة، كمحبة الله، وخشيته، وخوفه، ورجائه، والنصح لعباده، ومحبة الخير لهم، وترك ما يضاد ذلك.
ومن الأعمال الظاهرة، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والصدقة، وأنواع الإحسان، ونحو ذلك، مما أمر الله به، وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 727-728) .
فالحاصل من ذلك: أن اتباع أحسن ما أنزل الله: هو الائتمار بأمره، والانتهاء بنهيه.
قال الإمام الآجري رحمه الله:
" فكل كلام ربنا حسن لمن تلاه ولمن استمع إليه، وإنما هذا - والله أعلم - صفة قوم إذا سمعوا القرآن تتبعوا من القرآن أحسن ما يتقربون به إلى الله تعالى، مما دلهم عليه مولاهم الكريم، يطلبون بذلك رضاه، ويرجون رحمته ". "أخلاق حملة القرآن" (8) .
ثانيا:
لا يتم هذا الاتباع المأمور به إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك مما أُنزِل إلينا من ربنا، كما قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) آل عمران/32
وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) آل عمران/132
وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأنفال/1
وقال سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/65.
فالسنة مبينة لمراد الله في كتابه، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل / 44.
ثالثا:
السنة وحي منزل من عند الله. قال الله تعالى:
(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء/113، وقال تعالى لأمهات المؤمنين: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) الأحزاب/34.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/106)
الفرق بين الكفل والنّصيب
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) : ما الفرق بين الكفل والنصيب؟ هل الكفل أعلى وأثقل من النصيب في الثواب والعقاب؟ وهل يقترن الكفل بالسوء، أو نستطيع توظيفه في الجانب الحسن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
النصيب: هو الحظّ من كلّ شيء.
ينظر: الصّحاح (1/225) ، ولسان العرب (1/761) مادة نصب.
والِكْفل: هو الحظّ والضِّعف من الأجر والإثم، ويأتي بمعنى المثل، وفي التنزيل: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِه) الحديد/ 28، قيل: معناه ضعفين، وقيل: مثلين.
ينظر: تهذيب اللّغة (10/250) ، ولسان العرب (11/589) مادة كفل.
فالنصيب والكفل بمعنى واحد، كما سبق عند أهل اللّغة.
وقد فرّق بعض أهل العلم بينهما في الاستعمال في هذه الآية الكريمة بما يأتي:
1- أنّ الكفل يستعمل في الشّدّة وفي الشّيء الرديء. قال القاسمي رحمه الله: " نكتة اختيار النصيب في (الحسنة) والكفل في (السيئة) : ما أشرنا إليه، وذلك أن النصيب يشمل الزيادة، لأن جزاء الحسنات يضاعف، وأما الكفل فأصله المَرْكَب الصَّعب، ثم استعير للمِثل المُساوي، فلذا اختير، إشارة إلى لطفه بعباده، إذ لم يضاعف السيئات كالحسنات. ويقال: إنه وإن كان معناه المثل، لكنه غلب في الشر، وندر في غيره، كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] ، فلذا خُص به السيئة، تطرية [أي: تحسينا للعبارة] ، وهرباً من التكرار" انتهى. "
محاسن التأويل". وينظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفاني (ص718) .
2- إنّ المغايرة بينهما في الآية لكون الكفل يستعمل في الشّرّ كثيراً. قال أبو حيّان في البحر المحيط (3/322) : " وغاير في النصيب فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيّئة؛ لأنّه أكثر ما يستعمل في الشّرّ، وإن كان قد استعمل في الخير؛ لقوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِه) [الحديد: 28] ".
وقال القرطبي رحمه الله (5 / 296) : " ويستعمل في النصيب من الخير والشّر، وفي كتاب الله تعالى: (يؤتكم كفلين من رحمته) ".
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/107)
توجيه قوله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا بفضل الله أؤمن بالقرآن وأؤمن أنه لا تعارض بين نصوص القرآن أو بين نصوص السنة بعضها ببعض كما هو معتقد أهل السنة والجماعة وأن ما يحدث للإنسان من اشتباه وتعارض إنما يكون عن قصر فهم أو علم أو قلة بحث وكنت أود أن لو عرضت عليكم شبهتي لكي يزول ما في صدري من اشتباه.. والسؤال كيف أجمع بين قول الله تعالى: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) وبين الواقع حيث إننا نشاهد كثيراً من الرجال تزوجوا وهم فقراء وماتوا فقراء وقد وعدهم الله بالغنى.. فهل معنى الغنى في الآية هو غنى النفس بحيث يمتلىء صدره بالرضا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الآية الكريمة: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) النور/32، وعدٌ من الله تعالى للفقراء بالغنى إن أرادوا النكاح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغَّبهم فيه، وأمرهم أن يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى.
وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
"تفسير الطبري" (19/166) .
وقال ابن كثير رحمه الله:
"وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه وإياها ما فيه كفاية له ولها" انتهى.
"تفسير ابن كثير" (6/51-52) .
وقال ابن عاشور رحمه الله:
" وعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرا أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرا، وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدا" انتهى.
"التحرير والتنوير" (ص 2901) .
وقال السعدي رحمه الله:
"فلا يمنعكم ما تتوهمون من أنه إذا تزوج افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه، وفيه حث على التزوج، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر" انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 567) .
ويؤيد ذلك: ما رواه الترمذي (1655) عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ) . وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي".
ولا شك أن كثيراً ممن تزوجوا لم يحصل لهم الغنى بالمال، وماتوا وهم فقراء، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أوجهاً كثيرة للجمع بين هذا الواقع، وبين هذه الآية الكريمة: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) النور/32، منها:
1- أنه ليس المقصود بالغنى في الآية الغنى بالمال، وإنما المراد غنى النفس، وهو القناعة، وهذا الغنى أفضل من غنى المال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) رواه البخاري (6446) .
قال السمرقندي:
"والغنى على وجهين: غني بالمال وهو أضعف الحالين، وغنى بالقناعة وهو أقوى الحالين" انتهى.
"بحر العلوم" (3/214) .
وانظر: تفسير القرطبي (12/241، 242) .
2- أنه ليس المقصود بالفقر والغنى في الآية المال، وإنما المراد أن من أراد أن يتزوج ليعف نفسه وهو محتاج إلى ذلك، فإن الله تعالى ييسر له النكاح الحلال ليستغن به عن الزنا.
قال القرطبي: "وقيل: المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنا " انتهى.
"تفسير القرطبي" (12/241، 242) .
3- أن هذه الآية الكريمة: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) مقيدة بمشيئة الله تعالى، فمن شاء الله أن يغنيه أغناه، ومن شاء ألا يغنيه لم يغنه، وتقييد ذلك بمشيئة الله وإن لم يذكر في الآية الكريمة، إلا أنه معلوم، وقد ذُكر مثله في آيات أخرى، كقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) التوبة/28، وقوله تعالى: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ) الرعد/26، وقوله: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) الأنعام/41.
قال الشوكاني:
" قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلا لكل فقير إذا تزوج؛ فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا. وقيل المعنى: إنه يغنيه بغنى النفس، وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى ويدل عليه قوله سبحانه: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك " انتهى.
فتح القدير - (ج 4 / ص 41) .
وانظر: "تفسير القرطبي" (12/241 – 242) ، و "تفسير البيضاوي" (ص 184) .
4- أنه سواء كان المقصود الغنى بالمال، أو غنى النفس بالقناعة، فليس في الآية أن هذا الغنى يكون مستمراً في جميع الأوقات، بل متى حصل هذا الغنى ولو وقتاً يسيراً فقد تحقق الوعد المذكور في الآية الكريمة.
قال القرطبي:
"فإن قيل: فقد نجد الناكح لا يستغنى، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد" انتهى.
"تفسير القرطبي" (12/241 – 242) وانظر: "أحكام القرآن" (6/84) .
5- ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله: أن هذه الآية: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ليست وعداً بالغنى لكل أحد تزوج، وإنما هي وعد لمن ذكروا في الآية فقط، وهم: الأيامى أي: النساء، والعبيد والإماء، فهؤلاء هم الذين يحصل لهم الغنى، أما النساء والإماء فيحصل لهن الغنى بنفقة أزواجهن عليهن، وأما العبد فيغنيه الله إما بالعمل والكسب، وإما بإنفاق سيده عليه.
فقال رحمه الله:
" فإن قيل: فقد قال الله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) وقال في الآية الأخرى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) فأمرهم بالاستعفاف إلى وقت الغنى وأمر بتزويج أولئك مع الفقر وأخبر أنه تعالى يغنيهم، فما محمل كل من الآيتين؟
فالجواب: أن قوله: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) في حق الأحرار، أمرهم الله تعالى أن يستعفوا حتى يغنيهم الله من فضله؛ فإنهم إن تزوجوا مع الفقر التزموا حقوقا لم يقدروا عليها وليس لهم من يقوم بها عنهم. وأما قوله: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) فإنه سبحانه أمرهم فيها أن يُنكحوا الأيامى وهن النساء اللواتي لا أزواج لهن، هذا هو المشهور من لفظ الأيم عند الإطلاق وإن استعمل في حق الرجل بالتقييد، مع أن العزب عند الإطلاق للرجل , وإن استعمل في حق المرأة، ثم أمرهم سبحانه أن يزوجوا عبيدهم وإماءهم إذا صلحوا للنكاح. فالآية الأولى في حكم تزوجهم لأنفسهم , والثانية في حكم تزويجهم لغيرهم. وقوله في هذا القسم: (إن يكونوا فقراء) يعم الأنواع الثلاثة التي ذكرت فيه، فإن الأيم تستغني بنفقة زوجها وكذلك الأمة، وأما العبد فإنه لما كان لا مال له وكان ماله لسيده فهو فقير ما دام رقيقا، فلا يمكن أن يجعل لنكاحه غاية وهي غناه ما دام عبدا , بل غناه إنما يكون إذا عتق واستغنى بهذا العتق، والحاجة تدعوه إلى النكاح في الرق، فأمر سبحانه بإنكاحه وأخبر أنه يغنيه من فضله: إما بكسبه وإما بإنفاق سيده عليه وعلى امرأته، فلم يمكن أن ينتظر بنكاحه الغنى الذي ينتظر بنكاح الحر، والله أعلم" انتهى.
"روضة المحبين" (ص 317-318) .
وبهذا يتبين أنه ليس هناك تعارض بين هذه الآية الكريمة وبين الواقع من كون بعض الناس يتزوج ولا يحصل له الغنى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/108)
كيف يبتلى الصالحون في الدنيا والله يقول في القرآن: (فلَنَحيينهم حياة طيبة) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك بعض الأمور التي يظهر لي أن فيها تعارضاً, وأحتاج منكم أن تنوروني بعلمكم جزاكم الله خيراً. نجد أن الصالحين يبتلون في الدنيا، وعلى قدر قوة الإيمان يزيد البلاء، والله يقول في القرآن: (فلَنَحيينهم حياة طيبة) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يجب أن يُعلم أن ما أخبر الله به لا يمكن أن يتعارض مع الواقع أبداً، لأن أخبار الله تعالى بلغت الغاية في الصدق، قال الله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) الأنعام/115، وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا) النساء/122، وقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا) النساء/87.
ثانياً:
لا شك أن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء , وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم , وفي الابتلاء للعبد حكَم وفوائد كثيرة، في الدنيا، والآخرة.
وانظر في ذلك: جوابي السؤالين: (35914) و (21631) .
وأما معنى " الحياة الطيبة " الوارد ذِكرها في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/ 97: فالأقوال فيها متنوعة، وليس منها أن الله يفتح للمؤمن العامل للصالحات الدنيا، ويقيه الحزن، والفقر، والسوء، فالواقع يشهد بغير هذا - بل إن أولئك من أكثر الناس ابتلاء بمثل هذا -، وجماع معنى الحياة الطيبة في الآية: حياة القلب، وسعادته، وانشراحه، وإذا رُزق شيئا من متاع الدنيا فيكون حلالاً يقنع به، وعلى ذلك جاءت أقوال المفسرين.
1. ذَكر الإمام الطبري رحمه الله أقوال العلماء في معنى " الحياة الطيبة "، وهي:
أ. يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال.
ب. يرزقهم القناعة.
ج. الحياة الطيبة: الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته.
د. الحياة الطيبة: السعادة.
هـ. الحياة في الجنة.
واختار رحمه الله من هذه الأقوال - غير المتضادة -: القول الثاني، فقال:
وأولى الأقوال بالصواب: قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة؛ وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رِزق: لم يَكثر للدنيا تعبُه، ولم يعظم فيها نَصَبه، ولم يتكدّر فيها عيشُه باتباعه نفسه ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها ...
وأما القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال: فهو مُحْتَمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال، وإن قلّ: فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله، لا أنه يرزقه الكثير من الحلال؛ وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال: لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة.
" تفسير الطبري " (17 / 291، 292) .
ب. وقال ابن القيم رحمه الله:
وأطيب العيش واللذة على الإطلاق: عيش المشتاقين، المستأنسين، فحياتهم: هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب، ولا أنعم، ولا أهنأ منها، فهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، من طيب المأكل، والمشرب، والملبس، والمنكح، بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافاً مضاعفة، وقد ضمن الله سبحانه لكل مَن عمل صالحاً أن يحييه حياة طيبة، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده، وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها، وصارت هي واحدة في مرضات الله، ولم يستشعب قلبه، بل أقبل على الله، واجتمعت إرادته، وأفكاره التي كانت منقسمة، بكل واد منها شعبة على الله، فصار ذكر محبوبه الأعلى، وحبه، والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، وهو المتولى عليه، وعليه تدور همومه، وإرادته، وتصوره، بل خطرات قلبه ... .
" الجواب الكافي " (ص 129، 130) .
وقال رحمه الله أيضاً:
وقد فُسرت الحياة الطيبة: بالقناعة، والرضى، والرزق الحسن، وغير ذلك، والصواب: أنها حياة القلب، ونعيمه، وبهجته، وسروره بالإيمان، ومعرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه؛ فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه، إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: " إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا: إنهم لفي عيش طيب "، وقال غيره: " إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً ".
" مدارج السالكين " (3 / 259) .
والأقوال في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على أن الحياة الطيبة هي حياة معنوية، يعيشها قلب المؤمن مطمئناً بقضاء الله تعالى، ومنشرحاً بما قدره عليه، وسعيداً بإيمانه بربه تعالى، وليس المراد من الحياة الطيبة – قطعاً – النعيم البدني، وانعدام الأمراض والفقر وضيق العيش.
وننبه إلى أن القول بأن الحياة الطيبة إنما تكون الجنة: بعيد عن معنى الآية؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ بعدها نعيم الجنة لمن آمن وعمل صالحاً.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية: حياته في الدنيا حياة طيبة، وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة: حياته في الجنة في قوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) : صار قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) : تكراراً معه؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا، فإنه يصير المعنى: فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل، وهو واضح، وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن: تؤيِّده السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ... " انتهى.
" أضواء البيان " (2 / 441) .
وعلى هذا؛ فالحياة الطيبة للمؤمن في الدنيا لا تنافي الابتلاء؛ وذلك لأسباب:
1. المسلم يعلم أن رفع الدرجات، وتكفير السيئات، وبلوغ الغايات: لا يمكن أن تنال إلا على جسر من الابتلاءات، والامتحانات , ولذلك كان السلف يفرحون بالابتلاء؛ لما يرجون من الثواب، والجزاء , كما جاء في الحديث عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاَءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) رواه ابن ماجه (4024) ، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
وهذا الفرح غير مسألة تمني البلاء , فتمني البلاء لا يجوز، كما جاء في الحديث عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ) رواه البخاري (6810) ومسلم (1742) .
قال ابن القيم رحمه الله:
وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده، وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان ... وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين الكرامة في حقهم، فصورته صورة ابتلاء، وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله مِن نعمة جسيمة، ومنَّة عظيمة، تُجنى من قطوف الابتلاء، والامتحان، فتأمل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته، من الاصطفاء، والاجتباء، والتوبة، والهداية، ورفعة المنزلة ... وتأمل حال أبينا الثاني نوح صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنته، وصبره على قومه تلك القرون كلها، حتى أقر الله عينه، وأغرق أهل الأرض بدعوته، وجعل لعالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة، وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل , وأمَر رسولَه ونبيه محمَّداً أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشكر، فقال: (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) فوصفه بكمال الصبر، والشكر، ثم تأمل حال أبينا الثالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل رب العالمين من بني آدم، وتأمل ما آلت إليه محنته، وصبره، وبذله نفسه لله، وتأمل كيف آل به بذله لله نفسه، ونصره دينه إلى أن اتخذه الله خليلاً لنفسه ... وضاعف الله له النسل، وبارك فيه، وكثر، حتى ملؤوا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرج منهم محمَّداً صلى الله عليه وسلم وأمَره أن يتبع ملة أبيه إبراهيم ... .
فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتأملت سيرتَه مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه، مِن سِلْم وخوف، وغنى وفقر، وأمن وإقامة، في وطنه وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه، وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى، من القول، والفعل، والسحر، والكذب، والافتراء عليه، والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يُؤْذَ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعْطَ نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذِكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفاً، وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات، وهذا حال ورثته من بعده، الأمثل، فالأمثل، كلٌّ له نصيب من المحنة، يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له.
" مفتاح دار السعادة " (1 / 299 – 301) .
2. والمسلم جنته في صدره , ولو كان مكبَّلا بأصناف البلاء , قال ابن القيم - يصف حال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتنقل في أصناف من البلاء والاختبار -:
قال لي مرة - يعني: شيخ الإسلام -: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، إنّ حبْسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة ". وكان يقول في محبسه في القلعة: " لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة "، أو قال: " ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير "، ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: " اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله، وقال لي مرة: " المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه "، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) الحديد/13، وعلم الله ما رأيتُ أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوةً، ويقيناً، وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها، ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
" الوابل الصيب " (ص 110) .
فهذه الجنة التي وجدها شيخ الإسلام، ويجدها أهل الإيمان والتقوى، من انشراح الصدر، والبال ومن الطمأنينة , والعيش بين الشكر والصبر: لهي والله السعادة التي ينشدها العقلاء، ويطلبها الصالحون، ويسعى إليها الساعون.
وهذه والله هي حقيقة الحياة الطيبة التي وعدهم الله إياها في الدنيا.
رزقنا الله وإياكم إياها , وجعلنا من أهلها.
وانظر في فوائد ابتلاء المؤمن جواب السؤال رقم: (12099) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/109)
كيف يفسَّر امتنان الله بتيسير السفن بالرياح مع وجود سفن تسير بالوقود؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) الشورى/ 32، 33، كيف نفسر الآيتين وفي عصرنا الجواري تتحرك بالوقود، ولا تنتظر الرياح؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يخبر الله تعالى في هاتين الآيتين عن آية مشاهَدة من آياته العظام، وهي مسير السفن في البحار، وأطلق على السفن لفظ " الجواري "، وهي جمع " جارية "، كما قال تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) الحاقة/ 11، وسمِّيت جارية: لجريها في البحار، وأخبر تعالى أن السفن في البحار كالجبال في البر، ولذا وصفها بأنها " أعلام "، وأخبر تعالى عن تسييره لتلك السفن بالريح، وأنه لو يشاء لأسكن تلك الرياح فتوقفت السفن عن الجري، أو يهلك الله تلك السفن بمن فيها، وهو على كل شيء قدير، لكنه تعالى تسبق رحمته غضبه، ويعفو تعالى عن كثير من مما يفعله عباده من السوء.
ثانياً:
الاتجاهات في تفسير هاتين الآيتين متعددة، ونحن نذكر أشهرها، فنقول:
1. ذهب عامة المفسرين إلى أن هذه الآيات في سفن معروفة منذ القدم، وهي السفن الشراعية، ولا يزال هذا النوع مستعملاً الآن، وهي تعتمد في حركتها على الريح، باعتباره سبباً قدره الله تعالى لتحريكها في عباب البحار.
2. ومن المفسرين من رأى أن " الريح " في الآية بمعنى القوة، واستدل على ذلك بقوله تعالى (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/ من الآية 46، وذكر هؤلاء أن " الريح " أُطلقت في القرآن وأريد بها معاني: القوة – وسبق الدليل عليه -، والرائحة، والدليل عليه قوله تعالى (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) يوسف/ 94، والمعنى الثالث: الرياح في الفضاء، ودليله: قوله تعالى (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) آل عمران/ من الآية 117.
3. وذهب آخرون إلى أن سكون الريح في الفضاء يتسبب في إيقاف السفن على أي وجه كان تشغيلها، وبأي وقود تحركت به.
4. وقال آخرون: إن كل أنواع الوقود المستعمل في تحريك السفن الحديثة يعتمد على إخراج هواء لدفع السفن للأمام، وأن هذا الهواء يدخل في معنى الآية العام.
هذه هي أبرز اتجاهات من تكلم في معنى الآيات السابقة، والذي يظهر – والله أعلم -: أن المعنى الأول هو المراد، وأنه هو الذي عليه عامة المفسرين، لا يُعرف بينهم خلاف، وأنه إن ثبت على وجه القطع أثر الريح في إيقاف السفن على أي وقود كان تحركها: فهو غير مخالف للآية، بل يكون دليلاً يضاف إلى أدلة الشرع الكثيرة في " الإعجاز العلمي "، وإن لم يثبت: فلا حاجة لنا به، وثمة ما يغني عنه.
ومما يدل على خطأ من ذكر أن الريح هنا بمعنى القوة: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يونس/ 22، فقوله تعالى " بريح طيبة " يرد على من قال إنها القوة.
ثالثاً:
ننبه هنا إلى أمور:
أ. أنه لا مانع من الحديث في القرآن، والسنَّة عن نوع واحد من المركوبات، أو وسائل النقل، وهي التي يعرفها المخاطَب ويستعملها، وإنه لمن الغلو أن نجعل ذلك اللفظ يشمل غيره من وسائل النقل، أو المركوبات، إلا أن يكون اللفظ اسم جنس، فيعم.
ب. نصَّ الله تعالى على وجود وسائل للركوب، والنقل، لا يعرفها المخاطَبون بالقرآن في زمانهم، لكن على وجه الإجمال والإشارة المفهمة لما وراءها من المعنى؛ لعدم إحاطة المخاطبين في ذلك الزمان بمعناها على التفصيل. فهل سيقال لهم ـ مثلا ـ إن ثمة سفنا ستتحرك بالطاقة النووية – مثلاً -؟ وفي ضوء ذلك تأمل ما تضمنته تلك الآيات من الإعجاز والبيان، نحو قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) النحل/ 8، وقوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) يّس/ 41، 42.
ج. أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أنه تعالى هو الذي يُسَيِّر الفلك بأمره، وهذا حكم عام، يشمل كل ما يسير في البحر، وبأي وقود كان، ومنه: قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) الحج/ من الآية 65، وقوله: (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) الروم/ 46، وهذا كافٍ في بيان المقصود، وأنه مهما كانت السفن تمخر عباب البحار والمحيطات فإنها تسير بأمر الله تعالى، والقادر على تسكين الريح في السفن الشراعية، ليس عاجزا عن إيقاف المحركات المصنوعة من البشر العاجز الضعيف، أو تقدير ما به يكون تلف السفينة وغرق أهلها، ولنعتبر جميعاً بالسفينة العملاقة " تايتنك "! – وتعني: القوة الهائلة، أو الجبارة -، والتي سارت في " المحيط الأطلنطي " من " بريطانيا " إلى " أمريكا " عام 1912 م، وقد بلغت الجرأة بأحد موظفي الشركة المصنعة للسفينة أن يقول بما ترجمته " حتى الله نفسه لا يستطيع إغراق هذه السفينة "! وهو لسان حال كثيرين ممن رأى الاحتياطات التي في السفينة من أجل أن لا تغرق! فكان أن قدَّر الله لها جبلاً جليديّاً في طريقها تسبَّب في تلفها، ومن ثم إغراقها بالكلية، وغرق حوالي 1500 راكب! ، فمن الذي جرت تلك السفينة العملاقة بأمره؟ ومن الذي قدَّر عليها الغرق؟ إنه الله تعالى، وما البشر إلا عبيد ضعفاء، لا يملكون من أمرهم شيئاً.
ولذا جاء بعد الآيتين اللتين في الشورى الواردتين في السؤال قوله تعالى: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/ 34، ومعنى " يوبقهن " أي: يهلك السفن، وأهلها.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/110)
تفسير قوله تعالى (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ) ، أرجو الإجابة بالتفصيل إن أمكنكم ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد الله
أولا:
يقول الله تعالى:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) البقرة/228
في هذه الآية بيان لعدة المطلقة المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء (أي يأتيها الحيض وليست من ذوات الحمل) ، فتتربص وتقعد عدتها ثلاثة قروء، أي حيضات أو أطهار، على خلاف بين أهل العلم، ولما كانت مستأمنة على أمر حيضها وطهارتها وانقضاء عدتها، حذرها الله تعالى من محاولة كتم ذلك أو تحريفه رغبة في تطويل العدة أو تقصيرها، فقال سبحانه وتعالى: (وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)
ثم أعطى الله تعالى الزوج حق إرجاع زوجته أثناء العدة إن لم تكن قد بانت، فقال سبحانه:
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً)
هذا تفسير موجز لسياق الآية السابقة، كان لا بد من بيانه، حتى يفهم السياق كاملا.
ثانيا:
بعد ذلك قرر سبحانه وتعالى قاعدة عظيمة من قواعد الحياة الزوجية، وتعتبر أساسا من أسس التعامل بين الزوجين، ومن الأركان العظيمة في قيام الأسر على العدل والرحمة.
فقال سبحانه وتعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
يقول ابن كثير رحمه الله "تفسير القرآن العظيم" (1/363) :
" أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف.
كما ثبت في صحيح مسلم [1218] عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُم أَخَذتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاستَحلَلتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكم عَلَيهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكرَهُونَهُ، فَإِن فَعَلنَ ذَلِكَ فَاضرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ رِزقُهُنَّ وَكِسوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ)
وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال:
يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا؟
قال: (أَن تُطعِمَهَا إِذَا طَعِمتَ، وَتَكسُوَهَا إِذَا اكتَسَيتَ، وَلا تَضرِبِ الوَجهَ، وَلا تُقَبِّح، وَلا تَهجُر إِلا فِي البَيتِ) [2142، وصححه الألباني] .
وقال وكيع عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس قال:
(إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم " انتهى.
ثالثا:
هذا هو المعنى العام للآية، أن للنساء من الحقوق مثل ما للرجال عليهن من الحقوق، ولكن ما معنى هذه المثلية (وَلَهُنَّ مِثلُ) ، هل تعني التماثل التام بين الأزواج في الحقوق؟
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (1/642) :
" والمثل أصله النظير والمشابه: وقد يكون الشيء مثلا لشيء في جميع صفاته، وقد يكون مثلا له في بعض صفاته، وهي وجه الشبه.
وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناسا أو أنواعا أو أشخاصا؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة.
فتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تُبَيِّنُهُ تفاصيل الشريعة:
فلا يُتَوَهَّم أنه إذا وجب على المرأة أن تَقُمَّ – أي تنظف - بيت زوجها وأن تجهز طعامه أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يُتَوَهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها، بل كما تقم بيته وتجهز طعامه، يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وعلى هذا القياس " انتهى.
رابعا:
بناء على ما ذكرناه في معنى المثلية، فالحقوق والوجبات التي على الزوجين تنقسم إلى قسمين:
1- حقوق وواجبات يتساوى فيها كل من الزوجين تساويا تاما: مثل إحسان المعاشرة، وقصر الطرف عن غير ما أحل الله لهما، والمماثلة في وجوب الرعاية (الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها) ، والتشاور في الرضاع، ونحو ذلك.
2- وحقوق وواجبات تكون بين الزوجين على وجه المقابلة، كل بحسب ما قضاه الله عليه بمقتضى الفطرة والخلقة والشرع والحكمة، ومرجع ذلك إلى الشريعة وتفاصيلها، كما تقرره السنة المطهرة، وبحسب أنظار المجتهدين.
ويدل على هذا التقسيم قوله تعالى في الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ)
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله، في "التحرير والتنوير" (1/643) :
" وفي هذا الاهتمام مقصدان:
أحدهما: دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهما من قوله آنفا (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) .
وثانيهما: تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص؛ لإبطال إيثارهم المطلق الذي كان متَّبَعا في الجاهلية.
وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم:
من الإذن بتعدد الزوجة للرجل دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر.
ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل.
وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل؛ لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعا عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة؛ ولأنه مظنة الصواب غالبا، ولذلك إذا لم يمكن التراجع واشتد بين الزوجين النزاع لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية (وإن خفتم شقاق بينهما) " انتهى.
وللاطلاع على تفاصيل هذه الحقوق والوجبات، انظر سؤال رقم (10680) فستجد فيه تفصيلا مفيدا إن شاء الله.
خامسا:
المرجع في تحديد هذه الحقوق والواجبات هو (المعروف) كما ذكرت الآية، وفي هذه الكلمة دلالات عظيمة، وإشارات إلى أمور كثيرة:
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: " وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة.
ومرجع الحقوق بين الزوجين ويرجع إلى المعروف وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والعوائد.
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة والمعاشرة والمسكن وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف فهذا موجب العقد المطلق، وأما مع الشرط فعلى شرطهما، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " انتهى.
ويقول ابن عاشور (1/643) : " وقوله (بالمعروف) الباء للملابسة، والمراد به: ما تعرفه العقول السالمة المجردة من الانحياز إلى الأهواء أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن، وهو ما جاء به الشرع نصا أو قياسا أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة التي ليس في الشرع ما يعارضها، والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر.
أي: وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابسا ذلك دائما للوجه غير المنكر شرعا وعقلا، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين في مختلف العصور والأقطار.." انتهى.
سادسا:
دين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي شقيقة الرجل، والمربية الأولى في المجتمع، فلذلك شرع من قواعد العدالة ما لم يكن معروفا على وجه الأرض في شريعة ولا في قانون، فسبق إليه الإسلام الحنيف، وجاء بإصلاح حال المرأة ورفع شأنها؛ وارتقى بها من متاع يرثه الرجال، كما يرثون سائر المال والمتاع، فجعلهن شقائق الرجال، لهن مثل الذي عليهن من الحقوق والواجبات، لا يضيع لهن عمل ولا سعي، ودروهن في النهوض بالأمة، عامة، وببيتها خاصة لا يقل عن دور الرجل بحال!!
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/111)
إبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل بوسعكم – يا شيخ - تفسير بعض آيات سورة " الحِجر "؛ لأني لا أفهمها، وأنا أبحث عن تفسيرها في تفاسير مختلفة، لكنى أعجز عن إيجاده، يقولون في الآية 55: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ) فيقول هو في الآية 56: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) لأن الشيطان يوسوس لي، ويوهن قلبي بالقول بأن الله تعالى لم يقبل الدعاء، فإبراهيم عليه السلام قد تقدم به العمر، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه بابنٍ من سارة عليها السلام، فلا تتوقع أن يجيب الله سبحانه وتعالى دعاءك عندما تكون في شدة، بل إنك عندما تطعن في العمر وتكون قد اقترفت الكثير من الذنوب: فإن من الممكن أن يكون مصيرك إلى جهنم! . ويقول الله تعالى في القرآن: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ، كما ذكر في الحديث (كلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) ، فهل بوسعكم - رجاء - تفسير لماذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام: " بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين"؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ. إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ. قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ. قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) الحِجر/ 51 – 56.
قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك كان من أجل قوله " أبشرتموني بذلك على أن مسني الكبَر وأثَّر فيَّ "، فقد تعجَّب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة؛ فإن البشارة بما لا يُتصور وقوعه عادةً: تُدخل في النفس التعجب منها، ولم يكن عليه السلام قانطاً، ولا منكراً لقدرة الله، وهو الذي رأى بعيني رأسه موت الطيور الأربعة التي ذبحها بنفسه، ثم قسَّمها أجزاء، فأحياها الله تعالى له، فجاءته تسعى! وهو عليه السلام آمَن بأن الله قد خلق بشراً بغير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ، وعجوزٍ عقيم.
وأول ذلك أن الله تعالى أرسل ملائكة لتبشر إبراهيم عليه السلام وزوجه " سارة " بإسحاق، فلما جاءت الملائكة بالبشرى: سألهم عليه السلام عن طبيعة البشارة، وكيف سيكون الولد، مع أنه بلغ به السن ما بلغ، فأكدُّوا له الأمر أن ما جاءوا به هو بشارة حق.
قال ابن كثير رحمه الله:
ثم قال مُتعجباً من كِبَره، وكِبَر زوجته، ومتحققًا للوعد: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون) .
"تفسير ابن كثير" (4/541) .
فقول إبراهيم عليه السلام " فبِمَ تبشرون " يحتمل الاستفهام، والتعجب معاً، ولا تعارض بينهما.
قال الماوردي رحمه الله:
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فيه وجهان:
أحدهما: أنه قال ذلك استفهاماً لهم، هل بشروه بأمر الله؟ ليكون أسكن لنفسه.
الثاني: أنه قال ذلك تعجباً من قولهم، قاله مجاهد.
"تفسير الماوردى" (3/163، 164) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله:
وهذا استفهام تعجب كأنه عجب من الولد على كبره.
"زاد المسير" (4/406) .
فأكدوا بشارتهم بالولد، وأنها من الله تعالى، وهي حقٌّ لا ريب فيه.
قال ابن كثير رحمه الله:
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً، وبشارة بعد بشارة، (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ) .
"تفسير ابن كثير" (4/541) .
وقولهم له بعدها (فَلاَ تَكُن مِّنَ القَانِطِينَ) لا يقتضي أنه كان قانطاً، بل هو تلطف من الملائكة في التنبيه له أن لا يصل به الأمر أن يكون في زمرة القانطين، وهذا الأسلوب معروف في التنبيه، ولا يلزم كون المخاطب به منهم، كما قال تعالى لنوح عليه السلام: (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هود/46.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
فقالوا: (فَلاَ تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ) ذلك أنه لمَّا استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله: كان ذلك أثَراً من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه، بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه، فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك، فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله، ولما كان إبراهيم عليه السلام منزّهاً عن القنوط من رحمة الله: جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب، فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين؛ تحذيراً له مما يدخله في تلك الزمرة، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطاً؛ لرفعة مقام نبوءته عن ذلك، وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله: (أَرني كَيْفَ تُحْيي المَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤمن قَالَ بَلَى وَلكنْ ليَطْمَئنَّ قَلْبي) البقرة/260.
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام: (إنّي أَعظُكَ أَنْ تَكُونَ منَ الجَاهلينَ) هود/46.
"التحرير والتنوير" (14/60) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله: قول الملائكة له فيما ذَكَرَ الله عنهم: (قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القَانِطِينَ) الحجر/55، بدليل قوله: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون) الحجر/56؛ لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر، ولا قانط.
قوله تعالى: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضّالُّونَ) .
بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيَّه إبراهيم قال للملائكة: "إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق".
"أضواء البيان" (2/283) .
فإبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة الله، ولا يجوز أن ينسب ذلك إلى الأنبياء، فهم أكمل البشر علماً وعملاً.
بل لا يجوز لأحد من المؤمنين أن ييأس ويقنط من رحمة الله.
وقد عَدَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "القنوط من رحمة الله" من أكبر الكبائر، رواه عبد الرزاق.
فلا يجوز لمؤمن أن يدعو الله تعالى وهو يائس من الإجابة، بل عليه أن يحسن ظنه بالله، ويوقن أنه سيستجيب له، ويعطيه ما سأل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَة) رواه الترمذي (3479) وحسنه الألباني في صحيح "سنن الترمذي".
وكذلك مهما تقدم العمر بالإنسان، وعمل من المعاصي ما عمل، فإن رحمة الله واسعة، يغفر لمن تاب إليه، وندم على ما فعل، ما لم يحضره الموت، قال الله تعالى: (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) رواه الترمذي (3537) وحسنه الألباني في صحيح "سنن الترمذي".
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/112)
كيف الجمع بين تمام الدين في قوله تعالى: (الْيَوْم أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم) واختلاف العلماء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[الحمد لله، أنا مسلم، ولله الفضل والمنَّة، ولكن أشكلت عليَّ آية في كتاب الله العزيز، وهي (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم) فإذا كان الدّين كاملاً - وهو كذلك -، فكيف نجمع بين هذه الآية وبين خلاف العلماء في مسائل كثيرة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس هناك تعارض بين كمال الشريعة، وما يوجد من اختلاف بين علماء الإسلام؛ وذلك إذا عُرف المراد من كمال الدّين في الآية، وكماله هو: أصول الدّين، وقواعد الأخلاق، وكليّات الشرع، أما المسائل الجزئية فهي متجددة ولا نهاية لها، ولهذا لم يأت النص من الشرع على حكمها، وإنما يجتهد العلماء في إدخالها في تلك القواعد العامة، أو الاستدلال لها بمختلف الأدلة، كالقياس وغيره، ومن هنا جاء اختلاف العلماء.
قال الشاطبي رحمه الله - في بيان معنى الآية -:
"المراد: كلياتها، فلم يبقَ للدّين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات، والحاجيات، أو التكميليات، إلا وقد بُينت غاية البيان.
نعم، يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد؛ فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتة في الكتاب والسنّة، فلا بد من إعمالها، ولا يسع الناس تركها ... ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه، ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل: فالجزئيات لا نهاية لها، فلا تنحصر بمرسوم، وقد نص العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد: الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد، التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل" انتهى.
"الاعتصام" (1/507) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
"فقد بيَّن الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه، وكلام رسوله: جميع ما أمره به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه , وبهذا يكون دينُه كاملا كما قال تعالى: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نعْمَتي) " انتهى.
"إعلام الموقعين" (1/332) .
ثانياً:
كمال الدّين، وتمامه، لا يمنع من الاختلاف في فهم آية، أو سبب نزولها، أو صحة حديث، أو فهمه على وجهه الصحيح؛ فليس العلماء على درجة واحدة من العلم، فقد يخفى على واحد منهم ما علمه غيره، وقد يَفهم من النصوص ما لا يفهمه غيره عندما يختفي عليه الدليل الواضح، وهذا كله لا يتعارض مع تمام الدين، بل هو محاولة من المجتهد للوصول إلى حكم الله، فيما لم يأت نص بحكمه، ونظراً لاختلاف الناس في الفهم والعلم فقد وقع الخلاف بينهم في حكم كثير من الجزئيات.
قال ابن القيم رحمه الله – متمماً كلامه السابق نقله عنه -:
"ولكن قد يقصر فَهم أكثر الناس عن فَهم ما دلّت عليه النصوص، وعن وجه الدلالة، وموقعها، وتفاوت الأمّة في مراتب الفهم عن الله ورسوله: لا يحصيه إلا الله، ولو كانت الأفهام متساوية: لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه، وعلى داود بالعلم، والحكم، وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه " الفهم، الفهم فيما أدلي إليك "، وقال علي: " إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه "، وقال أبو سعيد: " كان أبو بكر أعلمَنا برسول الله صلى الله عليه وسلم "، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس أن (يفقهه في الدّين ويعلمه التأويل) " انتهى.
"إعلام الموقعين" (1/332) .
وبهذا يعلم أن اختلاف العلماء لا ينافي كمال الدين.
ومن تأمل أسباب اختلاف العلماء: لم يجد فيها سبباً واحداً مرجعه إلى الشرع ذاته، فالتعارض بين الأدلة ليس موجوداً على الحقيقة في نصوص الشرع، بل فقط في نظر المجتهد، وخفاء الأدلة، وعدم العلم بها، أو عدم فهمهما على وجهها: وكل ذلك يؤكد ما قلناه من أن الشريعة كاملة تامّة وإنما يبحث كل مجتهد بما وهبه الله من علم وفهم: لمعرفة الحكم المطابق لمراد الله تعالى في نصوص الوحي.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/113)
سبب تقديم قوله تعالى في سورة الرحمن (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) على قوله (خَلَقَ الْإِنسَانَ)
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا ذكر في سورة الرحمن: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قبل (خَلَقَ الْإِنسَانَ) ، وعلمه لمن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في هذه السورة العظيمة من سور القرآن الكريم يتعرف الله سبحانه وتعالى إلى خلقه بنعمه عليهم، وآلائه التي ملأت أرجاء السماء والأرض، يذكرهم بها عبوديتهم له عز وجل، ويلزمهم طاعته وابتغاء مرضاته.
ولما كان القرآن الكريم النعمة الكبرى والآية العظمى التي أنزلت على الإنسانية جمعاء، بدأ بها عز وجل، وقدمها على كل شيء، حتى على خلق الإنسان نفسه، ليوحي بذلك إلى الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، وهي معرفة وحي الله والالتزام به، فلا يشتغل الإنسان بالخلق عن الخالق، ولا بالوسيلة عن المقصد.
وذكر الله تعالى خلق الإنسان بعد ذِكْر تعليم القرآن ليبين أن الإنسان هو المقصود بتعليم القرآن.
قال الله تعالى: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن/1-4.
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله:
"ولما عدّد نعمه تعالى، بدأ مِن نِعَمه بما هو أعلى رتبها، وهو تعليم القرآن، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به.
ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلَّم، ذكره بعد في قوله: (خَلَقَ الإنْسَانَ) ، ليُعلم أنه المقصود بالتعليم" انتهى.
"البحر المحيط" (10/187) .
وقال الألوسي رحمه الله:
"ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى: (خَلَقَ الإنْسَانَ) ؛ لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان، وهو كماله في قوة العلم، والغاية متقدمة على ذي الغاية ذِهْنًا، وإن كان الأمر بالعكس خارجا" انتهى.
"روح المعاني" (27/99) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان، وإلا من المعلوم أن خلق الإنسان سابقٌ على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظمَ مِنَّةٍ من الله عز وجل على العبد قدمه على خلقه " انتهى.
"لقاءات الباب المفتوح" (رقم/188) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/114)
استفسار عن رأي شيخ الإسلام في آية المباهلة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو رأي شيخ الإسلام ابن تيميه في آية المباهلة]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
المباهلة هي الملاعنة، والمقصود منها أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
ينظر: "النهاية في غريب الأثر" (1/439) .
وآية المباهلة هي قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) . [آل عمران/59-61]
وكان سبب نزول هذه الآية أن وفد نصارى نجران حين قدموا المدينة جعلوا يُجادلون في نبي الله عيسى عليه السلام، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية.
وقد تصلبوا على باطلهم، بعدما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم البراهين بأنه عبد الله ورسوله.
فأمره الله تعالى أن يباهلهم.
فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم، ثم يدعون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين.
فأحضر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وقال: هؤلاء أهلي.
فتشاور وفد نجران فيما بينهم: هل يجيبونه إلى ذلك؟
فاتفق رأيهم أن لا يجيبوه؛ لأنهم عرفوا أنهم إن باهلوه هلكوا، هم وأولادهم وأهلوهم، فصالحوه وبذلوا له الجزية، وطلبوا منه الموادعة والمهادنة، فأجابهم صلى الله عليه وسلم لذلك.
ينظر: "تفسير ابن كثير" (2 /49) ، "تفسير السعدي" (1 /968) .
ثانياً:
ليس لشيخ الإسلام ابن تيمية رأي خاص في آية المباهلة، بل كلامه فيها ككلام سائر أهل السنة، إلا أنه قد بين بعض المفاهيم المغلوطة التي يحاول البعض أخذها من هذه القصة.
ونستطيع أن نلخص كلام شيخ الإسلام في المباهلة في نقاط:
1-إتيان النبي صلى الله عليه وسلم بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم عند المباهلة ثابت بالأحاديث الصحيحة.
قال شيخ الإسلام: " أما أخذه علياً وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال في حديث طويل: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ... ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7 / 123) .
2- ليس في ذلك دلالة على أنهم أفضل هذه الأمة.
قال: " لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7/123)
وقال: " ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7 /125) .
3- المباهلة إنما يختار لها الإنسان أقرب الناس منه نسباً، لا أفضلهم عنده.
قال شيخ الإسلام: " وسبب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء فقط: أن المباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب وان كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود.. ".
وقال: " وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه؛ لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخص الناس به، لما في جِبِلّة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه ...
والمباهلة مبناها على العدل، فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا، وهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب، ولهذا امتنعوا عن المباهلة لعلمهم بأنه على الحق وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بُهْلة الله، وعلى الأقربين إليهم ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (5/45)
4- سبب تخصيص علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين بالمباهلة أنهم أخص أهل بيته به في ذلك الوقت.
قال شيخ الإسلام: " وأما آية المباهلة فليست من الخصائص، بل دعا علياً وفاطمة وابنيهما، ولم يكن ذلك لأنهم أفضل الأمة، بل لأنهم أخص أهل بيته". انتهى.
"مجموع الفتاوى" (4/419)
وقال: " وآية المباهلة نزلت سنة عشر لما قدم وفد نجران، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس، والعباس لم يكن من السابقين الأولين، ولا كان له به اختصاص كعلي.
وأما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي، وكان جعفر قد قتل قبل ذلك ... بمؤتة سنة ثمان، فتعين علي رضي الله عنه ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7/125) .
وقال: " لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقية وأم كلثوم وزينب كنَّ قد توفين قبل ذلك ...
وإنما دعا حسناً وحسيناً؛ لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما، فإن إبراهيم، إن كان موجودا إذ ذاك، فهو طفل لا يُدعى ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7/ 129) .
5- ليس في آية المباهلة دليل على أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخلافة والإمامة، بزعم أن الله جعله مقام نفس الرسول بقوله: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ... ) ، والاتحاد في النفس محال، فلم يبق إلا المساواة له في الولاية العامة.
قال شيخ الإسلام: " لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع، لأن أحداً لا يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا علياً ولا غيره.
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة، قال تعالى في قصة الإفك (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا..) ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين.
وقد قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضا، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين، ولا أن يكون من عبد العجلَ مساوياً لمن لم يعبده.
وكذلك قد قيل في قوله (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضاً، وان كانوا غير متساوين.
وقال تعالى (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يلمز بعضكم بعضاً، فيطعن عليه ويعيبه، وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن والعيب، مع أنهم غير متساوين، لا في الأحكام، ولا في الفضيلة، ولا الظالم كالمظلوم، ولا الإمام كالمأموم ...
فهذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة، والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك في بعض الأمور، كالاشتراك في الإيمان ". انتهى.
"منهاج السنة النبوية" (7 / 123) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/115)
كيف يتطابق قوله تعالى عن اليهود: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ) مع واقعهم الحالي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله سبحانه وتعالى عن اليهود في السورة رقم 3 آية 112 (باءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة) ، لكن يبدو أن أحوال اليهود حسنة، ويبدو أنهم أثرياء، ويبلون حسناً، فهل بوسعكم - رجاء – التفسير، بارك الله فيكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الآية الكريمة التي ذكرها السائل هي قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) آل عمران/112.
وأما معناها: فقد قال ابن كثير رحمه الله:
أي: ألزمهم الله الذلة، والصَّغَار، أينما كانوا، فلا يأمنون (إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) أي: بذمَّة من الله، وهو عَقْد الذمة لهم، وضَرْب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة، (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي: أمانٌ منهم، ولهم ... .
وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي: أُلزموا، فالتزَمُوا بغضب من الله، وهم يستحقونه.
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي: أُلزِموها قَدراً، وشَرْعاً، ولهذا قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي: وإنما حملهم على ذلك: الكبْر، والبَغْي، وَالْحسَد، فأعْقَبَهم ذلك: الذِّلة، والصَّغَار، والمسكنة، أبداً، متصلا بذلة الآخرة، ثم قال تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي: إنما حَمَلهم على الكفر بآيات الله، وقَتْل رُسُل الله، وقُيِّضوا لذلك: أنّهم كانوا يُكثرون العصيان لأوامر الله عز وجل، والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله، فَعِياذًا بالله من ذلك، والله المستعان.
" تفسير ابن كثير " (2 / 104) .
والذلة التي ضربها الله على اليهود تشمل الذلة القدرية التي قدَّرها الله عليهم، والذلة الشرعية، بمعنى أن الله تعالى أمرنا بإذلالهم، بضرب الجزية عليهم.
قال الطبري رحمه الله:
و" الذلة " هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عبادَه المؤمنين أن لا يعطوهم أماناً على القرار على ما هم عليه من كفرهم به، وبرسوله، إلا أن يبذلوا الجزية عليهم لهم.
" تفسير الطبري " (2 / 136) .
وقال رحمه الله:
أخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلاًّ، وبالنعمة بؤساً، وبالرضا عنهم غضباً، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداءً، وظلماً منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافاً عليه.
" تفسير الطبري " (2 / 137) .
وسبق قول ابن كثير رحمه الله: " أُلزِموها قَدراً، وشَرْعاً ".
فالله تعالى قدَّر عليهم الإذلال بسبب كفرهم، وفسادهم، وحكم به عليهم شرعاً بما ضربه عليهم من الجزية.
ومن هذا الباب قول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الأعراف/ 167.
قال ابن كثير رحمه الله:
قوله: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي: على اليهود، (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي: بسبب عصيانهم، ومخالفتهم أوامر الله، وشرعه، واحتيالهم على المحارم.
ويقال: إن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب اخراج، ثم كانوا في قهر الملوك، من اليونانيين، والكشدانيين، والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى، وإذلالهم إياهم، أخذهم منهم الجزية، والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت صغاره، وذمته، يؤدون الخراج، والجزية.
" تفسير ابن كثير " (3 / 497) .
وهذا هو واقع اليهود على مرِّ الأزمان؛ وحتى في هذا العصر الحديث لا تجد لهم محبة، ولا قبولاً في الأرض، وما مذابح الأوربيين لهم في " أوربا " ببعيد، وهم يؤمنون بذلك , ولذلك لا يعيشون إلا منعزلين، منطوين، أو أذلاء يستجدون النصرة من دول الكفر، والمنظمات الدولية.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف اليهود -:
فالأمَّة الغضبية هم اليهود، أهل الكذب، والبهت، والغدر , والمكر، والحيل , قتلة الأنبياء , وأكلة السحت - وهو الربا، والرشوة - أخبث الأمم طوية , وأرداهم سجية , وأبعدهم من الرحمة , وأقربهم من النقمة , عادتهم البغضاء , وديدنهم العداوة والشحناء , بيت السِّحِر، والكذب، والحيل , لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة , ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة , ولا لمن وافقهم حق، ولا شفقة , ولا لمَن شاركهم عندهم عدل , ولا نَصَفَة , ولا لِِمَن خالطهم طمأنينة , ولا أمََنة , ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم: أعقلهم، وأحذقهم: أغشهم , وسليم الناصية - وحاشاه أن يوجد بينهم: ليس بيهودي على الحقيقة , أضيق الخلْق صدوراً , وأظلمهم بيوتاً , وأنتنهم أفنيةً , وأوحشهم سجيَّةً , تحيتهم: لعنة , ولقاؤهم: طيرة، شعارهم: الغضب , ودثارهم: المقت.
" هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى " (ص 8) .
وهذه صفات اتفق عليها القاصي والداني، والقريب والبعيد، ولذلك لوحقوا، وطوردوا، على مر الزمان؛ وحتى في هذا العصر لا ينعمون بالأمان حتى في دولتهم المزعومة.
ثانياً:
أما ما يقوله الأخ السائل من وجود " الغنى " و " العز " لليهود في زماننا هذا: فهو لا يخالف معنى الآية، وبيان ذلك من وجهين مُجملين:
1. ضرب الذلة والمسكنة على اليهود لازم لا يتخلف، وقد استثنى الله تعالى في " الذلة " – لا المسكنة - بقوله: (إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) فما تراه هو من هذا، وأما بمجردهم: فهم أحقر من أن يكون لهم عز، ونصر، ولذلك لا يُعرف لهم انتصار في معركة دخلوها وحدهم، ولا يزالون في حاجة إلى الشرق والغرب لتثبيت دولتهم، فإما مددهم من الله ليذل بهم من تركوا دينه، أو حبل من الناس: عهد وميثاق مع المؤمنين، أو تحالف مع دول الكفر لنصرتهم، وتأييدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأمَّا كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب: فهذا لا يُعرف، بل المعروف خلافه , والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) آل عمران / 12، فاليهود من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله، وحبل من الناس: لم يكونوا بمجردهم ينتصرون، لا على العرب، ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعْث المسيح عليه السلام فكذبوه، قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) آل عمران/ 55، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) الصف/ 14.
" مجموع الفتاوى " (1 / 302) .
وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
والمعنى: لا يسلمون من الذلّة، إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهدٍ من الله، أي: ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم: فلا نصر لهم، وهذا من دلائل النُّبوّة؛ فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيثربَ، وخيبر، والنضير، وقريظة، فأصبحوا أذلّة، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.
" التحرير والتنوير " (4 / 56) .
2. أن " المسكنة " ليست هي " الفقر "، بل لعلهم أغنى الناس، لكن المسكنة التي ضربها الله عليهم هي إظهار فقرهم، وبُخلهم بما في أيديهم، وقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) رواه البخاري (6081) ومسلم (1051) ، وأنَّى لهؤلاء هذا الغنى؟! .
وقد ردَّ الشيخ العثيمين رحمه الله على ما ذكره الأخ السائل، وقد لخَّصنا كلامه في نقاط، نرجو أن تكون مفيدة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) البقرة/ من الآية 61 -:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة) :
1. خبرٌ مِن الله عن بني إسرائيل أنه ضُربت عليهم الذلة والمسْكنة، (الذلة) هذه في الشجاعة، أذلة، لا يقابِلون عدوّاً، قال الله تعالى: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) الحشر/14.
2. و (المَسْكَنة) يعود إلى الفقر، فليس عندهم شجاعة، وليس عندهم غِنى، لا كرماً بالمال، ولا كرماً بالنفس؛ لأن الشجاعة كرم بالنفس، يجود الإنسان بنفسه لإعلاء كلمة الله، والكرم: جود بالمال، ثم - والعياذ بالله - ما حصل لهم هذا، ولا هذا، بل العكس (ضُرِبَت عَلَيْهِم الذِّلَّة) فلا شجاعة عندهم، وضربت عليهم المسكنة فلا جود عندهم، ولهذا لا يوجد أمَّة أفقر من اليهود، ولا أبخل، أي: لا أفقر قلباً منهم، وليس مالاً، وإلا فأموالهم كثيرة.
3. فهذه الذلة - والعياذ بالله - عليهم مضروبة، وكذلك المسْكنة، فإذا قال قائل: الواقع خلاف هذا الأمر؟! قلنا: لا يمكن أن يكون الواقع مخالفاً لكلام الله، ورسوله، وإنما الخطأ في الفهم، والتصور، أما كلام الله: فلا يختلف، فنقول:
هذه الآية مطلقة – أي: قوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) البقرة/61 - وفي قوله تعالى في آل عمران: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) آل عمران/112: يقيِّد هذه الآية، ويصير المعنى: " ضُربت الذلة والمسكنة إلا بحبلٍ مِن الله وحبلٍ مِن الناس "، فإذا وصلهم الله تعالى، أو وصلهم الناس: فإنهم تزول عنهم الذلة، ويكون معهم شجاعة، وقوة.
4. الحبل من الله ما هو؟ قيل: إنه الإسلام، والحبل من الناس: أن يمدهم الناس غير اليهود بما يمدونهم به، فاليهود الموجودون الآن في حبلٍ من الناس يمدهم، وهم النصارى في كل مكان، يمدونهم؛ لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) المائدة/51، وهذا خبر، والخبر من الله: لا يُخلف، النصارى تمدهم من جميع أقطار الدنيا، إما علناً وإما سرّاً، وإما مباشراً أو غير مباشرٍ.
5. الحبل من الله قلنا: إنه الإسلام - على ما ذكره كثير من أهل العلم - ويحتمل عندي: أنه أعم من الإسلام؛ لأنهم إذا أسلموا: زال عنهم وصف اليهودية، وصاروا من المسلمين، لكن عندي أنه (حبل من الله) : أن الله قد يسلطهم على غيرهم؛ عقوبةً لهم، قد يُسلَّطون على غيرهم، وتكون لهم الغلبة، عقوبة على الآخرين؛ لعلهم يرجعون إلى الله عز وجل، لا سيما إذا كانوا من أمَّة محمد عليه الصلاة والسلام، وعصوا وأَبعدوا عن هذه الملة: فإن الله عز وجل يسلِّط عليهم مَن شاء مِن خلقه؛ لعلهم يرجعون، وهذا الأمر هو الواقع، لو نظرنا إلى الذين جعلوا أنفسهم في مسير هؤلاء اليهود - وهم العرب -: لوجدنا أكثرهم ضالين - ولا سيما ذوي القيادات منهم - منحرفين عن الحق، بل ربما يصل أمر بعضهم إلى الكفر - والعياذ بالله -، فلذلك يسلَّط عليهم هؤلاء، ويحصل ما يحصل.
6. إذن يزول عنَّا الاشتباه في قوله: (وَضُرِبَت عَلَيْهِم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ) : " لماذا نراهم الآن في هذه الحال، والآية خبرٌ من الله، وخبر الله حق وصدق، لا يمكن أن يتخلف ":
فالجواب:
أن هذه الآية مقيَّدة بقوله تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ، وانظر التقييد في " آل عمران ": تقييد في الذلة فقط، لكن المسكنة غير مقيدة، ولذلك هم مضروب عليهم المسكنة أينما كانوا، ولا يمكن أن يبذلوا قرشاً إلا وهم في أملٍ أن يحصلوا درهماً، فالمسكَنة مطلقة، والمذلة مقيدة، (إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) .
" تفسير سورة البقرة " (الشريط رقم 10، وجه أ) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/116)
سبب نزول سورة الكافرون
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو سبب نزول سورة " الكافرون "؟ وما هي قصتها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء في سبب نزول هذه السورة أن كفار قريش عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى ويقبلوا ما جاء به، بشرط أن يشاركهم في عبادة آلهتهم الباطلة بعض الزمان، فنزلت هذه السورة تقطع كل مفاوضات لا تفضي إلى تحقيق التوحيد الكامل لله رب العالمين.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما:
(أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزّوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزي، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي. فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ... إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) .
رواه ابن أبي حاتم في " التفسير " (10/3471) ، والطبري في " جامع البيان " (24/703) ، والطبراني في " المعجم الصغير " (751)
جميعهم من طريق أبي خلف عبد الله بن عيسى الخزاز الحداد، ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.
وقال الطبراني: لم يروه عن داود بن أبي هند إلا عبد الله بن عيسى ... أحاديثه أفراد كلها. انتهى.
وعبد الله بن عيسى الخزاز ضعيف عند عامة العلماء، لا سيما رواياته عن داود بن أبي هند.
انظر ترجمته في " تهذيب التهذيب " (5/353) .
وعن سعيد بن مينا مولى البَختري قال:
لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميَّة بن خلف، رسولَ الله، فقالوا: يا محمد! هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبدْ ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه ; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شَرِكتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) حتى انقضت السورة.
رواه الطبري في " جامع البيان " (24/703) قال: حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري به.
وسعيد بن ميناء من أوساط التابعين، فروايته مرسلة ضعيفة.
وقال السيوطي رحمه الله:
"أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرك أن نتبعك عاما وترجع إلى ديننا عاما، فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) إلى آخر السورة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله: (قل يا أيها الكافرون) السورة كلها" انتهى.
"الدر المنثور" (8/655) .
والحاصل: أن الآثار السابقة – وإن ضعفت أسانيد أفرادها – إلا أنها تتقوى بمجموعها، ويشهد بعضها لبعض، خاصة وأنه ليس في متنها ما يستنكر، ووافقت ظاهر القرآن الكريم، ولذلك صحح مضمونها الشيخ الألباني رحمه الله في " صحيح السيرة النبوية " (201) ، وانظر: " السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية " (ص/175) .
وأما معنى السورة:
فقال ابن جرير الطبري رحمه الله:
" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم - وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة، على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلتهم سنة - فأنزل الله معرفة جوابهم في ذلك:
(قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة، على أن يعبدوا إلهك سنة (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) بالله (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) من الآلهة والأوثان الآن (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) الآن (وَلا أَنَا عَابِدٌ) فيما أستقبل (مَا عَبَدْتُمْ) فيما مضى (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ) فيما تستقبلون أبدا (مَا أَعْبُدُ) أنا الآن، وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدّثوا به أنفسهم، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار " انتهى.
" جامع البيان " (24/702) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/117)
تفسير قوله تعالى: (وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ (وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سألني أحدهم عن معنى الآية السابقة، لكني لم أجبه لأني لا أعرف، فهل بوسعكم رجاء إخباري بمعنى الآية السابقة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذه الآية التي في سورة التوبة تتحدث عن الأعراب وليس عن العرب، وفرق بين اللفظين، فالعرب هم الجنس المعروف الذي ينقسم إلى حضر وبدو، والحضر هم ساكنو المدن والقرى، أما البدو فهم " الأعراب " سكان البادية، وهؤلاء هم الذين تخبر عنهم الآيات الكريمات في سورة التوبة.
قال النووي رحمه الله:
"أهل البادية هم الأعراب، ويغلب فيهم الجهل والجفاء، ولهذا جاء في الحديث: (من بدا جفا) ، والبادية والبدو بمعنًى [واحد] : وهو ما عدا الحاضرة والعمران. والنسبة إليها بدوي " انتهى.
"شرح مسلم" (1/169) .
وقال الدكتور جواد علي:
" المجتمع العربي: بدو وحضر. .
ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون بـ " أهل المدر "، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر. والمدر: قطع الطين اليابس.
وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم " أهل الوبر "، لأن لهم أخبية الوبر. تمييزاً لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبان من المدر.
وتطلق لفظة " عرب " على أهل المدر خاصة، أي على الحضر و " الحاضر " و " الحاضرة " من العرب، أما أهل البادية فعرفوا بـ " أعراب ". " انتهى باختصار.
" المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام " (4/271) .
ثانياً:
أما الآيات الواردة في ذلك في سورة التوبة، فهي قول الله تعالى: (الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة/97-99.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، وأجدر: أي: أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ... عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى السلطان افتتن) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب....
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، (حَكِيمٌ) فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته. وأخبر تعالى أن منهم (مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ) أي: في سبيل الله (مَغْرَمًا) أي: غرامة وخسارة، (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) أي: ينتظر بكم الحوادث والآفات، (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أي: هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: سميع لدعاء عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.
وقوله: (وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) ، هذا هو القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، (أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي: ألا إن ذلك حاصل لهم (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) " انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (4/201-202) .
وقال العلامة السعدي رحمه الله:
" يقول تعالى: (الأعْرَاب) وهم سكان البادية والبراري (أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) من الحاضرة الذين فيهم كفر ونفاق، وذلك لأسباب كثيرة:
منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام، فهم أحرى (وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي، بخلاف الحاضرة، فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، فيحدث لهم - بسبب هذا العلم - تصورات حسنة، وإرادات للخير الذي يعلمون، ما لا يكون في البادية. وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية، ويجالسون أهل الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية، فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية، وإن كان في البادية والحاضرة، كفار ومنافقون، ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة.
ومن ذلك أن الأعراب أحرص على الأموال، وأشح فيها. فمنهم (مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ) من الزكاة والنفقة في سبيل الله وغير ذلك (مَغْرَمًا) أي: يراها خسارة ونقصا، لا يحتسب فيها، ولا يريد بها وجه الله، ولا يكاد يؤديها إلا كرها.
(ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) أي: من عداوتهم للمؤمنين وبغضهم لهم، أنهم يودون وينتظرون فيهم دوائر الدهر، وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم فعليهم دائرة السوء.
وأما المؤمنون فلهم الدائرة الحسنة على أعدائهم، ولهم العقبى الحسنة، (وَاللَّهُ سميع عليم) يعلم نيات العباد وما صدرت عنه الأعمال من إخلاص وغيره.
وليس الأعراب كلهم مذمومين، بل منهم (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فيسلم بذلك من الكفر والنفاق، ويعمل بمقتضى الإيمان. (وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ) أي: يحتسب نفقته، ويقصد بها وجه الله تعالى والقرب منه. (و) يجعلها وسيلة لـ (صَلَوَاتِ الرَّسُولِ) أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: (أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ) تقربهم إلى الله، وتنمي أموالهم، وتحل فيها البركة. (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، ويعم عباده برحمته التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات.
وفي هذه الآية دليل على أن الأعراب كأهل الحاضرة، منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمهم الله على مجرد تعربهم وباديتهم، إنما ذمهم على ترك أوامر الله، وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها: أن الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلظ ويخف بحسب الأحوال.
ومنها: فضيلة العلم، وأن فاقده أقرب إلى الشر ممن يعرفه، لأن الله ذم الأعراب، وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
ومنها: أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم، معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، من أصول الدين وفروعه، كمعرفة حدود الإيمان، والإسلام، والإحسان، والتقوى، والفلاح، والطاعة، والبر، والصلة، والإحسان، والكفر، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والزنا، والخمر، والربا، ونحو ذلك، فإن في معرفتها يُتَمَكَّن من فعلها - إن كانت مأمورا بها، أو تركها إن كانت محظورة، ومن الأمر بها، أو النهي عنها.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنما، ولا تكون مغرما " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (394) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/118)
من هو تبع المذكور في القرآن الكريم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد من فضيلتكم إلقاء بعض الضوء مما ثبت عن تُبع الذي ورد ذكره في الآية: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) والآية (وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وهل كان تبع هذا شخصاً؟ وهل كان موحدًا أم كافرًا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم " تبعا " هذا في موضعين اثنين، في معرض الإخبار عن كفر قومه وذكر ما حل بهم من عذاب الله وسخطه.
قال الله تعالى: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الدخان/37.
وقال سبحانه: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ق/12-14.
وكان تبع هذا ـ كما ذكر المفسرون ـ أحد ملوك اليمن، وكان مشركاً ثم أسلم، وكان يعبد الله على شريعة موسى عليه السلام، وقد توقف نبينا صلى الله عليه وسلم في شأنه، في بادئ الأمر، هل كان رجلاً صالحاً أم لا؟ ثم بعد ذلك نزل عليه الوحي بأنه كان رجلاً صالحاً، فنهانا عن سبه فقال صلى الله عليه وسلم: (لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ) رواه أحمد في " المسند " (37/519) عن سهل بن سعد رضي الله عنه وقال المحققون: حسن لغيره. وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2423) .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره شيئاً من سيرة تبع هذا، فقال:
" كانت حِمْيَر - وهم سبأ - كلما ملك فيهم رجل سموه " تُبَّعًا "، كما يقال: كسرى: لمن ملك الفرس، وقيصر: لمن ملك الروم، وفرعون: لمن ملك مصر كافرا، والنجاشي: لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مَصَّر الحيرة، فاتفق أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يَقْرُونه بالليل، فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مُهَاجَرُ نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة، فنهياه عن ذلك أيضًا، وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناية إبراهيم الخليل، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها، وكساها الملاء والوصائل والحبير، ثم كر راجعًا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه السلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه السلام، فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة، وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة، أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر أنه ملك دمشق، وأنه كان إذا استعرض الخيل صُفَّت له من دمشق إلى اليمن.
ثم ساق من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ ولا أدري تبع لعينًا كان أم لا؟ ولا أدري ذو القرنين نبيًّا كان أم ملكا) ، وقال غيره: (أعزيرًا كان نبيًّا أم لا؟) . – رواه أبو داود (4674) -
وكأنه - والله أعلم - كان كافرًا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجُرهُميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة، عن أبي بن كعب، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس، وكعب الأحبار، وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضًا، وهو أثبت وأكبر وأعلم.
وكذا روى قصته وهب بن مُنَبِّه، ومحمد بن إسحاق في السيرة، كما هو مشهور فيها.
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة " تُبَّع " هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن " تُبَّعًا " هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما مات عادوا بعده إلى عبادة الأصنام والنيران، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ.
وقال سعيد بن جبير: كسا " تُبَّعٌ " الكعبة، وكان سعيد ينهى عن سبه.
و" تُبَّع " هذا هو تُبَّع الأوسط، واسمه أسعد أبو كُرَيْب بن مَلْكيكرب اليماني، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة عام، وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مُهَاجَرُ نبي في الزمان اسمه أحمد قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة، وكانوا يتوارثونه ويروونه خلفًا عن سلف، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو:
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّه ... رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَم ...
فَلَو مُدَّ عُمْري إلى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزيرا له وابن عَم ...
وَجَاهَدْتُ بالسَّيفِ أعْدَاءَهُ ... وَفرَّجتُ عَنْ صَدْرِه كُلَّ غَم ...
وذكر ابن أبي الدنيا أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام، فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: " هذا قبر حبي ولميس – وروي: حبي وتماضر- ابنتي " تُبَّع "، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئًا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
قال قتادة: ذكر لنا أن كعبًا كان يقول في " تُبَّع ": نُعِت نَعْت الرجل الصالح، ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، قال: وكانت عائشة تقول: لا تسبوا " تُبَّعًا "؛ فإنه قد كان رجلا صالحًا " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (7/256-259) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/119)
تفسير قوله تعالى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما سبب نزول الآية في القرآن الكريم: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) حيث إن هناك من يعللها بأن شرب الخمر يجوز بعد الصلاة.. وأستغفر الله العظيم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية تمثل مرحلة من مراحل التشريع الإسلامي في التدرج في تحريم الخمر، فكان التحريم فيها مؤقتاً بوقت الصلاة، وكانوا يشربونها في غير أوقات الصلاة، ثم نزل بعد ذلك التحريم النهائي والقطعي للخمر.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه وألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتا، فنزل في شأنه أولا قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) البقرة/219، فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه، حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئا إثمه أكبر من نفعه.
ثم نزل ثانيا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء/43، فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات، وهي أوقات الصلوات.
ثم نزل ثالثا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) المائدة/90-92.
فكان في هذه الآيات المنع من الخمر منها باتا في جميع الأوقات، بعد أن هيئت النفوس، ثم مرنت على المنع منه في بعض الأوقات" انتهى.
" تفسير القرآن "
http://www.ibnothaimeen.com/all/books/article_16804.shtml
وقد دل على وقوع هذا التدرج في التشريع أحاديث كثيرة:
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) الْآيَةَ، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) ، فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُنَادِي: أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا) رواه أبو داود (3670) وصححه الألباني في صحيح أبو داود.
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (حُرِّمَتْ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّسُ مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، إِنَّمَا قَالَ: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) . وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ مِنْ الْأَيَّامِ صَلَّى رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَمَّ أَصْحَابَهُ فِي الْمَغْرِبِ خَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، وَكَانَ النَّاسُ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُفِيقٌ. ثُمَّ أُنْزِلَتْ آيَةٌ أَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَقَالُوا انْتَهَيْنَا رَبَّنَا) رواه أحمد في " المسند " (14/267) وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة.
وقد انعقد إجماع الأمة إجماعاً قطعياً على تحريم الخمر، وأن شربها من كبائر الذنوب، وأن شاربها تقام عليه العقوبة الشرعية في الدنيا وهي: الحد.
وعلى هذا، فالآية المسؤول عنها، هي مرحلة من مراحل تحريم شرب الخمر، وليست هي المرحلة النهائية التي استقر عليها الحكم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/120)
معنى قوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى الآية: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لأهل العلم في تفسير هذه الآية قولان مشهوران:
القول الأول:
أن المعني: لا تنس نصيبك مما أباح الله لك فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقا.
"تفسير ابن كثير" (6/253) .
وهذا قول الحسن وقتادة وابن جريج.
وقد سئل الإمام مَالِكٌ رحمه الله عَنْ هذه الآية فَقَالَ: (أَنْ يَعِيشَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ غَيْرَ مُضَيِّقٍ عَلَيْهِ فِي رَأْيٍ) انتهى.
"المنتقى" (4 / 302) .
ويؤيده قوله تعالى قبلها: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، ولا تنس مع ذلك نصيبك من الدنيا.
فلا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يضر دينك، ولا يضر بآخرتك.
راجع: "تفسير الطبري" (19 / 625) - "تفسير ابن كثير" (6/253) – "زاد المسير" (6/241) - "تفسير السعدي" (ص/623) .
"والإسلام وسط في العمل للدنيا والآخرة، فكل منهما عبادة لله تعالى، وتحقيق لغاية الوجود الإنساني ضمن شروط معينة، بينما تأرجحت المذاهب الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية الذي يظهر في المدنية الغربية الحديثة، وأصبح معبودها هو المال والقوة والرفاهية والرقي المادي - وبين الإزراء بهذا الرقي المادي والمتاع الدنيوي كما هو الشأن في المذاهب التي تدعو إلى الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل الروح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء، أما الإسلام فيقول الله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) البقرة /201، وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) القصص/77 ".
"بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو" (ص/400) .
والقول الثاني:
لا تنس نصيبك من الدنيا بأن تعمل فيها للآخرة.
وهذا القول اختاره أكثر المفسرين، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال الشوكاني:
"قال جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيبُ الإنسان: عمرهُ وعملُه الصالح. قال الزجاج: معناه: لا تنس أن تعمل لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته" انتهى.
"فتح القدير" (4/266) .
وعن مجاهد قال: عمرك تعمل فيه لآخرتك. "تفسير ابن أبى حاتم" (9 / 3010) .
وقال مجاهد أيضا: لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة.
"تفسير البغوي" (6 / 221) .
وقال عون بن عبد الله: إن قوما يضعونها على غير موضعها (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) :
تعمل فيها بطاعة الله.
"تفسير الطبري" (19 / 524) .
وقال الطبري يقول: ولا تترك نصيبك وحظك من الدنيا، أن تأخذ فيها بنصيبك من الآخرة، فتعمل فيه بما ينجيك غدا من عقاب الله.
"تفسير الطبري" (19 / 524) .
وقال القرطبي: "اختلف فيه؛ فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيبُ الإنسان: عمره وعمله الصالح فيها، فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة.
وقال الحسن وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه" انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (13 / 314) .
ولا منافاة بين القولين فالمؤمن لا ينسى نصيبه من الدنيا ـ فيتمتع بها تمتعاً مباحاً، لا يجره إلى الحرام، ويستعين بهذا المباح على طاعة الله تعالى، فهو ترويح عن النفس، واستجماع لنشاطها.
والمؤمن لا ينسى نصيبه من الدنيا، وهو عمله الصالح الذي سيصحبه في قبره، ولهذا أثنى الله تعالى على من يدعو قائلاً: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) البقرة/201.
قال ابن كثير:
" فجمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلّ شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (1/558) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/121)
لا تعارض بين إنجاء الله تعالى أهل نوح عليه السلام وإغراق ولده
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله عز وجل في سورة الأنبياء عن نوح عليه السلام: (فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) ويقول جل وعلا في سورة " الصافات ": (وجعلنا ذريته هم الباقين) ، ولكن يقول الله عن ابن نوح في سورة هود: (فحال بينهما الموج فكان من المغرقين) فكيف يمكن الجمع؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) الأنبياء/76-77.
وقد فسر العلماء قوله تعالى: (فنجيناه وأهله) بأن معنى الأهل ههنا هم جميع أتباع نوح عليه السلام الذين آمنوا به، سواء كانوا من قرابته أو لا.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" (وأهله) أي: الذين آمنوا به كما قال: (وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) هود/40" انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (5/354) .
وقال أبو بكر الجصاص رحمه الله:
" الأهل: اسم يقع على الزوجة، وعلى جميع من يشتمل عليه منزله، وعلى أتباع الرجل وأشياعه , قال الله تعالى: (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ) العنكبوت/33، فكان ذلك على جميع أهل منزله من أولاده وغيرهم , وقال: (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) الشعراء/170، ويقع على من اتبعه في دينه كقوله: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الأنبياء/76، فسمى أتباعه في دينه أهله ; وقال في ابنه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) هود/46، فاسم الأهل يقع على معاني مختلفة" انتهى.
"أحكام القرآن" (2/286) .
ويحتمل أن يكون المراد من أهله هنا أقاربه وزوجته، ولكن يستثنى منهم من دل القرآن على استثنائه، وأنه ليس من الناجين، بل من الهالكين، وقد دل القرآن على استثناء ابنه وامرأته.
قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله:
"قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين، كما قال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ، ومن سبق عليه القول منهم: ابنه المذكور في قوله: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) ، وامرأته المذكورة في قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ) إلى قوله: (ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ) " انتهى.
"أضواء البيان" (4/169) .
وعلى هذا فليس بين الآيات تعارض بوجه من الوجوه.
ولمزيد الفائدة انظر جواب السؤال رقم: (10470) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/122)
الأدب مع الله بإضافة الخير إليه، وإضافة الشر إلى غيره
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى في سورة الكهف (وأما السفينة فأردت أن أعيبها.... وأما الغلام....فأردنا أن يبدلهما ... وأما الجدار.....فأراد ربك أن ... ) والسؤال هو: لماذا ذكر في أمر السفينة على لسان الرجل الصالح أردت ونسب الإرادة إلى نفسه فقط , وفي الحالة الثانية نسبة الإرادة إلى الله عز وجل وإلى نفسه , وفي الحالة الثالثة نسبة الإرادة إلى الله فقط , ثم قال: (وما فعلته عن أمري) ؟ فهل هناك تفسير لهذا الأمر من هذا الوجه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قول الخضر عليه السلام عن السفينة: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) هو من التأدب مع الله تعالى، حيث نسب إرادة العيب إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الله مع أنه هو الذي قدَّره، تأدباً مع ربه سبحانه.
وأما قوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) فالإرادة هنا تخصه هو، وهو نبي، يفعل عن أمر الله، كما قال: (وما فعلته عن أمري) فناسب ضمير الجمع.
قال القرطبي رحمه الله:
" وقال في الغلام: (فأردنا) فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى " انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (11 / 40) .
وأما قوله: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)
فهو جار على الأصل من نسبة الخير إلى الله تعالى.
وقد كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى قوله: (وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) رواه مسلم (771) .
قال النووي:
" قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: فِيهِ الْإِرْشَاد إِلَى الْأَدَب فِي الثَّنَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى , وَمَدْحه بِأَنْ يُضَاف إِلَيْهِ مَحَاسِن الْأُمُور دُون مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَة الْأَدَب " انتهى.
قال ابن القيم:
" الطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب، وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله.
فمنه قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) .
[يعني أنه في الإنعام قال: (أنعمت) وفي الغضب قال: (المغضوب عليهم) ولم يقل: غضبت عليهم] .
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) الشعراء/78-80. فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض قال: (وإذا مرضت) ولم يقل: (أمرضني) وقال: (فهو يشفين) .
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) الجن/10. فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب، وحذفوا فاعل إرادة الشر، وبنوا الفعل للمفعول.
ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة (فأردت أن أعيبها) فأضاف العيب إلى نفسه. وقال في الغلامين: (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) الكهف/82 "
انتهى مختصرا.
"بدائع الفوائد" (2/256) .
" ومثله قوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) الحجرات/7. فنسب هذا التزيين المحبوب إليه، وقال: (زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين ... ) آل عمران/14، فحذف الفاعل المُزَيِّن "
"بدائع الفوائد" (2/440) .
وقال القرطبي رحمه الله:
" أضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب؛ لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقصى ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما
قال تعالى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير " انتهى.
"الجامع لأحكام القرآن" (11 / 39-40) .
وقال ابن كثير في "تفسيره" (6 / 146) :
" وقوله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلَقْه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا " انتهى.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
ورد في سورة الكهف على لسان الرجل الصالح في قصته مع موسى عليه السلام، في قوله تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) إلى قوله تعالى: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)
لاحظت أنه عند السفينة قال: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) وعند ذكر الأبوين المؤمنين: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) وعند ذكر قصة اليتيمين صاحبي الجدار: (فَأَرَادَ رَبُّكَ) فما الفرق بين التعابير الثلاثة؟ وهل ذلك يعني أن للرجل الصالح إرادة في الأمر مع إرادة الله؟
فأجاب:
" الصحيح أن هذا الرجل هو الخضر صاحب موسى عليه الصلاة والسلام، وأنه نبي، وليس مجرد رجل صالح بل الصحيح أنه نبي، ولهذا قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي: بل عن أمر الله سبحانه وتعالى.
وجاء في القصة نفسها في الصحيح أنه قال لموسى: (إنك على علم من علم الله علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت) .
فدل ذلك على أنه من الأنبياء، ولهذا قال: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)
وقال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) والرسول يعلم إرادة الله حيث جاءه الوحي بذلك.
وفي قصة السفينة نسب الأمر إليه (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) هذا والله أعلم لأن الرب سبحانه ينسب إليه الشيء الطيب، والعيب ظاهره ليس من الشيء الطيب، فنسبه إلى نفسه تأدبا مع ربه عز وجل، فقال: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) وهذا عيب يراد منه أن تسلم السفينة حتى لا يأخذها الملك ; لأنه كان يأخذ كل سفينة صالحة سليمة فأراد الخضر أن يعيبها لتسلم من هذا الملك إذا رآها معيبة خاربة تسلم من شره وظلمه، فلما كان ظاهر الأمر لا يناسب ولا يليق إضافته لله نسبه لنفسه فقال: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)
وعند ذكر الأبوين المؤمنين قال: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) كذلك لما كان أمرا طيبا نسبه إلى نفسه؛ لأنه مأمور من جهة الله عز وجل (أردنا) ، وذكر نون الجمع؛ لأنه نبي، والنبي رجل عظيم فناسب أن يقول: (أردنا) ، ولأنه عن أمر الله وعن توجيه الله فناسب أن يقال فيه: (أردنا) ، ولأنه كان عملا طيبا ومناسبا وفيه مصلحة.
ولما كان أمر اليتيمين فيه خير عظيم وصلاح لهما، ومنفعة لهما قال: (فَأَرَادَ رَبُّكَ) فنسب الخير إليه سبحانه وتعالى، وهذا من جنس قول الجن في سورة الجن، حيث قال سبحانه عن الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) الجن/10، فالشر لم يضيفوه إلى الله سبحانه وتعالى، ولما جاء الرشد قالوا: (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) فنسبوا الرشد إلى الله سبحانه وتعالى، لأن الرشد خير فنسبوه إلى الله، وأما الشر فلا ينسب إليه، كما جاء في الحديث الصحيح: (والشر ليس إليك) ، وهذا من الأدب الصالح، من أدب الجن المؤمنين، ومن أدب الخضر عليه الصلاة والسلام " انتهى.
"فتاوى نور على الدرب" (1 /109-111) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/123)
كيف نمتثل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نمتثل هذه الآية ونطبقها في حياتنا، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نزلت هذه الآية تعلم الصحابة رضوان الله عليهم بعض الآداب في تعاملهم مع النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وتحذرهم من التشبه بحال المنافقين الذين لا يراعون خلقاً ولا أدباً.
قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/62.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"هذا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك - أمرهم الله تعالى ألا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته، وأن من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء؛ ولهذا
قال: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم، فليست الأولى بأحق من الآخرة) رواه الترمذي وقال: حسن" انتهى باختصار.
"تفسير القرآن العظيم" (6/88) .
وقال العلامة السعدي رحمه الله:
"هذا إرشاد من الله لعباده المؤمنين، أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر جامع، أي: من ضرورته أو من مصلحته أن يكونوا فيه جميعاً، كالجهاد، والمشاورة، ونحو ذلك من الأمور التي يشترك فيها المؤمنون، فإن المصلحة تقتضي اجتماعهم عليه وعدم تفرقهم، فالمؤمن بالله ورسوله حقاً لا يذهب لأمر من الأمور، لا يرجع لأهله، ولا يذهب لبعض الحوائج التي يشذ بها عنهم إلا بإذن من الرسول أو نائبه من بعده، فجعل موجب الإيمان عدم الذهاب إلا بإذن، ومدحهم على فعلهم هذا، وأدبهم مع رسوله، ووليّ الأمر منهم، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
ولكن هل يأذن لهم أم لا؟ ذكر لإذنه لهم شرطين:
أحدهما: أن يكون لشأن من شئونهم، وشغل من أشغالهم، فأما من يستأذن من غير عذر فلا يؤذن له.
والثاني: أن يشاء الإذن فتقتضيه المصلحة، من دون مضرة بالآذن، قال: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، فإذا كان له عذر واستأذن، فإن كان في قعوده وعدم ذهابه مصلحة برأيه، أو شجاعته، ونحو ذلك، لم يأذن له، ومع هذا إذا استأذن وأذن له بشرطيه، أمر الله رسوله أن يستغفر له، لما عسى أن يكون مقصراً في الاستئذان، ولهذا قال: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُم اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم الذنوب ويرحمهم، بأن جوز لهم الاستئذان مع العذر" انتهى.
"تيسير الكريم الرحمن" (576) .
ثانياً:
أما في زماننا هذا فيمكننا الاستفادة من الآية وامتثالها بطرائق عدة، من أهمّها:
1- الالتزام بأحكام الشريعة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك استئذان معنوي منه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: "فإذا جَعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون مِن لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه وإذنه، يُعرَف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه" انتهى من "إعلام الموقعين" (1/51) .
2- استئذان وليّ الأمر أو المسؤول قبل الانصراف من الأمر الجامع الذي هو من مصالح المسلمين. ولذلك بوب الإمام البخاري في صحيحه بقوله: " باب استئذان الرجل الإمام؛ لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) " انتهى.
وسبق في كلام السعدي رحمه الله أن هذه الآية في حكم الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم ووليّ الأمر.
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (3/155) : "أقيمت الولايات رعاية للمصالح وحفاظا عليها، واستئذان من له الولاية في حدود ولايته أمر لا بد منه؛ لتستقيم الأمور وتحسم الفوضى، وهذا باب واسع، منه: إذا غزا الأمير بالناس لم يحلّ لأحد ممن معه أن يخرج من المعسكر ليحضر
الزاد والعتاد، ولا أن يبارز أحداً من العدو، ولا أن يحدث حدثاً إلا بإذنه؛ لأن الأمير أعرف بحال الناس، وحال العدو، ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو أو طليعة لهم فيأخذوه، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك، ومن كان مع الجيش في الغزو فأراد الجيش أن ينتقل من موقع لآخر، وأراد بعض الجند التخلف لأمر ما، لا يحل لأحد منهم التخلف عن المسير مع الجيش، إلا بإذن. وإذا جمع الإمام أو الأمير أولي الرأي لاستشارتهم في أمر من الأمور، فليس لأحد منهم أن ينصرف بغير استئذان؛ لأنه قد يحتاج إلى رأيه؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ،
والآية ليست خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الولاة خلفاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رعاية المصالح العامة فتنطبق عليه الآية" انتهى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/124)
العلاقة بين آية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) وتنامي نفوذ الشيعة الآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أتعتقد أن هذا الحديث له علاقة بما نمر به هذه الأيام من تنامي نفوذ الشيعة؟ وإذا كان الجواب بلا: فما تفسير هذا الحديث: عن أبي هريرة قال: لمَّا نزلت (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) كان سلمان إلى جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استُبدلوا بنا؟ , قال: فضرب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على منكب سلمان , فقال: (مِن هذا وَقَومِه , والذي نفسي بيده لَوْ أنَّ الدّينَ تَعَلَّقَ بالثُّرَيَّا لَنالَتْهُ رِجالٌ من أهْل فارِس) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذا الحديث رواه الترمذي (3261) ، وفي إسناده مقال، وقد ضعفه كثير من أهل العلم، قال الترمذي بعد روايته له: غريب في إسناده مقال. وقال البغوي في "شرح السنة" (7/261) : غريب. وقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (6/330) : روي من طرق كثيرة لم تبلغ مرتبة الصحة. وقال الشوكاني في "فتح القدير" (5/61) : في إسناده مسلم بن خالد الزنجي، فيه مقال معروف.
ورأى بعض العلماء أن تعدد طرق الحديث يقوي بعضها يعضاً، كالألباني رحمه الله، ولهذا صححه في صحيح الترمذي.
والقطعة الأخيرة من الحديث رواها البخاري (4615) ومسلم (2546) ولفظها: (لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ - أَوْ قَالَ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ - حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ) .
وأما اللفظ الآخر وهو: (لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ) : فقد رواه أحمد في "مسنده" (13/331) وضعفه محققوه، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2054) ، وفيها قوله: "وجملة القول: أن الحديث ضعيف بهذا اللفظ: "العلم"، وإنما الصحيح فيه: "الإيمان"، و "الدين". انتهى.
ثانياً:
هذا الحديث لا يدل على أن أهل فارس أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، وذلك للوجوه التالية:
الحديث في ذاته ضعيف عند كثير من أهل العلم، كما سبق.
على فرض صحة الحديث، فالآية المذكورة فيه وهي قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) المراد منها التخويف فقط، وإلا فلا يوجد من هو أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، ولا مثلهم.
قال القرطبي رحمه الله:
"قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) هو إخبار عن القدرة، وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" انتهى.
" تفسير القرطبي " (18 / 194) .
ج. لم يتفق العلماء والمفسرون على تفسير الآية بهذا الحديث، وأن القوم الذين سيأتون هم من فارس.
قال الماوردي رحمه الله:
" (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنهم أهل اليمن، وهم الأنصار، قاله شريح بن عبيد.
الثاني: أنهم الفرس – وذكر حديث أبي هريرة -.
الثالث: أنهم مَن شاء مِن سائر الناس، قاله مجاهد" انتهى.
" النكت والعيون " (5 / 307، 308) .
3. وعلى فرض أن الآية في الردة، وأن المقصود بهم العرب، وأن القوم الذين سيحلون مكانهم هم " الفرس ": فإنها تحوي علماً غيبيّاً فيها بشارة للمسلمين من أهل الفرس أنه لا يحدث فيهم ردة عن الدِّين، وفيه إشارة لاحتمال وقوعها من غيرهم، وهو ما حصل بالفعل.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
"وأقول: هو يدل على أن " فارس " إذا آمنوا: لا يرتدون، وهو من دلائل نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة، فيما حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم" انتهى.
" التحرير والتنوير " (26 / 139) .
وعلى هذا؛ فلا تعلق للآية ولا الحديث بانتشار الرافضة في الأرض؛ لأن الكلام عن الفرس المسلمين، والرافضة الفرس ليسوا منهم.
فإما أن يقال: لم يحصل تولي عموماً لا عن الطاعة، ولا عن النفقة، فلم يحصل استبدال، أو يقال: حصل التولي من بعض العرب فجاء الله تعالى بالبديل من مسلمي الفرس، فخدموا دين الله تعالى، وساهموا في نشره، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عِياناً، فإنه وُجد منهم – أي: من الفرس - من اشتُهر ذِكرُه من حفَّاظ الآثار، والعناية بها، ما لم يشاركهم فيه كثيرٌ من أحدٍ غيرهم" انتهى.
" فتح الباري " (8 / 643) .
ولمعرفة بعض عقائد الشيعة الروافض التي خالفوا بها المسلمين انظر جواب السؤال رقم (45563) و (118101) و (60046) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/125)
تفسير الإمام الشافعي لقوله تعالى ذلك أدنى ألا تعولوا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مدى صحة حديث (تزوجوا الولود الودود) ، وعن تفسير الشافعي لقوله تعالى في سورة النساء (ذلك أدنى ألا تعولوا) ، قال في تفسيره: أي لا تكثر عيالكم. كيف يجمع بين الحديث والتفسير إذا كان الحديث صحيحا؟ وجزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
وردت هذه الآية في شأن اليتيمة تكون في حجر وليها، ثم يرغب في نكاحها، من غير أن يعطيها مهر مثلها. قال الله تعالى:
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) النساء /3.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية:
" إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه.
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن كما قال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) النساء/129، فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (2/208-212) .
ثانيا:
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا) ، على قولين:
القول الأول: ذلك أدنى ألا تظلموا وتجوروا، وهذا قول جماهير المفسرين من الصحابة والتابعين والعلماء المحققين. روي ذلك عن وروى عن ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك وأبي رَزِين والنَّخعي، والشَّعْبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حَيَّان وغيرهم.
انظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/13) ، تفسير ابن كثير (2/213) .
وهذا التفسير المروي عن جمهور السلف والعلماء، قد اختاره أيضا غير واحد من المحققين.
ينظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (32/70-71) ، " تفسير القرآن العظيم " (2/212) .
قال الطحاوي رحمه الله:
" ولا نعلمه روي عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويلها غير هذا القول، وقد روي عن غير واحد من التابعين في تأويلها مثل ذلك أيضا ".
انتهى. " شرح مشكل الآثار" (14/429) .
القول الثاني: ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم. قال الإمام الشافعي رحمه الله:
" أَنْ لَا يَكْثُرَ من تَعُولُونَ إذَا اقْتَصَرَ الْمَرْءُ على وَاحِدَةٍ، وَإِنْ أَبَاحَ له أَكْثَرَ منها " انتهى.
الأم، للشافعي (6/275) ط دار الوفاء، وانظر: أحكام القرآن للشافعي، جمع البيهقي (1/274) .
وروي هذا القول أيضا عن سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم. انظر: تفسير ابن كثير (2/212) .
وهذا القول الثاني، وإن كان خلاف المشهور في تفسيرها، وخلاف المعنى المتبادر منها، حتى صرح بعض أهل العلم بتغليطه، وأنه لا أصل له في اللغة؛ فقد انتصر لصحته في اللة غير واحد من أهل العلم، وصرح بعضهم بأنه لا تنافي بينه وبين القول الأول.
قال الإمام أبو منصور الأزهري رحمه الله:
" قال أكثر أهل التفسير: معناه: ذلك أقرب ألا تجوروا وتميلوا. وروى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله (ذلك أدنى ألا تعولوا) : أي أدنى ألا يكثر عيالكم.
قلت: وإلى هذا القول ذهب الشافعي، فيما أخبرني عبد الملك عن الربيع عنه.
قلت: والمعروف في كلام العرب: عال الرجل يعول، إذا جار، وأعال يُعيل إذا كثر عياله. " وقد روى أبو عمر عن أحمد بن يحيى عن سَلَمة عن الفراء، أن الكسائي قال: عال الرجل يَعيل: إذا افتقر، وأعال الرجل: إذا كثر عياله. قال الكسائي: ومن العرب الفصحاء من يقول: عال يعول: إذا كثر عياله.
قلت: وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي في تفسير الآية، لأن الكسائي لا يحكى عن العرب إلاّ ما حفظه وضبطه. وقول الشافعي نفسه حجَّة؛ لأنه عربيّ اللسان فصيح اللهجة، وقد اعترض عليه بعض المتحذلقين فخطَّأه؛ وقد عجل ولم يتثبت فيما قال. ولا يجوز للحضريّ أن يعجل إلى إنكار مالا يعرفه من لغات العرب " انتهى. "تهذيب اللغة" (3/194-195) .
وقال الزمخشري في تفسيره:
" والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله..، فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب.
وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا..، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العيِّ، من كلام الشافعي» شاهداً بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقاً وأساليب. فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات.
فإن قلت: كيف يَقِل عيال من تَسَرِّى، وفي السرائر نحو ما في المهائر [أي: الحرائر] ؟
قلت: ليس كذلك، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل، بخلاف التسرِّي، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظِنَّة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. " انتهى. "الكشاف" (1/469) .
وينظر أيضا: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري (352) ، رد الانتقاد على ألفاظ الشافعي، للبيهقي (115-119) وحواشي محققه، أضواء البيان، للشنقيطي (1/317-318) .
ثالثا:
بناء على ما سبق فلا إشكال بين الآية السابقة، والأحاديث الصحيحة التي تدل على استحباب تكثير النسل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ) رواه أبو داود (رقم/2050) وصححه ابن حجر في " فتح الباري " (9/13) ، والشيخ الألباني في " صحيح أبي داود ". فعلى القول المشهور الذي ذهب إليه الجمهور: لا إشكال ولا تعارض؛ وإنما المراد: الاحتياط للعدل بين الزوجات، أو الاقتصار على واحدة إذا خاف الظلم.
وقد ذكر ابن القيم هذا الاستشكال الظاهري بعد أن استعرض مجموعة من الأحاديث التي تدل على فضل الأولاد والأبناء، ثم أجاب عن الاستشكال المبني على تفسير الإمام الشافعي من عشرة أوجه، أهمها:
" يتعين الأول – يعني تفسير جماهير العلماء للآية وليس تفسير الشافعي - لوجوه:
أحدها: أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يُعرف سواه، ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي، وسائر أهل اللغة على خلافه.
الثاني: أنه مروي عن عائشة وابن عباس، ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين.
الثالث: أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة ترد هذا التفسير.
الرابع: أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون الظلم والجور فيه إلى غيره، فإنه قال في أولها: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى، وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ، وأباح لهم منه، ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن فقال: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) ، ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور، وهذا صريح في المقصود.
الخامس: أنه من الممتنع أن يقال لهم: إن خفتم ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر فإنه أدنى أن لا تكثر عيالكم.
السادس: أنه سبحانه قال: (فإن خفتم ألا تعدلوا) ولم يقل: (وإن خفتم ألا تفتقروا أو تحتاجوا) ، ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك.
انتهى ملخصا من " تحفة المودود بأحكام المولود " (ص/17-20) .
وعلى القول الثاني في تفسير الآية: يكون الأمر في الحديث عاما: أن يسعى المسلم إلى تكثير النسل، وتكثير سواد المسلمين بالزوجة الولود؛ لكن إن خاف أن يغلب على حق أهله، أو يعجز عن الوفاء بكسبهم المشروع، ونفقتهم الواجبة: فله أن يقتصر على واحدة من الزوجات، وما عنده من الإماء؛ ليكون ذلك أخف لحمله، وأيسر لمؤونته، وأبعد له عن العجز عن مقام الرعاية والكفاية؛ وهذا كما أن الشرع أرشد إلى النكاح إرشادا عاما، ثم إنه أمر من عجز عن ذلك بالعفة وأسبابها، حتى ييسر الله له أمر زواجه. قال تعالى:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) النور/32-33.
ونحو ذلك ما رواه البخاري (4678) ومسلم (2485) عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/126)
كيف عرفت الملائكة أن البشر سيفسدون في الأرض؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل خلق الله البشر أولا أم الملائكة؟ وإذا كان الملائكة، فكيف عرفوا أن البشر سيفسدون في الأرض كما في سورة البقره آيه 30؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا شك أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق آدم عليه السلام، فقد أخبرنا الله تعالى في أكثر من موضع من كتابه العزيز أنه أعلم الملائكة بأنه سيخلق بشرا من طين، ثم أمرهم بالسجود له حين يتم خلقه، وذلك دليل ظاهر على أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق البشر.
يقول الله تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ص/71-72
ثانيا:
وقد أخبر سبحانه وتعالى في سورة البقرة عن حواره مع الملائكة قبل خلق آدم، وذلك دليل ظاهر أيضا على وجودهم قبل آدم عليه السلام.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة/30
ولكن كيف عرفت الملائكة أن الخليفة الجديد في الأرض سيفسد فيها ويسفك الدماء؟
اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال:
القول الأول: أنهم علموا ذلك بإعلام الله تعالى لهم، وإن كان ذلك لم يذكر في السياق.
قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة.
كما في "زاد المسير" لابن الجوزي (1/60)
وهو قول أكثر المفسرين كما قاله ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/382)
يقول ابن القيم رحمه الله: " وفي هذا دلالة على أن الله قد كان أعلمهم أن بني آدم سيفسدون في الأرض، وإلا فكيف كانوا يقولون ما لا يعلمون، والله تعالى يقول وقوله الحق (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون) ، والملائكة لا تقول ولا تعمل إلا بما تؤمر به لا غير، قال الله تعالى (ويفعلون ما يؤمرون) " انتهى. "مفتاح دار السعادة" (1/12) .
القول الثاني: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم على الأرض، وهم الجن، فقد سبقوا الإنسان في الأرض وكانوا يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فعلمت الملائكة أن البشر سيكونون على حال من سبقهم.
روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل. انظر "زاد المسير" (1/61)
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) يرجِّحُ أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما فعل من قبلهم " انتهى. "تفسير القرآن الكريم" (1/آية 30) .
القول الثالث: أنهم فهموا ذلك من الطبيعة البشرية.
وهو الذي يبدو من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" (6/149)
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور: " وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف، بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية، إما بوصف الله لهم هذا الخليفة، أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه، فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب، وعن الامتثال الى العصيان ... ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات.. "
قال: " وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه.. " انتهى مختصرا من "التحرير والتنوير" (1/230) .
القول الرابع: أنهم فهموا من قوله تعالى (خليفة) أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (1/302) .
والمعنى: أنه إذا كان هناك خليفة يحكم بين الناس في المظالم، فإنه يلزم من ذلك أن هؤلاء الناس تقع منهم المظالم.
وأنت ترى أخي السائل أنها أقوال مختلفة ليس على أي منها نصوص صريحة من الكتاب والسنة، إنما هي استنباطات لأهل العلم، قد تصيب وقد تخطئ، وإنما أراد الله تعالى أن نتعلم ما في هذه القصة من العبرة والعظة، وما كرم الله تعالى به الإنسان حين خلق آدم فأسجد له الملائكة، وما سوى ذلك من تفاصيل القصة، لا يضر الجهل بها، لذلك لم يأت الكتاب ببيانها، والله تعالى أعلم بالصواب.
تنبيه: ليس في هذا السؤال من الملائكة المكرمين لرب العزة سبحانه، عن خلق آدم وذريته اعتراض على الحكمة، أو معارضة لله سبحانه، فإنهم منزهون عن ذلك. قال ابن كثير رحمه الله: وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين , وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه ,.. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك؛ يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟!! فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي نصلي لك ... ولا يصدر منا شيء من ذلك, وهلا وقع الاقتصار علينا؟
قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: {إني أعلم مالا تعلمون} أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف، على المفاسد التي ذكرتموها، مالا تعلمون أنتم؛ فإني جاعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم..) تفسير ابن كثير (1/69) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/127)
الذي يقبض الأرواح ملك واحد أم ملائكة؟.
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك بعض المسيحيين الذين يقولون بوجود بعض المتناقضات في القرآن، ويدّعون بأن القرآن يقول بأن ملك الموت واحد (سورة السجدة: 11) ثم يأتي مرة أخرى ليقول أن ملائكة يتوفون الناس (سورة محمد: 27) . فهل يمكن مساعدتي في الرد على هذا، إنني أعلم أنه لا يوجد متناقضات في القرآن لذا أخبروني ما هو الخطأ في فكرتهم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
أولا:
لا شك في أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كتاب محكم لا اختلاف فيه ولا تناقض.
وما يزعمه البعض من وجود تناقض في القرآن فبسبب قصور علمهم وقلة اطلاعهم وتدبرهم لكلام الله.
قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء/82]
قال ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه، ولا اضطراب، ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق ". انتهى من " تفسير القرآن العظيم" (1/529) .
ثانياً:
جاء في بعض الآيات أن الذي يقبض أرواح الناس ملَك واحد، كما في قوله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة/11]
ولم يثبت في حديث صحيح تسميته بـ "عزرائيل" كما هو مشهور عند كثير من الناس.
وجاء في آيات أخرى أن الناس تتوفاهم ملائكة لا ملَك واحد، كقوله تعالى: (إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ) [النساء: 97] ا.
وقوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [محمد: 27] وقوله تعالى: (حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61] إلى غير ذلك من الآيات.
ولا تعارض بين هذه الآيات ولا تناقض بحمد الله تعالى، وذلك لأن الموكل بقبض الأرواح ملك واحد، إلا أن له أعواناً يعملون بأمره ويعينونه على ذلك.
ومما يدل على وجود أعوان لملك الموت ما رواه الإمام أحمد في مسنده (18063) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ..
فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
فَيَصْعَدُونَ بِهَا ... ) الخ، والحديث صححه ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 214) ، والألباني في "أحكام الجنائز" صـ 159.
فهذا الحديث يدل على أن مع ملك الموت ملائكة آخرين يأخذون من يده الروح حين يأخذها من بدن الميت.
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: " إن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت، فكيف قيل: (توفته رسلنا) ، و"الرسل" جملة، وهو واحد؟
قيل: جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت.
فيكون" التوفي" مضافًا إلى ملك الموت، كما يضاف قتلُ من قتله أعوانُ السلطان، وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان، إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده ". انتهى من تفسير الطبري (11/410) بتصرف يسير.
وقال الإمام أبو المظفر السمعاني:
" فإن قيل: قد قال في آية أخرى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) السجدة /11، وقال هاهنا: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) الأنعام /61، فكيف وجه الجمع؟
قيل: قال إبراهيم النخعي: لملك الموت أعوان من الملائكة، يتوفَّوْن عن أمره؛ فهو معنى قوله: (توفته رسلنا) ، ويكون ملك الموت هو المتوفى في الحقيقة؛ لأنهم يصدرون عن أمره، ولذلك نسب الفعل إليه في تلك الآية. وقيل: معناه: ذكر الواحد بلفظ الجمع، والمراد به: ملك الموت. "
وقال القرطبي:
" والتوفي تارة يُضاف إلى ملك الموت، كما قال: (قل يتوفاكم ملك الموت) .
وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك، كما في قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) .
وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة، كما قال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) " انتهى من " تفسير القرطبي" (7/7) .
قال الشيخ ابن عثيمين: " إن ملك الموت له أعوان يعينونه على إخراج الروح من الجسد حتى يوصلوها إلى الحلقوم، فإذا أوصلوها إلى الحلقوم قبضها ملك الموت.
وقد أضاف الله تعالى الوفاة إلى نفسه، وإلى رسله أي: الملائكة، وإلى ملك واحد ... ولا معارضة بين هذه الآيات، فأضافه الله إلى نفسه؛ لأنه واقع بأمره، وأضافه إلى الملائكة؛ لأنهم أعوان لملك الموت، وأضافه إلى ملك الموت؛ لأنه هو الذي تولى قبضها من البدن ". انتهى " الشرح الممتع" (5/ 114)
وينظر: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن (6/291) .
ثالثاً:
ننصحك أخي السائل بالابتعاد عن سماع الشبه، خاصة مع عدم وجود القدرة العلمية على ردها، والانشغال بما ينفعك من العلم النافع والعمل الصالح.
فالاستماع إلى الشبهات من أعظم الفتن التي تضر العبد في دينه , ولذلك كان السلف ينهون عن الاستماع لأهل الأهواء والبِدع، فكيف بسماع شبه غير المسلمين!!
وللوقوف على خطر الاستماع للشبهات يمكنك الرجوع إلى جواب السؤال (97726) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/128)
تفسير قوله تعالى في وصف الشمس والقمر أنهما دائبان وأنهما في فلك يسبحون
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد في القرآن قول الله تعالى: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار) ، وقوله تعالى في سورة " يس ": (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) فما المقصود بـ " فلك " و " دائبين "؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
هاتان الآيتان من الآيات التي تتحدث عن المظاهر الكونية الباهرة التي تدل على سعة خلق الله تعالى وعظمته، الآية الأولى رقم/33 في سورة الرعد يقول الله تعالى فيها: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)
وقد ذكر المفسرون لوصف دؤوب الشمس والقمر معاني عدة:
أشهرها دوام المسير في هذا الكون الفسيح من غير توقف.
ومنها: دوام طاعة الله تعالى والافتقار إلى تدبيره عز وجل.
ومنها: دوام نفعهما واستمرار فوائدهما على هذا الكون.
يقول الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله:
" يتعاقبان عليكم أيها الناس بالليل والنهار، لصلاح أنفسكم ومعاشكم (دَائِبَيْنِ) في اختلافهما عليكم. وقيل: معناه: أنهما دائبان في طاعة الله ... عن ابن عباس، في قوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) قال: دءوبهما في طاعة الله " انتهى.
" جامع البيان " (16/13-14)
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" أي: يسيران لا يقران ليلا ولا نهارا " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (4/511)
ويقول الرازي رحمه الله:
" وقوله: (دَائِبَينَ) معنى الدؤوب في اللغة: مرور الشيء في العمل على عادة مطردة، يقال دأب يدأب دأباً ودؤوباً، قال المفسرون: قوله (دَائِبَينَ) معناه: يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان، فإن الشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية " انتهى.
" مفاتيح الغيب " (19/101)
ثانيا:
وأما الآية الثانية التي يصف الرب فيها عز وجل الشمس والقمر بالسباحة في الفلك فقد جاء ذلك في موضعين من القرآن الكريم:
الأول: قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الأنبياء/33
والثاني: قوله عز وجل: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يس/40
وحاصل تفسير العلماء لهذه الآية هو أنها تصف النجوم والشمس والقمر والأفلاك بالدوران والحركة والسير في الفضاء الفسيح دورانا محكما موزونا.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي: يدورون. قال ابن عباس: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة. وكذا قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) الأنعام/96. " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (5/341)
ويقول العلامة القرطبي رحمه الله:
" (كلٌّ) يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار (في فلك يسبحون) أي: يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (11/286)
أما تقييد الآيات جريان وسباحة أجرام السماء بكونها (في فلك) ، فقد اختلف العلماء في تفسير شكله وهيئته وحقيقته على أقوال كثيرة، لكنها تتفق في النهاية على المعنى المقصود، وهو أن كل أجرام السماء من نجوم وشمس وقمر تجري وتسبح في فلك خاص، أي: مدار خاص، ونطاق معين، لا تصطدم بغيرها، ولا تختل مسيرتها.
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
" والفلك: فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية، ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب.
ويغلب على ظني أنه من مصطلحات القرآن، ومنه أخذه علماء الإسلام، وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب، وخاصة سير الشمس، وسير القمر.
والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر، وهو الموج المستدير، بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد، والأصل الأصيل في ذلك كله " فَلْكة المِغْزَل " بفتح الفاء وسكون اللام، وهي خشبة مستديرة في أعلاها مسمار مثني، يدخل فيه الغزل، ويدار لينفتل الغزل " انتهى.
" التحرير والتنوير " (17/45)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(3/129)
الفرق بين الكبائر والصغائر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من الممكن أن تبينوا لي الفرق بين الكبائر والصغائر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن القيم رحمه الله: " الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار " انتهى.
"مدارج السالكين" (1/315)
فمتى عرفنا الكبائر عرفنا الصغائر.
وقد تعددت أقوال العلماء في تعريف الكبيرة بعد التسليم بعدم إرادة الحصر في السبع:
قال الحافظ:
" قِيلَ: الكبيرة مَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِصَاحِبِهِ بِنَصِّ كِتَاب أَوْ سُنَّة.
وَقَالَ اِبْن عَبْد السَّلَام: لَمْ أَقِف عَلَى ضَابِط الْكَبِيرَة يَعْنِي يَسْلَم مِنْ الِاعْتِرَاض , قَالَ: وَالْأَوْلَى ضَبْطُهَا بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا إِشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا , قَالَ وَضَبَطَهَا بَعْضهمْ بِكُلِّ ذَنْب قُرِنَ بِهِ وَعِيد أَوْ لَعْن.
وَقَالَ اِبْن الصَّلَاح: لَهَا أَمَارَات مِنْهَا إِيجَاب الْحَدّ , وَمِنْهَا الْإِيعَاد عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ وَنَحْوهَا فِي الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة , وَمِنْهَا وَصْف صَاحِبهَا بِالْفِسْقِ , وَمِنْهَا اللَّعْن.
وَقَدْ أَخْرَجَ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ قَالَ " كُلّ ذَنْب نَسَبَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى النَّار فَهُوَ كَبِيرَة "
وَمِنْ أَحْسَنِ التَّعَارِيفِ قَوْلُ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم " كُلّ ذَنْب أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِنَصِّ كِتَاب أَوْ سُنَّة أَوْ إِجْمَاع أَنَّهُ كَبِيرَة أَوْ عَظِيم أَوْ أُخْبِرَ فِيهِ بِشِدَّةِ الْعِقَاب أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحَدّ أَوْ شُدِّدَ النَّكِير عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيرَة ".
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي تَتَبُّع مَا وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيد أَوْ اللَّعْن أَوْ الْفِسْق مِنْ الْقُرْآن أَوْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَالْحَسَنَة وَيُضَمّ إِلَى مَا وَرَدَ فِيهِ التَّنْصِيص فِي الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الصِّحَاح وَالْحِسَان عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَة.
وَقَالَ الْحَلِيمِيّ فِي " الْمِنْهَاج " مَا مِنْ ذَنْب إِلَّا وَفِيهِ صَغِيرَة وَكَبِيرَة , وَقَدْ تَنْقَلِب الصَّغِيرَةُ كَبِيرَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمّ إِلَيْهَا , وَتَنْقَلِب الْكَبِيرَةُ فَاحِشَةً كَذَلِكَ , كَقَتْلِ النَّفْس بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ كَبِيرَة , فَإِنْ قَتَلَ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا أَوْ ذَا رَحِمٍ أَوْ بِالْحَرَمِ أَوْ بِالشَّهْرِ الْحَرَام فَهُوَ فَاحِشَة. وَالزِّنَا كَبِيرَةٌ , فَإِنْ كَانَ بِحَلِيلَةِ الْجَار أَوْ بِذَاتِ رَحِم أَوْ فِي شَهْر رَمَضَان أَوْ فِي الْحَرَم فَهُوَ فَاحِشَة.
وَسَرِقَة مَا دُون النِّصَاب صَغِيرَة , فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوق مِنْهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ وَأَفْضَى بِهِ عَدَمُهُ إِلَى الضَّعْف فَهُوَ كَبِيرَة "
انتهى كلام الحافظ ملخصا.
وينظر: "تفسير ابن كثير" (2/285-286)
وَسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. هَلْ لَهَا حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ؟
فأجاب:
" أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ: أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ: حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ أَيْ " وَعِيدٌ خَاصٌّ " كَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ فِيهِ: مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ " انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (11/650- 652) ، وينظر: "مجموع الفتاوى" (11/658-659) ، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/315-327) في بحث له نفيس.
وقد جاء ما يفيد بظاهره حصر الكبائر في سبع:
فروى البخاري (2767) ومسلم (89) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) .
وروى الطبراني في "المعجم الأوسط" (5709) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكبائر سبع: الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقذف المحصنة والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة) وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4606)
إلا أن الحصر في سبع غير مراد.
قال الحافظ في الفتح:
" أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قِيلَ لَهُ الْكَبَائِر سَبْع فَقَالَ: هُنَّ أَكْثَرُ مِنْ سَبْع وَسَبْع , وَفِي رِوَايَة عَنْهُ هِيَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ , وَفِي رِوَايَة إِلَى السَّبْعمِائَةِ , وَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى الْمُبَالَغَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى سَبْع " انتهى.
وها هنا ثلاثة أمور ينبغي الالتفات إليها والتفطن لها:
أولها: أن الإصرار على الصغيرة قد يجعلها كبيرة.
قالَ الْقَرَافِيُّ: الصَّغِيرَةُ لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَلَا تُوجِبُ فُسُوقًا , إلَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَيْهَا فَتَكُونُ كَبِيرَةً. . . فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ , وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ كَمَا قَالَ السَّلَفُ. . . وَيَعْنُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا , لَا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَزْمِ " انتهى.
"الموسوعة الفقهية" (34/156)
وقال ابن القيم رحمه الله:
" الإصرار على الصغيرة قد يساوي إثمه إثم الكبيرة أو يربى عليها " انتهى.
"إغاثة اللهفان" (2/151)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" إذا أصر الإنسان على الصغيرة وصار هذا ديدنه صارت كبيرة بالإصرار لا بالفعل، مكالمة المرأة على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار؛ لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله عز وجل، وأنه غير مبال بما حرم الله " انتهى بمعناه.
"لقاء الباب المفتوح" (172/5)
ثانيها:
أن الاستهانة بالصغائر مهلكة؛ فقد روى أحمد (3808) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ) .
وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: (كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) . صححه الألباني في "صحيح الترغيب" (2470)
راجع إجابة السؤال رقم (22422)
واجتناب الكبائر مكفرة للصغائر.
أنه لا يخلو أحد من ذنب يأتيه في عيشه، إما بينه وبين ربه، وإما بينه وبين الخلق، فليجتهد أن يطهر صحيفته دائما، وليعلم أنه إذا اتقى المهلكات، والكبائر والموبقات، غفر الله له ما بين ذلك من اللمم. قال الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) النساء/31، وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) النجم/32
قال الحافظ ابن حجر رحمه اله:
" قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِاللَّمَمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه فِي قَوْله تَعَالَى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فَيُؤْخَذ مِنْ الْآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّمَم مِنْ الصَّغَائِر وَأَنَّهُ يُكَفَّر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر "
انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/130)
مختصر قصة أهل الكهف
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أتحدث مع والدي، فأخبرني أن هناك سورة في القرآن تتحدث عن أهل الكهف، وأن لها فضلاً خاصاً. فهل بالإمكان أن تبينوا لي ما قصة أهل الكهف، وما فضل هذه السورة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سورة الكهف سورة مكية، عدد آياتها (110) آيات، والكهف هو الغار في الجبل.
وقد تضمنت هذه السورة قصصا أربعة، وهي قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى والخضر، وقصة ذي القرنين.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضلها أنه (مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ) رواه مسلم (809) .
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلاَبِىِّ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ فَقَالَ: (إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ) رواه أبو داود (رقم/4321) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وورد في فضل قراءتها يوم الجمعة أيضا أحاديث أخر يمكن مراجعتها في الجواب رقم: (10700)
وخلاصة قصة أصحاب الكهف أنها قصة شبان (فتية) فروا من قومهم خشية الفتنة في دينهم. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في شأنهم:
" قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم: كانوا في زمن ملك يقال له دقيانوس، وكانوا من أبناء الأكابر، واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له " انتهى.
" البداية والنهاية " (2/135)
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
" وهم فتية وفقهم الله، وألهمهم الإيمان، وعرفوا ربهم، وأنكروا ما عليه قومهم من عبادة الأوثان، وقاموا بين أظهرهم معلنين فيما بينهم عقيدتهم، خائفين من سطوة قومهم، فقالوا:
{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي: إن دعونا غيره.
{شَطَطًا} أي: زورا وبهتانا وظلما.
{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الكهف /14 و 15.
فلما اتفقوا على هذا الأمر، وعرفوا أنهم لا يمكنهم إظهار ذلك لقومهم، سألوا الله أن يسهل أمرهم فقالوا: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} الكهف /10.
فأووا إلى غار يسره الله غاية التيسير، واسع الفجوة، بابه نحو الشمال لا تدخله الشمس، لا في طلوعها ولا في غروبها، فناموا في كهفهم بحفظ الله ورعايته ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا، وقد ضرب الله عليهم نطاقا من الرعب على قربهم من مدينة قومهم، ثم إنه في الغار تولى حفظهم بقوله: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} الكهف /18؛ وذلك لئلا تُبلي الأرضُ أجسادهم، ثم أيقظهم بعد هذه المدة الطويلة: {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} ، وليقفوا في آخر الأمر على الحقيقة:
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] إلى آخر القصة.
ففيها آيات بينات وفوائد متعددة:
ومنها: أن قصة أصحاب الكهف وإن كانت عجيبة، فليست من أعجب آيات الله؛ فإن لله آيات عجيبة وقصصا فيها عبرة للمعتبرين.
ومنها: أن من أوى إلى الله أواه الله، ولطف به، وجعله سببا لهداية الضالين ; فإن الله لطف بهم في هذه النومة الطويلة، إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من فتنة قومهم وقتلهم، وجعل هذه النومة من آياته التي يستدل بها على كمال قدرة الله، وتنوع إحسانه، وليعلم العباد أن وعد الله حق.
ومنها: الحث على تحصيل العلوم النافعة والمباحثة فيها؛ لأن الله بعثهم لأجل ذلك، وببحثهم، ثم بعلم الناس بحالهم، حصل البرهان والعلم بأن وعد الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
ومنها: الأدب فيمن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه، وأن يقف عند ما يعرف.
ومنها: صحة الوكالة في البيع والشراء، وصحة الشركة في ذلك، لقولهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} .
ومنها: جواز أكل الطيبات، والتخير من الأطعمة ما يلائم الإنسان ويوافقه، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه، لقوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} .
ومنها: الحث [على] التحرز والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان الذي يدرأ عن الإنسان الشر.
ومنها: بيان رغبة هؤلاء الفتية في الدين، وفرارهم من كل فتنة في دينهم، وتركهم لأوطانهم وعوائدهم في الله.
ومنها: ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد الداعية لبغضه وتركه، وأن هذه الطريقة طريقة المؤمنين.
ومنها: أن قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} الكهف /21، فيه دليل على أن هؤلاء القوم الذين بعثوا في زمانهم أناس أهل تدين؛ لأنهم عظموهم هذا التعظيم حتى عزموا على اتخاذ مسجد على كهفهم، وهذا إن كان ممنوعا - وخصوصا في شريعتنا - فالمقصود بيان أن ذلك الخوف العظيم من أهل الكهف وقت إيمانهم ودخولهم في الغار أبدلهم الله به بعد ذلك أمنا وتعظيما من الخلق، وهذه عوائد الله فيمن تحمل المشاق من أجله أن يجعل له العاقبة الحميدة.
ومنها: أن كثرة البحث وطوله في المسائل التي لا أهمية لها لا ينبغي الانهماك به، لقوله:
{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} الكهف /22.
ومنها: أن سؤال من لا علم له في القضية المسئول فيها، أو لا يوثق به: منهي عنه، لقوله:
{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} الكهف/22. " انتهى.
تيسير اللطيف المنان، لابن سعدي (421-424) .
ويمكن مراجعة قصتهم مطولة في كتاب " البداية والنهاية " (2/133-139) للحافظ ابن كثير رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/131)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"هذه الآية عظيمة، تدل على: أن العلماء، وهم العلماء بالله وبدينه وبكتابه العظيم وسنة رسوله الكريم، هؤلاء هم أكمل الناس خشية لله، وأكملهم تقوى لله وطاعة له سبحانه، وعلى رأسهم: الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فمعنى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ) أي الخشية الكاملة من عباده: العلماء، وهم الذين عرفوا ربهم بأسمائه وصفاته وعظيم حقه سبحانه وتعالى، وتبصروا في شريعته، وآمنوا بما عنده من النعيم لمن اتقاه، وما عنده من العذاب لمن عصاه وخالف أمره، فهم لكمال علمهم بالله، وكمال معرفتهم بالحق كانوا أشد الناس خشية لله، وأكثر الناس خوفا من الله وتعظيما له سبحانه وتعالى، وليس معنى الآية: أنه لا يخشى الله إلا العلماء، فإن كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة يخشى الله عز وجل ويخافه سبحانه، لكن الخوف متفاوت، ليسوا على حد سواء، فكلما كان المؤمن أعلم بالله وأفقه في دينه كان خوفه من الله أكثر وخشيته أكمل، وهكذا المؤمنة كلما كانت أعلم بالله وأعلم بصفاته وعظيم حقه كان خوفها من الله أعظم، وكانت خشيتها لله أكمل من غيرها، وكلما قَلَّ العلم وقَلَّت البصيرة قَلَّ الخوف من الله وقَلَّت الخشية له سبحانه، فالناس متفاوتون في هذا حتى العلماء متفاوتون، فكلما كان العالم أعلم بالله، وكلما كان العالم أقوم بحقه وبدينه وأعلم بأسمائه وصفاته كانت خشيته لله أكمل ممن دونه في هذه الصفات، وكلما نقص العلم نقصت الخشية لله، ولكن جميع المؤمنين والمؤمنات كلهم يخشون الله سبحانه وتعالى على حسب علمهم ودرجاتهم في الإيمان؛ ولهذا يقول جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة/7، 8، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الملك/12، وقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن/46، فهم مأجورون على خشيتهم لله، وإن كانوا غير علماء وكانوا من العامة، لكن كمال الخشية يكون للعلماء؛ لكمال بصيرتهم وكمال علمهم بالله، فتكون خشيتهم لله أعظم؛ وبهذا يتضح معنى الآية ويزول ما يتوهم بعض الناس من الإشكال في معناها، والله ولي التوفيق" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/268-270) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/132)
لماذا أمات الله بني إسرائيل بالصاعقة ثم أحياهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان الناس سيموتون جميعهم ثم يحييهم الله جميعا يوم القيامة , فلماذا أمات الله بني إسرائيل بالصاعقة ثم أحياهم مرة أخرى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قصة صعق بني إسرائيل، ثم بعثهم بعد الموت، في موضعين اثنين، وقد جاءا في سياق الحديث عن بني إسرائيل وما أنعم الله به عليهم، وذكر حالهم وما قابلوا تلك النعم بالكفر والجحود والنسيان.
يقول الله تعالى:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة/55-56.
ويقول سبحانه:
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) النساء/153.
فقد كانت الصاعقة عقوبة لهم على جرأتهم على الله، وإصرارهم على التعنت في السؤال، والتكلف في تحقيق أسباب الإيمان، ومكابرتهم رغم كل الآيات والبراهين التي أراهم الله عز وجل، ومع ذلك سألوا الله أن يروه جهرة في الدنيا، وعلقوا إيمانهم بهذه الآية، وقد تعالى جل وعلا عن أن تراه العيون الضعيفة الكليلة في الدنيا، وإنما تراه في الجنة، فعاقبهم بالموت بالصاعقة التي أخذتهم أخذا شديدا، ولكنه سبحانه لحلمه وعفوه وصفحه وتجاوزه عن عباده بعثهم بعد الموت إلى الدنيا، ليعلموا عظيم نعمة الله عليهم، ويشكروه سبحانه على إمهاله لهم، ومنحهم الفرصة مرة أخرى للتوبة والأوبة، فكانت الصاعقة عقوبة لهم، وكان البعث بعد الموت آية ومنحة منه سبحانه ليعتبروا ويذكروا بها، ثم يشكروا نعمة الله تعالى عليهم حق شكره، ولذلك ختم الآية في سورة البقرة بقوله: (لعلكم تشكرون)
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" اذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج.
قال ابن عباس في هذه الآية: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) ، قال: علانية " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (1/264)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى) أي: واذكروا أيضاً يا بني إسرائيل إذ قلتم ... ؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إنعامه على أول الأمة إنعام على آخرها؛ فصح توجيه الخطاب إلى المتأخرين مع أن هذه النعمة على من سبقهم. قوله تعالى: (لن نؤمن لك) أي: لن ننقاد، ولن نصدق، ولن نعترف لك بما جئت به.
قوله تعالى: (فأخذتكم الصاعقة) يعني الموت الذي صعقوا به.
وقوله تعالى: (بعثناكم من بعد موتكم) : هذه نعمة كبيرة عليهم أن الله تعالى أخذهم بهذه العقوبة، ثم بعثهم ليرتدعوا؛ ويكون كفارة لهم؛ ولهذا قال تعالى: (لعلكم تشكرون) أي: تشكرون الله سبحانه وتعالى؛ و " لعل " هنا للتعليل " انتهى باختصار.
" تفسير سورة البقرة " (1/191)
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله:
" وكان ذلك إرهابا لهم وزجرا، ولذلك قال: (بظلمهم) ، والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة، وليس الظلم لمجرد طلب الرؤية؛ لأن موسى قد سأل مثل سؤالهم مرة أخرى: حكاه الله عنه بقوله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) الآية " انتهى.
" التحرير والتنوير " (4/301)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(3/133)
كيف التوفيق بين قوله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وحديث إن ابني هذا سيد
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) وعند البخاري وغيره يقول صلى الله عليه وسلم في حق الإمام الحسن رضي الله عنه: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) سؤالي رعاك الله: هل يصح أن نقول إن الإمام الحسن أو الحسين أبناء النبي صلى الله عليه وسلم لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم؟ أم إنهم يدخلون في عموم قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم. . الآية) فيما يخص النهي عن التبني بشكل عام، ويدخل فيه تبني رجل أحدا ليس من صلبه مباشرة، وإن كان من سلالته وإن نزلت؟ وهل منزلة البنوة التي أثبتها صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور آنفاً حقيقية أم مجازية؟ وفقكم الله، وفتح عليكم من واسع فضله وعلمه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس بين الآية والحديث تعارض والحمد لله، وإنما يقوم التعارض في ذهن بعض السامعين بسبب عدم تمكنهم من تصور مقصود السياق تصوراً تاما.
فالآية الكريمة إنما تتحدث عن شأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بعد أن طلقها زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحريم التبني، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمات ليزيل ما قد يقع في قلوب بعض الناس من إنكار زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبني سابقا، فذكر عز وجل أن التبني باطل، وأنه لا تنبني عليه أحكام أبوة النسب الحقيقي، فقال عز وجل:
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) الأحزاب/37-39.
ومعلوم أنه ولد للنبي صلى الله عليه وسلم أربعة من الأولاد الذكور، وولد له حفيدان اثنان من ابنته فاطمة رضي الله عنهما، وليس هؤلاء الأولاد محل إشكال ولم يدخلوا في النفي أصلا، لأسباب عدة:
1- أن سياق الآيات لا يقصدهم أصلا، بل يقصد نفي وجود أبوة نسب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المسلمين كي لا تنكر قلوبهم زواجه من زينب رضي الله عنها، ولذلك جاءت الآية بلفظ الخطاب فقال: (من رجالكم) ، فلا يدخل فيه أصلا أبناء النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن أبناءه الذكور صلى الله عليه وسلم ماتوا جميعا قبل بلوغ الحلم، وهذا من حكمة الله عز وجل، لما في ذلك من تقرير ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونفي توهم كون النبوة تنتقل بالوراثة بين الأب وأبنائه، وأما الحسن والحسين فهما وإن كانا من أحفاده صلى الله عليه وسلم لكنهما لا ينتسبان إليه من جهة الأبوة، بل ينتسبان إلى أبيهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولذلك كان بقاؤهما أحياء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من حكمة الله عز وجل أيضا، فلم يدَّعِ أحد لهما النبوة بعد جدهما من أمهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعارض مع نفي أبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من رجال المسلمين.
3- ثم إن الآية نفت أبوة النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقية لأحد من المسلمين، وليس الأبوة المجازية، وأبوة الرجل لأحفاده من جهة ابنته أبوة مجازية، بل أبوة النبي صلى الله عليه وسلم لسائر المسلمين أبوة مجازية، وفي تفسير بعض الصحابة لقول الله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم) قال: وهو أب لهم.
وننقل هنا كلام أهل العلم في هذه الآية، وفي بعضه جواب عن التعارض الذي عرض للسائل الكريم:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" وقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) نهى تعالى أن يقال بعد هذا: " زيد بن محمد " أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه صلوات الله عليه وسلامه لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم؛ فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة، فماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا، وكان له من خديجة أربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهم أجمعين، فمات في حياته ثلاث، وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به، صلوات الله وسلامه عليه، ثم ماتت بعده لستة أشهر " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (6/428)
ونحوه في " معالم التنزيل " للبغوي (6/358) ، و" اللباب " لابن عادل (15/557) .
وقال بهاء الدين ابن قدامة (682هـ) رحمه الله:
" وقول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: (إن ابني هذا سيد) – رواه البخاري (2704) - مجاز بالاتفاق، بدليل قول الله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) " انتهى.
" الشرح الكبير " (6/224)
ويقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
" فقوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) إنما سيق لانقطاع حكم التبني، لا لمنع هذا الإطلاق المراد به أنه أبو المؤمنين في الاحترام والإكرام " انتهى.
" الصواعق المحرقة " (2/462)
وجاء في " الدرر السنية " (13/368) :
" وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ عن قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) سورة الأحزاب آية/40 هل هذه الآية قطعت كون رسول الله صلى الله عليه وسلم والدا للحسن والحسين، مع ما ورد من الأحاديث الدالة على تسميتهما ابنين له؟
فأجاب:
سبب نزول الآية يزيل هذا الإشكال ; وذلك أنه ذكر المفسرون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه، وأنزل الله هذه الآية – يعني: زيد بن حارثة – يعني: لم يكن أبا لرجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح.
فإن قيل: قد كان له أبناء: القاسم، والطيب، والطاهر، وإبراهيم، وقال للحسن: (إن ابني هذا سيد) ؟
فالجواب: أنهم قد خرجوا من حكم النفي بقوله: (من رجالكم) ، وهؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال.
وأجاب بعضهم: بأنه ليس المقصود أنه لم يكن له ولد فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين، وإضافة (رجالكم) إلى المخاطبين يخرج من كان من بنيه، لأنهم رجاله لا رجال المخاطبين " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/134)
دراسة ترجمة الطبطبائي للتفسير المسمى بـ تفسير الميزان
[السُّؤَالُ]
ـ[هل التفسير المسمَّى بـ " تفسير الميزان " الذي قام بتأليفه الطبطبائي موثوق به، ولماذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
مؤلف كتاب " الميزان في تفسير القرآن " من كبار الشيعة ومقدَّميهم، وهو محمد حسين، بن محمد، المتصل نسبه بالطباطبائي التبريزي، نسبة إلى " تبريز " ثاني مدن إيران بعد طهران. ولد سنة (1903م) ، وأقام في " قم " يُعَلِّم ويتعلَّم حتى صار من كبار المتصدرين للتدريس والفتوى والتأليف في مدارس الشيعة هناك، ولما توفي سنة (1981م) أعلنت الدولة الحداد الرسمي.
إذا علم ذلك فلا يسع المسلم إلا أن يتوقف فيما يرد في مؤلفات هذا الكاتب ابتداء، لما عليه الشيعة الاثنا عشرية (الرافضة) من انحراف عقائدي خطير.
ثانيا:
هذا الكتاب " الميزان في تفسير القرآن " يُعَدُّ أولَ تفسير شيعي جديد بعد تفسيري " مجمع البيان " للطبرسي، و " التبيان " للطوسي، كانت بداياته على شكل محاضرات يلقيها الطباطبائي على طلابه، صدر المجلد الأول منه سنة (1956م) ، وتوالت أجزاؤه حتى بلغ (20) مجلدا، وترجم إلى الإنجليزية والفارسية.
هذه المعلومات ملخصة من رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة الأردنية عام (1994م) " تفسير محمد حسين الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن: دراسة منهجية ونقدية " للباحث: يوسف الفقير، (ص/6-23)
ثالثا:
لنا على هذا التفسير الكثير من الملاحظات، منها:
1- تشكيكه بوقوع النقص في القرآن الكريم - وهذا كفر نعرفه عن كثير من علماء الشيعة -، فقد قال وهو يتحدث عن توثيق النص القرآني بطرق عدد من الروايات في جمع القرآن:
" وبالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى، فلم يزد فيه شيء، ولم يتغير منه شيء، وأما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا " انتهى.
" الميزان " (12/125)
ويقول أيضا:
" وبالجملة الروايات السابقة كما ترى آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة والتغيير قطعا، دون النقص إلا ظنا، ودعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاثة لا مستند لها " انتهى.
" الميزان " (12/126)
2- التفسير الباطني الذي هو في حقيقته خروج عن الشريعة باسم الكشف والإلهام والفتوحات، تجد ذلك في " تفسير الميزان " عند تفسير قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) النور/35
فهو ينقل البحث الروائي عن الإمام الصادق أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو مثل ضربه الله لنا، فالنبي والأئمة صلوات الله عليهم من دلالات الله وآياته التي يهتدي بها إلى التوحيد ومصالح الدين.
ثم يعلق الطباطبائي فيقول:
" الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق، وهو من أفضل المصاديق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم والطاهرون من أهل بيته عليهم السلام، وإلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء والأوصياء والأولياء " انتهى.
" الميزان " (15/141)
3- كثرة الموضوعات والمكذوبات والأحاديث التي لا أصل لها، والتي يقرر من خلالها عقائد ومبادئ باطلة، وهذه أمثلتها لا تحصى كثرة.
يقول الدكتور محمد حسين الذهبي رحمه الله:
" وأشهر تعاليم الإمامية الاثني عشرية أمور أربعة: العصمة، والمهدية، والرجعة، والتقية.
أما العصمة: فيقصدون منها أن الأئمة معصومون من الصغائر والكبائر في كل حياتهم، ولا يجوز عليهم شيء من الخطأ والنسيان.
وأما المهدية: فيقصدون منها الإمام المنتظر الذي يخرج في آخر الزمان، فيملأ الأرض أمناً وعدلاً بعد أن مُلئت خوفاً وجوراً، وأول مَن قال بهذا هو " كيسان " مولى عليّ بن أبي طالب في محمد ابن الحنفية، ثم تسرَّبت إلى طوائف الإمامية فكان لكل منها مهدي منتظر.
وأما الرجعة: فهي عقيدة لازمة لفكرة المهدية، ومعناها: أنه بعد ظهور المهدي المنتظر يرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، ويرجع عليّ، والحسن، والحسين، بل وكل الأئمة، كما يرجع خصومهم، كأبي بكر وعمر، فيُقتص لهؤلاء الأئمة من خصومهم، ثم يموتون جميعاً، ثم يحيون يوم القيامة.
وأما التقية: فمعناها المداراة والمصانعة، وهي مبدأ أساسي عندهم، وجزء من الدين يكتمونه عن الناس، فهي نظام سري يسيرون على تعاليمه، فيدعون في الخفاء لإمامهم المختفي، ويظهرون الطاعة لمن بيده الأمر، فإذا قويت شوكتهم أعلنوها ثورة مسلحة في وجه الدولة القائمة الظالمة " انتهى.
" التفسير والمفسرون " (3/65-66)
وتفسير " الميزان " مليء بهذه العقائد الفاسدة، ولتعرف مثالا واحدا من الاستدلالات الفاسدة التي يأتي بها المؤلف في هذا الكتاب، فانظر كيف يستدل على عقيدة الرجعة – بكل خصوصياتها وتعلقاتها - بقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) النمل/83، فيقول:
" ظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة – ثم ذكر سببا ساقطا لهذا التوجيه المتهافت - " انتهى. " الميزان " (15/400)
5- تقرير الكتاب لرؤوس المسائل الفقهية التي ضل فيها الشيعة وخالفوا ما أجمع عليه المسلمون فيها، مثل نكاح المتعة، فقد نصر القول بجوازه وأنكر على القائلين بحرمته في أكثر من موضع في كتابه، انظر " الميزان " (4/279-316)
6- المراجع والمصادر التي ينقل منها الطباطبائي هي – في أغلبها – من كتب الشيعة الغارقة في الضلالة، كتفسير " الصافي " لمؤلفه الحاقد ملا محسن الكاشاني المعروف بالفيض الكاشاني الذي ملأ كتابه بالطعن على الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين، نقل عنه في " الميزان " (1/309) ، وقد بلغت هذه القائمة نحوا من (83) كتابا – كما عدها الباحث يوسف الفقير في دراسته " تفسير محمد حسين الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن: دراسة منهجية ونقدية " (ص/83) -.
7- وغير ذلك من المخالفات العقائدية الكلامية: مثل مسائل صفات الله تعالى، ورؤية الله يوم القيامة، وغير ذلك، وقد سار في أغلبها على ما يقول به المعتزلة من أقوال تخالف الكتاب والسنة.
يمكن مراجعة هذه المسائل عند الباحث يوسف الفقير (ص/139-160) .
والخلاصة أننا نحذر من قراءة هذا الكتاب إلا للمتخصصين الذي يميزون الغث من السمين، ويعرفون الحق من الباطل، أما عامة الناس فلا يجوز لهم إقحام أنفسهم في هذه المتاهات من الشبهات التي تطمس نور القلب والعقل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/135)
من يؤتى كتابه بشماله سيؤتاه من وراء ظهره
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجمع بين قول الله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله) وقوله: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الجمع بينهما أن يقال: يأخذه بشماله لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره، والجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره، أعطي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره، جزاءً وفاقاً" انتهى.
"مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" رحمه الله (2/42) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/136)
تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الورود في الآية الكريمة: هو المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم، فقد دلت الأحاديث والآثار الكثيرة على أن الصراط ينصب على جهنم، ويمر الناس عليه على قدر أعمالهم.
ونوصيك بمراجعة تفسير ابن كثير في ذلك؛ لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود، الشيخ عبد الله بن غديان.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (4/258) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/137)
لا يقبل التفسير العلمي للقرآن إذا خالف تفسير السلف
[السُّؤَالُ]
ـ[هل إذا فسر أحد المتأخرين آيات القرآن تفسيراً علمياً الآن، هل نرد تفسيره؛ لأن السلف كان لهم تفسير مخالف لهذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"إذا فسر المتأخرون الآية بتفسير لم يتكلم فيه السابقون، وكان لا يخالف، فإنه يؤخذ به، مثل تفسير كثير من الآيات الكونية بما ثبت الآن مما كان مجهولاً من قبل. أما إذا كان يخالف ما كان عليه السلف مخالفةً واضحة كتفسير (الاستواء على العرش) بـ (الاستيلاء على العرش) ، فهذا يجب أن يُرَدَّ، ولا يجوز قبوله" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"لقاءات الباب المفتوح" (2/108) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/138)
الشر من خلق الله ونفي نسبته إلى الله من التأدب اللفظي
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) النساء/78-79. سؤالي هو: هل الشر من عند أنفسنا أم من عند الله عز وجلّ؟ لأن بعض غير المسلمين يعدّون هذا الأمر تناقضا في القرآن الكريم. فهلا وضحتم لنا هذا الأمر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فهم هذه الآية يسير على من يسره الله عليه، فهي من الآيات المحكمات في كتاب الله المبين، ليس فيها تناقض ولا تعارض إلا في أذهان بعض الحاقدين، ساعدهم جهلهم باللغة ومعاني القرآن الكريم، فظنوا أن قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يعني أن المصائب التي هي (السيئة) هنا يخلقها الإنسان نفسه، وهذا جهل بالغ لا يقع فيه إلا أعجمي نزعته عجمته، أو عربي مفتون غلبه هواه، وذلك أن حرف الجر (مِن) هنا – في قوله تعالى: (فمن نفسك) - تعني السببية، أي: بسببك أنت أيها الإنسان، بسبب معصيتك ومخالفتك أمر الله تعالى تصيبك المصائب، كما قال عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/30.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" قوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) أي: خِصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك، هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي.
(يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي: قحط، وجدب، ونقص في الثمار والزروع، أو موت أولاد أو نتاج، أو غير ذلك، كما يقوله أبو العالية والسدي.
(يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي: من قِبَلك، وبسبب اتباعنا لك، واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) الأعراف/131، وكما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ) الحج/11.
(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري.
ثم قال تعالى مخاطبًا للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) أي: من فضل الله ومنِّه ولطفه ورحمته.
(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أي: فمن قِبَلك، ومن عملك أنت، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/30، قال السدي، والحسن البصري، وابن جُريج، وابن زيد: (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي: بذنبك.
وقال قتادة: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) عقوبة يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر)
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح: (والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه) " انتهى باختصار. " تفسير القرآن العظيم " (2/361-363)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" قال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله) أي: ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله، نعمة أنعم بها عليك وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة، فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى ومنَّ عليك بالإيمان وزيَّنه في قلبك، وكرَّه إليك الكفر والفسوق والعصيان.
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) وفي الحديث الصحيح: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه ذلك دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة)
ثم قال تعالى: (وما أصابك من سيئة) مِن ذل، وخوف، وهزيمة، كما أصابهم يوم أحد
(فمن نفسك) أي بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوبا مقدرا عليك، فإن القدر ليس حجة لأحد، لا على الله، ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقَب ظالم، ولم يقاتَل مشرك، ولم يُقم حد، ولم يَكف أحد عن ظلم أحد، وهذا من الفساد في الدين والدنيا، المعلوم ضرورة فساده للعالَم بصريح المعقول المطابق لما جاء به الرسول " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (8/113-114)
ويقول العلامة السعدي رحمه الله:
" يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون، المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم: أنهم إذا جاءتهم حسنة أي: خصب وكثرة أموال وتوفر أولاد وصحة، قالوا: (هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، وأنهم إن أصابتهم سيئة أي: جدب وفقر ومرض وموت أولاد وأحباب، قالوا: (هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) ، وقال قوم صالح: (قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) ، وقال قوم ياسين لرسلهم: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم، وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم.
قال الله في جوابهم: (قُلْ كُلٌّ) أي: من الحسنة والسيئة، والخير والشر. (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: بقضائه وقدره وخلقه.
ثم قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) أي: في الدين والدنيا (فَمِنَ اللَّهِ) هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها.
(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) في الدين والدنيا (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر.
فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه، فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/188)
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" قول الله عز وجل: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله) النساء/78، ثم يقول في الآية التي بعدها: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) النساء/79، فكيف الجمع بينهما؟
فأجاب:
الجمع بينهما أن الآية الأولى تقديرا، يعني من الله، هو الذي قدرها، والآية الثانية سببا يعني: أن ما أصابك من سيئة فأنت السبب، والذي قدر السيئة وقدر العقوبة عليه هو الله " انتهى.
" لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم/15، سؤال رقم/15)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/139)
تفسير قوله تعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)
[السُّؤَالُ]
ـ[برجاء التكرم بتفسير الآية رقم 1،2،3 من سورة النور: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) ]ـ
[الْجَوَابُ]
االجواب:
الحمد لله
اختلف المفسرون في دلالة قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) النور/3 على تحريم زواج العفيف من المرأة الزانية حتى تتوب، وتحريم زواج المرأة العفيفة من الرجل الزاني حتى يتوب، وذلك على قولين:
القول الأول: أنها تدل على التحريم: وهو قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما نجد ذلك في " المغني " لابن قدامة (7/108) ، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بالأدلة الكثيرة، انظر " مجموع الفتاوى " (15/315) ، (32/113) ، " إغاثة اللهفان " (1/65) ، وقد سبق في موقعنا اختيار هذا القول في أجوبة الأسئلة الآتية: (85335) و (96460) و (104492) .
ونحوه قول الإمام الشافعي رحمه الله، إلا أن الشافعي قال بأنها منسوخة، وأجاز الزواج من الزاني أو الزانية.
يقول رحمه الله:
" اختلف أهل التفسير في هذه الآية اختلافا متباينا، والذي يشبهه عندنا - والله أعلم - ما قال ابن المسيب: هي منسوخة، نسختها: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) النور/32. فهي من أيامى المسلمين. فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله، وعليه دلائل من الكتاب والسنة " انتهى.
" الأم " (5/158)
القول الثاني: أنها لا تدل على التحريم أصلا: وهو قول أكثر أهل العلم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك: (الزانية لا ينكحها إلا زان) أي: عاص بزناه، (أو مشرك) لا يعتقد تحريمه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس هذا بالنكاح، إنما هو الجماع، لا يزني بها إلا زان أو مشرك. وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي عنه من غير وجه أيضا. وقد روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وغير واحد، نحو ذلك " انتهى. " تفسير القرآن العظيم " (6/9)
وفي مناقشة هذين القولين الكثير من التدقيق والتحرير، وقد شرح ذلك ووضحه العلامة الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان " (5/417-428) ، ننقل كلامه هنا بشيء من التصرف والاختصار:
" من أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة دالَّة على عدم صحة ذلك القول، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك: أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية:
فقال جماعة: المراد بالنكاح في هذه الآية: الوطء الذي هو نفس الزنى.
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح.
قالوا: فلا يجوز لعفيف أن يتزوّج زانية كعكسه، وهذا القول - الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج لا الوطء - في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحّته، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية؛ لأن الزاني المسلم لا يحلّ له نكاح مشركة، لقوله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) ، وقوله تعالى: (لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) ، وقوله تعالى: (وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) وكذلك الزانية المسلمة لا يحلّ لها نكاح المشرك؛ لقوله تعالى: (وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ) ، فنكاح المشركة والمشرك لا يحلّ بحال. وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء، الذي هو الزنى، لا عقد النكاح؛ لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة.
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية، ونكاح العفيفة الزاني، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمّة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه ومن وافقهم، واحتجّ أهل هذا القول بأدلّة:
منها عموم قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) ، وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة، وعموم قوله تعالى: (وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ) ، وهو شامل بعمومه الزانية أيضًا والعفيفة. ومن أدلّتهم على ذلك: حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تردّ يد لامس، قال: (غرّبها) ، قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: (فاستمتع بها) . قال ابن حجر في " بلوغ المرام " في هذا الحديث، بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا: رواه أبو داود، والترمذي، والبزار ورجاله ثقات، وأخرجه النسائي من وجه آخر، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، لفظ قال: (طلّقها) ، قال: لا أصبر عنها، قال: (فأمسكها) اهـ من " بلوغ المرام ".
ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى: (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ، من وجهين:
الأول: أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه، قالوا: والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدّة التنفير منه؛ لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسّة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة. وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى: (وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى، أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منه، كعكسه، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك.
الوجه الثاني: هو قولهم: إن المراد بالنكاح في الآية التزويج، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً) الآية منسوخة بقوله تعالى: (وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ) وممن ذهب إلى نسخها بها: سعيد بن المسيّب، والشافعي.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: وقد روي عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية: الوطء.
وابن عباس رضي اللَّه عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرءان العظيم، ولا شكّ في علمه باللغة العربية، فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدلّ على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح، فدعوى أن هذا التفسير لا يصحّ في العربية، وأنه قبيح، يردّه قول البحر ابن عباس.
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم: لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه، وهو مذهب الإمام أحمد، وقد روي عن الحسن وقتادة، واستدلّ أهل هذا القول بآيات وأحاديث:
فمن الآيات التي استدلّوا بها هذه الآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى: (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، قالوا: المراد بالنكاح في هذه الآية: التزويج، وقد نصّ اللَّه على تحريمه في قوله: (وَحُرّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قالوا: والإشارة بقوله: (ذلِكَ) ، راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية أو المشركة، وهو نصّ قرءاني في تحريم نكاح الزاني العفيفة، كعكسه.
ومن الآيات التي استدلّوا بها قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ) ، قالوا: فقوله: (مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) ، أي: أعِفَّاء غير زناة. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب، وقوله تعالى: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) ، فقوله: (مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) ، أي: عفائف غير زانيات، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية، أنهن لو كنّ مسافحات غير محصنات، لما جاز تزوّجهن.
ومن أدلّة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) كلّها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء، والمقرّر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول. وأنه قد جاء في السنّة ما يؤيّد صحّة ما قالوا في الآية، من أن النكاح فيها التزويج، وأن الزاني لا يتزوّج إلا زانية مثله، فقد روى أبو هريرة عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) أنّه قال: (الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله) ، وقال ابن حجر في بلوغ المرام في حديث أبي هريرة هذا: رواه أحمد، وأبو داود ورجاله ثقات.
وأمّا الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية:
فمنها ما رواه عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أُمّ مهزول، كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه، قال: فاستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها، فقرأ عليه نبيّ اللَّه: (وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) . رواه أحمد.
ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكّة، وكانت بمكّة بغي يقال لها عناق، وكانت صديقته، قال: فجئت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّها أنكح عناقًا؟ قال: فسكت عني، فنزلت: (وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ، فدعاني فقرأها عليّ، وقال: (لا تنكحها) . رواه أبو داود، والنسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه.
قالوا: فهذه الأحاديث وأمثالها تدلّ على أن النكاح في قوله: (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ، أنه التزويج لا الوطء، وصورة النزول قطعية الدخول؛ كما تقرّر في الأصول.
وقال ابن القيّم في (زاد المعاد) ، ما نصّه: وأمّا نكاح الزانية فقد صرّح اللَّه سبحانه وتعالى بتحريمه في سورة (النور) ، وأخبر أن من نكحها فهو إما زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحان، ويعتقد وجوبه عليه أو لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه، وخالفه فهو زان، ثم صرح بتحريمه، فقال: (وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله: (وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ) من أضعف ما يقال، وأضعف منه حمل النكاح على الزنى. إذ يصير معنى الآية: الزاني لا يزنى إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وكلام اللَّه ينبغي أن يصان عن مثل هذا، وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة، فقال: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها، وليس هذا من دلالة المفهوم، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع، وما عداه فعلى أصل التحريم، انتهى محل الغرض من كلام ابن القيّم.
وهذه الأدلّة التي ذكرنا هي حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه، وإذا عرفت أقوال أهل العلم، وأدلّتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني، فهذه مناقشة أدلّتهم:
أمّا قول ابن القيم: إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب اللَّه، فيردّه أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرءان صحّ عنه حمل الزنى في الآية على الوطء، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب اللَّه لصانه عنه ابن عباس، ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله.
وقال ابن العربي في تفسير ابن عباس للزنى في الآية بالوطء: هو معنى صحيح. انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه.
وأمّا قول سعيد بن المسيّب والشافعي، بأن آية: (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ، منسوخة بقوله: (وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ) فهو مستبعد؛ لأن المقرّر في أصول الشافعي ومالك وأحمد هو أنه لا يصحّ نسخ الخاص بالعام، وأن الخاص يقضى على العام مطلقًا، سواء تقدم نزوله عنه أو تأخّر، ومعلوم أن آية (وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ) أعمّ مطلقًا من آية: (الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً) فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرّر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين، وإنما يجوز ذلك على المقرّر في أصول أبي حنيفة رحمه اللَّه، كما قدمنا إيضاحه في سورة (الأنعام) ، وقد يجاب عن قول سعيد، والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية، وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح، وإنما قيّد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء، ولذا قال بعد الآية: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ)
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له:
هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقًا؛ لأن حمل النكاح فيها على التزويج، لا يلائم ذكر المشركة والمشرك، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلّقة بالآية، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية: التزويج.
ولا أعلم مخرجًا واضحًا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسّف، وهو أن أصحّ الأقوال عند الأصوليين - كما حرّره أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرءان، وعزاه لأجلاّء علماء المذاهب الأربعة - هو جواز حمل المشترك على معنييه، أو معانيه، فيجوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، وتعني بذلك أنهم عوّروا عينه الباصرة وغوّروا عينه الجارية، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضّته.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج، خلافًا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما، مجاز في الآخر، كما أشرنا له سابقًا، وإذا جاز حمل المشترك على معنييه، فيحمل النكاح في الآية على الوطء، وعلى التزويج معًا، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد، وهذا هو نوع التعسّف الذي أشرنا له، والعلم عند اللَّه تعالى.
وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية والمانعون لذلك أقلّ، وقد عرفت أدلّة الجميع.
واعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية، لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثًا؛ لأنه إنما يتزوّجها ليحفظها، ويحرسها، ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعًا باتًّا بأن يراقبها دائمًا، وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها، وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها، مع شدّة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة، وإن جرى منها شىء لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شىء عليه فيه، ولا يكون به ديوثًا، كما هو معلوم.
والأظهر لنا في هذ المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوّج إلا عفيفة صينة، للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيّده حديث: (فاظفر بذات الدين تربت بداك) ، والعلم عند اللَّه تعالى " انتهى كلام الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/140)
هل الرفع لدرجة الآباء في الجنة يكون للذرية جميعها صغارها وكبارها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤال: قرأتُ أنه من كرم الله سبحانه وتعالى أنه يرفع درجة الأبناء في الجنة إلى درجة آبائهم الأعلى منهم , وعلى هذا الأمر فإن أبناء الصحابة سترفع درجتهم لدرجة آبائهم، والأحفاد لدرجة الآباء، وهكذا كل جيل يرفع الجيل التالي حتى يصل الأمر لجيلنا فنرتفع لدرجة الصحابة إذا كنا أحفادهم، مما قد يسبب التهاون بالعمل ونعتمد على هذا الكرم الإلهي، فما رأيكم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الإشكال الوارد في السؤال يرد عند الحديث على قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور/21، وقد اختلف أهل التفسير في لفظ " الذرية " هل يراد به: الصغار، أو الكبار، فأما من قال إن المراد به الصغار، فلا إشكال عنده في معنى الآية، وإنما يرد الإشكال في حال كون معنى " الذرية ": الكبار، والراجح في تفسيرها أنهم الصغار، وعليه: فلا يرد ما استشكله الأخ السائل، فالرفع للذرية الصغار، وإلا للزم كون جميع أهل الجنة في درجة واحدة.
1. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:
" وقد اختلف المفسرون في " الذرية " في هذه الآية، هل المراد بها: الصغار، أو الكبار، أو النوعان، على ثلاثة أقوال. ....
ثم قال:
واختصاص " الذرية " ههنا بالصغار: أظهر؛ لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات، ولا يلزم مثل هذا في الصغار؛ فإن أطفال كل رجل وذريته معه في درجته، والله أعلم " انتهى.
"حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص 279-281) باختصار.
2. قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" إذا كان الأولاد سعداء، والأب من السعداء: فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) يعني: أن الإنسان إذا كان له ذرية، وكانوا من أهل الجنة: فإنهم يَتبعون آباءهم، وإن نزلت درجتُهم عن الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) أي: ما نقصنا الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بل الآباء بقي ثوابهم موفَّراً، ورُفعت الذرية إلى مكان آبائها، هذا ما لم يَخرج الأبناء عن الذرية بحيث ينفردون بأزواجهم، وأهليهم، فيكون هؤلاء لهم فضلهم الخاص، ولا يلحقون بآبائهم؛ لأننا لو قلنا: كل واحد يلحق بأبيه ولو كان له أزواج، أو كان منفرداً بنفسه: لكان أهل الجنة كلهم في مرتبة واحدة؛ لأن كل واحد من ذرية من فوقه، لكن المراد بالذرية: الذين كانوا معه، ولم ينفردوا بأنفسهم، وأزواجهم، وأولادهم، فهؤلاء يرفعون إلى منزلة آبائهم، ولا يُنقص الآباء من عملهم من شيء " انتهى.
"فتاوى نور على الدرب" (شريط 324، وجه: أ) .
3. وقال رحمه الله - أيضاً -:
" ثم قال عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الطور/21، الذين آمنوا واتبعتهم الذرية بالإيمان، والذرية التي يكون إيمانها تبعاً: هي الذرية الصغار، فيقول الله عز وجل: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي: جعلنا ذريتهم تلحقهم في درجاتهم.
وأما الكبار الذين تزوجوا: فهم مستقلون بأنفسهم في درجاتهم في الجنة، لا يلحقون بآبائهم؛ لأن لهم ذرية، فهم في مقرهم، أما الذرية الصغار التابعون لآبائهم: فإنهم يرقَّون إلى آبائهم، هذه الترقية لا تستلزم النقص من ثواب ودرجات الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، (ألتناهم) يعني: نقصناهم، يعني: أن ذريتهم تلحق بهم، ولا يقال أخصم من درجات الآباء بقدر ما رفعتم درجات الذرية، بل يقول: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) " انتهى.
"تفسير القرآن من الحجرات إلى الحديد" (ص 187) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/141)
هل ثمة تعارض بين خلق الجان من نار وبين قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[في سؤال يثيره بعض المسيحيين في المنتديات، وهو الآية القرآنية (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء/30، والآية الأخرى (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن/15، فهل هذا تناقض؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لِلَّه
أولا:
أخبرنا الله في كتابه الكريم عن أصل خلق الجن، فقال تعالى: (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) الحجر/27، وقال تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن/15
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ) رواه مسلم (2996)
انظر جواب السؤال رقم (2340) ، (6485) ، (13378)
ثانيا:
يقول سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء/30.
ولفهم معنى الآية الكريمة فهما صحيحا، وللوقوف على ما تقتضيه اللغة العربية في ذلك، لا بد من بيان بعض الأمور:
1- التأمل في سياق الآيات من ضرورات الفهم الصحيح، ويبدو للقارئ أن سياق هذه الآية في معرض إفحام المشركين بالحجج والبراهين، والرد على بعض ما يعتقدونه من الباطل.
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (3/238) :
" يقول تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال: (أولم ير الذين كفروا) أي: الجاحدون لإلهيته، العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه، ألم يروا (أن السموات والأرض كانتا رتقا) أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض، متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السموات سبعا، والأرض سبعا، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤمِنُُونَ) أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا، وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء " انتهى.
إذا فمناسبة سياق المحاججة تقتضي الاستشهاد بآيات ظاهرة يشاهدها المخاطبون ويعايشونها، فكان قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) منطلقا من واقعهم الذي يرونه: من حاجتهم وحاجة جميع الحيوانات إلى الماء، أو من تخلقهم وتخلق الحيوانات من ماء التناسل. وليس في هذا السياق تعرض ـ أصلا ـ لعالم الغيب من الملائكة أو الجن أو غيرهم من خلق الله؛ لأن المحاججة إنما تكون بعالم الشهادة، حتى تكون الحجة أقوى وأبين، وأما عالم الغيب فقد لا يؤمن به المخاطب، فضلا عن أن يعرف كيفية خلقه وما هي مكوناته، وعلى هذا يكون الجن والملائكة لم يدخلوا في سياق العموم ابتداء.
2- صيغ العموم في اللغة العربية ليست دائما على إطلاق عمومها، فقد تكون مخصوصة، بل قال أهل العلم: إن أكثر عمومات القرآن مخصوصة.
وقد جاءت صيغة العموم (كل) في بعض الآيات، ولم تدل على العموم المطلق، وذلك في قوله تعالى عن الريح التي أرسلها لإهلاك قوم عاد: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الأحقاف/25، وقوله تعالى عن ملكة سبأ: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) النمل/23، ومن المعلوم أن الريح لم تدمر السماء ولا حتى المساكن، وأن ملكة سبأ لم تؤت ما أوتيه النبي سليمان عليه السلام.
وعلى هذا ينبغي فهم صيغ العموم في القرآن، لأنه نزل بلسان عربي مبين، والعرب تطلق صيغ العموم كثيرا، وهي تعلم أن ثمة بعض المخصوصات.
فكذلك قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ينبغي تخصيصه بالملائكة، فإنها قد خلقت من نور، ولا تحتاج إلى الماء، ويبقى الجن أيضا في دائرة احتمال التخصيص.
وبهذا يظهر التوافق وعدم التناقض بين الآيات.
يقول الألوسي في "روح المعاني" (7/36) : " ولا بد من تخصيص العام، لأن الملائكة عليهم السلام وكذا الجن أحياء، وليسوا مخلوقين من الماء " انتهى.
وانظر "البحر المحيط" لأبي حيان (8/327) .
ويقول الرازي في تفسيره (11/13) : " لقائل أن يقول: كيف قال: وخلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال: (والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم) الحجر/27، وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى) المائدة/110، وقال في حق آدم: (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) آل عمران/59.
والجواب: اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصِّصَة قائمة، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام؛ لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك " انتهى.
ونقله الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/215) .
3- وخلق الجن من النار هو في أصل خلق الله سبحانه وتعالى لهم، ثم كان تكاثرهم عن طريق التناسل، تماما كما أن الله خلق الإنسان بداية من الطين، ثم بدأ بالتناسل والتكاثر، ولما لم نكن نعرف شيئا عن كيفية تناسل الجن، يبقى احتمال تناسلهم بماء التناسل قائما، ومن ينفي الاحتمال يحتاج إلى دليل حسي أو عقلي أو شرعي، وقد لا يوجد، وقد فسر بعض أهل العلم: ومنهم أبو العالية من السلف، الماءَ الوارد في قوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) بماء النطفة التي جعلها الله طريق التناسل في جميع الحيوانات، فقد يكون الجن يتناسلون بالنطف أيضا.
يقول الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/216-217) :
" قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ)
الظاهر أن (جَعل) هنا بمعنى خَلَق؛ لأنها متعدية لمفعول واحد؛ ويدل لذلك قوله تعالى في سورة النور: (والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ) النور/45
واختلف العلماء في معنى: " خلق كل شيء من الماء ":
قال بعض العلماء: الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة؛ لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف، وعلى هذا فهو من العام المخصوص.
وقال بعض العلماء: هو الماء المعروف؛ لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة، كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء، وإما غير مباشرة؛ لأن النطف من الأغذية، والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسماك ونحوها: لأنه كله ناشئ بسبب الماء.
وقال بعض أهل العلم: معنى خَلْقه كل حيوان من ماء: أنه كأنما خلقه من الماء لفرط احتياجه إليه، وقلة صبره عنه، كقوله: (خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ) " انتهى.
وانظر "زاد المسير" (5/348) ، "تفسير القرطبي" (11/248) ، "الدر المنثور" (5/626) .
ثالثا:
يظهر جليا لمن يهتم بالجواب عن الشبه التي يطلقها بعض النصارى أنَّ هؤلاء المنشغلين باستخراج هذه الشبه بعيدون كل البعد عن فهم اللغة العربية، بل قد يكونون من الأعاجم الذين لم يدرسوا العربية، وإنما يريدون العبث ومحاولة الطعن في هذا القرآن العظيم.
وكل عاقل يدرك أن لا محل لأي تناقض في كتاب الله تعالى، ليس ذلك فقط لأن الله سبحانه وتعالى قال فيه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء/82، بل لأن العرب أصحاب اللسان العربي العالي، البالغ في الفصاحة والبلاغة القمة العالية، والذي تحداهم القرآن في آيات عديدة أن يجاروا أسلوب القرآن الرفيع، فلم يستطيعوا إليه سبيلا، لم يَدُر في خلدهم مثل هذه الدعاوى المتنطَّعة في تناقض القرآن، ولم يخطر لهم مثل هذه الشبه مع شدة تحريهم عن كل مطعن في القرآن.
ويدلك ذلك على الجهل الذي يخيم في أذهان أصحاب الشبه هؤلاء، وهم لا يشعرون أنهم بشبهاتهم هذه إنما يكشفون عن جهلهم وقلة معرفتهم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/142)
معنى قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) ، ولم يقل على وجوههن، فدل ذلك على أن وجه المرأة ليس عورة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يصح الاستدلال بقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) على عدم وجوب ستر المرأة وجهها، بل العكس هو الصحيح، فهذه الآية تدل على وجوب ذلك، ويبين هذا:
فعل الصحابيات الجليلات من المهاجرات بعد نزول هذه الآية، فقد شققن أزرهنَّ وغطين بها رؤوسهن ووجوههن، كما ذكرت ذلك عائشة رضي الله عنها.
فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) : شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا) رواه البخاري (4480) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"قوله: (مروطهن) : جمع مرط، وهو الإزار، وفي الرواية الثانية: (أزرهن) ، قوله: (فاختمرن) أي: غطين وجوههن، وصفة ذلك: أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع" انتهى.
" فتح الباري " (8 / 490) .
وقال الشنقيطي رحمه الله:
"وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيّات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) : يقتضي ستر وجوههن، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن، أي: سترن وجوههن بها؛ امتثالاً لأمر اللَّه في قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) ، المقتضي: ستر وجوههن.
وبهذا يتحقّق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم: ثابت في السنَّة الصحيحة، المفسّرة لكتاب اللَّه تعالى، وقد أثنت عائشة رضي اللَّه عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر اللَّه في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهِمْن ستر الوجوه من قوله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) ، إلا من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه موجود، وهنَّ يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، واللَّه جلَّ وعلا يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن ... .
فالعجب كل العجب، ممن يدّعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنَّة ما يدلّ على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر اللَّه في كتابه إيمانًا بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح، كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلّة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين، كما ترى" انتهى.
" أضواء البيان " (6 / 250، 251) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/143)
وقفة مع قوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض أعداء الإسلام من الملحدين يحاولون النيل والطعن في هذا الدين وإثارة الشبه، فحاولوا تفسير الآية من سورة الإسراء المباركة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (16) , وفق تفسيرات ونظرة مجردة توهم القارئ الغافل ويدّعون بأن الآية الكريمة تُظهر الله عز وجل وكأنه - تنزَّه الله عن ذلك - الإله الظالم المستبد , وأن إرادته للشر تفوق خيره وأنا وللأسف الشديد جدّاً , لست على دراية كاملة بقرآني , ولكن والله إني لما سمعت هذا الكلام: انتفض الدم في عروقي، أنا من نظري وعلمي المحدود أفادنا الله منكم - بأن هذه الآية المباركة وثيقة الصلة بما قبلها من آيات , وأنها مربوطة بحال بني إسرائيل، وظلمهم، وكفرهم البين , مع الإصرار على المعصية، وتجاهل العقاب الرباني العادل، فالله عز وجل لما رأى منهم الإصرار على المعصية مع سبق الإصرار والترصد في الذنب أراد أن يحكم عليهم بأن أدام المترفين في غيهم، فهم الفئة التي يلجأ إليها الناس دوما، وهم القدوة، لتكون حجة قاطعة من عنده سبحانه وتعالى. أفيدوني فوراً، أفادكم الله تعالى]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية فيها أقوال للعلماء مشهورة، وملخصها: أن الأمر فيها إما أن يكون أمراً شرعيّاً وهو موجه للمترفين، لكنه أمر بالطاعة، فأبوها، وإما أن يكون من الأمر الكوني لله تعالى، كما هو الحال في القضاء الكوني في قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) الإسراء/ 4، والقول الثالث: أنه " أمَرنا " بمعنى أكثرنا، وليس ثمة عاقل يقول إن الأمر في الآية هو الأمر الشرعي للمترفين بالفسق؛ يعني: أن الله شرع الفسق، وجعله دينا لهم، جل الله عما يقول الجاهلون، وتقدس وتنزه؛ كما قال تعالى عن نفسه (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/ 28.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -: قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) .
في معنى قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:
الأول: وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله (أَمْرُنَا) هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به (فَفَسَقُواْ) أي: خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله.
(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي: وجب عليها الوعيد (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) أي: أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة، كقوله: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ... ) .
فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ) أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
ومن الآيات الدالة على هذا: قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) .
فقوله في هذه الآية (وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ... ) الآية: لفظ عام، في جميع المترفين، من جميع القرى، أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم: (إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم، والآيات بمثل ذلك كثيرة ...
وهذا القول الصحيح في الآية جارٍ على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: " أمرتُه فعصاني "، أي: أمرته بالطاعة فعصى، وليس المعنى: أمرته بالعصيان، كما لا يخفى.
القول الثاني في الآية هو: أن الأمر في قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أمرٌ كوني قدري، أي: قدَّرنا عليهم ذلك، وسخرناهم له؛ لأن كلاًّ ميسرٌ لما خُلق له، والأمر الكوني القدري كقوله (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ) ، وقوله: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ، وقوله (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) ، وقوله (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .
القول الثالث في الآية: أن (أَمَرْنَا) بمعنى: أكْثرنا، أي: أكثرنا مترفيها، ففسقوا.
وقال أبو عبيدة: (أَمْرُنَا) بمعنى: أكثرنا، لغة فصيحة، كآمرنا، بالمد.
وقد علمتَ أن التحقيق الذي دل عليه القرآن: أنَّ معنى الآية: أمَرْنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمْرَنا، فوجب عليهم الوعيد، فأهلكناهم، كما تقدم إيضاحه.
تنبيه:
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع، المترفين وغيرهم، في قوله (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) يعني: القرية، ولم يستثن منها غير المترفين؟ .
والجواب من وجهين:
الأول: أن غير المترفين تبع لهم، وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم لأن غيرهم تبع لهم، كما قال تعالى: (وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ) ، وكقوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) ، وقوله: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا) ، وقوله تعالى: (وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ) ، وقوله: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ) إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: أن بعضهم إن عصى الله، وبغى، وطغى، ولم ينههم الآخرون: فإن الهلاك يعم الجميع، كما قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) ، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث)
" أضواء البيان " (3 / 75 – 79) باختصار.
وبه يتبين أنه لا يتعلق بتلك الآية لتشكيك الناس في أمر دينهم، أو الطعن في كتاب ربهم، إلا جاهل بلغة العرب، جاهل بكتاب الله، جاهل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/144)
تفسير قوله تعالى (خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو تفسير قوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
المراد بالآية تذكير الإنسان بأصل نشأته، وخلقه من ذلك الماء الدافق، وأن الذي خلقه هذه الخلقة بقدرته، قادر ـ سبحانه ـ على أن يعيد بعثه للحساب، مرة أخرى. قال الزمخشري: " فإن قلت: ما وجه اتصال قوله (فَلْيَنظُرِ) بما قبله؟
قلت: وجه اتصاله به: أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظاً، أتبعه توصيةَ الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى؛ حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعملَ ليوم الإعادة والجزاء، ولا يُملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته " انتهى من "تفسير الكشاف".
وإذا كان الصلب هو: الظهر، باتفاق المفسرين هنا، وأما الترائب، فقد اختلف أهل العلم فيما هي، وأين موضعا.
قال الإمام الطبري رحمه الله: " واختلف أهل التأويل في معنى الترائب، وموضعها:
قال بعضهم: الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة "، وهو مروي عن ابن عباس وعكرمة، وغيرهما.
وقال آخرون: الترائب: ما بين المنكبين والصدر، وهو مروى عن مجاهد، وغيره من السلف.
وقال آخرون: معنى ذلك، أنه يخرج من بين صلب الرجل ونحره "، وهو مروى عن قتادة.
وروى ـ أيضا ـ قول من قال: هو اليدان والرجلان والعينان، ومن قال: هي الأضلاع التي أسفل الصلب، ومن قال: هي عصارة القلب.
ثم قال – أي: الطبري - رحمه الله: " والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: هو موضع القِلادة من المرأة، حيث تقع عليه من صدرها؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، وبه جاءت أشعارهم، قال المثقَّب العبدي:
وَمِنْ ذَهَبٍ يُسَنُّ عَلَى تَرِيبٍ ... كَلَوْنِ العَاجِ لَيْسَ بِذِي غُضُونِ " انتهى بتصرف.
تفسير الطبري (24/354-356) .
وهذا الذي اختاره إمام المفسرين: من أن المراد به: صلب الرجل، وترائب المرأة، وهو موضع القلادة منها، هو الذي اختاره الإمام القرطبي في تفسيره (16/343،20/5) ، والحافظ ابن كثير في تفسيره (8/375) ، واختاره أيضا: العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، قال:
" اعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء، الذي هو النطفة، منه ما هو خارج من الصلب، أي: وهو ماء الرجل، ومنه ما هو خارج من الترائب، وهو ماء المرأة، وذلك قوله جل وعلا: (فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب) الطارق/5-7 لأن المراد بالصلب: صلب الرجل، وهو ظهره، والمراد بالترائب: ترائب المرأة، وهي موضع القلادة منها. ومنه قول امرىء القيس:
مُهَفهَفَةٌ بَيضاءُ غَيرُ مُفاضَةٍ تَرائِبُها مَصقولَةٌ كَالسَجَنجَلِ " انتهى.
أضواء البيان (3/194) .
واختار ابن القيم رحمه الله أن المراد صلب الرجل وترائبه، قال:
" لا خلاف أن المراد بالصلب صلب الرجل. واختلف في الترائب:
فقيل: المراد به ترائبه أيضا، وهي عظام الصدر، ما بين الترقوة إلى الثندوة.
وقيل: المراد ترائب المرأة.
والأول أظهر:
1- لأنه سبحانه قال: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) ولم يقل يخرج من الصلب والترائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المختلفين، كما قال في اللبن: (يخرج من بين فرث ودم) .
2- وأيضا فإنه سبحانه أخبر أنه خلقه من نطفة في غير موضع، والنطفة هي ماء الرجل. كذلك قال أهل اللغة: قال الجوهري: " والنطفة الماء الصافي قل أو كثر، والنطفة ماء الرجل، والجمع نطف ".
3- وأيضا فإن الذي يوصف بالدفق والنضح إنما هو ماء الرجل، ولا يقال نضحت المرأة الماء ولا دفقته " انتهى.
"إعلام الموقعين" (1/145-146) .
وهو اختيار الشيخ ابن عاشور، وابن سعدي، وابن عثيمين، كما في "لقاء الباب المفتوح" (رقم/45) ، وانظر نحوا من ذلك في "اللقاء الشهري" (رقم/45) .
ونقل القرطبي عن الحسن البصري رحمه الله أن: " المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة " انتهى.
تفسير الطبري (20/4) .
واختار هذا القول الإمام ابنُ جُزي، رحمه الله، في تفسيره. انظر: تفسير التسهيل، لابن جزي (785) .
ثانيا:
ثم السؤال الثاني هو أن الحقائق العلمية المكتشفة اليوم تقول بأن مني الرجل يصنع في الخصية التي تحتوي على الخلايا المهيئة لذلك، وليس في منطقة الظهر أو الصدر، فكيف يصف القرآن خروج الماء الدافق بأنه من بين الصلب والترائب؟
والجواب: أن هذا من الإعجاز العلمي لهذا الكتاب العظيم، فقد اكتشف الطب الحديث أن هذا المكان – بين الصلب والترائب - هو مكان نشوء الخلايا الأولى للخصية التي تنزل بعد مرحلة من تخلق الجنين إلى كيس الصفن أسفل البطن.
يقول الدكتور محمد دودح:
" والحقيقة العلمية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهما الجنينية، ثم تخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري وبدايات الضلوع ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم، وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن حيث الحرارة أقل، وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية، وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني إذا لم تُكمل رحلتها.
والتعبير (يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ) يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية، ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير والاقتدار والإتقان والإحكام في الخلق، منذ تكوين البدايات في الأصلاب وهجرتها خلف أحشاء البطن، ابتداءً من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر , وحتى يولد الأبوان ويبلغان ويتزاوجان وتخلق الذرية مما يماثل نطفة ماء في التركيب عديمة البشرية من المني لكنها حية تتدفق ذاتياً لتندمج مع نطفة نظير، فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين.
(خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ) .. حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنًا , بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري (سلسلة ظهره) وترائبه هي عظام صدره.. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب..، فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريباً، ومقابل أسفل الضلوع.. فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما وفي إمدادهما بالدم الشرياني وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب، فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم وجاء به رب العالمين، ولم يكشفه العلم إلا حديثاً بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول ذلك الكتاب , هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف؛ فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم , وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه فتقف الخصية في طريقها ولا تنزل إلى الصفن فتحتاج إلى عملية جراحية " انتهى.
نقلا عن هذا الرابط:
http://islamtoday.net/questions/show_question_content.cfm?id=10335
ويقول الدكتور محمد علي البار حفظه الله:
" تقول الآية الكريمة أن الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب , ونحن قد قلنا أن هذا الماء (المني) إنما يتكون في الخصية وملحقاتها , كما تتكون البويضة في المبيض لدى المرأة , فكيف تتطابق الحقيقة العلمية مع الحقيقة القرآنية؟
إن الخصية والمبيض إنما يتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين وترائبه , والصلب هو العمود الفقري والترائب هي الأضلاع , وتتكون الخصية والمبيض في هذه المنطقة بالضبط، أي بين الصلب والترائب , ثم تنزل الخصية تدريجيا حتى تصل إلى كيس الصفن (خارج تجويف البطن) في أواخر الشهر السابع من الحمل، بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة.. , ومع هذا فإن تغذية الخصية والمبيض بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها، أي من بين الصلب والترائب , فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر (الأورطي البطني) من بين الصلب والترائب , كما أن وريد الخصية يصب في نفس المنطقة، أي بين الصلب والترائب , كما أن الأعصاب المغذية للخصية أو للمبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب والترائب , وكذلك الأوعية اللمفاوية تصب في نفس المنطقة، أي بين الصلب والترائب.
فهل يبقى بعد كل هذا شك أن الخصية أو المبيض إنما تأخذ تغذيتها ودماءها وأعصابها من بين الصلب والترائب!!
فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب والترائب , كما أن منشأها ومبدأها هو من بين الصلب والترائب , والآية الكريمة إعجاز كامل، حيث تقول: (مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ) , ولم تقل من الصلب والترائب , فكلمة " بَيْنِ " ليست بلاغية فحسب، وإنما تعطي الدقة العلمية المتناهية.
والعلم الحديث يقرر أن الماء الذي لا يقذف ولا يندفع وإنما يسيل.. إنما هو إفرازات المهبل وغدد بارثولين المتصلة به، وأن هذه الإفرازات ليس لها دخل في تكوين الجنين، وإنما وظيفتها ترطيب المهبل.. ولكن العلم الحديث يكشف شيئا مذهلا؛ أن الحيوانات المنوية يحملها ماء دافق هو ماء المني , كذلك البويضة في المبيض تكون في حويصلة " جراف " محاطة بالماء، فإذا انفجرت الحويصلة تدفق الماء.. وتلقفت أهداب البوق البويضة لتدخلها إلى قناة الرحم حيث تلتقي بالحيوان المنوي لتكون النطفة الأمشاج.. هذا الماء يحمل البويضة تماما كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية , كلاهما يتدفق , وكلاهما يخرج من بين الصلب والترائب: من الغدة التناسلية؛ الخصية أو المبيض.
وتتضح مرة أخرى معاني الآية الكريمة في إعجازها العلمي الرائع: ماء دافق من الخصية يحمل الحيوانات المنوية , وماء دافق من حويصلة " جراف " بالمبيض يحمل البويضة " انتهى.
"خلق الإنسان بين الطب والقرآن" (ص/114-124) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/145)
هل أٌبيح للنبي صلى الله عليه وسلم التزوج على نسائه قبل وفاته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعتُ أنَّ الله قد حرَّم على النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج على نسائه أخريات، وحرَّم عليه أيضاً أن يطلقهن، ثم بعد ذلك نسخ الحكم، وأحل الله له أن يتزوج عليهن، وأن يطلقهن، فهل هذا صحيح؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة حكم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع، هل هو على الإباحة أن ينكح من يشاء، أو هو ممنوع؟ .
والذي يظهر – والعلم عند الله – أن الله تعالى منع نبيه صلى الله عليه وسلم من التزوج على نسائه رضي الله عنهن أولاً بقوله تعالى (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) الأحزاب/ 52؛ إكراماً لنسائه؛ لأنهن اخترن الله ورسله والدار الآخرة عندما خيَّرهن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نُسخ هذا الحكم المانع بحكم آخر يبيح له صلى الله عليه التزوج بغيرهن؛ وذلك إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أكرم النبي صلى الله عليه وسلم نساءَه بأن لم يتزوج عليهنَّ، فكانت المنَّة له عليهن بذلك.
ثانياً:
اختلف العلماء فيما نسخ ذلك المنع، على ثلاثة أقوال:
1. القول الأول: أن الناسخ هو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الأحزاب/ 50.
ولا يشكل كون الآية الناسخة قبل المنسوخة في المصحف؛ إذا العبرة بالنزول وليس بالتدوين والكتابة، وثمة موضع آخر – عند الجمهور – يشبه هذا، ولم يستنكروا كون الآية الناسخة قبل المنسوخة في ترتيب المصحف، والآيتان هما: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) البقرة/ 234 , وهي ناسخة – عند الجمهور - لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) البقرة/ 240.
قال القرطبي – رحمه الله -:
ويبيِّن لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم: أن قوله عز وجل (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج) منسوخة على قول أهل التأويل - لا نعلم بينهم خلافاً - بالآية التي قبلها (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً) .
" تفسير القرطبي " (14 / 218، 219) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -:
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) , هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ، والجواب ظاهر، وهو: أن الأولى ناسخة لهذه , وإن كانت قبلها في المصحف؛ لأنها متأخرة عنها في النزول.
وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها إلاّ في موضعين، أحدهما: هذا الموضع , الثاني: آية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) هي الأولى في المصحف , وهي ناسخة لقوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) الآية؛ لأنها تقدمت في المصحف، فهي متأخرة في النزول , وهذا على القول بالنسخ.
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " (ص 13) .
2. القول الثاني: أن الناسخ هو قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) الأحزاب/ 51.
وهو قول " الضحَّاك " رحمه الله، كما في " معاني القرآن " للنَّحاس (5 / 368) ، وهو الذي رجَّحه النووي رحمه الله، كما في " شرح مسلم " (10 / 50) ، وقال: " قال أصحابنا: الأصح: أنه صلى الله عليه وسلم ما توفي حتى أبيح له النساء مع أزواجه " انتهى.
وهو – كذلك – ترجيح الشيخ أبي بكر الجزائري حفظه الله، كما في كتابه: " أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " (4 / 284) .
3. القول الثالث: أن الذي نسخ المنع هو السنَّة النبوية:
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْها: " مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ". رواه الترمذي (3216) وقال: حسن صحيح، والنسائي (3204) .
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها بلفظ: " لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول الله عز وجل: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) ".
لكنَّ الأثر ضعيف لا يصح، فقد أخرجه ابن أبى حاتم في " تفسيره " (10 / 3145) ، وفيه: عمر بن أبي بكر الموصلي، وهو متروك، فالإسناد ضعيف جدّاً.
ورواه ابن سعد (8 / 194) من طريق الواقدي، وهو ضعيف جدّاً.
انظر " بيان مشكل الآثار " (1 / 453) .
وقد رجح " النحَّاس " هذا القول، ورأى أن السنَّة هي التي نسخت المنع، وذكر كونها منسوخة بالقرآن احتمالاً، لا ترجيحاً، فقال رحمه الله:
وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة رضي الله عنها واحد في النسخ، وقد يجوز أن تكون عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن.
" الناسخ والمنسوخ " (ص 629) .
وهو الذي رآه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، وذكر لفتة متينة، فقال:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك) الآية، يظهر تعارضه مع قوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) الآية.
والجواب: أن قوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ) منسوخ بقوله: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك) ، وقد قدمنا في " سورة البقرة " أنه أحد الموضعين اللّذين في المصحف ناسخهما قبل منسوخهما لتقدمه في ترتيب المصحف مع تأخره في النزول - على القول بذلك -، وقيل: إن الآية الناسخة لها هي قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) الآية.
والذي يظهر لنا: أن القول بالنسخ أرجح، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومَن بعدهم، منهم: علي، وابن عباس، وأنس، وغيرهم، ولكن المرجح له عندنا: أنه قول أعلم الناس بالمسألة، أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن حِليَّة غيرهن من الضرات، وعدمها: لا يوجد مَن هو أشد اهتماماً بهما منهن، فهن صواحبات القصة، وقد تقرر في علم الأصول أن صاحب القصة يقدَّم على غيره، ولعل هناك تفريق بين ما إذا كان صاحب القصة راوياً، وبين كونه مستنبطاً، كقصة فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى، فالحجة معها، والحديث يؤيدها، ومع ذلك فعمَر يرد قولها، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة، وأبي رافع (أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال) على رواية ابن عباس المتفق عليها (أنه تزوجها مُحْرِماً) ؛ لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها.
فإذا علمت ذلك: فاعلم: أن ممن قال بالنسخ: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له النساء "، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: " لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم ".
أما عائشة: فقد روى عنها ذلك: الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي في سننيهما، والحاكم وصححه، وأبو داود في " ناسخه "، وابن المنذر، وغيرهم.
وأما أم سلمة: فقد رواه عنها: ابن أبي حاتم - كما نقله عنه ابن كثير -، وغيره.
ويشهد لذلك: ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء) ، قال الألوسي في " تفسيره " إن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والعلم عند الله تعالى.
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " (ص 68، 69) .
فالخلاصة:
أن الله تعالى أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من يشاء من النساء غير من عنده من التسع، وكان هذا بعد المنع منه، ولكنه صلى الله عليه وسلم اقتصر عليهنَّ؛ إكراماً لهنَّ.
قال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله - في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) -:
هذه الآية من المتقدم في التلاوة المتأخر في النزول، ونظيرها آيتي الوفاة في " البقرة " على رأي الجمهور، إذ مضمون هذه الآية التوسعة على الرسول صلى الله عيه وسلم؛ إكراماً له لما تحمَّله من نكاح زينب، ثم قصره في الآيات بعد على من تحته من النساء؛ إكراماً لهن أيضاً، وذلك في قوله (لا يحل لك النساء من بعد) ، ثم لم يُقبض حتى رَفع الله عنه الحظر؛ إكراماً؛ وإعلاءً من شأنه، إذ قالت عائشة: " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء ".
" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير " (4 / 281) ، وينظر ما قرره الإمام الطحاوي حول ذلك المعنى في كتابه: " بيان مشكل الآثار " (1 / 457) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/146)
تفسير قوله تعالى: (يخرجهم من الظلمات إلى النور)
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أََوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) ما المقصود بـ " النور " في الآية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"إن الله ولي الذين آمنوا، وناصرهم، ومعينهم، وموفقهم، يخرجهم من الظلمات؛ ظلمات الشرك، وظلمات المعاصي، والبدع، إلى نور التوحيد والحق والإيمان، يعني: بواسطة الرسل، وبواسطة كتبه المنزلة، فكفار قريش، وكفار بني إسرائيل وغيرهم أولياؤهم الطاغوت، والطاغوت الشيطان من الإنس والجن، فالشياطين من الإنس والجن هم أولياء الكفرة، يخرجونهم من نور التوحيد والحق إلى ظلمات الشرك والجهل والمعاصي والبدع، فالنور في هذه الآية المقصود به: التوحيد والإيمان والهدى، والظلمات: الشرك والمعاصي والبدع، نسأل الله العافية" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/209) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/147)
تفسير قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) وما هو الشيء الذي يجب فيه تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) عامة على ظاهرها، فلا يجوز للمسلمين أن يخرجوا عن شريعة الله، بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء، فيما يتعلق بالعبادات، وفيما يتعلق بالمعاملات، وفي جميع الشؤون الدينية والدنيوية، لكونها تعم الجميع، ولأن الله سبحانه يقول: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ويقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فهذه الآيات عامة لجميع الشؤون التي يتنازع فيها الناس ويختلفون فيها، ولهذا قال سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) يعني الناس من المسلمين وغيرهم (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وذلك بتحكيمه صلى الله عليه وسلم حال حياته، وتحكيم سنته بعد وفاته، فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أنزل من القرآن والسنة (فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي: فيما تنازعوا فيه، هذا هو الواجب عليهم: أن يحكموا القرآن الكريم، والرسول صلى الله عليه وسلم، في حياته، وبعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان للقرآن الكريم، وتفسير له، ودلالة على معانيه.
أما قوله سبحانه: (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فمعناه: أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه، وألا يبقى في صدروهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة والسلام. لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه، وهو حكم الله عز وجل، فالواجب التسليم له وانشراح الصدر بذلك، وعدم الحرج، بل عليهم أن يسلموا لذلك تسليما كاملا، رضاً بحكم الله، واطمئناناً إليه، هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى وخصومات، سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شؤونهم.
وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس، فلا بد من هذا، فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها، أو قال إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضيعة التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية - فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه، ويكون بذلك كافرا كفرا أكبر.
فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه، ولكن لو حَكَمَ كان أفضل، أو رأى أن القانون أفضل، أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام. وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يقول: إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع.
النوع الثاني: أن يقول: إن الشرع والقانون سواء ولا فرق.
النوع الثالث: أن يقول إن القانون أفضل وأولى من الشرع. وهذا أقبح الثلاثة، وكلها كفر وردة عن الإسلام.
أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله، وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله، ولكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوىً في نفسه ضد المحكوم عليه، أو لرشوة، أو لأمور سياسية، أو ما أشبه ذلك من الأسباب وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ ومخالف للشرع - فهذا يكون ناقص الإيمان، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب، وهو بذلك يكون كافرا كفرا أصغر، وظالما ظلما أصغر، وفاسقا فسقا أصغر، كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وجماعة من السلف رحمهم الله، وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم. والله المستعان" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/220-223) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/148)
تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فما هو معنى الآية؟ وما هو المراد بالشرك في الآية الكريمة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"قد أوضح العلماء معناها كابن عباس وغيره، وأن معناها: أن المشركين إذا سُئلوا عمن خلق السماوات والأرض ومن خلقهم يقولون الله، وهم مع هذا يعبدون الأصنام والأوثان كاللات والعزى ونحوهما، ويستغيثون بها وينذرون ويذبحون لها. فإيمانهم هذا هو توحيد الربوبية، ويبطل ويفسد بشركهم بالله تعالى ولا ينفعهم. فأبو جهل وأشباهه يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم، وخالق السماوات والأرض، ولكن لم ينفعهم هذا، لأنهم أشركوا بالله بعبادة الأصنام والأوثان. هذا هو معنى الآية عن أهل العلم" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/248) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/149)
معنى قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل بوسعكم رجاء توضيح معنى الآية (195:2) : (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) وأنا في حيرة، حيث قرأت في الفتوى رقم (46807) إلى أن المقصود من إلقاء النفس في التهلكة هو عدم الإنفاق في سبيل الله. ثم قرأت فتوى أخرى برقم (21589) تقول بأن المقصود هو قتل النفس، وهذا إذا كنت قد أحسنت فهمها، أرجو الرد.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يتفق أهل العلم من المفسرين والفقهاء وغيرهم على أن قول الله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة/195
أنه وارد في سياق الأمر بالنفقة، وأنه قد ورد في سبب نزول الآية أن بعضَ الصحابة أرادوا أن يركنوا إلى ضيعاتهم وتجاراتهم ليصلحوها ويتركوا الجهاد في سبيل الله، فحذرهم الله من ذلك في هذه الآية.
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله (4516) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: " نزلت في النفقة " انتهى.
وروى الترمذي (2972) عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: (كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحِهَا، وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّة)
وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (13)
ومع ذلك، فإن العلماء - من المتقدمين والمتأخرين - يستدلون بهذه الآية أيضا على النهي عن قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلكة بأي طريقة من طرق التهلكة، آخذين بعموم لفظ الآية، وبالقياس الجلي، مقررين بذلك القاعدة الأصولية القائلة: " العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب "
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وأما قصرها عليه – يعني قصر الآية على موضوع ترك النفقة في سبيل الله - ففيه نظر، لأن العبرة بعموم اللفظ " انتهى.
"فتح الباري" (8/185)
ويقول الشوكاني رحمه الله:
" أي: لا تأخذوا فيما يهلككم. وللسلف في معنى الآية أقوال. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري " انتهى.
"فتح القدير" (1/193)
ويدل على ذلك أيضا تنوع تفسيرات السلف لهذه الآية، فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اعتبر من يذنب الذنب ثم ييأس من رحمة الله: أنه ألقى بيده إلى التهلكة.
قال ابن حجر في "فتح الباري" (8/33) : أخرجه ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح.
وبهذا يتبين أنه ليس بين الجوابين السابقين في موقعنا تناقض، فالذي جاء في جواب السؤال رقم: (46807) ، بيان لسبب نزول هذه الآية وسياقها.
والذي جاء في جواب السؤال رقم: (21589) هو الاستدلال بعموم لفظ الآية، وبيان أنه لا يجوز الإلقاء باليد إلى التهلكة مطلقا، مهما كان شكل وطريقة هذه التهلكة أو الأذى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/150)
روايات مكذوبة أن الأرض موضوعة على ظهر ثور
[السُّؤَالُ]
ـ[مررت برواية مفادها أن الأرض موضوعة على ظهر ثور، وعندما يحرك الثور رأسه يحدث زلزالا. أظن أنني رأيت هذا في ابن كثير (2/29 و 1/50) . هل يمكنكم تفسير هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما ذكره السائل هنا لم يرد بإثباته دليل من القرآن الكريم، ولا من السنة النبوية الصحيحة، وغاية ما ورد فيه آثار عن بعض الصحابة والتابعين.
فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق " النون " – يعني الحوت - فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، قال: وقرأ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)
أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/307) وابن أبي شيبة (14/101) وابن أبي حاتم – كما في تفسير ابن كثير (8/210) – والطبري في "جامع البيان" (23/140) والحاكم في "المستدرك" (2/540) ، وغيرهم كثير، جميعهم من طريق الأعمش، عن أبي ظبيان حصين بن جندب، عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم. كما ورد ذلك عن مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي. وانظر: "الدر المنثور" (8/240) ، وتفسير ابن كثير (8/185) في بداية تفسير سورة القلم.
وهذا الأثر – كما ترى – موقوف من كلام ابن عباس، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه عن كعب الأحبار، أو عن كتب بني إسرائيل التي تحتوي على كثير من العجائب والغرائب والكذب، يدل على ذلك التفاصيل التي تذكرها بعض كتب التفسير في هذا الموضوع:
يقول الإمام البغوي رحمه الله:
" وقالت الرواة: لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكًا، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثورًا له أربعون ألف قرن، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه، فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها مسيرة خمسمائة عام، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسًا، فإذا تنفس مدَّ البحر، وإذا رد نفسه جزر البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة) ، ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونًا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة. يقال: فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان، قال لها الجبار جل جلاله: كوني فكانت.
قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوِيثا – اسم الحوت - من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لوِيثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه، فعج الحوت إلى الله منها، فأذن لها الله فخرجت.
قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت " انتهى.
"معالم التنزيل" (8/186) ونحوه في تفسير القرطبي (29/442) ، وكلام كعب الأحبار رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/8) ، وعلق محققو تفسير القرطبي (1/385) : كل من الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ومحمد رضوان عرقسوسي على هذا الأثر بقولهم: " خبر إسرائيلي لا أساس له، وكان من الأولى بالمصنف أن ينزه كتابه عن مثل هذا " انتهى.
فانظر كيف أن القصة زاد فيها الرواة وفصلوا، ثم رجع الأمر إلى كعب الأحبار الذي هو مصدر كثير من العجائب المنسوبة إلى هذا الدين.
ولذلك أشار الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/15) – بعد ذكر مجموعة من الغرائب منها هذا الحديث – إلى أنها من الإسرائيليات، فقال: " هذا الإسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة، وكأن كثيرا منها متلقى من الإسرائيليات " انتهى.
وقد وردت بعض الأحاديث المرفوعة المنكرة في هذا المعنى، منها ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض على الماء، والماء على صخرة، والصخرة على ظهر حوت يلتقي حرفاه بالعرش، والحوت على كاهل ملك قدماه في الهواء) وهو حديث موضوع، انظر: "السلسلة الضعيفة" (رقم/294) .
وإذا كان مثل ذلك لم يصح فيه شيء عن الشرع المعصوم، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما غاية ما فيه آثار عن بعض السلف، ومن الظاهر أن مردها جميعا إلى الأخبار عن بني إسرائيل؛ فالواجب في مثل ذلك الإمساك عن الجزم فيه بشيء، وتفويض العلم بشأنه إلى علام الغيوب، كما أدبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْآيَةَ) , رواه البخاري (4485) .
وفي رواية أخرى بيان سبب التوقف عن تصديق أو تكذيب مثل ذلك:
(فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ) رواه أبو داود (3644) وأحمد (16774) ، وصححه الألباني في الصحيحة (2800) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/151)
سؤال من نصراني عن اختلاف العلماء في تفسير القرآن الكريم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من ملحد في كندا: لماذا العلماء اختلفوا في تفسير القرآن الكريم، يدَّعون أن الإنجيل الذي في كندا نسخة واحدة، والتفسير فيها واحد، ليس هناك رأيان؟ فما قولكم جزاكم الله عنا خيراً؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لم يقع الخلاف بين العلماء في تفسير جميع القرآن، وإنما اختلفوا في تفسير بعض آيات منه، ولا شك أن أكثر الآيات لم يقع في تفسيرها خلاف، بل يتفق المفسرون من السلف والخلف والعلماء على تفسيرها، وذلك أمر ظاهر لكل من يقرأ القرآن ويقرأ كتب التفسير، وما زال عامة المسلمين يقرؤون القرآن ويسمعون آياته ولا يستشكلون أكثرها، بل يعرفون المراد منها، وهذا كافٍ في تحقيق هداية القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض: فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (5/162) .
ثانياً:
كما أن الاختلاف الواقع أكثره حدث بعد القرون المفضلة، أما الصحابة والتابعون فكان الخلاف بينهم في تفسير القرآن قليلاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم، وكلما كان العصر أشرف، كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (13/332) .
ثالثاً:
أما الآيات القليلة التي وقع في تفسيرها الخلاف، فهي أيضا على أقسام:
القسم الأول: الخلاف فيها خلاف تنوّع وليس خلاف تضاد، فهو خلاف لفظي غير مؤثر، وخلاف التنوع في حقيقته ليس اختلافا، إذ من شرط الاختلاف تناقض القولين، وهذا غير واقع في هذا القسم من الخلاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شارحا اختلاف التنوع:
"وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم – يعني من المفسرين - عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المُسَمَّى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المُسَمَّى، كما قيل في اسم السيف: الصارم، والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، وكذلك أسماء القرآن: مثل القرآن، والفرقان، والهدى والشفاء، والبيان، والكتاب. وأمثال ذلك.
إذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد: هو الحاشر، والماحي، والعاقب، والقدوس هو الغفور والرحيم، أي أن المسمى واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة، ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس.
مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم.
فقال بعضهم: هو " القرآن ": أي اتباعه.
وقال بعضهم: هو " الإسلام ".
فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبَّه على وصف غير الوصف الآخر.
كما أن لفظ (صراط) يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو " السنة والجماعة " وقول من قال: " هو طريق العبودية " وقول من قال: " هو طاعة الله ورسوله " صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة؛ لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه.
مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ " الخبز "، فأري رغيفا، وقيل له: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.
مثال ذلك: ما نقل في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)
فمعلوم أن (الظالم) لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات، و (المقتصد) يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، و (السابق) يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات.
ثم إن كلا منهم – يعني من المفسرين - يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات:
كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه.
والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.
ويقول الآخر:
السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع.
فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره؛ فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق. والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له: هذا هو الخبز " انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (13/332-338) .
وقال أيضا رحمه الله:
"ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما: ليس فيه تضاد وتناقض؛ بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوع، أو اختلاف في الصفات أو العبارات، وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب، فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق ... فيقول بعضهم: الصراط المستقيم: كتاب الله، أو اتباع كتاب الله، ويقول الآخر: الصراط المستقيم: هو الإسلام، أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم: هو السنة والجماعة. ويقول الآخر: الصراط المستقيم: طريق العبودية أو طريق الخوف والرجاء والحب وامتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات.
ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته.
ومنه قسم آخر: وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التعيين والتمثيل لا على سبيل الحد والحصر، مثل أن يقول قائل مِن العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف" انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (13/381-384) .
القسم الثاني: الآيات التي اختلف في تفسيرها اختلاف تضاد وتباين، وهذا القسم قليل، آياته معدودة، والاختلاف فيها مشهور ومحصور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (13/178) .
ولوقوع هذا الاختلاف أسباب كثيرة، يدرسها العلماء المتخصصون، يمكن الرجوع إليها في كتاب: " أسباب اختلاف المفسرين " للأستاذ الدكتور محمد الشايع، وكتاب: " اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره " للأستاذ الدكتور سعود الفنيسان.
رابعاً:
لا يجوز أن يكون هذا القسم الثاني وهو خلاف التضاد، مثار طعن ولا تشكيك في القرآن الكريم لأسباب عدة:
1- أنه لم يقع في الآيات المتعلقة بعقائد الإسلام أو مقاصد التشريع، بل إنما وقع في آيات الأحكام، مثل اختلاف العلماء في تفسير قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) البقرة/228، هل القرء هو الطهر أم الحيض؟ أو وقع في تفسير بعض سياقات القرآن المتعلقة بالقصص أو الوعظ ونحوه، كاختلافهم في تفسير قوله تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) مريم/24، هل المنادي جبريل أم عيسى عليهما السلام. وهذا الاختلاف – كما ترى – لا يتعلق بصلب العقيدة والشريعة، بل في أمر فقهي أراد الله أن يقع فيه الخلاف رحمةًً بهذه الأمة، وابتلاءً أيضا، أو في أمر لا يتوقف فهم سياق الآيات على معرفة معناه.
2- وهذا الخلاف – على قلته – أغلبه واقع في القرون المتأخرة، ولو رجعنا إلى تفسير السلف من الصحابة والتابعين لما وجدنا أكثر هذا الخلاف الموجود في كتب التفسير المتأخرة.
3- وأخيرا، فالله سبحانه وتعالى له الحكمة في خفاء معاني بعض الآيات، كي يجتهد المجتهدون، ويثور العلم في الكتب والعقول.
خامساً:
أما دعوى نفي الاختلاف في الإنجيل أو في تفاسير الإنجيل فهذه دعوى غريبة عجيبة لا يدعيها النصارى أنفسهم، لما فيها من مناقضة للواقع، حيث تختلف نسخ الإنجيل ورواياته وترجماته اختلافا كثيرا متناقضا، كما تتكاثر فرق النصارى وخلافاتهم الدينية، واختلافهم في تفسيره واقع في صلب عقائدهم، في تفسير التثليث والتوحيد والأقانيم الثلاثة، وهو اختلاف تضاد أدى إلى حدوث فرق كثيرة فيهم تختلف في أصل الدين والعقيدة، أما الإسلام والقرآن فليس بين علماء الإسلام من أهل السنة الذين هم غالب الأمة من عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا خلاف في أركان الدين وحقائقه الرئيسية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وتفاسير النصارى للكتب الإلهية فيها من التحريف لكتاب الله والإلحاد في أسماء الله وآياته ما يطول وصفه ولا ينقضي التعجب منه" انتهى.
"الجواب الصحيح" (3/93) .
وقال أيضا:
"النصارى المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح مختلفون في تفسير هذا الكلام، فكثير منهم يقول: الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة. ومنهم من يقول: بل الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة. وبعضهم يقول: إن الأقانيم الثلاثة: جواد، حكيم، قادر، فيجعل الأب هو الجواد، والابن هو الحكيم، وروح القدس هو القادر، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة، وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحالّ فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول إن المسيح عليه السلام عبد مرسل كسائر الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، فوافقهم على لفظ الأب والابن وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد، كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية.
فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدّقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء عليهم السلام" انتهى باختصار.
" الجواب الصحيح " (3/189-192) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/152)
تفسير قوله تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى الآية الكريمة: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) ، فكيف يسأل الرسول الرسل الذين من قبله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية في سورة الزخرف يقول الله عز وجل فيها: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ) رقم/45.
وظاهرها – كما يبدو - أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الرسل الذين بعثوا قبله عن التوحيد، فاستشكل العلماء ذلك إذ كيف يأمره الله بسؤالهم مع الانقطاع الزمني الظاهر بينه وبينهم، فكانت تفسيراتهم على عدة أقوال:
القول الأول: المقصود أمره بسؤال الرسل والأنبياء الذين صلى بهم ليلة الإسراء.
نقل هذا ابن جرير الطبري في "تفسيره" (21/611) عن ابن عباس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعزاه القرطبي إلى سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من التابعين ثم قال في "الجامع لأحكام القرآن" (16/95) : " هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية " انتهى.
القول الثاني: المقصود أن يسأل الأمم التي أرسل إليها الأنبياء من قبله، وليس سؤال الرسل أنفسهم.
قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (7/230) : " قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ، أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل/36.
قال مجاهد: في قراءة عبد الله بن مسعود: " واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا "، وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي عن ابن مسعود، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة " انتهى.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره (21/612-613) :
" وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: عنى به: سل مؤمني أهل الكتابين.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يقال: سل الرسل، فيكون معناه سل المؤمنين بهم وبكتابهم؟
قيل: جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم، فالخبر عنهم وعما جاءوا به من ربهم، إذا صحَّ، بمعنى خبرهم، والمسألة عما جاءوا به بمعنى مسألتهم إذا كان المسئول من أهل العلم بهم والصدق عليهم، وذلك نظير أمر الله جلّ ثناؤه إيانا برد ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول، يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ، ومعلوم أن معنى ذلك: فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله، لأن الرد إلى ذلك رد إلى الله والرسول.
وكذلك قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) إنما معناه: فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل، فإنك تعلم صحة ذلك من قبلنا، فاستغنى بذكر الرسل من ذكر الكتب، إذ كان معلوما ما معناه " انتهى.
وهناك أقوال أخرى غير قوية يمكن مراجعتها في "تفسير القرطبي" (16/96) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/153)
من هم حاضرو المسجد الحرام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) البقرة/196، من هم حاضرو المسجد الحرام؟ هل هم أهل مكة أم أهل الحرم؟ وما رأيكم فيمن قال: إن المكي لن يتمتع ولن يقرن بدون أهله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"هذا الذي ذكره السائل هو جزء من آية ذكرها الله سبحانه وتعالى فيمن تمتع فقال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ) البقرة/196، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بحاضري المسجد الحرام.
فقيل: هم من كان داخل حدود الحرم، فمن كان خارج حدود الحرم فليسوا من حاضري المسجد الحرام.
وقيل: هم أهل المواقيت ومن دونهم.
وقيل: هم أهل مكة ومن بينه وبينها دون مسافة القصر.
والأقرب أن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم.
فمن كان من حاضري المسجد الحرم فإنه إذا تمتع بالعمرة إلى الحج فليس عليه هدي مثل: لو سافر الرجل من أهل مكة إلى المدينة مثلاً في أشهر الحج ثم رجع من المدينة فأحرم من ذي الحليفة بالعمرة مع أنه قد نوى أن يحج هذا العام فإنه لا هدي عليه هنا؛ لأنه من حاضري المسجد الحرام، وكذلك أهل مكة يمكن أن يقرنوا ولكن لا هدي عليهم مثل: أن يكون أحد من أهل مكة في المدينة ثم يحرم من ذي الحليفة في أيام الحج بعمرة وحج قارناً بينهما، فهذا قارن ولا هدي عليه أيضاً، لأنه من حاضري المسجد الحرام" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (22/ 70، 71) .
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (11/389) :
"اختلف أهل العلم في المعنى بـ: (حاضري المسجد الحرام) ، والراجح أنهم أهل الحرم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/154)
كيف يكون المسلم فتنة للكافر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله سبحانه وتعالى: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الممتحنة/5، فكيف يكون المسلم فتنة للذين كفروا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"يكون فتنة للذين كفروا بتسلُّط الكفار عليه؛ لأن تسلط الكفار على المؤمن فتنة، حيث إنهم يؤزَرون على ذلك، ويأثمون عليه، فيكون ذلك فتنة لهم.
ويحتمل أن معنى (فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: أن يفتنونا هم عن ديننا، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) البروج/10. والآية تشتمل المعنيين جميعاً؛ لأن المعنيين لا ينافي أحدهما الآخر، والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"لقاءات الباب المفتوح" (2/106) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/155)
هل يوجد في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية أن الأرضين سبع؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوجد في القرآن الكريم: الأرضون السبع، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وفي أي سورة من القرآن الكريم أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"ثبت في القرآن الكريم أن الله تعالى خلق سبع أرضين، كما خلق سبع سماوات، قال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) الطلاق/12، وثبت أيضا في الحديث الصحيح: أن الأرضين سبع، فقد روى البخاري ومسلم، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين) وفي الصحيحين عن عائشة مرفوعا مثله.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (1/63) .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الطلاق/12، قال: "يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم، ليكون ذلك باعثًا على تعظيم ما شرع من الدين القويم: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي: سبعا أيضا" انتهى.
وقال السعدي رحمه الله:
"أخبر تعالى أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن ... " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"وأما الأرض فإنها جاءت بلفظ الإفراد في القرآن، وجاءت في السنة بلفظ الجمع؛ وعددها سبع: جاء ذلك في صريح السنة، وفي ظاهر القرآن؛ ففي ظاهر القرآن: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) ؛ لأن المماثلة في الوصف متعذرة؛ فلم يبق إلا العدد" انتهى.
"تفسير سورة البقرة" (3/436) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الأسلام سؤال وجواب(3/156)
من هم أصحاب الأعراف؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت من شخص يقول: إن الأعراف سور بين الجنة والنار يمكثون فيه عدداً من السنين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الناس إذا كان يوم القيامة انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم ترجح حسناتهم على سيئاتهم فهؤلاء لا يعذبون ويدخلون الجنة، وقسم آخر ترجح سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء مستحقون للعذاب بقدر سيئاتهم ثم ينجون إلى الجنة، وقسم ثالث سيئاتهم وحسناتهم سواء، فهؤلاء هم أهل الأعراف، ليسوا من أهل الجنة، ولا من أهل النار، بل هم في مكان برزخ عالٍ مرتفع يرون النار ويرون الجنة، يبقون فيه ما شاء الله وفي النهاية يدخلون الجنة، وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى أن أعطى كل إنسان ما يستحق، فمن ترجحت حسناته فهو من أهل الجنة، ومن ترجحت سيئاته عذب في النار إلى ما شاء الله، ومن كانت حسناته وسيئاته متساوية فهو من أهل الأعراف لكنها -أي الأعراف- ليست مستقراً دائماً، وإنما المستقر: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، جعلني الله وإياكم من أهل الجنة" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"لقاءات الباب المفتوح" (1/408) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/157)
يسأل عن السبيل الذي وسوس به إبليس لأبينا آدم
[السُّؤَالُ]
ـ[أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أنه عندما رفض إبليس لعنه الله السجود لسيدنا آدم قام سبحانه وتعالى بطرده من الجنة. أريد من فضيلتكم توضيح أمر قد أشكل علي، وهو كيف وسوس إبليس لسيدنا آدم وهو في الجنة، مع أن الله تعالى طرده؟ جزاك الله كل خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا نرى للسائل الكريم، ولا لغيره من المسلمين الاشتغال كثيرا بتفاصيل القصص التي طوى القرآن ذكرها، ولم يَرِد بها أثرٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان فيها كبير فائدة أو حكمة لذكرها الله عز وجل في كتابه، أو علَّمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلا ينبغي للمسلم أن ينشغل بالمفضول عن الفاضل، وبالفروع عن الأصول.
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) رواه البخاري (2408) ومسلم (593)
يقول ابن حجر في "فتح الباري" (3/342) :
" قال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات، أو عما لا حاجة للسائل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم) قلت: وحمله على المعنى الأعم أولى " انتهى.
ثانيا:
ومن ذلك الخوض في تفاصيل الطريقة التي وسوس بها إبليس لعنه الله، لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، فقد اقتصر القرآن الكريم على ذكر أصل الحادثة من غير تفصيل طبيعة الوسوسة ولا طريقتها، وأوضح ما جاء في ذلك قوله عز وجل:
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الأعراف/20-21
وقوله سبحانه:
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) طه/120
فإذا وقفنا مع ظاهر الآيات بدا لنا أن هذه الوسوسة كانت مشافهة ومخاطبة مباشرة، وقد نقل بعض أهل العلم ذلك عن جمهور المفسرين، فقال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (1/312) : " قال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) ، والمقاسمة ظاهرها المشافهة " انتهى.
غير أن هذا الظاهر لا يفسر كيف استطاع إبليس أن يخاطب آدم وحواء بهذا الخطاب، وهل كان على هيئته المعروفة أم تمثل لهما، وهل دخل الجنة دخولا حقيقيا أم عارضا، كل ذلك من الغيب الذي لا يمكننا أن نخوض فيه من غير أثارة من علم.
إلا أن نذهب إلى ما روي عن بعض الصحابة والتابعين، ومال إليه ابن جرير الطبري (1/532) ، وأصله من كلام وهب بن منبه عن علوم أهل الكتاب أنه: " لما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس " انتهى باختصار.
أو يقال بما قرره الشيخ الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان" حين قال:
" والمفسرون يذكرون في ذلك قصة الحية، وأنه دخل فيها فأدخلته الجنة، والملائكة الموكّلون بها لا يشعرون بذلك، وكل ذلك من الإسرائيليات، والواقع أنه لا إشكال في ذلك، لإمكان أن يقف إبليس خارج الجنة قريباً من طرفها، بحيث يسمع آدم كلامه وهو في الجنة، وإمكان أن يدخله الله إياها لامتحان آدم وزوجه، لا لكرامة إبليس، فلا محال - عقلاً - في شيء من ذلك، والقرآن قد جاء بأن إبليس كلّم آدم، وحلف له حتى غره وزوجه بذلك " انتهى.
وإنما يعنينا من ذلك أن نؤمن إيماناً لا شك فيه، أن هذه القصة وقعت، كما أخبرنا الله في كتابه، وأن سوق العداوة قد قامت بين إبليس وجنده وآدم وذريّته: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) الإسراء / 53، فاحذره كما حذّرك الله، واستعن عليه بإخلاص الدين لله (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص/82-83، واحذر يا عبد الله أن تكون من حزب الغاوين (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) الحجر41-44.
والله تعالى أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/158)
تفسير قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد في السورة رقم (76) - سورة " الإنسان " - قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) ما المقصود بقوله تعالى (الدهر) ؟ وهل آدم وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ضِمن المقصود بـ " الإنسان" في الآية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سورة الإنسان تبدأ باستفهام تقريري رفيق مُنَبِّهٍ للقلب، يوقظه إلى حقيقةِ عدمه قبل أن يكون، ومن الذي أوجده وجعله شيئا مذكورا بعد أن لم يكن، وجاء على صيغة الاستفهام تشويقا للسامع لينتظر الخطاب الذي يلحقه، فيقول الله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) الإنسان/1
وكلمة (الإنسان) في الآية تعم كل إنسان، إذ البشرُ كلهم مخلوقون، حادثون، وُجدوا بعد أن كانوا في العدم، ولم يكونوا شيئا يذكر، كقوله سبحانه وتعالى – في شأن النبي زكريا عليه السلام -: (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) مريم/9
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان، ومبتدأها، ومتوسطها، ومنتهاها، فذكر أنه مر عليه دهر طويل - وهو الذي قبل وجوده - وهو معدوم، بل ليس مذكورا " انتهى.
"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" (ص/900)
ويقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
" المعنى: هل يقر كل إنسان موجود أنه كان معدوما زمانا طويلا، فلم يكن شيئا يذكر، أي: لم يكن يُسمَّى ولا يُتحدَّث عنه بذاته، وتعريف: (الإنسان) للاستغراق، مثل قوله: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) العصر: 2-3 الآية.
أي: هل أتى على كل إنسان حين كان فيه معدوما. و (الدهر) : الزمان الطويل " انتهى باختصار.
"التحرير والتنوير" (29/345-346)
ولعل هذا القول – وهو مروي عن ابن عباس وابن جريج – أقرب من القول بتعيين آدم عليه السلام مرادا من قوله (الإنسان) ، فالسياق عام، ويدل على عمومه الآية التي بعدها، التي يقول الله تعالى فيها: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، ومعلوم أن بني آدم هم الذين خلقوا من نطفة أمشاج، فهو دليل على أن المراد بكلمة (الإنسان) في الآية الأولى جميع الناس.
وهذا النفي لوجود الإنسان إنما هو بالنسبة للخلق والواقع، وبهذا الاعتبار فالنفي يشمل جميع الخلق، حتى الرسل والأنبياء، فكلهم كانوا في العدم ثم خلقهم الله تعالى.
أما بالنسبة لذكر الله تعالى وعلمه، فالبشر كلهم مذكورون في العلم الأزلي، مكتوبون في اللوح المحفوظ، وللرسل والأنبياء جميعا ذكر خاص في المرتبة العليا، فهم أفضل البشر، وذكرهم في علم الله تعالى يناسب رفيع مقام النبوة والرسالة التي وهبهم الله إياها.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/159)
قوله تعالى وأطعموا القانع والمعتر
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول الله تعالى: (وأطعموا القانع والمعتر) ، مَن هو المعتر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الكلمة جاءت في سياق آيات من سورة الحج، حيث يقول الله عز وجل:
(وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الحج/36-37
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير المعنى الإجمالي للآية – كما في "تفسير القرآن العظيم" (5/425) -:
" يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن، وجعلها من شعائره، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى إلى بيته الحرام.
وقوله: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) ، أي: ثواب في الدار الآخرة.
وقال الأعمش، عن أبي ظِبْيَان، عن ابن عباس في قوله: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) ، قال: قيامًا على ثلاث قوائم، معقولةً يدُها اليسرى، يقول: " بسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك " وكذلك روى مجاهد، وعلي بن أبي طلحة، والعَوْفي، عن ابن عباس، نحو هذا.
وقوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) قال: ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: يعني: سقطت إلى الأرض " انتهى باختصار.
أما قوله تعالى: (وأطعموا القانع والمعتر) : فقد اختلف في تفسيرها أهل العلم على أقوال كثيرة، اختار الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره (ص/538) منها: أن القانع هو الفقير الذي لا يَسأل، والمعتر: هو الفقير الذي يسأل.
وهو اختيار الطاهر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (17/192) ، بل هو اختيار أكثر المفسرين.
ويكفي السائل ـ إن شاء الله ـ أن حفظ ذلك، من جملة الأقوال التي قيلت في تفسيرها.
وأما عن جملة الأقوال التي قيلت فيها، فقال ابن الجوزي في "زاد المسير" (5/433) :
" فيهما ستة أقوال:
أحدها: أن القانع: الذي يسأل، والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل: رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء.
والثاني: أن القانع: المتعفف، والمعتر: السائل: رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والنخعي، وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أن القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم بك ولا يسأل: رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: القانع: أهل مكة، والمعتر: الذي يعتر بهم من غير أهل مكة: رواه خصيف عن مجاهد.
والخامس: القانع: الجار وإن كان غنيا، والمعتر الذي يعتر بك: رواه ليث عن مجاهد.
والسادس: القانع: المسكين السائل، والمعتر: الصديق الزائر: قاله زيد بن أسلم " انتهى باختصار.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/160)
الغلامان الحليم والعليم اللذان بشر بهما إبراهيم عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[بشر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بغلام حليم وفي آية أخرى (بغلام عليم) . فهل هو شخص واحد أم شخصان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم، بشر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بغلام حليم في آية من كتابه في سورة الصافات. وجاءت البشرى بالغلام العليم في موضعين في القرآن الكريم، في سورة الذاريات وفي سورة الحجر.
والذي ذهب إليه جمهور المفسرين ـ وهو الصحيح ـ أن الغلام الحليم إسماعيل عليه السلام، والغلام العليم هو إسحاق عليه السلام.
ويدل على صحة هذا القول دليلان:
الأول: أن الغلام العليم جاءت به البشرى لإبراهيم وامرأته وهي سارة، وابن سارة هو إسحاق.
وأما إسماعيل فهو ابن هاجر جارية إبراهيم.
الدليل الثاني: سياق الآيات، فإن سياق الآيات ظاهر جداً. للدلالة على هذا القول.
أما البشرى بالغلام الحليم، فقد قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه دعا ربه قائلاً: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) سورة الصافات/100-113.
فهذه الآيات تدل على أن الغلام الحليم هو إسماعيل، لأنه هو الذي أمر إبراهيم بذبحه.
ولا يمكن أن يكون هو إسحاق، لأن الله تعالى بعد أن ذكر قصة الغلام الحليم وهو الذبيح، بشر إبراهيم بإسحاق، فقال: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ) وهذا يدل دلالة واضحة على أن الغلام السابق ليس هو إسحاق، وأيضاً: لأن إسحاق بشر أنه سيكون نبياً فلا يمكن أن يؤمر بذبحه.
ووصف إسماعيل بـ (الحليم) ، مناسب جداً، فإن الحلم هو العقل، وكمال الرأي، المتضمن كمال الصبر، وجوابه عليه السلام لما أخبر بالأمر بذبحه يدل على كمال عقله، وكمال صبره، (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) .
قال ابن كثير رحمه الله: "وإسماعيل وصف هاهنا بالحليم؛ لأنه مناسب لهذا المقام" انتهى.
وأما الغلام العليم، فقد قال الله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) الذاريات/24-30.
وقال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) الحجر/49-4.
فآيات سورة الذاريات تدل على أن هذا الغلام العليم سيكون من امرأته، وامرأته هي سارة، وابنها هو إسحاق.
بل جاءت هذه البشرى في سورة هود صريحة بأنه إسحاق.
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) هود/96-75.
فسياق هذه الآيات موافق لسياق آيات سورة الذاريات، مما يدل على أن المبشر به في السورتين هو شخص واحد وهو إسحاق عليه السلام.
وانفرد مجاهد رحمه الله، وقال: الغلام العليم هو إسماعيل، ولم يوافقه أحد من العلماء على هذا القول، بل حكموا بضعفه ورده.
وهذه طائفة من أقوال العلماء، في أن الغلام الحليم هو إسماعيل، والغلام العليم هو إسحاق عليه السلام.
قال ابن جرير الطبري (9/7626) :
" (قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) يعني: بإسحاق، و (عليم) بمعنى عالم إذا كبر.
ورُوي عن مجاهد في قوله: (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) قال: إسماعيل.
وإنما قلت (ابن جرير) : عنى به إسحاق، لأن البشارة كانت بالولد من سارّة، وإسماعيل لهاجَر لا لسارّة" انتهى باختصار.
وقال ابن كثير (4/299) :
" (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وهو إسحاق، عليه السلام، كما تقدم في سورة هود" انتهى.
واختار القرطبي أيضاً أن المراد بـ "الغلام العليم" هو إسحاق عليه السلام، فقال:
" (وبشروه بغلام عليم) أي بولد يولد له من سارة زوجته....
"ومعنى (عليم) أي: يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه.
والجمهور على أن المبشَّر به هو إسحق.
وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل، وليس بشيء، فإن الله تعالى يقول: (وبشرناه بإسحق) .
وهذا نص" انتهى.
"تفسير القرطبي" (19/494) .
يشير القرطبي بذلك إلى أن آيات الصافات ذكرت البشرى بإسحاق بعد ذكر البشرى بالغلام الحليم وهو الذبيح، إسماعيل عليه السلام.
وقال في "البحر المحيط" (10/139) :
" (بغلام عليم) : أي سيكون عليماً، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء. وعن الحسن: عليم نبي؛ والجمهور: على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة. وقال مجاهد: هو إسماعيل" انتهى.
وقال الشوكاني في فتح القدير (4/183) :
" (إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ) والعليم: كثير العلم..... وهذا الغلام: هو إسحاق كما تقدّم في هود" انتهى.
وقال أيضاً (7/46) :
" (وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ) أي: بشروه بغلام يولد له كثير العلم عند أن يبلغ مبالغ الرجال، والمبشر به عند الجمهور هو إسحاق. وقال مجاهد وحده: إنه إسماعيل، وهو مردود بقوله: (وبشرناه بإسحاق) الصافات/112" انتهى.
وقال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (7/485) :
" (إنا نبشرك بغلام عليم) والغلام العليم: إسحاق عليه السلام، أي: عليم بالشريعة، بأن يكون نبياً".
وقال أيضاً (12/140) :
" (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) الغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له، وهو إسماعيل لا محالة.
والحليم: الموصوف بالحلم، وهو اسم يجمع أصالة الرأي، ومكارم الأخلاق، والرحمة بالمخلوق.
وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر، وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قَوم لوط في قوله تعالى: (قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) الذاريات/28، فذلك وُصف بأنه (عليم) . وهذا وصُف بـ (حَلِيمٍ) .
وأيضاً: ذلك كانت البشارة به بمحضر سَارَة أمِّه، وقد جُعلت هي المبشرة في قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) هود/72، فتلك بشارة كرامة، والأولى بشارة استجابة دعائه، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه" انتهى باختصار.
وقال السعدي (ص963) :
" (لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وهو إسحاق عليه الصلاة والسلام، تضمنت هذه البشارة بأنه ذكر لا أنثى (عليم) أي: كثير العلم، وفي الآية الأخرى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) " انتهى.
وقال أيضاً (ص831) :
"فبشرناه بغلام حليم" وهذا إسماعيل بلا شك، فإنه ذكر بعده البشارة بإسحاق، ولأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، فدل على أن إسحاق غير الذبيح، ووصف الله إسماعيل عليه السلام بالحلم، وهو يتضمن الصبر وحسن الخلق وسعة الصدر والعفو عمن جنى" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تفسير سورة الذاريات:
" (وبشروه بغلام عليم) البشارة هي الإخبار بما يسر، أي: أخبروه بما يسره وهو الغلام العليم، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد بلغ من الكبر عتيًّا قبل أن يولد له، فبشروه بهذا الغلام، وبشروه بأنه عليم أي: سيكون عالماً؛ لأن الله تعالى جعله من الأنبياء، والأنبياء هم أعلم الخلق بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله، وهذا الغلام العليم غير الغلام الحليم، لأن في القرآن أن إبراهيم بُشر بغلام عليم في آيتين من كتاب الله، وبشر بغلام حليم في آية واحدة، وهما غلامان، أما الغلام الحليم فإنه إسماعيل أبو العرب، وأما الغلام العليم فإنه إسحاق أبو بني إسرائيل، ولذلك تجد قصتهما مختلفة، ولقد أبعد عن الصواب، من قال: إن الغلام الحليم هو الغلام العليم، بل ونص صريح في سورة الصافات أنهما غلامان مختلفان، فإن الله تعالى لما ذكر قصة الذبيح في سورة الصافات قال بعدها: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فكيف يبشر بمن أمر بذبحه، وكان عنده وبلغ معه السعي، كل هذا مما يدل على أن الغلام الحليم غير الغلام العليم" انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر آيات سورة الصافات وفيها قصة الذبيح الذي هو الغلام العليم: ثم قال تعالى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الصافات/112، فهذه بشارة من الله تعالى له شكراً على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشَّر به غير الأول، بل هو كالنص فيه" انتهى من "زاد المعاد" (1/73) .
وقال أيضاً (1/74) : " فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما، لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه عليما، فقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ) الذاريات/24، 25، إلى أن قال: (قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) الذاريات/28، وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السُّرِّيّة (يعني: الأمة) ، وأيضا: فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك" انتهى.
وبهذا يتبين أن الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل، والغلام العليم هو إسحاق، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/161)
كم سنة عاش نوح عليه السلام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عاش نوح عليه السلام (950) سنة، ولماذا ذكر قي القرآن أنه عاش ألف سنة إلا خمسين عاما، حيث ميز بين السنة والعام؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في عمر نوح عليه السلام العظة والعبرة البالغة:
فهي قرون طويلة قضاها في قومه يدعوهم إلى الله تعالى، يشفق عليهم من عذابه، ويرجو لهم رحمته، ولم يصبه اليأس ولا أخذه القنوط، بل رجا أن يهديهم الله على يديه وإن طال الزمان، فكانت سنوات عمره دروسا للدعاة والمعلمين والمربين في الصبر والعزيمة والإيمان.
كما أن فيها من العظة والعبرة لكل إنسان، ليدرك أن الموت آت وإن طال الزمان، وأن العمر إنما هو أيام تتقضى مع غروب شمس كل يوم، لتسدل الستار على قصة روحه التي منحت فرصة نيل السعادة الأبدية في الجنة، فيا فوزها إن كان سعيها في تحصيل هذه السعادة، ويا خسارها إن قصرت وفرطت.
روى ابن أبي الدنيا في "الزهد" (رقم/358) بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
جاء ملك الموت إلى نوح عليه السلام، فقال: يا أطول النبيين عمرا! كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: " كرجل دخل بيتا له بابان، فقام في وسط البيت هنيهة – القليل من الزمان -، ثم خرج من الباب الآخر " انتهى.
والمسلم الحصيف هو الذي يلتفت إلى هذه المعاني والعبر، فتبعث في نفسه العزيمة وتحثها على العمل، ولا ينبغي أن يشغل باله كثيرا بتفاصيل التاريخ التي لم يلتفت إليها الوحي في بيانه، ولم يثبت فيها شيء من أدلة الشريعة المعتمدة.
ومن ذلك السؤال عن تحديد عمر نوح عليه السلام، فقد ورد فيه عدة أقوال لعلماء للسلف من الصحابة والتابعين، ولم يثبت فيه شيء من الكتاب والسنة الصريحة كي يجزم بأحد هذه الأقوال، ولكننا نسرد هذه الأقوال هنا من باب زيادة العلم بما تنقله كتب السلف:
القول الأول: (950) سنة: وهو قول قتادة.
جاء في "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (6/268) :
" وقال قتادة: يقال إن عمره كله كان ألف سنة إلا خمسين عاما، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة، ودعاهم ثلثمائة، ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة " انتهى.
روى نحوه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18041)
القول الثاني: (1050) سنة: قاله ابن عباس.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا " انتهى.
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/455) لكل من ابن أبي شيبة (7/18) ، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم (9/251) ، وصححه وابن مردويه.
القول الثالث: (1020) سنة: قول كعب الأحبار.
روى ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18043) حدثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، في قول الله: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما "، قال:"عاش بعد ذلك سبعين عاما".
القول الرابع: (1400) سنة: يحكى عن ابن عباس، وهو قول وهب بن منبه:
انظر "تفسير القرطبي" (13/332)
القول الخامس: (1650) سنة: قول عون بن أبي شداد.
عن عون بن أبي شداد، قال:
" إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مائة سنة، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة "
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18044) والطبري في "جامع البيان" (20/17)
القول السادس: (1700) سنة، قول عكرمة.
عن عكرمة رضي الله عنه قال:
" كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث ألفا وسبعمائة سنة " انتهى.
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/456) لعبد بن حميد
قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (6/268) بعد أن استغرب الأقوال السابقة:
" وقول ابن عباس أقرب " انتهى.
ثانيا:
اختلف المفسرون أيضا في الحكمة من استعمال لفظي " السنة " و " العام "، على قولين:
القول الأول: ذهب بعض المفسرين إلى أنها حكمة لفظية فحسب، لأن تكرار اللفظ نفسه فيه ثقل على اللسان، فجاء بلفظ مرادف مغاير، وهو " عاما " لتحقيق الخفة المطلوبة.
يقول الزمخشري في "الكشاف":
" فإن قلت: فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام؟ قلت: لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك " انتهى.
وبنحوه في "التحرير والتنوير" (20/146)
القول الثاني: أن استعمال لفظ " السنة " جاء للدلالة على صعوبة السنوات التي قضاها نوح عليه السلام في دعوة قومه، فهي سنوات عجاف من حيث الخير والمطر والبركة، ومن حيث مشقتها أيضا على نوح عليه السلام في أمر الدعوة، حيث واجهه قومه بالإعراض والأذى، ثم عاش بعد الطوفان وهلاك الكفر من الأرض أعواما من الخصب والنعيم والرخاء، والعرب تطلق لفظ " السنة " على أيام الجدب والقحط، ولفظ " العام " على أيام الرخاء والنعيم.
يقول الراب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (2/140) :
" العام كالسنة، لكن كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب؛ ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام بما فيه الرخاء والخصب، قال: (عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) يوسف/49، وقوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) العنكبوت/14، ففي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة.
وقال برهان الدين البقاعي "نظم الدرر" (14/404) :
" وعبر بفلظ " سنة " ذما لأيام الكفر ... وقال: " عاما " إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغدا واسعا حسنا بإيمان المؤمنين، وخصب الأرض " انتهى.
ونحوه توجيه الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (3/386)
وجمع بعض أهل العلم بين هذين القولين، إذ لا مانع من اعتبار الحكمتين من هذه المغايرة: اللفظية والمعنوية، وأقوال المفسرين - إن لم تتعارض - فالأخذ بها جميعها أولى من اطراح بعضها:
يقول ابن عادل في "اللباب" (12/429) :
" وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول " سنة " وفي الثاني " عاماً "، لئلا يثقل اللفظ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذاناً بأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة " انتهى.
وانظر جواب السؤال رقم (10470) ، (10551)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/162)
تفسير قوله تعالى: (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا)
[السُّؤَالُ]
ـ[في سورة الجن، الآية (رقم/3) : (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) يكررها النصارى تشكيكا في ديننا، كيف نرد عليهم ردا مفحما؟ هل المتحدث هنا هم الجن جهلا منهم؟ أم المقصود بقوله (جد) ضد الهزل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية من سورة " الجن " ذات الوقع المؤثر في النفوس، تحكي حديثا صدر عن الجن الذين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بالقرآن، وأسلموا.
قال الله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا. وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا. وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا) الجن/1-4.
وظاهر جداً من سياق الآيات: أن الجن أعلنوا إيمانهم بوحدانية الله، ورفضهم لما يقوله المشركون من نسبة الصاحبة والولد إلى الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والجد في الآية معناه: العظمة والجلال، وليس معناه "أبو الأب" كما فهم هؤلاء المفترون.
قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (1/364) :
" الجيم والدال أصولٌ ثلاثة: الأوَّل العظمة، والثاني: الحَظ، والثالث: القَطْع.
فالأوّل: العظمة: قال الله جلّ ثناؤُه إخباراً عمّن قال: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) الجن/3.
ويقال: " جَدَّ الرجُل في عَينِي " أي: عَظُم، قال أنسُ بنُ مالكٍ: (كان الرجلُ إذا قرأ سورةَ البقرة وآلِ عِمرانَ جَدَّ فينا) أي: عَظُم في صُدورِنا.
والثاني: الغِنَى والحظُّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (لا يَنْفَع ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ) يريد: لا ينفَعُ ذا الغنى منك غِناه، إنّما ينفعه العملُ بطاعتك.
والثالث: يقال: جَدَدت الشيءَ جَدّاً، وهو مجدودٌ وجَديد، أي: مقطوع " انتهى.
وانظر: "لسان العرب" (3/107) .
فتفسير عبارة الجن التي حكاها الله عنهم: (وأنه تعالى جد ربنا) كتفسير دعاء استفتاح الصلاة أيضا: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)
رواه مسلم موقوفا عن عمر (399) .
والمقصود في كل منهما: تعالت وارتفعت عظمة الله تعالى، وكبرياؤه، وعزته، ونحو ذلك من المعاني التي فيها تعظيم الله تعالى وإجلاله.
لذلك حكى ابن الجوزي في "زاد المسير" (8/378) الأقوال في تفسير الآية، فقال:
" للمفسرين في معنى: (تعالى جَدُّ ربِّنا) سبعة أقوال: أحدها: قدرة ربنا، قاله ابن عباس. والثاني: غنى ربنا، قاله الحسن. والثالث: جلال ربنا، قاله مجاهد وعكرمة. والرابع: عظمة ربنا، قاله قتادة. والخامس: أمر ربنا، قاله السُّدِّي. والسادس: ارتفاعُ ذِكْرِه وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلك ربنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة " انتهى.
وهذه المعاني كلها متقاربة وتدل على عظمة الله تعالى وكبريائه.
والمعنى الإجمالي منها في الآية: هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله سبحانه وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة، أي: زوجة، وولداً، بنين أو بنات!
وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن! فكذبت الجن هذه الخرافة الأسطورية.
قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (14/222) :
"التعالي: شدة العلوّ.
والجَدّ: العظمة والجلال، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله: (ما اتخذ صاحبة ولا ولَداً) ، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، وتعالى جَدّه بغناه المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به. . . وكل ذلك من الافتقار والانتقاص" انتهى.
وقال السعدي في تفسيره (ص 1055) :
" (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) أي: تعالت عظمته وتقدست أسماؤه، (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) فعلموا من جَدِّ الله وعظمته، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا، لأن له العظمة والكمال في كل صفة كمال، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى" انتهى
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
ما معنى قولنا في دعاء الاستفتاح للصلاة: (وتعالى جدك) ؟
الجواب:
" معنى ذلك: تعالى كبرياؤك وعظمتك، كما قال سبحانه في سورة الجن - عن الجن - أنهم قالوا: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) " انتهى.
"فتاوى الشيخ ابن باز" (11/74) .
فتبين من ذلك أن في الآية رداًّ على من نسب لله الصاحبة والولد، كالمشركين والنصارى، لأن ذلك يتنافى من عظمة الله وجلاله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب(3/163)
الجمع بين آية (والله يعصمك من الناس) وموته صلى الله عليه وسلم بالسم
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نوفق بين الآية (والله يعصمك من الناس) أي: من القتل، وبين الحديث الذي ترويه عائشة في صحيح البخاري (يا عائشة، ما أزال أجد الم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نص الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة/ 67.
نص الحديث:
قالت عَائِشَةُ رضى الله عنها: كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِى أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِى مِنْ ذَلِكَ السَّمِّ. رواه البخاري (4165) .
" الطعام ": هو الشاة المسمومة.
" أوان ": وقت، وحين.
" أبهَري ": عرق مرتبط بالقلب، إذا انقطع مات الإنسان.
وأصل القصة:
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ. رواه البخاري (2474) ومسلم (2190) .
ثانياً:
يجب أن يَعلم المسلم أنه ليس ثمة تعارض بين نصوص الوحي، وما يظنه بعض الناس من وجود تعارض بين نصوص الوحي بعضها مع بعض: فهو تعارض في ظاهر الأمر بالنسبة له، وليس تعارضاً في واقع الأمر، ولذا فإن علماء الإسلام الراسخين لا يعجزهم – بفضل الله وتوفيقه – من بيان أوجه التوفيق بين ما ظاهره التعارض بالنسبة لمن يرى ذلك ممن يخفى عليه وجه الجمع بين تلك النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به.
" المسودة " (306) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر: فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق.
" زاد المعاد " (4 / 149) .
وقال ابن القيم - رحمه الله – أيضاً -:
فصلوات الله وسلامه على مَن يصدّق كلامُه بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، فالاختلاف، والإشكال، والاشتباه إنما هو في الأفهام، لا فيما خرج من بين شفتيه من الكلام، والواجب على كل مؤمن أن يَكِلَ ما أشكل عليه إلى أصدق قائل، ويعلم أن فوق كل ذي علم عليم.
" مفتاح دار السعادة " (3 / 383) .
وقال الشاطبي – رحمه الله -:
كل مَن تحقق بأصول الشريعة: فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل مَن حقق مناط المسائل: فلا يكاد يقف في متشابه؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة، فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض، ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ: أمكن التعارض بين الأدلة عندهم.
" الموافقات " (4 / 294) .
وقد برز طوائف من العلماء يتحدون من يزعم وجود تعارض بين نصوص الوحي؛ ومنهم الإمام ابن خزيمة رحمه الله حيث كان يقول – كما في " تدريب الراوي " (2 / 176) -: " لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما ".
ثالثاً:
ما ذكره الأخ السائل مما ظاهره التعارض بين قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) مع قوله صلى الله عليه وسلم (وهذا أوان انقطاع أبهري) وأنه مات بالسم الذي وضعه له اليهود: فليس بينهما تعارض – بتوفيق الله -؛ لأن " العصمة " في الآية هي: العصمة من الفتنة، ومن الضلال، ومن القتل قبل تبليغ الرسالة، وكل ذلك قد تحقق له صلى الله عليه وسلم، وقد عصمه ربه تعالى من كل ذلك، ولم يمت صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أبلغ رسالة ربه تعالى، وقد قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) المائدة/ من الآية 3، وقد ذكر بعض العلماء معنى لطيفاً ها هنا، وهو أن الله تعالى أبى إلا أن يجمع لنبينا صلى الله عليه وسلم بين النبوة والشهادة.
وقد عصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من كفار قريش عندما أرادوا قتله في مكة، وعصمه ربه من القتل في المدينة فيما حضره من غزوات، بل وحتى محاولة اليهود قتله بالسم: فإن الله تعالى قد عصمه منها، فأخبرته الشاة أنها مسمومة، ومات الصحابي الذي كان معه، وأكل منها – وهو بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور - ولم يمت صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا وجوده أثر ذلك السم، واعتقاده أنه سيموت بسببه، وما قاله صلى الله عليه وسلم ليس فيه أن السم هو سبب موته، بل فيه أنه يشعر به، ونه قد يكون هذا هو الموافق لانتهاء أجله.
وبكل حال: فإن العصمة من القتل هي فيما كان قبل تبليغ رسالة ربه، ولم يمت صلى الله عليه وسلم إلا وقد أبلغها على أكمل وجه، وسياق الآية يدل على ذلك، حيث أمره ربه تعالى بتبليغ الرسالة، وأخبره أنه يعصمه من الناس.
ومما يدل على ذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم لليهودية (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ) بعد أن أخبرته أنها أرادت قتله، وهو نص إما في عصمته من القتل بالسم حتى فارق الدنيا، أو هو نص في ذلك قبل تبليغ الرسالة.
وخلاصة الكلام: أنه إما أن يُقال بأن النبي صلى الله عليه سلم عُصم من القتل بالسم – كما سيأتي في كلام ابن كثير والنووي وغيرهما -، وقد أوحى الله بوجود السم فيها، وهذا من عصمته له، أو يقال: إن العصمة هي في أثناء التبليغ لرسالة الإسلام، ولا ينافي ذلك وقوع القتل بعد التبليغ لها – كما سيأتي في كلام القرطبي وابن حجر والعثيمين -، وأن الله تعالى جمع بذلك القتل لنبينا صلى الله عليه وسلم بين النبوة والشهادة، وجعل ذلك تذكيراً لنا على الدوام بعداوة اليهود لنا ولديننا.
وهذه بعض أقوال علماء الأمة فيما ذكرناه، وهو يوضح المقصود إن شاء الله.
1. قال ابن كثير – رحمه الله -:
ومِن عصمة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: حفْظُه له من أهل مكة، وصناديدها، وحسَّادها، ومُعَانديها، ومترفيها، مع شدة العداوة، والبِغْضة، ونصب المحاربة له ليلاً، ونهاراً، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره، وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شرعيَّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر، هابوه، واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً، ثم قيض الله عز وجل له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة -، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء: كاده الله، ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر: حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر: أعلمه الله به، وحماه الله منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدّاً، يطول ذِكْرها.
" تفسير ابن كثير " (3 / 154) .
2. وقال النووي – في شرحه لحديث الشاة المسمومة -:
فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله: (والله يعصمك من الناس) وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته مِن السم المهلك لغيره، وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة، وكلام عضو منه له، فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذراع تخبرني أنها مسمومة) .
" شرح مسلم " (14 / ص 179) .
3. وقال ابن الجوزي – رحمه الله –:
قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) قال ابن قتيبة: أي: يمنعك منهم، وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع.
فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟ : فعنه جوابان:
أحدهما: أنه عصمه من القتل، والأسرِ، وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى: فلا تمنع عصمة الجملة.
والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك؛ لأن " المائدة " من أواخر ما نزل.
" زاد المسير " (2 / 397) .
4. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء: فإنه لم يُعصم منه عليه الصلاة والسلام , بل أصابه شيء من ذلك , فقد جُرح يوم أحد , وكُسرت البيضة على رأسه , ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر , وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك , وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقاً شديداً , فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل , ومما كتبه الله عليه , ورفع الله به درجاته , وأعلى به مقامه , وضاعف به حسناته , ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله، ولا منعه من تبليغ الرسالة , ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ، فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (8 / ص 150) .
5. وقال القرطبي - رحمه الله -:
ليس في الآية ما ينافي الحراسة، كما أن إعلام الله نصر دينه وإظهاره، ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العدد.
" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " (6 / 280) .
6. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله - بعد أن ساق كلام القرطبي هذا -:
وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتنة، والإِضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم.
" فتح الباري " (6 / 82) .
رابعاً:
من الشواهد العملية على عصمته صلى الله عليه وسلم من القتل قبل تبليغ الرسالة:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَجُلاً أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، قَالَ: فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رواه البخاري (2753) ومسلم (843) .
وفي رواية: فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك، ضع السيف، فوضعه.
قال النووي:
ففيه بيان توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله، وعصمة الله تعالى له من الناس، كما قال الله تعالى (والله يعصمك من الناس) .
" شرح مسلم " (15 / 44) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/164)
معنى (الخبيثات للخبيثين) وهل يمكن العثور على زوجة صالحة ظاهراً وباطناً؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[كتبت هذه الرسالة بعد قراءتي لمقال وفي آخر المقال ذكر الموقف التالي: ساق اللالكائي بسنده أن الحسن بن زيد لما ذَكَرَ رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عزّ وجلّ: (الخبيثاتُ للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطّيِّباتُ للطّيِّبين والطَّيِّبون للطَّيِّبات أولئك مُبرَّئون ممّا يقولون لهم مَّغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ) ، فإن كانت عائشة رضي الله تعالى عنها خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر، فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه. فما هو تفسير آية (الخبيثاتُ للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطّيِّباتُ للطّيِّبين والطَّيِّبون للطَّيِّبات أولئك مُبرَّئون ممّا يقولون لهم مَّغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ) ؟! وقد حدثت لي تجربة شخصية من عهد قريب، حيث تزوجت من فتاة كنت أعتقد فيها الصلاح، وكان هدفي هو إقامة بيت مسلم أحاول فيه بكل جهدي أن أسير على نهج رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، ومن بعده صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وبدون الكثير من التفاصيل فقد قصَّرت في حق نفسي، ولم أُحسن السؤال عنها وعن أخلاقها، ووجدتها - غفر الله لي ولها - على جانب عظيم من الخبث، وأكثر حديثها كذب وخداع، ولم أشعر أن عندها أي حب للدين أو للالتزام، وقد طلقتها بعد أن أنجبتُ منها مرة واحدة بعدما يئستُ تماماً من الإصلاح، وأنا في قلبي حب شديد للدِّين، ولمن أراه من الصالحين، وفي المقابل عندي بغض شديد لمن أراه غير ملتزم، وبالذات إن كان يصر على المعصية أو يجاهر بها، المهم كانت تجربة زواجي وطلاقي أقسى وأمرّ ما مررت به في حياتي، وأنا الآن خائف من تكرار التجربة، وهل سأجد من تعينني على الصلاح، وكيف أطمئن طالما تعوَّد الناس على إظهار غير حقيقتهم وبالذات عند هذه الأمور؟ لأني قبل أن أتزوج تلك الفتاة كنت قد استخرت الله كثيراً، وكنت أحيانا أبكي أثناء الصلاة ليرشدني الله، وبالذات لما كنت أرى علامات منها، أو من أسرتها لا تدل على الالتزام الحقيقي، أنا لا أبرئ نفسي من الخطأ والتقصير، ولا أزكى نفسي، ولكني - والله - أحب دينه، وأغار عليه بشدة، وأبغض الكذب بغضاً شديداً، باختصار: فإني لست أظن مهما سألت أو جمعت المعلومات أو حاولت دراسة شخصية الفتاة قبل الارتباط بها - مع الضوابط الشرعية بالطبع - أني سأحسن الاختيار، إلا برحمة وفضل من الله، كما أن الزواج أصبح شديد الصعوبة هذه الأيام، وأصعب وأشد ما فيه هو كيف أجد هذه الزوجة الصالحة، فوالله إني لأظنه الآن من أصعب الأمور، وأكاد أظنه من المستحيلات إلا بقدر الله وتوفيقه عز وجل، وعندما أسمع أو أقرأ هذه الآية فإني بدون إرادتي أشعر بالحزن الشديد، فهل تعني هذه الآية أنني ما تزوجت هذه الفتاة إلا لأني أستحقها؟ أعلم أنه بلاء من الله، ولكني أبغي سماع رأي واضح في تفسير الآية، وإن أمكن الرد على باقي ما ذكرته من الاستفسارات.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) النور/ 26، فقال بعضهم: هو الخبث والطِّيب في الأقوال، فيكون معنى الآية: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
وقال آخرون: هو الخبث والطيب من الأفعال، فيكون معنى الآية: الأفعال الخبيثات للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من الأفعال، وكذا الأفعال الطيبات للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الأفعال.
والقول الثالث في الآية: أن الخبث والطيب هو من الأشخاص في النكاح، فيكون معنى الآية: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
ولا مانع من حمل الآية على المعاني جميعها، وإن كان أظهر الأقوال هو القول الأول، وعليه الجمهور من المفسرين، ويليه: القول الثاني.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) أي: كل خبيث من الرجال والنساء، والكلمات، والأفعال مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومُشاكِل له، وكل طيِّب من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال مناسب للطيب، وموافِق له، ومقترن به، ومشاكِل له، فهذه كلمة عامة وحصر، لا يخرج منه شيء، من أعظم مفرداته: أن الأنبياء - خصوصا أولي العزم منهم، خصوصا سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق - لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء، فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود بهذا الإفك من قصد المنافقن، فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم يُعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح.
فكيف وهي هي؟ صدِّيقة النساء، وأفضلهن، وأعلمهن، وأطيبهن، حبيبة رسول رب العالمين، التي لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها، ثم صرح بذلك بحيث لا يُبقي لمُبطل مقالاً، ولا لشك وشبهة مجالاً فقال:
(أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) والإشارة إلى عائشة رضي الله عنها أصلا، وللمؤمنات المحصنات الغافلات تبعا.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) تستغرق الذنوب.
(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة صادر من الرب الكريم.
" تفسير السعدي " (ص 563) .
ثانياً:
ما نقلتَه بشأن قتل من قذف عائشة رضي الله عنها صحيح، وهذا هو الذي ينبغي على الحكام المسلمين أن يفعلوه، وهو قتل كل من قذف عائشة رضي الله عنها؛ لأن الطعن في عرض عائشة تكذيب للقرآن، وطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحدٍ من هذين يوجب الكفر المخرج من الملة، ويستحق فاعله القتل على الردة.
وفي " الموسوعة الفقهية " (22 / 185) :
اتّفق الفقهاء على أنّ من قذف عائشة رضي الله عنها: فقد كذّب صريح القرآن الّذي نزل بحقّها، وهو بذلك كافر، قال تعالى - في حديث الإفك بعد أن برّأها الله منه -: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ، فمن عاد لذلك: فليس بمؤمنٍ.
وهل تعتبر مثلها سائر زوجات النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهنّ؟ .
قال الحنفيّة والحنابلة في الصّحيح واختاره ابن تيميّة: إنّهنّ مثلها في ذلك، واستدلّ لذلك بقوله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) .
والطّعن بهنّ يلزم منه الطّعن بالرّسول والعار عليه، وذلك ممنوع.
والقول الآخر وهو مذهب الشّافعيّة والرّواية الأخرى للحنابلة: أنّهنّ - سوى عائشة - كسائر الصّحابة، وسابّهنّ يجلد، لأنّه قاذف.
انتهى
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
قذْف عائشة بما برأها الله منه: كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، وفي قذف غيرها من أمهات المؤمنين قولان لأهل العلم، أصحهما: أنه كفر؛ لأنه قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فإن (الخبيثات للخبيثين) .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (5 / ص 86) .
وانظر جواب السؤال رقم: (954) .
ثالثاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظفَر بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَت يَدَاكَ) .
رواه البخاري (4802) ومسلم (1466) .
ليس من المستحيل أن يجد الرجل امرأة صالحة تعينه على طاعة الله، وتقوم بخدمته، وتربي أولاده، وتحفظ ماله وبيته، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بنكاح ذات الدِّين، ولولا أنه بمقدور الرجل واستطاعته أن يجد تلك المرأة المتدينة لما أوصاه نبيه صلى الله عليه وسلم بتزوجها، وهو الذي أخبر في الحديث نفسه أن من الرجال من ينكح المرأة لجمالها، ومنهم من ينكحها لحسبها، ومالها، فالرجال يختارون من النساء كلٌّ حسب رغبته، وعادته، وعرفه، والوصية لجميع المسلمين بأن يكون البحث عن ذات الدين، والاقتران بها؛ لأن في التزوج منها خيراً يراه الرجل في نفسه، وفي بيته، وعلى أولاده.
ولا ينبغي لك أخي السائل قطع الأمل من وجود امرأة صاحبة دين وخلق، فما تزال أمة الإسلام بخير، وما تزال بيوت المسلمين تربي أجيالاً من النساء يحملن أخلاق الإسلام، ويتربين عليه.
ولا يعني فشل تجربة في الزواج أن الحكم سينساق ليشمل كل زواج بعده، فلا يخرج ما حصل معك أولاً عن كونه عقوبة لك بسبب تقصيرك في السؤال والاستفصال عن المرأة التي تزوجتها.
والناس يعرف بعضهم بعضاً، ويختلط بعضهم ببعض، فلا يخفى حال الأسرة وأفرادها عن أقربائهم، وجيرانهم، كما أن أفراد الأسرة يختلطون في المسجد، والمدرسة، والزيارات، فتُعرف المرأة الصالحة من عكسها، ويُعرف الرجل المتدين من عكسه؛ وذلك بمحافظتهما على الصلاة، والالتزام بالشرائع الظاهرة، والأخلاق في التعامل مع الآخرين، وما يخفيه أحدهم في باطنه: فهذا مما لا يمكن لأحد معرفته، ولا يلام من اغتر بصلاح الظاهر وخفي عليه فساد الباطن؛ إذ لم يكلفنا ربنا بشق بواطن الناس والاطلاع عليها.
ثم إن ما يجري على النساء اللاتي تبحث بينهن عن شريكةٍ لحياتك يجري عليك أيضاً! فما الذي يُدري الناس بحقيقة أمرك، وعلم باطنك؟! وقد أوصي الأولياء بأن يزوجوا أهل الدين والخلُق من الرجال، وذلك بحسب ما يظهر منهم، مع السؤال والاستفصال من المقربين لهذا الخاطب، وما قد يقع من الإيهام والخديعة من قبَل المرأة فإنه قد يقع مثله – بل وأضعافه – من الرجال، فلا ينبغي لك أخي السائل أن تقلق وأن تغتم بسبب زواجك الأول، وكل ما عليك الآن هو البحث بأناة، وسؤال أهل الخير عن الأسر الفاضلة الكريمة التي ربَّت بناتها على طاعة الله تعالى، وعلى الأخلاق الفاضلة، ومن ثمَّ تخصص سؤالك عمن ترغب نكاحها من تلك الأسرة بسؤال صديقاتها وزميلاتها عن التزامها واستقامتها وعن أخلاقها وتعاملها، وبذلك تكون حققت وصية النبي صلى الله ليه وسلم، والمرجو أن لا يخيب ظنك بها، وأن لا تخيِّب أنت ظنهم بك.
ونسأل الله تعالى أن يوفقك لحسن الاختيار، وأن يرزقك زوجة صالحة، تعفُّك، وتعفها، وتُحسن إليها وتُحسن إليك، وأن يرزقكم ذرية طيبة.
ولمعرفة مواصفات الزوجة انظر جوابي السؤالين: (26744) و (10376) .
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/165)
الجمع بين آيتي تبشير مريم بعيسى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أتكلم إلى واحد من غير المسلمين حين قال أنه يوجد تعارض في القرآن؛ نعوذ بالله. وأنا أعلم تماما أن هذا إما فساد تصور أو سوء ترجمة لمعاني القرآن. لكني لم أستطع الرد عليه بالشكل الكافي لقلة علمي. وملخص هذا التعارض الذي ادعاه ما يلي: ذُكر في آية أن العديد من الملائكة بشرت السيدة مريم بميلاد عيسى (الآية 42 من سورة آل عمران) بينما ذكر في آية أخرى أن الذي بشرها بذلك هو ملك واحد (الآية 17 من سورة مريم) ؟ فهل هم ملك واحد أم عدة ملائكة؟ رجاء إزالة هذا اللبس وتفسيره لي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد صدقت في وصفك هذا القول الذي زعم صاحبه أن القرآن متعارض أنه فساد تصور، وهو إما أن يكون لسوء فهم صاحبه أو لعناده، فيبحث عن شبه يهز بها إيمان بعض المسلمين الذين يجهلون دينهم، ولذا فإن النصح مبذول لجميع إخواننا المسلمين: أن لا يتصدى أحد منهم لمناقشة المبطلين قبل أن يتسلح بسلاح العلم الذي يدفع به شبههم، وليترك هذا الأمر لأهله من العلماء الراسخين، وطلبة العلم المتقنين فربما وردت شبهة على القلب الفارغ فأثرت فيه أعظم الأثر والسلامة لا يعد لها شيء.
وأما عن خصوص هذه المسألة فإنه لا تعارض بين الآيتين والحمد لله، وقد أجاب عنها علماء التفسير قديما إذ قال الرازي في تفسيره عند تفسير آية آل عمران: (المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده وهذا كقوله سبحانه: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) يعني جبريل) اهـ.
وهذا ليس غريبا على لغة العرب أن يطلق الجمع ويراد به واحد، وأمثلة هذا كثيرة في القرآن كقوله سبحانه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران (173)
والمقصود بـ (الناس) الأولى: نعيم بن مسعود، والناس الثانية المقصود به: أبو سفيان وأصحابه وليس المقصود جميع الناس.
قال الإمام ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز: (وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم فذكر اسم الجنس كما قال تعالى: (الذين قال لهم الناس) اهـ.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/166)
هل ثبت في النصوص أن مكة المكرمة هي مركز الأرض؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سَمعتُ بأنّ مكة المكرمة مركزُ الأرضِ. هَلْ ذلك حق؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دراسة هذه المسألة تتفرع إلى جانبين اثنين: الجانب الشرعي، وذلك للبحث عن الأدلة من القرآن والأحاديث والآثار الواردة في هذا الموضوع.
والجانب العلمي: للنظر في الأبحاث العلمية والبراهين الحسية التي تبين القضية.
أولا:
أما الجانب الشرعي فقد قال بعض أهل العلم: إن في القرآن الكريم إشارات إلى هذه النظرية، وفي السنة النبوية وآثار السلف تصريحٌ بها.
أما إشارات القرآن ففي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً) البقرة/143، لأن الآية في معرض الأمر باتخاذ الكعبة قبلة، فكأن معنى الآية: كما كانت الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أنتم أمةً وسطا بين الأمم.
يقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/153) :
" المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا " انتهى.
ولكن هذا واحدٌ من وجوه ستة يذكرها المفسرون في طرفي التشبيه في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم) ، لعل أظهرها ما ذكره ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/141) :
" كما هديناكم - أيّها المؤمنون - بمحمد عليه الصلاة والسلام، وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على مَن سِواكم مِن أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم مِن أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا " انتهى.
وانظر: "تفسير القرآن العظيم" (1/454) ، "مفاتيح الغيب" (2/387) ، "الدر المصون" (2/134) .
وأيضا هناك إشارة في قوله عز وجل: (وَهََذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا) الأنعام/92 فقال بعض العلماء: إنما سميت مكة " أم القرى " لأنها أصل قرى الأرض كلها، ومنها دحيت الأرض، فهي لذلك وسط الأرض.
بل قال بعض أهل العلم: إن في تسميتها " مكة " إشارة إلى أنها مركز الأرض ووسطها:
يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات القرآن" (1/470 – 471) :
" مكك: اشتقاق مكة من تمكَّكْتُ العظم: أخرجت مخه، وامتكَّ الفصيلُ ما في ضِرع أمه، وعبَّر عن الاستقصاء بالتمكُّكِ.
وتسميتها بذلك لأنها كانت تَمُكُّ مَن ظلم بها: أي تدقُّه وتهلكه.
قال الخليل: سميت بذلك لأنها وسط الأرض، كالمخ الذى هو أصل ما في العظم " انتهى.
وانظر "مفاتيح الغيب" (4/310) حيث ذكر في اشتقاق مكة وجوها أخرى كثيرة.
فالحاصل أن القرآن الكريم لا يتضمن نصًّا ولا دلالةً أو إشارةً ظاهرة بأن مكة المكرمة أو الكعبة المشرفة تقع في مركز الأرض ووسطها، وما ورد في ذلك لا يعدو كونه إشارات محتملة وإيماءات بوجه مشتبه.
ثانيا:
أما الأحاديث النبوية المرفوعة، فقد حاولنا جمعها بالاستقصاء من كتب السنة، كي نقف على جميع طرقها ورواياتها، فلم نجد إلا حديثا واحدا مرفوعا في هذا الباب، وهو ما جاء:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت، ثم مدت منها الأرض، وإن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض " أبو قبيس "، ثم مدت منه الجبال) .
قال المناوي في "فيض القدير" (3/108) :
" (ثم مُدَّت) بالبناء للمجهول أي: بسطت. (منها الأرض) : من سائر جوانبها، فهي وسط الأرض وقطبها " انتهى.
لكن الحديث: رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/341) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3/431) ، والديلمي في "مسند الفردوس" (1/1/11) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/31) وعزاه السيوطي في "الجامع" (9603) إلى الحاكم في تاريخه.
كلهم من طريق: سليمان بن عبد الرحمن: نا عبد الرحمن بن علي بن عجلان القرشي نا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً.
وهذا الحديث معل بجهالة عبد الرحمن بن علي، وبوقف الرواية على عطاء أو مجاهد من قولهم.
وعبد الرحمن بن علي بن عجلان الدمشقي هذا: روى عن ابن جريج وعن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وروى عنه سليمان بن عبد الرحمن وعمرو بن عثمان الحمصي وابن بنته شيبة بن الوليد.
لم يرد توثيقه إلا عن سليمان بن عبد الرحمن الراوي عنه، نقله عنه ابن عساكر في ترجمته في "تاريخ دمشق" (35/133) ، غير أن سليمان هذا – وهو أبو أيوب الدمشقي – متكلم فيه، أخذوا عليه كثرة روايته عن المجهولين. قال فيه ابن معين: ثقة إذا روى عن المعروفين. وقال ابن حبان: يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير، فأما إذا روى عن المجاهيل ففيها مناكير. انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (12/26) ، لذلك لم يعتبر أهل العلم توثيق سليمان بن عبد الرحمن لبعض من يروي هو عنهم، فذكر العقيلي عبد الرحمن بن علي بالجهالة، وأعل حديثه بالوقف على عطاء أو مجاهد، وروى ذلك بالأسانيد إليهم، فقال في ترجمته في "الضعفاء" (2/341) : " مجهول بنقل الحديث، حديثه غير محفوظ إلا عن عطاء من قوله، مجهول بالنقل ...
حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا الحارث بن زياد الجعفي قال سمعت عطاء بن أبى رباح قال: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس.
وحدثنا أبو يحيى بن أبى مسرة قال حدثني أبى قال حدثنا سعيد بن سالم المقداح عن ابن جريج عن مجاهد قال: أول لمعة من الأرض موضع البيت مدت الأرض منها.
قال أبو جعفر: هذه الرواية أولى " انتهى باختصار.
كما أنه ورد نحو هذا الحديث من قول ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي، وهو ما يبين وهم من رفع الحديث.
وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم/5881)
ثالثا:
قد ورد في آثار الصحابة والتابعين روايات كثيرة تدل على أنهم كانوا يرون وسط الأرض في مكة المكرمة:
1- جاء من قول عبد الله بن عمرو بن العاص:
" خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدةً بيضاء، وكانت الأرض تحته كأنها حشفة، فدحيت الأرض من تحته "
رواه الطبري في "تفسيره" (6/20) بسند رواته ثقات. وعزاه في الدر المنثور" (2/265) لابن المنذر والطبراني والبيهقي في "الشعب".
2- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
" وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ".
رواه الطبري في تفسيره (3/61) بسند لا بأس به.
3- وورد من كلام أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
" خُلقت الكعبة قبل الأرض بألفي سنة. قالوا: كيف خلقت قبل وهي من الأرض؟ قال: كانت حشفة – يعني: جزيرة - على الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار ألفي سنة، فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها في وسط الأرض "
عزاه في "الدر المنثور" (1/115) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقد وقفت على سنده في "مجلس إملاء في رؤية الله تبارك وتعالى" لأبي عبد الله الدقاق (ص/287) وفي "أمالي ابن بشران" (2/204) وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني ترجمته في "تهذيب التهذيب" (10/422) وأكثر كلمة المحدثين على تضعيفه.
أما عن التابعين: فقد جاء عن مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم نحو هذا الكلام، كما عند ابن أبي حاتم والطبري في تفسيريهما، وكذا في مصنف عبد الرزاق (5/90) ، ومن الكتب التي توسعت في نقل هذه الأخبار: "أخبار مكة" للأزرقي، و "أخبار مكة" للفاكهي.
وهذه الآثار مما تحتمل أن يكون لها حكم الرفع، وتحتمل أيضا أن تكون منقولة عن أهل الكتاب، فإن كتبهم مليئة بأخبار خلق السماوات والأرض وبدء الخليقة. يؤيد ذلك ورود الأثر السابق عن كعب الأحبار، كما يرويه عنه عبد الرزاق في "المصنف" (5/95) أنه قال: " كان البيت غثاء على الماء قبل أن يخلق الله تعالى الأرض بأربعين عاما، ومنه دحيت الأرض " انتهى.
كما ورد عن قتادة رحمه الله – في "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (2/901) – أن صخرة بيت المقدس هي وسط الأرض.
وذلك ما قد يشعر بأن الأمر مأخوذ عن أخبار متضاربة عن أهل الكتاب.
رابعا:
فالحاصل مما سبق أنك لا تجد دليلا ظاهرا يقوى للدلالة على أن مكة المكرمة هي مركز الأرض، ولكن الإشارات التي ذكرناها في بعض النصوص، على ما فهمه منها بعض أهل العلم، وما جاء في الآثار السابقة، تشعر بأن لهذه الكلام أصلا، وهي قرائن ترجح قول من قال ذلك، ما لم يظهر خلافها بالأدلة العلمية الصحيحة.
خامسا:
أما من الناحية العلمية، فنحن لسنا من أهل التخصص في علوم الأرض و " الجغرافيا "، فلزم أن نقف في البحث عند هذا الحد، ولكن نحيلك على بعض المتخصصين من أهل العلم الذين بحثوا في هذا الأمر، وتوصلوا إلى أن مكة المكرمة هي مركز الأرض ووسطها، فلعل في أبحاثهم العلمية ما يقوي هذا الجانب، مع إبقاء الأمر تحت دائرة البحث والنظر، وهو في غايته أمر اجتهادي قابل للصواب والخطأ.
انظر: بحث: " إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة " د. حسين كمال الدين أحمد: " مجلة البحوث الإسلامية " – الرياض – (2/292)
وبحث " الإسقاط المكي للعالم " د. حسين كمال الدين أحمد: "مجلة البحوث الإسلامية" – الرياض – (6/225)
وانظر الروابط الآتية:
http://www.elnaggarzr.com/index.php?l=ar&id=11&cat=39
http://www.elnaggarzr.com/index.php?l=ar&id=476&p=2&cat=575
http://www.elnaggarzr.com/index.php?l=ar&id=488&p=2&cat=595
http://www.islamtoday.net/questions/show_question_content.cfm?id=114583
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/167)
الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أود معرفة كيف يتوافق إخبار القرآن بأنه لا يعلم الغيب إلا الله مع اكتشافي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في أحد الأحاديث بأن تنبؤ الجن بما سيحدث في المستقبل يحمل جزءا من الصدق، ثم يدخل الجن به مئات الأكاذيب ويخبرونا بها، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى بأن التنجيم يقوم على الأكاذيب " الشمس والقمر هما آيتان فقط من آيات الله ". فكيف تخبرنا الجن بما سيحدث فى المستقبل مع أنه لا يعلم بذلك إلا الله؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
فإن علم الغيب مما استأثر الله تعالى بعلمه كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) النمل/65، وقال سبحانه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الأنعام/59.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المفاتيح بالأمور الخمسة التي وردت في سورة لقمان في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الآية/34، وروى البخاري في صحيحه حديث رقم (4477) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) .
ولكن من المهم في هذه المسألة أن نعلم ما هو الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه فإن الغيب معناه ما كان غائبا؛ وهذا الغائب إما أن يكون غائبا عن الخلق كلهم - أهل السماء وأهل الأرض -، فهذا النوع من الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وهو الذي يسمى بالغيب المطلق.
وإما أن يكون هذا الغائب غائبا عن بعض الخلق، ومعلوما لخلق آخرين، فهذا إنما يسمى غيبا بالنسبة للجاهل به، وليس هو غيبا عن جميع الخلق، فلا يختص الله عز وجل بعلمه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح العقيدة الواسطية" (ص/158) : " المراد بالغيب: ما كان غائباً، والغيب أمر نسبي، لكن الغيب المطلق علمه خاص بالله " انتهى.
وما يخبر به الكهان، مما سيقع في المستقبل ليس من علم الغيب في شيء، وليس من علم الغيب في شيء، وليس من علم ما في غد، بل هم كذابون في دعاواهم؛ لكن قد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سرقوا علم ذلك، مما أوحاه الله على ملائكته، فعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ) رواه البخاري برقم (7561) .
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم كيفية استراق الجن لهذه الكلمة فقال: (وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ. قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَيُرْمَوْنَ بِهِ فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ) رواه مسلم برقم (2229) .
فتبين من هذا أن الجن لا يعلمون الغيب وإنما يسترقون السمع من الكلام الذي تردده الملائكة، والملائكة أنفسهم لم يكن عندهم شيء من علم ذلك، إلا بعد أن أعلمهم الله عز وجل به، وبعد علمهم به لم يعد غيبا مطلقا، وأما قبل ذلك فإنهم كغيرهم من الخلق لايعلمون من الغيب شيئا، فرجع هذا إلى إخبار الله، وإعلامه لهم، قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً) الجن/26.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إن أشرف الرسل الملكي وهو جبريل سأل أشرف الرسل البشري وهو محمد عليه الصلاة والسلام قال أخبرني عن الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) ، والمعنى: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضا) انتهى.
"شرح العقيدة الواسطية" (ص/158) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/168)
معنى آية (والقمر قدّرناه منازل..)
[السُّؤَالُ]
ـ[إنني أميل إلى الإسلام، ومنذ عام 1994م بدأت أقرأ القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من وقت مبكر من هذه السنة، ولقد وجدت إشباعاً روحياً عظيماً في الإسلام.
سوف أتلقى دروساً لأنني أخطط لاعتناق الإسلام. أنا لست متأكدة من معنى آية في سورة ياسين وآمل أن تستطيع مساعدتي (الآية رقم 39) وهي قوله تعالى: (والقمر قدرناه منازل … الآية) إنني ممتنة لمساعدتك، وأدعو الله أن يهديك ويحفظك ويبارك لمساعدتك التي تمنحها لناس كثير في أنحاء العالم عن طريق أجوبتك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا: أريد أن أهنئك أيتها السائلة على القناعة التي وصلت إليها بصحة دين الإسلام وأنّه الدّين الوحيد الذي يلبي حاجات النفس ويجلب لها الطمأنينة والسعادة ويبدو من ألفاظ سؤالك التأثّر الواضح بما قرأتيه عن الإسلام حتى لو أنّك لم تخبرينا بأنّك هندوسية لما ظنّنا إلا أنك مسلمة من خلال الأسلوب المستخدم في السؤال.
وأهمّ ما أريد أن أقدّمه لك من النّصيحة هنا هو المسارعة بالدخول في الإسلام وأن يكون ذلك عاجلا غير آجل وإذا كان الشّخص قد تبينت له كلّ هذه الحقائق فلماذا يتأخّر عن الدخول في الإسلام؟
وهناك أمر آخر يحسن التنبيه عليه وهو أنّ بعض الذين يريدون الدّخول في الإسلام يؤخّرون دخولهم فيه حتى يتعلموا قدرا من هذا الدّين ككيفية الصلاة ونحو ذلك لظنّهم ربّما أنّه لا يصلح الدّخول في الدّين إلا بعد قطع شوط في تعلّمه وهذا أمر غير صحيح فإنّه متى تبيّن للإنسان الحقّ وجب عليه أن يتّبعه ويدخل في الإسلام فورا ثمّ يتعلّم الكتاب والسنّة ويتفقّه في الدّين ويتدرّج في سلّم العلم والعمل بحسب قدرته واستطاعته، لأنّ الإنسان لا يدري متى توافيه المنيّة، فإذا لقي الله بغير الإسلام كان من الهالكين، ثمّ إنّ الإنسان لا يُؤجر ولا تُكتب له الحسنات إلا بعد الدّخول في الدّين فيفوته خير كثير نافع إذا أخّر إسلامه، والوقت المنصرم من العُمُر لا يُمكن أن يعود.
هذا ونعود إلى سؤالك - أيتها السائلة العاقلة الموفّقة إلى الحقّ بإذن الله - بشأن معنى الآية التاسعة والثلاثين من سورة يس.
في هذه الآية يقول جلّ وعلا: " والقمر قدرناه منازل" أي جعلناه يسير سيرا آخر يستدل به على مضي الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار كما قال عز وجل "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج". وقال تعالى: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" الآية.. فجعل الشمس لها ضوء يخصها والقمر له نور يخصه وفاوت بين سير هذه وهذا فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ثم يطول الليل ويقصر النهار وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري وأما القمر فقدّره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر القمري ضئيلا قليل النور ثم يزداد نورا في الليلة الثانية ويرتفع منزلة ثم كلما ارتفع ازداد ضياء وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة ثم يَشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو أصل العذق. وقال مجاهد العرجون القديم أي العذق اليابس يعني ابن عباس رضي الله عنهما أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى ". (المرجع تفسير ابن كثير) .
وهذا التشبيه في الآية للقمر في آخر الشهر بالعرجون هو قمّة البلاغة والجمال في التعبير، والحسن البالغ في انتقاء المشبّه به من البيئة المحيطة للمقارنة بالمشبّه. والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/169)
هل يدخل المسلمون في الذين أذهبوا طيباتهم في الحياة الدنيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا؟ هل يدخل فيهم من تلذذ بالطعام والشراب ولبس أحسن الثياب، واشترى أغلى العطور، وركب أحسن السيارات؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) الأحقاف/ 20.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -:
" اعلم أن للعلماء كلاما كثيراً في هذه الآية، قائلين: إنها تدل على أنه ينبغي التقشف، والإقلال من التمتع بالمآكل، والمشارب، والملابس، ونحو ذلك، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً من أن يدخل في عموم مَن يقال لهم يوم القيامة: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) ، والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة، وما لاقوه مِن شدة العيش.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية هو: أنها في الكفار، وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم؛ لأنه تعالى ما أباحها لهم ليُذهب بها حسناتهم.
وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق؛ لأن الكتاب والسنَّة الصحيحة دالان عليه، والله تعالى يقول: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) النساء/ 59.
أما كون الآية في الكفار: فقد صرح الله تعالى به في قوله: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) .
والقرآن والسنَّة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع، مخلصاً فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم، ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله: يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق، والعافية، ونحو ذلك، ولا نصيب له في الآخرة.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هود/ 15، 16 , وقوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ نَصِيبٍ) الشورى/ 20.
وقد قيَّد تعالى هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته، في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) الإسراء/ 18.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً، يُعطي بها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر: فيُطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها) هذا لفظ مسلم في صحيحه.
وفي لفظ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته) ا. هـ.
فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه التصريح بأن الكافر يُجازى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً، وبمقتضى ذلك يتعين تعييناً لا محيص عنه أن الذي أذهب طيباته في الدنيا، واستمتع بها هو الكافر؛ لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة.
وأما المؤمن الذي يُجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً: فلم يُذهب طيباته في الدنيا؛ لأن حسناته مدخرة له في الآخرة، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق/ 2،3 , فجعل المخرج من الضيق له، ورزقه من حيث لا يحتسب ثواباً في الدنيا، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة،
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وعلى كل حال: فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الأعراف/ 32.
فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أهم لم يُذهبوا طيباتِهم في حياتهم الدنيا.
ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة يكون لهم أجر زائد على ذلك؛ لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد، كما هو معلوم.
والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يُذهب طيباته في الحياة الدنيا؛ لأنه يجزي في الدنيا فقط كالآيات المذكورة، وحديث أنس المذكور عند مسلم: قد قدمناها موضحة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الإسراء/ 19، وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه.
" أضواء البيان " (7 / 229 – 231) .
غير أن هذه الآية العظيمة، وإن كانت واردة في شأن الكفار، كما هو بيِّنٌ من لفظها، وكما حققه الشيخ رحمه الله، فلقد كانت عادةً معروفة في السلف: أن يستدلوا بالآيات الواردة في شأن الكفار، على من عمل مثل أعمالهم من المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بعد ما ذكر قول الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (لأعراف:179) ، وآيات أخرى في ذلك السياق:
" فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} وأمثالها مما ذكر الله في عيوب الإنسان وذمها، فيقول هؤلاء: هذه الآية في الكفار، والمراد بالإنسان هنا: الكافر؛ فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب ; بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرا للشرك من العرب، أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند ونحو ذلك، فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها الله ليهتدي بها عباده.
فيقال: - أولا -: المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق، والمنافقون كثيرون في كل زمان والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
ويقال: " ثانيا: الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر، وإن كان معه إيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر. وإذا خاصم فجر} فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق. وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه: {إنك امرؤ فيك جاهلية} وأبو ذر - رضي الله عنه - من أصدق الناس إيمانا ...
وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر " انتهى.
مجموع الفتاوى (10/105-106)
ويشهد لذلك الأصل ـ أن من استعجل الطيبات، على وجه محرم، فإنه معرض للحرمان من طيبات الآخرة، بقدر ما استعجل، وإن كان مؤمنا ـ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ) .
رواه البخاري (5494) ومسلم (2073) .
قال ابن القيم رحمه الله - وهو يعدد العقوبات التي تقع على الزاني إذا لم يتب -:
ومنها: أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، والله سبحانه وتعالى إذا كان قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه يوم القيامة، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة، فكذلك مَن تمتع بالصور المحرمة في الدنيا، بل كل ما ناله العبد في الدنيا من حرام: فاته نظيره يوم القيامة.
" روضة المحبين " (365 - 368) .
وذكر الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة رقم (384) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (من لبس الحرير في الدنيا: لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا: لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا: لم يشرب بها في الآخرة، ثم قال: لباس أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة) ، ثم قال:
" اعلم أن الأحاديث في تحريم لبس الحرير , وشرب الخمر , والشرب في أواني الذهب والفضة , هي أكثر من أن تحصر , وإنما أحببت أن أخص هذا الحديث بالذكر , لأنه جمع الكلام على هذه الأمور الثلاثة , وساقها مساقاً واحداً , ثم ختمها بقوله: (لباس أهل الجنة ... ) , الذي يظهر أنه خرج مخرج التعليل , يعني: أن الله تعالى حرم لباس الحرير - على الرجال خاصة - لأنه لباسهم في الجنة كما قال تعالى (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) الحج/ 23 , وحرَّم الخمر على الرجال والنساء؛ لأنه شرابهم في الجنة قال تعالى (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ) محمد/ 15، وحرَّم الشرب في آنية الذهب والفضة على الرجال والنساء أيضاً؛ لأنها آنيتهم قال تعالى: (ادْخُلُواْ الْجَنّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) الزخرف/ 71، فمن استعجل التمتع بذلك غير مبال ولا تائب , عوقب بحرمانه منها في الآخرة، جزاء وِفاقاً.
وما أحسن ما رواه الحاكم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: " استأذن سعد على ابن عامر , وتحته مرافق - وهي شيء يتكأ عليه شبيه بالوسادة - من حرير , فأمر بها فرفعت , فدخل عليه وعليه مِطْرف خز , فقال له: استأذنت عليَّ وتحتي مرافق من حرير فأمرت بها فرفعت , فقال له: نعم الرجل أنت يا ابن عامر، إن لم تكن ممن قال الله عز وجل (أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا) الأحقاف/ 20 , والله لأن أضطجع على جمر الغضا أحب إليَّ من أن أضطجع عليها " صحيح، على شرط مسلم. " انتهى
على أن التمتع بالطيبات من الرزق، وإن كان مباحا، إلا أنه لا ينبغي أن يكون غالب شأن الإنسان، ولا ينبغي له أن يعود نفسه على التنعم والإرفاه، فليس ذلك من شأن المنشغلين بالآخرة، كما في مسند الإمام أحمد (21600) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: (إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ) حسنه الألباني في صحيح الجامع.
ومن السلف من كان يعد ذلك، بل ما هو دونه، من إذهاب الطيبات:
روى البخاري (1274) أن عبد الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أتي يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ:
" قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي ".
وفي رواية للبخاري (4045) : (وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ الزُّهْدِ , وَأَنَّ الْفَاضِلَ فِي الدِّينِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا تَنْقُصَ , حَسَنَاتُهُ , وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِقَوْلِهِ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا قَدْ عُجِّلَتْ ".
وروى مالك في الموطأ (1742) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا " في إسناده انقطاع، وضعفه الألباني.
قال الحليمي رحمه الله: " وهذا الوعيد من الله تعالى، وإن كان للكفار الذين الذين يقدمون على الطيبات المحظورة، ولذلك قال: {اليوم تجزون عذاب الهون} ، فقد يخشى مثله على المنهمكين في الطيبات المباحة؛ لأن من تعودها مالت نفسه إلى الدنيا فلم يؤمن أن يرتبك في الشهوات والملاذ، كلما أجاب نفسه إلى واحدة منها دعته إلى غيرها، فيصير إلى أن لا يمكنه عصيان نفسه في هوى قط، وينسد باب العبادة دونه؛ فإذا آل الأمر به إلى هذا لم يبعد أن يقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} ؛ فلا ينبغي أن تُعود النفسُ ما يميل بها إلى الشره، ثم يصعب تداركها، ولتُرَضْ من أول الأمر على السداد، فإن ذلك أهون من أن تَدْرَب على الفساد، ثم يجتهد في إعادتها إلى الصلاح، والله أعلم. " انتهى.
نقله الببيهقي في شعب الإيمان (7/462-463) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ فتح الباري (9/106) :
" والحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفُّه والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات؛ لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحيانا، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحظور، كما أن منع تناول ذلك أحيانا يفضي إلى التنطع المنهي عنه، ويَرِد عليه صريح قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) الأعراف: 26، كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا، وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط " انتهى.
والخلاصة:
أن الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا طائفتان:
الأولى: الكفار والمشركون.
والثانية: العصاة الذين وقعوا في المعاصي مما له نظير في الجنة، ولم يُطهَّروا من آثارها بحدٍّ، أو توبة، أو مغفرة من الله تعالى.
ولا يدخل في هؤلاء من تنعَّم بالمباحات والطيبات وأدى شكرها، لكن لا ينبغي أن يعود الإنسان نفسه الترف والتنعم، لما يخشى عليه من الوقوع في الشبهة أو الحرام، أو الانشغال بها عما هو أولى، وتبرم نفسه إذا فقدها.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/170)
شرح قوله تعالى (الخبيثات للخبيثين) والتوفيق بينها وبين حال امرأتي نوح ولوط
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير الآية التالية: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) سورة النور، وكيف نوفق بين الآية وبين ما نسمعه من أنه قد تكون الزوجة صالحة والزوج فاسقاً كأن لا يصلي أو يشرب الخمر؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) النور/26.
وقد اختلف المفسرون في معناها على أقوال متقاربة، لا يناقض بعضها بعضا.
فمن معاني " الخبيث " و " الطيب " في الآية:
1. الخبث والطيب في الأقوال.
فيكون معنى الآية: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
وهذا قول عبد الله بن عباس، ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، واختاره ابن جرير الطبري.
قال النحاس في كتابه " معاني القرآن ":
وهذا من أحسن ما قيل في هذه الآية.
ودل على صحة هذا القول: قوله تعالى (أولئك مبرءون مما يقولون) أي: عائشة وصفوان مبرَّآن مما يقول الخبيثون والخبيثات.
قال الطبري – رحمه الله -:
وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية: قول من قال: عنى بالخبيثات: الخبيثات من القول، وذلك قبيحه وسيئه، للخبيثين من الرجال والنساء، والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، هم بها أولى؛ لأنهم أهلها، والطيبات من القول، وذلك حسنه وجميله، للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول ; لأنهم أهلها وأحقّ بها.
وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الآية: لأن الآيات قبل ذلك إنما جاءت بتوبيخ الله للقائلين في عائشة الإفك، والرامين المحصنات الغافلات المؤمنات، وإخبارهم ما خصهم به على إفكهم، فكان ختم الخبر عن أولى الفريقين بالإفك من الرامي والمرمي به: أشبه من الخبر عن غيرهم.
وقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ) يقول: الطيبون من الناس مبرّءون من خبيثات القول، إن قالوها فإن الله يصفح لهم عنها، ويغفرها لهم، وإن قيلت فيهم ضرّت قائلها ولم تضرّهم، كما لو قال الطيبَ من القول الخبيثُ من الناس لم ينفعه الله به؛ لأن الله لا يتقبله.. "
" ولو قيلت له لضرّته؛ لأنه يلحقه عارها في الدنيا، وذلها في الآخرة ".
" تفسير الطبري " (19 / 144، 145) .
2. الخبيث والطيب من الأفعال:
ويكون معنى الآية: الأفعال الخبيثات للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من الأفعال، وكذا الأفعال الطيبات للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الأفعال.
وهو قول حبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، وروي عن هؤلاء الأئمة أنهم أضافوا الأقوال إلى الأفعال في معنى الآية؛ فجمعوا بين القولين السابقين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين، ومن كلام بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين.
وقد قال تعالى (ضرب الله مثلاً كلمة طيبة) ، (ومثل كلمة خبيثة) ، وقال الله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) ، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث: لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها.
" مجموع الفتاوى " (14 / 343) .
3. الخبث والطيب من الأشخاص في النكاح:
ويكون معنى الآية: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيِّباً، وكان أولى بأن يكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة , وكانت أولى بأن يكون لها الطيب.
قال القرطبي – رحمه الله -:
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) النور/3، الآية، فالخبيثات: الزواني، والطيبات: العفائف، وكذا الطيبون، والطيبات.
واختار هذا القول النحاس أيضاً، وهو معنى قول ابن زيد.
" تفسير القرطبي " (12 / 211) .
ثانياً:
لا إشكال في الآية، على القول الأول أو الثاني، ولا تعارض بينها وبين ما ذكر السائل، ويراه الناس، من أن الزوجة ربما كانت صالحة والزوج فاسقا، أو العكس.
وإنما الإشكال – عند بعض الناس – في القول الثالث في مسألتين:
1. ما يرونه من عموم تزوج طيب بفاسقة، وتزوج فاسق بطيبة.
2. ما ورد بخصوص زوجتي نوح ولوط عليهما السلام ووصف الله لهما بالخيانة، وما ورد في تزوج امرأة فرعون المؤمنة بفرعون الطاغية.
فيقال هنا: إن معنى الآية ـ على تقدير أن يكون المراد بالخبث والطيب: خبث الأزواج وطبهم ـ: أنه لا يليق بالطيب أن يتزوج إلا طيبة مثله، ولا يليق بالخبيثة إلا خبيث مثلها، ومن رضي بالخبيثة مع علمه بحالها: فهو خبيث مثلها، ومن رضيت بخبيث مع علمها بحاله: فهي خبيثة مثله.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا - أيضاً - يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم، أي: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعاً ولا قَدَراً؛ ولهذا قال: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي: هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي: بسبب ما قيل فيهم من الكذب.
(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي: عند الله في جنات النعيم.
وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة.
" تفسير ابن كثير " (6 / 35) .
وفي الآية بيان براءة عائشة رضي الله عنها، حيث زكاها الله تعالى بوصفها بالطيبة لأنها كانت تحت الطيب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الله تعالى ليختارها زوجة لنبيه صلى الله عليه وسلم لو كانت خبيثة! ومن هنا كان الطاعن في عرض عائشة طاعناً في النبي صلى الله عليه، ومستحقّاً للحكم بالردة والقتل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
قال أبو السائب القاضي: كنتُ يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطرستان، وكان يلبس الصوف، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويوجِّه في كل سنَة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام يفرِّق على سائر ولد الصحابة، وكان بحضرته رجلٌ فذكَر عائشة بذكرٍ قبيحٍ من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (النور:26) فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر، فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه، وأنا حاضر، رواه اللالكائي
" الصارم المسلول " (1 / 568) .
والأثر في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " للالكائي (1958) .
فلله دره من حاكم، ونسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء، وأن يكرم نزله بما ذبَّ عن عرض نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأما ما كان من زوجتي لوط ونوح عليهما السلام، حيث وصفهما الله تعالى بالخيانة في قوله (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) التحريم/10، فالخيانة هنا هي خيانة في الإيمان.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
(فَخَانَتَاهُمَا) أي: في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدَّقاهما في الرسالة، فلم يُجْدِ ذلك كلَّه شيئاً، ولا دفع عنهما محذوراً؛ ولهذا قال: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لكفرهما.
(وَقِيلَ) أي: للمرأتين: (ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) .
وليس المراد (فَخَانَتَاهُمَا) في فاحشة، بل في الدين، فإنَّ نساء الأنبياء معصوماتٌ عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في " سورة النور ".
قال سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتة: سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية (فَخَانَتَاهُمَا) قال: ما زنتا، أما امرأة نوح: فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط: فكانت تدل قومها على أضيافه.
وقال العَوفي عن ابن عباس قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على عَورتيهما، فكانت امرأة نُوح تَطَلع على سر نُوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.
وهكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وغيرهم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين.
" تفسير ابن كثير " (8 / 171) .
وهذه فتوى جامعة من علماء اللجنة الدائمة لكل ما سبق من المسائل نرجو أن تكون نافعة للسائل والقارئ، وفيها الجواب على القسم الثاني من الإشكال الثاني، وهو بخصوص تزوج امرأة فرعون المؤمنة من فرعون الطاغية.
سئل علماء اللجنة الدائمة:
حدثت مناظرة بيني وبين شخص مسيحي، وقد فاجأني بقوله لي: هناك آية في القرآن تتضمن قول الله سبحانه وتعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) إلخ الآية، والآية الأخرى تتضمن قوله تعالى (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ) ، (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ، وهناك آية أخرى وهي قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) إلخ الآية، وأن هناك على حد زعمه تناقضاً، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) إلخ الآية، بينما زوجات أنبياء الله نوح ولوط خبيثات، وفرعون كما جاء فيه في القرآن وزوجته طيبة، وحيث ليس لدي جواب مقنع آمل التكرم بإفتائي عن ذلك، جزاكم الله خيراً.
فأجابوا:
أولاً:
قال الله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هذه الآية ذُكرت بعد الآيات التي نزلت في قصة الإفك تأكيداً لبراءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، زوراً وبهتاناً، وبياناً لنزاهتها، وعفتها في نفسها، ومن جهة صلتها برسول الله صلى الله عليه وسلم، وللآية معنيان:
الأول: أن الكلمات الخبيثات والأعمال السيئات أولى بها الناس الخبيثون، والناس الخبثاء أولى وأحق بالكلمات الخبيثات والأعمال الفاحشة، والكلمات الطيبات والأعمال الطاهرة أولى وأحق بها الناس الطيبون ذوو النفوس الأبية والأخلاق الكريمة السامية، والطيبون أولى بالكلمات والأعمال الصالحات.
والمعنى الثاني: أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والرجال الخبيثون أولى بالنساء الخبيثات، والنساء الطيبات الطاهرات العفيفات أولى بالرجال الطاهرين الأعفاء، والرجال الطيبون الأعفاء أولى بالنساء الطاهرات العفيفات، والآية على كلا المعنيين دالة على المقصود منها، وهو نزاهة عائشة رضي الله عنها عمَّا رماها به عبد الله بن أبيّ بن سلول من الفاحشة ومن تبعه ممن انخدع ببهتانه واغتر بزخرف قوله.
ثانياً:
قال الله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، ومعنى الآيتين:
أن الله تعالى أخبر عن رسوله نوح عليه السلام أنه سأله تعالى أن ينجز له وعده إياه بنجاة ولده من الغرق والهلاك بناء على فهمه من ذلك من قوله تعالى له (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) فقال: (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدك الحق الذي لا يخلف وأنت (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) ، (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي: الذين وعدتك بإنجائهم؛ لأني إنما وعدتك بإنجاء مَن آمن مِن أهلك، بدليل الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ؛ ولذلك عاتبه الله تعالى على تلك المساءلة وذلك الفهم بقوله: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، وبيَّن ذلك بقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ؛ لكفره بأبيه نوح عليه السلام؛ ومخالفته إياه، فليس من أهله ديناً، وإن كان ابناً له من النسب، قال ابن عباس وغير واحد من السلف رضي الله عنهم: " ما زنت امرأة نبي قط " وهذا هو الحق، فإن الله سبحانه أغْيَر مِن أن يمكِّن امرأة نبي من الفاحشة؛ ولذلك غضب سبحانه على الذين رموا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالفاحشة، وأنكر عليهم ذلك وبرَّأها مما قالوا فيها، وأنزل في ذلك قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة.
ثالثاً:
قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين من سورة التحريم.
بعد أن عاتب الله تعالى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة عائشة وحفصة رضي الله عنهن جميعاً على ما بدَر منهن مما لا يليق بحسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن يعتزلهن شهراً، وأنكر تعالى عليهن بعض ما وقع منهن من أخطاء في حقه عليه الصلاة والسلام، وأنذرهن بالطلاق وأن يبدله أزواجاً خيراً منهن: ختم سورة التحريم بمثلَين: مثل ضربه للذين كفروا بامرأتين كافرتين امرأة نوح وامرأة لوط، ومثل ضربه للذين آمنوا بامرأتين صالحتين بآسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران؛ إيذاناً بأن الله حكم عدل لا محاباة عنده، بل كل نفس عنده بما كسبت رهينة، وحث العباد على التقوى، وأن يخشوا يوماً يرجعون فيه إلى الله، يوماً لا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، يوم يفرُّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، يوم لا تزر فيه وازرة وزر أخرى، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، يوم لا تنفع فيه الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً، فبيَّن سبحانه أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين، وكانتا تحت رسوليْن كريميْن من رسل الله، وكانت امرأة نوح تخونه بدلالة الكفار على مَن آمن بزوجها، وكانت امرأة لوط تدل الكفار على ضيوفه، إيذاء وخينة لهما، وصدّاً للنَّاس عن اتباعهما، فلم ينفعهما صلاح زوجيهما نوح ولوط، ولم يدفعا عنهما من بأس الله شيئاً، وقيل لهاتين المرأتين: ادخلا النار مع الداخلين، جزاءً وفاقاً بكفرهما وخيانتهما؛ بدلالة امرأة نوح على من آمن به، ودلالة امرأة لوط على ضيوفه، لا بالزنى، فإن الله سبحانه لا يرضى لنبي من أنبيائه زوجة زانية، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى (فَخَانَتَاهُمَا) قال: " ما زنتا "، وقال: " ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين "، وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم.
وبيَّن الله سبحانه بالمثل الذي ضربه للذين آمنوا بآسية زوجة فرعون، وكان أعتى الجبابرة في زمانه، أن مخالطة المؤمنين للكافرين لا تضرهم، إذا دعت الضرورة إلى ذلك، ما داموا معتصمين بحبل الله تعالى متمسكين بدينه، كما لم ينفع صلاحُ الرسولين: نوح ولوط زوجتيهما الكافرتين، قال الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) ، ولذلك لم يضر زوجة فرعون كفرُ زوجها وجبروته، فإن الله حكم عدل لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره بل حماها وأحاطها بعنايته وحسن رعايته، واستجاب دعاءها وبنى لها بيتاً في الجنة، ونجَّاها من فرعون وكيده، وسائر القوم الظالمين
مما تقدم في تفسير الآيات من أن ابن نوح ليس ابن زنى، وأن عائشة رضي الله عنها برَّأها الله في القرآن مما رماها به رأس النفاق، ومن انخدع بقوله من المؤمنين والمؤمنات، وأن كلا من امرأة نوح وامرأة لوط لم تزن وإنما كانتا كافرتين، ودلت كل منهما الكفار على ما يسوؤهما ويصد الناس عن اتباعهما، وأن زواج المؤمن بالكافرة كان مباحاً في الشرائع السابقة، وكذا زواج الكافر بالمؤمنة، وأن الله حمى امرأة فرعون من كيده وحفظ عليها دينها ونجاها من الظالمين: يتبين أن الآيات المذكورة متوافقة، لا متناقضة، وأن بعضها يؤيِّد بعضاً.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان
" فتاوى اللجنة الدائمة " (3 / 270 – 276) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/171)
ما هو اللوح المحفوظ وما معناه
[السُّؤَالُ]
ـ[نرجو شرحاً مفصلاً مصحوباً بتفسير العلماء العظام مثل ابن كثير أو الطبري أو غيرهما لقول الله عز وجل: (في لوح محفوظ) سورة البروج آية 22.
جزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
1. قال ابن منظور:
اللوح: كل صفيحة عريضة من صفائح الخشب.
وقال الأزهري: اللوح صفيحة من صفائح الخشب والكتف إذا كتب عليها سميت لوحا.
واللوح الذي يكتب فيه.
واللوح: اللوح المحفوظ، وفي التنزيل {في لوحٍ محفوظٍ} يعني: مستودعٌ مشيئات الله تعالى.
وكل عظم عريض: لوح.
والجمع منها: ألواح.
وألاويح: جمع الجمع. " لسان العرب " (2 / 584) .
2. قال ابن كثير رحمه الله:
في لوح محفوظ أي: هو في الملإ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل. " تفسير ابن كثير " (4 / 497، 498) .
3. وقال ابن القيم رحمه الله:
وقوله {محفوظ} : أكثر القراء على الجر صفة للوح، وفيه إشارة إلى أن الشياطين لا يمكنهم التنزّل به لأن محله محفوظ أن يصلوا إليه، وهو في نفسه محفوظ أن يقْدِر الشيطان على الزيادة فيه والنقصان.
فوصفه سبحانه بأنه محفوظ في قوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ، ووصف محله بالحفظ في هذه السورة.
فالله سبحانه حفظ محله، وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل، وحفظ معانيه من التحريف كما حفظ ألفاظه من التبديل، وأقام له مَن يحفظ حروفه مِن الزيادة والنقصان، ومعانيه مِن التحريف والتغيير. " التبيان في أقسام القرآن " (ص 62) .
4. أما ما جاء في بعض كتب التفسير، أن اللوح المحفوظ في جبهة " إسرافيل "، أو أنه مخلوق من زبرجدة خضراء، وغير ذلك فهو مما لم يثبت، وهو من الغيب الذي لا يقبل إلا ممن أوحي إليه منه بشيء.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/172)
العروة الوثقى
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي العروة الوثقى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العروة الوثقى جاء ذكرها في القرآن الكريم في موضعين اثنين:
في سورة البقرة، الآية (256) في قوله تعالى:
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
وفي سورة لقمان، الآية (22) في قوله تعالى:
(وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)
كما جاء في السنة النبوية ذكر العروة الوثقى في حديث أخرجه البخاري (3813) ومسلم (2484) عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قال:
(كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ فِي نَاسٍ فِيهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وَجْهِهِ أَثَرٌ مِنْ خُشُوعٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ، فَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَدَخَلْتُ، فَتَحَدَّثْنَا، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَ قُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ لَمَّا دَخَلْتَ قَبْلُ قَالَ رَجُلٌ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ، رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، رَأَيْتُنِي فِي رَوْضَةٍ - ذَكَرَ سَعَتَهَا وَعُشْبَهَا وَخُضْرَتَهَا - وَوَسْطَ الرَّوْضَةِ عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ، فَقِيلَ لِي: ارْقَهْ. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ وَالْمِنْصَفُ الْخَادِمُ - فَقَالَ بِثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، وَصَفَ أَنَّهُ رَفَعَهُ مِنْ خَلْفِهِ بِيَدِهِ، فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى الْعَمُودِ، فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ، فَقِيلَ لِيَ: اسْتَمْسِكْ. فَلَقَدْ اسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي. فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ. قَالَ: وَالرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) .
وقد بين السلف الصالح معنى العروة الوثقى بعبارات منوعة كلها تدل على مقصود واحد:
فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله.
وقال أنس بن مالك: القرآن.
وقال مجاهد: الإيمان.
وقال السدي: هو الإسلام.
وعن سالم بن أبي الجعد: هو الحب في الله والبغض في الله.
وانظر هذه الأقوال في "تفسير ابن أبي حاتم" (2/496)
قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (1/684) :
" وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها " انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "فتاوى نور على الدرب" (الصلاة/1218) :
ما هي العروة الوثقى؟
فأجاب:
" العروة الوثقى هي الإسلام، وسميت عروة وثقى أنها توصل إلى الجنة " انتهى.
فأنت ترى – أخي السائل – أن المعنى الذي فسر به العلماء العروة الوثقى هو ما يوصل المتمسك به إلى الجنة، وذلك يشمل الإسلام والإيمان والقرآن وكلمة التوحيد، وكل واحد عبر بأحد هذه المعاني المتقاربة في مؤداها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/173)
ليس في شريعتنا جواز إتيان الدبر
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو مساعدتي في معرفة الصواب، في البخاري الحديث رقم (4170) و (4171) إن الإتيان في الدبر حلال، وموقعكم يقول إنه حرام، فما هو الصواب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
أولاً:
الأحاديث الصحيحة التي جاءت في تحريم إتيان الزوجة في الدبر كثيرة، فمن ذلك:
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود (3904) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
2- وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ) رواه الترمذي (1165) وصححه ابن دقيق العيد في "الإلمام" (2/660) ، والألباني في صحيح الترمذي.
3- وعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ) رواه ابن ماجه (1924) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال الطحاوي رحمه الله في "شرح معاني الآثار" (3/43) : "جاءت الآثار متواترة بذلك " انتهى.
ولذلك كانت كلمة العلماء على الأخذ بهذه الأحاديث.
قال الماوردي رحمه الله تعالى في "الحاوي" (9/319) :
" لأنه إجماع الصحابة: روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء " انتهى.
وجاء في "المغني" (7/32) :
" ولا يحل وطء الزوجة في الدبر في قول أكثر أهل العلم: منهم علي وعبد الله وأبو الدرداء وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر "
وقد سبق في موقعنا بيان ذلك بشيء من التفصيل، فانظر إجابات الأسئلة: (1103) ، (52803) .
ثانياً:
يتوهم بعض الناس جواز إتيان المرأة في دبرها، ويفهمون من قول الله تعالى: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) البقرة/223، أن الله سبحانه أباح في هذه الآية كل شيء، حتى الوطء في الدبر، وقد يتأكد هذا الوهم عندهم إذا قرؤوا الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه – ولعله الحديث الذي قصده السائل - والذي فيه: عن جابر رضي الله عنه قال: كَانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِن وَرَائِهَا جَاءَ الوَلَدُ أَحْوَل فنزلت (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) .
وهذا فهم خاطئ للآية، فإن قوله تعالى: (فأتوا حرثكم أنى شئتم) يعني إباحة أحوال وأوضاع الجماع المختلفة، إذا كانت في موضع الحرث: وهو الفرج، وليس الدبر، فيجوز أن يأتي الرجل زوجته من الخلف أو الأمام أو على جنب إذا كان ذلك في موضع الحرث، وليس الدبر.
ودليل ذلك أن رواية مسلم برقم (1435) لحديث جابر السابق في سبب نزول الآية فيها: (إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ) .
(مُجَبِّيَةً) : أي: منكبة على وجهها، كهيئة السجود.
(في صمام واحد) : هو القبل.
وفي رواية أبي داود للحديث نفسه برقم (2163) : عن محمد بن المنكدر قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) .
وفي سنن الترمذي (2980) وحسنه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ. قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟! قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، قَالَ: فَأُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ. حسنه الألباني في صحيح الترمذي.
فهذه الأحاديث والروايات توضح المقصود من الآية، فلا يجوز لمسلم أن يتجاوز ذلك إلى فهمه الذي لا يدل عليه الأثر ولا اللغة.
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/261) :
" وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين: أحدهما أنه أباح إتيانها في الحرث، وهو موضع الولد، لا في الحُش الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله: (من حيث أمركم الله)
الوجه الثاني: أنه قال: (أنى شئتم) أي: من أين شئتم: من أمام أو من خلف. ال ابن عباس: (فأتوا حرثكم) يعني: الفرج " انتهى بتصرف.
ثالثاً:
ولعل السائل يعني أيضا ما رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال: يأتيها في. . .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (8/189) :
" هكذا وقع في جميع النسخ، لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور " انتهى.
ثم ذكر ما جاء من بعض الروايات خارج صحيح البخاري أن ابن عمر قال: يأتيها في دبرها.
وقد أجاب عن ذلك أهل العلم بجوابين:
الأول:
أنه حصل خطأ من بعض الرواة عن ابن عمر، وأنهم فهموا منه جواز إتيان الدبر، وهو إنما كان يحكي جواز إتيان المرأة في قبلها من خلفها، بدليل ما جاء من طرق صحيحة عنه أنه كان يرى حرمة إتيان الزوجة في دبرها، فقد روى النسائي في "السنن الكبرى" (5/315) بسند صحيح أن ابن عمر سئل عنه فقال: أو يفعل ذلك مسلم؟!
قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" (6/142) :
" فقد صح عن ابن عمر أنه فسر الآية بالإتيان في الفرج من ناحية الدبر،وهو الذي رواه عنه نافع، وأخطأ من أخطأ على نافع فتوهم أن الدبر محل للوطء لا طريق إلى وطء الفرج، فوقع الاشتباه في كون الدبر طريقا إلى موضع الوطء أو هو مأتى، واشتبه على من اشتبه عليه معنى (من) بمعنى (في) فوقع الوهم " انتهى.
الجواب الثاني:
أنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما في فهم الآية، وقد دلت السنة، وأقوال سائر الصحابة، أنه اجتهاد مجانب للصواب، وقد روى أبو داود برقم (2164) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
إِنَّ ابْنَ عُمَرَ - وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ - أَوْهَمَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ - مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ - وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ -، وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ،فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي. حَتَّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أَيْ: مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ.
وهذا قد يؤيد أن ابن عمر كان يقول بجواز الإتيان في الدبر، فلعله رجع إلى الصواب، بعد أن بَيَّن له ابن عباس أو غيره سبب نزول الآية ومعناها الصحيح، ولذلك ثبت عنه – كما تقدم – أنه كان يقول بتحريمه، ويقول: أو يفعل ذلك مسلم!!
والحاصل أن شريعتنا جاءت بتحريم هذا الفعل، وليس فيها شيء يدل على جوازه، ومن ظن في شيء من الكتاب أو السنة ما يدل عليه فقد أخطأ وأوهم.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/174)
معنى حرف الجر (مِن) في قوله تعالى: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) يصلح لأن يقال كما هو؟ لورود كلمة " ومن ذريتي " وليست: رب اجعلني مقيم الصلاة وذريتي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لِلَّه
أولا:
سياق الآيات في هذا المقطع من سورة إبراهيم عليه السلام، يصور فيه مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام الضارع الخاشع الذاكر الشاكر، وهو يدعو ربه الكريم، ويتذلل بين يديه سبحانه، ليرد الجاحدين إلى الاعتراف، ويرد الكافرين إلى الشكر، ويرد الغافلين إلى الذكر، ويرد الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون بها ويهتدون.
يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) إبراهيم/35-41
وقد كان إبراهيم عليه السلام رحيما شفيقا بأمته وذريته، فلم يكن يفوت فرصة إلا ويسأل الله سبحانه الخير لهم.
ويبقى السؤال عن سبب مجيء حرف الجر (مِن) في قوله: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي) ، ولم يقل (وذريتي) .
اختلف في ذلك المفسرون إلى قولين:
القول الأول: وهو قول جماهير المفسرين ممن تكلم في هذه المسألة، أن (مِن) هنا للتبعيض، قالوا وهو تأدب من إبراهيم الخليل عليه السلام في دعائه الله سبحانه وتعالى، حيث كان يعلم أن حكمة الله اقتضت وجود المؤمن والكافر، والظالم والمحسن، فكان دعاؤه مراعيا لما يعلمه من حكمة الله وسنته في خلقه، كما قال سبحانه: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) الصافات/113
يقول الزمخشري في "الكشاف" (1/634) :
" (ومن ذريتي) وبعض ذريتي، عطفا على المنصوب في (اجعلني) ، وإنما بعَّضَ لأنه عَلِمَ بإعلام اللَّهِ أنه يكون في ذريته كفار، وذلك قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) " انتهى.
وانظر: "تفسير البيضاوي" (3/202) ، "تفسير أبي السعود" (5/54) ، "الجلالين" (335) ، "روح المعاني" (13/243)
وفي القرآن الكريم مواقف عديدة من دعاء إبراهيم عليه السلام وتخصيصه ذريته بشيء من الدعاء، وفي كل منها يأتي حرف الجر (مِن)
فانظر قوله سبحانه في سورة البقرة:
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة/124
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة/128
القول الثاني: عدم التسليم بكونها للتبعيض، فقد كان الأنبياء يدعون لأقوامهم بصيغة التعميم وهم يعلمون سنة الله في خلقه حين كتب في الناس المؤمن والكافر وكتب من المؤمنين أيضا من يعذب بسبب ذنوبه في النار ثم يخرج منها، ولم يكن ذلك اعتداء في الدعاء.
فهذا نوح عليه السلام يقول: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً) نوح/28
وإبراهيم عليه السلام أيضا يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)
وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (الّّلهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) رواه مسلم (202)
قالوا والأنبياء يسألون الله أكمل ما يحبون لأنفسهم وذرياتهم وأقوامهم، وإبراهيم عليه السلام يطمع أن تكون ذريته كلها مُوَحِّدَةً، تعبد الله وتجتنب الأصنام، وإن كان الشرك لا بد وأن يكون على الأرض، ففي غير ذريته.
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور في تفسيره المتميز "التحرير والتنوير" (7/445) :
" و (مِن) ابتدائية، وليست للتبعيض؛ لأن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله إلا أكمل ما يحبه لنفسه ولذريته.
ويجوز أن تكون (مِن) للتبعيض، بناء على أن الله أعلمه بأن يكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة وفريق لا يقيمونها، أي: لا يؤمنون.
وهذا وجه ضعيف؛ لأنه يقتضي أن يكون الدعاء تحصيلا لحاصل، وهو بعيد، وكيف وقد قال (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) ولم يقل: ومن بني " انتهى.
أو يقال إنها لبيان الجنس، فإن تقدير الآية: (واجعل من ذريتي مقيمي الصلاة) ، والمعنى: واجعل جنس ذريتي مقيمي الصلاة، كقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح/29. انظر "مغني اللبيب" (420-421)
وهذا الوجه أقرب.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير البقرة 2" (33) في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة/124:
قوله تعالى: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) أي واجعل من ذريتي إماماً؛ وهنا (مِن) يحتمل أنها لبيان الجنس؛ وبناءً على ذلك تصلح (ذريتي) لجميع الذرية؛ يعني: واجعل ذريتي كلهم أئمة؛ ويحتمل أنها للتبعيض " انتهى.
ثانيا:
إذا فهم ما سبق تبين أنه لا بأس للمسلم أن يدعو بالصيغة نفسها التي جاءت في القرآن الكريم، فقد تبين أنها ليست للتبعيض، وأن الدعاء بها ينال جميع الذرية.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "لقاء الباب المفتوح" (30/14) :
" الدعاء بقوله: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) من دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا بأس به " انتهى بتصرف.
ثالثا:
تنبيه على بدعة منتشرة تتعلق بقراءة هذه الآية بعد إقامة الصلاة.
جاء في أسئلة اللقاء الشهري (23/10) مع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال التالي:
" بعض الإخوة من المصلين يقول بعد انتهاء المؤذن من الإقامة إما: (أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض) وإما أن يقرأ قول الله تعالى عن إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) فما رأي فضيلتكم في هذا الدعاء في هذا المقام خاصة، أقصد قراءة الآية، هل ينكر على الإنسان مع أنه يدعو بها، وهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء بعد الإقامة، أرجو التوضيح أثابكم الله؟
فأجاب رحمه الله تعالى:
" الإقامة ليس بعدها دعاء، وإنما يشرع الإمام بالصلاة بعد انتهاء الإقامة وبعد أن يسوي الصفوف بنفسه أو بنائبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يمكن أن يكبر للصلاة حتى تستوي الصفوف، حتى إنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يجوب الصف من أوله إلى آخره يمسح بالمناكب والصدور، يقول: استووا، ولما كثر الناس في زمن عمر وعثمان، صار الخليفة يوكل رجالاً يجوبون الصفوف يتفقدونها بعد الإقامة، فإذا جاءوا وقالوا: إن الصفوف على ما ينبغي كبروا للصلاة، وليس بعد الإقامة دعاء.
وأما قوله: أقامها الله وأدامها مادامت السماوات والأرض. فإن قوله: (ما دامت السماوات والأرض) لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأما قول: (أقامها الله وأدامها) فهذه تقال عند قول: (قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) لأن فيها حديثاً ضعيفاً، وهذا الحديث الضعيف لا يعمل به عند جماعة من العلماء، ولهذا فلا يقال: أقامها الله وأدامها لا بعد قوله: قد قامت الصلاة، ولا بعد انتهائه من الإقامة.
وأما الدعوة بدعوة إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فهذه أيضاً لا أصل لها إطلاقاً، ولم يرد الدعاء بها عن السلف، فتركها أولى وأحسن " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/175)
كيف شرح الله صدر رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف شرح الله تعالى صدر رسوله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (ألم نشرح لك صدرك) ؟.....وهل صحيح ما قيل: إنه كان على يد سيدنا جبريل عليه السلام مرتين في عمره؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على أنبيائه ورسله بنعم عظيمة جليلة، أولاها فضلا، وأوفاها مِنَّةً، وأعلاها قدرا نعمةُ النبوة، حيث اصطفاهم لقربه، واجتباهم لرحمته.
يقول الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ) آل عمران/179
ويقول سبحانه: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) الأنعام/87
وقد خص الله سبحانه وتعالى نبيه وخليله محمدا صلى الله عليه وسلم بمزيد فضل، وحباه بعظيم قدر، حتى قال سبحانه وتعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) النساء/113
ومن هذا الفضل أنه سبحانه شرح صدر الرسول الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وامتن عليه بهذه النعمة العظيمة في سورة من القرآن الكريم تتلى إلى يوم القيامة، تسمى سورة "الشرح".
يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الشرح/1
وشَرْحُ صدر النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن معاني كثيرة عظيمة:
1- شرح الله صدره للإسلام دينا وشريعة، وهذا أعظم ما يمكن أن ينشرح له الصدر، وهو تفسير ابن عباس، علقه البخاري في صحيحه (كتاب التفسير / باب سورة الشرح، ص 982)
2- وشرح الله صدر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن ملأه حكمة وعلما وإيمانا، كما فسره الحسن البصري، ويذكر العلماء في تفسير ذلك حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم، والتي تكررت مرتين في حياته صلى الله عليه وسلم:
الأولى: كانت وهو صغير في بني سعد.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرْئِي أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ) رواه مسلم (162)
الثانية: كانت ليلة الإسراء.
كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ) رواه البخاري (349) ومسلم (163)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى "فتح الباري" (7/204) :
" وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء، وقال إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به ... وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في "المفهم": لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير " انتهى.
وقد جاءت حادثة شق الصدر أيضا في بعض الروايات في أوقات أخرى، في عمر العشر سنوات، وعند البعثة، لكنها روايات ضعيفة. انظر "السيرة النبوية الصحيحة" (1/103)
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (4/677) :
" يقول تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) يعني: أما شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا، كقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)
وقيل: المراد بقوله: (ألم نشرح لك صدرك) شرح صدره ليلة الإسراء، ولكن لا منافاة، فإنه من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا فالله أعلم " انتهى.
3- وجاء في "روح المعاني" (30/166) :
" وقيل: المعنى: ألم نزل همك وغمك بإطلاعك على حقائق الأمور وحقارة الدنيا، فهان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى.
ونقل عن الجمهور أن المعنى: ألم نفسحه بالحكمة ونوسعه بتيسيرنا لك تلقي ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك " انتهى.
4- وقال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (1/4850) :
" وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر " انتهى.
وانظر "سبل الهدى والرشاد" (2/59) .
5- ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير سورة الشرح" (ص/1) :
" وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحاً حسيًّا، وشرح الصدر أن يكون متسعاً لحكم الله عز وجل بنوعيه، حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان " انتهى باختصار.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/176)
توضيح قوله تعالى (إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان)
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد في قصة سليمان وملكة سبأ في سورة النمل الآية التالية: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
أنا أفهم أن المعنى: أنها ظلمت نفسها بالكفر، وأنها أسلمت بعد أن تبين لها الحق، ولكن لفظ الآية، وعدم وجود علامة وقف بعد كلمة (نفسي) ، توحي بعكس هذا المعنى، وهو أنها ظلمت نفسها بالإسلام - ومعاذ الله -، فهل من توضيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول تعالى في سورة النمل: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . النمل/44
يحكي سبحانه وتعالى في هذه الآية المفاجأة الكبيرة التي كان أعدها سليمان عليه السلام لملكة سبأ، وكانت قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، فوقفت الملكة مدهوشة أمام هذه العجائب التي يعجز عن مثلها البشر، فرجعت إلى الله، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها مع سليمان لله رب العالمين.
هذا هو فهم سياق القصة، وهو أيضا ما تقتضيه قواعد اللغة العربية.
فإن قولها (ظَلَمْتُ نَفْسِي) جملة فعلية في محل رفع خبر (إِنِّي)
ثم جاء حرف العطف (الواو) ليعطف جملة على جملة، فقالت (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ)
انظر "إعراب القرآن وبيانه" محيي الدين درويش (7/216) ، "الجدول في إعراب القرآن" لمحمود صافي (9/415)
والتقدير: وإني أسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
وهذا هو التقدير الصحيح؛ لأن النحاة يقولون: إن حرف العطف إنما جيء به لاختصار التكرار في الجملة.
يقول ابن عقيل في "شرح ألفية ابن مالك" (2/208) :
" العطف على نية تكرار العامل " انتهى.
فبدل أن تقول: جاء زيد وجاء عمرو، تختصر فتقول: جاء زيد وعمرو.
وكذلك الحال في عطف الجمل التي لها محل من الإعراب:
فبدل أن تقول: إن الله يعلم ما أنتم عليه، وإن الله سيحاسبكم عليه.
تختصر فتقول: إن الله يعلم ما أنتم عليه وسيحاسبكم عليه.
فالواجب فهم الآية الكريمة على هذه القاعدة، فيكون تقدير الآية:
(إني ظلمت نفسي، وإني أسلمت مع سليمان لله رب العالمين)
ولا يلزم لغة - إذا كان العطف بين الجمل - أن تشترك في المعنى، بل قد يكون المعنى متضادا.
يقول الأستاذ عباس حسن في "النحو الوافي" (3/557) :
" والعطف بالواو إذا كان المعطوف غير مفرد، قد يفيد مطلق التشريك، نحو: نبت الورد ونبت القصب، أو لا يفيد، نحو: حضرت الطيارة ولم تحضر السيارة " انتهى.
فحين يعطف الله تعالى قول ملكة سبأ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ) لا يجوز أن تفهم على أنها توضيح للمعطوف عليه أو بيان له، من حيث أصل اللغة، فكيف حين يكون بين المعنيين تضاد ظاهر.
والسياق يبين أن الملكة اعترفت بظلمها نفسها حين كانت تعبد الشمس من دون الله، فتابت من ذلك الشرك، وأسلمت وجهها، ووحدت عبادتها لله رب العالمين.
وبهذا يكون المعنى سليما، وينتفي التوهم الذي يظنه السائل في الآية.
قد يكون لإشكال السائل وجه – من حيث قواعد النحو - إذا كان سياق الكلام:
(إني ظلمت نفسي: أسلمت مع سليمان) بحذف حرف العطف، على أن الجملة الثانية بدل من الجملة الأولى، كقوله تعالى:
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) الفرقان/68-69
فإن مضاعفة العذاب هي بيان وتوضيح للإثم الذي يلقاه مرتكب الكبائر.
كما قد يكون لهذا الإشكال وجه – من حيث قواعد اللغة – لو كان حرف العطف هو الفاء، فكان الكلام: إني ظلمت نفسي فأسلمت مع سليمان.
فإن الفاء تفيد – كثيرا – مع الترتيب (التسبب) ، أي الدلالة على السببية في عطف الجمل، نحو: رمى الصياد الطائر فقتله. انظر "النحو الوافي" (3/574)
أَمَا وقد جاء السياق القرآني على الوجه البَيِّنِ الجَلِيِّ:
(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
فليس لإشكال السائل أي محل من الفهم الصحيح للسياق، وقواعد النحو العربي.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/177)
معنى قول الله (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى كلمة (يأتي) في الآية: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة/109.
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من أهل الكتاب يودون الكفر والردة لأهل الإسلام، كراهية وبغضا وحسدا، مع أنهم يعلمون الحق ويوقنون به، ومع ذلك فقد أمر الله تعالى المؤمنين بالعفو والصفح عنهم، وذلك لحكم كثيرة منها: الرغبة في هدايتهم وإيضاح الحق لهم، ومنها انشغال المسلمين بالحرب مع كفار قريش، فاقتضت الحكمة أن يقتصروا على مواجهة عدو واحد. وبين الله تعالى أن هذا العفو والصفح ممتد إلى غاية وأمد، وهي أن يأتي أمر من الله للمسلمين يبيح لهم القتال.
فيأتي هنا بمعنى: يجيء ويصدر وينزل، أي ينزل عليهم أمر الله تعالى.
وقد جاء الأمر من الله تعالى بعد ذلك بقتالهم، كما قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره: (1/534) : " (فاعفوا) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم، وعما سلف منهم من قولهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: اسمع غير مسمع وراعنا لَيَّاً بألسنتهم وطعنا في الدين، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة/29.
ثم روى عن الربيع في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) ، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرًا. فأحدث الله بعد فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى وهم صاغرون) " انتهى.
وقال ابن الجوزي رحمه الله في "زاد المسير" (1/132) : " قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) قال ابن عباس: فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/178)
الفرق بين قوله تعالى: (من إملاق) وقوله: (خشية إملاق)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الفرق بين الآيتين: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) الأنعام/151، (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً) الإسراء/31؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإملاق هو الفقر، وقد كان من عادة أهل الجاهلية أنهم يئدون بناتهم إما لوجود الفقر، أو خشية وقوعه في المستقبل، فنهاهم الله تعالى عن الأمرين، فالآية الأولى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) الأنعام /151، واردة على السبب الأول، أي: لا تقتلوا أولادكم لفقركم الحاصل فإن الله متكفل برزقكم ورزقهم، والآية الثانية: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) الإسراء/31، واردة على السبب الثاني، أي: لا تقتلوا أولادكم خشية أن تفتقروا أو يفتقروا بعدكم، فإن الله يرزقهم ويرزقكم.
قال ابن كثير رحمه الله: " وقوله تعالى: (من إملاق) قال ابن عباس: هو الفقر، أي: لا تقتلوهم من فقركم الحاصل. وقال في سورة الإسراء: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الأجل (يعني في المستقبل) ، ولهذا قال هناك: (نحن نرزقهم وإياكم) فبدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله، وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلاً قال: (نحن نرزقكم وإياهم) لأنه الأهم ههنا، والله أعلم " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/179)
تفسير قوله تعالى (فَاْليَوْمَ نُنَجِّيْكَ بِبَدَنِكَ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما المقصود بقوله تعالى: (فَاْليَوْمَ نُنَجِّيْكَ بِبَدَنِكَ) الآية 92 من سورة يونس؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية من سورة يونس جاءت في معرض الحديث عن موقف من مواقف الطاغية فرعون تجاه نبي الله موسى عليه السلام ومن آمن معه من بني إسرائيل، وذلك حين سار موسى عليه السلام بالمؤمنين في هجرتهم إلى الأرض المباركة، فلحقه فرعون وجنوده ليردوهم ويفتنوهم، وفي طريق الهجرة الطويل اعترضهم البحر جميعا، فأكرم الله نبيه موسى ومن معه من المؤمنين بأن جعل البحر لهم يابسا يمشون فوقه، فعبروه أمام أعين أعدائهم، وهم ينظرون!!
فما كان من عدو الله فرعون إلا أن استخفه الطغيان، وأهوى به الطيش والحمق، فركب البحر خلف موسى ومن معه، ليكون هلاكه ومن معه بالغرق في نفس البحر الذي جاوزه موسى ومن معه من المؤمنين!!
فلما أحاط الموت بالطاغية من كل مكان، وتقاذفته لجج البحر وأمواجه، وأيقن أن الغرق مصيره لا محالة، قال: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، وهيهات هيهات، قد فات وقت التوبة، ومضى زمان الإنابة والإيمان حين حل الموت، وذهب عن الخبيث كل قوة وحيلة!!
ولا شك أن موت هذا الطاغية المسرف في الطغيان في مثل هذا الموقف العظيم من أعظم الآيات التي تبين عاقبة العناد والظلم والاستكبار، لذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يثبت هذه الآية ويؤكدَها، ويرفعَ عنها أي شك أو لبس أو إشاعات، فقضى أن تظهر جثة فرعون هامدة باردة على الشاطئ، يراها قومه ومن كان يعبده، فيكون ذلك أبلغ في إقامة العظة والعبرة عليهم. قال الله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)
يقول ابن كثير رحمه الله: (قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح، وعليه درعه المعروفة، على نجوة من الأرض، وهو المكان المرتفع، ليتحققوا موته وهلاكه، ولهذا قال تعالى: (فاليوم ننجيك) أي: نرفعك على مكان بارز من الأرض، (ببدنك) قال مجاهد: بجسدك، وقال الحسن: بجسم لا روح فيه، وقال عبد الله بن شداد: سويا صحيحا: أي لم يتمزق، ليتحققوه ويعرفوه، وقال أبو صخر: بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله أعلم.
وقوله: " لتكون لمن خلفك آية " أي: لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصيةُ كلِّ دابةٍ بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء) تفسير ابن كثير (2/565) . بتصرف.
وكذلك كان، فقد رأى بنو إسرائيل فرعون ميتا رأي العين، فكان آية لمن رآه حينها، وكان آية لكل من سمع بقصة هلاكه ممن بعدهم!!
وليس في الآية ما يدل على أن بدنه سيبقى محفوظا إلى يوم القيامة، كما يتوهم بعض الناس، فإن ذلك من تحميل القرآن ما لا يحتمل، إذ لو كان المقصود بقاء جسد فرعون آية لجميع الناس بعده، يرونه ميتا ويعاينون جثته، لبقيت جثته معروفة ظاهرة لكل " من خلفه "، ممن سمع بقصته، حتى تتم العبرة، وتظهر الآية، ويصدق الوعد؛ فأين ذهبت قصته عن الناس، حتى عفا أثرها، وزال ذكرها قرونا متطاولة، قبل أن يدعي أهل الآثار أنهم اكتشفوا جثة فرعون الذي مات غرقا؟!!
يقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: (ومعنى قوله تعالى: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي: لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصيةُ كل دابَّة بيده، لا يقدر أحد على التخلُّص من عقوبته، ولو كان ذا سُلطة ومكانة بين الناس.
ولا يلزم من هذا أن تبقى جثَّةُ فرعون إلى هذا الزَّمان، كما يظنُّهُ الجُهَّالُ؛ لأن الغرض من إظهار بدنه من البحر معرفةُ هلاكه وتحقُّقُ ذلك لمن شكَّ فيه من بني إسرائيل، وهذا الغرض قد انتهى، وجسم فرعون كغيره من الأجسام، يأتي عليه الفناء، ولا يبقى منه إلا ما يبقى من غيره، وهو عَجْب الذَّنَبِ، الذي منه يُرَكَّبُ خلقُ الإنسان يوم القيامة؛ كما في الحديث؛ فليس لجسم فرعون ميزةٌ على غيره من الأجسام. والله أعلم) "المنتقى من فتاوى الفوزان" (1/سؤال رقم 132) .
ولكن يقال هنا: إن حصل وظهرت جثة فرعون من جديد، وثبت بكلام أهل الخبرة بالتاريخ والآثار أنها الجثة التي ذكر الله في كتابه، فإنما يكون ذلك إشارة إلى صدق ما أخبر به القرآن من نجاة بدن فرعون.
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: (ومن دقائق القرآن قوله تعالى: " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً "، وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون؛ وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن، إذ كانت الآية منطبقةً على الواقع التاريخي) التحرير والتنوير (1/2065) .
والخلاصة: أن بدن فرعون نَجَا يومها من الضياع أو التحلل، ولا يعني ذلك لزوم بقائه محفوظا إلى يوم القيامة، فمن ثبت عنده من أهل العلم بالآثار والتاريخ أن بدن فرعون ما زال محفوظا اليوم، وهو الذي يُعرَض في بعض المتاحف، فلا يجوز أن يَدَّعِيَ أن هذا الحفظ إنما هو معجزة من الله للناس جميعا، وإنما هو فقط تصديقٌ تاريخي جاء موافَقَةً لما في القرآن الكريم، وذلك هو الإعجاز.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/180)
هذه الآية لا تمنع من عملية تقويم الأسنان
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) ومع ذلك نجد في زمننا هذا من يقومون بمراجعة طبيب الأسنان لعمل ما يسمى بالتقويم فما حكم ذلك؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المراد من قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين/4: " أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورةٍ وشكلٍ، منتصبَ القامة، سويَّ الأعضاء، حسَنَها" كما قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/680) .
وقال القرطبي رحمه الله: " في أحسن تقويم: وهو اعتداله واستواء شبابه، كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء مُنكبّاً على وجهه، وخلقه هو مستوياً، وله لسان، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مزيّناً بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده " انتهى من تفسير القرطبي (20/105) .
وهذا لا يمنع الإنسان من أن يعالج أسنانه، أو يقوِّم ما اعوج منها، كما لا يمنعه من معالجة سائر أمراضه، والمهم ألا يفعل لذلك لمجرد الزينة والتجمل؛ إذ الضابط العام في عمليات التجميل، أن ما كان منها لإزالة تشويه أو عيب فلا حرج فيه، وما كان لمجرد الجمال والزينة، فهو ممنوع. ينظر "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله" ج 17 سؤال رقم 4
وقد سئل رحمه الله: ما حكم عمليات تقويم الأسنان؟
فأجاب بقوله: " تقويم الأسنان على نوعين:
النوع الأول: أن يكون المقصود به زيادة التجمل فهذا حرام ولا يحل، وقد لعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله هذا مع أن المرأة مطلوب منها أن تتجمل وهي من يُنشَّأ في الحلية، والرجل من باب أولى أن ينهى عن ذلك.
النوع الثاني: إذا كان تقويمها لعيب فلا بأس بذلك فيها، فإن بعض الناس قد يبرز شيء من أسنانه إما الثنايا أو غيرها تبرز بروزا مشينا بحيث يستقبحه من يراه ففي هذا الحال لا بأس من أن يعدلها الإنسان؛ لأن هذا إزالة عيب وليس زيادة تجميل، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أمر الرجل الذي قطع أنفه أن يتخذ أنفا من ورق أي فضة ثم أنتن فأمره أن يتخذ أنفا من ذهب) لأن في هذا إزالة عيب، وليس المقصود زيادة تجمل " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله" ج 17 سؤال رقم 6
وانظر جواب السؤال رقم (21255) .
والحاصل أن الآية الكريمة لا تدل على المنع من معالجة الأسنان وتقويمها لإزالة التشوه، أو العيب الحادث بها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/181)
كلمة حول الإعجاز العددي في القرآن واستعمال التقويم الشمسي
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت مؤخرا عن بعض " معجزات " القرآن الكريم، التي شملت العديد من الأشياء مثل المراحل الثلاثة للجنين، ومدارات الكواكب،.. الخ، إلا أن إحداها تحدثت عن أن كلمة " يوم " وردت في القرآن 365 مرة، وأن كلمة " قمر " تكررت 12 مرة، وقد نسيت عدد المرات التي تكرر ذكر كلمة " أيام " في القرآن، وقد قام أحد الأصدقاء بطباعة التقويم الإسلامي (الهجري) لكنه لم يكن يتكون من 365 يوماً، فما معنى ذلك حول التقويم الإسلامي؟ أيعني ذلك أنه غير دقيق؟ أم أن الله علم أن أغلب العالم سيستخدمون التقويم الميلادي وأنه إشارة إلى صحة هذا التقويم الأخير؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
شُغف كثير من الناس بأنواع من الإعجازات في القرآن الكريم، ومن هذه الأنواع " الإعجاز العددي " فنشروا في الصحف والمجلات وشبكات الإنترنت قوائم بألفاظ تكررت مرات تتناسب مع لفظها، أو تساوى عددها مع ما يضادها، كما زعموا في تكرار لفظة " يوم " (365) مرة، ولفظ " شهر " (12) مرة، وهكذا فعلوا في ألفاظ أخرى نحو " الملائكة والشياطين " و " الدنيا والآخرة " إلخ.
وقد ظنَّ كثيرٌ من الناس صحة هذه التكرارات وظنوا أن هذا من إعجاز القرآن، ولم يفرقوا بين " اللطيفة " و " الإعجاز "، فتأليف كتابٍ يحتوي على عدد معيَّن من ألفاظٍ معيَّنة أمرٌ يستطيعه كل أحدٍ، فأين الإعجاز في هذا؟ والإعجاز الذي في كتاب الله تعالى ليس هو مثل هذه اللطائف، بل هو أمر أعمق وأجل من هذا بكثير، وهو الذي أعجز فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سورٍ مثله أو بسورة واحدة، وليس مثل هذه اللطائف التي يمكن لأي كاتب أن يفعلها – بل وأكثر منها – في كتاب يؤلفه، فلينتبه لهذا.
وليُعلم أنه قد جرَّ هذا الفعل بعض أولئك إلى ما هو أكثر من مجرد الإحصائيات، فراح بعضهم يحدد بتلك الأرقام " زوال دولة إسرائيل " وتعدى آخر إلى " تحديد يوم القيامة "، ومن آخر ما افتروه على كتاب الله تعالى ما نشروه من أن القرآن فيه إشارة إلى " تفجيرات أبراج نيويورك "! من خلال رقم آية التوبة وسورتها وجزئها، وكل ذلك من العبث في كتاب الله تعالى، والذي كان سببه الجهل بحقيقة إعجاز كتاب الله تعالى.
ثانياً:
بالتدقيق في إحصائيات أولئك الذين نشروا تلك الأرقام وُجد أنهم لم يصيبوا في عدِّهم لبعض الألفاظ، ووجدت الانتقائية من بعضهم في عدِّ الكلمة بالطريقة التي يهواها، وكل هذا من أجل أن يصلوا إلى أمرٍ أرادوه وظنوه في كتاب الله تعالى.
قال الشيخ الدكتور خالد السبت:
قدَّم الدكتور " أشرف عبد الرزاق قطنة " دراسة نقدية على الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وأخرجه في كتاب بعنوان: " رسم المصحف والإعجاز العددي، دراسة نقدية في كتب الإعجاز العددي في القرآن الكريم " وخلص في خاتمة الكتاب الذي استعرض فيه ثلاثة كتب هي (1) كتاب " إعجاز الرقم 19 " لمؤلفه باسم جرار، (2) كتاب " الإعجاز العددي في القرآن " لعبد الرزاق نوفل، (3) كتاب " المعجزة " لمؤلفه عدنان الرفاعي، وخلص المؤلف إلى نتيجة عبَّر عنها بقوله:
" وصلت بنتيجة دراستي إلى أن فكرة الإعجاز العددي " كما عرضتها هذه الكتب " غير صحيحة على الإطلاق، وأن هذه الكتب تقوم باعتماد شروط توجيهية حيناً وانتقائية حيناً آخر، من أجل إثبات صحة وجهة نظر بشكل يسوق القارئ إلى النتائج المحددة سلفاً، وقد أدت هذه الشروط التوجيهية أحياناً إلى الخروج على ما هو ثابت بإجماع الأمة، كمخالفة الرسم العثماني للمصاحف، وهذا ما لا يجوز أبداً، وإلى اعتماد رسم بعض الكلمات كما وردت في أحد المصاحف دون الأخذ بعين الاعتبار رسمها في المصاحف الأخرى، وأدت كذلك إلى مخالفة مبادئ اللغة العربية من حيث تحديد مرادفات الكلمات وأضدادها.
(ص 197) دمشق، منار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1420هـ / 1999.
وقد ذكر الدكتور فهد الرومي أمثله على اختيار الدكتور عبد الرزاق نوفل الانتقائي للكلمات حتى يستقيم له التوازن العددي، ومن ذلك قوله: إن لفظ اليوم ورد في القرآن (365) مرة بعدد أيام السنة، وقد جمع لإثبات هذا لفظي " اليوم "، " يوماً " وترك " يومكم " و " يومهم " و " يومئذ "؛ لأنه لو فعل لاختلف الحساب عليه! وكذلك الحال في لفظ " الاستعاذة " من الشيطان ذكر أنه تكرر (11) مرة، يدخلون في الإحصاء كلمتي " أعوذ " و " فاستعذ " دون " عذت " و " يعوذون " و " أعيذها " و " معاذ الله ".
انظر: " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر " (2 / 699، 700) بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1414هـ.
وبهذا الكلام العلمي المتين يتبيَّن الجواب عن كلمة " يوم " وعددها في القرآن الكريم، والذي جاء في السؤال.
ثالثاً:
وأما الحساب الذي يذكره الله تعالى في كتابه الكريم فهو الحساب الدقيق الذي لا يختلف على مدى السنوات، وهو الحساب القمري.
وفي قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) الكهف/25 ذكر بعض العلماء أن عدد (300) هو للحساب الشمسي، وأن عدد (309) هو للحساب القمري! وقد ردَّ على هذا القول الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وبيَّن في ردِّه أن الحساب عند الله تعالى هو الحساب القمري لا الشمسي.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" (وَازْدَادُوا تِسْعاً) ازدادوا على الثلاث مائة تسع سنين، فكان مكثُهم ثلاث مائة وتسع سنين، قد يقول قائل: " لماذا لم يقل مائة وتسع سنين؟ "
فالجواب: هذا بمعنى هذا، لكن القرآن العظيم أبلغ كتاب، فمن أجل تناسب رؤوس الآيات قال: (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) ، وليس كما قال بعضهم بأن السنين الثلاثمائة بالشمسية، وازدادوا تسعاً بالقمرية؛ فإنه لا يمكن أن نشهد على الله بأنه أراد هذا، مَن الذي يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى؟ حتى لو وافق أن ثلاث مائة سنين شمسية هي ثلاث مائة وتسع سنين بالقمرية فلا يمكن أن نشهد على الله بهذا؛ لأن الحساب عند الله تعالى واحد.
وما هي العلامات التي يكون بها الحساب عند الله؟
الجواب: هي الأهلَّة، ولهذا نقول: إن القول بأن " ثلاث مائة سنين " شمسية، (وازدادوا تسعاً) قمرية قول ضعيف.
أولاً: لأنه لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا.
ثانياً: أن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، قال تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس/5، وقال تعالى: (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) البقرة/189 " انتهى.
" تفسير سورة الكهف ".
والحساب بالقمر والأهلة هو المعروف عند الأنبياء وأقوامهم، ولم يُعرف الحساب بالشمس إلا عند جهلة أتباع الديانات، وللأسف وافقهم كثير من المسلمين اليوم.
قال الدكتور خالد السبت – في معرض رده على من استدل بآية (لا يزال بنيانهم..) في سورة التوبة على تفجيرات أمريكا -:
" الخامس: أن مبنى هذه الارتباطات على الحساب الشمسي، وهو حساب متوارث عن أُمم وثنية، ولم يكن معتبراً لدى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما الحساب المعتبر في الشرع هو الحساب بالقمر والأهلة، وهو الأدق والأضبط، ومما يدل على أن المعروف في شرائع الأنبياء هو الحساب بالقمر والأهلة حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ) أخرجه أحمد (4 / 107) ، والبيهقي في " السنن " (9 / 188) ، وسنده حسن، وذكره الألباني في " الصحيحة " (1575) . وهذا لا يعرف إلا إذا كان الحساب بالقمر والأهلة، ويدل عليه أيضا الحديث المخرج في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ... الحديث , أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130) ، وقد صرَّح الحافظ رحمه الله أنهم كانوا لا يعتبرون الحساب بالشمس - انظر: " الفتح " (4 / 291) ، وانظر (7 / 323) -.
وقال ابن القيم رحمه الله - تعليقا على قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) يونس/5، وقوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يس/38، 39:
" ولذلك كان الحساب القمري أشهر وأعرف عند الأمم وأبعد من الغلط، وأصح للضبط من الحساب الشمسي، ويشترك فيه الناس دون الحساب، ولهذا قال تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) يونس/5 ولم يقل ذلك في الشمس، ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسيره حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب " انتهى من "مفتاح دار السعادة " ص 538، 539.
وربما يُفهم من العبارة الأخيرة لابن القيم رحمه الله أن أهل الكتاب كانوا يعتمدون الحساب بالشمس، وهذا قد صرح الحافظ ابن حجر رحمه الله بردِّه بعد أن نسبه لابن القيم - انظر: " الفتح " (7 / 323) –.
والواقع أنه لم يكن معتبراً في شرعهم وإنما وقع لهم بعد ذلك لدى جهلتهم " انتهى.
وفي فوائد قوله تعالى: (يسئلونك عن الأهلة ... ) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" ومنها: أن ميقات الأمم كلها الميقات الذي وضعه الله لهم - وهو الأهلة - فهو الميقات العالمي؛ لقوله تعالى: (مواقيت للناس) ؛ وأما ما حدث أخيراً من التوقيت بالأشهر الإفرنجية: فلا أصل له من محسوس، ولا معقول، ولا مشروع؛ ولهذا تجد بعض الشهور ثمانية وعشرين يوماً، وبعضها ثلاثين يوماً، وبعضها واحداً وثلاثين يوماً، من غير أن يكون سبب معلوم أوجب هذا الفرق؛ ثم إنه ليس لهذه الأشهر علامة حسيَّة يرجع الناس إليها في تحديد أوقاتهم، بخلاف الأشهر الهلاليَّة فإن لها علامة حسيَّة يعرفها كل أحدٍ " انتهى.
" تفسير البقرة " (2 / 371) .
وقال القرطبي رحمه الله تعليقاً على قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) التوبة/36:
" هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام في العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً؛ لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج " انتهى.
" تفسير القرطبي " (8 / 133) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/182)
هل تدخل النساء في قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أمولكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) النساء/5. وحسب تفسير ابن كثير فإن " السفهاء " في هذه الآية يقصد بها النساء والأطفال، وأشعر أن الآية تقول إنه يجب على الأزواج ألا يعطوا المال لزوجاتهم لينفقن أو ألا يعطوا دخلهم لزوجاتهم لينفقن منها لأنهن سفيهات وغير حكيمات، فهل هذا الفهم صحيح أم أني أخرجت المعنى عن السياق؟
أرجو أن توضح معنى الآية حيث إني مشغولة بذلك كثيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر بعض المفسرين في الآية أن " السفهاء" هم النساء، وهذا القول غير صحيح، بل المراد بـ "السفيه" كل من لا يحسن التصرف في المال، ذكراً كان أم أنثى، فيشمل: المجنون، والصبي الصغير، الرجل البالغ - وكذلك المرأة - الذي لا يحسن التصرف في المال، بل يضيعه وينفقه على ما لا ينفعه.
وقد رد بعض المفسرين القول بأن المراد بذلك النساء، واستبعدوه لغة وشرعاً.
أما لغة فقالوا: إنه لا يقال في النساء " سفهاء " بل " سفائه "، و " سفيهات ".
وأما شرعاً فلتواتر النصوص القرآنية والنبوية المبينة لتملك النساء للمال ولتعاملهن بيعاً وشراءً وإجارة، ولا يزال الأزواج يعطون نساءهم نفقة البيت للقيام على شئونه، ولما منع أبو سفيان النفقة عن زوجته واشتكت للنبي صلى الله عليه وسلم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري (2097) ومسلم (1714) .
قال القرطبي:
واختلف العلماء في هؤلاء " السفهاء " من هم فعن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء، وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: هم النساء، قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء " سفائه " أو " سفيهات ". . . وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر.
"تفسير القرطبي" (5/28) .
وذكر ابن جرير الطبري رحمه الله أقوال المفسرين في الآية – ومنها القول بأن المراد بذلك النساء – ثم قال:
" والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) فلم يخصص سفيها دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبيره ذلك. . .
وأما قول من قال: عنى بالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة على غير وجهها " انتهى.
"تفسير الطبري" (3/249) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" السفهاء، جمع " سفيه " وهو: من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله، كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، وإما لعدم رشده، كالصغير وغير الرشيد، فنهى الله الأولياء أن يُؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها؛ لأن الله جعل الأموال قياماً لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يُحسنون القيام عليها وحفظها " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص130، 131) .
فتبين بذلك أنه لا حرج على الرجل أن يعطي المال لزوجته لتنفق منه على البيت، إذا كانت عاقلة رشيدة بحيث تحسن التصرف في المال.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/183)
عنده إشكال في تفسير هذه الآية
[السُّؤَالُ]
ـ[أود معرفة تفسير قول الله تعالى: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) آل عمران /45؛ وهل معنى قوله تعالى: (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) : بروح منه، كما يدعي النصارى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعلم أيها الأخ الكريم، وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، أن الفرق بين ما أنزل الله في كتابه من الهدى ودين الحق، وبين ما يقوله النصارى في نبي الله عيسى عليه السلام، هو الفرق بين الإيمان والكفر، بين التوحيد والشرك، بين الهدى والضلال، هو الفرق بين الظلمات والنور، نسأل الله أن ينور لنا قلوبنا بتوحيده والإيمان به.
ثم اعلم أخانا أن الواجب على من أشكل معنى شيء من المتشابه في كتاب الله تعالى أن يفهمه في ضوء الآيات المحكمات، التي هي معظم هذا الكتاب المبين، وأكثر نصوصه، وهي الأصل الذي يرجع إليه في فهمه واستنباط أحكامه وعبره، لا أن يعارض آية بأخرى، ولا أن يضرب بعض الوحي ببعض، أو يتبع المتشابه الذي يشكل فهمه عليه أو على غيره من الناس، ويترك الواضح المبين، فتلك هي طريقة أهل البدع والضلال، عافانا الله وإياكم، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) آل عمران/7.
وليست الآية التي ذكرتها مما يدل على قول النصارى في شيء، بل الآية في سياقها ترد على النصارى، وتبين ضلالهم وكفرهم برب العالمين.
قال الله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) آل عمران/44-51
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس كما يقوله النصارى:
منها: أنه بين مراده، وأنه مخلوق حيث قال: (كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، كما قال في الآية الأخرى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران/59. وقال تعالى في سورة مريم: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) مريم /35 وقال: (اسمه المسيح عيسى بن مريم) أخبر أنه ابن مريم، وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين؛ وهذه كلها صفة مخلوق.
وقالت مريم: (أنى يكون لي ولد) فبين أن المسيح، الذي هو الكلمة، هو ولد مريم، لا ولد الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا * لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) النساء/171-173، فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم، وأن يقولوا على الله غير الحق، وبين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله، فبين أنه رسوله، ونهاهم أن يقولوا ثلاثة، وقال (انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد) ؛ وهذا تكذيب لقولهم في المسيح: إنه إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه.
ثم قال: (سبحانه أن يكون له ولد) فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى.
ثم قال: (له ما في السموات وما في الأرض) فأخبر أن ذلك ملك له، ليس فيه شيء من ذاته.
ثم قال: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا الله ولا الملائكة المقربون) أي: لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى. فمع ذلك البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أن مراده بقوله: (وكلمته) أنه إله خالق، أو نحو ذلك من أقوالهم الكفرية.
وإنما خُصَّ عيسى عليه السلام باسم الكلمة؛ لأنه لم يخلق على الوجه المعتاد الذي خلق عليه غيره، بل خرج عن العادة، فخلق بأمر الله التكويني له: (كن) ، وهذا هو الكلمة المذكورة، ولم يخلق من لقاح الذكر للأنثى، كما هي سنة الله المعروفة في خلق البشر.
وكون عيسى عليه السلام كلمة من الله، وروحا منه، كما تدل عليه نصوص الوحي المبين، لا يوجب أن يكون جزءا من الله تعالى، قد خرج منه، وانفصل عن ذاته، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، بل المراد بذلك أنه من عنده سبحانه وتعالى، كما قال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) الجاثية/13 وقوله تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) النحل/53، وقوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء/79، وقال تعالى في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً) البينة/1-2 فهذه الأشياء كلها من الله، وهي مخلوقة.
وقوله عن المسيح وروح منه خص المسيح بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح؛ فحبلت به من ذلك النفخ، وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر، فامتاز بأنها حبلت به من نفخ الروح فلهذا سمي روحا منه. [انظر: دقائق التفسير: 1/324 وما بعدها] .
ثم إن ما في هذه الآيات من التصريح بأن الله تعالى خلقه، وكذلك يخلق سبحانه ما يشاء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإخباره عليه السلام بأن ما جاء به من الآيات والمعجزات إنما هو من عند الله وبإذنه، آية لهم على وحدانيته سبحانه وتعالى، ثم ختم الآيات بالتصريح بالمقصود منها، وهو أمرهم بعبادة الله رب عيسى، ورب من أرسل إليهم عيسى عليه السلام كذلك واضح الدلالة على بطلان ما يدعيه النصارى في عيسى عليه السلام وأمه، وتصريح برد كفرهم وضلالهم.
وكما ذكرت هذه الآية أن عيسى كلمة من الله تعالى، وفيها ما يدل على المراد، قد ورد ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ما رواه البخاري (3435) ومسلم (28) من حديث عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ)
وفي لفظ مسلم: (وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ)
قَالَ الْقُرْطُبِيّ رحمه الله: مَقْصُود هَذَا الْحَدِيث التَّنْبِيه عَلَى مَا وَقَعَ لِلنَّصَارَى مِنْ الضَّلال فِي عِيسَى وَأُمّه.
وَقَالَ غَيْره: فِي ذِكْر عِيسَى تَعْرِيض بِالنَّصَارَى وَإِيذَان بِأَنَّ إِيمَانهمْ مَعَ قَوْلهمْ بِالتَّثْلِيثِ شِرْك مَحْض , وَكَذَا قَوْله: " عَبْده " وَفِي ذِكْر " رَسُوله " تَعْرِيض بِالْيَهُودِ فِي إِنْكَارهمْ رِسَالَته وَقَذْفه بِمَا هُوَ مُنَزَّه عَنْهُ وَكَذَا أُمّه.
وَفِي قَوْله: " وَابْن أَمَته " تَشْرِيف لَهُ.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/184)
معنى اللمم
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) ما معنى اللمم في هذه الآية الكريمة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية الكريمة في سورة النجم، وهي تذكر صفات المحسنين الذين هم أهل الجنة، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) النجم/31، 32.
وقد اختلف المفسرون والأئمة في معنى اللمم على أقوال، منها:
1- روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة، ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيراً، قال البغوي: هذا قول أبي هريرة، ومجاهد، والحسن، ورواية عن ابن عباس.
2- وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألم بالقلب. أي ما خطر عليه.
3- وقال الحسين بن الفضل: "اللمم": النظر من غير تعمد، فهو مغفور، فإن أعاد اللمم: فليس بلمم، وهو ذنب.
4- وذهبت طائفة إلى أن "اللمم": ما فعلوه في الجاهلية قبل إسلامهم، فالله لا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: أنتم بالأمس كنتم تعملون معنا، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم.
5- وذهب جمهور العلماء إلى أن "اللمم" هو صغائر الذنوب.
روى البخاري (6243) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ) .
قَالَ الرَّاغِب: اللَّمَم مُقَارَفَة الْمَعْصِيَة، وَيُعَبَّر بِهِ عَنْ الصَّغِيرَة.
وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِاللَّمَمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه فِي قَوْله تَعَالَى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ) وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الآيَة الأُخْرَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فَيُؤْخَذ مِنْ الآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّمَم مِنْ الصَّغَائِر وَأَنَّهُ يُكَفَّر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر اهـ.
وذكر النووي رحمه الله كلام الخطابي ثم قال:
" هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِير اللَّمَم , وَقِيلَ: أَنْ يُلِمّ بِالشَّيْءِ وَلا يَفْعَلهُ , وَقِيلَ: الْمَيْل إِلَى الذَّنْب. وَلا يُصِرّ عَلَيْهِ , وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَأَصْل اللَّمَم وَالإِلْمَام الْمَيْل إِلَى الشَّيْء وَطَلَبَهُ مِنْ غَيْر مُدَاوَمَة. وَاَللَّه أَعْلَم " اهـ.
قال الحافظ:
وَمُحَصَّل كَلَام اِبْن عَبَّاس تَخْصِيصه بِبَعْضِهَا (يعني: تخصيص اللمم ببعض الذنوب الصغار) , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَة اللَّمَم أَوْ فِي حُكْم اللَّمَم اهـ.
وروى الترمذي (3284) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ) . قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا) . صححه الألباني في صحيح الترمذي.
قال في تحفة الأحوذي:
اخْتَلَفَت أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ. . وَهو الظَّاهِرُ الرَّاجِحُ اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله:
"إلا اللمم" وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه اهـ.
وقال ابن جرير:
" وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال "إلا" بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجه معنى الكلام (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فإن ذلك معفو لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جل ثناؤه: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) النساء/31. فوعد جل ثناؤه باجتناب الكبائر، العفو عما دونها من السيئات، وهو اللمم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج، وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه، والله جل ثناؤه أكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه " اهـ
وقد ورد في السنة الصحيحة إطلاق اللمم على من يعمل الذنوب المرة ونحوها، ولم يداوم على ذلك.
وهو موافق لمعنى اللمم في اللغة.
ففي حديث الإفك:
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّه) رواه البخاري (2661) ومسلم (2770) .
قال النووي: مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْت فَعَلْت ذَنْبًا وَلَيْسَ ذَلِكَ لَك بِعَادَةٍ , وَهَذَا أَصْل اللَّمَم اهـ.
وقد جمع السعدي رحمه الله في تفسيره بين المعنيين، فقال (ص 976) :
" (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار من الزنا وشرب الخمر وأكل الربا والقتل ونحو ذلك من الذنوب العظيمة (إِلا اللَّمَمَ) وهو الذنوب الصغار التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يُلِم العبد بها المرة بعد المرة على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجاً للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) " اهـ.
وليس معنى الآية الإذن لهم في ارتكاب (اللمم) وهي الصغائر، بل المعنى: أنهم يجتنبون الكبائر، ثم ما وقع منهم من الصغائر - على سبيل الزلة والخطأ - فإنه يقع مغفوراً لهم باجتنابهم الكبائر.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/185)
المقصود بالجنة والناس في سورة الناس
[السُّؤَالُ]
ـ[ما المقصود بالجِنّة والنَّاس في سورة الناس، هل هم شياطين الإنس والجن أم ماذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قال الله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس *ِ مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاس * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس *ِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس) . سورة الناس
في هذه الآيات الكريمة أمر بالاستعاذة من الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس.
وفيها بيان حال هذا الوسواس، وأنه قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
قال الحسن: هما شيطانان، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين، فتعوذ بالله من شياطين الإنس والجن.
هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة.
قال ابن القيم رحمه الله:
" فالصواب في معنى الآية أن قوله: (مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس. . . .
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة: اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الأنعام/112.
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله، فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني، ويشتركان في الوسوسة. . . .
وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين: شياطين الإنس وشياطين الجن " انتهى باختصار.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير جزء عم":
" وقوله: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس)
أي: أن الوساوس تكون من الجن، وتكون من بني آدم.
أما وسوسة الجن؛ فظاهر؛ لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وأما وسوسة بني آدم؛ فما أكثرَ الذين يأتون إلى الإنسان يوحون إليه بالشر، ويزينونه في قلبه حتى يأخذ هذا الكلام بلُبِّه وينصرف إليه " انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/186)
حديث توسل آدم بالنبي وتفسير: (وابتغوا إليه الوسيلة)
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) المائدة/35، وذلك ردّاً على الصوفية في التوسل، حيث إن بعضهم فسرها بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، أما بالنسبة لحديث آدم لما اقترف الخطيئة فيقولون: إن البيهقي صحح الحديث، وإن الذهبي أثنى على هذا الكتاب.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
حديث اقتراف آدم للخطيئة وتوسله بالنبي صلى الله عليه وسلم حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آدم عليه السلام.
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (34715) ونقلنا عن أهل العلم تبيينهم لكذبه، ومن هؤلاء العلماء الإمام الذهبي رحمه الله.
والبيهقي رحمه الله لم يرو الحديث في سننه، بل رواه في "دلائل النبوة" (5/489) وضعَّفه، فقد قال بعد سياقه للحديث: " تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف ".
ومما يرجح نكارة المتن وبطلانه: أن الدعاء الذي قبِل الله به توبة آدم هو ما قاله الله في سورة الأعراف: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الأعراف/23، فهذا هو الدعاء الذي دعا به آدم وحواء، وفيه دعاء الله تعالى وحده، والتوسل بأسمائه وصفاته، والتوسل بذكر حالهم، وهي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه ثم قالها فتاب الله تعالى عليه، كما قال تعالى: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة/37.
ثانياً:
أما تفسير لفظ " الوسيلة " في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة/35: فهي الطريق الموصلة إلى الله تعالى، ولا طريق موصلة إليه عز وجل إلا الطريق التي يحبها الله ويرضى عنها، وتكون بطاعته وترك معصيته.
قال ابن كثير رحمه الله:
" يقول تعال آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف من المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها: (وابتغوا إليه الوسيلة) قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي: القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) ، وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.
والوسائل والوسيلة: هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (2/53، 54) .
وقال الشنقيطي رحمه الله:
" اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى؛ لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة.
وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء؛ لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جدّاً كقوله تعالى: (وَمَآءَاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ) ، وكقوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى) ، وقوله: (قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ) ، إلى غير ذلك من الآيات.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالوسيلة الحاجة. . .
وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس فالمعنى: (وَ?بْتَغُواْ إِلَيهِ ?لْوَسِيلَةَ) : واطلبوا حاجتكم من الله؛ لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها، ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى: (إِنَّ ?لَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرِّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ) ، وقوله: (وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ) ، وفي الحديث: (إذا سألتَ فاسأل الله) .
ثم قال الشنقيطي رحمه الله: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا؛ لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهَّال المدعين للتصوُّف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه: أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين، وتلاعب بكتاب الله تعالى، واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ?للَّهِ زُلْفَى?) وقوله: (وَيَقُولُونَ هَـ?ؤُلا?ءِ شُفَعَـ?ؤُنَا عِندَ ?للَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ?للَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى ?لسَّمَوَتِ وَلاَ في ?لأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رِضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل، (لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيِّكُمْ وَلا? أَمَانِىِّ أَهْلِ ?لْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُو?ءًا يُجْزَ بِهِ) .
وهذا الذي فسرنا به الوسيلة هنا هو معناها أيضاً في قوله تعالى: (أُولَـ?ئِكَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى? رَبِّهِمُ ?لْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ، وليس المراد بالوسيلة أيضاً المنزلة التي في الجنة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل له الله أن يعطيه إياها، نرجو الله أن يعطيه إياها؛ لأنها لا تنبغي إلا لعبد، وهو يرجو أن يكون هو " انتهى باختصار.
"أضواء البيان" (2/86– 88) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/187)
يسأل عن الصابئة: من هم؟ وما حقيقة مذهبهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد ذكر الصابئة في عدة آيات من القرآن، فمن هم؟ وما الدين الذي يدينون به؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكرت هذه الطائفة من الناس في ثلاثة مواضع من القرآن؛ فأولها في قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/62، والثاني في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج/17، والثالث قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المائدة/69.
والصابئة جمع صابئ، اسم فاعل من صَبَأ يصبَأ، إذا خرج من دين إلى آخر.
قال الطبري: (والصابئون، جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: صابئا ... يقال صبأت النجوم: إذا طلعت..) انظر تفسير الطبري 2/145، لسان العرب صبأ
وأما مذهبهم، فقال ابن القيم، رحمه الله: (وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا، وأشكل أمرهم على الأئمة لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم؛ فقال الشافعي رحمه الله تعالى: هم صنف من النصارى، وقال في موضع: ينظر في أمرهم؛ فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع، فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية....
وأما أقوال السلف فيهم فذكر سفيان عن ليث عن مجاهد قال: هم قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين، وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: الصابئة قوم يعبدون الملائكة ... )
قال ابن القيم: (قلت: الصابئة أمة كبيرة، فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمن وكافر، فإن الأمم قبل مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، نوعان: نوع كفار أشقياء كلهم، ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس، ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة، وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون) البقرة/62، وكذلك قال في المائدة، وقال في سورة الحج (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فلم يقل هاهنا: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا؛ فذكر ست أمم، منهم اثنتان شقيتان، وأربع منهم منقسمة إلى شقي وسعيد، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أمم ليس إلا، ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلها معهم، فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد.
وهذه أمة قديمة قبل اليهود والنصارى، وهم أنواع: صابئة حنفاء، وصابئة مشركون. وكانت حران دار مملكة هؤلاء قبل المسيح، ولهم كتب وتآليف وعلوم، وكان في بغداد منهم طائفة كبيرة، منهم إبراهيم بن هلال الصابئ صاحب الرسائل، وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين، وأكثرهم فلاسفة ولهم مقالات مشهورة ذكرها أصحاب المقالات.
وجملة أمرهم أنهم لا يكذبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم، وعندهم أن من اتبعهم [يعني اتبع الأنبياء] فهو سعيد ناج وأن من أدرك بعقله ما دعوا إليه، فوافقهم فيه وعمل بوصاياهم، فهو سعيد، وإن لم يتقيد بهم، فعندهم دعوة الأنبياء حق، ولا تتعين طريقا للنجاة، وهم يقرون أن للعالم صانعا مدبرا حكيما منزها عن مماثلة المصنوعات، ولكن كثيرا منهم، أو أكثرهم، قالوا: نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط؛ والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدسين المطهرين عن المواد الجسمانية، المبرئين عن القوى الجسدية، المنزهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية، بل قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس.
ثم ذكر أنهم يعبدون هذه الوسائط ويتقربون إليها، ويقولون: (هم آلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب، وإله الآلهة)
ثم قال، رحمه الله: (فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات عن دين الصابئة وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر وفيهم الكافر، وفيهم الآخذ من دي الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه، فدانوا به ورضوه لأنفسهم.
وعقد أمرهم أنهم يأخذون بمحاسن ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يوالون أهل ملة ويعادون أخرى، ولا يتعصبون لملة على ملة. والملل عندهم نواميس لمصالح العالم، فلا معنى لمحاربة بعضها بعضا بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس، وتتهذب به الأخلاق، ولذلك سموا صابئين كأنهم، صبؤوا عن التعبد بكل ملة من الملل، والانتساب إليها، ولهذا قال غير واحد من السلف: ليسوا يهودا ولا نصارى ولا مجوسا.
وهم نوعان صابئة حنفاء وصابئة مشركون؛ فالحنفاء هم الناجون منهم وبينهم مناظرات ورد من بعضهم على بعض، وهم قوم إبراهيم كما أن اليهود قوم موسى،والحنفاء منهم أتباعه) أحكام أهل الذمة 1/92-98
وما ذكره من انقسام الصابئة إلى موحدين ومشركين قرره شيخ الإسلام أيضا في غير موضع. انظر الرد على المنطقيين [287-290،454-458] ، منهاج السنة، تعليق المحقق [1/5] . وانظر أيضا بحث الشيخ ابن عاشور للمسألة عند تفسيره لآية البقرة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/188)
تفسير قوله تعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ؟ وعلى من تعود الخشية؟ ونحن جميعاً نعلم أن الله لا يخشى أحدا، وإنما يخشاه العباد؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر/28.
فالفاعل هنا: (العلماءُ) فهم أهل الخشية والخوف من الله.
واسم الجلالة (الله) : مفعول مقدم.
وفائدة تقديم المفعول هنا: حصر الفاعلية، أي أن الله تعالى لا يخشاه إلا العلماءُ، ولو قُدم الفاعل لاختلف المعنى ولصار: لا يخشى العلماءُ إلا اللهَ، وهذا غير صحيح فقد وُجد من العلماء من يخشون غير الله.
ولهذا قال شيخ الإسلام عن الآية:
" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ. وَهُوَ حَقٌّ، وَلا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/539) .
وانظر: "تفسير البيضاوي" (4/418) ، و "فتح القدير" (4/494) .
وأفادت الآية الكريمة أن العلماء هم أهل الخشية، وأن من لم يخف من ربه فليس بعالم.
قال ابن كثير رحمه الله:
" إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير ... وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الحسن: (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. . .
وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله: الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض. والعالم بأمر الله ليس العالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل " انتهى من تفسير ابن كثير (4/729) باختصار.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (17/21) :
" قوله تعالى: (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لا يَخْشَاهُ إلا عَالِمٌ ; فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ كَمَا قَالَ فِي الآيَةِ الأُخْرَى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الزمر/9 " انتهى.
وقال السعدي رحمه الله:
" فكل مَنْ كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه، وهذا دليل على فضل العلم، فإنه داعٍ إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) البينة/8 " انتهى.
والحاصل: أن الفاعل في الآية هم العلماء.
ومعنى الآية: أن الله تعالى لا يخشاه أحدٌ إلا العلماءُ، وهم الذين يعرفون قدرته وسلطانه.
وليس معنى الآية أن الله تعالى هو الذي يخشى العلماء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/189)
معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود المذكورين في آية الصيام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قول الله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/187.
ومعنى ذلك أن الله تعالى أباح للصائم الأكل والشرب ليلاً حتى يتبين له (أي يتيقن) طلوع الفجر.
والمراد من الخيط الأبيض النهار، والخيط الأسود الليل.
قال الحافظ: وَمَعْنَى الآيَةِ حَتَّى يَظْهَرَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ , وَهَذَا الْبَيَانُ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ.
وَقَوْلُهُ: (مِنْ الْفَجْرِ) بَيَانٌ لِلْخَيْطِ الأَبْيَضِ , وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ لأَنَّ بَيَانَ أَحَدِهِمَا بَيَانٌ لِلآخَرِ اهـ.
وقد فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم الآية على خلاف معناها، ففهموا أن المراد منها الخيط الحقيقي، فكان أحدهم يجعل تحت وسادته أو يربط في رجله خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود ويظل يأكل حتى يتبين له أحدهما من الآخر، وسبب هذا الخطأ في فهم معنى الآية أن الله تعالى أنزل الآية أولاً بدون قوله:) مِنَ الْفَجْرِ) ، ففهمها بعض الصحابة على المعنى المتبادر إلى الذهن من كلمة "الخيط" ثم أنزل الله تعالى بعد مدة (قال بعض العلماء إنها سنة) أنزل قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أن المراد بالخيط الأبيض ضوء الفجر (النهار) وبالخيط الأسود الليل.
روى البخاري (1917) ومسلم (1091) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) وَلَمْ يَنْزِلْ (مِنْ الْفَجْرِ) فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: (مِنْ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
فهؤلاء الصحابة حَمَلُوا الْخَيْطَ عَلَى ظَاهِرِهِ , فَلَمَّا نَزَلَ (مِنْ الْفَجْرِ) عَلِمُوا الْمُرَادَ.
وقد فهم عدي بن حاتم رضي الله عنه الآية كما فهمها هؤلاء حتى صحح له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفهم وبين له المعنى المراد من الآية.
روى البخاري (1916) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلا يَسْتَبِينُ لِي فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ. وفي رواية للبخاري (4510) : (إِنَّكَ لَعَرِيضُ) . وفي رواية أخرى له أيضاً (4509) : (إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ) . وفي أخرى (4510) : (إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا) .
وقصة عدي رضي الله عنه وقعت بعد نزول قوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ) أي بعد حديث سهل السابق.
وقد اعتذر بعض العلماء عن خطأ عدي في هذا الفهم مع نزول قوله تعالى (مِنَ الْفَجْرِ) بأن عديا لم يبلغه حديث سهل، أو لم يكن من لغة قومه استعمال الخيط الأبيض والخيط الأسود للدلالة على الليل والنهار.
ولذلك ترجم ابن حبان لحديث عدي بقوله: "ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَفَاوَتُ لُغَاتُهَا" وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ فِي لُغَتِهِ أَنَّ سَوَادَ اللَّيْلِ وَبَيَاضَ النَّهَارِ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْخَيْطِ الأَسْوَدِ وَالْخَيْطِ الأَبْيَضِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيث عَدِيٍّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ حَدِيثِ سَهْلٍ , فَكَأَنَّ عَدِيًّا لَمْ يَبْلُغْهُ مَا جَرَى فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَإِنَّمَا سَمِعَ الآيَةَ مُجَرَّدَةً فَفَهِمَهَا عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ اهـ.
وقال الحافظ: وَأَمَّا عَدِيٌّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَةِ قَوْمِهِ اِسْتِعَارَةُ الْخَيْطِ لِلصُّبْحِ , أَوْ نَسِيَ قَوْلَهُ: (مِنْ الْفَجْرِ) حَتَّى ذَكَّرَهُ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ.
وقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا للقاضي عِيَاضٍ: وَإِنَّمَا حَمَلَ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالأَسْوَدَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا بَعْضُ مَنْ لا فِقْهَ عِنْدَهُ مِنْ الأَعْرَابِ كَالرِّجَالِ الَّذِينَ حُكِيَ عَنْهُمْ سَهْلٌ وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي لُغَتِهِ اِسْتِعْمَالُ الْخَيْطِ فِي الصُّبْحِ كَعَدِيٍّ اهـ.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا)
فقد زعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أنه فِيهِ غَبَاوَةٌ وَغَفْلَةٌ.
وادعى هؤلاء أن عُرْضَ الْقَفَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الغباوة, وَأَنْشَدَوا فِي ذَلِكَ شِعْرًا.
وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ من العلماء مِنْهُمْ الْقُرْطُبِيُّ والقاضي عياض والنووي.
قال القرطبي:
"حَمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الذَّمِّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفَهْمِ وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ وَعَدَمِ الْفِقْهِ , وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ. . وَإِنَّمَا عَنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ وِسَادَك إِنْ كَانَ يُغَطِّي الْخَيْطَيْنِ اللَّذَيْنِ أَرَادَ اللَّهُ فَهُوَ إِذًا عَرِيضٌ وَاسِعٌ , وَلِهَذَا قَالَ فِي أَثَرِ ذَلِكَ: إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ , فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَكَيْفَ يَدْخُلَانِ تَحْتَ وِسَادَتِك؟ وَقَوْلُهُ " إِنَّك لَعَرِيضُ الْقَفَا " أَيْ إِنَّ الْوِسَادَ الَّذِي يُغَطِّي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَرْقُدُ عَلَيْهِ إِلا قَفًا عَرِيضٌ لِلْمُنَاسَبَةِ اهـ باختصار.
وقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ إِنْ جَعَلْت تَحْت وِسَادك الْخَيْطَيْنِ الَّذِينَ أَرَادَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَهُمَا اللَّيْل وَالنَّهَار فَوِسَادُك يَعْلُوهُمَا وَيُغَطِّيهِمَا , وَحِينَئِذٍ يَكُون عَرِيضًا , وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَة الأُخْرَى فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا) وَهُوَ مَعْنَى الرِّوَايَة الأُخْرَى: (إِنَّك لَضَخْمٌ) اهـ.
انظر: فتح الباري شرح حديث رقم (1917) ، (1916) .، شرح مسلم للنووي حديث رقم (1090) ، (1091) .
ومن الأحكام المستنبطة من الآية الكريمة أن من شك في طلوع الفجر فله أن بأكل ويشرب حتى يتيقن طلوعه لأن الله تعالى قال: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) .
رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحَلَّ اللَّهُ لَك الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مَا شَكَكْت. قال الحافظ: إِسْنَاده صَحِيحٍ.
وَرَوَى اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ عن أَبِي الضُّحَى قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ اِبْنَ عَبَّاسٍ عَنْ السُّحُورِ , فَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شَكَكْت حَتَّى لا تَشُكَّ. قَالَ اِبْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ صَارَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (6/247) .
"من أتى مفطرا، وهو شاك في طلوع الفجر فصومه صحيح، لأن الله سبحانه وتعالى قال: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/187. وضد التبين الشك والظن، فما دمنا لم يتبين لنا فلنا أن نأكل ونشرب، وهذه المسألة لها خمسة أقسام:
1- أن يتيقن أن الفجر لم يطلع، مثل: أن يكون طلوع الفجر في الساعة الخامسة، ويكون أكله وشربه في الساعة الرابعة والنصف فصومه صحيح.
2- أن يتيقن أن الفجر طلع، كأن يأكل الساعة الخامسة والنصف فهذا صومه فاسد.
3- أن يأكل وهو شاك هل طلع الفجر أو لا، ويغلب على ظنه أنه لم يطلع؟ فصومه صحيح.
4- أن يأكل ويشرب، ويغلب على ظنه أن الفجر طالع فصومه صحيح.
5- أن يأكل ويشرب مع التردد الذي ليس فيه رجحان فصومه صحيح" اهـ.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/190)
يسأل عن إعراب كلمة (الصابئون) وكيف نردّ على من يقول إنها خطأ نحوي في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد إعراب كلمة "الصابئون" في سورة المائدة، ولماذا جاءت بالواو، مع أنها في آية أخرى جاءت بالياء، وتشابه الكلام في الآيتين كبير. وقد كان ذلك سببا في خلاف كبير بيني وبين شخص نصراني يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية، فقلت له: سأترك الإسلام إن كان هناك خطأ نحوي واحد في القرآن. وقولي هذا عن قوه إيمان، وعن ثقة بأن القرآن، كلام الله سبحانه وتعالى، منزه عن قول المفترين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وردت كلمة " الصابئين " بياء النصب في سورتي البقرة والحج؛ في قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/62، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج/17
ووردت نفس الكلمة بواو الرفع في سورة المائدة؛ في قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المائدة/69 أما الآيتان الأوليان فلا إشكال في إعرابهما؛ لأن الكلمة فيهما وقعت معطوفة بالواو على كلمة محلها النصب، وهي " الذين "؛ اسم إن، فنصبت، وعلامة نصبها الياء، لأنها جمع مذكر سالم.
وإنما محل الإشكال هو الآية الثالثة، آية سورة المائدة؛ فقد وقعت في نفس موقعها في الآيتين الأوليين، ومع ذلك جاءت مرفوعة.
وقد ذكر النحاة والمفسرون في توضيح ذلك الإشكال عدة وجوه، وذكروا نظائرها المعروفة في لغة العرب، ونكتفي هنا بثلاثة منها، هي من أشهر ما قيل في ذلك:
الأول: أن الآية فيها تقديم وتأخير، وعلى ذلك يكون سياق المعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله ... فلا خوف عليهم، ولاهم يحزنون، والصابئون كذلك، فتعرب مبتدأً مرفوعا،وعلامة رفعه الواو، لأنه جمع مذكر سالم. ونظير ذلك من لغة العرب قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وَقَيَّار ٌبها لغريب
وموطن الشاهد قوله "قيار"، وهو اسم لفرسه، أو جمله؛ فقد جاءت هذه الكلمة مرفوعة على أنها مبتدأ، ولم تجئ منصوبة على أنها معطوفة على اسم إن المنصوب وهو ياء المتكلم في قوله (فإني)
الثاني: أن " الصابئون " مبتدأ، والنصارى معطوف عليه، وجملة من آمن بالله ... خبر "الصابئون"، وأما خبر "إن" فهو محذوف دل عليه خبر المبتدأ "الصابئون"، ونظير ذلك من لغة العرب قول الشاعر:
نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راضٍ، والأمر مختلف
والشاهد فيه أن المبتدأ "نحن" لم يذكر خبره، اكتفاء بخبر المعطوف "أنت"؛ فخبره "راض" يدل على خبر المبتدأ الأول، وتقدير الكلام: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض.
الثالث: أن " الصابئون " معطوف على محل اسم " إن "؛ فالحروف الناسخة، إن وأخواتها، تدخل على الجملة الاسمية المكونة من مبتدأ وخبر، واسم إن محله الأصلي، قبل دخول إن عليه الرفع لأنه مبتدأ، ومن هنا رفعت "الصابئون" باعتبار أنها معطوفة على محل اسم إن. [انظر: أوضح المسالك، لابن هشام، مع شرح محيي الدين، 1/352-366 , تفسير الشوكاني والألوسي، عند هذه الآية] .
وما ذكرته، من قوة يقينك , وثقتك بكلام الله سبحانه، هو الواجب على كل مسلم، قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء/82 قال الشيخ ابن عاشور، رحمه الله في تفسيره:
(وبعد فمما يجب أن يوقَن به أن هذا اللفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرؤوه، وكتب في المصاحف، وهم عرب خُلَّص، فكان لنا أصلا نتعرف منه أسلوبا من أساليب استعمال العرب في العطف، وإن كان استعمالا غير شائع، لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان ... ) اهـ
وتلمس ابن عاشور الفائدة البلاغية من الإتيان بلفظ " الصابئون " موفوعاً، فقال ما معناه:
إن الرفع في هذا السياق غريب، فيستوقف القارئ عنده: لماذا رفع هذا الاسم بالذات، مع أن المألوف في مثل هذا أن ينصب؟
فيقال: إن هذه الغرابة في رفع الصابئون تناسب غرابة دخول الصابئين في الوعد بالمغفرة، لأنهم يعبدون الكواكب، فهم أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى، حتى إنهم يكادون ييأسون من الوعد بالمغفرة والنجاة فنبه بذلك على أن عفو الله عظيم. يشمل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وإن كان من الصابئين. [انظر تفسير آية المائدة من تفسير ابن عاشور]
ولمعرفة من هم الصابئة؟ انظر الإجابة على السؤال رقم (49048)
لكن يبقى لنا عِبَرٌ لا ينبغي تفويتها في هذا السياق:
أولا: ينبغي علينا الاهتمام بالعلم الشرعي؛ فلا يكفي فقط أن يعتصم الإنسان بما عنده من يقين سابق، وإن كان ذلك أعظم ملجأ ومعاذ، بل إذا ضم إلى ذلك العلم الشرعي كان، إن شاء الله، في مأمن من أن تهز إيمانه هذه الشبهات وأمثالها، مما يثيره أعداء دينه.
ثانيا: ينبهنا مثل هذا الموقف إلى قدر من التفريط في واجب من أعظم واجباتنا نحو كتاب الله تعالى، ألا وهو واجب التدبر والمدارسة، وليس مجرد التلاوة، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) ص/29، قال الشيخ ابن سعدي، رحمه الله: " أي هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود "؛ والدليل من هذا الموقف على ما ذكر هو أننا لو كنا نقوم بهذا الواجب حينا بعد حين لأوشكت مثل هذه الآيات أن تستوقفنا، لنسأل عنها، أو نبحثها، قبل أن نواجه بالإشكال من أعدائنا.
ثالثا: إذا قمنا بالواجبين السابقين كنا مؤهلين لأخذ زمام المبادرة، لندعو نحن غيرنا، ونخبرهم بالحق الذي عندنا، ونكشف لهم، بالتي هي أحسن، الباطل الذي عندهم، بدلا من أن نقف موقف الدفاع، شأن الضعفة والمنهزمين.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/191)
هل اختلف التفسير الحديث عن التفسير القديم للقرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك فروق في تفسير القرآن وما يتعلق بذلك في عهد الأمويين والآن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن كان المراد بالسؤال تفسير القرآن في عهد الأمويين في عصر السلف الصالح من التابعين وتابعيهم وأصاغر الصحابة، فالتدوين في ذلك العصر قليل بالنسبة لما جاء بعده من العصور، ويقتصر فيه غالباً على الرواية: ويُعرف بالتفسير الأثري، ثم توسع العلماء في تفسير القرآن الكريم وسلكوا عدة اتجاهات منها المحمود المقبول ومنها المردود، ثم في العصر الأخير زاد التوسع والتوغل في الرأي والاستنباط، وأُقحم في التفسير ما ليس منه من نظريات ومتغيرات حتى قيل في بعض التفاسير إن فيها كلّ شيءٍ غير التفسير، يمثِّل ذلك في تفاسير العصور الوسطى: تفسير الرازي، وفي العصر الحديث تفسير الجواهر.
[الْمَصْدَرُ]
كتبه: الشيخ عبد الكريم الخضير(3/192)
ما معنى يخادعون الله في آية سورة البقرة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو تفسير الآية التي في بداية سورة البقرة والتي فيها "يخادعون الله والذين آمنوا"؟ كيف يمكن لشخص أن يحاول مخادعة الله، المجيد، العلي؟
وأيضا، هل عندكم من نصيحة تقدمونها لأمريكي يرغب في تعلم الإسلام في بلدان ما وراء البحار؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (يخادعون الله والذين آمنوا) ، أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، ويعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون) ، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) أي: وما يُغرّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) ، ومن القرّاء من قرأ: (وما يخدعون إلا أنفسهم) ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد.
وننصح الأمريكي الذي يرغب في تعلم الإسلام أن يكون منصفا متجردا من الأهواء، وأن يحذر من تشويه أعداء الإسلام للإسلام، وأن يحرص على تعلّم الإسلام من منابعه الصافية، فلا يأخذه عن الفرق التي تشين الإسلام ببدعها ومحدثاتها، كالقاديانية، والشيعة، والصوفية وغيرهم، فهؤلاء شوّهوا دعوة الإسلام ببدعهم فلا يُنظر لأفعالهم وأقوالهم على أنها الإسلام، ونسأل الله له الهداية.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ سعد الحميد.(3/193)
من هو روح القدس
[السُّؤَالُ]
ـ[ورد في سورة البقرة آية 87 النص التالي: (ولقد آتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) ، ما هو الروح القدس؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
روح القدس هو جبريل عليه السلام، قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى: (وأيدناه بروح القُدس) هو جبريل على الأصح، ويدل لذلك قوله تعالى: (نزل به الروح الأمين) الشعراء/193 وقوله (فأرسلنا إليها روحنا) مريم/17
أخرج ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان.... حدثنا أبو الزعراء قال: قال عبد الله: روح القدس جبريل، ثم قال: وروي عن محمد بن كعب القرظي وقتادة وعطية العوفي والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك.
ويؤيد هذا القول ما تقدم وما رواه الشيخان بسنديهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا حسَّان أجب عن رسول الله، اللهم أيِّده بروح القدس " قال أبو هريرة: نعم.
التفسير المسبور للدكتور حكمت بشير 1/192- 193
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال جماهير العلماء إنه جبريل عليه السلام فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل. دقائق التفسير ج: 1 ص: 310
وعقد فصلاً في ذلك فقال:
فصل في معنى روح القدس قال تعالى: (يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس) ... فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى في البقرة: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) وقال تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) وهذا ليس مختصا بالمسيح بل قد أيَّد غيره بذلك وقد ذكروا هم أنه قال لداود روحك القدس لا تنزع مني، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: " اللهم أيده بروح القدس وفي لفظ روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه " وكلا اللفظين في الصحيح
وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس وكذلك عندهم روح القدس حدث في جميع الأنبياء وقد قال تعالى سورة النحل: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) وقد قال تعالى في موضع آخر: (نزل به الروح الأمين على قلبك) وقال: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل. .. قال: ولم يقل أحد أن المراد بذلك حياة الله ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه.
دقائق التفسير ج: 2 ص: 92
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/194)
حكم تفسير القرآن الكريم بالنظريات الحديثة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز تفسير القرآن الكريم بالنظريات العلمية الحديثة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ السؤال السابق فأجاب بقوله: تفسير القرآن بالنظريات العلمية له خطورته , وذلك إننا إذا فسرنا القرآن بتك النظريات ثم جاءت نظريات أخرى بخلافها فمقتضى ذلك أن القرآن صار غير صحيح في نظر أعداء الإسلام؛ أما في نظر المسلمين فإنهم يقولون إن الخطأ من تصور هذا الذي فسر القرآن بذلك، لكن أعداء الإسلام يتربصون به الدوائر، ولهذا احذر غاية التحذير من التسرع في تفسير القرآن بهذه الأمور العلمية ولندع هذا الأمر للواقع , إذا ثبت في الواقع فلا حاجة إلى أن نقول القرآن قد أثبته , فالقرآن نزل للعبادة والأخلاق والتدبر , يقول الله - عز وجل -: (كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) سورة ص آية 29 , وليس لمثل هذه الأمور التي تدرك بالتجارب ويدركها الناس بعلومهم , ثم إنه قد يكون خطراً عظيماً فادحاً في تنزيل القرآن عليها , أضرب لهذا مثلاً قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) الرحمن/33, لما حصل صعود الناس إلى القمر ذهب بعض الناس ليفسر هذه الآية ونزلها على ما حدث وقال: إن المراد بالسلطان العلم , وأنهم بعلمهم , نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية وهذا خطأ ولا يجوز أن يفسر القرآن بمعنى ذلك فمقتضى ذلك أنك شهدت بأن الله أراده وهذه شهادة عظيمة ستُسأل عنها.
ومن تدبر الآية وجد أن هذا التفسير باطل لأن الآية ذُكرت بعد قوله تعالى: (كل من عليها فان - ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام - فبأي آلاء ربكما تكذبان) الرحمن/26, 28 , فلنسأل هل هؤلاء القوم نفذوا من أقطار السماوات؟
الجواب: لا , والله يقول: (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) .
ثانياً: هل أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس؟
والجواب: لا. إذن فالآية لا يصح أن تفسر بما فسر به هؤلاء , ونقول: إن وصول إليه هو من المعلوم التجريبية التي أدركوها بتجاربهم , أما أن نُحرَّف القرآن لنخضعه للدلالة على هذا فهذا ليس بصحيح ولا يجوز.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين , كتاب العلم , الصفحة (150. 152) .(3/195)
ما هي معاني كلمة " محصنات " في القرآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي معاني كلمة " محصنات " في القرآن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشنقيطي:
لفظ " المحصنات " أُطلق في القرآن ثلاثة إطلاقات:
الأول: المحصنات: العفائف، ومنه قوله تعالى {محصنات غير مسافحات} ، أي: عفائف غير زانيات.
الثاني: المحصنات: الحرائر، ومنه قوله تعالى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} ، أي: على الإماء نصف ما على المحصنات من الجلد.
الثالث: أن يراد بالإحصان: التزوج، ومنه - على التحقيق - قوله تعالى {فإذا أحصنَّ فإن أتين بفاحشة} الآية، أي: فإذا تزوجن، وقول من قال من العلماء إن المراد بالإحصان في قوله {فإذا أحصنَّ} الإسلام: خلاف الظاهر من سياق الآية؛ لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال: {ومن لم يستطع منكم طولاً} الآية.
قال ابن كثير في تفسير الآية ما نصه:
والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان ههنا: التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى {ومن لن يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} والله أعلم.
والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات فتعين أن المراد بقوله {فإذا أحصنَّ} أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (1 / 279، 280) .(3/196)
مشاركة الشيطان للإنسان في أولاده
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أنه إذا لم تقل بسم الله قبل الجماع فإن الشيطان يشارك فيه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما مشاركة الشيطان عند عدم التسمية فقد قال تعالى: {وشاركهم في الأموال والأولاد}
قال القرطبي: أي اجعل لنفسك شركة في ذلك ...
{والأولاد} قيل: هم أولاد الزنى قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس، وعنه أيضاً: هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم، وعنه أيضاً: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزَّى وعبد اللاَّت وعبد الشمس ونحوه، وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هوَّدوهم ونصَّروهم كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم، قاله قتادة.
وقول خامس روي عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسمِّ انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} ...
" تفسير القرطبي " (10 / 289) .
قال ابن كثير:
وقوله تعالى {وشاركهم في الأموال والأولاد}
وقوله {والأولاد} قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك: يعني أولاد الزنا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهاً بغير علمٍ، وقال قتادة عن الحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مجَّسوا وهوَّدوا ونصَّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءاً للشيطان، وكذا قال قتادة سواء، وقال أبو صالح عن ابن عباس: هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد فلان.
قال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو وأده أو غير ذلك من الأمور التي يُعصي الله بفعله أو فيه: فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله {وشاركهم في الأموال والأولاد} معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكل ما عصى الله فيه أو به أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة.
وهذا الذي قاله متجه، وكلٌّ من السلف رحمهم الله فسَّر بعض المشاركة، فقد ثبت في صحيح مسلم - (2865) - عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم "، وفي الصحيحين - البخاري (3271) ومسلم (1434) - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضرَّه الشيطان أبداً ".
" تفسير ابن كثير " (3 / 50، 51) .
قال الطبري:
... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كلُّ ولدٍ ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو قتله ووأده أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بها بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك المولود له أو منه؛ لأن الله لم يخصص بقوله {وشاركهم في الأموال والأولاد} معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكلُّ ما عصى الله فيه أو به وأطيع به الشيطان أو فيه فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه.
" تفسير الطبري " (15 / 120، 121) .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:
{وشاركهم في الأموال والأولاد} وذلك شامل لكل معصية تعلَّقت بأموالهم وأولادهم، من منع الزكاة والكفارات والحقوق الواجبة، وعدم تأديب الأولاد وتربيتهم على الخير وترك الشر، وأخذ الأموال بغير حقِّها، أو وضعها بغير حقِّها، أو استعمال المكاسب الرديَّة.
بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد: ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع، وأنه إذا لم يسمِّ الله في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد في الحديث.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص 414) .
قلت: أما مشاركة الشيطان في الجماع لمن ترك التسمية فقد سبق ذكر الحديث عند ابن كثير رحمه الله، وسبق كلام مجاهد رحمه الله.
والخلاصة:
أن القول الصحيح في معنى الآية أن تحمل على الوجوه السابقة في تفسيرها، إذ لا منافاة بين معانيها، وقد ذكر كل واحد من السلف فرداً من أفراد معانيها، ولا مضادة بينها، والقاعدة في مثل هذه الحال: حمل الآية على معانيها جميعها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر كلُّ واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف: الصارم، والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله، وأسماء القرآن؛ فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادّاً لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} ، وكل اسمٍ من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة ...
الصنف الثاني: أن يذكر كلٌّ منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمَّى لفظ الخبز فأُرِي رغيفاً وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.
" مجموع الفتاوى " (13 / 333 - 337) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/197)
مشاركة الشيطان للناس في أموالهم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي مشاركة الشيطان للناس في أموالهم المذكورة في قوله تعالى: (وشاركهم في الأموال والأولاد) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
شِركته في الأموال: إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن، وقيل: هي التي أصابوها من غير حلها، قاله مجاهد.
قال ابن عباس: ما كانوا يحرِّمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقاله قتادة.
وقال الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم.
وعن ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى، وقال عطاء: هو الربا، وقال الحسن: هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام، وكذا قال قتادة، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في أموالهم: فهو ما حرَّموه من أنعامهم، يعني: من البحائر والسوائب ونحوها، وكذا قال الضحاك وقتادة.
قال الطبري:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك كلَّ مالٍ عصى الله فيه بإنفاقٍ في حرام أو اكتسابٍ من حرام أو ذبحٍ للآلهة أو تسييبٍ أو بحرٍ للشيطان وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه، وذلك أن الله قال {وشاركهم في الأموال} فكلُّ ما أطيع الشيطان فيه من مالٍ وعصى الله فيه فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.انتهى
أما مشاركة الشيطان في الطعام والشراب - ويضاف إليه المشاركة في المبيت في البيوت وهي من الأموال - لمن ترك التسمية فقد جاء ذلك في حديث جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء ".
رواه مسلم (2018) .
وعن حذيفة قال: كنَّا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيديَنا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنَّا حضرنا معه مرة طعاماً فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذتُ بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها. رواه مسلم (2017) .
قال النووي:
ثم الصواب الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وشبهه من الأحاديث الواردة في أكل الشيطان محمولة على ظواهرها، وأن الشيطان يأكل حقيقة؛ إذ العقل لا يحيله والشرع لم ينكره بل أثبته، فوجب قبوله واعتقاده، والله أعلم. " شرح مسلم " (13 / 190) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/198)
أقسام الناس يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[من فضلك اشرح الآيات التالية:
قال تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة) الواقعة/7-9.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن كثير: أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف.
قال الطبري: " وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم.
ثم فصل الله عز وجل أحوال الأزواج، فقال: وأصحاب الميمنة تعظيم لشأنهم وتفخيم لأحوالهم.
وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة: أي الشمال، وذلك تهويل لحالهم.
السابقون السابقون: أي السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات أولئك الذين هذا وصفهم، المقرّبون عند الله في جنات النعيم، في أعلى علّيين في المنازل العاليات التي لا منزلة فوقها.
نسأل الله أن يجعلنا من السابقين. والله أعلم
انظر تفسير ابن سعدي ص/832.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/199)
ما هي " اللمم "؟ وما حكم تكرر وقوعها من المسلم العاصي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) .
عرفت أن اللمم هو صغائر الذنوب، مثل النظرة والقبلة واللمسة، وهذه الذنوب يغفرها الله ما اجتنبت الكبائر.
وسؤالي هو: هل معنى ذلك أنه لا يعاقَب العبد على فعل هذه الذنوب حتى في الدنيا إذا تاب منها ثم رجع لها مرة أخرى وهكذا يتوب ويرجع لا يجد العبد أي عقاب من الله على فعل هذه الذنوب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سبق في جواب السؤال (22422) بيان اختلاف العلماء في معنى اللمم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) النجم/32، وأن جمهور العلماء على أن (اللمم) هو صغائر الذنوب.
وليس معنى ذلك أن يتساهل الإنسان في ارتكاب الصغائر، بل الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، فتخرج بذلك عن كونها من اللمم.
قال النووي رحمه لله "في شرح مسلم":
قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه: وَالإِصْرَار عَلَى الصَّغِيرَة يَجْعَلهَا كَبِيرَة. وَرُوِيَ عَنْ عُمَر وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: لا كَبِيرَة مَعَ اِسْتِغْفَارٍ، وَلا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار.
مَعْنَاهُ: أَنَّ الْكَبِيرَة تُمْحَى بِالاسْتِغْفَارِ , وَالصَّغِيرَة تَصِير كَبِيرَة بِالإِصْرَارِ اهـ.
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (15/293) :
" فَإِنَّ الزِّنَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَأَمَّا النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَاللَّمَمُ مِنْهَا مَغْفُورٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى النَّظَرِ أَوْ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ صَارَ كَبِيرَةً، وَقَدْ يَكُونُ الإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ مِنْ قَلِيلِ الْفَوَاحِشِ، فَإِنَّ دَوَامَ النَّظَرِ بِالشَّهْوَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْعِشْقِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ فَسَادِ زِنَا لا إصْرَارَ عَلَيْهِ ; وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّاهِدِ الْعَدْلِ: أَنْ لا يَأْتِيَ كَبِيرَةً وَلا يُصِرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ. . . بَلْ قَدْ يَنْتَهِي النَّظَرُ وَالْمُبَاشَرَةُ بِالرَّجُلِ إلَى الشِّرْكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه ِ) البقرة/165. . . وَالْعَاشِقُ الْمُتَيَّمُ يَصِيرُ عَبْدًا لِمَعْشُوقِهِ مُنْقَادًا لَهُ أَسِيرَ الْقَلْبِ لَهُ اهـ باختصار.
وقد حذرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التهاون في صغائر الذنوب، فقال:
(إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْه) . رواه أحمد (22302) من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال الحافظ: إسناده حسن اهـ.
(وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ) هي الصغائر.
وروى أحمد (3803) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا) . حسنه الألباني في صحيح الجامع (2687) .
وروى ابن ماجه (4243) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ طَالِبًا) . صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
قال الغزالي:
تواتر الصغائر عظيم التأثير في سواد القلب، وهو كتواتر قطرات الماء على الحجر، فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة، مع لين الماء وصلابة الحجر اهـ.
ولقد أحسن من قال:
لا تحقرنَّ صغيرةً إنَّ الجبالَ من الحصى.
ثانياً:
إذا تاب العبد من ذنوبه، فإنها تغفر له، ولا يعاقب عليها، لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ) رواه ابن ماجه (4250) . قال الحافظ: سنده حسن. وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.
قال النووي:
أَجْمَع الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَى قَبُول التَّوْبَة مَا لَمْ يُغَرْغِر , كَمَا جَاَ فِي الْحَدِيث. وَلِلتَّوْبَةِ ثَلاثَة أَرْكَان: أَنْ يُقْلِع عَنْ الْمَعْصِيَة، وَيَنْدَم عَلَى فِعْلهَا، وَيَعْزِم أَنْ لا يَعُود إِلَيْهَا.
فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْطُل تَوْبَته، وَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِآخَر صَحَّتْ تَوْبَته. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ اهـ.
وقال أيضاً:
لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْب مِائَة مَرَّة أَوْ أَلْف مَرَّة أَوْ أَكْثَر , وَتَابَ فِي كُلّ مَرَّة , قُبِلَتْ تَوْبَته , وَسَقَطَتْ ذُنُوبه , وَلَوْ تَابَ عَنْ الْجَمِيع تَوْبَة وَاحِدَة بَعْد جَمِيعهَا صَحَّتْ تَوْبَته اهـ.
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ.
وفي رواية: (قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ) .
قال النووي رحمه الله:
قَوْله عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِي تَكَرَّرَ ذَنْبه: (اِعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك) مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِب ثُمَّ تَتُوب غَفَرْت لَك اهـ.
وعلى كل حال: فرحمة الله واسعة وفضله عظيم، ومن تاب: تاب الله عليه، ولا ينبغي للمسلم أن يتجرأ على المعصية فقد لا يوفق للتوبة، وما ذُكر في الحديث فهو لبيان سعة رحمة الله تعالى وعظيم فضله على عباده لا ليتجرأ الناس على ارتكاب المعاصي.
وانظر – للفائدة – جواب السؤال رقم: (9231) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/200)
ما معنى قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قوله تعالى: (كُتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ) ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال أبو بكر بن العربي:
قوله تعالى: {إذا حضر أحدكم الموت} :
قال علماؤنا: ليس يريد حضور الموت حقيقة؛ لأن ذلك الوقت لا تُقبل له توبة، ولا له في الدنيا حصة، ولا يمكن أن ننظم من كلامها لفظة، ولو كان الأمر محمولاً عليه لكان تكليف محال لا يتصور؛ ولكن يرجع ذلك إلى معنيين:
أحدهما: إذا قرب حضور الموت، وأمارة ذلك: كبره في السن؛ أو سفر؛ فإنه غرر، أو توقع أمر طارئ غير ذلك؛ أو تحقق النفس له بأنها سبيل هو آتيها لا محالة [إذ الموت ربما طرأ عليه اتفاقاً] .
الثاني: أن معناه إذا مرض؛ فإن المرض سبب الموت، ومتى حضر السبب كنَّت به العرب عن المسبب قال شاعرهم:
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
[الْمَصْدَرُ]
" أحكام القرآن " (1 / 102) .(3/201)
ما هو العهد في قوله تعالى: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو العهد في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال أبو بكر بن العربي:
العهد على قسمين: أحدهما: فيه الكفارة، والآخر لا كفارة فيه، فأما الذي فيه الكفارة فهو الذي يقصد به اليمين على الامتناع عن الشيء أو الإقدام عليه.
وأما العهد الثاني: فهو العقد الذي يرتبط به المتعاقدان على وجه يجوز في الشريعة، ويلزم في الحكم، إما على الخصوص بينهما، وإما على العموم على الخلق، فهذا لا يجوز حله، ولا يحل نقضه، ولا تدخله كفارة، وهو الذي يحشر ناكثه غادرا، ينصب له لواء بقدر غدرته، يقال: هذه غدرة فلان. وأما مالك فيقول: العهد باليمين، لم يجز حله؛لأجل العقد، وهو المراد بقوله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} وهذا ما لا اختلاف فيه.
[الْمَصْدَرُ]
" أحكام القرآن " (1 / 27، 28) .(3/202)
المراد بالحروف المقطعة في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما المراد بالآية: (ألم) ، وما شابهها من الآيات الأخرى الواردة في القرآن؟ وماذا قال العلماء عن تلك الآيات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" قد توقف في تفسير هذه الآية وغيرها من الحروف المقطعة جمع من العلماء كالخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم وغيرهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرها فيستحسن أن نقول: الله أعلم بالمراد منها. ولكن ثبت عن بعض المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم أنهم بينوا تفسيرها واختلفوا فيه ... أهـ الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور للدكتور/ حكمت بشير، ج/1 ص/94
والتمس بعض العلماء الحكمة من هذه الحروف فقالوا: " أنها ذكرت هذه الحروف والله أعلم في أول السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهذا هو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وارتضاه أبو الحجاج المزّي رحمه الله. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم." فتاوى اللجنة الدائمة ج/ 4 ص/144.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/203)
معاني كلمة " أمَّة " في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[مرَّ علي في قراءتي للقرآن كلمة " أمة " عدة مرات وأحسست أن لها معاني متعددة، وليس معنى واحداً، فهل هذا صحيح؟ وكيف نفهم هذه الكلمة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
استعمل لفظ " الأمَّة " في القرآن أربعة استعمالات:
الأول: استعمال " الأمَّة " في: البرهة من الزمن - كما: في قوله تعالى {ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ إلى أمَّةٍ معدودةٍ} الآية، ونظيره قوله تعالى {وقال الذي نجا منهما وادَّكر بعد أمَّة} -.
الثاني: استعمالها في: الجماعة من النَّاس، وهو الاستعمال الغالب، كقوله {ووجد عليه أمَّة من الناس يسقون} الآية، وقوله {ولكلِّ أمَّة رسول} الآية، وقوله {كان النَّاس أمَّةً واحدةً} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث: استعمال " الأمَّة " في: الرجل المُقْتدى به، كقوله {إن إبراهيم كان أمَّة} الآية.
الرابع: استعمال " الأمَّة " في: الشريعة والطريقة، كقوله {إنا وجدنا آباءنا على أمَّة} الآية، وقوله {إن هذه أمَّتكم أمَّة واحدة} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (3 / 13) .(3/204)
ما الفائدة من ذكر الكلب في قصة أهل الكهف؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الفائدة من ذكر الكلب في قصة أهل الكهف؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي - رحمة الله تعالى عليه -:
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم، يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة: " وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. ا. هـ.
ويدل على هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله: " أنت مع من أحببت " متفق عليه من حديث أنس.
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم، كما بيَّنه الله تعالى في سورة الصافات في قوله: (قال قائل منهم إني كان لي قرين) الصافات/51 - إلى قوله -: (تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) الصافات/56- 57.
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 47، 48) .(3/205)
فائدة الأمثال في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[نرى أن القرآن الكريم كثيرا ما يضرب الأمثال، فما هي فائدة الأمثال؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ الشنقيطي - رحمة الله تعالى عليه - في تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شئ جدلا) الكهف/54:
… وفي هذه الأمثال وأشابهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمةٌ جدّاً، لا لبس في الحق معها، إلا أنها لا يَعقل معانيها إلا أهلُ العلم كما قال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت/43، ومِن حِكَم ضرب المثل: أن يتذكر الناس، كما قال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتذكرون) الحشر/21.
وقد بين في مواضع أخر أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوماً، ويضل بها قوماً آخرين، كما في قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة/26، … ولا شك أن الذين استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق، وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها، ولم يعرفوا ما أوضحه من الحقائق.
فالفريق الأول: هم الذين قال الله فيهم: (ويهدي به كثيراً) البقرة/26.
والفريق الثاني: هم الذين قال فيهم: {يضل به كثيراً} ، وقال فيهم: (وما يضل به إلا الفاسقين) .
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 143، 144) .(3/206)
ما هي الباقيات الصالحات
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الباقيات الصالحات المقصودة في قوله تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} الكهف/46؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشنقيطي – رحمة الله تعالى عليه -:
وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيءٍ واحدٍ وهو الأعمال التي ترضي الله سواء قلنا إنها " الصلوات الخمس " كما هو مروي عن جماعة من السلف منهم: ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو ميسرة وعمر بن شرحبيل، أو أنها: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "، وعلى هذا القول جمهور العلماء، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة والنعمان بن بشير وعائشة – رضي الله عنهم -.
قال مقيده – عفا الله عنه – والتحقيق: أن الباقيات الصالحات: لفظ عام يشمل الصلوات الخمس والكلمات الخمس المذكورة وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى؛ لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية كزينة الحياة الدنيا؛ ولأنها – أيضاً – صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى …. .
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 119، 120) .(3/207)
تفسير قول الله عز وجل: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور.... الآية)
[السُّؤَالُ]
ـ[من فضلك فسر الآية التالية: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً) الكهف/17.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
حفظهم الله من الشمس فيسّر لهم غاراً إذا طلعت الشمس تميل عنه يميناً وعند غروبها تميل عنه شمالاً فلا ينالهم حرّها فتفسد أبدانهم بها.
(وهم في فجوة منه)
أي من الكهف أي مكان متسع، وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم، ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيّق، خصوصاً مع طول المكث، وذلك من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بهم، وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في هذه الأمور، ولهذا قال: (من يهد الله فهو المهتد) أي لا سبيل إلى نيل الهداية إلا من الله فهو الهادي المرشد لمصالح الدارين.
(ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً)
أي لا تجد من يتولاه ويدبّره على ما فيه صلاحه ولا يرشده إلى الخير ولفلاح لأن الله قد حكم عليه الضلال ولا راد لحكمه
انظر تفسير الكريم الرحمن ص/472.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/208)
تفسير (فأينما تولوا فثم وجه الله)
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تشرح لي معنى الآية الواردة أدناه. إذا كان الله فوق الجنة , فكيف يكون وجه الله أينما تولي وجهك؟ أطرح هذا السؤال لأني كنت أشرح لأحد الأشخاص أن الله فوق الجنة , لكنه استشهد بالآية أدناه؛ ولم أتمكن من الرد عليه.
قال تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) البقرة / 115.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يجب علينا الإيمان بأن الله تعالى فوق العرش مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله لا كاستواء البشر.
وأن نؤمن بأن لله وجها لا كوجه المخلوق.
وبهذا يجب ألا نضل عند تفسير الآيات وتأويلها وأن نتَّبع بذلك قول السلف الصالح.
أما تفسير الآية، فقد قال الشيخ ابن عثيمين:
فإن قلت: هل كل ما جاء من كلمة الوجه مضافاً إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفته. الجواب: هذا هو الأصل كما في قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} الأنعام / 52، {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} الليل / 19 – 21، وما أشبهها من الآيات.
فالأصل: أن المراد بالوجه وجه الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك آية اختلف المفسرون فيها وهي قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} البقرة / 115..... فمنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة لقوله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها} البقرة / 148.
فالمراد بالوجه: الجهة، أي: فثمَّ جهة الله أي فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها.
قالوا: لأنها في حال السفر إذا صلى الإنسان النافلة فإنه يصلي حيث كان وجهه.
ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا: وجه الله الحقيقي، إلى أي جهة تتجهون فثم وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه، ولهذا نهى أن يبصق أمام وجهه؛ لأن الله قِبَل وجهه فإذا صليت في مكان لا تدري أين القبلة واجتهدت وتحريت وصليت وصارت القبلة في الواقع خلفك فالله يكون قبل وجهه حتى في هذه الحالة.
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع.
وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان.
واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفاً، ولا يمكن الإحاطة به تصوراً، بل كل شيء تُقَدره فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم. {ولا يحيطون به علماً} طه /110.
وأما قوله تعالى: {كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه} القصص / 88، فالمعنى: " كل شيء هالك إلا ذاته المتصفة بالوجه " شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1 / 243 – 245)
ونحن يجب علينا ألا نقيس الخالق بالمخلوق فنصفه بصفة المخلوق، فإن الله تعالى كما قال عن نفسه: (ليس كمثله شيء) الشورى / 11.
فالله تعالى مستوٍ على عرشه، وهو قِبل وجه المصلي ولا منافاة بينهما في حق الله تعالى.
وقد أشكل مثل هذا على بعض الناس في مسألة نزول الله تعالى في النصف الآخر من الليل إلى السماء الدنيا، فقالوا: إن الليل غير متحد على الأرض فكيف ينزل الله في ليل ونهار معا.
قال الشيخ ابن عثيمين:
جاء المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض.
قالوا: كيف ينزل في ثلث الليل، وثلث الليل إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية ذهب إلى أوروبا وما قاربها؟ فنقول: أنتم الآن قستم صفات الله بصفات المخلوقين، أنت أو من أول بأن الله ينزل في وقت معين وإذا آمنت ليس عليك شيء وراء ذلك، لا تقل كيف وكيف؟ .
فقل: إذا كان ثلث الليل في السعودية فإن الله نازل وإذا كان في أمريكا ثلث الليل يكون نزول الله أيضاً.
إذاً موقفنا أن نقول أنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم. بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل ويقول من يدعوني، فأستجيب له ومن يسألني؟ فأعطيه من يستغفرني فأغفر له.
" شرح الواسطية " (2 / 437) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/209)
معنى استخدام الضمير "نحن" في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا يستخدم القرآن لفظ نحن في الآيات؟ كثير من غير المؤمنين يقولون إن هذا إشارة إلى عيسى.]ـ
[الْجَوَابُ]
من أساليب اللغة العربية أن الشخص يعبر عن نفسه بضمير " نحن " للتعظيم ويذكر نفسه بضمير المتكلم الدال على المفرد كقوله " أنا " وبضمير الغيبة نحو " هو " وهذه الأساليب الثلاثة جاءت في القرآن والله يخاطب العرب بلسانهم. فتاوى اللجنة الدائمة م4/143.
" فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع كقوله: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك " أ. هـ العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 75.
ولفظ (إنا) و (نحن) وغيرهما من صيغ الجمع قد يتكلم بها الشخص عن جماعته وقد يتكلّم بها الواحد العظيم، كما يفعل بعض الملوك إذا أصدر مرسوما أو قرارا يقول نحن وقررنا ونحو ذلك وليس هو إلا شخص واحد وإنّما عبّر بها للتعظيم، والأحقّ بالتعظيم من كلّ أحد هو الله عزّ وجلّ فإذا قال الله في كتابه إنا ونحن فإنّها للتعظيم وليست للتعدّد، ولو أنّ آية من هذا القبيل أشكلت على شخص واشتبهت عليه فيجب أن يردّ تفسيرها إلى الآيات المحكمة، فإذا تمسك النصراني مثلا بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر) ونحوه على تعدد الآلهة، رددنا عليه بالمحكم كقوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) ، وقوله: (قل هو الله أحد) ، ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وعند ذلك يزول اللبس عمن أراد الحقّ، وكلّ صيغ الجمع التي ذكر الله بها نفسه مبنية على ما يستحقه من العظمة ولكثرة أسمائه وصفاته وكثرة جنوده وملائكته. يُراجع كتاب العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 109. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/210)
تأخير قول إن شاء الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للرجل إذا نسي أن يقول: " إن شاء الله " أن يقولها بعد وقت طويل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشنقيطي – رحمة الله تعالى عليه -:
قوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) الكهف/24 في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير:
الأول: أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها والمعنى أنك إن قلت: سأفعل غداً كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله ثم تذكرت بعد ذلك فقل: إن شاء الله، أي: اذكر ربَّك معلقاً على مشيئته ما تقول إنك ستفعله غداً إذا تذكرت بعد النسيان، وهذا القول هو الظاهر؛ لأنه يدل على قول الله تعالى قبله: (ولا تقولن لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله) ، وهو قول الجمهور، وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم …
[الْمَصْدَرُ]
" أضواء البيان " (4 / 85) .(3/211)
تفسير قول الله تعالى (وما كان الله ليضل قوماً)
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تبين لنا معنى قول الله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماَ بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم) سورة التوبة / 115؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول الله تعالى عن نفسه الكريمة وحكمه العادل: إنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة كما قال تعالى: (فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) .
وفي قول آخر في تفسير الآية: قال مجاهد في قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذا هداهم) بيان الله عز وجل للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه لهم معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا.
وقال ابن جرير: يقول الله تعالى: وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأمّا قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحل عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائن مطيعاً أو عاصياً فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.
[الْمَصْدَرُ]
تفسير ابن كثير.(3/212)
ما هي الأشياء التي علمها الله لآدم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن توضح الآية التالية " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة" (البقرة 31) ما هو المقصود بكلها وماذا كان الله يقصد بالضمير؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/256 ت. أبو إسحاق الحويني) عند قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) :
والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها وذواتها وصفاتها وأفعالها حتى الفسوة والفُسية يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه فذكر ابن كثير إسناد البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ... الحديث " ... فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال: " ثم عرضهم على الملائكة " يعني المسميات.ا. هـ.
وقد سرد الأقوال في هذه المسألة الحافظ ابن حجر في الفتح (8/10) فقال: واختلف في المراد بالأسماء: فقيل أسماء ذريته وقيل أسماء الملائكة وقيل أسماء الأجناس دون أنواعها وقيل أسماء كل ما في الأرض وقيل أسماء كل شيء حتى القصعة.
وقال الإمام الشوكاني في فتح القدير (1/64) : والأسماء هي العبارات والمراد أسماء المسميات قال بذلك أكثر العلماء وهو المعنى الحقيقي للاسم والتأكيد بقوله كلها يفيد أنه علمه جميع الأسماء ولم يخرج عن هذا شيء منها كائنا ما كان. أهـ، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/213)
معنى كلمة الفتنة في القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[رأيت كلمة الفتنة تتكرر في القرآن الكريم في عدد من السور والآيات، فهل هناك اختلاف في تفسير هذه الكلمة، وما هي معانيها المحتملة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تعريف الفتنة:
أولاً: الفتنة في اللغة:-
قال الأزهري: جماع معنى الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميز الردي من الجيد، ومن هذا قول الله عز وجل: " يومهم على النار يفتنون " أي يحرقون بالنار. (تهذيب اللغة 14 / 296) .
قال ابن فارس:" الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على الابتلاء والاختبار " (مقاييس اللغة 4 / 472) . فهذا هو الأصل في معنى الفتنة في اللغة.
قال ابن الأثير: الفتنة: الامتحان والاختبار ... وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار من المكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء. (النهاية 3 / 410) .وبنحو من هذا قال ابن حجر في الفتح (13 /3) .
وقد لخص ابن الأعرابي معاني الفتنة بقوله: " الفتنة الاختبار، والفتنة: المحنة، والفتنة: المال، والفتنة: الأولاد، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء والفتنة الإحراق بالنار". (لسان العرب لابن منظور) .
ثانيا: معاني الفتنة في الكتاب والسنة:
1- الابتلاء والاختبار: كما في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) العنكبوت/2 أي وهم لا يبتلون كما في ابن جرير
2- الصد عن السبيل والرد: كما في قوله تعالى (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْك) المائدة/ من الآية49 قال القرطبي: معناه: يصدوك ويردوك.
3- العذاب: كما في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:110) فتنوا: أي عذبوا.
4- الشرك،والكفر: كما في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) البقرة/193 قال ابن كثير: أي شرك.
5- الوقوع في المعاصي والنفاق: كما في قوله تعالى في حق المنافقين (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِي) الحديد/ من الآية14 قال البغوي:أي أوقعتموها في النفاق وأهلكتموها باستعمال المعاصي والشهوات.
6- اشتباه الحق بالباطل: كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) لأنفال/73 فالمعنى: " إلا يوالى المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به (تكن فتنة في الأرض) أي شبهة في الحق والباطل." كذا في جامع البيان لابن جرير.
7- الإضلال: كما في قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته) المائدة / 41، فإن معنى الفتنة هنا الإضلال.البحر المحيط لأبي حيان (4 / 262)
8- القتل والأسر: ومنه قوله تعالى: (وإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) النساء / 101. والمراد: حمل الكفار على المؤمنين وهم في صلاتهم ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم. كما عند ابن جرير.
9- اختلاف الناس وعدم اجتماع قلوبهم: كما في قوله تعالى: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) أي يوقعوا الخلاف بينكم كما في الكشاف (2 / 277) .
10 - الجنون: كما في قوله تعالى (بأيِّكم المفتون) .فالمفتون بمعنى المجنون.
11- الإحراق بالنار: لقوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) .
(البروج:10)
قال ابن حجر: ويعرف المراد حيثما ورد بالسياق والقرائن. الفتح (11 / 176)
تنبيه:
قال ابن القيم رحمه الله: " وأما الفتنة التي يضيفها الله سبحانه إلى نفسه أو يضيفها رسوله إليه كقوله: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) وقول موسى: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) فتلك بمعنى آخر وهي بمعنى الامتحان والاختبار والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر بالنعم والمصائب فهذه لون وفتنة المشركين لون، وفتنة المؤمن في ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية وبين أهل الجمل، وبين المسلمين حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر. زاد المعاد ج: 3 ص: 170.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/214)
تفسير الآية 33 من سورة الرحمن
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تساعدني في تفسير آية رقم 33 من سورة الرحمن لأني لا أتكلم العربية.
وجزاك الله خيرا]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى:
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ (33) سورة الرحمن
وهذا التحدّي من الله للعباد يكون في أرض المحشر حينما يجمع الخلائق كلهم جنّهم وإنسهم وتنشق السماوات وتهبط الملائكة من كلّ سماء فتحيط بأهل المحشر فيتحدّاهم الله بالهروب فلا يستطيعون، وكيف سيستطيعون وهم لا حول لهم ولا قوّة والملائكة تحاصرهم وتحيط بهم من كلّ جانب.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم أينما ذهبتم أحيط بكم وهذا في مقام الحشر الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب "إلا بسلطان" أي إلا بأمر الله "يقول الإنسان يومئذ أين المفر. كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر"
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/215)
تفسير البسملة، وحكم افتتاح القراءة بها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى البسملة؟
وهل تقرأ البسملة من منتصف السورة؟ ولماذا؟
وما معنى اقرأ بسم ربك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قول القائل: " بسم الله " قبل الشروع في العمل معناه:
أَبتدأُ هذا الفعل مصاحبا أو مستعينا بـ (اسم الله) ملتمسا البركة منه، والله هو المألوه المحبوب المعبود الذي تتوجه إليه القلوب بالمحبة والتعظيم والطاعة (العبادة) وهو (الرحمن) المتصف بالرحمة الواسعة، (الرحيم) الذي يوصل رحمته إلى خلقه.
وقيل المعنى: أبدأ هذا الفعل بتسمية الله وذكره. قال الإمام ابن جرير رحمه الله: " إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه, أدب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله, وأمره أن يصفه بها قبل جميع مهماته, وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنة يستنون بها, وسبيلا يتبعونه عليها, في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم; حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل {بسم الله} على ما بطن من مراده الذي هو محذوف.إ.هـ بتصرف يسير.
ويوجد محذوف في عبارة باسم الله قبل البدء بالعمل، وهذا المحذوف تقديره: أبتدئ عملي باسم الله، مثل باسم الله أقرأ، باسم الله أكتب، باسم الله أركب، ونحو ذلك. أو ابتدائي باسم الله، ركوبي باسم الله، قراءتي باسم الله وهكذا، ويمكن أن يكون التقدير أيضا: باسم الله أكتب، باسم الله أقرأ , فيقدر الفعل مؤخرا، وهذا حسن ليحصل التبرك بتقديم اسم الله، وليفيد الحصر أي أبدأ باسم الله لا باسم غيره.
ولفظ الجلالة (الله) : هو الاسم الأعظم وهو أعرف المعارف الغني عن التعريف، وهو علم على الباري جل جلاله مختص به دون سواه والصحيح أنه مشتق من أله يأله، ألوهة وإلهة
فهو إله بمعنى مألوه أي معبود فهو: ذو الألوهية.
و (الرحمن) : اسم من أسماء الله الخاصة به، ومعناه ذو الرحمة الواسعة لأن وزن فعلان: يدل على الامتلاء والكثرة وهو أخص أسماء الله بعد لفظ الجلالة، كما أن صفة الرحمة هي أخص صفاته ولذا غالبا يأتي ترتيبها بعد لفظ الجلالة كما في قوله تعالى (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن.. الآية)
و (الرحيم) : اسم من أسماء الله: معناه الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده.
قال ابن القيم رحمه الله: "الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذ اأردت فهم هذا فتأمل قوله "وكان بالمؤمنين رحيما " وقوله " إنه بهم رءوف رحيم "ولم يجئ قط (رحمن بهم) فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته "إ. هـ بدائع الفوائد (1/ 24) .
ثانياً:
وأما عن حكم قراءة البسملة قبل قراءة القرآن فلها أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون في أول السورة ـ غير سورة براءة ـ فقد نص أكثر الأئمة على أنه: " َتُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وينبغي أن يحافظ عليها حتى أن بعض العلماء اعتبر ختمة القرآن ناقصة إذا لم يأت بالبسملة في أول كل سورة غير براءة "ِ ولما سئل الإمام أحمد رحمه اللهَ عن قراءتها في أول كل سورة قال: " لا يَدَعَهَا ".
الحالة الثانية: أن تكون في أثناء السورة ـ وهو محل السؤال ـ فالجمهور من العلماء والقراء على أنه لا مانع من الابتداء بها، قِيلَ للإمام أحمد في البسملة ـ بعد قوله: لا يدعها في أول السورة ـ: فَإِنْ قَرَأَ مِنْ بَعْضِ سُورَةٍ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَ: " لَا بَأْسَ."، ونقل العبادي عن الشافعي رحمه الله استحبابها في أثناء السورة.
قَالَ الْقُرَّاءُ: وَيَتَأَكَّدُ الابتداء بالبسملة إذا كان في الآية التي سيقرأها بعد البسملة ضميرٌ يعود على الله سبحانه نَحْوِ قوله: {إلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} , وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} لمَا فِي ذِكْرِ هذه الآيات بعد الاستعاذة ِنْ الْبَشَاعَةِ وَإِيهَامِ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إلَى الشَّيْطَانِ.
الحال الثالثة: قراءتها في ابتداء سورة براءة، فلا يكاد يختلف العلماء والقراء في كراهة ذلك.
َقَالَ صَالِحُ فِي مَسَائِلِهِ عَنْ أَبِيهِ أحمد رحمه الله: وَسَأَلْتُهُ عَنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَسُورَةِ التَّوْبَةِ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبِي: يَنْتَهِي فِي الْقُرْآنِ إلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا يُزَادُ فِيهِ وَلا يَنْقُصُ.
الحال الرابعة: قراءتها في أثناء سورة براءة: فقد اختلف القراء في ذلك كما نقل ذلك ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الفقهية (1 / 52) فَقَال: " قال السَّخَاوِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ: لا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُسَنُّ الْبُدَاءَةَ أَثْنَاءَهَا بِالتَّسْمِيَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ أَثْنَائِهَا وَأَوَّلِهَا لَكِنْ بِمَا لا يُجْدِي وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَعْبَرِيُّ مِنْهُمْ (أي من القراء) وَهُوَ الْأَوْجَهُ (أي أن القول بالكراهة هو الأقرب للصواب) إذْ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِتَرْكِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَهَا , مِنْ كَوْنِهَا نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ , وَفِيهَا مِنْ التَّسْجِيلِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِفَضَائِحِهِمْ الْقَبِيحَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا مَوْجُودٌ فِي أَثْنَائِهَا , فَمِنْ ثَمَّ لَمْ تُشْرَعْ التَّسْمِيَةُ فِي أَثْنَائِهَا كَمَا فِي أَوَّلِهَا لِمَا تَقَرَّرَ. "
انظر (الآداب الشرعية لابن مفلح 2 /325) و (الموسوعة الفقهية 13 / 253) و (الفتاوى الفقهية الكبرى 1 /52) .
ثالثاً:
وأما معنى قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك)
فقد قال الإمام ابن جرير رحمه الله: " القول في تأويل قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
يعني جل ثناؤه بقوله: {اقرأ باسم ربك} محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: اقرأ يا محمد بذكر ربك {الذي خلق} ". والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/216)
كيف همّ يوسف بامرأة العزيز مع أنه عفيف
[السُّؤَالُ]
ـ[ما تفسير الآية: (ولقد همّت به وهمّ بها) في سورة يوسف، مع أن يوسف عليه السلام " عفيف " وقد رفض الانصياع لنزوة امرأة العزيز، فكيف يهمّ بها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ) يوسف/24
كان همها للمعصية، أما يوسف عليه السلام فإنه لو لم ير برهان ربه لَهَمَّ بها - لطبع البشر - ولكنه لم يهم؛ لوجود البرهان.
إذًا في الكلام تقديم وتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها.
قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله: (ولقد همت به وهم بها) قال أبو عبيد: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 9/165.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان [3/58] .
" الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن المراد بِهَمِّ يوسف خاطر قلبي صرفه عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه؛ لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك) يعني ميل القلب. أبو داود، السنن، رقم الحديث 2134.
ومثل هذا ميل الصائم إلى الماء البارد والطعام مع أن تقواه تمنعه من الشرب والأكل وهو صائم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من هم بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة كاملة) أخرجه البخاري في صحيحه برقم 6491، ومسلم برقم 207.
الجواب الثاني: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهم أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان.
إلى أن قال: هذا الوجه الذي اختاره أبو حسان وغيره هو أجرى على قواعد اللغة العربية " اهـ.
ثم بدأ يستطرد الأدلة على ما رجحه، وبناء على ما تقدم فإن معنى الآية والله أعلم أن يوسف عليه السلام لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكنه لما رأى برهان ربه لم يهم بها، ولم يحصل منه أصلاً.
وكذلك فإن مجرد الهم بالشيء دون فعله لا يعد خطيئة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/217)
معنى قوله تعالى: (وما أُهلّ به لغير الله)
[السُّؤَالُ]
ـ[بالرجوع للآية 173 من سورة البقرة ما هو معنى قوله تعالى {وما أهل به لغير الله} في هذه المسألة؟ هل هذه الآية تمنعني من قبول أو أكل أي طعام (ليس من الضروري الطعام المذبوح على غير اسم الله) من الطعام الذي يقدم هنا في الهند بعد قراءة الفاتحة باسم بعض الصالحين مثل عبد القادر الجيلاني؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في الآية المذكورة في السؤال من سورة البقرة:
ما أهل به لغير الله وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له.
وفي تفسير الآية 3 من سورة المائدة قال رحمه الله تعالى:
وقوله " وما أهل به لغير الله " أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع..
وقوله " وما ذبح على النصب " قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة قال ابن جريج: وهي ثلثمائة وستون نصبا كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها.. ويشرّحون اللحم ويضعونه على النُّصُب.. فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله وينبغي أن يحمل هذا على هذا لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله. انتهى
فأيّ ذبيحة ذُكر عليها اسم غير الله من نبي أو وليّ أو صنم أو شيطان أو أيّ معبود كالصّليب وغيره فلا يجوز أكلها، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/218)
معنى قوله تعالى (وله المثل الأعلى)
[السُّؤَالُ]
ـ[قوله سبحانه: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض ِ) هل المثل يعني الشبيه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فمعنى (المثل الأعلى) : أي الوصف الأعلى من كل الوجوه، فهو سبحانه الموصوف بالكمال المطلق من كل الوجوه، كما قال سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) وقال سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّه الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) (الإخلاص) والله ولي التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ومقالات سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (6 / 221) .(3/219)
التكرار، والتقديم والتأخير في القرآن وتفسير قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا.. الآية)
[السُّؤَالُ]
ـ[وردت في سورة البقرة الآيات 47-48 ثم وردت مره أخرى في الآيات 122-123 ونجد الاختلاف في كلمتي الشفاعة والعدل رغم أن الآيتين تتحدثان عن بني إسرائيل.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الجواب على هذا السؤال يتضمن عدة أمور:
الأول: تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} البقرة / 48، والآية الأخرى الشبيهة بها هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} البقرة / 123.
قال ابن كثير رحمه الله (1 / 256) : ?
لما ذكَّرهم تعالى بنعمه أولاً - يعني: قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} البقرة / 40 - عطَف على ذلك التحذير من حلول نقمه يوم القيامة فقال: {واتقوا يوماً} " يعني: واحذروا يوم القيامة، {لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً} أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وقال: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} وقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} فهذا أبلغ المقامات أن كلاًّ من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.
وقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} يعني: من الكافرين كما قال {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} .
وقوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي: لا يقبل منها فداء كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} ، وقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم ولهم عذاب أليم} ، وقال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم} الآية، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً.
وقوله تعالى {ولا هم ينصرون} أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله كما تقدم أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد ولا يجير منه أحد كما قال تعالى {وهو يجير ولا يجار عليه} وقال {فيومئذٍ لا يُعذِّب عذابه أحدٌ ولا يوثِق وثاقه أحد} .
قال ابن جرير الطبري:
وتأويل قوله {ولا هم ينصرون} يعني: أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصرٌ كما لا يشفع لهم شافعٌ ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى {وقفوهم إنهم مسئولون. ما لكم لا تناصرون. بل هم اليوم مستسلمون} أ. هـ.
وبهذا يعلم أن الشفاعة المنفية هنا هي شفاعة الكافرين أو الشفاعة في الكافرين.
الثاني: أن التكرار في القرآن الكريم يحصل كثيراً وذلك لحكمٍ كثيرةٍ عظيمةٍ قد نعرف بعضها، ويخفى علينا كثيرٌ منها: -
1- أن كل جملةٍ مكررةٍ يختلف مدلولها ومعناها عن الجملة الأخرى لأنها تتعلق بما ذكر قبلها من كلام الله تعالى، وبهذا لا يعد ذلك من التكرار في شيءٍ.
فمثلا: قوله تعالى في سورة المرسلات: {ويل يومئذ للمكذبين} تكررت عشر مرات، وذلك أن الله تعالى أورد قصصاً مختلفة، وأتبع كل قصة بهذا القول فكأنه عقب على كل قصة: " ويل يومئذ للمكذب بهذه القصة "، وكل قصة مغايرة للقصة الأخرى فأثبت الوعيد لمن كذب بها.
2- كما أن الله تعالى لا يخالف بين الألفاظ إلا لاختلاف المعاني، وأن هذا لا يكون إلا لحكمة يعلمها سبحانه، وقد يطلع عليها بعض خلقه بما يفتح عليهم من الفهم في كتابه، وقد يحجبها عنهم، وهو الحكيم العليم.
3- أن تكرار الكلام يضفي على المعنى الذي تضمنه أهمية ومكانة توجب له عناية خاصة، ومنها تأكيد المعنى وبقدر ما يحصل التأكيد بقدر ما يدل على الاهتمام بالأمر والعناية به.
(للاستزادة يراجع قواعد التفسير 2 / 702) .
الثالث: هل تقديم شيء وتأخيره في القرآن له حِكَم معروفة أو قاعدة مطردة؟
فيقال ـ والعلم عند الله تعالى ـ: إن التقديم والتأخير في القرآن، بل وفي لغة العرب لا يجري على قاعدة مطردة، فتارة يكون المقدم هو المتقدم في الوقوع، وتارة يكون المقدم هو الأشرف، وتارة يصعب التعليل، وعليه: فينبغي الحذر عند الكلام في هذا الباب، فيبين ما ظهر له وجه تعليله من غير تكلف، وما لم يظهر وجهه يوكل علمه إلى عالمه، والتقول على الله بلا علم من أعظم المحرمات كما لا يخفى، فلا يجوز أن يُحَمّل كلام الله ما لا يحتمل.
على أنه يقال: إن العرب إذا ذكرت أشياء مشتركة في الحكم وعطفت بعضها على بعض بالواو المقتضية عدم الترتيب فإنهم لا يقدمون في الغالب إلا ما يعتنون به سواء كان بسب التشريف أو التعظيم، أو لأهميته أو قصد الحث عليه، أو نحو ذلك.
" قواعد التفسير " د. خالد السبت (1 / 380) .
الرابع: في الحكمة من تكرار هذه الآية، والحكمة من التقديم والتأخير فيها على وجه الخصوص:
إن التكرار هنا لتذكير بني إسرائيل، وإعادةً لتحذيرهم للمبالغة في النصح.
وأيضاً: في الموضع الأول ذكَّرهم بالقيام بحقوق نعمه السابقة عليهم وهي التي ذكره قبل الآيات وبعدها، وفي الموضع الثاني ذكَّرهم بنعمة تفضيلهم على العالَمين لإيمانهم بنبي زمانهم، ليحصلوا هذه الفضيلة بإيمانهم بنبي الإسلام الخاتم محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم فيكونوا من الفاضلين، ويتقوا بإيمانهم به من أهوال القيامة وخوفها؛ كما اتقى من تابع موسى عليه السلام وآمن به من تلك الأهوال ".
" روح المعاني " للآلوسي (1 / 373) .
وأما سبب تقديم العدل على الشفاعة في الموضع الثاني وتأخيره عنها في الموضع الأول: فقد التمس بعض العلماء الحكمة فذكروا حكمتين:
1- أنه من باب التفنن في الكلام لتنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير.
2- ومع هذا التفنن فهناك فائدة لطيفة وهي: " أنه في الآية الأولى نفى قبول الشفاعة، وفي الآية الثانية نفى قبول الفداء حتى يتم نفي القبول في كل منهما، ثم لما كان نفي قبول الشفعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء ذكره في الآية الأولى بعد الشفاعة حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا لم تقبل الشفاعة فقد يؤخذ الفداء، ولما نفى في الآية الثانية قبول الفداء، وكان هذا النفي لا يتضمن نفي انتفاع الكافرين بالشفاعة أعقبه بنفي نفع الشفاعة حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا لم يقبل الفداء قد تنفع الشفاعة، فتحصَّل من الآيتين نفي القبول عن الشفاعة وعن الفداء لأن أحوال الناس في طلب الفكاك والنجاة مما يخافونه تختلف، فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفاعة، ومرة يبدؤون بالشفاعة فإذا لم تقبل عرضوا الفداء." أ. هـ.
بتصرف يسير من " التحرير والتنوير " لابن عاشور (1 / 698) .
وبعد:
فهذه اللطائف التي ذكرت هي مجرد استنتاج واستنباط ناتج عن اجتهاد بعض العلماء في هذه الآيات فقد يكون ما ذكروه من الحِكم، وقد لا يكون، وما جاء في السياق القرآني فهو الأفصح والأليق، سواءً صحَّ هذا الاستنباط أو لم يصح، والمقصود الأعظم هو أخذ العبرة والعظة من هذه الآية: وهي أن الإنسان في يوم القيامة لن ينفعه أحدٌ قريباً كان أو بعيداً، وسينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قّدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قّدَّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فعليه أن يتقي النار بالعمل الصالح ولو كان ذلك العمل صدقة بشقِّ تمرة؛ كما ورد معنى هذا في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه كما رواه البخاري برقم (6058) ومسلم (1688) .
وأن الشفاعة لا تنفع أحداً من الخلق إلا بإذن الله، ولن يأذن الله لأحد من الكافرين أن يَشفع أو يُشفع له في الخروج من النار.
فليتعلق العبد بربه دون سواه وليطلب منه أن يرزقه شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/220)
لا تعارض بين الآيتين
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجمع بين هاتين الآيتين: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وقوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) وهل بينهما تعارض؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله ليس بينهما تعارض، فالآية الأولى في حق من مات على الشرك ولم يتب منه فإنه لا يغفر له ومأواه النار كما قال الله سبحانه: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة:72) وقال عز وجل: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 88) والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما الآية الثانية وهي قوله سبحانه: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه:82) فهي في حق التائبين، وهكذا قوله سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين. والله ولي التوفيق.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (4/ 419)(3/221)
معنى قوله تعالى " أثرن به نقعاً "
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو معنى الآية " فأثرن به نقعاً "؟ وهل الكلمات (ارتفع، غبار، في، سُحُب) موجودة في هذه الآية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. الكلمات " ارتفع " و " غبار " موجودتان بالمعنى في الآية، و " في " غير موجودة إلا أن المعنى دلَّ عليها لأنه الغبار لا يرتفع إلا " في " الهواء، و " سحب " غير موجودة لا لفظاً ولا معنى.
2. " ارتفع " جاء لها مرادفات كثيرة في القرآن، ومنها:
أ. النشء، ومنه قوله تعالى {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} الرعد/12، وقوله {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} المزمل/6.
أ.الحدب، ومنه قوله تعالى {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون} الأنبياء/96، قال الفرَّاء: من كل أكَمة، ومن كل موضعٍ مرتفعٍ.
ب. العروج، ومنه قوله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} المعارج/4، ومعناه: الصعود والارتفاع.
ت. الموج، ومنه {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} هود/42، والموج: هو ارتفاع الماء فوق الماء.
ث. الربوة، ومنه قوله تعالى {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} المؤمنون/50، والربوة: المكان المرتفع.
ج. النشز، ومنه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} المجادلة/11، النشوز: الارتفاع.
ح. وأما لفظ " غبار ": فقد جاء لفظ آخر هو في القرآن بمعناه وهو " هباء "، ومنه قوله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} الفرقان/23.
وأما لفظ " سحاب " فجاءت له ألفاظ مرادفة في القرآن ومنها:
أ. المعصرات، ومنه قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} النبأ/14.
ب. المزن، ومنه قوله تعالى {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} الواقعة/69.
3. إن من أفضل التفاسير بشكل عام من ناحية الشمولية في أنواع التفسير من ناحية وسلامة المعتقد من ناحية أخرى هما: تفسير الطبري من المتقدمين وتفسير ابن كثير من المتأخرين.
وقال الطبري في تفسير آية {فأثرن به نقعاً} :
وَقَوْله {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: فَرَفَعْنَ بِالْوَادِي غُبَارًا؛ وَالنَّقْع: الْغُبَار، وَيُقَال: إِنَّهُ التُّرَاب.
وَالْهَاء فِي قَوْله {بِهِ} كِنَايَة اِسْم الْمَوْضِع، وَكَنَّى عَنْهُ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر، لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّ الْغُبَار لا يُثَار إِلا مِنْ مَوْضِع، فَاسْتَغْنَى بِفَهْمِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ مِنْ ذِكْره.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل.
" تفسير الطبري " (30 / 275، 276) .
وأما ابن كثير فقال في تفسير آية {فأثرن به نقعاً} :
يَعْنِي غُبَارًا فِي مَكَان مُعْتَرَك الْخُيُول.
" تفسير ابن كثير " (4 / 542) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/222)
آخر سورة نزلت في القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً يعلم أن أول سورة نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سورة: (اقرأ....) فما آخر سورة نزلت على رسولنا الأمين؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
آخر سورة نزلت من القرآن هي سورة النصر (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه. روى مسلم (3024) عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ جَمِيعًا قُلْتُ نَعَمْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ صَدَقْتَ ".
ويؤيد هذا ما صح عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه السورة أشارت إلى أجل النبي صلى الله عليه وسلم ونعت إليه نفسه.
فقد روى البخاري (4970) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلا لِيُرِيَهُمْ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَقَالَ لِي أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لا قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَذَلِكَ عَلامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَقَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلا مَا تَقُولُ".
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: آخر سورة نزلت هي براءة (التوبة) .
روى البخاري (4329) ومسلم (1618) عن البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) .
وقالت عائشة رضي الله عنها: آخر سورة أنزلت هي المائدة.
روى أحمد (25588) عن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه وسألتها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت القرآن". والحديث صححه شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في بيان آخر سورة نزلت من القرآن، ولهذا اختلف الصحابة، فقال كل بما أداه إليه اجتهاده.
قال البيهقي رحمه الله: يجمع بين هذه الاختلافات بأن كل واحد أجاب بما عنده. نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/223)
أيهما أصح " تفسير ابن كثير " أو " تفسير الطبري "؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أيهما أصح " تفسير ابن كثير " أو " تفسير الطبري "؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كل واحد من هذين التفسيرين لعالم جليل من علماء أهل السنة، ولا يزال العلماء ينصحون باقتنائهما، ولكل واحدٍ منهما ميزات تجعل طالب العلم لا يستطيع تفضيل واحدٍ منهما على الآخر، وهذه بعض اللمحات عن التفسيرين:
1. " تفسير الطبري "
- ولد الإمام محمد بن جرير الطبري عام 224 هـ وتوفي عام 310 هـ عن ستة وثمانين عاماً في إقليم طبرستان.
- سمى تفسيره " جامع البيان في تأويل آي القرآن ".
- قال أبو حامد الإسفرايني: لو سافر مسافر إلى الصين من أجل تحصيله ما كان ذلك كثيراً في حقه.
" طبقات المفسرين " للداودي (2 / 106) .
وقال ابن خزيمة: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير.
" سير أعلام النبلاء " (14 / 273) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي الناس: فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي.
" مجموع الفتاوى " (13 / 358) .
وقال أيضاً في "مقدمة في أصول التفسير" (ص 39) عن تفسير ابن جرير:
من أجل التفاسير وأعظمها قدراً. انتهى.
- اعتمدَ أقوال ثلاث طبقات من طبقات مفسري السلف، وهم الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين، ويذكر أقوالهم بأسانيده إليهم، وهذه ميزة عظيمة في كتابه، لا توجد في كثير من كتب التفسير الموجودة بين أيدينا، غير أن هذه الميزة لا تتناسب مع عامة المسلمين الذين ليس لديهم القدرة على البحث في الأسانيد ومعرفة الصحيح من الضعيف، وإنما يريدون الوقوف على صحة السند أو ضعفه بكلام واضح بَيِّن مختصر.
- فإذا انتهى من عرضِ أقوالِهم: رجَّحَ ما يراه صوابًا، ثمَّ يذكر مستندَه في الترجيحِ.
2. " تفسير ابن كثير "
- هو أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، توفي في عام 774 هـ.
- سمى تفسيره " تفسير القرآن العظيم ".
- قال السيوطي رحمه الله في حق هذا التفسير: لم يؤلَّف على نمطه مثله.
" تذكرة الحفاظ " (ص 534) .
- وتفسيره من التفسير بالمأثور – الآية والحديث -، وشهرته تعقب شهرة الطبري عند المتأخرين.
- سهل العبارة، جيد الصياغة، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل.
- يفسِّر الآية بالآية، ويسوق الآيات المتناسبة مع ما يفسره من الآيات، ثم يسرد الأحاديث الواردة في موضوع الآية، ويسوق بعض أسانيدها وبخاصة ما يرويه الإمام أحمد في مسنده، وهو من حفظة المسند، ويتكلم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً– غالباً – وهي ميزة عظيمة في تفسيره، ثم يذكر أقوال السلف من الصحابة والتابعين، ويوفق بين الأقوال، ويستبعد الخلاف الشاذ.
قال عنه محمد بن جعفر الكتاني: إنه مشحون بالأحاديث والآثار بأسانيد مخرجيها مع الكلام عليها صحةً وضعفاً.
" الرسالة المستطرفة " (ص 195) .
- نبَّه على الموقف الشرعي من الروايات الإسرائيلية، ونبَّه على بعضها خلال تفسيره لبعض الآيات.
والخلاصة:
أنه لا غنى لطالب العلم عن الكتابين، وأنه عند المفاضلة بينهما: فإن تفسير ابن جرير لم يؤلَّف بعده مثله، وهو زاد للعلماء وطلبة العلم، لكنه لا يصلح لعامة الناس لعدم صلاحيتهم هم له، وتفسير ابن كثير أقرب لأن يوصى به عوام الناس، وفيه من الفوائد للعلماء وطلبة العلم الشيء الكثير.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/224)
من هم الولدان المخلدون؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الولدان المخلدون هم أطفال المسلمين الذين ماتوا صغارا؟؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى في شأن أهل الجنة: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) الواقعة /17 وقال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الإنسان/19
قال ابن كثير رحمه الله: أي: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، مخلدون: أي: على حالة واحدة، مخلدون عليها لا يتغيرون عنها؛ لا تزيد أعمارهم عن تلك السن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: غلمان لا يموتون.
قال ابن القيم رحمه الله: قال أبو عبيدة والفراء: مخلدون: لا يهرمون ولا يتغيرون؛ قال: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد، وإذا لم تذهب أسنانه من الكبر قيل: هو مخلد.
وقوله تعالى في وصفهم، في سورة الإنسان: (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا، ولا يكون التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
قال ابن القيم رحمه الله: وشبههم سبحانه باللؤلؤ المنثور لما فيه من البياض وحسن الخلقة. وفي كونه منثورا فائدتان:
إحداهما: الدلالة على أنهم غير معطلين، بل مبثوثون في خدمتهم وحوائجهم.
الثانية: أن اللؤلؤ إذا كان منثورا، ولاسيما على بساط من ذهب أو حرير، كان أحسن لمنظره وأبهى، من كونه مجموعا في مكان واحد.
وقد اختلف العلماء فيمن يكون هؤلاء الولدان:
فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن البصري أن المراد بالولدان هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة.
وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة.
قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا أصل لهذا القول. " مجموع الفتاوى " (4/279) .
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد روى في ذلك حديث لا يثبت.
وقيل: إن هؤلاء الولدان أنشأهم الله لأهل الجنة، يطوفون عليهم كما شاء، من غير ولادة.
وهذا القول الأخير هو الذي ارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. فقد سئل رحمه الله: عن الولدان: هل هم ولدان أهل الجنة؟
فأجاب: الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة خلق من خلق الجنة ; ليسوا بأبناء أهل الدنيا بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة يكمل خلقهم كأهل الجنة؛ على صورة آدم أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في طول ستين ذراعا. وقد روي أيضا أن العرض سبعة أذرع.
انظر: مجموع الفتاوى: 4/312
واستظهر ابن القيم رحمه الله هذا القول أيضا. قال: والأشبه أن هؤلاء الولدان مخلوقون من الجنة، كالحور العين، خدما لهم وغلمانا ... ، وهؤلاء غير أولادهم؛ فإن من تمام كرامة الله تعالى لهم أن يجعل أولادهم مخدومين معهم، ولا يجعلهم غلمانا لهم.
راجع أيضا: السؤال رقم [6496] .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/225)
لماذا خلق الله السموات والأرض في ستة أيام مع قدرته على خلقها في أقل من هذه المدة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا أراد الله أمراً فإنه يقول له كن فيكون، فلماذا استغرق 6 أيام حتى يخلق السماوات والأرض؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من المقرر عند أهل الإيمان الراسخ والتوحيد الكامل أن المولى جل وعلا قادر على كل شيء، وقدرته سبحانه ليس لها حدود، فله سبحانه مطلق القدرة وكمال الإرادة، ومنتهى الأمر والقضاء، وإذا أراد شيئاً كان كما أراد وفي الوقت الذي يريد، وبالكيفية التي أرادها سبحانه وتعالى.
وقد تواترت النصوص القطعية من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم على تقرير هذا الأمر وبيانه بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ونكتفي هنا بذكر بعض الآيات الدالة على ذلك، فمن ذلك قوله تعالى: (بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) البقرة / 117.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة (1/175) : (يبين بذلك تعالى كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وأنه إذا قدر أمراً وأراد كونه فإنما يقول له كن _ أي: مرة واحدة _ فيكون، أي فيوجد على وفق ما أراد كما قال تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) يس / 82) أ. هـ.
وقال تعالى: ( ... قال كذلك الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) آل عمران / 247.
وقال تعالى: (هو الذي يحي ويميت فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) غافر / 68.
وقال تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) القمر/50.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره هذه الآية (4/261) : (وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه، كما أخبر بنفوذ قدره فيهم فقال: (وما أمرنا إلا واحدة) أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إلى توكيد بثانية، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلاً موجوداً كلمح البصر، لا يتأخر طرفة عين، وما أحسن ما قال بعض الشعراء:
إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له كن قولة فيكون) أ. هـ.
وهناك آيات أخرى تقرر هذا الأمر وتوضحه.
فإذا تقرر ذلك فلماذا خلق الله جل جلاله السموات والأرض في ستة أيام؟ .
أولاً:
قد ورد في أكثر من آية في كتاب ربنا أن الله جل وعلا خلق السموات والأرض في ستة أيام فمن ذلك قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ... ) الأعراف / 54.
ثانياً:
ما من أمر يفعله الله إلا وله فيه حكمة بالغة وهذا من معاني اسم الله تعالى " الحكيم "، وهذه الحكمة قد يطلعنا الله تعالى عليها وقد لا يطلعنا، وقد يعلمها ويستنبطها الراسخون في العلم دون غيرهم.
غير أن جهلنا بهذه الحكمة لا يحملنا على نفيها أو الاعتراض على أحكام الله ومحاولة التكلف والتساؤل عن هذه الحكمة التي أخفاها الله عنا، قال الله تعالى: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) الأنبياء / 23.
وقد حاول بعض العلماء استباط الحكمة من خلق السموات والأرض في ستة أيام:
1- قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " لآية الأعراف (54) (4/7/140) :
( ... وذكر هذه المدة - أي ستة أيام - ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد:
- أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور.
- ولتظهر قدرته للملائكة شيئاً بعد شيء....
- وحكمة أخرى: خلقها في ستة أيام؛ لأن لكل شيء عنده أجلا، وبيّن بهذا ترك معالجة العصاة بالعقاب؛ لأن لكل شيء عنده أجلاً ... ) ا. هـ.
2- وقال ابن الجوزي في تفسيره المسمى بـ " زاد المسير " (3/162) في تفسير آية الأعراف:
( ... فإن قيل: فهلا خلقها في لحظة، فإنه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة:
أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمراً تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الأنباري.
والثاني: أنه التثبت في تمهيد ما خُلق لآدم وذريته قبل وجوده، أبلغ في تعظيمه عند الملائكة.
والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قوله (كن فيكون) .
والرابع: أنه علّم عباده التثبت، فإذا تثبت مَنْ لا يَزِلُّ، كان ذو الزلل أولى بالتثبت.
والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.) ا. هـ.
3- وقال القاضي أبو السعود في تفسيره عند آية الأعراف: (3/232) : ( ... وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار، واعتبار للنظار، وحث على التأني في الأمور) ا. هـ.
وقال عن تفسير الآية (59) من سورة الفرقان (6/226) :
( ... فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين، في أوقات معينة، مع كمال قدرته على إبداعها دفعة لحكم جليلة، وغايات جميلة، لا تقف على تفصيلها العقول ... ) أ. هـ.
وبناء على ما سبق اتضح أن الله جلت قدرته وعَظُم سلطانه له مطلق القدرة، ومنتهى الإرادة، وكمال التصرف والتدبير، وله في كل خلق من خلقه حِكم بليغة لا يعلمها إلا هو سبحانه، وكذلك اتضح لك بعض الحِكم والأسرار في خلق المولى سبحانه وتعالى السموات والأرض في ستة أيام، مع أنه قادر سبحانه أن يخلقها بكلمة " كن ".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/226)
تفسير: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)
[السُّؤَالُ]
ـ[قال الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ما معنى: أمة وسطا؟ وما المقصود بالشهادة على الناس؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) البقرة/143.
جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية تبين أن المراد من قوله تعالى: (أمة وسطاً) أي: عدلاً خياراً. وأن المراد من الشهادة على الناس: الشهادة على الأمم يوم القيامة أن رسلهم قد بلغوهم رسالات الله. ولم تخرج كلمات المفسرين عن ذلك المعنى.
روى البخاري (4487) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلام يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ؛ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ أَوْ مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ , قَالَ: فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ , قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قَالَ: الْوَسَطُ الْعَدْلُ) وزاد أحمد (10891) : (قَالَ: فَيُدْعَوْنَ فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاغِ , قَالَ: ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ) .
وروى الإمام أحمد (1164) وابن ماجه (4284) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ , وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لا فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ , فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؛ فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا , فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قَالَ: يَقُولُ: عَدْلا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2448) .
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية:
" فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها , ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به , وبما جاءكم به من عندي " انتهى.
"جامع البيان " (2/8) .
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
" والوسط ههنا الخيار والأجود , كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي: خيارها , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه , أي أشرفهم نسباً , ومنه: الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها. . .
(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
قال: لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل " انتهى باختصار.
"تفسير ابن كثير" (1/181) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" ومن فوائد الآية: فضل هذه الأمة على جميع الأمم؛ لقوله تعالى: (وسطاً) .
ومنها: عدالة هذه الأمة؛ لقوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) ؛ والشهيد قوله مقبول.
ومنها: أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة؛ لقوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس) ؛ والشهادة تكون في الدنيا، والآخرة؛ فإذا حشر الناس، وسئل الرسل: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم؛ ثم تسأل الأمم: هل بُلِّغتم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير؛ ما جاءنا من أحد؛ فيقال للرسول: من يشهد لك؟ فيقول: (محمد وأمته) ؛ يُستشهدون يوم القيامة، ويَشهدون؛ فيكونون شهداء على الناس.
فإذا قال قائل: كيف تشهد وهي لم تر؟
نقول: لكنها سمعت عمن خبره أصدق من المعاينة، صلوات الله وسلامه عليه " انتهى.
"تفسير سورة البقرة" (2/115، 116) باختصار.
ونقل البغوي في تفسيره (1/122) عن الكلبي أنه قال: (وَسَطاً) : " يعني: أهل دين وسط، بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في الدين ".
وقال الشيخ السعدي في تفسيره (ص 66) :
" أي: عدلا خيارا. وما عدا الوسط , فالأطراف داخلة تحت الخطر. فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين. وسطا في الأنبياء , بين من غلا فيهم كالنصارى , وبين من جفاهم كاليهود , بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك.
ووسطا في الشريعة , لا تشديدات اليهود وآصارهم , ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطهارة والمطاعم , لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بِيَعهم وكنائسهم , ولا يطهرهم الماء من النجاسات , وقد حرمت عليهم الطيبات , عقوبة لهم. ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا , ولا يحرمون شيئا , بل أباحوا ما دب ودرج. بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها. وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح , وحرم عليهم الخبائث من ذلك. فلهذه الأمة من الدين: أكمله , ومن الأخلاق: أجلها , ومن الأعمال: أفضلها. ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان , ما لم يهبه لأمة سواهم. فلذلك كانوا (أُمَّةً وَسَطًا) كاملين معتدلين , ليكونوا (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط , يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان , ولا يحكم عليهم غيرهم. فما شهدت له هذه الأمة بالقبول , فهو مقبول , وما شهدت له بالرد , فهو مردود.
فإن قيل: كيف يقبل حكمهم على غيرهم , والحال أن كل مختصمين , غير مقبول قول بعضهم على بعض؟
قيل: إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين , لوجود التهمة. فأما إذا انتفت التهمة , وحصلت العدالة التامة , كما في هذه الأمة , فإنما المقصود الحكم بالعدل والحق. وشرط ذلك: العلم والعدل , وهما موجودان في هذه الأمة , فقبل قولها " انتهى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/227)
الصابوني وكتابه " صفوة التفاسير "
[السُّؤَالُ]
ـ[ما رأي فضيلتكم في كتاب " صفوة التفاسير " للشيخ الصابوني , حيث إن بعض الشباب الملتزمين يعيبون علينا قراءة هذا الكتاب , ويقولون بأن عقيدة الشيخ الصابوني معتزلية أو أشعرية، وتفسيره للقرآن كذلك , وحيث إني لا علم لي بهذا الشيخ فصرت أقرأ في هذا الكتاب لبساطتهِ ومنهجه الجذاب، فما رأيكم في هذا الكتاب وفي مؤلفه؟ وما الكتب التي توصون بها التي تهم كل مسلم (غير مختص بالعلوم الشرعية) في عقيدته وحياته من عبادات ومعاملات.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الأستاذ محمد علي الصابوني , من أساتذة كلية الشريعة بمكة المكرمة، كان له نشاط في علوم القرآن والتفسير, ومن ثم قام بتأليف عدة كتب في التفسير وعلوم القرآن , أكثرها مختصرات , كـ " مختصر تفسير ابن كثير " , و " مختصر تفسير الطبري " , و " التبيان في علوم القرآن " , و " روائع البيان في تفسير آيات الأحكام " , و " قبس من نور القرآن " , و " صفوة التفاسير " , وهو الكتاب الذي نحن بصدده.
وهو تفسير موجز , قال عنه مؤلفه: إنه شامل، جامع بين المأثور والمعقول , مستمد من أوثق التفاسير المعروفة كالطبري والكشاف! وابن كثير والبحر المحيط! وروح المعاني , في أسلوب ميسر سهل التناول , مع العناية بالوجوه البيانية واللغوية.
وقال في المقدمة:
وقد أسميت كتابي " صفوة التفاسير " , وذلك لأنه جامع لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصلة , مع الاختصار والترتيب , والوضوح والبيان.
طبع الكتاب في ثلاث مجلدات , وكان تاريخ التأليف سنة (1400 هـ) .
أما من حيث اعتقاد المؤلِّف فهو أشعري الاعتقاد، وهو ما جعل كتبه واختصاراته عرضة للنقد والرد، بل جعله هذا يبتر بعض نصوص الأحاديث، ويحرف بعض النقول عن العلماء كما سيأتي.
قال الشيخ سفر الحوالي:
أما الصابوني فلا يؤسفني أن أقول إن ما كتبه عن عقيدة السلف والأشاعرة يفتقر إلى أساسيات بدائية لكل باحث في العقيدة، كما أن أسلوبه بعيد كثيراً عن المنهج العلمي الموثق وعن الأسلوب المتعقل الرصين.
" منهج الأشاعرة في العقيدة " (ص 2) .
وقد رد عليه كثير من أهل العلم مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والشيخ الألباني رحمه الله والشيخ صالح الفوزان والشيخ بكر أبو زيد والشيخ محمد جميل زينو وغيرهم.
وأما كتابه " صفوة التفاسير " فهو من أكثر كتبه التي ردَّ عليها العلماء، وهذه قائمة بأسماء بعض من ردَّ عليه مع ذِكر أسماء كتبهم:
1. " الرد على أخطاء محمد علي الصابوني في كتابه " صفوة التفاسير " و " مختصر تفسير ابن جرير "، للشيخ محمد جميل زينو – مدرس التفسير في دار الحديث في مكة -.
2. " تنبيهات هامة على كتاب " صفوة التفاسير " "، للشيخ محمد جميل زينو.
3. " ملاحظات على كتاب " صفوة التفسير " " للشيخ سعد ظلاَّم – عميد كلية اللغة العربية في مصر -.
4. " ملاحظات على صفوة التفاسير " للشيخ عبد الله بن جبرين.
5. " ملاحظات عامة على كتاب " صفوة التفاسير " " للشيخ صالح الفوزان.
6. " التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير " للشيخ بكر أبو زيد، وهو ضمن كتابه الكبير " الردود ".
وهذه الردود والتعقبات دفعت وزارة الأوقاف في المملكة العربية السعودية أن تمنع تداول الكتاب وتأمر بمصادرته، وذلك في: " تعميم وزارة الحج والأوقاف برقم 945 / 2 / ص، في 16 / 4 / 1408 هـ من المديرية العامة للأوقاف والمساجد في منطقة الرياض المتضمن مصادرة " صفوة التفاسير " وعدم توزيعه حتى يصلح ما فيه من أخطاء عقدية.
قال الشيخ بكر أبو زيد:
" صفوة التفاسير " اسم فيه تغرير وتلبيس، فأنَّى له الصفاء وهو مبني على الخلط بين التبر والتبن، إذ مزج بين تفسيري ابن جرير وابن كثير السلفييْن، وتفسير الزمخشري المعتزلي، والرضي الرافضي، والطبرسي الرافضي، والرازي الأشعري، والصاوي الأشعري القبوري المتعصب، وغيرهم، ولا سيما وهذا المزج على يد من لا يعرف الصنعة ولا يتقنها كهذا الذي تسوَّر هذا الصرح بلا سلَّم، وإلا فإن أهل العلم يستفيدون من المفسرين المتميزين بما لا يخرج عن الجادة: مسلك السلف، وضوابط التفسير، وسَنن لسان العرب.
" الردود " (ص 311) .
وقال:
فيفيد وصفه بالجهل أنه: يصحح الضعاف، ويضعِّف الصحاح، ويعزو أحاديث كثيرة إلى الصحيحين، أو السنن الأربعة أو غيرها وليس في الصحيحين – مثلاً – أو ليس في بعضها، ويحتج بالإسرائيليات، ويتناقض في الأحكام.
ويفيد وصفه بالإخلال بالأمانة العلمية: بتر النقول، وتقويل العالم ما لم يقله، وتحريف جمع من النصوص والأقوال، وتقريره مذهب الخلَف في كتب السلف.
ويفيد خَلْفيته في الاعتقاد: مسخه لعقيدة السلف في مواضع من تفسير ابن جرير، وتفسير ابن كثير، وبأكثر في " صفوة التفاسير "، وما تحريفه لعدد من النصوص إلا ليبرر هذه الغاية.
" الردود " (ص 313، 314) .
وقد نصحه الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – قائلاً:
نوصيك بتقوى لله، والحرص التام على التقيد بمذهب السلف الصالح في جميع مؤلفاتك، ونوصيك أيضاً بالإكثار من تدبر القرآن الكريم، والسنَّة المطهرة، وكلام سلف الأمَّة، والاستفادة مما كتبه الإمام العلاَّمة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلاَّمة ابن القيم، ونوصيك بمطالعة رسالتيْ " التدمرية " و " الحموية " لشيخ الإسلام، و " الصواعق " و " اجتماع الجيوش الإسلاميَّة " لابن القيم، وغيرها من كتب السلف.
" الردود " (ص 375) .
ثانياً:
أما ما أردت بيانه من الكتب التي يحتاجها المسلم في حياته: فيمكنك الاطلاع على السؤال: (14082) ففيه بيان ما أردت وزيادة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/228)
حكم من يلازم الاستغفار لأجل أن يرزق بالولد
[السُّؤَالُ]
ـ[في سورة نوح ورد فضل الاستغفار، ما هي كيفية الاستغفار الصحيحة - حفظكم الله -؟ وهناك تجربة إن صح التعبير لزميل لي في العمل حيث إنه لم يرزق بالذرية بعد مضي عام ونصف تقريبا، وبعد ذلك داوم على الاستغفار ولازمه في جميع أوقاته وأحواله بعد ترك فضول الكلام وتحري الحلال في جميع حوائجه ولم يكمل الشهر وإذا به - بحمد الله - يبشَّر بأن زوجته أصبحت حبلى، حفظ الله هذا الزميل وحفظ ذريته وأهله. فسبحان الله هل ينطبق هذا المثال على من أراد الأموال والجنات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: لا بأس أن يكثر الإنسان من الاستغفار ليرزقه الله تعالى المال والولد.
قال الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) نوح/10 - 12.
قال القرطبي:
قوله تعالى {فقلت استغفروا ربكم} أي: سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. {إنه كان غفاراً} أي: لم يزل كذلك لمن أناب إليه. وهذا منه ترغيب في التوبة.
{يرسل السماء عليكم مدراراً} أي: يرسل ماء السماء، و {مدراراً} ذا غيث كثير.
(ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)
قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأُمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبتُ المطر بمجاديح السماء التي يُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً} .
(بمجاديح) جمع مِجْدَح وهو نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر به. وأراد عمر رضي الله عنه تكذيب العرب في هذا الزعم الباطل، وبَيَّن أنه استسقى بالسبب الصحيح لنزول المطر وهو الاستغفار وليس النجوم.
وشكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً؛ فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً؛ إن الله تعالى يقول في سورة نوح (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) .
" تفسير القرطبي " (18 / 301 – 303) باختصار.
ثانياً:
أما صيغ الاستغفار: فأفضل ذلك ما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله، أو ما أوصى به الأمة أن تقوله.
1. عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
قال: ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة. رواه البخاري (5947) .
2. عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء " رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كله وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وهزلي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير ". رواه البخاري (6035) ومسلم (2719) .
3. عن ابن عمر قال: إنْ كنَّا لنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم " مائة مرة. رواه الترمذي (3434) وعنده " التواب الغفور " وأبو داود (1516) وابن ماجه (3814) .
4. عن أبي يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف ". رواه الترمذي (3577) وأبو داود (1517) .
5. عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ". رواه البخاري (799) ومسلم (2705) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/229)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآية (عليكم أنفسكم)
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نرد بحجة قوية ومقنعة على من احتج بقوله تعالى: (ياأيها الناس عليكم أنفسكم) إذا أُمر بالمعروف أو نُهي عن منكر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية الكريمة من سورة المائدة، مما يخطئ بعض الناس في فهمها، ويتوهمون أنها تدل على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما احتجوا بها على من أمرهم أو نهاهم.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة / 105
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله (إذا اهتديتم) لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد. وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.
فمن العلماء من قال: (إذا اهتديتم) أي أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جدا ولا ينبغي العدول عنه لمنصف.
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد أن الله تعالى أقسم أنه في خسر، في قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده، فمن ذلك ... وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" رواه أبو داود (4338) والترمذي (2168) والنسائي بأسانيد صحيحة (وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 2448)) انتهى من أضواء البيان 2/169
وكلامه رحمه الله كاف واف.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/230)
تفسير قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) البقرة /197؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى فيها بعض الأحكام والآداب المتعلقة بالحج.
يقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
أي: وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة. وذهب بعض العلماء إلى أن شهر ذي الحجة كله من أشهر الحج.
وقوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)
أي: أحرم به، لأنه إذا أحرم بالحج وجب عليه إتمامه، لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) البقرة /196.
وقوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
أي: إذا أحرم بالحج وجب عليه تعظيمه فيصونه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث والفسوق والجدال.
والرفث هو الجماع، ومقدماته القولية والفعلية كالتقبيل والكلام المتعلق بالجماع والشهوة ونحو ذلك.
ويطلق الرفث أيضاً على الكلام الفاحش البذيء.
والفسوق هو المعاصي كلها كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأكل الربا وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة.. الخ. ومن الفسوق: محظورات الإحرام.
والجدال معناه المخاصمة والمنازعة والمماراة بغير حق، فلا يجوز للمحرم بالحج أو العمرة أن يجادل بغير حق.
أما المجادلة بالتي هي أحسن لبيان الحق فهذا مما أمر الله به في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن) النحل /125.
فهذه الأشياء (الفحش في القول والمعاصي والجدال بالباطل) وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان فإنه يتأكد المنع منها في الحج، لأن المقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من الطاعات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
والله أعلم.
انظر: فتح الباري (3/382) ، تفسير السعدي (ص 125) ، فتاوى ابن باز (17/144) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/231)
الاجتهاد في أكثر من ختمة للقرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن أبدأ بأكثر من ختمة في وقت واحد دون الانتهاء من الختمة الأولى، يعني أن أبدأ بالثانية والأولى معا، وأختمهما معا؟؟ وجزاكم الله ألف خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن الكريم كلام الله عز وجل، وتلاوته من أفضل العبادات وأحب القربات، وكلما أكثر المسلم من تلاوته وقراءته ناله من الأجر العظيم، والثواب الجزيل.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)
رواه الترمذي (2910) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
وهذا الأجر يحصل لمن قرأ أي سورة من القرآن، سواء كان ذلك أثناء ختمة مرتبة، أو في صلاته، أو في قراءة عارضة له، لم يراع فيها ختمة معينة.
غير أن الأفضل للتالي أن يتابع ختمته من أول القرآن إلى آخره، وبترتيب السور في المصحف، وألا يبدأ في ختمة حتى ينتهي من التي شرع فيها قبل ذلك، وهذا هو هدي السلف في ذلك، وهو الذي جاء فيه التوقيت في ختم القرآن في شهر أو أقل من ذلك.
ولا ينبغي له أن يخالف ذلك فيشرع في ختمة أخرى إلا لسبب يدعو إلى ذلك؛ كأن تكون له ختمة في صلاته وختمة أخرى خارج الصلاة، أو تكون له ختمة نظرا من المصحف وأخرى عن ظهر قلب، أو تكون له ختمة حدرا، يراعي فيها الإكثار من التلاوة، وأخرى للتدبر والتفقه لا يبالي أن يكون ما قرأ فيها قليلا أو كثيرا، أو نحو ذلك من الوجوه المعتبرة.
ولقد يُخشى على من يشرع في ختمة أخرى، بلا مسوغ مقبول، أن يكون ذلك من استعجاله، وعدم صبره حتى يتم المحصف إلى نهايته، إضافة لما فيه من المخالفة لما هو معروف من هدي السلف في ذلك.
ويراجع لمعرفة هدي السلف في ختم القرآن: " التبيان في آداب حملة القرآن"، للإمام النووي رحمه الله (75-82) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/232)
أيهما أفضل قراءة سورة من القرآن بتدبر وفهم أم قراءة القرآن كله من غير تدبر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك حديث يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من يقرأ سورة العصر بانتباه وفهم أفضل ممن يقرأ القرآن كاملا دون فهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لم يصح في فضائل سورة " العصر " شيء سوى أنها من المفصل.
جاء في " موسوعة فضائل سور وآيات القرآن " (القسم الصحيح 2/319)
" لم يصح فيها شيء سوى أنها من المفصل " انتهى.
وتقول الباحثة آمال سعدي:
" لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل سورة العصر شيء، بل وردت في فضلها روايات ضعيفة وموضوعة، منها: (من قرأ سورة العصر غفر الله له، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر) " انتهى.
" الصحيح والسقيم في فضائل القرآن الكريم " (ص/96)
ثانيا:
ننقل ههنا كلاما نفيسا للعلامة ابن القيم رحمه الله، يبين فيه أقوال العلماء في المفاضلة بين قراءة القدر اليسير من القرآن بتدبر وفهم، وبين قراءة القدر الكثير من القرآن من غير تدبر ولا تفكر.
يقول ابن القيم رحمه الله:
" اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟ على قولين:
فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها.
واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه، وتدبره، والفقه فيه، والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله، وإن أقام حروفه إقامة السهم.
قالوا: ولأن الإيمان أفضل الأعمال، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر فيفعلها البر والفاجر والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي يقرأ القران كمثل الريحانة: ريحها طيب، وطعمها مر) .
والناس في هذا أربع طبقات: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عدم القرآن والإيمان. الثالثة: من أوتي قرآنا ولم يؤت إيمانا. الرابعة: من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا.
قالوا: فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبرا وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر.
قالوا: وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضل، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي وصححه.
قالوا: ولأن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة، وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة.
والصواب في المسألة أن يقال:
إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا:
فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا.
والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة.
وفي " صيح البخاري " عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يمد مدا) .
وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلا ولا بد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك، ويعيها قلبك.
وقال إبراهيم: قرأ علقمة على ابن مسعود - وكان حسن الصوت – فقال: رتل فداك أبي وأمي، فإنه زين القرآن.
وقال ابن مسعود: لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
- والهذّ: سرعة القراءة، والدَّقَل: رديء التمر -.
وقال عبد الله أيضا: إذا سمعت الله يقول: (يأيها الذين آمنوا) فأصغ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تصرف عنه. " انتهى.
" زاد المعاد " (1/337-340)
وانظر جواب السؤال رقم: (4040) ، (131788)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/233)
ما هي السور التي يستحب قراءتها في أوقات مخصوصة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك سور من القرآن الكريم تقرأ في أيام معينة، أو أوقات معينة، مثل سورة الكهف. مع تأكيد ذلك. مع جزيل الشكر والتقدير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأحاديث الواردة في فضل قراءة سور مخصوصة في أيام مخصوصة كثيرة، غير أنها لا يصح منها شيء سوى ما ثبت في فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلتها، كما سبق بيان ذلك في جواب رقم: (10700) .
وأما قراءة بعض السور في أذكار الصباح والمساء فقد ورد ذلك في أكثر من سورة من سور القرآن الكريم، كقراءة سورة الملك كل ليلة، وقراءة آية الكرسي والمعوذتين وسورتي الإسراء والزمر وغيرها قبل النوم، وفي موقعنا أجوبة تبين ذلك بالأدلة الصحيحة في الأجوبة ذوات الأرقام الآتية: (26240) ، (72591) ، (6092) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/234)
قراءة سورة يس في الصباح والمساء؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أسأل عن صحة حديث: (من قرأ " يس " إذا أصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، ومن قرأها إذا أمسى لم يزل في فرح حتى يصبح) انتهى. وعن ما ورد عن مداومة الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءتها فجراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الأثر المذكور في السؤال روي من قول التابعي الجليل يحيى بن أبي كثير رحمه الله أنه قال:
(من قرأ " يس " إذا أصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، ومن قرأها إذا أمسى لم يزل في فرح حتى يصبح. قال: وأنبأنا مَن جرَّبَ ذلك)
رواه ابن الضريس في " فضائل القرآن " (رقم/218، ص/101) قال: أخبرنا عباس بن الوليد، ثنا عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير قال ... فذكره.
ثم قال في (حديث رقم/220) : أخبرنا علي بن الحسن، ثنا عامر بن يساف، عن يحيى بن أبي كثير قال: من قرأ ... مثل حديث عباس.
فمدار هذا الأثر على عامر بن يساف، وقد اختلف فيه أهل الجرح والتعديل، قال ابن عدي: منكر الحديث عن الثقات، ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال أبو داود: ليس به بأس، رجل صالح. وقال العجلي: يكتب حديثه وفيه ضعف. وذكره بن حبان في الثقات. انظر " لسان الميزان " (3/224) ، وقال أبو حاتم: هو صالح. " الجرح والتعديل " (6/329) وجاء في "تعجيل المنفعة " (1/207) : واختلف فيه قول يحيى بن معين، فقال ابن البرقي عنه: ثقة. وقال عباس الدوري عنه: ليس بشيء. وانظر: " تهذيب التهذيب " (5/66) ورواية الدوري عن ابن معين أرجح من رواية ابن البرقي.
فتحصل من كلام الأئمة أن تفرد عامر بن يساف غير مقبول لوجود المناكير في حديثه. ولذلك قال الذهبي: له مناكير. وقال الحافظ في " تقريب التهذيب ": لين الحديث.
وبهذا يتبين ضعف روايته لهذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير.
على أنَّه، لو قدر صحته، فليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا كلام أحد من أصحابه، وإنما هو من كلام يحيى، وهو من صغار التابعين، توفي سنة (132هـ) .
قال الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف رحمه الله:
" العمدة في دين الله عز وجل: صحة النقل، وثبوت العرش، وهذا أثر منكر لا يصح " انتهى.
" أحاديث ومرويات في الميزان " (ص/75) طبعة ملتقى أهل الحديث.
كما لم نقف على حديث يدل على مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة سورة " يس " فجراً، وقد سبق في موقعنا بيان أن جميع الأحاديث المروية في فضل هذه السورة ضعيفة، يمكن مراجعة ذلك في جواب السؤال رقم: (75894)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/235)
أهمية سورة الفاتحة، وذكر بعض فضائلها
[السُّؤَالُ]
ـ[ما أهمية سورة الفاتحة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لسورة الفاتحة أهمية عظيمة، وفضائلها كثيرة، فمن ذلك:
- أنها ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها؛ فروى البخاري (756) ومسلم (394) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) .
قال النووي:
"فِيهِ وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَأَنَّهَا مُتَعَيِّنَة لَا يُجْزِي غَيْرهَا إِلَّا لِعَاجِزٍ عَنْهَا , وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ" انتهى.
- أنها أفضل سورة في القرآن؛ فروى الترمذي (2875) وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا) صححه الألباني في صحيح الترمذي.
- أنها السبع المثاني التي قال الله فيها: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الحجر/87، وروى البخاري (4474) عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ قَالَ له: (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ) .
قال الحافظ:
" اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتهَا " مَثَانِي " فَقِيلَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى كُلّ رَكْعَة أَيْ تُعَاد , وَقِيلَ لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى , وَقِيلَ لِأَنَّهَا اُسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّة لَمْ تَنْزِل عَلَى مَنْ قَبْلهَا , " انتهى.
- أنها جمعت بين التوسل إلى الله تعالى بالحمد والثناء على الله تعالى وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيق بالإجابة.
انظر: "مدارج السالكين" (1/24) .
- أنها ـ مع قصرها ـ تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
انظر: "مدارج السالكين" (1/24-27) .
- أنها تشتمل على شفاء القلوب وشفاء الأبدان.
قال ابن القيم رحمه الله:
"فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال، ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقيق بـ (إياك نعبد وإياك نستعين) علماً ومعرفة وعملاً وحالاً يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد.
وأما تضمنها لشفاء الأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنة، وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب ... " فذكر حديث الرقية بالفاتحة " ثم قال:
"فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء.
هذا مع كون المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم، فكيف إذا كان المحل قابلاً؟ انتهى.
"مدارج السالكين" (1/52-55) .
ثم قال:
"كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدة، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء" انتهى.
"مدارج السالكين" (1/ 58) .
- أنها تشتمل على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة.
وهذا يعلم بطريقين: مجمل ومفصل:
وبيان ذلك: أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والانقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء به علماً وعملاً في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى، وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم.
"مدارج السالكين" (1/58) .
- أن سورة الفاتحة قد تضمنت جميع معاني الكتب المنزلة.
"مدارج السالكين" (1/74) .
- أنها متضمنة لأنفع الدعاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: (إياك نعبد وإياك نستعين) " انتهى.
"مدارج السالكين" (1/78) .
وبالجملة: فسورة الفاتحة مفتاح كل خير وسعادة في الدارين.
قال ابن القيم رحمه الله:
" فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني والشفاء التام والدواء النافع والرقية التامة ومفتاح الغنى والفلاح وحافظة القوة ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها وأحسن تنزيلها على دائه وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك.
ولما وقع بعض الصحابة على ذلك رقى بها اللديغ فبرأ لوقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أدراك أنها رقية) .
ومن ساعده التوفيق وأُعِين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثبات الشرع والقدر والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما ودفع مفاسدهما، وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقق بها؛ أغنته عن كثير من الأدوية والرقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابه " انتهى.
"زاد المعاد" (4/318) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/236)
الاجتماع على قراءة يس عدة مرات ثم الدعاء
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد بعض الأشخاص يجتمعون ويقرءون سورة يس، ثم يتقدم أحدهم ويدعو، والباقي يرفعون أيديهم ويؤمنون على دعائه، وتكون القراءة بعدد معين مرة أو أكثر. فهل جاء في القرآن أو السُنة ما يؤيد هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بأصحابه ويقرأ القرآن في مجالسه عليه الصلاة والسلام، ويذكر أصحابه ويعلمهم ويوجههم إلى الخير، عليه الصلاة والسلام، وربما مر بالسجدة في القرآن فيسجد ويسجدون معه، وربما أمر بعض أصحابه أن يقرأ وهو يستمع، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم: (يا عبد الله اقرأ علي القرآن) ، فقال: يا رسول الله، كيف أقرأ عليك وعليك أًُنزل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أحب أن أسمعه من غيري) عليه الصلاة والسلام، قال: عبد الله، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) النساء/41، قال: (حسبك) قال عبد الله: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان. عليه الصلاة والسلام، يعني: يبكي لما تذكر هذا الموقف العظيم يوم القيامة، عليه الصلاة والسلام.
فإذا اجتمع الإخوان في مجلس، أو في أي مكان، وقرؤوا ما تيسر من القرآن وتدبروا وتعقلوا وتذكروا فهذا خير عظيم، وفيه فضل كبير، ويستحب لمن يسمع القرآن أن ينصت، حتى يستفيد ويتدبر، وإذا دعوا بعد القراءة بما شاءوا من الدعاء فلا حرج في ذلك.
لكن كونهم يعتادون تكرار يس أو غيرها عدداً معيناً فهذا ما لا نعلم له أصلاً، ولكن يقرءون ما تيسر من يس أو من البقرة أو من غير ذلك، أو يتدارسون من أول القرآن إلى آخره، وهذا يقرأ ثم يقرأ الآخر وهكذا، أو يقرأ هذا ثم يعيد القراءة هذا، حتى يستفيدوا جميعاً ويتدبروا.
أما تخصيص عدد معين من السور فهذا ما لا أعلم له أصلاً، وكذلك رفع الأيدي لا أعلم أنه وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اجتماعاته مع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالأولى أن يكون الدعاء بما تيسر من غير رفع أيد، ومن غير دعاء جماعي، بل كل يدعو لنفسه بينه وبين نفسه، هذا هو الذي نعلمه من السُنة، ولكن ينبغي على كل جالس التدبر والتعقل، وأن تكون القراءة مقصودة ليس لمجرد القراءة فقط.
ولكن يعتني المؤمن بما يقرأ وبما يسمع ويتدبر؛ لقوله عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ص/29، فالمقصود من القراءة: التدبر والتعقل والعمل والفائدة، نسأل الله التوفيق والهداية" انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
"فتاوى نور على الدرب" لابن باز (1/66، 67) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/237)
فضل سورة " الجمعة "
[السُّؤَالُ]
ـ[هل لسورة الجمعة أهمية خاصة؟ وهل يستحب قراءتها يوم الجمعة كسورة الكهف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يصح في فضائل سورة الجمعة شيء مخصوص، إنما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في صلاة الجمعة في الركعة الأولى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ) رواه مسلم (879) .
جاء في كتاب " الصحيح والسقيم من فضائل القرآن الكريم " لآمال سعدي (ص/81) : " لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل سورة الجمعة شيء، وقد وردت في فضلها روايات ضعيفة وموضوعة، منها: (من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها من أمصار المسلمين) – رواه الثعلبي في "الكشف والبيان" (9/305) من طريق أبي عصمة نوح بن أبي مريم الكذاب الوضاع المشهور، ولذلك قال المناوي في "الفتح السماوي": موضوع - " انتهى.
ولكن سورة الجمعة من سور " المفصل " التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل بها على سائر الكتب والأنبياء، فعنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ) رواه أحمد (4/107) ، صححه الألباني في "بداية السول" (ص/59) ، وقال محققو المسند بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/238)
متى وقت قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
[السُّؤَالُ]
ـ[وفقا للسنة , ما هو الوقت الصحيح لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟ هل نقرأها من بعد الفجر إلى ما قبل صلاة الجمعة , أم في أي وقت من ذلك اليوم؟ وأيضا , هل قراءة سورة آل عمران يوم الجمعة من السنة؟ وإذا كان الجواب بنعم , فمتى نقرأها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد في فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلتها أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
أ. عن أبي سعيد الخدري قال: " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق ". رواه الدارمي (3407) . والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (6471) .
ب. " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ".
رواه الحاكم (2 / 399) والبيهقي (3 / 249) . والحديث: قال ابن حجر في " تخريج الأذكار ": حديث حسن، وقال: وهو أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف.
انظر: " فيض القدير " (6 / 198) .
وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (6470) .
ج. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين ".
قال المنذري: رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد لا بأس به.
" الترغيب والترهيب " (1 / 298) .
وتقرأ السورة في ليلة الجمعة أو في يومها، وتبدأ ليلة الجمعة من غروب شمس يوم الخميس، وينتهي يوم الجمعة بغروب الشمس، وعليه: فيكون وقت قراءتها من غروب شمس يوم الخميس إلى غروب شمس يوم الجمعة.
قال المناوي:
قال الحافظ ابن حجر في " أماليه ": كذا وقع في روايات " يوم الجمعة " وفي روايات " ليلة الجمعة "، ويجمع بأن المراد اليوم بليلته والليلة بيومها.
" فيض القدير " (6 / 199) .
وقال المناوي أيضاً:
فيندب قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه.
" فيض القدير " (6 / 198) .
ولم ترد أحاديث صحيحة في قراءة سورة " آل عمران " يوم الجمعة، وكل ما ورد في ذلك، فهو ضعيف جدّاً أو موضوع.
عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس ".
رواه الطبراني في " المعجم الأوسط " (6 / 191) ، و" الكبير " (11 / 48) .
والحديث: ضعيف جدّاً أو موضوع.
قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط " و " الكبير "، وفيه طلحة بن زيد الرقي وهو ضعيف [جدّاً] .
" مجمع الزوائد " (2 / 168) .
وقال ابن حجر: طلحة ضعيف جداً ونسبه أحمد وأبو داود إلى الوضع.
انظر: " فيض القدير " (6 / 199) .
وقال الشيخ الألباني: موضوع، انظر حديث رقم: (5759) في " ضعيف الجامع ".
ومنها ما رواه التيمي في " الترغيب: " من قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة كان له من الأجر كما بين البيداء أي الأرض السابعة وعروباً أي السماء السابعة ".
قال المناوي: وهو غريب ضعيف جداً. " فيض القدير " (6 / 199) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/239)
إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في سور الإسراء والكهف ومريم: (إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد روى البخاري في صحيحه (4994) بسنده عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قال: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي " بَنِى إِسْرَائِيلَ " و " الْكَهْفِ " وَ " مَرْيَمَ " وَ " طَهَ " وَ " الأَنْبِيَاءِ ": (إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي) .
ولعل أقدم ما وردنا من تفسيره ما قاله الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه " فضائل القرآن " (حديث رقم/385) ، حيث قال بعد روايته له:
" قوله: " من تلادي ": يعني: من قديم ما أخذت من القرآن، وذلك أن هذه السور نزلت بمكة " انتهى.
ويستدل العلماء بهذا الأثر عن ابن مسعود على أن ترتيب السور في مصحف عثمان رضي الله عنه ترتيب توقيفي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحافظ ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (1/49) :
" انفرد البخاري بإخراجه، والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور في مصحف ابن مسعود كالمصاحف العثمانية.
وقوله: (من العتاق الأول) أي: من قديم ما نزل.
وقوله: (وهن من تلادى) أي: من قديم ما قنيت وحفظت.
والتالد في لغتهم: قديم المال والمتاع، والطارف: حديثه وجديده " انتهى.
وانظر "البرهان في علوم القرآن" (1/257) .
وسئلت "اللجنة الدائمة " (المجموعة الثانية 3/128) السؤال الآتي:
" ما صحة هذا الحديث، قال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل، والكهف، وطه، ومريم، والأنبياء: (هن من العتاق الأول، وهن من تلادي) .
فأجابت: " الحديث المذكور رواه الإمام البخاري موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، يعني: أنهن من السور المتقدمات في النزول. وقوله: (من تلادي) أي: أنهن مما أحفظه من قديم " انتهى باختصار.
وانظر جواب السؤال رقم: (90186) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/240)
أجر قراءة ترجمة القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[بالإشارة إلى السؤال رقم 2237 "قراءة سورة يس جماعياً ليلة الجمعة". وأشير إلى الحديث الذي ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لا أَقُولُ ألم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ. " واستفسر عما إذا كان هذا الحديث يصدق على من يقرأ القرآن بلغة أخرى (أي ترجمة إنكليزية) لكي يفهم ما يقرأ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله أن يثيبك أيها السائل على حرصك، وبالنسبة لما سألت عنه فإن الأجر المذكور في هذا الحديث إنما يحصل لمن قرأ القرآن كما هو بحروفه العربية، ولا يحصل لمن قرأ ترجمة معانيه بأي لغة من اللغات، ولكن إذا قرأ ترجمة معاني القرآن من باب تدبر معانيه والانتفاع بما تضمنته الآيات فإنه يؤجر ويثاب على ذلك، وأجره على الله، لأنّ المسلم يُؤجر على قراءة التّفسير، والترجمة تفسير، وليس هناك ما يدل على أنه يحصل له الأجر المذكور في الحديث، وفضل الله واسع، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/241)
القرآن الكريم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو القرآن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن الكريم هو كلام رب العالمين أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور: (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور) الحديد/9.
وقد بين الله في القرآن الكريم أخبار الأولين والآخرين وخلق السماوات والأرضين وفصل فيه الحلال والحرام وأصول الآداب والأخلاق وأحكام العبادات والمعاملات وسيرة الأنبياء والصالحين وجزاء المؤمنين والكافرين ووصف الجنة دار المؤمنين ووصف النار دار الكافرين وجعله تبياناً لكل شيء: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل/89.
وفي القرآن الكريم بيان لأسماء الله وصفاته ومخلوقاته والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة/285.
وفي القرآن الكريم بيان لأحوال يوم الدين وما بعد الموت من البعث والحشر والعرض والحساب ووصف الحوض والصراط والميزان والنعيم والعذاب وجمع الناس لذلك اليوم العظيم: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثاً) النساء/87.
وفي القرآن الكريم دعوة إلى النظر والتفكر في الآيات الكونية والآيات القرآنية: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) يونس/101. وقال سبحانه: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد/24.
والقرآن الكريم كتاب الله إلى الناس كافة: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل) الزمر/41.
والقرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب كالتوراة والإنجيل ومهيمن عليها كما قال سبحانه وتعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) المائدة/48.
وبعد نزول القرآن أصبح هو كتاب البشرية إلى أن تقوم الساعة فمن لم يؤمن به فهو كافر يعاقب بالعذاب يوم القيامة كما قال سبحانه: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) الأنعام/49.
ولعظمة القرآن وما فيه من الآيات والمعجزات والأمثال والعبر إلى جانب الفصاحة وروعة البيان قال الله عنه: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) الحشر/21.
وقد تحدى الله الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو آية من مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) الإسراء/88.
ولما كان القرآن الكريم أعظم الكتب السماوية، وأتمها وأكملها وآخرها، أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإبلاغه للناس كافة بقوله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) المائدة/67.
ولأهمية هذا الكتاب وحاجة الأمة إليه فقد أكرمنا الله به فأنزله علينا وتكفل بحفظه لنا فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر/9.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.(3/242)
ثواب حفظ القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو ثوابي عند حفظ القرآن؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن من حفظ القرآن وعمل بما فيه، أثابه الله على ذلك ثوابا عظيما، وأكرمه إكراما بالغا، حتى إنه ليرتقي في درجات الجنة على قدر ما يقرأ ويرتل من كتاب الله.
فقد روى الترمذي (2914) وأبو داود (1464) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها " والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/281) برقم 2240، وقال بعده:
(واعلم أن المراد بقوله: " صاحب القرآن " حافظه عن ظهر قلب على حد قوله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. . أي أحفظهم، فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذ واستكثاره منها كما توهم بعضهم، ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: أكثر منافقي أمتي قراؤها) انتهى.
وجاء في فضل حافظ القرآن: ما رواه البخاري (4937) عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران ".
وحافظ القرآن يسهل عليه أن يقوم الليل به، فيشفع فيه القرآن يوم القيامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه يقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " رواه أحمد والطبراني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 3882
والله أعلم.
ينبه هنا على حديث ضعيف ورد في فضل حفظ القرآن وهو: (لحامل القرآن إذا عمل به فأحل حلاله وحرم حرامه يشفع في عشرة من أهل بيته يوم القيامة كلهم قد وجبت له النار) رواه البيهقي في الشعب عن جابر، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/243)
هل ورد في فضل سورة "طه" حديث صحيح؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أود الاستفسار عن فضل قراءة سورة طه، وأيضا عن فضل قراءتها كل ليلة ثلاث مرات متواصلة لفترة معينة؟ ولكم جزيل الشكر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لِلَّه
أولا:
صح في فضائل سورة (طه) الأحاديث الآتية:
1- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال في بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطه وَالْأَنْبِيَاءُ: (هُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي)
رواه البخاري (4994)
قال البيهقي في "شعب الإيمان" (2/476) :
" (العِتاق) : جمع عتيق، والعرب تجعل كل شيء بلغ الغاية في الجودة عتيقا، يريد تفضيل هذه السور لما تضمنت من ذكر القصص وأخبار الأنبياء عليهم الصلاة السلام وأخبار الأمم، و (التِّلاد) : ما كان قديما من المال، يريد أنها من أوائل السور المنزلة في أول الإسلام لأنها مكية، وأنها من أول ما قرأه وحفظه من القرآن " انتهى.
ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/388) :
" (مِنَ العِتَاقِ) جمع عتيق وهو القديم، أو هو كل ما بلغ الغاية في الجودة، وبالثاني جزم جماعة في هذا الحديث، وقوله (هُنَّ مِن تِلَادِي) أي: مما حفظ قديما، والتلاد قديم الملك، وهو بخلاف الطارف، ومراد ابن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن، وأن لهن فضلا لما فيهن من القصص وأخبار الأنبياء والأمم " انتهى.
2- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(اسْمُ اللَّهِ الأَعظَمُ فِي سُوَرٍ مِنَ القُرآنِ ثَلَاثٍ: فِي " البَقَرَةِ " وَ " آلِ عِمرَانَ " وَ " طَهَ ")
رواه ابن ماجه (3856) والحاكم (1/686) وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (746) وقال رحمه الله:
" قول القاسم بن عبد الرحمن (الراوي عن أبي أمامة) أن الاسم الأعظم في آية (وعنت الوجوه للحي القيوم) من سورة (طه) لم أجد في المرفوع ما يؤيده، فالأقرب عندي أنه في قوله في أول السورة (إني أنا الله لا إله إلا أنا..) فإنه الموافق لبعض الأحاديث الصحيحة، فانظر "الفتح" (11/225) ، و "صحيح أبي داود" (1341) " انتهى.
ثانيا:
جاء في فضائل سورة طه أحاديث ضعيفة واهية، أذكرها هنا للتنبيه عليها، ولتحذير الناس منها:
1- عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله تبارك وتعالى قرأ " طه " و " يس " قبل أن يخلق السماوات والأرض بألف عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل هذا عليها، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا)
رواه الدارمي (2/547) وقال المحقق: إسناده ضعيف جدا، عمر بن حفص بن ذكوان قال أحمد: تركنا حديثه وحرقناه. وفي "المعجم الأوسط" (5/133) ، وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/208) : هذا متن موضوع. وكذا قال ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/110) ، وقال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (5/271) : فيه نكارة. وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1248) : منكر. وانظر "الكامل" (1/216) ، و "لسان الميزان" (1/114)
2- عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(اعملوا بالقرآن، أحِلُّوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي الأمر من بعدي كَيْمَا يخبروكم، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتي النبيون من ربهم، ولْيَسَعكم القرآن وما فيه من البيان؛ فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، ألا ولكل آية نور يوم القيامة، وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت " طه " و " طواسين " و " الحواميم " من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش)
رواه الحاكم في "المستدرك" (1/757) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والطبراني في "المعجم الكبير" (20/225) وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2826) وابن حبان في "المجروحين" (2/65)
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه:
(يا رب " طه " و " يس " ويا رب القرآن العظيم)
قال ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (5/173-174) :
" لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى.
4- (من قرأ " طه " أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار)
ذكره الزمخشري والبيضاوي في فضائل سورة طه، وهو من الأحاديث الموضوعة.
انظر "الكشف الإلهي" للطرابلسي (1/178)
وأما ما سألت عنه من فضل قراءتها كل ليلة ثلاث مرات فلم أجده في كتب السنة، بل لم أجده حتى في كتب الموضوعات، ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي التنبه والحذر، والحرص على العمل بالصحيح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ونبذ الضعيف والموضوع.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/244)
عزمت على حفظ القرآن وقيل لها تعلمي التجويد أولا
[السُّؤَالُ]
ـ[قررت أن أحفظ القرآن الكريم، إن شاء الله، وبالفعل، حفظت جزءا ونصف جزء، لكن قال لي زوجي: إنه يجب علي أن أحفظ أحكام التجويد، ثم أحفظ القرآن؛ فهل من الخطأ أن أحفظ القرآن ـ أولا ـ ثم أتعلم أحكام التجويد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حفظ القرآن الكريم نعمة من أَجَلِّ النعم، لأنها حفظ لكلام الله تعالى الذي أنزله هدى للناس وشفاء لما في الصدور، وقرارك هذا قرار موفق، نسأل الله أن يعينك على تحقيق ما أردت من الخير.
وتعلم أحكام التجويد أمر مهم، يترتب عليه تصحيح النطق بالحروف، وتزيين الأداء، وتحسين القراءة، والسلامة من اللحن، لكن لا نرى أن تتوقفي عن الحفظ، بل اجمعي بين الأمرين، واهتمي بقراءة ما تريدين حفظه أولا قراءة صحيحة، والأفضل أن تكون بالتلقي عن إحدى المجوّدات للقرآن، فإن لم يتيسر فبالاستعانة بالأشرطة المسجلة، وبرامج تحفيظ القرآن وتعليمه على الكمبيوتر، وفيها تعليم للتجويد أيضا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجه أصحابه رضي الله عنهم إلى تعلم التجويد قبل القراءة والحفظ، لكن وجههم إلى أخذ القرآن عن المتقنين كأبي بن كعب رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنه وغيرهما، وهذا جمع بين القراءة والحفظ وتعلم التجويد.
ولم تزل عادة الناس في الحفظ هكذا، يبدأون بحفظ القرآن أولا، مع الاهتمام بالنطق الصحيح لحروفه، ومعرفة تشكيله الصحيح، ثم بعد إتمام حفظه، أو قطع شوط طيب فيه، تكون العناية بما عدا ذلك من أحكام التجويد، ودقائق ذلك.
والله أعلم.
وراجعي في فضل حفظ القرآن وشرف الحافظ، الأسئلة: (14035) ، (20803) ، (11561) ، وفيما يتعلق بالتجويد: (67586) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/245)
حديث لا أصل له يُروَى في فضائل بعض سور القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مدى صحة هذا الحديث؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عشرة تمنع عشرة) : سورة الفاتحة تمنع غضب الله. سورة يس تمنع عطش يوم القيامة. سورة الواقعة تمنع الفقر. سورة الدخان تمنع أهوال يوم القيامة. سورة الملك تمنع عذاب القبر. سورة الكوثر تمنع الخصومة. سورة الكافرون تمنع الكفر عند الموت. سورة الإخلاص تمنع النفاق. سورة الفلق تمنع الحسد. سورة الناس تمنع الوسواس) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
باب فضائل القرآن الكريم من أكثر الأبواب التي وضع فيها الوضاعون أحاديثهم، ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثير منهم يحتسب ذلك عند الله، ويظن – لفرط جهله – أنه إنما يرغب الناس بكتاب الله تعالى، وهو في الحقيقة يرتكس في وعيد النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ) رواه البخاري (1291) ومسلم (933) .
ومن أمثلة ذلك: ما رواه الحاكم في "المدخل" (54) بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حِسبة.
(يعني أنه يبتغي بها الثواب عند الله) .
وقد اتفق العلماء على حرمة رواية الحديث الموضوع ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (مَن حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبَِيْن) رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
قال النووي رحمه الله "شرح مسلم" (1/71) :
" يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا، أو غلب على ظنه وضعه، فمن روى حديثا علم أو ظن وضعه، ولم يبين حال روايته وضعه، فهو داخل في هذا الوعيد، مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى.
ثانياً:
أما الحديث المذكور في السؤال، فلم نجده في شيء من الكتب، لا الصحيحة ولا الموضوعة، بعد البحث الشديد عنه، فيبدو أنه لا أصل له البتة، وذلك مما يعجب له المسلم، أن وضع الحديث لا زال مستمرا إلى أيامنا هذه، وأن الأحاديث الموضوعة في تكاثر مستمر، والله المستعان.
وبعض السور المذكورة في هذا الحديث لم يصح شيء من فضائلها، وهي:
سورة يس والدخان والواقعة والكوثر.
انظر: "تدريب الراوي" (2/372) ، وكتاب "الصحيح والسقيم في فضائل القرآن الكريم" وراجع جواب السؤال رقم (6460) .
أما الفاتحة: فقد جاء في فضائلها أحاديث كثيرة، ليس في شيء منها أنها تمنع غضب الله.
وأما سورة الملك: فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ سُورَةً مِنَ القُرآنِ، ثَلَاثُونَ آيَةً، شَفَعَت لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلكُ) رواه الترمذي (2891) وقال: حديث حسن، وصححه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (22/277) ، وابن الملقن في "البدر المنير" (3/561) ، وقال ابن حجر "التلخيص الحبير" (1/382) : أعله البخاري وله شاهد بإسناد صحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وانظر جواب السؤال رقم (26240) .
وأما سورة الكافرون: فالذي صح في فضلها، ما جاء عن نوفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنها: (إِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّركِ) رواه أبو داود (5055) وصححه ابن حجر في "تغليق التعليق" (4/408) والألباني في صحيح أبي داود.
وسورة الإخلاص أيضا لم يأت في فضلها أنها تمنع النفاق.
والمعوذتان تمنعان من الشيطان والعين والحسد وسائر الشرور، فقد جاء عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تَعَوَّذ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثلِهِمَا) رواه أبو داود (1463) وصححه الألباني في صحيح أبي دواد.
الخلاصة: أن هذا الحديث مكذوب لا أصل له.
وقد حكم عليه الشيخ ابن عثيمين بالكذب في المجموعة الرابعة من خطب الجمعة، في خطبة مسجلة بعنوان (مسؤوليات الإمام والمأموم في الصلاة، بعض المكذوبات عن الله تعالى ورسوله) ، وهي مطبوعة في موقعه رحمه الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/246)
يكافئ صديقه ويشجعه على حفظ القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي صديق أكافئه لتشجيعه على حفظ القرآن سؤالي هو: هل لي ثواب في ذلك؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حفظ القرآن قربة من أعظم القربات، لما فيها من قراءة كلام الله، وترديده، والانشغال به، ومعلوم أن قراءة حرف من كتاب الله بعشر حسنات، كما روى الترمذي (2910) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ) . وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
وروى مسلم (804) عن أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ.
وروى الترمذي (2914) وأبو داود (1464) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/281) برقم 2240، وقال بعده:
" واعلم أن المراد بقوله: (صاحب القرآن) حافظه عن ظهر قلب، على حد قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) . أي: أحفظهم، فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذ واستكثاره منها كما توهم بعضهم، ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) " انتهى.
ثانيا:
من أعان على حفظ القرآن، وشجع عليه بالمكافأة وغيرها، فهو على خير عظيم، ويرجى له ثواب مثل ثواب الحافظ والقارئ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) رواه مسلم (2674)
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ) رواه مسلم (1893) .
وعند الترمذي (2670) : (إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
فنسأل الله تعالى أن يثيبك ويوفقك، ويوفقك صاحبك إلى حفظ كتابه الكريم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/247)
فضل سورة (يس)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك أحاديث صحيحة في فضل قراءة سورة (يس) ؟ البعض يقول: إنها لِمَا قُرِأت له؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
سورة (يس) من سور القرآن المكية العظيمة، عدد آياتها ثلاث وثمانون آية، فواصلها القصيرة لها وقع قوي في النفوس المؤمنة، موضوعاتها الرئيسية هي موضوعات السور المكية، تحدثت عن توحيد الألوهية والربوبية وعاقبة المكذبين بهما، والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور.
ثانياً:
قد وردت عدة أحاديث في فضائل هذه السورة، أكثرها مكذوبة موضوعة، وبعضها ضعيف ضعفا يسيرا، ولم نقف على حديث صحيح مخصوص في فضل سورة (يس) .
فمما ورد من فضائلها ويضعفه أهل العلم بالحديث – وإنما نسوقه هنا للتنبيه عليه -:
(إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن (يس) ، من قرأها فكأنما قرأ القرآن عشر مرات)
(من قرأ سورة (يس) في ليلة أصبح مغفورا له)
(من داوم على قراءتها كل ليلة ثم مات مات شهيدا)
(من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) ، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات)
انظر "الموضوعات" لابن الجوزي (2/313) ، "الفوائد المجموعة" للشوكاني (942،979) ، وانظر للأهمية رسالة: " حديث قلب القرآن يس في الميزان، وجملة مما روي في فضائلها " لفضيلة الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، حفظه الله.
ويراجع في موقعنا سؤال رقم (654) (6460)
ثالثا:
ومما يرويه الناس حديث (يس لما قرئت له) ، ويعنون به أن قراءة سورة (يس) يحصل معها قضاء الحوائج وتسهيل الأمور التي ينويها القارئ بقراءته.
والواجب التنبيه على بطلان نسبة هذا الكلام إلى السنة النبوية، أو إلى أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة، فلم يأت عن أحد منهم مثل هذا التقرير، بل ينبهون على بطلان ذلك.
يقول السخاوي رحمه الله عن هذا الحديث:
" لا أصل له بهذا اللفظ " انتهى. "المقاصد الحسنة" (741) ، وقال القاضي زكريا في حاشية البيضاوي: موضوع. كما في "كشف الخفاء" (2/2215)
ومثله في كتاب "الشذرة في الأحاديث المشتهرة" لابن طولون الصالحي (2/1158) وفي "الأسرار المرفوعة" للقاري (619) وغيرها. وانظر رسالة الشيخ محمد عمرو المشار إليها: " حديث قلب القرآن يس.. " ص 80 هـ 1.
ولا يجوز لأحد أن ينسب هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أن يتحدث به في مجالس الناس، ومن يزعم أن التجربة تدل على صحة هذا الحديث، يقال له: والتجربة وقعت من كثير ممن قرأ (يس) لقضاء حاجته فلم يقضها الله له، فلماذا نأخذ بتجربتك ولا نأخذ بتجربة غيرك!؟
وما ينقله الإمام ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (3/742) عن بعض أهل العلم: " أنَّ مِن خصائص هذه السورة أنها لا تُقرَأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى " انتهى.
فهو اجتهاد منهم ليس عليه دليل من الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة والتابعين، ومثل هذا الاجتهاد لا يجوز نسبته إلى الله تعالى ورسوله، إنما ينسب مثل هذا إلى قائله؛ بحيث يكون صوابه له وخطؤه عليه، ولا يجوز أن ينسب إلى كتاب الله تعالى أو سنة رسوله ما نتيقن أنه منه. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
على أننا ننبه هنا إلى أن كثيرا ممن تقضى له الحاجات عند دعائه، أو قراءته لمثل ذلك، إنما تقضى له لأجل ما قام بقلبه من الاضطرار والفقر إلى ربه، وصدق اللجوء إليه، لا لأجل ما قرأه من دعاء، أو دعا عنده من قبر أو نحو ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطرا اضطرارا لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا، ولو استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب على ذلك ويهوي في النار، إذا لم يعف الله عنه ... "
ثم يقول: " ومن هنا يغلط كثير من الناس؛ فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء، ووجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء، فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سُنّة، كأنه قد فعله نبي؛ وهذا غلط لما ذكرناه، خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل، ثم تفعله الأتباع صورة لا صدقا، فيُضَرون به؛ لأنه ليس العمل مشروعا فيكونَ لهم ثواب المتبعين، ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل، الذي لعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل ".
انتهى من اقتضاء الصراط المستقيم (2/698، 700)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/248)
فضل قراءة بعض آيات القرآن الكريم قُبَيل النوم
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم " فيما معناه ": (أن من قرأ عشر آيات من القرآن في ليلة قبل أن ينام لم يكتب من الغافلين)
هل هذا الحديث صحيح؟ وإن كان صحيحا، فهل يصح أن أقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين حفظاً، وبهذا أكون قد قرأت وَرْدِي، وقرأت أكثر من عشر آيات؟ أم إنه يجب أن تكون العشر آيات تلاوة من المصحف؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
نص الحديث الذي يقصده السائل الكريم هو:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيلَةٍ لَم يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ) رواه الحاكم في المستدرك (1/742) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2/81) .
وقد جاء أيضا من قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: من قرأ في ليلة بعشر آيات لم يكتب من الغافلين. وورد نحوه أيضا عن تميم الداري رضي الله عنه. رواهما الدارمي في مسنده (2/554-555) .
ثانيا:
هل المقصود بالحديث أن يقرأ هذه الآيات في صلاته بالليل، أو تحصل هذه الفضيلة بمجرد قراءة هذه الآيات في الليل، سواء كانت في الصلاة أو في غير الصلاة؟
فيه احتمال؛ ويؤيد الأول رواية أبي داود (1398) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ) صححه الألباني في صحيح أبي داود (1264) .
قال في عون المعبود: " والمراد هنا في قيام الليل ". ولذلك روى ابن حبان الحديث السابق في أبواب قيام الليل من صحيحه (4/120) وترجم عليه: (ذكر نفي الغفلة عمن قام الليل بعشر آيات ... ) .
ويشهد له أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتي آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين) رواه الحاكم (1/452) ، وصححه على شرط مسلم. لكن مال الألباني إلى ضعفه، كما في الصحيحة (2/243) ، وضعيف الترغيب (1/190) .
وفي رواية ابن خزيمة (2/180) : (من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين أو لم يكتب من القانتين..)
قال الألباني في الصحيحة (643) : إسناده صحيح على شرط الشيخين.
فاقتران القراءة بذكر الصلاة المكتوبة مما يشعر بأن المراد بها القراءة في الصلاة، يعني: صلاة الليل.
ولأجل ذلك روى ابن خزيمة حديث أبي هريرة في باب: (باب ذكر فضيلة قراءة مائة آية في صلاة الليل إذ قارئ مائة آية في ليلة لا يكتب من الغافلين) ، ورواه أيضا محمد بن نصر المروزي في كتابه قيام الليل (164ـ مختصره) في سياق الأبواب المتعلقة بالقراءة في صلاة الليل.
ويحتمل أن تحصل هذه الفضيلة لمن قرأ هذا القدر من الآيات في الليل مطلقا، سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة، قبل نومه، أو بعد استيقاظه، إذا استيقظ من الليل.
وبهذا الإطلاق أخذ كثير من أهل العلم في تخريج الحديث في مصنفاتهم؛ فقد بوب عليه الدارمي رحمه الله (2/554) بقوله: (باب فضل من قرأ عشر آيات)
وبوب الحاكم في المستدرك (1/738) بقوله: (أخبار في فضائل القرآن جملة)
كما بوب عليه المنذري في الترغيب والترهيب (2/76) بقوله: (الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وفضل تعلمه وتعليمه)
وذكره مرة أخرى تحت باب (2/116) : (الترغيب في أذكار تقال بالليل والنهار غير مختصة بالصباح والمساء)
ويقول النووي رحمه الله في كتاب "الأذكار" (1/255) :
" اعلم أن قراءة القرآن آكد الأذكار، فينبغي المداومة عليها، فلا يُخلي عنها يوماً وليلة، ويحصل له أصلُ القراءة بقراءة الآيات القليلة.. (ثم ذكر أحاديث منها حديث أبي هريرة السابق) " انتهى.
فيرجى لمن قرأ عشر آيات في ليلته ألا يكتب من الغافلين، سواء قرأ ذلك في صلاته بالليل، أو خارج الصلاة، وفضل الله عز وجل واسع.
وفي صحيح مسلم (789) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (.. وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ) .
فظاهر الحديث أن المراد بالقيام هنا أعم من مجرد القيام به في الصلاة. قال المناوي رحمه الله: " أي تعهد تلاوته ليلاً ونهاراً فلم يغفل عنه ... وفيه ندب إدامة تلاوة القرآن ... بأن لم يخص بوقت أو محل ". انتهى مختصرا.
ثالثا:
قد جاء في السنة الندب إلى قراءة بعض الآيات إذا أوى المسلم إلى فراشه.
ومن خصوص السور والآيات التي جاء الندب إلى قراءتها ما يلي:
1- آية الكرسي.
جاء في صحيح البخاري معلقا (2311) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(وكَّلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام. . وذكر الحديث وقال في آخره: (إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأ آيةَ الكرسي، فإنه لن يزالَ معكَ من الله تعالى حافظ، ولا يقربَك شيطانٌ حتى تُصْبِحَ. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيطانٌ)
2- آخر آيتين من سورة البقرة.
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن قَرَأَ بِالآيَتَينِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيلَةٍ كَفَتَاهُ) رواه البخاري (5009) ومسلم (2714) قال ابن القيم في "الوابل الصيب" (132) : كفتاه من شر ما يؤذيه.
عن عليّ رضي الله عنه قال:
(ما كنتُ أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الثلاث الأواخر من سورة البقرة)
عزاه النووي في الأذكار (220) لرواية أبي بكر بن أبي داود ثم قال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
4،3- سورتي الإسراء والزمر
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
(كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لا يَنَامُ حَتَّى يَقرَأَ بَنِي إِسرَائِيلَ وَالزُّمَر)
رواه الترمذي (3402) وقال: حديث حسن. وحسّنه الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/65) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
5- سورة الكافرون:
عن نوفل الأشجعي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اقْرأ: قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ ثُمَّ نَمْ على خاتِمَتِها فإنَّها بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ "
رواه أبو داود (5055) والترمذي (3400) وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/61) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
8،7،6- الإخلاص والمعوذتين:
عن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيلَةٍ جَمَعَ كَفَّيهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ) و (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، ثُمَّ يَمسَحُ بِهِمَا مَا استَطَاعَ مِن جَسَدِهِ، يَبدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأسِهِ وَوَجهِهِ وَمَا أَقبَلَ مِن جَسَدِهِ، يَفعَلُُ ذَلكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) رواه البخاري (5017)
وعن إبراهيم النخعي قال:
(كانوا يستحبّون أن يقرؤوا هؤلاء السور في كلّ ليلة ثلاثَ مرات: (قل هو الله أحد) والمعوّذتين) قال النووي في الأذكار (221) : إسناده صحيح على شرط مسلم.
رابعا:
يقول النووي رحمه الله في "الأذكار" (221) :
" الأولى أن يأتيَ الإِنسانُ بجميع المذكور في هذا الباب، فإن لم يتمكن اقتصرَ على ما يقدرُ عليه من أهمّه " انتهى.
ولا يشترط أن تكون القراءة من المصحف، فيكفي أن يقرأ المسلم ما تيسر له مما سبق من حفظه، والله سبحانه وتعالى يكتب له ما وعده به.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/249)
ما هي السورة التي تعدل نصف القرآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي السورة التي تعدل نصف القران؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء في فضل بعض سور القرآن الكريم أحاديث كثيرة، منها الصحيح، وكثير منها ضعيف أو منكر، ومن ذلك ما جاء في فضل سورة الزلزلة أنها تعدل نصف القرآن، فقد ورد ذلك في أحاديث منكرة، وهي:
الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذَا زُلْزِلَت تَعدِلُ نِصفَ القُرْآَنِ) رواه الترمذي (2894) والحاكم (1/754)
وفي سنده يمان بن المغيرة العنزي، قال فيه البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، يروي المناكير التي لا أصول لها فاستحق الترك. انظر "تهذيب التهذيب (4/452) "
وقد تفرد يمان بهذا الحديث، دون جميع أصحاب عطاء، ومثله لا يحتمل منه التفرد، بل تفرده منكر، والله أعلم.
وكلمة جماهير أهل العلم على تضعيف الحديث بسبب يمان بن المغيرة، خلافا لمن صححه من أهل العلم. فقد ضعفه الترمذي حيث قال بعد أن أخرجه: غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة، وضعفه ابن عبد البر في "التمهيد") بقوله: هو من أحاديث الشيوخ وليس من أحاديث الأئمة، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (8/687) ، والذهبي في تلخيص المستدرك، والمناوي في "فيض القدير" (1/367) ، والشوكاني في الفتح الرباني (12/5930) ، وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1342) : منكر.
الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَن قَرَأَ إِذَا زُلزِلَتْ عُدِلَت لَهُ بِنِصفِ القُرْآنِ) رواه الترمذي (2893)
وفي سنده الحسن بن سالم العجلي، قال المزي: هو شيخ مجهول له حديث واحد، وقال العقيلي: مجهول في النقل، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات.
انظر "تهذيب التهذيب" (1/396)
وقد اتفقت كلمة أهل العلم على تضعيف هذا الحديث أيضا، فقد ضعفه الترمذي بقوله بعد إخراجه: غريب، والعقيلي بقوله: "غير محفوظ" كما في "تهذيب التهذيب" (1/396) ، وابن حبان في "المجروحين" (1/279) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/497) ، وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/523) : منكر، وكذا قال الألباني في "الضعيفة" (1342)
الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قَرَأَ إِذَا زُلزِلَتْ فِي لَيلَةٍ كَانَت لَهُ بِعَدل ِنِصفِ القُرْآنِ) رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (691)
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله "السلسلة الضعيفة" (1342) :: " أخرجه أبو أمية الطرسوسي في مسند أبي هريرة (2/195) ، وإسناده ضعيف جدا، فيه عيسى بن ميمون المدني، ضعفه الجماعة، وقال أبو حاتم وغيره: متروك الحديث " انتهى.
وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (3/268) : " في إسناده راو شديد الضعف " انتهى.
فيتبين بما سبق أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في كون سورة الزلزلة تعدل نصف القرآن، ولكن يبدو أن بعض الأئمة من السلف كان يأخذ بهذه الأحاديث، ويذهب في اجتهاده إلى أن ما في سورة الزلزلة من المعاني العظيمة تعدل نصف المقاصد التي جاء القرآن الكريم لتحقيقها.
جاء في "مصنف عبد الرزاق" (3/372) : عن معمر قال:
(سمعت رجلا يحدث أن إذا زلزلت تعدل شطر القرآن)
وعن جعفر عن هشام بن مسلم قال: سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول:
(إذا زلزلت الأرض نصف القرآن) .
وروى أبو عبيد عن الحسن البصري مرسلا:
(إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، والعاديات تعدل نصف القرآن)
انظر "الإتقان" للسيوطي (2/413)
وجاء عن عاصم بن أبي النجود الإمام المقرئ قوله:
(كان يقال: من قرأ إذا زلزلت فكأنما قرأ نصف القرآن)
قال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (3/270) : رجاله ثقات.
يقول المناوي في "فيض القدير" (1/367) :
" لأن المقصود الأعظم بالذات من القرآن بيان المبدأ والمعاد، و" إذا زلزلت " مقصورة على ذكر المعاد، مستقلة ببيان أحواله، فعادلت نصفه، ذكره القاضي " انتهى.
فهو اجتهاد لبعض السلف، لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعني أبدا أنها تعدل نصف القرآن في الأجر والمثوبة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/250)
هل صح قراءة سورتي السجدة والملك بين المغرب والعشاء وفضل أيات من سورة الأنعام؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ورد شيء بخصوص قراءة سورة السجدة والملك بين المغرب والعشاء؟
وكذلك قراءة ثلاث آيات من سورة الأنعام بعد صلاة الفجر مباشرة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
قَبْلَ الإِجَابَةِ عَلَى هذا السُّؤَالِ لاَ بُدَّ مِن تَقرِيْرِ مَسْأَلَةٍ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِفَضَائِلِ السُّوَرِ.
لَقَدْ وُضِعَتْ فِي فَضَائِلِ السُّوَرِ أَحَادِيْثُ مَكْذُوْبَةٌ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِن أَشْهَرِ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ:
1- نُوْحُ بنُ أَبِي مَرْيَمَ الجَامِعُ، وَالَّذِي قِيْلَ فِيْهِ: " جَمَعَ كُلَّ شَيْء إِلاَّ الصِّدْق "، فَقَدْ أَبَاحَ – بِزَعمِهِ – الكَذِبَ فِي الحَدِيْثِ لِمَصْلَحَةِ الدِّيْنِ، فاختلق أحاديث من عنده ونسبها إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضائل سور القرآن الكريم سورةً سورةً.
قَالَ أَبُو عَمَّارٍ الحُسَيْنُ بنُ حُرَيْثٍ المَرْوَزِيُّ: قِيْل لأَبِي عِصْمَةَ –وهو نوح بن أبي مريم -: " مِنْ أَيْنَ لَكَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي فَضَائِلِ القُرْآنِ سُوْرَةً سُوْرَةً، وَلَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ هَذَا؟ "، فَقَالَ: " إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ القُرْآنِ، وَاشْتَغَلُوا بفقهِ أَبِي حَنِيْفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَوَضَعْتُ هَذَا الحَدِيْثَ حِسْبَةً " (أي: ابتغاء الأجر)
أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي " المَدْخَلِ " (ص 54) وَابْنُ الجَوْزِيِّ فِي " المَوْضُوْعَاتِ " (16) ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ.
2- وَآخَرُ اسْمُهُ مَيْسَرَةُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الفَارِسِيُّ، قَالَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الْمَجْرُوحِينَ " (2/345 رقم 1038) : " وَهُو صَاحِبُ حَدِيْثِ فَضَائِلِ القُرْآنِ الطَّوِيْلِ " مَنْ قَرَأَ كَذَا فَلَهُ كَذَا ".
وَجَاءَ فِي " لِسَانِ المِيْزَانِ " (7/198) لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجرٍ: " وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي " الضُّعَفَاءِ " عَن ابْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: قُلْتُ لِمَيْسَرَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ: " مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهَذِهِ الأَحَادِيْثِ: " مَنْ قَرَأَ كَذَا فَلَهُ كَذَا "؟ قَالَ: " وَضَعْتُهَا أُرَغِّبُ النَّاسَ َفِيْهَا ".
فهذه أمثلة لمن يجترئ ويكذب في الحديث على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصلحة يراها، خدعه بها إبليس.
وقد نَبَّه العُلَمَاءُ عِلى عَدَمِ ثُبُوتِ الأَحَادِيْثِ التي فيها سرد فَضَائِلِ جميع سور القُرْآنِ الكريم، سورةً سورةً، وَمِمَّنْ نَبَّه عِلَى ذَلِك المَوْصِلِيُّ فِي " المُغنِي عَنِ الحِفْظِ وَالكِتَابِ " (1/121) فَقَالَ: " قَدْ وَرَدَ: " مَنْ قَرَأَ كَذَا فَلَهُ أُجْرُ كَذَا ... مِنْ أَوَّلِ القُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ؛ قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: " أَظُنُّ الزّنَادقَةَ وَضَعَتْهَا ". قَالَ المُصَنِّفُ – أَي: المَوْصِلِيُّ -: " فَلم يَصِح فِي هَذَا شَيْءٌ ... ".
وَنَبَّه عِلَى ذَلِك أَيْضاً ابْنُ القيِّمِ فِي " المَنَارِ المُنِيفِ " (ص 113 – 144) ، وَالشَّيْخُ بَكْرٌ أَبُو زَيْد فِي " التَّحدِيْث بِمَا قِيْلَ: " لا يَصِحُّ فِيْهِ حَدِيْثٌ " (ص 122 – 123) وَأَضَافَ: " تَنْبِيْهٌ: فَضَائِلُ القُرْآنِ الكَرِيْمِ، وَفَضَائِلُ بَعْضِ السُّوَرِ وَالآيَاتِ مَعْلُوْمَةٌ بِنُصُوْصٍ صَحِيْحَةٍ مَرْفُوْعَةٍ إِلَى َالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُرَادُ ابْنِ المُبَارَكِ وَمَنْ بَعْدَهُ هُو تِلكُم الأَحَادِيْثُ الطِّوَالُ الَّتِي تَنْتَظِمُ سُّوَرَ القُرْآنِ سُوْرَةً سُوْرَةً؛ كَالحَدِيْثِ المَنْسُوْبِ إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَنَشْرُهُ بَعْضُ المفسِّرِيْنَ؛ مِثْلُ: الثَّعْلَبِيِّ، وَالوَاحِدِيِّ، وَالزَّمَخشرِيِّ فِي تفَاسيرِهِم، فَهَذِهِ مَوْضُوْعَةٌ، وَهِي المُرَادَةُ فِي كَلاَم ابْنِ المُبَارَكِ وَغَيْرِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ ".ا. هـ.
ثانياً:
وَأَمَّا الأَحَادِيْثُ الَّتِي سَأَلْتَ عَنْهَا فَالجَوَابُ:
تَخْرِيْجُ الحَدِيْثِ الأَوَّلِ:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ قَرَأَ: " تبَاركَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ " وَ " ألم. تنَزِيْل " السَّجْدَة، بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ الآخِرَةِ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ ".
ذَكَرَهُ السُّيوطِيُّ فِي " الدُّرِّ المنثَوْرِ " (6/535) عِنْدَ بدَايَةِ سُوْرَةِ السَّجْدَة، وَقَالَ: " وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْه عَنْ ابنِ عُمَرَ ... فَذَكَرَهُ ".
وَنَقَلَهُ الأَلُوسِي فِي " رَوِ المَعَانِي " (21/116) عَنْ السُّيوطِيِّ ثُمّ قَالَ: " وَرَوَى نَحْوَهُ هُو – أَي: السُّيوطِيّ - وَالوَاحِدِيُّ مِنْ حَدِيْثِ أُبيِّ بنِ كَعْبٍ، والثعلبي مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَعَقَب ذَلِك وَلِيُّ الدِّيْنِ قَائِلاً: " لَم أَقِف عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلِّهَا مَوْضُوْعَةٌ ".اهـ بتصرف يسير.
وَالحَدِيْثُ وَرَدَ بعدَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا المُطلَقُ مِنْ غَيْرِ تَحدِيْدٍ لِوقْتِ القِرَاءةِ، وَمِنْهَا المُقَيَّدُ بِوقْتٍ كَما فِي رِوَايَةِ ابنِ عُمَرَ، وَوَرَدَ أَيْضاً مَرْفُوْعاً وَمَوْقُوْفاً، ذَكَرَهَا الغَافِقِيُّ فِي " لََمَحَاتِ الأنْوَارِ " (1127، 1129، 1140، 1141، 1142، 1143، 1144، 1146) ، إِلاَّ رِوَايَة ابنِ عُمَرَ.
تَخْرِيْجُ الحَدِيْثِ الثَّانِي:
وَرَدَ مِنْ طَرِيْقَيْنِ:
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَرْفُوْعاً قَالَ: " مَنْ قَرَأَ إِذَا صَلَّى الغَدَاةَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُوْرَةِ الأَنْعَامِ إِلَى " وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ " [الأَنْعَامُ: 3] ، نَزَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعُوْنَ أَلْفَ مَلَك يُكْتَبُ لَه مِثلَ أَعْمَالِهِم، وَبُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَمَعَهُ مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيْدٍ، فَإِن أَوْحَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِهِ شَيْئاً مِنَ الشَّرِّ ضَرَبَهُ حَتَّى يَكُوْنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبْعُوْنَ حِجَاباً، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ قَالَ اللهُ: " أَنَا رَبُّكَ وَأَنْتَ عَبْدِي، وَامْشِ فِي ظِلِّي، وَاشْرَبْ مِنْ الكَوْثَرِ، وَاغْتَسِلْ مِنْ السَّلْسَبِيلِ، وَادْخُلِ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ ".
ذَكَرَهُ السُّيوطِيُّ فِي " الدُّرِّ المنثَوْرِ " (3/245 – 246) وَقَالَ: " وَأَخْرَجَ السِّلَفِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعاً "، وَذَكَرَهُ الغَافِقِيُّ فِي " لََمَحَاتِ الأنْوَارِ " (941) .
2- عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى الفَجْرَ فِي جَمَاعِةٍ، وَقَعَدَ فِي مُصَلاَّهُ، وَقَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُوْرَةِ الأَنْعَامِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِيْنَ مَلَكاً يُسَبِّحُونَ اللَّه وَيَسْتَغْفِرُوْنَ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ".
ذَكَرَهُ السُّيوطِيُّ فِي " الدُّرِّ المنثَوْرِ " (3/246) وَعَزَاهُ لِلدَّيْلَمِيِّ، وَالغَافِقِيُّ فِي " لََمَحَاتِ الأنْوَارِ " (935) بِلَفْظٍ مُقَارِبٍ لِحَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ الأَلُوسِي فِي " رَوحِ المَعَانِي " (7/76) بَعْدَ ذِكْرِهِ جُمْلَةً مِنْ الأَحَادِيْث وَالآثَارِ عِنْدَ سُوْرَةِ الأَنْعَامِ وَمِنْهَا حَدِيْثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُوْدٍ: " إِلَى غَيْرِ ذَلِك مِنَ الأَخْبَارِ، وَغَالِب ما فِي هَذَا المَطْلَبِ ضَعِيْفٌ وَبَعْضَهَا مَوْضُوْعٌ، كَما لاَ يَخْفَى ".ا. هـ.
وَسُوْرَةُ الأَنْعَامِ لم يَثْبُت شَيْءٌ من الأحاديث فِي فَضْلِهَا.
فأما سورتا السجدة وتبارك فلم يثبت شيء في قراءتهما بين المغرب والعشاء، ولكن ثبت في فضل سورة السجدة قراءتها في صلاة الفجر يوم الجمعة.
روى البخاري (891) ومسلم (880) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ (الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ) وَ (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ) .
وورد في فضل سورة تبارك قراءتها قبل النوم أو عموماً، فقد روى الترمذي (2891) وأبو داود (1400) وابن ماجه (3786) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) . قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وقال ابن حجر في التلخيص (1/234) : "أعله البخاري في التاريخ الكبير بأن عباس الجشمي (وهو الراوي عن أبي هريرة) لا يعرف سماعه من أبي هريرة اهـ.
وحسنه الألباني في مواضع، وصححه في مواضع. انظر: "صحيح سنن ابن ماجه"، "صحيح سنن أبي داود". وقبله قال المنذري: رواه أبو داود والترمذي وحسنه واللفظ له، والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وروى الترمذي (2892) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. صححه الألباني في صحيح الترمذي.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/251)
حديث ضعيف في سورة يس
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي السورة التي تُعتبر قلب القرآن؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد حديث في أنّ سورة (يس) قلب القرآن ولكنّه حديث ضعيف (راجع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني حديث رقم 169) ولا شكّ أنّ سورة يس سورة عظيمة جدا وفيها قصص مؤثّرة وعبر بالغة ولكن لم يثبت وصفها بقلب القرآن.
وكونك تسأل أيها الغلام وأنت الآن في سنّ الثالثة عشرة أمرٌ تستحقّ عليه الثناء والتشجيع وفقّك الله وسدّد خطاك.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/252)
حديث موضوع في فضل سورة المزمل
[السُّؤَالُ]
ـ[عرفت مؤخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّنا على قراءة سورة الملك لتحمينا من عذاب القبر.
وقرأت كذلك أن قراءة سورة المزمل تسبب الغنى، فهل هناك دليل من السنة على هذا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: ما قرأتيه عن فضل قراءة سورة المزمل فغير صحيح، بل هو حديث موضوع لا يجوز العمل والاحتجاج به.
وأصله ما رُوِيَ عن زِرِّ بن حبيش عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليّ القرآن في السنة التي مات فيها مرتين، وقال: إن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرأ عليك القرآن. وهو يقرئك السلام. فقال أُبيّ: فقلت لمَّا قرأ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما كانت لي خاصة، فخصّني بثواب القرآن مما علمك الله وأطلعك عليه؟ قال: نعم يا أبيّ، أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أُعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن. وأعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة.. إلى أن قال: ومن قرأ سورة المزمل رُفع عنه العسر في الدنيا والآخرة ... "
قال ابن الجوزي رحمه الله: وذكر في كل سورةٍ ثواب تاليها إلى آخر القرآن ... وهذا حديث في فضائل السور مصنوع بلا شك. الموضوعات (1/391)
وقال الشوكاني رحمه الله: رواه العقيلي عن أبي بن كعب مرفوعاً، قال ابن المبارك: أظن الزنادقة وضعته.
ولهذا الحديث طرق كلها باطلة موضوعة ... ولا خلاف بين الحفاظ أن حديث أبيّ بن كعب هذا موضوع. وقد اغتر به جماعة من المفسرين فذكروه في تفاسيرهم كالثعلبي والواحدي والزمخشري. ولا جرم فليسوا من أهل هذا الشأن " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص264.
وهذا الحديث بطوله ذكره ابن عدي في الكامل (7/2588) ، والسيوطي في اللآلي المصنوعة (1/227) والذهبي في ترتيب الموضوعات (60) وغيرهم.
تنبيه: ولقد وضعت أحاديث كثيرة في فضائل سور القرآن وقصد واضعها ترغيب الناس في قراءة القرآن والعكوف عليه، وزعموا أنهم بذلك محسنون. لكنهم أخطأؤوا فيما قصدوا إذ إنّ ذلك داخل ولا شك تحت الوعيد في قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه البخاري (10) ومسلم (4) ، ولا فرق بين الكذب عليه والكذب له.
ولقد تتبع مؤمل بن إسماعيل (ت:206) هذا الحديث حتى وصل إلى من اعترف بوضعه.
قال مؤمل: حدثني شيخ بهذا الحديث، فقلت له: من حدثك بهذا؟ قال: رجل بالمدائن، وهو حيٌّ، فسرت إليه، فقلت: من حدثك بهذا؟ قال: حدثني شيخ بواسط، فسرت إليه. فقلت: من حدثك بهذا؟ قال: شيخ بالبصرة، فسرت إليه فقلت: من حدثك بهذا؟ فقال: شيخ بعبادان. فسرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتاً فإذا فيه قوم المتصوفة ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ الذي حدثني، فقلت: يا شيخ من حدثك بهذا: فقال: لم يحدثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث، ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن.
ومن ذلك حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في فضائل القرآن سورة سورة فقد سئل عنه واضعه وهو: نوح بن أبي مريم، فقال: " رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة "
انظر الموضوعات لابن الجوزي (1/394) ، شرح مقدمة ابن الصلاح للعراقي (111)
وأما سورة الملك فقد سبق الكلام عن فضلها في السؤال رقم (26240) فليُراجع..
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/253)
فضل آية الكرسي
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي أهمية آية الكرسي؟ هل هناك أي دليل على عظمة هذه الآية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير آية الكرسي من سورة البقرة:
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله.. عن أُبي هو ابن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي قال" ليهنك العلم أبا المنذر والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش" وقد رواه مسلم.. وليس عنده زيادة والذي نفسي بيده إلخ. "
وعن عبد الله بن أبي بن كعب أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال: فسلمت عليه فرد السلام قال: فقلت ما أنت؟ جني أم إنسي؟ قال: جني. قال: قلت له ناولني يدك قال فناولني يده فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلق الجن؟ قال لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني. قلت فما حملك على ما صنعت؟ قال بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك قال: فقال له أبي فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية آية الكرسي ثم غدا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال النبي صدق الخبيث..
وروى الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن عتاب قال: سمعت أبا السليل قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي آية في القرآن أعظم فقال رجل "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر "..
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فجلست فقال يا أبا ذر هل صليت؟ قلت لا قال قم فصل قال فقمت فصليت ثم جلست فقال يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن قال: قلت يا رسول الله أوَ للإنس شياطين؟ قال نعم قال: قلت يا رسول الله الصلاة قال خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر قال: قلت يا رسول الله فالصوم؟ قال فرض مجزئ وعند الله مزيد قلت يا رسول الله فالصدقة؟ قال أضعاف مضاعفة قلت يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال جهد من مقل أو سر إلى فقير قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال آدم قلت يا رسول الله ونبي كان؟ قال نعم نبي مكلم قلت يا رسول الله كم المرسلون قال ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا وقال مرة وخمسة عشر قلت يا رسول الله أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" ورواه النسائي "
وقد ذكر البخاري.. عن أبي هريرة.. قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيعود فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله بها وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: ما هي؟ قال: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما إنه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلات ليال يا أبا هريرة قلت لا قال: ذاك شيطان.
وفي رواية: كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة فقلت أليس قد عاهدتني ألا تعود؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له لتفعلن؟ قال نعم قال: ما هن؟ قال: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قرأ آية الكرس حتى ختمها فتركه فذهب فلم يعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما علمت أن ذلك كذلك وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضا فهذه ثلات وقائع. وقال أبو عبيد في كتاب الغريب: حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم القفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان فصارعه فصرعه فقال: إني أراك ضئيلا شخيتا كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال إني بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الإنسي فقال: تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرأها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خيخ كخيخ الحمار فقيل لابن مسعود: أهو عمر؟ فقال: من عسى أن يكون إلا عمر قال أبو عبيد: الضئيل النحيف الجسيم والخيخ بالخاء المعجمة ويقال بالحاء المهملة الضراط.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي وكذا رواه من طريق آخر عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه الترمذي من حديث زائدة ولفظه لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة أي القرآن: آية الكرسي ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم فيه شعبة وضعفه "قلت" وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.
وعن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أعظم آية في القرآن "الله لا إله إلا هو الحي القيوم".
وفي اشتمالها على اسم الله الأعظم قال الإمام أحمد: عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" و "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" إن فيهما اسم الله الأعظم وكذا رواه أبو داود عن مسدد والترمذي عن علي بن خشرم وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وعن أبي أمامة يرفعه قال: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق: أما البقرة "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وفي آل عمران "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وفي طه "وعنت الوجوه للحي القيوم".
وعن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن الحسن بن بشر به وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضا فهو إسناد على شرط البخاري. والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/254)
من فضائل سورة الإخلاص
[السُّؤَالُ]
ـ[إنني اتبع تعاليم الإسلام من فترة وما زلت في طور التعلم فأعطاني صديق لي كتاب عن الأدعية وفي هذا الكتاب يحيلك الكاتب بعض الآيات في بعض السور التي لا أعرفها وهي بالحروف اللاتينية للكلمات العربية:
1- سورة الحمد
2- سورة إنا فتحنا
3- دلائل الخيرات
4- الله الصمد (هل هذا اسم من الأسماء الحسنى الذي ينبغي ترديده 500 مرة أم هذا اسم الدعاء فقط)
5- سورة عم يتساءلون
6- الآية الكريمة "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" 100 مرة أرجو أن تعطينا نصها بالإنجليزية وفي أي سورة هي.
أرجو الرد بالإنجليزية فالمصحف الذي معي بالإنجليزية ومقسم 114 سورة وليس 30؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أمّا السور التي سألت عنها فإنّ أسماءها المشهورة وأرقامها كما يلي:
1- سورة الحمد هي سورة الفاتحة ورقمها: 1
2- سورة إنا فتحنا هي سورة الفتح ورقمها: 48
4- الله الصمد هي في سورة الإخلاص ورقمها: 112
5- عم يتساءلون هي سورة النبأ ورقمها 78
6- آية " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " هي في سورة الأنبياء ورقمها 21 ورقم الآية 87
ثمّ أنبهك على ما يلي:
أولا: كتاب دلائل الخيرات فيه أحاديث ضعيفة وموضوعة وأمور منافية للحقّ فلا يجوز الاعتماد عليه.
ثانيا: ترجمة القرآن الكريم بالإنجليزية أو غيرها ليست قرآنا ولا لها حكم القرآن وإنّما هي بمثابة التفسير، وأمّا القرآن فهو كلام الله المنزّل باللسان العربي المبين.
ثالثا: الأحد والصمد اسمان عظيمان من أسماء الله الحسنى.
رابعا: تعيين العدد 500 في قراءة سورة قل هو الله أحد، والعدد 100 في قراءة آية: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ". أمر لم يرد به دليل صحيح من الكتاب الكريم ولا من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز الالتزام بهذه الأعداد، ولكن اعمل بما ورد في السنة الصحيحة بشأن تلك السورة وهذه الآية ومما ورد في فضل سورة الإخلاص ما يلي:
عَنْ قَتَادَةَ بْنُ النُّعْمَانِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا قَامَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنْ السَّحَرِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا يَزِيدُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ". رواه البخاري 4627
وفي رواية لأحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارًا يَقُومُ اللَّيْلَ لا يَقْرَأُ إِلا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَأَنَّهُ يُقَلِّلُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ". المسند 10965
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ. " رواه البخاري 4628
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ رواه البخاري 4630
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ رواه البخاري 6827
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَإِذَا فَرَغَ قَالَ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلاثًا وَيَُدُّ فِي الثَّالِثَةِ رواه النسائي 1721
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فَقَالَ لِي يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ أَلا أُعَلِّمُكَ سُوَرًا مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلا فِي الزَّبُورِ ولا فِي الإِنْجِيلِ وَلا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهُنَّ لا يَأْتِيَنَّ عَلَيْكَ لَيْلَةٌ إِلا قَرَأْتَهُنَّ فِيهَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قَالَ عُقْبَةُ فَمَا أَتَتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ إِلا قَرَأْتُهُنَّ فِيهَا وَحُقَّ لِي أَنْ لا أَدَعَهُنَّ وَقَدْ أَمَرَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. مسند أحمد 16810
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ وَجَبَتْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا وَجَبَتْ قَالَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ رواه الإمام أحمد 7669
وقال صلى الله عليه وسلم: " من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة. " صحيح الجامع الصغير 6472.
فاقرأها ما شئت من المرات دون تقييد بعدد معيّن أو وقت معيّن أو كيفية معيّنة لم ترد في الشّرع، وأما آية سورة الأنبياء وهي قوله تعالى: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظّالمين} فمما ورد في فضلها ما يلي:
عَنْ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ. " رواه الترمذي 3427 وصححه في صحيح الجامع 3383
وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به ففرّج عنه دعاء ذي النون: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} . رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع 2605
نسأل الله أن يوفقنا وإياك وسائر إخواننا المسلمين إلى العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/255)
الزهراوان
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هما السورتان اللتان تلقبان بـ (الزهراوين) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
السورتان هما البقرة وآل عمران،
فقد ثبت في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) (صلاة المسافرين / 1337) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: قَالُوا: سُمِّيَتَا الزَّهْرَاوَيْنِ لِنُورِهِمَا وَهِدَايَتهمَا وَعَظِيم أَجْرهمَا.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/256)
قراءة الإخلاص 1000 مرة على مريض
[السُّؤَالُ]
ـ[تريد الأسرة أن تقوم بختم (فيجتمعون ويكررون قراءة سورة الإخلاص في هدوء آملين أن يقرأوها 10000 مرة، والنية وراء ذلك أن يُشفى المريض.) هل هذا جائز، أم أنه يجب عليهم دعاء الله سبحانه وتعالى فقط وطلب العون منه بشكل فردي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فلاشك أن القرآن فيه شفاء للناس، وورد في بعض الآيات والسور بعينها أن فيها شفاء، وحفظ للإنسان، ودفع للمكروه بإذنه تعالى كالفاتحة والمعوذات وآية الكرسي، والإخلاص. فمن قرأ شيئا من الآيات أو السور، وكررها ثلاثاً أو سبعاً أو بحسب ما تدعوا إليه الحاجة دون المواظبة على التقيد بعدد معين لم يرد في الشرع فلا مانع من ذلك على أن يعتقد أن الشفاء بيد الله الذي جعل في القرآن شفاء للناس.
وإذا أضيف لذلك الرقية بالأدعية النبوية الواردة عنه عليه الصلاة والسلام في الرقية، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " اذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاءك شفاء لا يغادر سقماً " أخرجه البخاري (5243) ومسلم (4061)
ومثل ما أوصى به ذلك الصحابي الجليل لما اشتكي إليه من وجع كان به فقال له: " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل باسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " وغير ذلك مم صح عنه عليه الصلاة والسلام فيكون حسناً جداً.
وإذا اجتمع التوكل على الله مع استحضار معاني الآيات والأدعية التي تقرأ، وصلاح كل من الراقي والمرقي نفع ذلك بإذن الله نفعاً عظيماً
وبناء على ما تقدم فإن الاجتماع على الصفة المذكورة في السؤال وقراءة قل هو الله أحد بهذا العدد المعين (100000 مرة) هو عمل غير مشروع فعليكم الاكتفاء بما ثبت في السنة.
ونسأل الله أن يعجل بشفاء مريضكم، وأن يلبسه لبوس العافية..آمين.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد(3/257)
قراءة سورة الملك تمنع عذاب القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[قراءة سورة الملك تحمي المسلم من عذاب القبر، ولكن كم مرة يجب أن يقرأها؟ مرة في اليوم أو أكثر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك ".
رواه الترمذي (2891) وأبو داود (1400) وابن ماجه (3786) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (22 / 277) ، والشيخ الألباني في " صحيح ابن ماجه " (3053) .
والمقصود بهذا: أن يقرأها الإنسان كل ليلة، وأن يعمل بما فيها من أحكام، ويؤمن بما فيها من أخبار.
عن عبد الله بن مسعود قال: من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب.
رواه النسائي (6 / 179) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1475.
وقال علماء اللجنة الدائمة:
وعلى هذا يُرجى لمن آمن بهذه السورة وحافظ على قراءتها، ابتغاء وجه الله، معتبراً بما فيها من العبر والمواعظ، عاملاً بما فيها من أحكام أن تشفع له.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 334، 335) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/258)
حفظ القرآن وفضائل بعض السور
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تذكر ثواب قراءة كل من السور التالية مع ذكر الدليل من السنة عليه:
سورة النبأ وسورة الواقعة وسورة يس وسورة الملك، أنا في أواسط الثلاثينات من العمر وأحاول أن أحفظ من القرآن قدر الاستطاعة، أي السور يجب أن أبدأ بها؟ هل يجوز أن أقرأ الجزء الذي حفظته في صلاة النافلة؟ ماذا أفعل إذا أخطأت أو نسيت بينما أنا أقرأ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أما فضل سورة النبأ وثواب قراءتها فلا نعلم هنالك خصوصية لهذه السورة إلا ما هو معروف عن سائر القرآن وليس لها فضل خاص دون غيرها إلا ما علمناه أن من قرأ من القرآن حرفاً فله عشر حسنات عن عبد الله بن مسعود قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ".
رواه الترمذي (2910) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2327) .
ولكن ورد أنها من السور المنذرات الشديدات على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ".
رواه الترمذي (3297) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني " الصحيحة " (955) .
- وأما فضل سورة الواقعة فقد ورد في فضلها حديث لا يصح.
عن شجاع عن أبي فاطمة: " أن عثمان بن عفان رضي الله عنه عاد ابن مسعود في مرضه فقال ما تشتكي قال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة ربي قال ألا ندعوا لك الطبيب قال الطبيب أمرضني قال ألا آمر لك بعطائك قال منعتنيه قبل اليوم فلا حاجة لي فيه قال فدعه لأهلك وعيالك قال إني قد علمتهم شيئا إذا قالوه لم يفتقروا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ " الواقعة " كل ليلة لم يفتقر ".
رواه البيهقي في " شعب الإيمان " (2 / 491) .
والحديث: ضعَّفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (289) .
ـ وأما فضل سورة (يس) فقد ورد في فضلها أحاديث لا تصح.
عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ".
رواه الترمذي (2887) وقال لا يصح من قبل إسناده وإسناده ضعيف.
وقال الألباني في " الضعيفة " (169) : موضوع.
ومثله الحديث الذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألف عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا ". رواه الدارمي (3280) .
قال الألباني في الضعيفة (1248) : مُنْكر
وكذلك الحديث الذي عن معقل بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرءوا يس على موتاكم ".
رواه أبو داود (3121) وابن ماجه (1448) .
قال الشيخ الألباني:
وأما قراءة سورة " يس " عنده ـ يعني الميت ـ وتوجيهه نحو القبلة فلم يصح فيه حديث.
" أحكام الجنائز " (ص 11) .
وكذلك حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات ".
قال الشيخ الألباني في " الضعيفة " (1246) : موضوع أخرجه الثعلبي في تفسيره (3 /161 /2) .
ـ أما سورة الملك فقد ورد في فضلها أحاديث صحيحة.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك ".
رواه الترمذي (2891) وأحمد (7634) وأبو داود (1400) وابن ماجه (3786) .
والحديث: حسَّنه الترمذي والألباني في " صحيح الترمذي " (3 / 6) .
وجاء في فضلها أيضاً:
عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ " الم تنزيل " و" تبارك الذي بيده الملك ".
رواه الترمذي (2892) وأحمد (14249) .
والحديث: قال الألباني في " صحيح الترمذي " (3 / 6) : صحيح.
ثانياً:
ليست هناك طريقة محددة لحفظ القرآن الكريم فالناس متفاوتون بالمقدرة على الحفظ فلكل طريقة تناسبه ووقت يناسبه.
فبعض الناس يحب القراءة والحفظ بعد صلاة الفجر وبعضهم يحبها بعد المغرب، فانظر في شأنك واسلك أحسن السبل في ذلك.
وبعض الناس تسهل عليه السور المكية القصيرة وبعضهم تسهل عليه السور المدنية الطويلة، فابدأ بالذي يسهل عليك.
ويمكنك البداية بالسور المسموعة كثيراً واليسيرة الحفظ كسورة " الكهف " و " مريم " والأجزاء الأخيرة، فإن هذا يعطيك دافعاً قوياً لتكملة الحفظ إذا وجدت نفسك قد حفظتَ أجزاءً كثيرةً.
ومن أهم السبل في تثبيت ما قد حفظت وعدم نسيانه التكرار والإعادة الدائمة في كل وقت وعلى كل حال، حتى إن بعض الناس الذين يحاولون حفظ القرآن ليقرأونه في السكك والطرقات وعند ركوب الحافلة وعند دخول الدكاكين والأسواق وعلى كل حال وفي كل وقت من ليل أو نهار.
وإن العمل بما تعلم من آيات الله تعالى هو أهدى السبل للمحافظة على القرءان في الصدر.
عن أبي عبد الرحمن قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا فعلمنا العلم والعمل ".أحمد (22384)
ومما هو معلوم ومجرب عند الناس أن أفضل السبل للمحافظة على القرآن هي المراجعة في الصلوات كالسنن الرواتب وغيرها - أو الفروض للإمام - لاسيما قيام الليل؛ لذلك فلا بأس بقراءة الجزء الذي تحفظه في صلاة النافلة.
ـ ولكن إن نسيت شيئاً من القرءان حال الصلاة فحاول التذكر حتى إذا أعياك ذلك فلا بأس أن تتجاوز الذي لم تستذكره إلى الذي يليه مما تذكر فإذا قضيت صلاتك رجعت إلى المصحف واستذكرت الذي نسيته من هناك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/259)
حكم التجمع للدعاء وقراءة القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[في المصلى الخاص بجامعتنا قام خلاف بشأن الاجتماع للجلوس والدعاء، حيث يتم توزع أجزاء القرآن على الأشخاص الحاضرين ويقرأ كل منهم جزء في نفس الوقت حتى تتم قراءة المصحف كاملاً ثم يقومون بالدعاء لغرض معين كالنجاح في الامتحانات مثلاً. هل طريقة هذا الدعاء واردة في الشريعة؟ أرجو أن يكون جوابك مدعماً بالقرآن والسنة وإجماع السلف.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا السؤال يشتمل على مسألتين:
الأولى:
حكم الاجتماع لتلاوة القرآن , بأن يأخذ كل من الحاضرين جزءا من القرآن في نفس الوقت حتى يتم كل واحد الجزء الذي معه.
فالجواب عن هذا ما جاء في فتوى للجنة الدائمة (2/480) , ونصه:
(أولا: الاجتماع لتلاوة القرآن ودراسته بأن يقرأ أحدهم ويستمع الباقون ويتدارسوا ما قرؤوه ويتفهموا معانيه مشروع وقربة يحبها الله , ويجزي عليها الجزاء الجزيل، فقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) .
والدعاء بعد ختم القرآن مشروع أيضاً إلا أنه لا يداوم عليه ولا يلتزم فيه صيغة معينة كأنه سنة متبعة، لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعله بعض الصحابة رضي الله عنهم.
وكذا دعوة من حضر القراءة إلى طعام لا بأس بها ما دامت لا تتخذ عادة بعد القراءة.
ثانياً: توزيع أجزاء من القرآن على من حضروا الاجتماع ليقرأ كل منهم لنفسه حزباً من القرآن لا يعتبر ذلك ختماً للقرآن من كل واحد منهم بالضرورة.
وقصدهم القراءة للتبرك فقط فيه قصور فإن القراءة يقصد بها القربة وتحفظ القرآن وتدبره وفهم أحكامه والاعتبار به ونيل الأجر والثواب وتدريب اللسان على تلاوته....إلى غير ذلك من الفوائد، وبالله التوفيق) ا. هـ
الثانية:
اعتقاد أن هذا الفعل (الاجتماع على تلاوة القرآن حسب الطريقة المذكورة) له أثر في إجابة الدعاء , وهذا لا يعلم عليه دليل , فهو غير مشروع , ولإجابة الدعاء أسباب كثيرة معلومة , كما أن لمنع الإجابة موانع معروفة , فالواجب على الداعي أن يأتي بأسباب الإجابة ويجتنب موانعها , ويحسن الظن بربه , والله عند ظن عبده به.
انظر السؤال 5113.
(تنبيه) الدليل إنما يطلب ممن أثبت أمرا من الأمور الشرعية , وإلا فالأصل في العبادات المنع حتى يثبت دليل المشروعية , كما قرر ذلك أهل العلم , وعليه فالدليل على عدم مشروعية ذلك الاعتقاد هو عدم الدليل الدال على جوازه.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/260)
حكم رمي القرص والشريط المسجل عليه قرآن أو محاضرة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن أرمي قرص ممغنط وشرائط كاسيت تحتوي على محاضرات في الإسلام أو تسجيلات للقرآن؟ وكيف أتصرف فيها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأقراص الممغنطة وشرائط الكاسيت التي وضع عليها القرآن كتابة أو تسجيلا، لا تأخذ حكم المصحف، فيجوز لمسها من غير طهارة، ويجوز دخول الخلاء بها، وإذا تلفت فلا حرج في التخلص منها برميها ونحوه ولا يعدّ ذلك امتهانا للقرآن أو للمواد الدينية المسجلة عليها.
وينظر جواب السؤال رقم (22000) ورقم (106961) ورقم (42061) .
وإذا كانت هذه الأقراص أو الأشرطة مما يمكن الاستفادة منها، فالأولى أن تُعطى لمن يستفيد منها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/261)
حكم قراءة القرآن للجالس والمتكئ
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز قراءة القرآن وأنا جالس على مقعد؟ والذكر أيضا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
تجوز قراءة القرآن وذكر الله تعالى جالساً على مقعد أو متكئاً أو مضطجعاً أو مستلقياً على قفاه ... ونحو ذلك من الهيئات.
ويدل على جوازه ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم: (يَتَّكِئُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) رواه البخاري (297) ، ومسلم (301)
قال ابن رجب في "فتح الباري" (1/406) :
"وفي الحديث: دلالة على جواز قراءة القرآن متكئاً، ومضطجعاً، وعلى جنبه، ويدخل ذَلِكَ في قول الله عز وجل: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) آل عمران/191" انتهى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/262)
أخذ المصحف باليد اليسرى
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أخذ المصحف وحمله باليد اليسرى؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" لا أعلم في هذا شيئاً، وإن كان أخذه باليمين أفضل، فاليمين أفضل بكل حال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل اليمين لطهارته وترجله، وللأخذ والعطاء، والمصافحة ونحو ذلك، واليسرى لما سوى ذلك، فإذا دعت الحاجة إلى أن يأخذ المصحف باليسار لأن اليمين تعبت أو ما أشبه ذلك فلا حرج إن شاء الله؛ لأنهما ـ أي: اليدان ـ تتعاونان، وليس المقصود بأخذ المصحف بها إهانة ولا تساهلاً، وإنما تعاون من هذه لهذه، وهما يتعاونان في ذلك، فإن جعله في اليسرى وقرأ أو في اليمنى وقرأ، فكله لا بأس به إن شاء الله، لكن كونه باليمنى أولى وأفضل لما تقدم من تفضيل اليمنى في الأخذ والعطاء والأكل ونحو ذلك " انتهى.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
"فتاوى نور على الدرب" (1/333) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/263)
يعمل معه كفار في طباعة المصحف
[السُّؤَالُ]
ـ[يعمل في طباعة المصحف بعض الكفرة، ويقومون بإمساك المصحف، فما الحكم في ذلك مع توفر وجود غيرهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" إذا استطعت أن تمنعهم فامنعهم، إذا كان لك سلطان امنعهم، ولا يمسك المصحف إلا مسلم، أما إذا ما كان لك سلطان فلا تمنعهم ولا يضرك، والإثم على الدولة التي مكنتهم منه " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/339) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/264)
الأفضل وضع المصحف على شيء مرتفع أثناء سجود التلاوة
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كنت أقرأ القرآن ووصلت إلى آية فيها سجدة فهل يجوز لي أن أضع المصحف شرفه الله على الأرض حتى أفرغ من سجدة التلاوة أم لابد من وضعه على شيء مرتفع؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لا حرج في وضعه على الأرض إذا كانت طاهرة وقت سجود التلاوة، وإذا تيسر مكان مرتفع شرع وضعه فيه، أو تسليمه إلى أخيك الذي بجوارك إن وُجد حتى تفرغ من السجود؛ لأن ذلك من تعظيمه والعناية به، ولئلا يظن بعض الناس أنك أردت إهانته أو قلة المبالاة به. وبالله التوفيق" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (24/349) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/265)
حكم إعادة تصنيع أوراق المصاحف التالفة للاستفادة منها في شيء آخر
[السُّؤَالُ]
ـ[توجد مشاريع لإعادة تصنيع الورق، وبعضها يصرف ريعه في مشاريع خيرية، ومنها ما هو تجاري..السؤال: ما حكم إعادة تصنيع أوراق المصاحف التالفة للاستفادة منها في شيء آخر؟ أم يجب إتلافه بالطرق التقليدية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
لا يجوز إعادة تصنيع أوراق المصحف التالفة واستعمالها في شيء آخر غير القرآن؛ لأن هذا يعد نوعاً من الامتهان لها، والذي ينبغي هو حرق هذه الأوراق أو تدفن في مكان طاهر صيانة لها، حتى لا توطأ بالأقدام أو تلقى على الأرض.
وقد روى البخاري (4988) عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه (أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما أمر بنسخ المصاحف َأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) .
قَالَ اِبْن بَطَّال: " فِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز تَحْرِيق الْكُتُب الَّتِي فِيهَا اِسْم اللَّه بِالنَّارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَام لَهَا، وَصَوْن عَنْ وَطْئِهَا بِالْأَقْدَامِ. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْد الرَّزَّاق مِنْ طَرِيق طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَرِّق الرَّسَائِل الَّتِي فِيهَا الْبَسْمَلَة إِذَا اِجْتَمَعَتْ، وَكَذَا فَعَلَ عُرْوَة " انتهى من "فتح الباري".
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة " للإفتاء (3/40) :
" ما اندرس من أوراق المصحف الشريف فإنه يحرق أو يدفن في مكان طاهر صيانةً له من الامتهان " انتهى.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء عن إعادة تصنيع الأوراق التالفة من المصاحف وكتب السنة. هل يجوز للمسلمين أن يضعوها في الماكينة بالمصنع مع كمال الاحترام والماكينة تغير هيئتها بالأدوية وتصير مثل القطن وبعده تصنع منها أوراقا جديدة؟
فأجابوا:
" أولا: يجب صيانة الأوراق المكتوب بها القرآن العظيم؛ لأنه كلام رب العالمين، فيحرم امتهانها أو تعريضها للإهانة.
ثانيا: لا يجوز تمكين غير المسلمين من مس الكتاب الكريم - القرآن -.
ثالثا: يجوز للمسلمين إزالة رسم القرآن من الأوراق والمصاحف المتمزقة، إما بالإحراق، أو دفنها في أرض طاهرة؛ احتراما للقرآن، وصونا له عن الأذى والإهانة. وسبق أن عرض موضوع استعمال الأوراق التي فيها شيء من القرآن على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته السادسة والعشرين، وصدر منه قرار بالإجماع يمنع ما ذكره السائل، وهذا نص ما قال مجيبا لمعالي وزير الحج والأوقاف في المملكة العربية السعودية:
1- ما عملتم به بشأن الأوراق التجريبية من طحنها ثم حرقها ثم دفنها في مكان طاهر - عمل جيد، وموافق لما ذكره أهل العلم؛ اقتداء بالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
2- يرى المجلس عدم الموافقة على طلب مصنع الغدير؛ لما يترتب على ذلك من الإهانة والابتذال؛ لما في الأوراق من كلام الله عز وجل " انتهى.
"فتاوى اللجنة" (4/53 - 55) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/266)
حكم وضع القرآن الكريم داخل الهاتف النقال أو حمله في الجيب
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم اقتناء القران الكريم داخل الهاتف النقّال؟ وما حكم وضع المصحف داخل الجيب الأمامي أو الخلفي للبنطال أو اللباس ككل؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجوز وضع القرآن الكريم داخل الهاتف النقال، وينبغي أن يكون بالرسم العثماني، إلا إن تعذر ذلك فيجوز بغيره.
وينظر: سؤال رقم (98922) ورقم (106961) .
ولا حرج في حمل المصحف ووضعه داخل الجيب في البنطال أو غيره من اللباس بشرط المحافظة عليه من التمزق أو الامتهان.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/60) : " أحدنا يحمل المصحف في جيبه وربما دخل به الخلاء، فما حكم ذلك أفيدونا؟
الجواب: حمل المصحف بالجيب جائز، ولا يجوز أن يدخل الشخص الحمام ومعه مصحف، بل يجعل المصحف في مكان لائق به؛ تعظيما لكتاب الله واحتراما له، لكن إذا اضطر إلى
الدخول به خوفا من أن يسرق إذا تركه خارجا جاز له الدخول به للضرورة " انتهى.
وأما إن كان حمل المصحف في الجيب الخلفي للبنطال، يترتب عليه الجلوس على المصحف إذا أراد صاحبه أن يجلس: فلا يجوز ـ حينئذ ـ وضعفه في الجيب الخلفي، وأقل أحوال ذلك الكراهة؛ بل صرح غير واحد من أهل العلم بتحريم ما هو أيسر من ذلك: أن يجعل المصحف تحت رأسه، كالوسادة له.
قال النووي رحمه الله:
" أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف، واحترامه.
قال أصحابنا وغيرهم: ... ويحرم توسده؛ بل توسد آحاد كتب العلم حرام ". اهـ
التبيان في آداب حملة القرآن (128) ، وانظر أيضا: البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1/478) .
وقال ابن مفلح رحمه الله:
" وَيُكْرَهُ تَوَسُّدُ الْمُصْحَفِ، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَضَعَ الْمُصْحَفَ تَحْتَ رَأْسِهِ فَيَنَامُ عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ ابْتِذَالًا لَهُ وَنُقْصَانًا مِنْ حُرْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِالْمَتَاعِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ حَمْدَانَ التَّحْرِيمَ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ بَعْدَهُ، وَكَذَا سَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ إنْ كَانَ فِيهَا قُرْآنٌ وَإِلَّا كُرِهَ فَقَطْ ...
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ فِي كِتَابِهِ "مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ": إَنَّهُ يَحْرُمُ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمُصْحَفِ، وَعَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَافِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ اتِّفَاقًا ". اهـ.
الآداب الشرعية (2/393) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/267)
حكم مس الكافر لترجمة القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد لدي ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، فهل يجوز أن يمسها الكافر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لا حرج أن يمس الكافر ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات؛ لأن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسها الكافر أو من ليس على طهارة فلا حرج في ذلك؛ لأن الترجمة ليس لها حكم القرآن، وإنما لها حكم التفسير، وكتب التفسير لا حرج أن يمسها الكافر، ومن ليس على طهارة، وهكذا كتب الحديث والفقه واللغة العربية، والله ولي التوفيق" انتهى.
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
"مجلة البحوث الإسلامية" عدد 45 ص115.
وللفائدة ينظر جواب السؤال رقم (100228) ، ورقم (1690) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/268)
" مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف " هل هو ثقة لننشر مطبوعاته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لديَّ وقت فراغ، وأريد - إن شاء الله - أن أستغله في عمل صالح، ابتغاء وجه الله عز وجل، وتوصلت - بفضل الله - إلى هذه الفكرة، وأريد معرفة رأي الدين فيها. نشر ترجمة القرآن الكريم بعدة لغات في المنتديات العالمية، والعربية، وأريد – أيضاً - إنشاء - بعون الله عز وجل - العديد من المدونات الخاصة بهذا الأمر، والمشكلة هي كالآتي: كما تعلم بارك الله فيك هناك العديد من مصادر التراجم للقرآن الكريم، ولهذا أريد التأكد من صحة اختياري فيما يخص مصدر التراجم، والذي هو " مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة " وهو على هذا الرابط: http://www.qurancomplex.org/، وهل بإمكاني نشر التراجم بلغات لا أعرف عنها شيئاً؟ وإن كان هناك خطأ في الترجمة: فمن يتحمل المسؤولية أمام رب العالمين يوم القيامة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نشكر لك أخي الفاضل حبك للخير، ونشر كتاب الله تعالى في الأرض، وحرصك على دعوة الناس، ونسأل الله تعالى أن يجزيك خير الجزاء، وأن يوفق مسعاك لما يحب ويرضى.
ونحب أولاً أن ننبهك إلى أن قولك " رأي الدين ": خطأ، والصواب أن تقول " ما تقولون " أو " ما حكم الشرع " فيما فيه نص.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
لا ينبغي أن يقال " ما حكم الإسلام في كذا "، أو " ما رأي الإسلام في كذا " فإنه قد يخطئ فلا يكون ما قاله حكم الإسلام، لكن لو كان الحكم نصّاً صريحاً، فلا بأس أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فنقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنها حرام.
" المناهي اللفظية " (49) .
ثانياً:
لتعلم أخي الفاضل أنه يستحيل ترجمة ألفاظ القرآن الكريم؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، ولا يطلق عليه إن تُرجم " كتاب الله "، بل هو كتاب من قام بترجمته، وليس ثمة لغة في العالم تضاهي دقة اللغة العربية، لذا فمن المستحيل أن يترجم كتاب الله إلى لغة أخرى تؤدي المقصود تماماً، وتطابق اللفظ القرآني.
نعم، يمكن ترجمة معاني القرآن بلغات أخرى، لكن يشترط أن يقوم بهذه الترجمة حاذق باللغتين – العربية واللغة المراد الترجمة إليها – حتى يفهم مراد الله تعالى، فيؤدي المعنى باللغة الأخرى على وجهها الصحيح، وإذا فعلت هذا، وساهمت في نشر هذه التراجم: فإنك تقوم بعمل جليل، نرجو الله تعالى أن يثيبك عليه أجزل الثواب، ولا يهم كونك تعرف هذه اللغة الأجنبية، بل يكفي ثقتك بعمل المترجم، أو المؤسسة القائمة عليها.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة:
ترجمة القرآن، أو بعض آياته، إلى لغة أجنبية، أو عجمية بقصد نشر الدعوة الحقَّة الإسلامية في بلاد غير المسلمين، هل في هذا العمل ما يخالف الشرع والدين؟ .
فأجابوا: " ترجمة القرآن، أو بعض آياته، والتعبير عن جميع المعاني المقصود إليها من ذلك: غير ممكن، وترجمته، أو بعضه ترجمة حرفية: غير جائزة؛ لما فيها من إحالة المعاني، وتحريفها، أما ترجمة الإنسان ما فهمه من معنى آية، أو أكثر، وتعبيره عما فهمه من أحكامه، وآدابه، بلغة إنجليزية، أو فرنسية، أو فارسية – مثلاً - لينشر ما فهمه من القرآن ويدعو الناس إليه: فهو جائز، كما يفسر الإنسان ما فهمه من القرآن، أو آيات منه باللغة العربية، وذلك بشرط أن يكون أهلا لتفسير القرآن، وعنده قدرة على التعبير عما فهمه من الأحكام، والآداب بدقة، فمَن لم تكن لديه وسائل تعينه على فهم القرآن، أو لم يكن لديه اقتدار على التعبير عنه بلغة عربية، أو غير عربية، تعبيراً دقيقاً: فلا يجوز له التعرض لذلك؛ خشية أن يحرِّف كتاب الله عن مواضعه، فينعكس عليه قصده، ويصير قصده المعروف منكراً، وإرادته الإحسان: إساءة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " انتهى.
الشيخ عبد الرزاق عفيفي , الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن منيع.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (4/162،163) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -: ما حكم ترجمة القرآن، وتفسيره، تفسيراً حرفيّاً لغير العربية؟
فأجاب: " أسألك: هل يمكن أن يترجم القرآن ترجمةً حرفية؟ لا يمكن أبداً، فالمسألة مفروضة فرضاً لا واقعاً؛ لأن اللغات غير العربية تختلف عن العربية، وليست كالعربية في الترتيب، ولا في الأسلوب، لهذا لا يمكن أن يُترجم ترجمة حرفية، أما ترجمة القرآن ترجمة معنوية، بمعنى أن يأخذ الإنسان آية، ويترجم معناها: فهذا لا بأس به، بل قد يكون واجباً لمن احتيج إلى تفهيمه بذلك " انتهى "لقاءات الباب المفتوح" (50 / السؤال رقم 12) .
وللفائدة ينظر جواب السؤال: (1690) ، (98553) .
ثالثاً:
بخصوص " مجمع الملك فهد لطباعة المصحف ": فإننا نعلمك أنه مصدر ثقة لدى العلماء والباحثين من أهل السنَّة، وأنه يقوم على إدارة شئون طباعة المصحف، ومراجعته، وتراجمه، وتفسيره: مشايخ فضلاء، وأئمة أعلام، فإن تيسر لك شيء من إصدارات ذلك المجمع: فلا تتردد في نشرها، وتوزيعها في أرجاء الأرض.
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة:
هل يجوز إعطاء الكافر الذي يرغب بالإسلام، ولم يسلم بعدُ، نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم، ومعها القرآن الكريم كاملاً، كطباعة ترجمات القرآن الكريم الصادرة من " مجمع الملك فهد لطباعة المصحف "؟ .
فأجابوا:
" لا مانع من إعطاء الكافر الذي يُرجى إسلامه كتب التفسير، وترجمة معاني القرآن، بلغته التي يفهمها، ولو كان القرآن مميزاً عن التفسير، والترجمة؛ لأن الحكم في مثل هذا للتفسير والترجمة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ صالح الفوزان، الشيخ بكر أبو زيد.
" فتاوى اللجنة الدائمة " المجموعة الثانية (3 / 45) .
وجاء في قرارات وتوصيات " مجمع الفقه الإسلامي " التابع لـ " منظمة المؤتمر الإسلامي ": قرار رقم: 116 (10 / 12) بشأن موضوع ترجمة القرآن الكريم: ما نصه:
" إن " مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي " المنبثق عن " منظمة المؤتمر الإسلامي " في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 - 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد اطلاعه على ورقة العمل المتضمنة " ترجمة معاني القرآن الكريم " المحالة من الأمانة العامة لمؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمعدة من قبل " مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف " حول المعايير، والشروط الخاصة، والإجراءات لترجمة معاني القرآن الكريم.
وبعد دراسة مستفيضة، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع، بمشاركة أعضاء " المجمع "، وخبرائه، وعدد من الفقهاء:
قرر ما يلي:
إقرار جميع بنود ورقة العمل المقدمة بشأن ترجمة معاني القرآن الكريم.
ويوصي:
- بإنشاء هيئة تعنى بتفسير القرآن الكريم وعلومه، ترتبط بـ " مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ".
والله سبحانه وتعالى أعلم " انتهى.
فأنت ترى ثقة العلماء والمشايخ من العالَم أجمع بهذا المجمع، وليس عليك سوى المسارعة بالخير، عسى الله أن يوفقك له، ويتقبله منك.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/269)
النسخ القديمة من المصاحف
[السُّؤَالُ]
ـ[كم الجهود التي يبذلها المسلم للحفاظ على النسخ القديمة للقرآن؟ إن هذا يتطلب بالتأكيد موارد وخبرة في كيفية الحفظ. هناك الكثير من النسخ القديمة للقرآن في مكتبات كثيرة، وفي البيوت، لكنها أصبحت مغبرَّة، وفي حالة سيئة. كيف ينبغي التصرف في هذا الوضع، حيث الرغبة كبيرة للحفاظ على المصحف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
احترام المصاحف والعناية بها من تعظيم شعائر الله، وتقدير كلام الله تعالى الذي أنزله هداية للعالمين واجب على جميع المسلمين، ينبغي بذل كل الجهود الممكنة في سبيله.
وتقدير حجم هذه الجهود يتفاوت بحسب الحاجة إلى حفظ المصاحف القديمة، فقد تكون نسخ المصاحف قليلة، والناس بحاجة إلى جميع ما بين أيديهم، كما قد تكون هذه النسخ القديمة ما تزال متماسكة صالحة للقراءة والنظر، أو قد يكون من الممكن إرسالها إلى بعض بلاد المسلمين الفقيرة التي ما يزال أهلها ينسخون المصاحف بأيديهم لشدة فقرهم، ونحو ذلك من الأمور التي تقتضي الاستمرار في حفظ النسخ القديمة والعناية بها إلى أقصى درجة.
فإن لم تقم هذه الحاجات لحفظ النسخ القديمة، فلا بأس من الشروع في إفنائها بالطريقة المكرمة التي تحقق المقصود، وقد ذكر العلماء طرقا ثلاثة لذلك:
الطريقة الأولى: الحرق: يعني حرق النسخ القديمة من المصاحف برفق وعناية في مكان طاهر آمن، مع التأكد من اختفاء كلماته بالحرق وتغير أوراقه.
وقد استأنس العلماء لهذا بما فعله عثمان رضي الله عنه في المصاحف المخالفة لما أجمع عليه الصحابة، فقد روى البخاري رحمه الله (حديث رقم/4987) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه: (أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ)
قال ابن بطال رحمه الله:
" في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وأن ذلك إكرام لها، وصَوْن عن وطئها بالأقدام، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاووس أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة، وكرهه إبراهيم " انتهى. "فتح الباري" (9/20)
ويقول الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله:
" ويُكره إحراقُ خشبٍ نُقِشَ بالقرآن، إلا إن قصد به صيانة القرآن فلا يكره، كما يؤخذ من كلام ابن عبد السلام، وعليه يُحمَل تحريق عثمان رضي الله عنه المصاحف " انتهى."مغني المحتاج" (1/152)
الطريقة الثانية: الدفن: فيختار لها مكانًا طاهرا آمنا من العبث، ويحفر لها حفرة عميقة يغلب على الظن غياب النسخ المدفونة فيها آمادا طويلة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وأما المصحف العتيق، والذي تخرق وصار بحيث لا ينتفع به بالقراءة فيه، فإنه يدفن في مكان يصان فيه، كما أن كرامة بدن المؤمن دفنه في موضع يصان فيه " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (12/599)
ويقول البهوتي رحمه الله:
" (ولو بلي المصحف أو اندرس دفن، نصا) ذكر أحمد أن أبا الجوزاء بلي له مصحف فحفر له في مسجده فدفنه. وفي البخاري أن الصحابة حرّقته ـ بالحاء المهملة ـ لما جمعوه، وقال ابن الجوزي: ذلك لتعظيمه وصيانته. وذكر القاضي أن أبا بكر بن أبي داود روى بإسناده عن طلحة بن مصرف قال: دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر، وبإسناده عن طاوس أنه لم يكن يرى بأسا أن تحرق الكتب، وقال: إن الماء والنار خلق من خلق الله " انتهى.
"كشاف القناع" (1/137)
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/140) :
" إذا بليت أوراق المصحف وتمزقت من كثرة القراءة فيها مثلا، أو أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، أو عثر فيها على أغلاط مِن إهمال مَن كتبها أو طبعها، ولم يمكن إصلاحها، جاز دفنها بلا تحريق، وجاز تحريقها ثم دفنها بمكان بعيد عن القاذورات ومواطئ الأقدام، صيانة لها من الامتهان، وحفظا للقرآن من أن يحصل فيه لبس أو تحريف أو اختلاف بانتشار المصاحف التي طرأت عليها أغلاط في كتابتها أو طباعتها " انتهى.
الطريقة الثالثة: التمزيق والتخريق: ولعل هذه الطريقة هي أسهل الطرق اليوم، فقد وجدت بعض الآلات التي تدخل إليها الأوراق فتفرمها فرما دقيقا بحيث لا تعود كلمات القرآن ولا حتى أحرفه مقروءة، وهي طاهرة ومأمونة ولا تكلف كثيرا من الجهود كما هو الحال في الحرق أو الدفن.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" لا أحد من المسلمين يشك أن القرآن الكريم يجب على المسلم احتامه وتعظيمه ومنع تعرضه للإهانة، وهذه الأوراق الممزقة – من المصحف - والتي لا يمكن أن ينتفع بها بقراءة، له فيها طريقتان:
الطريقة الأولى: أن يدفنها في مكان نظيف طاهر لا يتعرض للإهانة في المستقبل حسب ظن الفاعل.
الطريقة الثانية: أن يحرقها، وإحراقها جائز لا بأس به، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما وحدوا المصاحف على حرف قريش في عهد عثمان رضي الله عنه أحرقوا ما سوى هذا الموحد، وهذا دليل على جواز إحراق المصحف الذي لا يمكن الانتفاع به.
ولكني أرى أنه إذا أحرقها فليدقَّها حتى تتفتت وتكون رماداً، ذلك لأن المحروق من المطبوع تبقى فيه الحروف ظاهرة بعد إحراقه، ولا تزول إلا بدقِّه حتى يكون كالرماد.
أما إذا مزقت فتبقى هذه طريقة ثالثة، لكنها صعبة؛ لأن التمزيق لابد أن يأتي على جميع الكلمات والحروف، وهذه صعبة إلا أن توجد آلة تمزق تمزيقاً دقيقاً جداً بحيث لا تبقى صورة الحرف، فتكون هذه طريقة ثالثة، وهي جائزة " انتهى.
"فتاوى نور على الدرب" (شريط/25، وجه ب)
وانظر: "الموسوعة الفقهية" (2/123)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/270)
هل نقرأ من مصحف أصابته نجاسة ثم طُهِّر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ابنتي عمرها 10 سنوات كانت في طريقها إلى منزل مدرس القرآن وتحمل معها المصحف، لحقها كلب فخافت وأسرعت ثم سقطت ووقع المصحف في المجاري وأصابه البلل من تلك المياه، أخذ المعلم المصحف وأزال ما به من قذارة وأعطاها المصحف لتقرأ به. ما حكم هذا؟ مع العلم بأن طفلتي لازالت تقرأ من هذا المصحف.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا أزيل ما على المصحف من أذى وقذر، ولم يعد له رائحة كريهة: فإنه لا حرج من القراءة فيه والحفظ منه.
وإن كان فيه رائحة أو لا تزال عليه بعض آثار الأذى والقذر ولم يمكن تطهيره فلا حرج من من تحريقه والإتيان بغيره، تعظيماً لكتاب الله أن يبقى عليه نجاسة أو تظهر منه رائحة كريهة.
وجزاكم الله خيراً على تعظيمكم لكتاب ربكم وسؤالكم مثل هذا السؤال الذي يدل – إن شاء الله – على خير ودين، ونسأل الله أن ييسر لابنتكم حفظ القرآن والعمل به.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/271)
تقسيم المصحف إلى أجزاء وأحزاب
[السُّؤَالُ]
ـ[على أي أساس تم تقسيم المصحف لأجزاء وأحزاب؟ ولماذا يكون ربع الحزب صغيرا، وآخر كبيرا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
تقسيم المصاحف إلى أجزاء وأحزاب وأرباع تقسيم اصطلاحي اجتهادي، ولذلك يختلف الناس في تقسيماتهم، كل بحسب ما يناسبه ويختاره، وبحسب ما يراه الأنفع والأقرب، إلا أن التحزيب المشهور عن الصحابة رضوان الله عليهم هو ما يرويه أوس بن حذيفة قال: (سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ) رواه أبو داود (1393) .
والمعنى: ثلاث سور: وهي بعد الفاتحة: البقرة، وآل عمران، والنساء.
ثم خمس سور، وهي: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة.
ثم سبع سور، وهي: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل.
ثم تسع سور، وهي: سورة الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان.
ثم إحدى عشرة سورة، وهي: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس.
ثم ثلاث عشرة سورة، وهي: الصافات، وص، والزمر، وحَواميِم السَّبع، ومحمد، والفتح، والحجرات.
ثم الباقي، وهو: من سورة ق إلى الناس.
قال الزرقاني في "مناهل العرفان في علوم القرآن" (1/283) ، تحت عنوان " تجزئة القرآن ":
" كانت المصاحف العثمانية مجردة من التجزئة التي نذكرها، كما كانت مجردة من النقط والشكل. ولما امتد الزمان بالناس جعلوا يتفننون في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات مختلفة الاعتبارات:
فمنهم من قسَّم القرآن ثلاثين قسما، وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء، بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره، حتى إذا قال قائل: قرأت جزءا من القرآن، تبادر إلى الذهن أنه قرأ جزءا من الثلاثين جزءا التي قسموا المصحف إليها.
ومن الناس من قسموا الجزء إلى حزبين، ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء، سموا كل واحد منها ربعا.
ومن الناس من وضعوا كلمة " خمس " عند نهاية كل خمس آيات من السورة، وكلمة " عشر " عند نهاية كل عشر آيات منها، فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس، فإذا صارت هذه الخمس عشرا أعادوا كلمة عشر، وهكذا دواليك إلى آخر السورة.
وبعضهم يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس، ويكتب في موضع الأعشار رأس العين بدلا من كلمة عشر.
وبعض الناس يرمز إلى رؤوس الآي برقم عددها من السورة، أو من غير رقم.
وبعضهم يكتب فواتح للسور كعنوان ينوه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية، إلى غير ذلك.
وللعلماء في ذلك كلام طويل بين الجواز بكراهة، والجواز بلا كراهة، ولكن الخطب سهل على كل حال ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل، وما دام الأمر بعيدا عن اللبس والتزيد والدخيل، وعلى الله قصد السبيل " انتهى.
ثانيا:
أما التحزيب الموجود اليوم في المصاحف فليس هناك جزم بأول من وضعه واختاره، ولكن الذي ينقله بعض أهل العلم أن واضعه هو الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة (110هـ) ، وأن مناط التقسيم فيه كان على عدد الحروف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (13/409) -:
" قد علم أن أول ما جُزِّئَ القرآن بالحروف تجزئةَ ثمانية وعشرين، وثلاثين، وستين، هذه التي تكون رؤوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة، وأثناء القصة ونحو ذلك، كان في زمن الحجاج وما بعده، وروي أن الحجاج أمر بذلك، ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك.
وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر؛ فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون: خمسون آية، ستون آية، وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات (يعني تقسيم القرآن إلى سبعة أقسام بالآيات) لم يروه أحد، ولا ذكره أحد، فتعين التحزيب بالسور " انتهى.
وقال ابن تيمية رحمه الله أيضاً - كما في "مجموع الفتاوى" (13/410-416) :
" وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن؛ لوجوه:
أحدها: أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائمًا الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده، حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ في اليوم الثاني مبتدئًا بمعطوف، كقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) النساء/24، وقوله: (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) الأحزاب/31، وأمثال ذلك.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة بسورة كـ " ق " ونحوها، وأما القراءة بأواخر السور وأوساطها، فلم يكن غالبًا عليهم؛ ولهذا يتورع في كراهة ذلك، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره، ومن أعدل الأقوال قول م قال: يكره اعتياد ذلك دون فعله أحيانًا؛ لئلا يخرج عما مضت به السنة، وعادة السلف من الصحابة والتابعين.
وإذا كان كذلك فمعلوم أن هذا التحزيب والتجزئة فيه مخالفة السنة أعظم مما في قراءة آخر السورة ووسطها في الصلاة.
وبكل حال فلا ريب أن التجزئة والتحزيب الموافق لما كان هو الغالب على تلاوتهم أحسن.
والمقصود أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة.
الثالث: أن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء؛ وذلك لأن الحروف في النطق تخالف الحروف في الخط في الزيادة والنقصان، يزيد كل منهما على الآخر من وجه دون وجه، وتختلف الحروف من وجه.
وإذا كان تحزيبه بالحروف إنما هو تقريب لا تحديد، كان ذلك من جنس تجزئته بالسور هو أيضًا تقريب؛ فإن بعض الأسباع قد يكون أكثر من بعض في الحروف، وفي ذلك من المصلحة العظيمة بقراءة الكلام المتصل بعضه ببعض، والافتتاح بما فتح الله به السورة، والاختتام بما ختم به، وتكميل المقصود من كل سورة ما ليس في ذلك التحزيب " انتهى باختصار.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
هل يجوز تحزيب القرآن - يعني عند تلاوته -؛ لما في ذلك من تغيير لأقواله تعالى، ومنه الزيادة والنقصان، وهذا ما شهدناه في بعض مناطق المغرب العربي، هل يجوز ذلك؟
فأجابوا:
"لا نعلم شيئا يدل على التحزيب المثبت على هوامش المصاحف التي بيد الناس اليوم، والوارد عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ما رواه أوس بن حذيفة قال: (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلات عشرة، وحزب المفصل وحده) " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (4/30) .
والحاصل أن تحزيب المصاحف المثبت اليوم يعتمد عدد الأحرف، وهو خلاف التحزيب الأفضل الذي سلكه الصحابة رضوان الله عليهم تبعا للسور، والأمر في هذا سهل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/272)
قراءة القرآن من الجوال هل يشترط لها الطهارة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد في بعض الجوالات برامج للقرآن تستطيع أن تتصفح منها القرآن في أي وقت على شاشة الجوال، فهل يلزم قبل القراءة من الجوال الطهارة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه الجوالات التي وضع فيها القرآن كتابة أو تسجيلا، لا تأخذ حكم المصحف، فيجوز لمسها من غير طهارة، ويجوز دخول الخلاء بها، وذلك لأن كتابة القرآن في الجوال ليس ككتابته في المصاحف، فهي ذبذبات تعرض ثم تزول وليست حروفا ثابتة، والجوال مشتمل على القرآن وغيره.
وقد سئل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك: ما حكم قراءة القرآن من جهاز الجوال بدون طهارة؟
فأجاب حفظه الله: " الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد.
فمعلوم أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب لا تشترط لها الطهارة من الحدث الأصغر، بل من الأكبر، ولكن الطهارة لقراءة القرآن ولو عن ظهر قلب أفضل، لأنه كلام الله ومن كمال تعظيمه ألا يقرأ إلا على طهارة.
وأما قراءته من المصحف فتشترط الطهارة للمس المصحف مطلقاً، لما جاء في الحديث المشهور: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ولما جاء من الآثار عن الصحابة والتابعين، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، وهو أنه يحرم على المحدث مس المصحف، سواء كان للتلاوة أو غيرها،
وعلى هذا يظهر أن الجوال ونحوه من الأجهزة التي يسجل فيها القرآن ليس لها حكم المصحف،لأن حروف القرآن وجودها في هذه الأجهزة تختلف عن وجودها في المصحف، فلا توجد بصفتها المقروءة، بل توجد على صفة ذبذبات تتكون منها الحروف بصورتها عند طلبها، فتظهر الشاشة وتزول بالانتقال إلى غيرها، وعليه فيجوز مس الجوال أو الشريط الذي سجل فيه القرآن، وتجوز القراءة منه، ولو من غير طهارة والله أعلم " انتهى نقلا عن موقع: "نور الإسلام".
وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: أنا حريص على قراءة القرآن وعادة أكون في المسجد مبكرا ومعي جوال من الجوالات الحديثة التي فيها برنامج كامل للقرآن الكريم -القرآن كاملا- بعض المرات: لا أكون على طهارة فأقرأ ما يتيسر وأقرأ بعض الأجزاء، هل تجب الطهارة عند القراءة من الجوالات؟
فأجاب: "هذا من الترف الذي ظهر على الناس، المصاحف والحمد لله متوفرة في المساجد وبطباعة فاخرة، فلا حاجة للقراءة من الجوال، ولكن إذا حصل هذا فلا نرى أنه يأخذ حكم المصحف.
المصحف لا يمسه إلا طاهر، كما في الحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) وأما الجوال فلا يسمى مصحفا " انتهى.
وقراءة القرآن من الجوال فيها تيسير للحائض، ومن يتعذر عليه حمل المصحف معه، أو كان في موضع يشق عليه فيه الوضوء، لعدم اشتراط الطهارة لمسه كما سبق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/273)
حول النسخ في القرآن، وترتيب سوره وآياته.
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك آيات نسخت، أي: مسحت من القرآن، ووضع محلها آية أخرى؟ وهل هناك كتاب يتكلم عن الآيات والسور، يعني: إذا الآيات كانت رتَّبها الصحابة أو الرسول أو الله، واسم السور، وهكذا؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
النسخ في اللغة: الرفع والإزالة، وفي الاصطلاح: رفع حكم دليل شرعي، أو لفظه، بدليل من الكتاب أو السنة.
والنسخ ثابت في الكتاب والسنَّة وفي إجماع أهل السنَّة، وفيه حِكَم عظيمة، وغالباً ما يكون الناسخ تخفيفاً على المسلمين، أو تكثيراً للأجور.
قال الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) البقرة / 106 - 107.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
النسخ: هو النقل، فحقيقة النسخ: نقل المكلفين من حكم مشروع، إلى حكم آخر، أو إلى إسقاطه، وكان اليهود ينكرون النسخ، ويزعمون أنه لا يجوز، وهو مذكور عندهم في التوراة، فإنكارهم له كفر، وهوى محض.
فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ، وأنه ما ينسخ من آية (أَوْ نُنْسِهَا) أي: نُنسها العباد، فنزيلها من قلوبهم: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) وأنفع لكم، (أَوْ مِثْلِهَا) .
فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد، خصوصاً على هذه الأمة، التي سهل عليها دينها غاية التسهيل.
وأخبر أن من قدح في النسخ: فقد قدح في ملكه، وقدرته، فقال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) .
فإذا كان مالكاً لكم، متصرفاً فيكم، تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه: فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير: كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام، فالعبد مدبَّر، مسخَّر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية، فما له والاعتراض؟ .
وهو أيضاً ولي عباده، ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم، وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم: أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته، ورحمته بهم.
ومَن تأمل ما وقع في القرآن والسنَّة من النسخ: عرف بذلك حكمة الله، ورحمته عباده، وإيصالهم إلى مصالحهم، من حيث لا يشعرون بلطفه.
" تفسير السعدي " (ص 61) .
ثانياً:
بمعرفة أنواع النسخ يتبين للأخ السائل جواب سؤاله وزيادة، والنسخ أنواع، وهي:
1. نسخ التلاوة والحكم، كنسخ العشر الرضعات التي كانت تحرم الرضيع على المرضعة، فنسخ لفظها، وحكمها.
2. نسخ التلاوة دون الحكم، كنسخ آية الخمس رضعات التي تحرِّم الرضيع على المرضع، وكآية رجم الزاني والزانية.
3. ونسخ الحكم دون التلاوة، كنسخ آية (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، وكنسخ تحريم الفرار من الزحف إذا كان العدو عشرة أضعاف المسلمين فما دون، فنسخ ضعف عدد المسلمين.
قال ابن عطية – رحمه الله -:
والنسخ التام: أن تنسخ التلاوة والحكم، وذلك كثير، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر.
" المحرر الوجيز " (1/131) .
وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني – رحمه الله -:
النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنوع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معاً، ونسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم.
1. نسخ الحكم والتلاوة جميعاً، فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين، ويدل على وقوعه سمعاً: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قال: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله وهنَّ فيما يقرأ من القرآن " وهو حديث صحيح [رواه مسلم (1452) ] ، وإذا كان موقوفاً على عائشة رضي الله عنها: فإن له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي، بل لا بد فيه من توقيف، وأنت خبير بأن جملة " عشر رضعات معلومات يحرِّمن " ليس لها وجود في المصحف حتى تتلى، وليس العمل بما تفيده من الحكم باقياً، وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعاً، وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه؛ لأن الوقوع أول دليل على الجواز، وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعاً، كأبي مسلم [الأصفهاني، أصولي معتزلي] وأضرابه.
2. نسخ الحكم دون التلاوة، فيدل على وقوعه آيات كثيرة: منها: أن آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول وهي قوله تعالى (يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) منسوخة بقوله سبحانه (ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله) على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية، مع أن تلاوة كلتيهما باقية.
ومنها: أن قول سبحانه (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) منسوخ بقوله سبحانه (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه، مع بقاء التلاوة في كلتيهما كما ترى.
3. نسخ التلاوة دون الحكم، فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب أنهما قالا: (كان فيما أنزل من القرآن " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة ") ، وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف، ولا على ألسنة القراء، مع أن حكمها باقٍ على إحكامه لم ينسخ.
ويدل على وقوعه أيضاً: ما صح عن أبي بن كعب أنه قال: " كانت " سورة الأحزاب " توازي " سورة البقرة "، أو أكثر " [رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (رقم 540) ، وعبد الرزاق في " المصنف " (رقم 5990) ، والنسائي في " السنن الكبرى " (رقم 7150) ، وإسناده صحيح] ، مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ.
ويدل على وقوعه أيضاً: الآية الناسخة في الرضاع، وقد سبق ذكرها في النوع الأول.
ويدل على وقوعه أيضاً: ما صح عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤون سورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول " سورة براءة "، وأنها نسيت إلا آية منها، وهي: " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" [رواه أحمد (19280) ، وإسناده صحيح، وصححه محققو المسند]
" مناهل العرفان " (2 / 154، 155) .
ثالثاً:
أما بخصوص ترتيب الآيات: فالإجماع قائم على أنه ترتيبها في السورة الواحدة توقيفي، ولا دخل لاجتهاد الصحابة فيه.
وأما ترتيب السور: فقد وقع خلاف بين العلماء فيه، والجمهور على أنه كان باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم، مع التسليم بوجود ترتيب لبعض تلك السور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر في بيان المسألتين: جواب السؤال رقم: (3214) .
وأما تسمية السور: فبعضها قد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها كان باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم.
سئل علماء اللجنة الدائمة:
مَن هو الذي سمَّى سور القرآن الكريم، هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أم ماذا؟ .
فأجابوا:
لا نعلم نصّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على تسمية السور جميعها، ولكن ورد في بعض الأحاديث الصحيحة تسمية بعضها من النبي صلى الله عليه وسلم، كالبقرة، وآل عمران، أما بقية السور: فالأظهر أن تسميتها وقعت من الصحابة رضي الله عنهم.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (4 / 16) .
وكل ما سبق من مسائل تجده في الكتب التي عنيت بعلوم القرآن، كالإتقان للسيوطي، والبرهان للزركشي، ومناهل العرفان للزرقاني.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/274)
حكم دخول الخلاء وفي محفظته آيات من القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[حكم دخول الخلاء وفي محفظته آيات من القرآن هل يجوز حمل آيات قرآنية في محفظة النقود في الجيب والدخول إلى الحمام بها في بعض الأحيان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يحرم دخول الخلاء بالمصحف أو جزء منه، إلا لحاجة، كأن يخاف ضياعه إذا تركه في الخارج.
قال في "كشاف القناع" (1/60) : " ويحرم دخول الخلاء بمصحف إلا لحاجة. قال في الإنصاف: لا شك في تحريمه قطعا , ولا يتوقف في هذا عاقل. قلت: وبعض المصحف كالمصحف " انتهى.
وينظر جواب السؤال رقم (42061) .
وحمل آيات من القرآن، إن كان المقصود به حمل أجزاء أو سور مطبوعة من القرآن، يحملها ليتمكن من قراءتها أو حفظها، فلا بأس، لكن لا ينتزعها من المصحف انتزاعا، لما فيه من عدم الاحترام للقرآن.
وإن كان حمل الآيات لأجل التبرك أو دفع العين ونحوه، فهذا محل خلاف بين أهل العلم، والأرجح منعه، وينظر جواب السؤال رقم (10543) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/275)
كتابة الأسماء على المصاحف جائزة
[السُّؤَالُ]
ـ[كثير ما يكتب بعض تواريخ المناسبات مع كلمات إهداء في المصحف هل مسموح بهذا العمل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجوز إذا أراد أن يهدي هذا المصحف يمكن أن يكتب هذه هدية لفلان بمناسبة كذا وكذا، لا مانع إن شاء الله أو يهدي إليه كتاباً ويذكر ذلك سواء نسخاً باليد أو بالمطبعة فلا بأس.
[الْمَصْدَرُ]
فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين مجلة الدعوة العدد/1795 ص/45.(3/276)
حكم إعطاء الكافر المصحف وبهامشه الترجمة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز إعطاء الكفار ترجمة للقرآن تحتوي على النص باللغة العربية من اجل الدعوة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عرضنا السؤال التالي على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
ما حكم إعطاء الكافر ترجمة للقرآن تحتوي على النص باللغة العربية والترجمة والتفسير بنفس الحجم؟
فأجاب حفظه الله:
المعروف - سلمك الله - عند العلماء أنه لا يجوز أن يسلّط الكافر على القرآن، ولكن يدعو الكافر - إذا كان صادقاً يريد أن يعرف عن القرآن - يدعوه إلى المكتبة سواء كانت مكتبة بيته أو مكتبة عامة ويريه القرآن بين يديه. انتهى، وإذا وجدت ترجمة لمعاني القرآن الكريم دون وجود النصّ العربي فلا حرج في إعطائها للكافر، والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد بن صالح العثيمين(3/277)
أخذ الإنجيل من الكافر ليقبل بأخذ القرأن
[السُّؤَالُ]
ـ[رجل مسلم يقول أعطيت ترجمة معاني القرآن لرجل كافر فقال لي لا آخذه حتى تأخذ مني نسخة من الإنجيل بالعربية ولا أقرأه حتى تقرأه فهل يفعل أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
عرضنا هذا السؤال على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين فأجاب حفظه الله:
لا يفعل؛ لأن الإنجيل قد يؤثر على المسلم وهذا لن يؤثر على هذا الخبيث، بدليل أنه مصمم على أن المسلم يأخذ الإنجيل، فلا يوافق إن اهتدى فلنفسه وإن ضل فعليها.
سؤال:
هل يوافق في الظاهر ولا يقرؤه في الباطن.
جواب:
لا يوافق ولا شيء لأن ذلك سوف يفتخر. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد بن صالح العثيمين(3/278)
إهداء الكفار ترجمة معاني القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[أحاول أن أقنع بعض النصارى و"أصحاب الفكر الحر" بالدخول إلى الإسلام. ويظهر عليهم الاهتمام بمعرفة ما يحويه القرآن. لقد قاموا بقراءة الإنجيل وهم يؤمنون بأنه مقدس , لكن فيه أمور تتعارض. وقلت لهم, في المقابل , أن القرآن يخلو من أي تعارض , ليس كما في الإنجيل المُحرَّف , وأنه (القرآن) يحوي كل المعلومات التي يجب أن يعرفوها والتي تخص هذا العالم (الحياة الدنيا) واليوم الآخر. لكنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة القبول بذلك. وكوسيلة لإثبات ما ذكرت , كنت سأشتري لكل واحد منهم نسخة من ترجمة معاني القرآن لمحمد أسعد. وقد وعدوني بقراءته , وأنهم سيخبرونني فيما بعد برأيهم. فهل تظن أن هذه فكرة جيدة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا تُعْتَبَرُ تَرْجَمَةُ مَعَانِي القُرْآَنِ قُرْآناً، ولا تُنَزَّلُ مَنْزِلَتُه مِنْ جَمِيع النَّواحي، بل هو مثل تفسير القرآن باللغة العربية، في تَقْرِيب المعاني، والمساعدة على الاعتبار، وعلى هذا يجوز مَسُّ الكُفَّار تَرْجَمَةَ معاني القرآن بغير اللغة العربية ويجوز مَسُّهُمْ تفسيره باللغة العربية.
فتاوى اللجنة الدائمة 4/133
وعلى هذا فيجوز إهْدَاؤُهُم هذه الترجمة، وفقنا الله وإياك للدعوة إلى سبيله بالحسنى. وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/279)
هل يجوز كتابة آيات القرآن بحروف مقطعة؟ وهل الرسم العثماني ملزم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تعتبر كتابة الآيات بهذه الطريقة تحريفا للقرآن " إن اللـ هـ لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بـ أنفسهـ م " فقد شاعت هذه الطريقة في المنتديات الحديثة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كتابة الآيات القرآنية على وفق القواعد الإملائية الحديثة، وعلى غير الرسم العثماني له وجهان:
الأول: أن يكون ذلك بكتابة القرآن كله في مصحف.
والثاني: أن تكتب بعض الآيات في الكتب، والمنتديات، والمقالات.
وإذا أمكن التساهل في الأمر الثاني، وسمحنا بكتابة الآية والآيتين في كتب العلم، حسب قواعد الإملاء الحديثة، فإن الأمر الأول وهو كتابة المصحف كله لا يسمح بها، ولا يُتهاون فيها، وذلك لقطع الطريق على العابثين الذين يمكن أن يجمعوا القرآن على هيئات مختلفة من الكتابة – غير الرسم العثماني – فيطول الزمان على الناس فيرون خلافاً بين نسخ المصاحف في العالم.
ومن هنا جاء قرار المجمع الفقهي في مكة المكرمة مؤيداً لما وصل إليه قرار كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من منع كتابة المصاحف بغير الرسم العثماني.
ونص قرار المجمع الفقهي:
".... فإن " مجلس المجمع الفقهي الإسلامي " قد أطلع على خطاب الشيخ هاشم وهبة عبد العال من جدة الذي ذكر فيه موضوع " تغيير رسم المصحف العثماني إلى الرسم الإملائي "، وبعد مناقشة هذه الموضوع من قبل المجلس، واستعراض قرار " هيئة كبار العلماء " بالرياض رقم (71) ، وتاريخ 21 / 10 / 1399هـ، الصادر في هذا الشأن، وما جاء فيه من ذكر الأسباب المقتضية بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي:
1. ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين، ووافقه الصحابة، وتابعهم التابعون، ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم: هو المتعين؛ اقتداء بعثمان، وعلي، وسائر الصحابة، وعملاً بإجماعهم.
2. أن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليّاً بقصد تسهيل القراءة: يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح، قابل للتغير باصطلاح آخر، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن، بتبديل بعض الحروف، أو زيادتها، أو نقصها، فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين، ويجد أعداء الإسلام مجالاً للطعن في القرآن الكريم، وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن.
3. ما يخشى من أنه إذا لم يلتزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس، كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها، فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية، أو غيرها، وفي هذا ما فيه من الخطر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح وبعد اطلاع " مجلس المجمع الفقهي الإسلامي " على ذلك كله قرر بالإجماع تأييد ما جاء في قرار " مجلس هيئة كبار العلماء " في المملكة العربية السعودية من عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني، ووجوب بقاء رسم المصحف العثماني على ما هو عليه، ليكون حجة خالدة على عدم تسرب أي تغيير، أو تحريف في النص القرآني، واتباعاً لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
أما الحاجة إلى تعليم القرآن وتسهيل قراءته على الناشئة التي اعتادت الرسم الإملائي الدارج: فإنها تتحقق عن طريق تلقين المعلمين، إذ لا يستغني تعليم القرآن في جميع الأحوال عن معلم، فهو يتولى تعليم الناشئين قراءة الكلمات التي يختلف رسمها في قواعد الإملاء الدارجة، ولا سيما إذا لوحظ أن تلك الكلمات عددها قليل، وتكرار ورودها في القرآن كثير ككلمة (الصلوة) و (السموات) ، ونحوهما، فمتى تعلَّم الناشئ الكلمة بالرسم العثماني: سهل عليه قراءتها كلما تكررت في المصحف، كما يجري مثل ذلك تماماً في رسم كلمة (هذا) و (ذلك) في قواعد الإملاء الدارجة أيضاً.
رئيس مجلس المجمع الفقهي: الشيخ عبد العزيز بن باز.
نائب الرئيس: د. عبد الله عمر نصيف.
" فتاوى إسلامية " (4 / 34، 35) .
وعليه نقول:
لا وجه لإجازة كتابة الآيات بالطريقة الواردة في السؤال لسببين:
الأول: أنه لا يوجد قول بإباحة كتابة القرآن بأي كيفية، والوارد في كلام أهل العلم: الرسم العثماني، والرسم الإملائي، وليست هذه الطريقة من أي منهما.
والثاني: أن في هذه الطريقة مشابهة لكتابات السحرة، حيث يكتبون الآيات بتقطيع حروفها، وتبديل أماكنها.
لذا فلا نرى جواز كتابة الآيات القرآنية بطريقة تقطيع الحروف، ونرى الاكتفاء بالرسم العثماني لكتابة مصحف كامل، أو على الطريقة الحديثة بحسب قواعد الإملاء إذا أردت كتابة آيات في كتاب أو مقال. وإن كان الأفضل – في هذه الحال أيضاً – أن تنسخ من المصحف برسمه العثماني.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/280)
مس الكافر للمصحف وعمله في طباعته أو تجليده
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز للمشرك أو الكافر من أهل الكتاب أو غيره أن يمس أي ورقة كتب عليها قرآن كريم أو يطلع عليها، وزيادة بالإيضاح نحن لدينا مطبعه ونطبع فيها المصحف الشريف، ولقد أصاب الآلة التي تطبع أوراق المصحف عطل فني لم نتمكن من إصلاحه، وتم استدعاء مهندس من الشركة المصنعة للآلة لإصلاح الخلل، وعندما تم الإصلاح من قبله، وأراد هذا المهندس من أهل الكتاب التأكد من المشكلة في الطبعة، أراد أن يلمس الورق المطبوع فيها آيات من المصحف الشريف، فتم منعه من ذلك، وسحبت الأوراق من تحت يده، واختلف الرأي: هناك فريق يقول لا يوجد حرج بأن يفحص ما تم طباعته للتأكد من أن المشكلة الموجودة في الآلة قد حلت، وفريق أخر يقول حرام أن يمس القرآن لأنه نجس، مستنداً بقوله تعالى (لا يمسه إلا المطهرون) تم بعد ذلك تغير العمل من طباعة المصحف إلى عمل آخر لكتاب لا يوجد فيه قرآن ليتم الفحص من قبل هذا المهندس.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذهب جمهور الفقهاء إلى منع الكافر من مس المصحف، وتحريم تمكينه منه، لأنه إذا منِع المسلم غير المتوضئ من مس المصحف فالكافر من باب أولى، ولما يخشى من امتهانه المصحف، ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، كما روى البخاري (2990) ومسلم (1869) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ.
زاد مسلم: (مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ) .
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (2/85) : " قال أصحابنا: لا يمنع الكافر سماع القرآن، ويمنع مس المصحف. وهل يجوز تعليمه القرآن؟ ينظر إن لم يرج إسلامه لم يجز , وإن رجي جاز في أصح الوجهين " انتهى.
وقال الرملي رحمه الله: " ويمنع الكافر من وضع يده على المصحف لتجليده كما قاله ابن عبد السلام وإن رجي إسلامه , بخلاف تمكينه من القراءة لما في تمكينه من الاستيلاء عليه من الإهانة " انتهى من "نهاية المحتاج" (3/389) .
وقال الباجي في "المنتقى" (3/165) : " ولو أن أحدا من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف يتدبره لم يرسل إليه به؛ لأنه نجس جنب ولا يجوز له مس المصحف، ولا يجوز لأحد أن يسلمه، إليه ذكره ابن الماجشون " انتهى.
وجاء في "الموسوعة الفقهية": " مس الكافر المصحف وعمله في نسخ المصاحف وتصنيعها: يمنع الكافر من مسّ المصحف , كما يمنع منه المسلم الجنب , بل الكافر أولى بالمنع , ويمنع منه مطلقاً , أي سواء اغتسل أو لم يغتسل , وفي الفتاوى الهنديّة: أنّ أبا حنيفة قال: إن اغتسل جاز أن يمسّه , وحكي في البحر عن أبي حنيفة وأبى يوسف المنع مطلقاً.
ويمنع الكافر من العمل في تصنيع المصاحف , ومن ذلك ما قال القليوبي: يمنع الكافر من تجليد المصحف وتذهيبه , لكن قال البهوتيّ: يجوز أن ينسخ الكافر المصاحف دون مسٍّ أو حملٍ " انتهى (مصحف، فقرة 30) .
وفيها أيضا: " ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز للكافر مس المصحف لأنّ في ذلك إهانةً للمصحف.
وقال محمّد بن الحسن: لا بأس أن يمسّ الكافر المصحف إذا اغتسل , لأنّ المانع هو الحدث وقد زال بالغسل , وإنّما بقي نجاسة اعتقاده وذلك في قلبه لا في يده " انتهى (كفر، فقرة 16) .
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: ما حكم مس النصراني للمصحف، وكذلك مسه لترجمة معاني القرآن الكريم؟
فأجاب: " هذا فيه نزاع بين أهل العلم، والمعروف عند أهل العلم منع النصراني واليهودي وسائر الكفرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، قال: لئلا تناله أيديهم، فدل ذلك على أنهم لا يمكنون منه وإنما يمكنون من السماع، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) الآية، يعني: يتلى عليهم حتى يسمعوه، ولكن لا يدفع إليهم القرآن. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك إذا رجي إسلام الكافر واحتجوا على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم قوله جل وعلا: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) الآية،
قالوا: هذه الآية العظيمة آية من كتاب الله وقد كتبها إلى هرقل. والصواب أنه ليس بحجة، وإنما يدل على جواز الكتابة للآية والآيتين من كتاب الله. أما تسليم المصحف فليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة لكتاب ترجمة معاني القرآن فلا حرج في أن يمسه الكافر؛ لأن المترجَم معناه أنه كتاب تفسير وليس بقرآن، أي أن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسه الكافر أو من ليس على طهارة فلا حرج؛ لأنه ليس له حكم القرآن، وحكم القرآن يختص بما إذا كان مكتوبا بالعربية وحدها وليس فيه تفسير، أما إذا كان معه الترجمة فحكمه حكم التفسير، والتفسير يجوز أن يحمله المحدث والمسلم والكافر؛ لأنه ليس كتاب القرآن ولكنه يعتبر من كتب التفسير " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (24/340) .
على أننا ننبه هنا إلى أن امتهان الكافر للمصحف - في مثل هذه الصورة المسئول عنها – غير ظاهر، بل يبعد هنا جداً. وإنما الامتهان الحقيقي – فيما يظهر لنا هنا – هو أن نقوم بطباعة صفحة من المصحف لا لشيء إلا لتجربة الآلة، وإذا كان أهل العلم قد اختلفوا في حكم الأوراق البالية من المصحف: هل تُحرق أو تُغسل، أو تمزق ومن منع من شيء من ذلك رأى أنه " خلاف الاحترام "
انظر: "البرهان في علوم القرآن للزركشي" (1/477)
فكيف نعتمد طبع أوراق لمجرد التجربة، ثم نتخلص منها بعد ذلك؟!
وبناء على ذلك، فإذا أمكن فحص آلة الطباعة وتجربتها على غير المصحف، كما فعلتم، فهو الواجب ولا يجوز طباعة ورقة من المصحف لذلك الغرض، ما دام يمكن أن يتم بغير المصحف، وإذا فحص الكافر آلة الطباعة، وجربها من غير مس الأوراق المطبوعة، فلا حرج أيضاً.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/281)
ما حكم وضع القرآن على السجادة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم وضع القرآن على السجادة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا خلاف بين العلماء في وجوب احترام القرآن وصيانته.
قال النووي - رحمه الله -:
أجمع العلماء على وجوب صيانة المصحف واحترامه.
" المجموع " (2 / 85) .
ولا ينبغي للمسلم أن يقع في المبالغة في هذا الاحترام حتى يصل به الأمر إلى الغلو، فقد بالغ أقوام في هذا الباب وسلكوا طرقاً هي غاية في التكلف، كما روي عن بعضهم أنه قال: " ما دخلتُ بيتا منذ ثلاثين سنة وفيه مصحف إلا وأنا على وضوء "! وكان بعضهم إذا كان في بيت فيه المصحف لم ينم تلك الليلة، مخافة أن يخرج منه ريح في بيت فيه مصحف!
وفي هذه الأفعال مخالفة واضحة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقد كانوا يقيمون في غرف صغيرة ضيقة، ولم يكن يمنعهم هذا من النوم في بيوتهم، وجماع أهلهم، وبقائهم من غير وضوء لفترة، مع وجود صحفٍ من المصحف في بيوتهم، وعندما جُمع القرآن كان في بيوت كثيرين منهم.
ولم يكن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مساجد الصحابة فيها رفوف توضع عليها أوراق المصاحف، وأوراق العلم، لذا فإن العبرة بالفعل هل يعدُّ امتهاناً أم لا، ووضعه على أرضٍ طاهرة لمن احتاج لذلك – كمن يريد سجود التلاوة – لا حرج فيها إن شاء الله.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
ومن النصيحة لكتاب الله عز وجل: أن لا تضعه في موضع يمتهن فيه، ويكون وضعه فيه امتهاناً له، كمحل القاذورات، وما أشبه ذلك، ولهذا يجب الحذر مما يصنعه بعض الصبيان إذا انتهوا من الدروس في مدارسهم، ألقوا مقرراتهم والتي من بينها الأجزاء من المصحف في الطرقات أو في الزبالة أو ما أشبه ذلك، والعياذ بالله.
وأما وضع المصحف على الأرض الطاهرة الطيبة: فإن هذا لا بأس به، ولا حرج فيه؛ لأن هذا ليس فيه امتهان للقرآن، ولا إهانة له، وهو يقع كثيراً من الناس إذا كان يصلي ويقرأ من المصحف وأراد السجود يضعه بين يديه: فهذا لا يعدُّ امتهانا، ولا إهانة للمصحف، فلا بأس به.
" شرح رياض الصالحين " (1 / 423) دار ابن الهيثم، شرح حديث رقم (181) .
وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين – حفظه الله -:
ما حكم وضع المصحف على الأرض الطاهرة أو السجادة؟ .
فأجاب:
الأوْلى أن يوضع على مكان مرتفع حتى يتحقق رفعه حسّاً ومعنى، قال الله تعالى: (مرفوعة مطهرة) فإذا احتجتَ إلى وضعه: فضعْه على مكان مرتفع ولو قليلاً، فإذا لم يتيسر: جاز وضعه على الأرض على فراشٍ طاهرٍ، ونحوه، وينزَّه المصحف بأن يوضع على مكان منخفض أو على مكان متنجس أو على التراب؛ لما فيه من الاحتقار له، وإذا احتيج إلى وضعه على فراش طاهر: فلا بأس بذلك، مع الحرص على رفعه حسّاً ومعنى.
" فتاوى إسلامية " (4 / 15) .
وعليه: فإذا كانت السجادة طاهرة، وبعيدة عن أن يُعبث بالمصحف من الأطفال وغيرهم: فلا حرج في وضع المصحف عليه، ووضعه في مكان مرتفعٍ أولى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/282)
قراءة القرآن في الحمام
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تجوز تلاوة القرآن في الحمام؟ (دون أخذ المصحف للداخل) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن القرآن العظيم، أفضل كتاب على الإطلاق عرفته البشرية، إذ هو كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب الرسول الكريم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، فهو الكتاب الخالد والمعجزة الدائمة المستمرة والمتجددة على مر الأزمنة والعصور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولهذا الكتاب الكريم آداب كثيرة ينبغي أن تراعى عند تلاوته ومن بين هذه الآداب نظافة المكان، ولقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم " التبيان " جملة الآداب التي تنبغي للمسلم أن يراعها عند قراءته كتاب الله العزيز، وذكر مسألة قراءة القرآن في الحمام والحش [الحمام هو مكان الاستحمام , والحش هو مكان قضاء الحاجة] , ونقل أقوال أهل العلم فيها؛ قال رحمه الله: (ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار.
ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعا للنظافة , وشرف البقعة ... وأما القراءة في الحمام فقد اختلف السلف في كراهيتها , فقال أصحابنا _ أي الشافعية _: لا يكره , ونقله أبو بكر بن المنذر في "الإشراف" عن إبراهيم النخعي ومالك , وهو قول عطاء.
وذهب إلى كراهته جماعات منهم علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – رواه عنه ابن أبي داود.
وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين منهم أبو وائل شقيق بن سلمة والشعبي والحسن البصري ومكحول وقبيصة بن ذؤيب , وعن أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين , قال الشعبي: تكره القراءة في ثلاثة مواضع: في الحمامات والحشوش وبيوت الرحى وهي تدور. وعن أبي ميسرة قال: لا يُذكر الله إلا في مكان طيب) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
هل يجوز ذكر الله تعالى في الحمام؟.
فأجاب:
لا ينبغي للإنسان أن يذكر ربه عز وجل في داخل الحمام، لأن المكان غير لائق لذلك، وإن ذكره بقلبه فلا حرج عليه، بدون أن يتلفظ بلسانه، وإلا فالأولى أن لا ينطق به بلسانه في هذا الموضع وينتظر أن يخرج منه.
أما إذا كان مكان الوضوء خارج محل قضاء الحاجة فلا حرج أن يذكر الله فيه.
مجموع فتاوى ابن عثيمين 11/109.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/283)
معاق يسأل عن وضع سلك مكان كعب المصحف
[السُّؤَالُ]
ـ[شخص معاق ويصعب عليه تقليب صفحات المصحف وإمساكها عن الرجوع، هل يجوز أن يضع فيه سلك مكان كعبه؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يظهر أي حرج في وضعه سلكاً مكان كعب المصحف ليسهل عليه تقليب أوراق المصحف ويمنعها من الرجوع، وتعظيم كتاب الله تعالى واجب في أوراقه وجلده، لكن دون مبالغة أو غلو، فقد قال بعض العلماء باستحباب القيام للقرآن تعظيماً له، وهذا من المبالغة المخالفة للشرع، وأعظم تعظيم لكتاب الله تعالى: قراءته، والعمل به.
وقد أفتى بعض التابعين بجواز مس القرآن بِعِلاقة، وذلك لمن كان محدثا حدثاً أصغر أو أكبر، وهذا أولى بالجواز لو كان ممنوعاً منه.
قال البخاري – رحمه الله -:
بَاب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِي رَزِينٍ فَتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ فَتُمْسِكُهُ بِعِلَاقَتِهِ.
" صحيح البخاري " (1 / 114) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
قوله: (وكان أبو وائل) هو التابعي المشهور صاحب ابن مسعود , وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح.
قوله: (بعلاقته) بكسر العين , أي: الخيط الذي يربط به كيسه , وذلك مصير منهما إلى جواز حمل الحائض المصحف لكن من غير مسه.
" فتح الباري " (1 / 402) .
وقال ابن المنذر – رحمه الله -:
قال الحكم وحماد في الرجل يمسّ المصحف وليس بطاهر، قالا: إذا كان في عِلاقة: فلا بأس.
" الأوسط " (2 / 101) .
وهذا التجويز من هؤلاء الأئمة – ووافقهم عليه الحنفية والحنابلة – بسبب أنهم يرون أن الماسَّ للمصحف بعِلاقته لا يعدُّ ماسّاً لذات المصحف، وهم يمنعون من مسه لغير الطاهر.
وأفتى بعض العلماء بجواز تقليب أوراق المصحف بعُودٍ ونحوه، وذلك لمن أراد أن يقرأ القرآن وهو محدث، حتى لا يمسه بيده، وهو قول الجمهور خلافاً للمالكية.
ففي " الموسوعة الفقهية " (38 / 7) :
ولو قلّب غير المتطهّر أوراق المصحف بعُودٍ في يده: جاز عند كلٍّ من الحنفيّة والحنابلة , ولم يجز عند المالكيّة على الرّاجح , وعند الشّافعيّة صحّح النّووي جواز ذلك؛ لأنّه ليس بمسّ ولا حملٍ , قال: وبه قطع العراقيون من أصحاب الشّافعيّ.
انتهى
وهذا الأخ المعاق فعله أولى بالجواز لو قيل بالمنع أصلاً، والصحيح أنه لا يمنع؛ لقيام العذر به، وهو الإعاقة التي تمنعه من التحكم بتقليب أوراق المصحف، وعدم رجوعها، وعدم مخالفة فعله للتعظيم المشروع لكتاب الله تعالى، بل إن حرصه على تلاوة كتاب الله تعالى وتعلمه، بحسب الطاقة، هو من تعظيم كتاب الله تعالى وإكرامه.
ونسأل الله تعالى أن يمنَّ عليه بالشفاء العاجل، وأن يرفع درجته، وأن ييسر له حفظ القرآن والعمل به.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/284)
هل في القرآن ألفاظ غير عربية؟
[السُّؤَالُ]
ـ[يقول تعالى عن القرآن إنه " بلسان عربي مبين " والكلمات: (عليون، سجين، مرقوم، أرائك، تسنيم) مأخوذة من العبرية كما في " الإتقان " للسيوطي (1 / 141 و 171) وهنالك العديد من ألفاظ الفارسية!! فكيف نفهم أنه بلسان عربي مبين وبه العديد من الألفاظ الأعجمية؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أجمع العلماء على أنه ليس في القرآن " كلام مركب من ألفاظ أعجمية " يعطي معنى من هذا التركيب.
وأجمعوا على أن في القرآن " أسماء أعلام أعجمية " مثل: نوح، ولوط، وإسرائيل، وجبريل.
قال القرطبي - رحمه الله - في " مقدمة تفسيره ":
لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب، وأن في القرآن أسماء أعلاماً لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط.
" تفسير القرطبي " (1 / 68) .
واختلفوا: هل فيه " ألفاظ أعجمية مفردة "؟ .
فذهب الجمهور إلى عدم وجود ألفاظ أعجمية في القرآن، وذهب آخرون إلى وجودها، وتوسط طرف ثالث فتأول وجودها على أنها مشتركة بين العرب وغيرهم، وعلى أن العرب استعملوها وعرَّبوها فصارت تنسب إليهم، لا باعتبار أصلها، بل باعتبار استعمالها وتعريبها.
وممن نصر القول الأول، وهو عدم وجود ألفاظ أعجمية في القرآن: الإمامان الجليلان: الشافعي والطبري، ووافقهما: أبو عبيدة، وابن فارس، وأكثر أهل اللغة، وهو الذي نصره وأيده: بدر الدين الزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن ".
ومن أدلتهم:
1. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء / 192 – 195] .
2. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد / 37] .
3. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الشورى / 7] .
4. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف / 3] .
5. وقال تعالى: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر / 28] .
قال الإمام الشافعي – بعد أن ساق الآيات السابقة -:
" فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه، فقال تبارك وتعالى: {ولقد نعلم انهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل / 103] ، وقال: {ولو جعلناه أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ءاعجمي وعربي} [فصلت / 44] .
" الرسالة " (ص 46، 47) .
وذهب الإمام المفسر ابن عطية إلى القول الثاني: أن في القرآن بعض ألفاظ أعجمية، ووافقه بعض الفقهاء، وهو الذي نصره وأيده: جلال الدين السيوطي في كتابه " الإتقان في علوم القرآن ".
ومن أدلتهم: ما وجد من ألفاظ أعجمية كإستبرق، وسندس، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث للناس كافة، فلا يمتنع وجود أكثر من لغة في القرآن، بل هو أبلغ في الإعجاز.
وردَّ الشافعي – وغيره – على هذا بالقول أن بعض الألفاظ قد تكون عند العرب، ويخفى هذا على المفسر، فيظنها أعجمية، وهذا لأن اللغة العربية أوسع اللغات لساناً وألفاظاً، وقال – رحمه الله - عبارته المشهورة " ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ".
وردوا – كذلك – بأنه لا يمتنع أن تكون هذه الألفاظ مشتركة بين العرب وغيرهم، وهو أمر غير منكر قديما وحديثاً.
قال الطبري:
" ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها، كما قد وجدنا اتفاق كثير منهم فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس ". انتهى
والمذهب الثالث هو لبعض الباحثين، وهو يجمع بين القولين، فهو يقول: إن وجود بعض الألفاظ الأعجمية لا يُخرجه عن كونه عربيّاً؛ لأنها قليلة، والعبرة للأكثر، كما أن من يعرف كتابة اسمه فقط لا يُخرجه عن كونه أمِّيّاً، وأن هذه الألفاظ هي أعجمية في الأصل، عربية بالاستعمال والتعريب.
وبعد هذا العرض للأقوال يتبين أنه لا مجال للطعن في كتاب الله تعالى بمثل هذه الشبهة، وأنه لو كانت مجالاً للطعن في القرآن لما تركها أسلاف هؤلاء من مشركي مكة ومن بعدهم، وهم أهل لغة، ولم يتركوا مجالاً لأحدٍ للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب ربه إلا قالوه، وهو أنهم وجدوا هذه الشبهة قائمة لقالوها.
وللتوسع: ينظر " تفسير القرطبي " (1 / 68، 69) ، وكتاب " الإتقان " للسيوطي " و " البرهان " للزركشي ".
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/285)
اضطرت للمس المصحف وهي حائض
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد مسست المصحف وقرأت منه وأنا حائض على امرأة فيها مس قد ثارت ولم يستطيع أحد أن يقرأ عليها لتهدئتها فلم يكن بينهم من يجود ويرتل غيري فاضطررت للقراءة ... فما الحكم في تصرفي هذا.. هل علي إثم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز لغير المتوضئ (الحائض وغيرها) أن يمس المصحف في قول جمهور العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلا طَاهِرٌ) رواه مالك في الموطأ (468) وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (122) .
وللحائض أن تقرأ القرآن من غير مس للمصحف على القول الراجح، كما لو قرأت من حفظها، أو أمسكت المصحف بحائل، ولها أن تقرأ من المصحف المشتمل على تفسير، كما هو مبين في جواب السؤال (2564) ، (60213) .
فكان عليك أن تتجنبي مس المصحف مباشرة، وأن تمسكيه بشيء منفصل عنه كخرقة طاهرة أو تلبسي قفازا، أو تقلبي أوراق المصحف بعود أو قلم ونحو ذلك.
أما وقد حصل المحظور، فما عليك إلا أن تستغفري الله تعالى، وتتوبي إليه، ونسأل الله أن يتجاوز عنك، كما نسأله أن يتقبل منك ويثيبك على مساعدتك لأختك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(3/286)
حمل المصحف عند دخوله الحمام
[السُّؤَالُ]
ـ[دائما أحمل معي قرآن بغض النظر أين أكون ذاهبا لأنني أحب أن أقرأ دائما، أضعه في حقيبة كتبي، ماذا أفعل إذا كنت خارج المنزل وأردت الذهاب للحمام؟ لا أستطيع أن أتركه خارجاً فربما يأخذه أحد ما، فأضعه في حقيبة الكتب وآخذها معي للحمام فهل هذا جائز؟
في أمريكا دورات المياه فيها مساحات كبيرة، ومكان مخصص لقضاء الحاجة.
أين يمكن أن أضع حقيبتي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا تمكنت من إبقائه خارجا فهذا جيد، وإذا خشيت عليه من السرقة أو الضياع فلا بأس من أن تدخله معك الحمام وهو في الحقيبة، وإذا جعلت الحقيبة بعيدة عن المرحاض فهذا هو الأكمل والأحسن. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/287)
حكم الاتجار بالمصاحف
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الاتجار بالمصاحف؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الاتجار في المصاحف جائز لما فيه من التعاون على الخير، وتيسير الطريق للحصول على المصاحف، وحفظ القرآن أو قراءته نظراً، والبلاغ وإقامة الحجة.
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى اللجنة الدائمة ج13/47.(3/288)
حكم تقبيل المصحف
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم تقبيل المصحف بعد سقوطه من مكان مرتفع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا نعلم دليلاً على مشروعية تقبيله، ولكن لو قبله الإنسان فلا بأس لأنه يروى عن عكرمة بن أبي جهل الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه أنه كان يقبل المصحف ويقول: هذا كلام ربي، وبكل حال التقبيل لا حرج فيه ولكن ليس بمشروع وليس هناك دليل على شرعيته، ولكن لو قبله الإنسان تعظيماً واحتراماً عند سقوطه من يده أو من مكان مرتفع فلا حرج في ذلك ولا بأس إن شاء الله.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. م/9 ص/289.(3/289)
الكافر ومس القرآن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لغير المسلم أن يقرأ القرآن بدون أن يطهر نفسه تماما (قبل أن يمس الكتاب) ، كما يفعل المسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القرآن الكريم لا يمسّه إلا المطهرون، وقد قال تعالى: (إنما المشركون نجس) فعلى هذا لا يُمكّن الكافر من مس القرآن سواء كان نصرانيا أو يهوديا أو بوذيا أو هندوسيا أو غير ذلك، لكن يجوز أن يسمع القرآن من الإذاعة أو من الأشرطة، كما يجوز له أن يقرأ في ترجمة معاني القرآن الموجودة بعدة لغات.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ ابن جبرين.(3/290)
لا حرج على من سقط منها المصحف دون قصد
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا في الثامنة عشرة من عمري الآن. وعندما كنت في العاشرة، حدث أن كنت أقرأ القرآن, ثم نهضت لأصلي، فذهبت مسرعة ووضعت المصحف على صندوق داخل خزانة صغيرة ذات رفوف. وبعد أن انتهيت من صلاتي، وجدت أن القرآن سقط على الأرض, ويا للحسرة. فسألت الله أن يغفر لي, وأنا لا أزال أسأله المغفرة عقب كل صلاة. ومع ذلك, فأنا لا أزال غير مرتاحة وأريد أن أتوب من ذلك للأبد. فكيف أفعل؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يشك مسلم في وجوب احترام كتاب الله تعالى، وقد اتفق العلماء على كفر من تعمد إهانته.
وفي الوقت نفسه رفع الله تعالى الإثم عن الجاهل والناسي والمخطئ.
قال الله تعالى - على لسان المؤمنين -: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) البقرة /286، وفي رواية عند مسلم من حديث أبي هريرة (125) قال الله تعالى: " نعم "، وفي أخرى من حديث ابن عباس (126) : قال الله تعالى: " قد فعلت ".
ومن لا إرادة له في الشيء كالمُكره والنائم: فإنه لا يأثم بقول أو بفعل مخالف للشرع.
وأنتِ لم تصنعي شيئاً مخالفاً للشرع، وسقوط المصحف لا إرادة لكِ فيه، ولم يكن منكِ تقصير في حفظه.
والشرع كما طلب منا التوبة من الذنب والرجوع عن الخطأ، فإنه في الوقت نفسه يحذر من الوسوسة واليأس من عفو ورحمة الله.
ونسأل الله أن يوفقكِ لما يحب ويرضى. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/291)
الدخول بالجوالات التي فيها القرآن إلى الخلاء
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشر في الآونة الأخيرة أجهزة الإلكترونية والجوال يمكن تخزين القران الكريم عليهم (بالصوت) فما حكم إدخال هذه الأجهزة في أماكن الخلاء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يحرم إدخال هذه الجوالات إلى الخلاء لأنها ليس لها حكم المصحف، ولو بعد تسجيل القرآن داخلها، لأنه صوت داخلي مخفيٌّ وليس بكتابة ظاهرة. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/292)
حكم ترجمة القرآن إلى غير اللغة العربية ومس الكافر له
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن يترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية مثلاً ويقرؤه الكفار، والله تعالى يقول: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) ومكتوب على عنوان هذا الكتاب: (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطاً ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة تماثله في دقة تعبيره وعلو أسلوبه وجمال سبكه وإحكام نظمه وتقوم مقامه في إعجازه وتحقيق جميع مقاصده من إفادة الأحكام والآداب والإبانة عن العبر والمعاني الأصلية والثانوية ونحو ذلك مما هو من خواص مزاياه المستمدة من كمال بلاغته وفصاحته ومن حاول ذلك فمثله كمثل من يحاول أن يصعد إلى السماء بلا أجهزة ولا سلم أو يحاول أن يطير في الجو بلا أجنحة ولا آلات.
ويمكن أن يعبر العالم عما فهمه من معاني القرآن حسب وسعه وطاقته بلغة أخرى ليبين لأهلها ما ما أدركه فكره من هداية القرآن وما استنبطه من أحكامه أو وقف عليه من عبره ومواعظه لكن لا يعتبر شرحه لتلك غير اللغة العربية قرآناً ولا ينزل منزلته من جميع النواحي، بل هو نظير تفسير القرآن باللغة العربية في تقريب المعاني والمساعدة على الاعتبار واستنباط الأحكام، ولا يسمى ذلك التفسير قرآناً، وعلى هذا يجوز للجنب والكفار مس ترجمة معاني القرآن بغير اللغة العربية، كما يجوز مسهم تفسيره باللغة العربية.
[الْمَصْدَرُ]
اللجنة الدائمة.(3/293)
إعادة تصنيع الأوراق التي تحوي ذكر الله
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز أن نضع الأوراق التي تحوي اسم الله ليعاد تصنيعها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا بأس بإعادة تصنيع هذه الأوراق دون تعريضها للامتهان قبل إزالة الكتابة عنها. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/294)
تقبيل المصحف والأصابع والتمايل في القراءة
[السُّؤَالُ]
ـ[سؤالي يتعلق بالبدعة، حيث رأيت في المسجد الذي أتردد عليه بعض الأخوة يقومون بأفعال أظنها بدعة ولكني أحتاج إلى تأكيد ذلك من المصادر. وأود أن أحاول تصحيح هذه الأفعال، بالحكمة إن شاء الله، إذا لم تكن صحيحة.
1. النفخ على الأصابع ومسح العينين بالإبهام بعد الدعاء.
2. ختم الدعاء دائماً بالفاتحة.
3. تقبيل القرآن عند تناوله وقبل وضعه.
4. التمايل أثناء الجلوس في الصلاة أو قراءة القرآن.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا بدّ في العبادات أن تكون قائمة على الدليل من القرآن والسنّة الصحيحة ومن قواعد هذه الشّريعة أن الله لا يُعبد إلا بما شرع ولا يُعبد بالبدع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ " أي عمله حابط مردود عليه لا يقبله الله، وختْم الدعاء بالفاتحة لا دليل عليه من الكتاب والسنّة وكذلك النفخ في الأصابع ومسح العينين بها بعد الدعاء، وقد ذكر الشقيري رحمه الله من البدع تقبيل أظافر الإبهامين ومسح العينين بها بعد الدعاء عقب الصلاة، وكذلك جمع رؤوس أصابع اليدين وجعلها على العينين بعد الصّلاة مع ما يقرؤونه بدعة سمجة: السنن والمبتدعات (ص:71) ، وعن مسألة تقبيل المصحف أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء عن سؤال وُجّه إليها حول الموضوع بالفتوى التالية: لا نعلم لتقبيل الرجل القرآن أصلا. وفي جواب آخر: لا نعلم دليلا على مشروعية تقبيل القرآن الكريم وهو أنزل لتلاوته وتدبره وتعظيمه والعمل به. فتاوى اللجنة الدائمة (رقم4172) .
وجاء في الآداب الشرعية (2/273 ط. الرسالة) لابن مفلح ما نصه:
وعنه (أي جاء عن الإمام أحمد) التوقف فيه (أي في تقبيل المصحف) وفي جَعْلِه على عينيه. قال القاضي في الجامع الكبير: إنما توقف عن ذلك وإن كان فيه رفعة وإكرام لأن ما طريقه القُرَب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يُستحب فعله وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف ألا ترى أن عمر لما رأى الحجر قال: لا تضر ولا تنفع ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتُك.ا. هـ. رواه البخاري (1597) ومسلم (1270) .
أما التمايل والاهتزاز عند القراءة والصلاة فإنّه من فعل اليهود وهو هيئة من هيئاتهم في عبادتهم فلا ينبغي لمسلم أن يتعمّد فعله. (انظر بدع القراء: بكر أبو زيد ص:57) . ومن الحكمة في الدّعوة والإنكار التي أشرت إليها مشكورا في سؤالك أن تطالبهم بالدّليل على ما يفعلونه من العبادات وهيئاتها لأنّه لا تجوز عبادة إلا بدليل كما تقدّم، والدّليل على الفاعل لا على المُنْكِر وفقنا الله وإياك لكل خير وصلى الله على نبينا محمد
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد(3/295)
هل تغير لفظ الحديث أو الرواية عند النقل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما نقل البخاري الأحاديث بسند صحيح كان هناك احتمال بأن الأحاديث تغيرت ألفاظها عند النقل من راو إلى آخر. أرجو منكم أن توضحوا كيف تعرفون أن رواية الأحاديث لم تتغير، وأن البخاري جمعها بعد 180هـ سنة تقريبا من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
في التمهيد للجواب عن هذا السؤال لا بد من التذكير بأن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتغيير، ومقتضى ذلك أيضا أن يحفظ الحق سبحانه وتعالى مجمل السنة - التي هي شارحة للقرآن ومبينة لمعناه - من التبديل والتغيير العام.
قال الله تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله:
" فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه: فهو غير ضائع أبدا، لا يشك في ذلك مسلم، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي، بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم/3، 4. والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص؛ فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز وجل ضرورة، منقول كله إلينا لا بد من ذلك ". انتهى. "الإحكام في أصول الأحكام" (2/201) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ولكن هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله، كما قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فما في تفسير القرآن، أو نقل الحديث، أو تفسيره، مِن غلط: فإن الله يقيم له من الأمة مَن يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة، إذ كانوا آخر الأمم، فلا نبي بعد نبيهم، ولا كتاب بعد كتابهم " انتهى.
" الجواب الصحيح " (3/38-39)
وقال أيضا رحمه الله:
" فما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة محفوظ " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (27/169) ، ونحوه في " جامع المسائل " (4/162)
وقال الشيخ المعلمي رحمه الله:
" (الذِّكْر) يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة، والهداية دائمة إلى يوم القيامة؛ لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا وانقطاع لعلة بقائهم فيها " انتهى.
" التنكيل " (1/234)
وقد علق الملا علي القاري في " شرح نخبة الفكر " (ص/446) لما قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة! قال: يعيش لها الجهابذة - أي نقاد الحديث وحذاقهم -، قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) انتهى. وكأنه أراد أنه من جملة حفظ لفظ الذكر حفظُ معناه، ومن جملة معانيه: الأحاديث النبوية الدالة على توضيح مبانيه، كما قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) ففي الحقيقة تكفّل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة " انتهى.
ثانيا:
نحن لا ننفي أن ثمة من روايات الحديث ما روي بالمعنى، وما تصرف فيه بعض الرواة، ولكننا نقطع بأن هذا التغيير إنما كان بقدر يسير لا يغير المعنى، بل يحافظ على المضمون، ولا يؤثر على حجية السنة الصحيحة واعتقاد نسبة مضمونها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأوجه كثيرة جدا، تحتاج إلى دراسة مستقلة مفصلة في بيانها والاستدلال عليها ونقل تقريرات العلماء لها، ولكننا نجمل بعضها في الأسباب الآتية:
1-العصمة التي تكفل بها رب العزة، أن يحفظ هذا الدين العظيم القائم على الكتاب والسنة الصحيحة، وقد سبق بيان ذلك.
2-تفاني الصحابة رضوان الله عليهم في حفظ العلم والدين، والتلقي عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وتبليغ كلامه للناس، وقد بدا هذا التفاني في مظاهر كثيرة، وصور جليلة عظيمة، كان منها أن بعض الصحابة رحل مسيرة شهر لسماع حديث واحد.
3-تفاني التابعين ومن بعدهم في حفظ الحديث وروايته وكتابته والرحلة في طلبه، وهذا أيضا بحر لا ساحل له، فكم أفنيت فيه من أعمار، وأنفقت فيه من أموال، وسطرت فيه من كتب، وما مئات الكتب المعروفة اليوم باسم كتب الرجال والتراجم إلا نقطة يسيرة في ذلك البحر الواسع، ولا شك أن هذا التفاني سياج يحمي السنة من التحريف والتبديل والضياع.
4-كتابة السنة النبوية بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن بدايتها على يد البخاري رحمه الله، بل كان دور البخاري الجمع والانتقاء والترتيب فقط، والدليل على ذلك حديثان صحيحان: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) رواه أبو داود (3646) ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث لرجل أُمَّيٍّ من أهل اليمن يُدعى " أبو شاه "، حيث جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ) رواه البخاري (6880) ومسلم (1355) .
وقد جاء بالأسانيد الصحيحة تسمية العشرات من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كَتَب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اشتهرت بعض الصحف التي تحوي عشرات الأحاديث شهرةً واسعةً: كصحيفة أبي بكر في فرائض الصدقة، وصحيفة علي بن أبي طالب، والصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو، وصحيفة جابر بن عبد الله، والصحيفة الصحيحة التي يرويها همام عن أبي هريرة من حديثه، وأكثر هذه الصحف الحديثية مروية في صحيح البخاري، يسوقها رحمه الله بسنده إليها، والرواة من التابعين والأئمة من بعدهم إنما كانوا ينقلون من كتبهم وصحفهم، ولم يكونوا يكتفون بالحفظ من غير تدوين، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو جبل الحفظ والإتقان، كان لا يروي حديثا إلا من كتابه، وكان عبد الرزاق الصنعاني يقول لتلميذه يحيى بن معين: اكتب عني حديثا واحدا بلا كتاب، فقال: لا، ولا حرفا.
ومن توسع في الاطلاع على كتب الرجال تبين له أن عمل الإمام البخاري رحمه الله إنما هو عمل الناقل الناقد، وليس عمل المدون لما هو محفوظ في الصدور فقط، وهذه مسألة خطيرة مهمة، غفل - أو تغافل - عنها كثير من الناس، فمن أراد الاطلاع على جميع ما ورد فيها فليرجع إلى ثلاثة كتب مهمة هي: " تقييد العلم " للخطيب البغدادي، " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، " دراسات في الحديث النبوي " لمحمد مصطفى الأعظمي. قال الدكتور حاكم المطيري حفظه الله: " وقد ذَكَرت كثيرٌ من المصادر التاريخية أسماء كتب كثيرة في الحديث النبوي، وذكرت أسماء مؤلفيها، وهم من علماء القرن الأول الهجري، وكانت هذه الكتب متداولة بين علماء القرنين الثاني والثالث الهجريين " انتهى. نقلا من كتابه الرائع " تاريخ تدوين السنة النبوية وشبهات المستشرقين " (ص/113) ، وهو من أعظم الكتب التي تشرح حقيقة وجود مؤلفات في الحديث النبوي منذ القرن الأول، وترد على شبهات المستشرقين في دعواهم تحريف السنة النبوية.
5-الرواية بالمعنى - وإن كانت واقعة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم - إلا أن المحدثين اشترطوا لقبولها أن يكون الراوي عالما باللسان العربي، عالما بما يحيل المعاني ويُغَيِّرُها، ولم يكونوا يقبلون من كل راو روايته بالمعنى، فضلا عن أن كثيرا من الرواة والأئمة لم يكونوا يستحلون الرواية بالمعنى، بل يأخذون أنفسهم بالأشد، وهو أداء اللفظ كما هو، منهم عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة، وأبي معمر الأزدي، وعبد الله بن طاوس، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم.
6-ثم إن تعدد طرق الحديث الواحد من أهم ما يساعد على تدقيق أقرب الألفاظ إلى اللفظ النبوي الصحيح، فقد يسر الله عز وجل للسنة النبوية تعدد الأسانيد والطرق التي تؤدي الحديث الواحد، وهذه ثروة يمكن الاستفادة منها في الدراسة والمقارنة ك نصل إلى أقرب الألفاظ الصحيحة.
7-كما أن علم " نقد الحديث " المسمى بعلم " العلل " من أهم العلوم الإنسانية التي أبدع فيها النقاد والمحدثون لتمييز الصواب من الخطأ في الروايات، وقد سطر فيه العلماء آلاف الصفحات، ملؤوها بالحكم على الروايات ودراستها وتمييز الصحيح من الضعيف منها، وهذا أيضا من أهم عوامل حفظ السنة النبوية من التغيير والتبديل.
8- ومما يخفى على كثير من الناس في هذا الشأن أن تعدد روايات الحديث الواحد في كثير من الأحيان لا يكون بسبب الرواة، بل يكون بسبب تنوع ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بين الحين والآخر، فقد كان كثيرا ما يحدث بالحديث في أكثر من مجلس، فيروي كل صحابي ما سمعه في ذلك المجلس، كما قد يكون السبب هو تكرر الحادثة في أكثر من مناسبة، فيروي كل صحابي إحدى تلك المناسبات، وللاطلاع على أمثلة ذلك يمكن مراجعة رسالة صغيرة بعنوان: " أسباب تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف " للدكتور شرف القضاة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/1)
تفسير قول الله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) .
[السُّؤَالُ]
ـ[قال تعالى: "وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" (الزمر: 55) أريد منكم أن تقوموا بتفسير هذه الآية تفسيرا موثقا، وما هو معني "أحسن ما أنزل" في الآية؟ وهل تكون السنة مساوية للقرآن الكريم بأي حال من الأحوال؟]ـ
[الْجَوَابُ]
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
" فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة؛ فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكر، وأتبعته الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فلم يجز الله ـ والله اعلم ـ أن يقال: الحكمة ـ ها هنا ـ إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض؛ إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به
". انتهى. "الرسالة" (78) .
وروى أبو داود (4604) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وروى أبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجة (13) عن أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ، وإلا فَلاَ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" وغيره.
وروى الترمذي (2664) وابن ماجة (12) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) .
صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة".
وعن إسماعيل بن عبيد الله قال: " ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فهو عندنا بمنزلة القرآن ".
"السنة" لمحمد بن نصر المروزي (ص 88)
وعن حسان بن عطية قال: " كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمه السنة كما يعلمه القرآن ".
"الزهد" لابن المبارك (ص 23)
وقال ابن القيم رحمه الله:
" قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة " انتهى.
"إعلام الموقعين" (1 / 48)
وقال أيضا:
" أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) وقال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة) وقال تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) .
والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف.
وما أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، لا ينكره إلا من ليس منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أوتيت الكتاب ومثله معه) " انتهى.
"الروح" (ص 75) .
فتبين بذلك أن السنة هي وحي من عند الله، وأنها لازمة الطاعة والاتباع على كل من آمن بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا مراد السائل، فقد تبين كلام أهل العلم فيه، وإلا فبينهما من الفروق الأخرى أشياء كثيرة:
فالقرآن هو كتاب الله تعالى، الذي أنزله على رسوله وحيا باللفظ والمعنى، وهو معجِز ومتعبَّد بتلاوته، ولا تجوز روايته بالمعنى، ولا يجوز مسه للمحدث حتى يتطهر.
بخلاف السنة فإن لفظها من عند الرسول، وهو غير معجِز، وتجوز روايتها بالمعنى لمن لا يُخِلُّ به، ولا يَحْرُم مَسُّها على المُحدِث.
والقرآن يتعبد بتلاوته في الصلوات بخلاف السنة، فإنه لا يجوز أن يقرأ بها في الصلوات.
ومن كذب بحرف واحد من كتاب الله كفر، وليس كذلك الحال في السنة.
وهناك فروق أخرى، يمكن مراجعتها في بابه من كتب علوم القرآن والسنة، وكتب أصول الفقه.
والله أعلم.
الجواب:
الحمد لله
أولا:
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) الزمر/55
قال ابن جرير الطبري رحمه الله:
" يقول تعالى ذكره: واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل: ومن القرآن شيء هو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن، وليس معنى ذلك ما توهمت، وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر، والمثل، والقصص، والجدل، والوعد والوعيد؛ أحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه؛ لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلك وجهه " انتهى. "تفسير الطبري" (21/ 312)
وقال البغوي رحمه الله:
" (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: القرآن، والقرآن كله حسن، ومعنى الآية ما قاله الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره. قال السدي: " الأحسن " ما أمر الله به في الكتاب " انتهى.
"تفسير البغوي" (7/ 128)
وقال السعدي رحمه الله:
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) مما أمركم من الأعمال الباطنة، كمحبة الله، وخشيته، وخوفه، ورجائه، والنصح لعباده، ومحبة الخير لهم، وترك ما يضاد ذلك.
ومن الأعمال الظاهرة، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والصدقة، وأنواع الإحسان، ونحو ذلك، مما أمر الله به، وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 727-728) .
فالحاصل من ذلك: أن اتباع أحسن ما أنزل الله: هو الائتمار بأمره، والانتهاء بنهيه.
قال الإمام الآجري رحمه الله:
" فكل كلام ربنا حسن لمن تلاه ولمن استمع إليه، وإنما هذا - والله أعلم - صفة قوم إذا سمعوا القرآن تتبعوا من القرآن أحسن ما يتقربون به إلى الله تعالى، مما دلهم عليه مولاهم الكريم، يطلبون بذلك رضاه، ويرجون رحمته ". "أخلاق حملة القرآن" (8) .
ثانيا:
لا يتم هذا الاتباع المأمور به إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك مما أُنزِل إلينا من ربنا، كما قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) آل عمران/32
وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) آل عمران/132
وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأنفال/1
وقال سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/65.
فالسنة مبينة لمراد الله في كتابه، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل / 44.
ثالثا:
السنة وحي منزل من عند الله. قال الله تعالى:
(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء/113، وقال تعالى لأمهات المؤمنين: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) الأحزاب/34.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/2)
ما رأيكم بكتاب " الاستعداد ليوم المعاد " المنسوب للحافظ ابن حجر العسقلاني؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي كتاب بعنوان: " الاستعداد ليوم الجزاء " للشيخ ابن حجر العسقلاني، يحتوي على أحاديث وآثار، والمشكلة أن هذه الأحاديث والآثار غير مبين إن كانت صحيحة أم لا، فهل لديكم معرفة بهذا الكتاب، وكيف يتم التعامل معه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بعد البحث والتفتيش في أسماء مصنفات الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، لم نقف على كتاب له بهذا الاسم، وقد بلغت كتب الحافظ نحوا من (273) كتابا، جمع أسماءها وتكلم عليها الحافظ السخاوي في " الجواهر والدرر " (ص/660-695) ، ولم يذكر منها هذا الكتاب.
وقد حَذَّر بعض الباحثين المعاصرين مما في هذا الكتاب، وبَيَّنوا كذب نسبته إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني.
قال الشيخ مشهور حسن سلمان:
"الاستعداد ليوم المعاد: كتاب طبع منسوبا كذبا وزورا للحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد مر بي بيان هذا قديما في مجلة "الجامعة السلفية"، ومع مرور الزمن تأكد لي ذلك بأدلة وشواهد، أقواها وأغلاها ما نقله الحافظ ابن حجر نفسه في ترجمة إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الجويني، صدر الدين، أبو المجامع ابن سعد الدين الشافعي الصوفي (ت 722هـ) ، عن الإمام الذهبي قوله: "كان حاطب ليل، جمع أحاديث ثنائيات وثلاثيات ورباعيات من الأباطيل المكذوبة".
قلت (أي الشيخ مشهور) : وهذا وصف لكتاب الاستعداد، وقد أنكر الدكتور شاكر محمود عبد المنعم نسبة هذا الكتاب لابن حجر لثلاثة أسباب، هي:
الأول: أنه يخالف أسلوب ابن حجر في ذكر الأحاديث، ومنهجه في تبيان أسانيدها ونقدها ومتونها والاختلاف فيها.
الثاني: لم يذكره مصدرٌ معاصرٌ لابن حجر ولا تلامذته.
الثالث: لا يوجد اسم المؤلف على المخطوط في غالب النسخ التي اطلع عليها.
وقد نبه على بطلان نسبة هذا الكتاب لابن حجر الأخ جاسم الدوسري حفظه الله، فقال:
ومما يحسن التنبيه عليه أن الكتاب المتداول بين الناس بعنوان " الاستعداد ليوم الميعاد " المنسوب تأليفه إلى الحافظ باطل النسبة إليه بلا شك، ومن قرأه ورأى ما فيه من الأحاديث المكذوبة الموضوعة علم يقينا أن الحافظ منه بريء.
وقد كتب الشيخ عبد الرحمن الفاخوري حفظه الله مقالا نشره في مجلة " الجامعة السلفية " بالهند (حج 10/ عدد 3، ربيع الأول، سنة 1398هـ) بعنوان: " أما لهذه الأيدي من يقطعها " بَيَّن فيه بيانا شافيا بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الحافظ، فراجعه إن شئت الاستزادة ".
وقد رأيت بعد كتابة هذه الأسطر أن هذا الكتاب قد طبع طبعة جديدة عن دار التربية بالعراق بتحقيق عادل أبو المعاطي، دون تاريخ، في (142) صفحة من القطع الكبير.
وأثبت على غلافه أنه لابن حجر العسقلاني!! إلا أنه قد شكك في ذلك في تقديمه له (ص/9-11) ، فذكر أنه قد واجهته في تحقيق الكتاب صعوبتان:
الأولى: نسبة الكتاب إلى العسقلاني.
الثانية: تخريج أحاديث الكتاب.
والذي يهمنا من كلامه ما قاله في الصعوبة الأولى، فأفاد ما يلي:
أولا: أن كتب التراجم التي ترجمت للعسقلاني وذكرت مصنفاته لم تذكر من بينها هذا الكتاب على الإطلاق، فلم يذكره السخاوي تلميذ العسقلاني في " الضوء اللامع "، وكذلك الشوكاني في " البدر الطالع " وإسماعيل باشا البغدادي في " هدية العارفين "، والزركلي في " الأعلام ".
ثانيا: رغم ذلك فإن هذا الكتاب طبع عدة مرات منسوبا إلى العسقلاني، وهذه طبعاته:
الأولى: تحت عنوان " منبهات " لابن حجر العسقلاني، عام (1312هـ) بالهند، أي من حوالي (95) عاما، ومعها ترجمتها بالفارسية في (96) صفحة.
الثانية: تحت عنوان " منبهات " لابن حجر العسقلاني، عام (1315هـ) باستنبول، أي من والي (92) عاما.
الثالثة: تحت عنوان: " منبهات على الاستعداد ليوم المعاد " عام (1904م) مكتبة الشركة، قزان، أي من حوالي (82) عاما.
ولكن على الصفحة الأولى توجد عبارة: " وهو على ما قيل للشيخ شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني المتوفى سنة (852هـ) ، وقيل لغيره، وهو الأظهر ".
والعبارة الأخيرة توحي بالشك في نسبة الكتاب للعسقلاني، ويؤيد هذا ما قاله حاجي خليفة في " كشف الظنون "، حيث نسب الكتاب " المنبهات على الاستعداد ليوم المعاد للنصح والوداد " لزين القضاة أحمد بن محمد الحجي، ثم قال:
" جمع فيه أحاديث ونصائح من الواحد إلى العشرة، مثنى، وثلاث، ورباع، أوله: الحمد لله رب العالمين ... إلخ، قال: هذه منبهات على الاستعداد ليوم المعاد " اهـ.
ثالثا: وتوجد لهذا الكتاب خمس نسخ مخطوطة في دار الكتب المصرية منسوبة للعلامة الشيخ أحمد بن محمد بن علي الحجري، وأرقامها (21م، 36م، 213 مجاميع، 360 مجاميع، 8م مجاميع) ولكن لم يتيسر لي الاطلاع عليها، وكذلك هناك مخطوطة ضمن مخطوطات المدرسة الحسنية بالموصل، تحت رقم (27824) منسوبة لزين القضاة أحمد بن محمد.
رابعا: لقد حاولت الوصول إلى ترجمة أحمد بن محمد الحجري أو الحجي كما ذكر حاجي خليفة من كتابي " الأعلام "، و " معجم المؤلفين"، ولكن كليهما لم يذكره على الإطلاق، وزاد الأمر صعوبة أن حاجي خليفة لم يذكر له تاريخ وفاة، وإلا لرجعنا للكتب التي تترجم بتاريخ الوفاة، وكذلك لم يذكره صاحب كتاب " هدية العارفين ".
ولذلك رأيت – وقد أكون مخطئا – أن أنسب الكتاب إلى العسقلاني كالنسخ المطبوعة التي أشرنا إليها، وأرجو أن يوفقني الله في طبعة قادمة لتلافي هذه النقطة انتهى.
قلت (أي: الشيخ مشهور) : ولا شك في خطأ نسبة هذا الكتاب لابن حجر، والأمر – إن شاء الله تعالى – ما ذكرنا آنفا عن ابن حجر نفسه، من أن مؤلفه إبراهيم بن محمد والله أعلم" انتهى.
" كتب حذر منها العلماء " (2/326-330) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/3)
حديث: (يا عباد الله أغيثوني) لا يصح
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة الحديث: (يا عباد الله أغيثوني) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
هذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير (17 /117) من طريق عبد الرحمن بن شريك قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن عيسى، عن زيد بن علي، عن عتبة بن غزوان، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا، أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا، وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لا نَرَاهُمْ) .
وهذا الحديث فيه ثلاث علل توجب ضعفه، وهي:
الأول: عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي الكوفي.
قال أبو حاتم: " واهي الحديث ". انتهى من " الجرح والتعديل" (5 /244) .
وذكره ابن حبان في " الثقات " (8 /375) ، وقال: " ربما أخطأ ".
وقال الحافظ في " التقريب" صـ 342: " صدوق يخطيء ".
وينظر: "تهذيب التهذيب" (6/176) .
الثاني: شريك بن عبد الله النخعي.
وقد تكلم العلماء في حفظه وضبطه، وقال فيه الحافظ: " صدوق يخطيء كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة ". انتهى من " تقريب التهذيب " صـ 266.
الثالث: أن زيد بن علي بن الحسين لم يدرك عتبة بن غزوان، ولم يسمع منه، فبين وفاة عتبة وولادة زيد نحو من ستين سنة.
ينظر: تهذيب التهذيب (2/249) ، (4/64) .
ولذلك قال الهيثمي عن الحديث: " رواه الطبراني ورجاله وُثِّقوا على ضعف في بعضهم، إلا أن زيد بن علي لم يدرك عتبة ". انتهى من " مجمع الزوائد " (10/93) .
وللحديث شاهدٌ من حديث ابن مسعود مرفوعاً بلفظ: (إذا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضِ فَلاةٍ، فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، احْبِسُوا عَلَيَّ، يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي الأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ) .
رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/217) ، وأبو يعلى في " مسنده " (9/177) ، وهو ضعيف أيضاً، قد ضعفه الهيثمي في " مجمع الزوائد" (10/132) ، والحافظ ابن حجر في "شرح الأذكار" (5/150) ، والحافظ السخاوي في "الابتهاج بأذكار المسافر والحاج" ص 39.
وقد فَصَّل الكلام عليه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" وقال رحمه الله:
"ومع أن هذا الحديث ضعيف ... فليس فيه دليل على جواز الاستغاثة بالموتى من الأولياء والصالحين؛ لأنهما صريحان بأن المقصود بـ " عباد الله " فيهما خلقٌ من غير البشر.
بدليل قوله في الحديث الأول: (فإن لله في الأرض حاضراً سيحبسه عليهم) ، وقوله في هذا الحديث: (فإن لله عبادا لا نراهم) .
وهذا الوصف إنما ينطبق على الملائكة أو الجن؛ لأنهم الذين لا نراهم عادة ... فلا يجوز أن يُلحَق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بيِّن؛ لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة.
وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ، وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ". انتهى من "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (656) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/4)
هل يؤخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت من يقول: إن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة، لأنها تفيد الظن، ولا تفيد اليقين. فما هو جوابكم على هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"جوابنا على من يرى أن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة لأنها تفيد الظن والظن لا تبنى عليه العقيدة. أن نقول: هذا رأي غير صواب؛ لأنه مبني على غير صواب، وذلك من عدة وجوه:
1-القول بِأَن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن ليس على إطلاقه، بل في أخبار الآحاد ما يفيد اليقين إذا دلت القرائن على صِدْقه، كما إذا تلقته الأمة بالقبول، مثل حديث عمر بين الخطاب رضي الله عنه: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فإنه خبر آحاد، ومع ذلك فإننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وهذا ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وغيرهما.
2-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الآحاد بأصول العقيدة ـ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ وإرساله حُجَّة مُلْزِمة، كما بعث مُعَاذاً إلى اليمن، واعتبر بَعْثَه حُجَّةً مُلْزِمَةً لأهل اليمن بقبوله.
3-إذا قلنا بأن العقيدة لا تثبت بأخبار الآحاد، أمكن أن يُقال: والأحكام العملية لا تثبت بأخبار الآحاد، لأن الأحكام العملية يصحبها عقيدة أن الله تعالى أمر بهذا أو نهى عن هذا، وإذا قُبل هذا القول تعطَل كثير من أحكام الشريعة، وإذا رُدّ هذا القول فليردّ القول بأن العقيدة لا تثبت بخبر الآحاد إذ لا فرق كما بيّنا.
والحاصل: أن خبر الآحاد إذا دلت القرائن على صِدْقه أفاد العلمَ، وثبت به الأحكام العَملية والعِلمية، ولا دليل على التفريق بينهما، ومَنْ نَسَبَ إلى أحدٍ من الأئمِة التفريقَ بينهما فعليه إثباتُ ذلك بالسند الصحيح عنه. ثم بيان دليله المستَند إليه.
4- أن الله تعالى أمر بالرجوع إلى قول أهل العلم لمن كان جاهلاً فيما هو من أعظم مسائل العقيدة وهي الرسالة: فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) النحل/43، 44.
وهذا يشمل سؤال الواحد والمتعدّد" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله
"فتاوى العقيدة" (صـ 18) .
[الْمَصْدَرُ]
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله "فتاوى العقيدة" (صـ 18) .(4/5)
دفاعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه
[السُّؤَالُ]
ـ[أسأل عن الصحابي أبي هريرة , وحسب ما أفهمه , فقد روى عددا كبيرا من الأحاديث التي جمعت الآن في صحيحي البخاري ومسلم , وغيرهما. وفي عدد من الأحاديث المنقولة , قيل إن أبا هريرة وُبخ من قبل عائشة وعمر رضي الله عنهما لنقله معلومات لم يفهمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثال ذلك , في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن ثلاثة يقطعون القبلة: الكلاب والحمر والنساء. ومن الواضح أن عائشة رضي الله عنها صححت له بعد فترة، وقالت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال: (إننا لسنا مثل اليهود الذين يقولون بأن ثلاثة أشياء تقطع القبلة: الكلاب والحمير والنساء) . كما أني قرأت أن أبا هريرة عاش في آخر حياته حياة رفاهية في قصر مع حاكم مشهور, ولم يكن حاله كحال العديد من الصحابة الجليلين الذين عاشوا حياة بساطة وماتوا وهم فقراء. إن المواضيع التي قرأتها في هذا الشأن أشكلت علي كثيرا. أهو ثقة في نقل الأحاديث؟ وهل عاش حياة لم يكن لغيره أن يعيش فيها, وبعيدة عن إمكانية الفساد؟ إذا كان عمر وعائشة رضي الله عنهما لا يكنان له احتراما, فلماذا وضعت كل هذه الأحاديث التي رواها في كتب الحديث الصحيحة؟ أنا أعلم أن الأئمة الذين جمعوا الأحاديث وضعوا معايير صارمة جدا. فكيف تمكنت رواياته من المرور عبر تلك المعايير؟ أرجو أن تساعدني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يظهر أنك قرأت في كتب الملاحدة، أو قرأت في كتب المغرضين الحاقدين على الصحابة رضي الله عنهم.
لا شك أن أبا هريرة رضي الله عنه صحابي جليل، صحِب النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من أربع سنوات ولازمه ملازمة كاملة، يلازمه على ملء بطنه فيحضر وهم غائبون، ويحفظ إذا نسوا، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وفعل ما يساعده على حفظ الأحاديث، فلأجل ذلك حفظ أحاديث لم يحفظها غيره من الصحابة، وكان يقول: إنكم تقولون أكثر علينا أبو هريرة، والله الموعد، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار ليشغلهم العمل في أموالهم، وكنت امرؤ مسكينا ألزم رسول الله عليه الصلاة والسلام على ملء بطني أحفظ إذا نسوا، وأحضر إذا غابوا، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة: إن من بسط ثوبه حتى أفرغ من مقالتي وضمه إليه كان ذلك سببا في بقاء حفظه. يقول أبو هريرة: فعلت ذلك فلم أنْسَ شيئا بعد ذلك.
كان رضي الله عنه يبيت أول الليل يدرس الأحاديث ويتذكرها ويكررها حتى لا ينساها، وحتى يحفظ منها ما قد يخاف أن ينساه، فلذلك حفظ الحديث الكثير الذي ما حفظه غيره.
أما حديث قطع الصلاة فلم ينفرد به بل رواه أيضا عمر رضي الله عنه وابنه عبد الله رضي الله عنه، إلا أن عائشة رضي الله عنها أنكرته ولم تنكر على أبي هريرة فقط، بل أنكرت على عمر وابنه عبد الله لأنهم رووا الحديث، ولم تستدل إلا بأنها كانت على السرير أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يصلي في البيت وهو مظلم، وقال العلماء بأن هذا لا يعتبر مرورا، وأن القطع إنما يكون مرورا، فإذا كانت على السرير وكان البيت مظلما لم يُسَمَّ هذا مرورا، وانسلالها من السرير لا يسمى أيضا مرورا. ثم قد يقال أيضا: إن القطع في هذا الحديث ليس إبطالا للصلاة بالكلية بل ينقصها، وأنه لا يلزم إعادة ما تقدم منها، وسبب ذلك: أن القلب ينشغل بمرور ما سبق في الحديث، وهذا الانشغال يفوّت على القلب شيئا من الإقبال على الصلاة فلذلك ينقص الأجر وهذا معنى القطع. ولم يُنقل عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على أبي هريرة هذا الحديث بل وافقه على روايته، وكذلك ابنه عبد الله....
ثم إن أبا هريرة ما عاش عيشة المترفين، بل كان متقشفا حتى مات، وقد أمّره معاوية على المدينة في عهده وقيل في عهد علي رضي الله عنه كان أميرا على المدينة فكان متواضعا، فيذهب إلى البرية ليحتطب حتى يسترزق منها، وكان إذا وصل إلى المدينة قال للناس: (أخروا عن الأمير) أي أفسحوا له الطريق تواضعا منه.
ولقد دأب كثير من الرافضة وغيرهم في التشكيك في أبي هريرة فجمعوا بعض الأحاديث التي رواها والتي تخالف عقولهم ومألوفاتهم، وزعموا أنها من كذب أبي هريرة كحديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) ، ولكن هذا الحديث رواه أيضا أبو سعيد وصححه كثير من العلماء. فننصحك بقراءة الكتب التي تذبّ عن أبي هريرة رضي الله عنه ككتاب (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) ، وكتاب (الأنوار الكاشفة) وغيرها من الكتب حتى تجد الجواب والصواب في أن أبا هريرة من حفاظ الصحابة.
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم (126377) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله(4/6)
اختلاف ألفاظ أحاديث الأربعين النووية عن المصادر الأصلية
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا تختلف ألفاظ بعض الأحاديث في " الأربعين نووية " عن ألفاظ الكتب الأصلية؟ كلما أردت أن أقارن ألفاظ الأحاديث في الأربعين نووية بالكتب الأصلية فإني أجد هناك اختلافا في بعض الأحاديث، فمثلا حديث: (إنما الأعمال بالنيات) لم أجده في الكتب الأصلية البخاري ومسلم بنفس لفظ الأربعين النووية، وأيها أفضل إذا لم يكن هناك أي خلل، أن أحفظ الحديث من الأصل أو من الأربعين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نصيحتنا تختلف بحسب حال الأخ السائل:
فإن كنت من طلبة العلم الشرعي، الحريصين على التحصيل العلمي المتكامل، والبناء العلمي المتدرج، فننصحك حينئذ بالعناية بكتب السنة الأصول، والتدرج في قراءتها واستحضار ما فيها، وأفضل طريقة لذلك البدء بحفظ الأحاديث المتفق عليها من كتاب " الجمع بين الصحيحين " للشيخ يحيى اليحيى، أو من كتاب " اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان "، فإن لم تتمكن من حفظها فأكثر من قراءتها والرجوع إليها حتى تستوعب ما فيها. ثم تنتقل بعدها إلى زيادات البخاري، ثم زيادات مسلم، ثم زيادات أصحاب السنن، وهكذا، ولعل هذه أفضل الطرق التي ينصح بها أهل العلم لحفظ السنن واستقراء الأحاديث.
أما إن لم تكن من طلبة العلم الشرعي، ورغبت في تحصيل ثقافة حديثية جيدة، فلا مانع من حفظ " الأربعين النووية " من جمع الإمام النووي رحمه الله، ولا يضرك اختلاف بعض الألفاظ لأسباب عدة:
1- أنه اختلاف قليل في بعض الروايات، فقد تثبتنا من كثير من الألفاظ الواردة في الأربعين النووية فوجدناها صحيحة موافقة لما في الكتب الأصول.
2- وأحيانا يكون سبب هذا الخلاف هو اختلاف نسخ وروايات الكتب الأصول نفسها، فتجد في بعض نسخ البخاري لفظ (إنما الأعمال بالنية) ، وفي نسخ أخرى في الرواية نفسها: (بالنيات) ، وهكذا في صحيح مسلم أيضا، فلعل الإمام النووي رحمه الله نقل عن إحدى النسخ والروايات التي لم نقف عليها.
3- وما ثبت خطؤه فهو نادر معدود على الأصابع، ولعله بسبب الأخطاء المطبعية التي يمكن تداركها بالحرص على طبعة جيدة.
ثم ننصحك بقراءة كتاب " رياض الصالحين " للإمام النووي أيضا، وقراءة كتاب " بلوغ المرام من أحاديث الأحكام " للحافظ ابن حجر رحمه الله.
والمهم في ذلك كله هو الإكثار من القراءة مع الاطلاع على بعض شروح هذه الأحاديث.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/7)
حديث: (ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بدون سواك)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى حديث: (ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بدون سواك) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"السواك سنة، وطاعة عند الصلاة أو عند الوضوء؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) متفق على صحته، وفي لفظ: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) أخرجه الإمام النسائي بإسناد صحيح.
أما حديث: (صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بلا سواك) فهو حديث ضعيف، ليس بصحيح, وفي الأحاديث الصحيحة ما يغني عنه، والحمد لله" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/288) .
وقال عنه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/38) : "ضعيف، وإسناده غير قوي، وروي مرفوعاً ومرسلاً" انتهى.
وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 17) : "إسناده غير قوي". انتهى.
وضعفه النووي في "الخلاصة" (1/88) ، والألباني في "ضعيف الجامع" (3519) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/8)
ما صحة حديث: (التمس لأخيك سبعين عذرا) ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (التمس لأخيك سبعين عذرا) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"لا أعلم له أصلا، والمشروع للمؤمن أن يحترم أخاه إذا اعتذر إليه، ويقبل عذره إذا أمكن ذلك، ويحسن به الظن حيث أمكن ذلك، حرصاً على سلامة القلوب من البغضاء، ورغبةً في جمع الكلمة، والتعاون على الخير، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملا) " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/365) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/9)
شرح حديث: (بيت ليس فيه تمر جياع أهله)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (بيت ليس فيه تمر جياع أهله) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"الحديث صحيح، أخرجه مسلم في صحيحه، وهو محمول عند أهل العلم على مَنْ كان مِنْ طعامه التمر، كأهل المدينة في وقته صلى الله عليه وسلم وأشباههم ممن يقتاتون التمر، والله ولي التوفيق" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (25/280) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/10)
لم يصح حديث أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: كنت تراني على المنكر ولا تنهاني
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت درسا على قناة فضائية إسلامية سرد فيه الشيخ حديثا لم أتذكره، فيما معناه أنه يوم القيامة يأتي كافر يشكو عبدا كنا نظنه مؤمنا وملتزما كان يمر علينا، ولكن لم يدعنا إلى الإسلام، ولم يعظنا، فيلحق الله تبارك وتعالى هذا العبد المؤمن بهؤلاء الكفار في النار، نعوذ بالله منها. فهل صح حديث عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى؟ أرجو أن تدلوني عليه بأسانيده وشروحه]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله من الواجبات المحتمات على الأمة الإسلامية، وقد جاءت الآيات والأحاديث الكثيرة لتدل على هذا المعنى، وتقرر هذا الحكم الشرعي، سبق ذكر أطراف منها في أجوبة عديدة في موقعنا، في جواب السؤال رقم: (11403) ، (38701) ، (96662)
ورغم كثرة الآيات والأحاديث الواردة في فضيلة هذه الشعيرة العظيمة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " إلا أننا لم نجد فيها ما يصح بخصوص تعلق الناس يوم القيامة بمن ترك الدعوة والنصيحة، ومطالبتهم بأخذ حقهم منه يوم القيامة عقوبة على تقصيره في ذلك، وكل ما وقفنا عليه بهذا الخصوص هو ما ذكره الحافظ أبو السعادات ابن الأثير (606هـ) في كتابه " جامع الأصول من أحاديث الرسول " ولم يعزه لأحد، وذكره المنذري (643هـ) في كتابه " الترغيب والترهيب " (3/164) (حديث رقم/3506) وعزاه لرزين فقال:
" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه، فيقول له: ما لك إلي، وما بيني وبينك معرفة؟! فيقول: كنت تراني على الخطإ وعلى المنكر ولا تنهاني) ذكره " رزين " ولم أره " انتهى نقل المنذري.
ورزين هذا قال الذهبي في ترجمته:
" رزين بن معاوية بن عمار، الإمام المحدث الشهير، أبو الحسن العبدري الأندلسي
السرقسطي، صاحب كتاب: " تجريد الصحاح "، جاور بمكة دهرا، حدث عنه: قاضي الحرم أبو المظفر محمد بن علي الطبري، والزاهد أحمد بن محمد بن قدامة والد الشيخ أبي عمر، والحافظ أبو موسى المديني، والحافظ ابن عساكر وقال: كان إمام المالكيين بالحرم.
توفي بمكة في المحرم سنة خمس وثلاثين وخمس مئة وقد شاخ " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (20/204-205)
وقد بين العلماء أن كتاب رزين المسمى " تجريد الصحاح " مليء بالأحاديث التي لا يعرف مصدرها، ولم يوقف على أصلها، ولا يُدرَى من أين جاء بها.
قال ابن الصلاح في معرض تقرير بدعية صلاة الرغائب:
" ولا تستفاد له صحة – يعني لحديث صلاة الرغائب - مِن ذكر رزين بن معاوية إياه في كتابه في " تجريد الصحاح "، ولا من ذكر صاحب " الإحياء " – يعني الغزالي - له فيه واعتماده عليه، لكثرة ما فيهما من الحديث الضعيف، وإيراد رزين له في مثل كتابه من العجب " انتهى.
نقلا عن " الباعث على إنكار البدع والحوادث " لأبي شامة المقدسي (ص/45)
وقال الذهبي رحمه الله:
" أدخل كتابه زيادات واهية لو تنزه عنها لأجاد " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (20/205)
وقال أيضا رحمه الله:
" وله في الكتاب زيادات واهية " انتهى.
" تاريخ الإسلام " (36/376)
ويقول ابن تمية رحمه الله:
" ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح " انتهى.
" منهاج السنة النبوية " (7/157) .
ويقول الشوكاني رحمه الله:
" أدخل في كتابه الذي جمع فيه دواوين الإسلام بلايا وموضوعات لا تعرف، ولا يُدرَى من أين جاء بها " انتهى.
" الفوائد المجموعة " (ص/49)
وقال العلامة المعلمي في تعليقه عليه:
" زاد أحاديث ليست فيها – يعني في الصحيحين والموطأ وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود - ولا في واحد منها، فإذا كان الواقع هكذا، ومع ذلك لم ينبه في خطبة كتابه أو خاتمته على هذه الزيادات فقد أساء، ومع ذلك فالخطب سهل، فإن أحاديث غير الصحيحين من تلك الكتب ليست كلها صحاحا، فصنيع رزين - وإن أوهم في تلك الزيادات أنها في بعض تلك الكتب - فلم يوهم أنه صحيح ولا حسن. وأحسب أن تلك الأحاديث التي زادها كانت وقعت له بأسانيده، فإنها أحاديث معروفة في الجملة، ومنها حديث صلاة الرغائب ولم يكن رزين من أهل النقد فلم يعرف حال الحديث " انتهى.
وقال اللكنوي رحمه الله:
" قال الشيخ الدهلوي في رسالته: وقد ذكر صاحب جامع الأصول في كتابه حديثا من كتاب رزين، مع أن موضوع ذلك الكتاب جمع أحاديث الكتب الستة المسماة بالصحاح الست، وإذا لم يجد في هذه الكتب حديثا في ذلك أورده من كتاب آخر استيفاء وتكميلا " انتهى.
" الأسرار المرفوعة " (ص/74)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
" فاعلم أن كتاب رزين هذا جمع فيه بين الأصول الستة: " الصحيحين " و" موطأ مالك " و"سنن أبي داود "، والنسائي، والترمذي، على نمط كتاب ابن الأثير المسمى " جامع الأصول من أحاديث الرسول "، إلا أن في كتاب " التجريد " أحاديث كثيرة لا أصل لها في شيء من هذه الأصول، كما يعلم مما ينقله العلماء عنه مثل المنذري في " الترغيب والترهيب " " انتهى.
" السلسلة الضعيفة " (رقم/207)
فالحاصل أن هذا الحديث لا يعرف له أصل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/11)
حديث مبادرة الملائكة لكتابة الذكر عند الاعتدال من الركوع حديث صحيح
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشر في المنتديات حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه صلى الله عليه وسلم سمع عند اعتداله من الركوع رجلا يقول: ربنا ولك الحمد والشكر حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. فقال صلى الله عليه وسلم: رأيت ثلاثين ملكا يجرون كل واحد منهم يريد كتابتها له قبل الآخر. هل هذا الحديث صحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ جزاكم الله عنا خير الجزاء.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة هذا الذكر بعد الاعتدال من الركوع حديث عظيم، وهو ما جاء عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِىِّ قَالَ:
(كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُُ)
رواه البخاري (799) .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
" قوله: (أول) روي على وجهين: بضم اللام وفتحها. فالضم على أنه صفة لأي.
و (البِضع) : ما بين الثلاث إلى التسع، في الأشهر، وقال أبو عبيدة: ما بين الثلاث إلى الخمس. وقيل غير ذلك ...
وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأموم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد - في رواية -.
وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات المفروضات؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما كانوا يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات المفروضة غالباً، وإنما كانوا يصلون وراءه التطوع قليلا.
وفيه - أيضاً -: دليل على أن جهر المأموم أحيانا وراء الإمام بشيء من الذكر غير مكروه، كما أن جهر الإمام أحياناً ببعض القراءة في صلاة النهار غير مكروه " انتهى.
" فتح الباري " لابن رجب (5/80-81)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قوله: (مباركا فيه) زاد رفاعة بن يحيى: (مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى) ، فأما قوله: (مباركا عليه) فيحتمل أن يكون تأكيدا، وهو الظاهر، وقيل الأول بمعنى الزيادة والثاني بمعنى البقاء ...
وأما قوله: (كما يحب ربنا ويرضى) ففيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد.
والظاهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، ويؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر) الحديث.
واستدل به على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، والحكمة في سؤاله صلى الله عليه وسلم له عمن قال، أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. " انتهى.
" فتح الباري " (2/286-287))
ثانيا:
أما لفظ (ربنا لك الحمد والشكر) فلم يثبت في أي من روايات الحديث السابقة، وإن كانت زيادتها من غير اعتيادها مع عدم نسبتها للشرع جائزة، ولكن الأولى الاقتصار على الوارد.
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي:
" رجل عندما يرفع من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد والشكر، وهل كلمة الشكر صحيحة؟ فأجاب:
لم تَرِد، لكن لا يضر قولها: الحمد والشكر لله وحده سبحانه وتعالى، ولكن هو من باب عطف المعنى، وإن الحمد معناه الشكر والثناء، فالأفضل أن يقول ربنا ولك الحمد، ويكفي ولا يزيد والشكر، ويقول: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، وإن زاد الشكر لا يضره، ويعلم أنه غير مشروع " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (29/286)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/12)
هل ثبت شيء في " الملائكة الكروبيون "؟
[السُّؤَالُ]
ـ[من هم الملائكة الكروبيون؟ حيث إن الشيخ الألباني رحمه الله أنكر هذا الاسم في فتاوى " جدة " الشريط رقم 17 (01:03:42) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الإيمان بالملائكة من أركان ديننا الحنيف، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) البقرة/ 285، وقد ذكرنا كثيراً من المسائل المتعلقة بالملائكة، من حيث خلقهم، وصفاتهم، ووظائفهم، وذلك في جوابي السؤالين: (14610) و (843) .
ثانياً:
ما يُطلق عليه " الملائكة الكَروبيُّون " ليس له أصل في الأحاديث النبوية الصحيحة ـ فيما نعلم ـ، وغاية ما جاء ذِكرهم فيه: أحاديث ضعيفة جدّاً، وموضوعة، وآثار عن السلف، وطائفة من المفسرين، وقد ذكر بعض العلماء أن الكروبيين هم:
من يكونون حول عرش الرحمن، أو هم حملة العرش أنفسهم.
وقال آخرون: هم سادة الملائكة وعظماؤهم.
وقال فريق ثالث: هم ملائكة العذاب.
ومثل هذا الأمر هو من الغيب الذي لا يجوز إثباته إلا بوحي من الله، ولم يثبت في ذلك شيء.
أ. ما ورد فيهم من أحاديث غير صحيحة:
1. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة وهم الكروبيون من شحمة أذن أحدهم إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام للطائر السريع في انحطاط) .
والحديث حكم عليه الشيخ الألباني بأنه ضعيف جدّاً، وقال:
رواه ابن عساكر (12 / 231 / 2) عن محمد بن أبي السري: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله القرشي عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله مرفوعا وقال: " روى إبراهيم بن طهمان عن
موسى بن عقبة شيئا من هذا ". قلت: وهذا سند واهٍ جدّاً، وله علتان:
الأولى: محمد بن أبي السري، وهو متهم.
والأخرى: صدقة هذا وهو الدمشقي السمين وهو ضعيف، ووقع في السند " القرشي، ولم ترد هذه النسبة في ترجمته من " التهذيب "، فلعله تحرف على الناسخ نسبته " الدمشقي " بالقرشي، والله أعلم.
وقد خالفه إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة به بلفظ: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة) . وهو بهذا اللفظ صحيح كما قد بينته في " الأحاديث الصحيحة " رقم (151) .
" سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة " (2 / 323، حديث 923) .
2. وذكر ابن الجوزي في " بستان الواعظين ورياض السامعين " (ص 20) حديثاً طويلاً، وفيه موت الملائكة، ومنه:
(وتموت ملائكة السبع سموات، والحجب، والسرادقات، والصادقون، والمسبحون، وحملة العرش، والكرسي، وأهل سرادقات المجد، والكروبيون، ويبقى جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليه السلام ... .) انتهى.
والحديث ليس له إسناد، والكتاب مظنة الضعيف، والموضوع.
ب. ما جاء ذِكرهم فيه من كلام السلف ومن بعدهم:
1. قال الخطابي - رحمه الله -:
الملائكة الكَرُوبيّون، وهم: المُقَرّبون، وقال بعضهم: إنما سُمُّوا: " كَرُوبيين " لأنهم يُدْخِلون الكَرْب على الكفار، وليس هذا بشيء.
" غريب الحديث " (1 / 440) .
2. وقال ابن الأثير - رحمه الله -:
في حديث أبي العالية: (الكروبيون سادة الملائكة) هم المقربون، ويقال لكل حيوانٍ وَثِيْقِ المفاصل: إنه لمُكْرَب الخَلْق، إذا كان شديد القُوَى.
والأول أشبه.
" النهاية في غريب الحديث والأثر " (4 / 161) .
والخلاصة:
لم يصح شيء من الأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يسمى " الملائكة الكروبيون "، والواجب الوقوف في مسائل الغيب عند إثبات الوحي لها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/13)
حديث: (من قرأ سورة الإخلاص عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هذا الحديث صحيح؟ من قرأ سورة الإخلاص "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"هذا الحديث رواه الإمام أحمد (3/437) وهذا سنده: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة قال، وحدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رشدين، حدثنا زبان بن فائد الحبراني عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه معاذ بن أنس الجهني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الإخلاص "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة. فقال عمر بن الخطاب: إذاً أستكثر يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب) . وهذا الإسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة ورشدين بن سعد وزبان بن فائد. وقال في مجمع الزوائد (7/145) : "وفي إسناده رشدين بن سعد وزبان كلاهما ضعيف وفيهما توثيق لين" انتهى.
قلت: والحديث مداره على زبان بن فائد , وقد سبق أنه ضعيف كما في التقريب، وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب" في ترجمة زبان المذكور: قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال ابن معين: شيخ ضعيف, وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا, يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة، كأنها موضوعة، وقال أبو حاتم: شيخ صالح، وقال الساجي: عنده مناكير. انتهى ملخصا.
وبذلك يعلم أن هذا الحديث ضعيف جدا لتضعيف الأئمة المذكورين لزبان، وينبغي أن يعلم أن هذه السورة عظيمة وفضلها كبير, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنها تعدل ثلث القرآن) وصح في فضلها أحاديث كثيرة.
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/281) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/14)
حديث: (أنا أفصح من نطق بالضاد)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هذا الحديث صحيح: (أنا أفصح من نطق بالضاد) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"حديث: (أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لآخر سورة الفاتحة: لا أصل له. وقال العجلوني في "كشف الخفاء" (1/200) ما نصه: قال في اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له، كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب.. ولا يعرف له إسناد" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/380) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/15)
قول عمر رضي الله عنه: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك)
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هذا الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الأثر رواه الترمذي (486) موقوفاً على عمر رضي الله عنه، وفي إسناده: أبو قرة الأسدي وهو مجهول.
وقد ضعفه الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (432) .
وضعفه المباركفوري في "تحفة الأحوذي" فقال: "الحديث ضعيف لجهالة أبي قرة الأسدي" انتهى.
وسئل عنه الشيخ ابن باز رحمه الله فقال:
"في سنده أبو قرة الأسدي، وهو من رجال البادية مجهول، كما في التقريب، وهو الراوي له عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه..؛ وبذلك يعتبر هذا الأثر ضعيفا من أجل جهالة أبي قرة.. والله أعلم " انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (26/289) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/16)
التوفيق بين أمر المسيء صلاته بالإعادة وعدم أمر معاوية بن الحكم بها
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف أجمع بين حديث معاوية عندما شمت العاطس ولم يأمره النبي بالإعادة ومعاوية لا يعلم أنها مبطلة للصلاة، وعدم أمر النبي بالإعادة دليل على صحة صلاة معاوية، وبين حديث أن النبي أمر المسيء صلاته بالإعادة وهذا يدل على بطلان صلاته ولو كان جاهلا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حديث معاوية بن الحكم هو ما رواه مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ: مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) .
وأما حديث المسيء صلاته فهو ما رواه البخاري (757) ومسلم (397) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ، وَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا) .
وقد دل الحديثان على عذر الجاهل، أما حديث معاوية فلأنه لم يؤمر بالإعادة، وأما حديث المسيء صلاته فلأنه لم يؤمر بإعادة ما صلى من قبل، بل أمر بإعادة صلاة الوقت فقط.
قال النووي رحمه الله في شرح حديث معاوية: " وَأَمَّا كَلَام الْجَاهِل إِذَا كَانَ قَرِيب عَهْد بِالْإِسْلَامِ فَهُوَ كَكَلَامِ النَّاسِي , فَلَا تَبْطُل الصَّلَاة بِقَلِيلِهِ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَة بْن الْحَكَم هَذَا , الَّذِي نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاة , لَكِنْ عَلَّمَهُ تَحْرِيم الْكَلَام فِيمَا يُسْتَقْبَل " انتهى.
أما أمر المسيء صلاته بالإعادة، وعدم أمر معاوية بذلك، فسبب ذلك: هو التفريق بين فعل المحظور، وترك المأمور، فترك المأمور لا يسقط مع الجهل أو النسيان متى أمكن تداركه، بخلاف فعل المحظور.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الكلام على محظورات الإحرام: " والصحيح أن جميعها تسقط، وأن المعذور بجهل أو نسيان أو إكراه لا يترتب على فعله شيء إطلاقاً، لا في الجماع، ولا في الصيد، ولا في التقليم، ولا في لبس المخيط، ولا في أي شيء، وذكرنا فيما سبق الدليل من القرآن، والسنة، والنظر.
وهكذا في جميع المحظورات في العبادات، لا يترتب عليها الحكم، إذا كانت مع الجهل أو النسيان، أو الإكراه؛ لعموم النصوص، ولأن الجزاء، أو الفدية، أو الكفارة إنما شرعت لفداء النفس من المخالفة أو للتكفير عن الذنب، والجاهل أو الناسي أو المكره لم يتعمد المخالفة، ولهذا لو كان ذاكراً أو عالماً أو مختاراً لم يفعل.
فالشرب في رمضان نسياناً ليس فيه قضاء، والدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من نسي وهو صائم فأكل، أو شرب، فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) ، فمن لم يتعمد المخالفة، فليس عاصياً، ولا فدية عليه.
وكذلك عدي بن حاتم رضي الله عنه: (لما أراد الصيام جعل عقالين أبيض وأسود؛ لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/187، وكانوا يأخذون الأحكام من القرآن مباشرة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إن وسادك لعريض، أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك) ، فلم يأمره بالإعادة للجهل بالحكم.
وكذلك أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (أخبرت أنهم أفطروا في يوم غيم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يأمرهم بلقضاء) ، لجهلهم بالحال.
وكذلك في الصلاة، والدليل أن معاوية بن الحكم رضي الله عنه دخل مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فعطس رجل، فقال: الحمد لله، قال: يرحمك الله، وهو يصلي، فرماه الناس بأبصارهم، أي ـ نظروا إليه منكرين ـ فقال: واثكل أمياه ـ رضي الله عنه ـ، فزاد الكلام كلاماً آخر، فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما سلم دعاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال معاوية: بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، قال صلّى الله عليه وسلّم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن) ، ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه جاهل.
والنصوص الدالة على هذا الأصل، أعني عدم المؤاخذة مع النسيان والجهل والإكراه كثيرة، وهذا من مقتضى قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام/ 54، وقوله في الحديث القدسي: (سبقت رحمتي غضبي) .
وأما ترك الواجبات فلا يسقط بالنسيان والجهل والإكراه متى أمكن تداركه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فلم تسقط عنه بالنسيان، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسقط الصلاة الحاضرة بالجهل كما في حديث المسيء في صلاته، أمره بالإعادة مع أنه جاهل، لأنه ترك مأموراً، والمأمورات أمور إيجابية لا بد أن تكون، والمنهيات أمور عدمية لا بد أن لا تكون.
ثم إن المأمورات يمكن تداركها بفعلها، لكن المنهيات مضت، لكن إذا كان في أثناء المنهي فيجب التدارك بقطعه، فإن قال قائل: إن قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا) عام في ترك المأمور وفعل المحظور، فالجواب أن الأمر كذلك، فتارك المأمور جاهلاً أو ناسياً غير مؤاخذ بالترك، لكن عدم فعله إياه يقتضي إلزامه به متى زال العذر إبراءً لذمته " انتهى من "الشرح الممتع" (7/200) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب(4/17)