|
المؤلف: الموقع بإشراف الشيخ محمد صالح المنجد - حفظه الله -
تم نسخه من الإنترنت: في 26 ذي القعدة 1430، هـ = 15 نوفمبر، 2009 م
[الكتاب مرقم آليا]
تنبيه: هذا الملف هو أرشيف لجميع المادة العربية بالموقع حتى تاريخ نسخه
وهذه المادة هي قسمان:
1- الفتاوى (عددها 15862) [وتجد رقم الفتوى في خانة الرقم، ورابطها أسفل يسار الشاشة]
2- الكتب والمقالات
أما بقية الأقسام، مثل (ملفات، تعرف على الإسلام، ... ) فهي عبارة عن انتقاءات من قسم الفتاوى، فلم نكررها
http://www.islamqa.com
نبذة عن موسى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[نريد نبذة عن نبي الله موسى عليه السلام وقومه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
- أوحى الله إلى موسى ابن عمران عليه الصلاة والسلام وأرسله إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده كما قال سبحانه: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله) إبراهيم/5.
- وهارون عليه السلام أخو موسى من النسب أرسله الله عضداً لموسى حين أراد بعثه إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله بناءً على طلب موسى.. (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) مريم/53.
- وكان بنوا إسرائيل حينذاك في مصر تحت حكم فرعون.. وقد استعبدهم وأذلهم فكان يستحيي نسائهم ويقتل أبنائهم..
(يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص/4.
- وقد وُلد موسى في مصر.. وأراد الله أن يتربى في بيت فرعون.. فوضعته أمه في تابوت وألقته في اليم.. فالتقطه آل فرعون.. وفرحت به زوجته آسية ونهتهم عن قتله.. ولما بلغ أشده آتاه الله حكماً وعلماً.
- وفي يوم من الأيام استغاث بموسى رجل من بني إسرائيل على عدوه.. فوكزه موسى فقضى عليه.. فندم موسى واستغفر ربه فغفر له.. وأصبح في المدينة خائفاً يترقب.. وفي اليوم الثاني وجد موسى ذلك الرجل يقاتل عدواً له.. فاستنصره مرة أخرى فغضب موسى عليه.. وظن الرجل أنه يريد قتله.. فقال له.. (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس) القصص /19.
- فأخبر ذلك العدو قوم فرعون.. فراحوا يبحثون عن موسى ليقتلوه فجاء رجل صالح وأخبر موسى بما يدبر له القوم ونصحه بالخروج من مصر.. (فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) القصص/21.
- وتوجه موسى إلى أرض مدين.. وتزوج هنالك بنتاً لشيخ كريم.. مقابل تأجير نفسه له ثمان سنين..فلما تم الأجل سار موسى بأهله إلى مصر.. فلما كان بطور سيناء أراد الله أن يخصه بكرامته ونبوته وكلامه..فضل موسى الطريق فرأى ناراً.. (فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى - فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى - وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى - إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري - إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) طه /10-15.
- ثم أراه الله بعض المعجزات فأمره أن يلقي عصاه على الأرض فانقلبت حية.. وأن يدخل يده في جيبه فخرجت بيضاء.. ثم قال له اذهب بهاتين المعجزتين إلى فرعون لعله يتذكر أو يخشى.. فقد جاوز الحد في الطغيان والفساد.. وأرسل مع موسى أخاه هارون كما قال تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى - قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علنا أو أن يطغى- قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى - فأتياه فقولا إنّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) طه / 43- 47.
- ذهب موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وبلّغاه الرسالة.. وسأل فرعون موسى.. (قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) الشعراء /23.
- ثم طلب فرعون من موسى آية تشهد بصدقه.. (قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين - فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين - ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) الأعراف / 106 - 108.
- فلما رأى فرعون وحاشيته ذلك اتهموا موسى بالسحر.. ثم جمعوا له السحرة.. ودفعوا لهم الأجر الجزيل.. وجُمع الناس يوم الزينة.. فألقى السحرة حبالهم وعصيهم.. (فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) الأعراف /116.
- ثم نصر الله موسى على السحرة وبطل كيدهم وآمن السحرة برب العالمين.. (وأوحينا إلى موسى أن الق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين - رب موسى وهارون) الأعراف / 117 -122.
- ولما آمن السحرة بالله.. قطع فرعون أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف وصلبهم.. فصبروا ولم يبالوا بتهديده حتى لقوا الله مسلمين..ثم أشار الأشراف بقتل موسى وقومه لئلا يفسدوا في الأرض فقتلوا الأبناء واستحيوا النساء.. فأوصى موسى بني إسرائيل بالصبر.. ثم ضاق فرعون بموسى فأتمر وقومه على قتله.. (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) غافر/26.
- وحينما كانوا يفكرون في قتل موسى.. دفعت المروءة رجلاً مؤمناً من آل فرعون يكتم إيمانه فدافع عن موسى.. وقال إن كان كاذباً فلن يضرنا..وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم وتابع هذا الرجل نصح فرعون وقومه فلم يستجيبوا له.. (قال ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر/29.
- وظل موسى يدعو فرعون وقومه بالموعظة الحسنة.. ولكن ما زادهم ذلك إلا علواً في الأرض وطغياناً وتعذيباً للمؤمنين.. فدعا عليهم موسى.. فعاقبهم الله بالجدب والقحط ونقص الثمرات لعلهم يذكرون.. ولكنهم لم يذعنوا بل استمروا في إجرامهم وطغيانهم.. فأصابهم الله بصنوف أخرى من المصائب لعلهم يرجعون.. (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين) الأعراف / 132- 133.
- ولما ازداد طغيان فرعون.. جاء الأمر الإلهي بالفرج فأمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سراً.. فلما علم فرعون جمع جيشاً كبيراً ليدرك موسى وقومه قبل أن يصلوا فلسطين.. وخرج فرعون وجنوده تاركين وراءهم البساتين والجنات والأموال.. فأدركوا موسى وقومه مع شروق الشمس عند ساحل البحر الأحمر فنجى الله موسى وقومه.. وأغرق فرعون وجنوده كما قال تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون - فأرسل فرعون في المدائن حاشرين - إن هؤلاء لشرذمة قليلون - وإنهم لنا لغائظون - وإنا لجميع حاذرون - فأخرجناهم من جنات وعيون - وكنوز ومقام كريم - كذلك وأورثناها بني إسرائيل - فأتبعوهم مشرقين - فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون- قال كلا إن معي ربي سيهدين - فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم - وأزلفنا ثم الآخرين - وأنجينا موسى ومن معه أجمعين - ثم أغرقنا الآخرين - إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - وإن ربك لهو العزيز الرحيم) الشعراء/ 52 -68.
- وهكذا هلك فرعون وجنوده، ولما أدركه الغرق آمن.. ولكن لم ينفعه ذلك.. وأبقى الله بدنه ليكون عبرة لمن بعده.. وكانت عقوبة آل فرعون في الدنيا الغرق في البحر وفي الآخرة العذاب الشديد.. (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) غافر/46-47.
- وقد شاهد بنو إسرائيل معجزات موسى وكان آخرها معجزة نجاتهم وهلاك عدوهم وكانت هذه المعجزات كافية لنزع رواسب الوثنية من قلوبهم إلا أنها كانت تعاودهم أحياناً.. ولقي موسى الأهوال في سبيل ردهم إلى عبادة الله وحده.. ومن ذلك:
عندما جاوز البحر مروا على قوم يعبدون الأصنام.. فطلبوا من موسى أن يتخذ لهم صنماً يعبدونه كهؤلاء فقال لهم موسى (إنكم قوم تجهلون - إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون - قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) الأعراف / 138ـ 140.
وسار بنوا إسرائيل إلى الأرض المقدسة وفي الطريق أصابهم العطش فشكوا إلى موسى فدعا ربه فسقاهم.. (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم) الأعراف/160.
وفي طريقهم شكوا شدة حرارة الشمس.. وقلة الطعام فدعا موسى ربه فظللهم بالغمام.. ورزقهم من الطيبات ولكنهم لم يشكروا بل طلبوا غيرها.. (وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الأعراف /160.
ثم اشتكوا وقالوا.. (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) البقرة/61.
وكان الله قد وعد موسى أن ينزل عليه كتاباً فيه الأوامر والنواهي لبني إسرائيل.. فلما هلك فرعون سأل الله موسى ربه الكتاب فأمره أن يصوم أربعين يوماً فخلف أخاه هارون في قومه وصام تلك الأيام.. ثم أنزل الله عليه التوراة عند جبل الطور.. فيها المواعظ وتفصيل كل شيء.. فلما رجع إلى قومه وجدهم يعبدون العجل الذي صنعه لهم السامري من الحلي وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى.. (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي - أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً - ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري - قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) طه/88-91.
فلما جاء موسى غضب عليهم ولامهم وبين لهم الحق.. ثم حرق العجل , ورماه في البحر , وعاقب السامري فكان يتألم من مس أي شيء.
ندم بنو إسرائيل على عبادة العجل.. فاختار منهم موسى سبعين رجلاً وذهب بهم إلى جبل الطور ليقدموا الطاعة لله.. والندم على ما فعلوا.. وهناك كلم الله موسى.. ولكن بعضهم لم يؤمن بأن الله هو الذي يكلم موسى فعصوا وقالوا أرنا الله جهرة.. (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون - ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) البقرة/ 55-56.
ولما عاد موسى إلى بني إسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبلوها وتذمروا من أحكامها فهددهم فقبلوا.. كما قال تعالى.. (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون - ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) البقرة / 63 -64.
ثم أمر موسى بني إسرائيل أن يذهبوا معه إلى الأرض المقدسة في فلسطين فذهبوا معه ثم خافوا من أهلها الجبارين وعصوا موسى وتمردوا عليه.. (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون) المائدة / 24.
فدعا عليهم موسى.. واستجاب الله دعاءه.. وأخبره بأن الأرض المقدسة محرمة عليهم.. وأنهم سيتيهون في الأرض أربعين سنة فلا يحزن عليهم.. (قال ربي إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ـ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) المائدة/ 25 ـ26.
ـ وهكذا ظل موسى صابراً على تذمر بني إسرائيل.. وكثرة شكواهم.. وفي مدة التيه توفى هارون..ثم توفي موسى.. ومات أكثرهم.. فلما انقضت المدة دخل يوشع بن نون بهم الأرض المقدسة وحاصرها حتى فتحها.. وأمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة سجدا ًفلم يمتثلوا.. ودخلوها على أُستاهم.
- وقد امتن الله على بني إسرائيل بنعم عظيمة فأنجاهم من فرعون.. ورزقهم من الطيبات..وجعل منهم الأنبياء والملوك.. وفضلهم على العالمين ولكنهم كفروا تلك النعم ولم يشكروها.. (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) المائدة / 20.
- ولليهود أقوال سيئة وأفعال خبيثة أوجبت لعنهم وسخط الله عليهم.
- فقد اتهموا الله بالبخل.. (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) المائدة/64.
وكفروا بقولهم هذا البهتان العظيم.. (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) آل عمران / 81 1.
ـ ونسبوا إلى الله الولد قاتلهم الله أنى يؤفكون.. (وقالت اليهود عزير ابن الله) التوبة/30.
- ولما بلغتهم التوراة كفر كثير منهم بأحكامها.. وصدوا عن سبيل الله.. واستباحوا الظلم فعاقبهم الله بذنوبهم.. قال تعالى.. (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً) النساء/ 61.
- ومن بهتانهم قولهم إنهم أبناء الله وأحباؤه.. (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) المائدة /18.
- ومن كذبهم وبهتانهم قولهم.. (وقالوا لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة /111.
- ومن إفترائهم وكذبهم قولهم.. (وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) البقرة/80.
- ومن مكرهم وخيانتهم أنهم كانوا يحرفون كتابهم التوراة.. (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) النساء /46.
- ومن جرائمهم أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق فعاقبهم الله بذنوبهم كما قال تعالى.. (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) البقرة/61.
- ولما لليهود من مظالم , وافتراءات , وأعمال سيئة , وفساد في الأرض ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء فلن تقوم لهم قائمة إلى يوم القيامة.. (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين) المائدة /64.
- واليهود ضعاف النفوس..قلوبهم متفرقة.. وأهواؤهم مختلفة.. (لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرىً محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) الحشر/14.
- واليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا.. واليهود لطغيانهم وفسادهم يكرهون الموت فراراً مما بعد الموت كما قال تعالى.. (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين - ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) الجمعة/6-7.
- وظل اليهود على فسادهم وطغيانهم وتحريفهم.. وأرسل الله إلى بني إسرائيل كثيراً من الأنبياء والرسل لردهم إلى الصراط المستقيم فمنهم من آمن بهم.. ومنهم من كفر.. حتى أرسل الله إليهم عيسى بن مريم عليه السلام.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي: تأليف الشيخ محمد بن ابراهيم التويجري.
(1/244)
هل النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِر في الإنجيل
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تخبرني أين ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل؟ وهل تم ذكر اسمه أم رمز له؟ وما هي المراجع التي يمكن أن أستعملها لأثبت هذه المسألة، وهل الكُتاب والمترجمون النصارى قد حرفوا ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى في كتابه: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) الصف /6
وقال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف/157
فهاتان الآيتان تدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة والإنجيل، مهما أدعى اليهود والنصارى عدم ذلك، فإن كلام الله تعالى أحسن حديثا، وأصدق قيلا.
ومما وورد في الكتاب السابقة ما يلي:
أولا: جاء في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الثامن عشر الفقرات 18و19: " يا موسى أني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي فيه ويقول لهم ما أمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه "، وهذا النص موجود عندهم الآن، فقوله:" من إخوانهم "، لو كان منهم من بني إسرائيل لقال سأقيم لهم نبياً منهم قال من إخوتهم أي أبناء إسماعيل.
ثانيا: جاء في إنجيل يوحنا الإصحاح السادس عشر الفقرات 16-17: " إن خيراً لكم أن أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وان لي كلاماً كثيراً أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي "، وهذا لا ينطبق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: قال ابن القيم رحمه الله: " قال في التوراة في السفر الخامس: -: " أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، ومعه ربوات الإظهار عن يمينه " وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة: نبوة موسى، ونبوة عيسى، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمجيئه من " سينا ": وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، ونبأه عليه إخبار عن نبوته، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس، و " ساعير ": قرية معروفة هناك إلى اليوم، وهذه بشارة بنبوة المسيح.
"وفاران ": هي مكة، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجيء الصبح، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ونبوة خاتم الأنبياء باستعلاء الشمس، وظهور ضوءها في الآفاق، ووقع الأمر كما أخبر به سواء. فإن الله سبحانه صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة (والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين " ا. هـ[انظر هداية الحيارى ص 110، وما ذكره ابن القيم هو في العهد القديم سفر التثنية الإصحاح 33 فقرة 1]
رابعا: ذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني في كتابه: (البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية السابقة) أن إنجيل برنابا في الباب 22 جاء فيه: " وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله "، وجاء في سفر أشعيا: إني جعلت اسمك محمدا يا محمد، يا قدوس الرب: اسمك موجود من الأبد، وجاء في سفر أشعيا: " وما أعطيته لا أعطيه لغيره، أحمد يحمد الله حمدا حديثا يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرية، ويوحدون على كل شرف، ويعظمونه على كل رابية " انتهى.
وقد ذكر العلماء العديد من المواضع التي ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم، مرة بذكر اسمه الصريح، ومرة بذكر وصف لا ينطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم.
ويمكنك مراجعة العديد من النصوص في الوصلة التالية:
http://arabic.islamicweb.com/christianity/
واعلم أنه قد طرأ تغيير على الكتب الموجودة الآن من التوراة والإنجيل وحدث تغيير فيها، وقد ذكر المؤرخون من غير المسلمين هذا الأمر، لكن مع ذلك كله لازلنا نجد في التوراة والإنجيل التبشير بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الشيخ رحمة الله الهندي أن النصارى كلما استطاعوا تحريف موضع حرفوه، ولذلك تجد بعض العلماء القدامى يذكرون مواضع في التوراة والإنجيل ليست موجودة الآن، لكن هناك مواضع أخرى لا زالت تبشر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقدومه.
واعلم أنه لا بد من تسلح الإنسان بالعلم الصحيح الوافي عند مناقشة النصارى، وهم وإن لم يكن لديهم حجج، إلا إنه يسعون لبث الشبه في نفوس الناس، ليستسلموا ها، وليغيب الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ومن الكتب المفيدة في هذا السياق كتاب إظهار الحق للشيخ رحمة الله الهندي، وكتاب هداية الحيارى لابن القيم، ومن قبله الجواب الصحيح لابن تيمية.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/245)
إجابة عن إشكالات في آيات حياة المسيح عليه السلام وموته
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا من متابعي موقعكم ولا أشك أبداً في أن حرفا واحدا من القرآن قد تم تحريفه وأرجو أن تشرح لي اللبس في هاتين الآيتين الأولى في سورة مريم (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) فما معني يوم أموت؟
وفي آية ") وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء/159، فما معنى هذا؟) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) النساء/157
أدرس في الصين ولدي الكثير من الأصدقاء من أديان مختلفة ويسألوني عن القرآن وموقف الإسلام من عيسى عليه السلام، أحاول أن أجيب على أسئلتهم وأرجو أن تجيبني في أسرع وقت.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بدايةً نشكر لك حرصك على السؤال عن أمر دينك، وسعيك للتبصر في تفسير كتاب الله جل وعلا، ونسأل الله أن يرزقنا وإياك العلم النافع،
أما فيما يتعلق بقوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) مريم/33، فقد قال الطبري في تفسيره:" وقوله {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} يقول: والأمن من الله عليَّ من الشيطان وجنده يوم ولدت أن ينالوا مني ما ينالون ممن يولد عند الولادة، من الطعن فيه، ويوم أموت، من هول المطلع، ويوم أبعث حياً يوم القيامة أن ينالني الفزع الذي ينال الناس بمعاينتهم أهوال ذلك اليوم " [تفسير الطبري 8 / 340]
وقال القرطبي:" {والسلام علي} أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: يوم ولدت يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في ((آل عمران)) . ويوم أموت يعني في القبر. ويوم أبعث حيا يعني في الآخرة، لأن له أحوالاً ثلاثة: في الدنيا حياً، وفي القبر ميتاً، وفي الآخرة مبعوثاً، فسلم في أحواله كلها " [تفسير القرطبي 11 / 98]
ومما سبق من أقوال المفسرين تعلم أن قوله {ويوم أموت} ليس معناه أنه قد مات، وإنما معناه أنه عند موته – وذلك بعد نزوله وقتله للدجال كما ثبت في الأحاديث – فإنه يسلم من الموت على غير الإيمان بالله تعالى، وهذا كما أنه قال {ويوم أبعث حيا} وليس معناه أنه قد بعث يوم القيامة!! ، فكلامه صلى الله عليه وسلم إنما هو عن أحواله في ولادته، وفي موته، وفي بعثه، ولا شك أنه سيموت، لكن كما دلت الآيات الأخرى التي سقتها، فإنه لم يمت بالقتل أو الصلب، وإنما رفعه الله إليه، وسيموت بعد نزوله من السماء، وقتله للدجال.
أما قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء/ 159، فقد اختلف أهل العلم في مرجع الضمير في قوله {موته} على قولين:
القول الأول: أن مرجع الضمير إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، وعلى هذا يكون معنى الآية، أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بعيسى عليه السلام، وذلك قبل موته – أي عيسى -، فإنه إذا نزل من السماء، وقتل الدجال، فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، وحينها يؤمن أهل الكتاب به، قبل موته صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنه حق، وأنه لم يمت من قبل، فالكلام في الآية عن علامة من علامات الساعة، وشرط من أشراط يوم القيامة، سيكون بعد نزول عيسى، وأنه قبل أن يموت في ذلك الزمان سيؤمن به أهل الكتاب. وقد ورد ما يؤيد هذا القول من قول أبي هريرة رضي الله عنه بعد روايته للحديث الدال على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) النساء/159) . البخاري 3192 مسلم 220.
القول الثاني: أن مرجع الضمير إلى الكتابي نفسه، وعلى هذا يكون معنى الآية، أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بعيسى عليه السلام، وأنه حق، وأنه لم يمت، وذلك عندما يعاين سكرات الموت، ويرى الحقائق والبراهين، فعند موت ذلك الكتابي سيعلم أن ما كان عليه هو الباطل، لكن لا ينفعه ذلك الإيمان حينئذ.
وعلى كلا القولين السابقين فليس في الآية دليل أو إشارة إلى موته صلى الله عليه وسلم، وإنما الكلام – في القول الأول – على أمر غيبي سيحصل في المستقبل، وهو بلا شك سيموت عليه السلام، لكن بعد نزوله كما سبق، وعلى القول الثاني: فالمراد بقوله (قبل موته) أي موت الكتابي نفسه.
وقد رجح الطبري وابن كثير وغيرهما من أئمة التفسير القول الأول، قال ابن كثير:" وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء/159 "، قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم عليه السلام..... عن ابن عباس قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، قال: قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام. ... وعن الحسن {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون..... قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني بذلك قبل موت صاحب الكتاب، ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه علم الحق من الباطل لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى..... وقال ابن عباس: لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى.... وعن ابن عباس، قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الاي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة ... فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقههم من النصارى أنه قتل وصلب، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض " [تفسير ابن كثير 1 / 762]
ولا بد من التنبيه – أيها الأخ الكريم – على أن مناقشة النصارى لا بد أن تكون عن علم وبينة، حتى لا يكون الإنسان سببا في عدم قبول الناس للحق بسبب ضعف حجته، وإلا فليس عند النصارى حجة صحيحة أصلا، إلا إنهم يلقون بالشبهات ليزيفوا الحقائق، وليلبسوا الحق بالباطل، أعاذنا الله من طرق الزائغين.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/246)
اعتقاد المسلمين في المسيح عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو اعتقاد المسلمين في المسيح عيسى ابن مريم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اعتقادنا في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام هو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فنؤمن بأن عيسى عليه السلام عبد من عباد الله، ورسول من رسله الكرام، أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وعبادته.
قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) الصف /6. وقال: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) المائدة /72.
فليس عيسى عليه السلام إلهاً، ولا ابن الله كما يزعم ذلك النصارى.
قال الله عز وجل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المائدة /72.
وقال جل شأنه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) التوبة /30.
وأول كلمة قالها عيسى عليه السلام لما أنطقه الله وهو في المهد: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) مريم /30.
ونؤمن بأن الله تعالى أيده بالآيات الدالة على صدقه.
قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) المائدة /110.
ونؤمن بأن عيسى عليه السلام وُلد من مريم العذراء البتول بلا أب، وليس ذلك ممتنعاً على قدرة الله الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
قال الله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران /59.
وقال تعالى: (إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنْ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران /45-47.
ونؤمن بأنه عليه السلام أحل لليهود بعض ما كان محرماً عليهم.
قال الله عز وجل عن عيسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل: (وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) آل عمران /50.
ونؤمن بأنه لم يمت ولم يقتله أعداؤه اليهود، بل نجاه الله تعالى منهم، ورفعه إلى السماء حياً.
قال عز وجل عن اليهود: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء /156-158.
ونؤمن بأنه بَشَّر أتباعه بنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) الصف /6.
ونؤمن بأنه سينزل في آخر الزمان، فيكذب أعداءه اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، ويكذب النصارى في دعواهم أنه الله أو ابن الله، ولا يقبل منهم إلا الإسلام.
روى البخاري ومسلم (2222) ومسلم (155) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ (وفي رواية: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ) حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) .
(لَيُوشِكَن) أَيْ لَيَقْرَبَن أَيْ لا بُدّ مِنْ ذَلِكَ سَرِيعًا.
(أَنْ يَنْزِل فِيكُمْ) أَيْ فِي هَذِهِ الأُمَّة.
(حَكَمًا مُقْسِطًا) أَيْ حَاكِمًا عَادِلاً , وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْزِل حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَة فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَة بَاقِيَة لا تُنْسَخ , بَلْ يَكُون عِيسَى حَاكِمًا مِنْ حُكَّام هَذِهِ الْأُمَّة.
(فَيَكْسِر الصَّلِيب، وَيَقْتُل الْخِنْزِير) أَيْ يُبْطِل دِين النَّصْرَانِيَّة بِأَنْ يَكْسِر الصَّلِيب حَقِيقَة وَيُبْطِل مَا تَزْعُمهُ النَّصَارَى مِنْ تَعْظِيمه.
(وَيَضَع الْجِزْيَة)
قال النووي:
الصَّوَاب فِي مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لا يَقْبَلهَا، وَلا يَقْبَل مِنْ الْكُفَّار إِلا الإِسْلام، وَمَنْ بَذَلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَة لَمْ يَكُفّ عَنْهُ بِهَا، بَلْ لا يَقْبَل إِلا الإِسْلام أَوْ الْقَتْل. هَكَذَا قَالَهُ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى اهـ.
(َيَفِيض الْمَال) أَيْ: يَكْثُر , وَسَبَب كَثْرَته نُزُول الْبَرَكَات، وَتَوَالِي الْخَيْرَات، بِسَبَبِ الْعَدْل وَعَدَم الظُّلْم، وَحِينَئِذٍ تُخْرِج الأَرْض كُنُوزهَا، وَتَقِلّ الرَّغَبَات فِي اِقْتِنَاء الْمَال لِعِلْمِهِمْ بِقُرْبِ السَّاعَة.
ثم يموت عليه السلام ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
روى أحمد (9349) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ. . . ثم ذكر نزوله عليه السلام في آخر الزمان. ثم قال: فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ) . صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2182) .
ونؤمن بأنه عليه السلام سيتبرأ يوم القيامة ممن زعموا أنه إله.
قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) المائدة /116-117.
(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) المائدة / 117
فهذا اعتقاد المسلمين في المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.
وقد روى البخاري (3435) ومسلم (28) عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ) .
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويتوفانا عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/247)
عصمة الأنبياء
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أسال عن العقيدة، هل من عقيدتنا الإيمان بصدور الذنب عن الأنبياء وأنهم غير معصومين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأنبياء هم صفوة البشر، وهم أكرم الخلق على الله تعالى، اصطفاهم الله تعالى لتبليغ الناس دعوة لا إله إلا الله، وجعلهم الله تعالى الواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ الشرائع، وهم مأمورون بالتبليغ عن الله تعالى، قال الله تعالى: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " الأنعام / 89.
والأنبياء وظيفتهم التبليغ عن الله تعالى مع كونهم بشرا، ولذلك فهم بالنسبة للأمر المتعلق بالعصمة على حالين:
1- العصمة في تبيلغ الدين.
2- العصمة من الأخطاء البشرية.
أولاً: أما بالنسبة للأمر الأول، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في التبليغ عن الله تبارك وتعالى، فلا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله إليهم، ولا يزيدون عليه من عند أنفسهم، قال الله تعالى لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – " يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " المائدة /67، وقال تعالى: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين " الحاقة /47 - 44.
وقال تعالى: " وما هو على الغيب بضنين " التكوير /24، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – في تفسير هذه الآية " وما هو على ما أوحاه الله إليه بشحيح، يكتم بعضه، بل هو – صلى الله عليه وسلم – أمين أهل السماء، وأهل الأرض، الذي بلغ رسالات ربه، البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه، عن غني ولا فقير، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حضري ولا بدوي، ولذلك بعثه الله في أمة أمية جاهلة جهلاء، فلم يمت – صلى الله عليه وسلم – حتى كانوا علماء ربانيين، إليهم الغاية في العلوم ... " انتهى
فالنبي في تبليغه لدين ربه وشريعته لا يخطأ في شيء البتة لا كبير ولا قليل، بل هو معصوم دائماً من الله تعالى.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – (فتاوى ابن باز ج6/371) :
" قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام – ولاسيما محمد – صلى الله عليه وسلم – معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل، قال تعالى: " والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى " النجم /1-5) ، فنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – معصوم في كل ما يبلغ عن الله قولاً وعملاً وتقريراً، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم " انتهى.
وقد اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئا مما أوحاه الله إليهم، إلا شيئا قد نسخ، وقد تكفل الله جل وعلا لرسوله _ صلى الله عليه وسلم _ أن يقرئه فلا ينسى، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه وتكفل له بأن يجمع له القرآن في صدره. قال تعالى. " سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله " الأعلى / 7، وقال تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة /17-18.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (مجموع الفتاوى ج18 / 7) :
" فان الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقاً وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه " انتهى.
ثانيا: بالنسبة للأنبياء كأناس يصدر منهم الخطأ، فهو على حالات:
1- عدم الخطأ بصدور الكبائر منهم:
أما كبائر الذنوب فلا تصدر من الأنبياء أبدا وهم معصومون من الكبائر، سواء قبل بعثتهم أم بعدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (مجموع الفتاوى: ج4 / 319) :
" إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف ... وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول " انتهى.
2- الأمور التي لا تتعلق بتبيلغ الرسالة والوحي.
وأما صغائر الذنوب فربما تقع منهم أو من بعضهم، ولهذا ذهب أكثر أهل العلم إلى أنهم غير معصومين منها، وإذا وقعت منهم فإنهم لا يُقرون عليها بل ينبههم الله تبارك وتعالى عليها فيبادرون بالتوبة منها.
والدليل على وقوع الصغائر منهم مع عدم إقرارهم عليها: - قوله تعالى عن آدم: " وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) طه / 121-122، وهذا دليل على وقوع المعصية من آدم – عليه الصلاة والسلام -، وعدم إقراره عليها، مع توبته إلى الله منها.
- قوله تعالى " قال هذا من عمل الشيطان إنه عدوٌ مضلٌ مبين* قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " القصص/15،16. فموسى – عليه الصلاة والسلام - اعترف بذنبه وطلب المغفرة من الله بعد قتله القبطي، وقد غفر الله له ذنبه.
- قوله تعالى: " فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " ص / 23،24، وكانت معصية داود هي التسرع في الحكم قبل أن يسمع من الخصم الثاني.
وهذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعاتبه ربه سبحانه وتعالى في أمور ذكرت في القرآن، منها:
- قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم " التحريم /1، وذلك في القصة المشهورة مع بعض أزواجه – صلى الله عليه وسلم -.
- كذا عتاب الله تعالى للنبي – صلى الله عليه وسلم - في أسرى بدر:
فقد روى مسلم في صحيحه (4588) " قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة , أرى أن تأخذ منهم فدية , فتكون لنا قوة على الكفار , فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " ما ترى يا ابن الخطاب؟! " قال: قلت لا، والله يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان - نسيبا لعمر – فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر قاعدين وهما يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " أبكي للذي عَرَضَ عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِض عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة " – شجرة قريبة من نبي الله – صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " الأنفال / 67–69، فأحل الله الغنيمة لهم.
ففي هذا الحديث اتضح أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للعفو عن الأسرى إنما كان أمرا اجتهاديا منه بعد مشاورة أصحابه، ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم فيه من الله تعالى نص.
- قوله تعالى: " عبس وتولى * أن جاءه الأعمى " عبس /1-2، وهذه قصة الصحابي الجليل عبد الله ابن أم مكتوم الشهيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي عاتبه الله فيها.
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى: ج4 / 320) :
" وعامة ما يُنقل عن جمهور العلماء أنهم (أي الأنبياء) غير معصومين عن الإقرار على الصغائر، ولا يقرون عليها، ولا يقولون إنها لا تقع بحال، وأول من نُقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقاً، وأعظمهم قولاً لذلك: الرافضة، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل " انتهى.
وقد يستعظم بعض الناس مثل هذا ويذهبون إلى تأويل النصوص من الكتاب والسنة الدالة على هذا ويحرفونها. والدافع لهم إلى هذا القول شبهتان:
الأولى: أن الله تعالى أمر باتباع الرسل والتأسي بهم، والأمر باتباعهم يستلزم أن يكون كل ما صدر عنهم محلاً للاتباع، وأن كل فعل، أو اعتقاد منهم طاعة، ولو جاز أن يقع الرسول صلى الله عليه وسلم في معصية لحصل التناقض، لأن ذلك يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها، من حيث إننا مأمورون بالتأسي به، والنهي عن موافقتها، من حيث كونها معصية.
وهذه الشبهة صحيحة وفي محلها لو كانت المعصية خافية غير ظاهرة بحيث تختلط بالطاعة، ولكن الله تعالى ينبه رسله ويبين لهم المخالفة، ويوفقهم إلى التوبة منها من غير تأخير.
الثانية: أن الذنوب تنافي الكمال وأنها نقص. وهذا صحيح إن لم يصاحبها توبة، فإن التوبة تغفر الذنب، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إن العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته خيراً منه قبل وقوعه في المعصية ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار، فالأنبياء لا يقرون على ذنب، ولا يؤخرون توبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها.
3- الخطأ في بعض الأمور الدنيوية – بغير قصد -:
وأما الخطأ في الأمور الدنيوية، فيجوز عليهم الخطأ فيها مع تمام عقلهم، وسداد رأيهم، وقوة بصيرتهم، وقد وقع ذلك من بعض الأنبياء ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك في مناحي الحياة المختلفة من طب وزراعة وغير ذلك.
فقد روى مسلم في صحيحه (6127) عن رافع بن خديج قَالَ: قَدِمَ نَبِيّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم – الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النّخْلَ. يَقُولُونَ يُلَقّحُونَ النّخْلَ. فَقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ؟ " قَالُوا: كُنّا نَصْنَعُهُ. قَالَ: "لَعَلّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْراً " فَتَرَكُوهُ. فَنَفَضَتْ أَوْ قال: فَنَقَصَتْ. قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " إِنّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيي، فَإِنّمَا أَنَا بَشَرٌ" وبهذا يكون قد علم أن أنبياء الله تعالى معصومون عن الخطأ في الوحي، ولنحذر ممن يطعنون في تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشككون في تشريعاته ويقولون هي اجتهادت شخصية من عنده حاشاه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: " وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى " النجم /3-4.
وسئلت اللجنة الدائمة: هل الأنبياء والرسل يخطئون؟
فأجابت:
نعم، يخطئون ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم بل يبين لهم خطأهم رحمة بهم وبأممهم، ويعفو عن زلتهم، ويقبل توبتهم فضلاً منه ورحمة، والله غفور رحيم، كما يظهر ذلك من تتبع الآيات القرآنية التي جاءت في هذا" اهـ
"فتاوى اللجنة الدائمة" (3/194) .
وللمزيد راجع سؤال رقم (7208)
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/248)
نوح عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أعرف بعض المعلومات عن نبي الله نوح عليه السلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اصطفى الله من بني آدم رسلاً وأنبياء كما قال سبحانه: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران/33.
وقد أرسل الله نوحاً إلى قومه ليدعوهم إلى عبادة الله وحده: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) الأعراف/59.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فطغوا، وتمردوا واستكبروا: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) نوح/23.
وقد دعا نوح قومه ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام كما قال سبحانه: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) العنكبوت/14.
ولكن قوم نوح لم يستجيبوا له ولم ينتفعوا بنصحه بل أنكر أشرافهم نبوته واتهموه بالكذب وقالوا إن أتباعه من الفقراء والضعفاء الذين لا فكر لهم ولا رؤية قال تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) هود/27.
واستمر نوح عليه السلام في دعوة قومه وتلطف بهم ودعاهم في كل مناسبة ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فما آمن معه إلا قليل أما الأكثرون فقد كذبوه وسخروا منه واتهموه بالجنون وحالوا بينه وبين تبليغ رسالة ربه وهددوه بالرجم إن لم ينته: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) الشعراء/116.
ولكن نوح لم يبال بتهديدهم فواصل دعوته لهم حتى إذا ضاق ذرعاً باستكبارهم، واستهزائهم لجأ إلى ربه بهذه الشكوى: (قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) نوح/5-12.
فلما أيس نوح عليه السلام من إيمان قومه، وهددوه بالقتل وآذوه ومن آمن معه فما كان منه إلا أن دعا عليهم بقوله: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً) نوح/26 -27.
وقد استجاب الله دعاء نوح عليه السلام وقضى بهلاك قوم نوح بالغرق وأمره أن يصنع سفينة النجاة ليركب فيها والمؤمنون معه: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) هود/36-37.
ولما أتم نوح عليه السلام صنع السفينة وظهرت علامات بدء العذاب بتفجير العيون من الأرض ونزول الماء من السماء أمر الله نوحاً بأن يحمل فيها من الأحياء والحيوانات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليبقى ويستمر نسلها كما أمره الله أن يحمل معه أهله ما عدا من كفر منهم، وهم إحدى زوجاته وأحد أبنائه كما أمر الله أيضاً أن يحمل معه المؤمنين به وهم قليل قال تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) هود/40-43.
ثم أخذت نوحاً عاطفة الشفقة على ولده فطلب من ربه أن ينجيه من الهلاك: (ونادى نوح ربه فقال ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) هود/45-46.
ولما أهلك الله الكفار بالغرق أمر الله الأرض أن تبلع الماء وأمر السماء أن تكف عن المطر فاستوت السفينة راسية على جبل الجودي بالموصل وقضي الأمر وأهلك الظالمون: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين) هود/44.
وبعد أن استوت السفينة على الجبل، أمر الله نوحاً أن ينزل ومن معه محفوفاً بالسلام والبركات: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) هود/48.
وهكذا نصر الله نوحاً والمؤمنين معه وأهلك من كفر به وجعلهم عبرة للناس: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم، ونصرناه من القوم لذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوءٍ فأغرقناهم أجمعين) الأنبياء/76 - 77.
ثم جعل الله في ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام النبوة والكتاب كما قال سبحانه: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) الحديد/26.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.
(1/249)
سبب عدم وجود صورة للنبي صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لا توجد أي صورة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أي مكان في العالم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاءت الشريعة بسدِّ كلِّ باب يُوصِل إلى الشِّرك بالله، ومن هذه الوسائل التصوير فقد جاءت الشريعة بتحريم الصورة، ولعن من يفعل ذلك بل جاء الوعيد الشديد لمن فعل ذلك، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري (الصلاة/409) ، وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ) رواه البخاري (اللباس/5498) ، وعن عبد الله بن مسعود قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ) رواه البخاري (اللباس/5494) فكيف يأذن بعمل صورة له، ولذلك لم يجرؤ أحد من الصحابة على رسم صورة له لأنهم يعلمون الحكم بالتحريم.
وحذر الله عز وجل من الغلو فقال: (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم) النساء /171، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أيِّ فِعْلٍ يكون فيه غُلُوّ في حقه صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النصارى ابن مريم، إنّما أنا عَبْدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله) ، رواه البخاري (أحاديث الأنبياء/3189) ، وقد بَوّبَ الإمام محمد بن عبد الوهاب باب: ما جاء أنّ سَبَب كُفْر بني آدم هو الغلو في الصالحين ... قال: " وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً) نوح/23، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت "، قال ابن القيم: " قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا لهم التماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن ص/219.
ولذلك لا توجد صورة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاء بالتحذير منها لأنها أدت إلى الشرك.
ومقتضى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نؤمن به وبما جاء به، ولو لم توجد له أي صورة، والمؤمنون لا يحتاجون إلى صورة له حتى يتَّبعوه، ثم إن وصفه الثابت في الروايات الصحيحة يغني عن صورته ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم الواردة:
1- كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس وجهاً
2- كان عريض ما بين المنكبين
3- ليس بالطويل ولا بالقصير
4- مستدير الوجه ووجهه مشرب بحمرة.
5- أدعج العين وهو: الشَّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ.
6- أَهْدَبُ الأَشْفَارِ: الطَّوِيلُ
7- وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَجْوَدُ النَّاسِ كَفَّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلَهُ
يراجع سنن الترمذي (المناقب/3571) وغيره من كتب السنة في وصفه عليه الصلاة والسلام.
ولا شك أن المؤمنين يتمنون لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأهْلِهِ وَمَالِهِ) رواه مسلم (الجنة وصفة نعيمها/5060) ولا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واتباعه سبب للاجتماع به في الجنة، ومن محبته عليه الصلاة والسلام رؤيته في المنام، وتكون رؤيته على صفته الصحيحة فقد ثبت من حديث أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي) قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ رواه البخاري (التعبير/6478) . والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/250)
هل إدريس أول الرسل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في بعض كتب التاريخ بأن إدريس هو أول الرسل وأنه قبل نوح، فهل هذا صحيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" أول الرسل عليهم الصلاة والسلام نوح عليه الصلاة والسلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل نوح فلم يبعث رسول، وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس صلى الله عليه وسلم كان قبل نوح، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: في كتابه: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) النساء / 163.
وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة " أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض " فلا رسول قبل نوح، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الأحزاب / 40
وأما نزول عيسى بن مريم، عليه السلام في آخر الزمان فإنه لا ينزل على أنه رسول مجدد، بل ينزل على أنه حاكم بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن الواجب على عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) آل عمران / 81، وهذا الرسول المصدق لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك عن ابن عباس وغيره ".
مجموع فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله 1/315
وانظر سؤال رقم 10551 للمزيد عن هذا الموضوع.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/251)
ما هي وظائف عيسى عليه السلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي وظائف وواجبات عيسى عليه السلام باعتباره المسيح في الإسلام. بعض النصارى المناهضين للإسلام سألوا هذا السؤال ولا أعرف الإجابة عليه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لعيسى عليه السلام حالان:
1- الحالة الأولى: قبل رفع الله له لما أراد اليهود صلبه. ووظائفه في ذلك الوقت كوظيفة أي نبي اُمر بتبليغ الرسالة، وآتاه الله الإنجيل مصدقا للتوراة، وأعطاه من المعجزات ما هو معلوم مثل أن: يبرىء الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله وغيرها من المعجزات المعروفة. (فدعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته وكان شهيداً عليهم طيلة مقامه ولبثه فيهم)
2- الحالة الثانية: في آخر الزمان حين يخرج الدجال، فينزله الله إلى الأرض، ويكون قائدا للمؤمنين وحاكما فيهم بشريعة الإسلام، ويقتل الدجال، وفي زمنه يخرج المهدي، وتنزل البركة من الله حتى إن الناقة ليكفي لبنها العدد الكثير من الناس، ويفيض المال، وفي زمنه يخرج يأجوج ومأجوج، ويعيثون في الأرض فسادا، (فيهلكهم الله ويحكم عيسى عليه السلام الأرض بشريعة الإسلام حتى يموت ويصلي عليه المسلمون) ، ثم يرسل الله ريحا باردة فتقبض روح كل مؤمن، فلا يبقى بعد ذلك إلا شِرار الناس، وعليهم تقوم الساعة.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ سعد الحميد.
(1/252)
كيف تغسل المرأة شعرها عن الغسل من الجنابة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم مسح المرأة على الخمار عند غسلها من الجنابة، والمرأة في الدول الأجنبية قد تجد صعوبة بغسل الرأس بعد الجنابة كل مرة مما قد يقف حجر عثرة في طريق إسلامها لكونها تتخذ شكلا لرأسها يغيره الماء؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أن المعلوم من الشرع المطهر ومن كلام أهل العلم أن المسح على الحوائل من خف وعمامة وخمار لا يجوز في الجنابة بالإجماع، وإنما يجوز في الوضوء خاصة لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم، ولا ريب أن الشريعة الإسلامية هي شريعة السماحة والتيسير، ولكن ليس في غسل الرأس من الجنابة حرج شديد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته أم سلمة عن الغسل من الجنابة والحيض قائلة: يا رسول الله إني أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة قال لها عليه الصلاة والسلام: (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) أخرجه مسلم في صحيحه.
فعليه يرشد النساء اللاتي يتحرجن من غسل رءوسهن في الجنابة بأنه يكفيهن أن يحثين على رءوسهن ثلاث حثيات من الماء حتى يعمه الماء من غير حاجة إلى نقض ولا تغيير شيء من الزي الذي يشق عليهن تغييره، مع بيان ما لهن عند الله من الأجر العظيم والعاقبة الحميدة والحياة الطيبة الكريمة الدائمة في دار الكرامة إذا صبرن على أحكام الشريعة وتمسكن بها، لكن الحوائل الضرورية التي يحتاجها الإنسان لعروض كسر أو جرح لا بأس بالمسح عليها في الطهارة الكبرى والصغرى، من أجل الضرورة من غير توقيت، ما دامت الحاجة ماسة إلى ذلك، لحديث جابر في الرجل الذي شج في رأسه فأمر النبي صلى الله عيه وسلم أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها ثم يغسل سائر جسده، أخرجه أبو داود في سننه.
ومما يحسن التنبيه عليه للراغبين والراغبات في الإسلام عند التوقف في بعض المسائل أو التحرج في بعض الأحكام أن يقال لهم إن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات، وأن الله سبحانه أمر عباده بما أمرهم به ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فليس الحصول على رضي الرب ودخول جنته والفوز بكرامته بالأمر السهل من كل الوجوه الذي يناله الإنسان بدون أي مشقة، ليس الأمر هكذا، بل لا بد من صبر وجهاد للنفس، وتحمل للكثير من المشاق في سبيل مرضاة الرب جل وعلا، ونيل كرامته والسلامة من غضبه وعقابه، كما قال الله عز وجل: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) الكهف / 7 وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) الملك / 2 وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) محمد / 31، والآيات كثيرة في هذا المعنى.
والله المسئول أن يجعلنا وإياكم من دعاة الهدى، وأن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن على الجميع بالبصيرة فيما خلقوا له، وأن يكثر بينهم دعاة الحق إنه على كل شيء قدير.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ومقالات للشيخ ابن باز 6 / 237
(1/253)
هل يقال للنبي محمد حبيب الله
[السُّؤَالُ]
ـ[وصف النبي صلى الله عليه وسلم بحبيب الله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" النبي صلى الله عليه وسلم حبيب الله لا شك فهو حاب لله ومحبوب لله، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل لله، فالرسول صلى الله عليه وسلم خليل الله كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً " رواه مسلم (532) .
والخلة هي كمال المحبة.
ولهذا من وصفه بالمحبة فقط فإنه نزله عن مرتبته، فالخلة أعظم من المحبة وأعلى، فكل المؤمنين أحباء الله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام أعلى من ذلك وهو الخلة فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، لذلك نقول: إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم خليل الله، وهذا أعلى من قولنا: حبيب الله لأنه متضمن للمحبة، وزيادة لأنه غاية المحبة."
مجموع فتاوى ابن عثيمين رحمه الله (1/319)
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (10/204) :
وقول بعض الناس إن محمدا حبيب الله وإبراهيم خليل الله، وظنه أن المحبة فوق الخلة، قول ضعيف، فإن محمدا أيضا خليل الله، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة اهـ.
وقال ابن القيم في "روضة المحبين" (1/49)
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل، وقال: محمد حبيب الله، وإبراهيم خليل الله. وهذا باطل من وجوه كثيرة:
منها: أن الخلة خاصة، والمحبة عامة. فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، وقال في عباده المؤمنين: (يحبهم ويحبونه) .
ومنها: أن النبي نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل، وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة، ومن الرجال أبوها.
ومنها: أنه قال: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا) .
ومنها: أنه قال: (لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته) اهـ.
فائدة:
قد ورد حديث ظاهره يخالف ما تقدم من أن الخلة أعلى من المحبة، رواه الترمذي (3161) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ، وَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، أَلا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلا فَخْرَ. . . إلخ الحديث) .
وهذا الحديث ضعيف، لا يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/254)
لماذا لا يستجيب الناس لشرع الله
[السُّؤَالُ]
ـ[أن الله أنزل الأديان وبعث الرسل ليستقيم أحوال البشر لما في هذه الشرائع من قيم الخير والصلاح والسعادة والعدل.. الخ ... ولكن واقع الحال لا نجد أن هذه الشرائع قد حققت تلك الأهداف إلا في فترات قصيرة جدا عبر التاريخ ...
والسؤال كيف يمكن للمتدين الإيمان بتلك القيم وهي شبيهة بالسراب ولا يجدها على أرض الواقع (إلا في زمن الأنبياء والصحابة) ... أرجوكم بشدة الإجابة لأن هذا السؤال يؤرقني.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في بداية الجواب نذكر لك وصية مهمة، وصى بها شيخ الإسلام ابن تيمية تلميذه ابن القيم، كما في مفتاح دار السعادة (1/140) ، قال ابن القيم رحمه الله:
وقال لي شيخ الإسلام رضى الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد -:
" لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات " أو كما قال.
فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك ". انتهى كلامه.
واعلم وفقك الله أن المقصود من إرسال الرسل هو دلالة الناس لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولكي يقيموا الحجة على عباده، ولم يُكَلّف أنبياء الله أن يدخلوا الإيمان في قلوب الناس، قال تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) الرعد / 7، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) صّ / 65، وقال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) المزمل / 19، وقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف / 29.
وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى (2865) عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:
أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا – ومما قاله -: وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ. قال الله سبحانه وتعالى لنبيه: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الشعراء / 3 أي مهلك نفسك بالحزن على عدم إيمانهم.
وقال تعالى لنبيه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس / 99، وقال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يوسف / 103 وقد قدر الله سبحانه وتعالى أن يجعل من بني آدم من هو مؤمن، ومن هو كافر قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) التغابن / 2.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ. يَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْك. فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَال: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ. قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا. أخرجه البخاري (4741) ، ومسلم (222) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، كما رواه مسلم في صحيحه برقم (145) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمّن قبله من الأنبياء، وأن أتباعهم قليل فقال كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه برقم (5705) عن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمْ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هَذَا أُمَّتِي هَذِهِ قِيلَ بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ قِيلَ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ.
واعلم بأنه لا يلزم من صحة القيم أن يعمل الناس كلهم بها، فهؤلاء الناس على اختلاف عصورهم وطبقاتهم ولغاتهم أكثرهم - إلا من رحم الله - لم يقم بما جبلت عليه النفوس من الأخلاق الحميدة، فضلا عما أمر الله به، وتركهم لها لا ينفي كونها أخلاقا حميدة في ذاتها.
والسبب في ذلك أن الله سبحانه خلق النفس البشرية، وجعل من صفاتها الأساسية الجهل والظلم كما قال تعالى عن الإنسان وهو أعلم به: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب / 72، فهذه النفس تُقْدِم على ما يضرها، وهي تعلم ذلك، وهذا لما في نفسها من الظلم والجهل.
ويكفي المسلم المذعن لعبودية الله سورة العصر التي قال عنها الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل الله على عباده إلا هذه السورة لكفتهم "
قال تعالى: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فكل جنس بني آدم في خسارة إلا من حقق هذه الشروط.
نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يثبتنا على هذا الصراط.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/255)
ما هي المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
[السُّؤَالُ]
ـ[أرغب في معرفة المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يشرع لمن سمع النداء والأذان أن يتابع المؤذن فإذا فرغ من المتابعة في جميع الأذان صلى وسلم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال ما ورد في الحديث الصحيح عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. " رواه البخاري 579، وليس في الدعاء عبارة: (الدرجة العالية الرفيعة) فلا تقال، والعطف في قوله: " الوسيلة والفضيلة " عطف بيان أي عطف تفسير، والوسيلة هي المرتبة الزائدة على سائر الخلق وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْن الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ. " رواه مسلم 577
والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى عند الله للفصل بين العباد ولا يؤذن فيها إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم وهي المذكورة في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) سورة الإسراء، وسمي بالمقام المحمود لأنّ جميع الخلائق يحمدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ذلك المقام لأنّ شفاعته سبب فكّ كربتهم من أهوال المحشر والانتقال إلى الحساب والفصل بين الخلائق، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/256)
لم تتأثر عبادة النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا يضاهيه في العبادة أحد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضره ذلك السحر في بدنه، ولا في عقله وإدراكه، وفي دينه وعبادته، ولا في رسالته التي كلف بإبلاغها، ولذلك لم يستنكر أحد من الناس شيئا من سيرته، ولا معاملته معهم في صلاته وأذكاره، وتعليمه، فعلى هذا إنما كان أثر السحر فيما يتعلق بالجماع مع النساء، أو بعض نسائه،، ولهذا لم ينقله سوى عائشة، وقد ذكرت أنه كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن، وهذا القدر لا يؤثر في الرسالة، وهو من قضاء الله وقدره، لحكمة أن الله قد يبتلي بعض الصالحين كالأنبياء، فأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
اللؤلؤ المكين من فتاوى الشيخ عبد الرحمن بن جبرين ص65.
(1/257)
هل نزل عيسى إلى الأرض بعد رفعه أم لا
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تم رفع عيسى عليه السلام مرتين إلى لله؟ لأنني قرأت في أحد الكتب أن عيسى عليه السلام رُفع للسماء ثم رجع ثانية للأرض ليريح والدته ويخبر اليهود شيئا ما ثم رُفع ثانية فهل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذكر لنا الله سبحانه وتعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء مرة واحدة في قوله تعالى " بل رفعه الله إليه " ولم يذكر لنا الله سبحانه وتعالى أنه أُرجِع إلى الأرض. لذلك فإن على الذين يزعمون أن عيسى أرجع إلى الأرض أن يقدموا لنا الدليل والبرهان على ذلك. فإن لم يستطيعوا ولن يستطيعوا فإن جدالهم ليس له أساس.
قال الله سبحانه وتعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) سورة آل عمران.
قال ابن جرير رحمه الله: " توفيه " هو رفعه، وقال الأكثرون المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) الآية وقال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور " رواه البخاري 6312 ومسلم 2711.
وذكره عزّ وجلّ لرفع عيسى إلى السماء فيه ردّ على اليهود الذين زعموا أنهم قتلوه، فقال سبحانه وتعالى عنهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) سورة النساء
فعيسى عليه السلام لم يمت بعد بل رفعه الله إليه لما أراد اليهود قتله وسينزل في آخر الزمان ويحكم الأرض بالإسلام ويعيش ما شاء الله أن يعيش ثم يُتوفّى ويُصلي عليه المسلمون، قال ابن كثير رحمه الله: والضمير في قوله " قبل موته " عائد على عيسى عليه السلام أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام..
وقوله تعالى: (ومطهرك من الذين كفروا) أي برفعي إياك إلى السماء، (وجاعل الذين أتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعا بعده فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أَمَته ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله وآخرون قالوا هو الله وآخرون قالوا هو ثالث ثلاثة وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق فاستمروا على ذلك قريبا من ثلاث مئة سنة ثم نبع لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين فدخل في دين النصرانية، قيل حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفا وقيل جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه وزاد فيه ونقص منه ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة وأحل في زمانه لحم الخنزير وصلوا إلى المشرق وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون وصار دين المسيح دين قسطنطين إلى أن بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد وبنى المدينة المنسوبة إليه وأتبعه طائفة الملكية منهم وهم في هذا كله قاهرون لليهود أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض. انتهى، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/258)
هل خلق النبي صلى الله عليه وسلم من نور
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في كتابين أن النبي المصطفى كان أول من خلق الله وقد خلقه الله من نور وكان هو السبب الوحيد الذي خلق الله بقية الخلق لأجله. أنا غير متأكد من هذا فأرجو أن توضح وشكراً]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد مثل هذا السؤال على اللجنة الدائمة للإفتاء وهذا نصه:
السؤال: إن جل الناس يعتقدون أن الأشياء خلقت من نور محمد صلى الله عليه وسلم وأن نوره خلق من نور الله ويروون: " أنا نور الله وكل شئ من نوري " ويروون أيضا: " أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم " فهل لذلك من أصل؟ ويروون: " أنا عرب بلا عين أي رب أنا أحمد بلا ميم أي أحد " فهل لذلك من أصل؟
الجواب:
الحمد لله
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نور من نور الله إن أريد به أنه نور ذاتي من نور الله فهو مخالف للقرآن الدال على بشريته، وإن أريد بأنه نور باعتبار ما جاء به من الوحي الذي صار سببا لهداية من شاء من الخلق فهذا صحيح، وقد صدر من اللجنة فتوى في ذلك هذا نصها: للنبي صلى الله عليه وسلم نور هو نور الرسالة والهداية التي هدى الله بها بصائر من شاء من عباده، ولا شك أن نور الرسالة والهداية من الله. قال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور " سورة الشورى الآية 73 , وليس هذا النور مكتسبا من خاتم الأولياء كما يزعم بعض الملاحدة، أما جسمه صلى الله عليه وسلم فهو دم ولحم وعظم.. إلخ، خلق من أب وأم ولم يسبق له خلق قبل ولادته وما يروى أن أول ما خلق الله نور النبي صلى الله عليه وسلم أو أن الله قبض قبضة من نور وجهه وأن هذه القبضة هي محمد صلى الله عليه وسلم فنظر إليها فتقاطرت فيها قطرات فخلق من كل قطرة نبيا أو خلق الخلق كلهم من نوره صلى الله عليه وسلم فهذا وأمثاله لم يصح منه شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خلال الفتوى السابقة يظهر أنه اعتقاد باطل. وأما ما يروى:
أنا عرب بلا عين فلا أساس له من الصحة وهكذا أنا أحمد بلا ميم. وصفة الربوبية والانفراد من الصفات المختصة بالله سبحانه وتعالى فلا يجوز أن يوصف أحد من الخلق بأنه الرب ولا أنه أحد على الإطلاق، فهذه الصفات من اختصاص الله سبحانه ولا يوصف بها الرسل ولا غيرهم من البشر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. فتاوى اللجنة الدائمة 1/310
السؤال: هل يقال أن الله خلق السماوات والأرض لأجل خلق النبي صلى الله عليه وسلم وما معنى لولاك لما خلق الأفلاك هل هذا حديث أصلا هل صحيح أم لا. بين لنا حقيقته؟
الجواب:
الحمد لله
لم تخلق السماوات والأرض من أجله صلى الله عليه وسلم بل خلق لما ذكره الله سبحانه من قوله عز وجل: " الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما " , أما الحديث المذكور فهو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم لا أساس له من الصحة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى اللجنة الدائمة 1/312
(1/259)
لا يجوز ترك العمل الصالح بحجة شفاعة المؤمنين لنا يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت أن الشخص الصالح في الأسرة يشفع في أهل بيته، فيخرج الله مَن كان منهم في النار إكراماً له، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل معنى هذا أن لفرد من أفراد الأسرة أن يفعل المنكرات ويشرب المحرمات طالما أن هناك شخصا صالحا في أسرته، وما الفائدة إذا من الحساب ويوم القيامة؟ أو ليس هذا القول شبيهاً بقول اليهود الذين يدعون أنهم شعب الله المختار، اختارهم من بين سائر الناس، وأن لهم أن يفعلوا ما يشاءون فقد ضمنوا الجنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
يؤمن أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل يقبل يوم القيامة شفاعة شافعين من غير الأنبياء، من الشهداء والعلماء والصالحين وغيرهم، فقد وردت بذلك أحاديث كثيرة صحيحة، لا يجوز ردها ولا إنكارها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ)
رواه مسلم (2278)
فقوله صلى الله عليه وسلم (وأول شافع) يدل على كثرة الشفعاء يوم القيامة.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يُخْرِجُ اللَّهُ قَوْمًا مُنْتِنِينَ قَدْ مَحَشَتْهُمْ النَّارُ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، فَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيُّونَ)
رواه أحمد (38/420) طبعة مؤسسة الرسالة وقال المحققون: حديث صحيح وهذا إسناد حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ)
رواه الترمذي (2438) وقال: حسن صحيح غريب.
ونحوها أحاديث شفاعة الشهيد في سبعين من أهل بيته، وأحاديث شفاعة المؤمنين لإخوانهم المعذبين في النار يوم القيامة فيخرجون من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأحاديث أخرى كثيرة.
يقول السفاريني رحمه الله:
" يجب أن يعتقد أن غير النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الرسل والأنبياء والملائكة والصحابة والشهداء والصديقين والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم يشفعون، وبقدر جاههم ووجاهتهم يشفعون، لثبوت الأخبار بذلك، وترادف الآثار على ذلك، وهو أمر جائز غير مستحيل، فيجب تصديقه والقول بموجبه لثبوت الدليل ... والحاصل أن للناس شفاعات بقدر أعمالهم، وعلو مراتبهم، وقربهم من الله تعالى، والقرآن يشفع لأهله، والإسلام يشفع لأهله، والحجر الأسود يشفع لمستلمه، ولكن لا يشفعون (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) " انتهى.
" لوامع الأنوار البهية " (2/209-211) ، وانظر باب " شفاعة العلماء والشهداء يوم القيامة " في كتاب " الشريعة " للآجري.
ثانيا:
لا يجوز أن يكون الإيمان بهذه الشفاعة سببا في التقاعس عن العمل اتكالا عليها، فسبب النجاة الأول يوم القيامة هو العمل الصالح، فإذا قصر المسلم فيه فهو على خطر عظيم من أوجه كثيرة:
1-فهو لا يدري متى يشفع له الشافعون، وكم سيبقى في النار من أزمان وأحقاب، وإذا كانت نار الدنيا لا يقوى عليها أحد ساعة من نهار، فكيف يقوى على نار جهنم هذه الأزمان.
2-ثم من هذا الذي يملك الجزم لأحد من البشر أنه من الشافعين يوم القيامة، الذين سيقبل الله شفاعتهم للناس، وإذا كنا لا نقطع لأحد بالجنة ولا بالشهادة، فكيف نطمئن إلى قبول شفاعة من نعرفهم من الشهداء والعلماء والصالحين.
3-ثم إذا قبل الله شفاعة فلان أو فلان ممن نعرفهم من الناس، فهل نعرف إن كان الله سيقبل شفاعتهم فينا خاصة، والله عز وجل يقول: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء/28. فهل نحن ممن يرضى ربنا أن يشفع الشافعون لنا؟!
هذه الأسئلة وغيرها تبعث في قلب المسلم الخوف من عقوبة الله، وترك الركون إلى أسباب الرجاء التي ليس لنا فيها من الله سلطان مبين.
إن الاغترار بمثل ذلك إنما هو علامة خذلان الله تعالى لعبده، نسأل الله العافية؛ فلتعلم ـ يا عبد الله ـ أنه لا شفاعة أعظم من شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، صاحب المقام المحمود، مقام الشفاعة، وأول شافع، وأول مشفع، ومع ذلك يحذر عشيرته، وأهل بيته، وأقرب الناس منه من الاغترار بذلك والتفريط في العمل:
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، قَالَ:
(يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ـ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ـ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا!! يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا!! يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا!! وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا!! وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا!!) . رواه البخاري (2548) ومسلم (305) .
فهل يغتر عاقل بعد ذلك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/260)
الحكمة في أن الطفل إذا مات يدخل الجنة مباشرة بينما بقية الناس يحاسبون
[السُّؤَالُ]
ـ[أين يكمن العدل في أن الطفل إذا مات يدخل الجنة مباشرة بينما بقية الناس يحاسبون؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا يشك مسلم أن الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأعدل العادلين , وأنه تعالى لكمال عدله حرم الظلم على نفسه فقال: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف/ من الآية 49، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) النساء/ من الآية 40.
ومن كمال عدله تعالى: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد البلاغ، وقيام الحجّة عليهم.
وانظر في ذلك جواب السؤال رقم: (1244) .
ثانياً:
اتفق أهل السنة والجماعة على أن أطفال المسلمين في الجنة، وتقدم الحديث عن ذلك، فانظره في جواب السؤال رقم: (117432) .
ثالثاً:
من أصول الإيمان التي لا خلاف فيها بين الأمة، ولا تردد أو تلجلج فيها: ألا يعترض العبد على أحكام ربه عز وجل، ولا يتوقف في الشهادة لها بأن فيها الحكمة البالغة، وحينذٍ فإنه لا يصير من المخاطبين بقوله تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/ 23.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى من الغيِّ، وبصَّر به من العمى، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلفاً، وأضلَّ به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون، لعِلمه، وحكمته، وعدله.
" تفسير ابن كثير " (4 / 271) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ، بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (8/79) .
ثالثاً:
وأما الحكمة من عدم محاسبة الأطفال فيقال فيها:
1. إن مناط التكليف عند الله هو البلوغ , ولذلك جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَكْبَرَ) .
رواه أبو داود (4398) وابن ماجه (2041) والنسائي (3432) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وهذا الطفل اخترمته المنية قبل البلوغ , فمن تمام عدل الله أنه لا يحاسَب.
ويبين ما ذهب طائفة من العلماء والمحققين – كالبخاري، والنووي، وغيرهما – من أن هذا الحكم مشترك مع أطفال المشركين كذلك – ولتنظر المسألة في جوابي السؤالين: (6496) (118103) .
2. الأصل أن الأطفال تبع لوالديهم، كما جاء في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ما مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) . رواه البخاري (1293) .
ولما كان والداه على الإيمان – أو والده إن كانت أمُّه كتابية -: فهو تبع لهما , ولما مات قبل مناط التكليف ناسب أن يدخل الجنة بلا حساب، فدخوله الجنة باعتباره مسلماً، وعدم حسابه باعتبار أنه لم يكن مكلَّفاً في الدنيا.
3. أن فيه كرامة لوالدي الطفل الصغير، ورحمة بهم , وتطييباً لخاطرهم، على موت ولدهم وهو صغير.
هذه بعض الحِكَم , والأمر قد يحتمل وجود حكَم، وغايات، ومقاصد أخرى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/261)
هل صح أن موت الخنازير من أشراط الساعة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن موت الخنازير من علامات يوم القيامة الصغرى؟؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الوارد في هذا الخصوص أن قتل الخنازير يكون على يد عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان، وذلك ليبطل ما عليه النصارى المنتسبون إليه كذبا وزروا، ويثبت لهم كفرهم حين حرفوا شرعه وبدلوا دينه باعتقاد الصلب، واستحلال الخنزير وغير ذلك، واستدل به فقهاء المسلمين على استحباب قتل الخنزير مطلقا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ)
رواه البخاري (2222) وبوب عليه بقوله: باب قتل الخنزير، ومسلم (155) ، ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " (1/244) وبوب عليه بقوله: باب الدليل على أن الخنزير أسوأ حالا من الكلب.
يقول ابن حزم رحمه الله:
" أخبر عليه السلام أن قتل الخنزير من العدل الثابت في ملته التي يحييها عيسى أخوه، عليهما السلام " انتهى.
" المحلى " (7/296)
وقال النووي رحمه الله:
" فيه دليل للمختار من مذهبنا ومذهب الجمهور: أنا إذا وجدنا الخنزير في دار الكفر، أو غيرها، وتمكنا من قتله: قتلناه. وإبطالٌ لقول مَن شذ مِن أصحابنا وغيرهم فقال: يترك إذا لم يكن فيه ضراوة " انتهى.
" شرح مسلم " (2/190)
وقال ابن بطال رحمه الله:
" أجمعوا على قتل كل ما يُسْتَضَرُّ به ويؤذي، مما لا يبلغ أذى الخنزير، كالفواسق التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم المُحرِمَ بقتلها، فالخنزير أولى بذلك، لشدة أذاه، ألا ترى أن عيسى ابن مريم يقتله عند نزوله؟! فقتله واجب.
وفيه دليل أن الخنزير حرام في شريعة عيسى، وقتله له تكذيب للنصارى أنه حلال في شريعتهم " انتهى.
" شرح صحيح البخاري " (6/344)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قوله: (باب قتل الخنزير) أي: هل يشرع، كما شرع تحريم أكله؟ ووجه دخوله في أبواب البيع: الإشارة إلى أن ما أمر بقتله لا يجوز بيعه.
قال ابن التين: شذ بعض الشافعية فقال: لا يقتل الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة.
قال: والجمهور على جواز قتله مطلقا.
ثم ذكر المصنف في الباب حديث أبي هريرة في نزول عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، وموضع الترجمة منه قوله: (ويقتل الخنزير) أي: يأمر بإعدامه، مبالغة في تحريم أكله، وفيه توبيخ عظيم للنصارى الذين يدَّعون أنهم على طريقة عيسى ثم يستحلون أكل الخنزير ويبالغون في محبته " انتهى.
" فتح الباري " (4/414)
وقال أيضا رحمه الله:
" قوله: (فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير) أي: يبطل دين النصرانية؛ بأن يكسر الصليب حقيقة، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه
ويستفاد منه: تحريم اقتناء الخنزير، وتحريم أكله، وأنه نجس؛ لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه ...
ويستفاد منه أيضا تغيير المنكرات وكسر آلة الباطل " انتهى باختصار.
" فتح الباري " (6/491) . وينظر: " فتاوى الرملي " (1/97) .
وأما إن كان المقصود هو السؤال عن أحاديث تخبر عن أن موت الخنازير وانقراضها ـ من غير تقتيل بي آدم لها ـ هو من أشراط الساعة، فهذا ما لا نعلم له أصلا في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم.
وينظر جواب السؤال رقم: (118597)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/262)
مسيرة المسيح الدجال وأتباعه فيها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما نطالع حديث ظهور الدجال نجد أن جزيرة العرب والشام والعراق هي الأماكن التي ستشهد قوات المسلمين الذين سيتصدون للدجال، وأن الصالحين من أهل الشام والعراق سيستنصرون بالمهدي في أرض الحجاز. لكن لم أجد ذكرا لبلدان إسلامية أخرى مثل مصر والمغرب وخراسان والهند، فهل يمكن أن نعرف ماذا سيحدث للمسلمين في تلك البلدان؟ هل ارتدوا في ذلك الوقت عن الإسلام قبل ظهور الدجال؟ أم إن الدجال قد أهلكهم جميعا فلم يستطيعوا محاربته ولاقوا حتفهم على يديه؟ أم آمنوا واعتقدوا في الدجال وصاروا من جنده وأتباعه؟ ولقد ذكر أن كثيرا من أتباع الدجال هم من الأعراب ومن النساء ومن أهل فارس والترك والأعاجم، بسبب ضحالة معرفتهم. ولقد أخبرني شخص ما أيضا بأن أتباعه ليسوا من متحدثي اللغة العربية، لكني لا أجد دليلا على صحة قوله وثبوته، فهل صحيح هذا الأمر؟ وهل يعد هذا تحفيزا للآخرين لتعلم اللغة العربية؟ وهل سيكون من أتباع الدجال مَن هم على الفطرة نتيجة لقلة معرفتهم؟ يبدو أني أثقلت عليك بأسئلتي، لكن أود تبين أمري، وتصحيح رأيي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يمكن الجواب عن خروج الدجال وطريقه وأتباعه ضمن المسائل الواردة في السؤال في النقاط الآتية:
أولا:
بينت الأدلة الصحيحة أن خروج المسيح الدجال يبدأ من المشرق، وتحديدا من إقليم خراسان، بل بالأخص من أصبهان في إقليم خراسان، وهي من بلاد إيران اليوم:
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ، يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ)
رواه الترمذي (2237) وقال: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ، مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ، عَلَيْهِمْ السيجان)
رواه أحمد (21/55) وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ) رواه أحمد (41/15) وحسنه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" يكون بدء ظهوره من أصبهان، من حارة يقال لها: اليهودية " انتهى.
" النهاية " (ص/59)
ثانيا:
تنتقل هذه الفتنة - التي هي أكبر فتنة منذ خلق آدم إلى قيام الساعة – إلى أرجاء الأرض، والظاهر من الأحاديث أنها تعم الأرض، فقد جاء أنه لا تبقى مدينة إلا ويدخلها الدجال غير مكة والمدينة والمسجد الأقصى ومسجد الطور.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِنَّ الأَعْوَرَ الدَّجَّالَ مَسِيحَ الضَّلاَلَةِ يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فِي زَمَانِ اخْتِلاَفٍ مِنَ النَّاسِ وَفُرْقَةٍ، فَيَبْلُغُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الأَرْضِ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، اللَّهُ أَعْلَمُ مَا مِقْدَارُهَا، اللَّهُ أَعْلَمُ مَا مِقْدَارُهَا - مَرَّتَيْنِ -)
رواه ابن حبان في " صحيحه " (15/223) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير علي بن المنذر وهو ثقة. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " أخرجه البزار بسند جيد " انتهى. " فتح الباري ". وصححه الألباني في " صحيح الموارد " (1598)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وأما متى يهلك ومن يقتله؟ فإنه يهلك بعد ظهوره على الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ثم يقصد بيت المقدس فينزل عيسى فيقتله، أخرجه مسلم أيضا " انتهى.
" فتح الباري " (13/92)
وانظر جواب السؤال رقم: (32665)
ثالثا:
يقول الشيخ مشهور حسن سلمان:
" دلت أحاديث وآثار كثيرة صحيحة على خروج الدجال من (خُراسان) و (أصبهان) ، وهبوطه (خوز) و (كرمان) - وهي جميعاً الآن في (إيران) -، وينزل قرية (كوثا) -وهي في نحو منتصف الطريق بين (المحاويل) و (الصويرة) ، وهي على (26) كيلو متراً من الأولى، وتعرف اليوم بـ (تل إبراهيم) و (تل جبل إبراهيم) ؛ لوجود مرقد عليه قُبة في أعلى التل ينسب إلى إبراهيم - انظر: " بلدان الخلافة الشرقية " (ص 94-95) - وسمي بـ (خلة) بين العراق والشام، ويدخل الأردن، ويبدأ هلاكه بـ (عقبة أفيق) وهي قرية من حوران في طريق (الغور) ، والعامة تقول: (فيق) ، تنزل هذه العقبة إلى (الغور) وهو الأردن، وهي عقبة طويلة نحو ميلين. أفاده ياقوت في " معجم البلدان " (1/233) ، ثم يتحول إلى فلسطين، ويتم هلاكه في مدينة (اللد) . ويسبقها - والله أعلم - إتيانه الحجاز، ونزوله بسبخة في المدينة - هي (سبخة الجرف) غربي جبل أحد -، وتفصيل ذلك حديثيّاً يطول، وأكتفي بالإحالة على المصادر ... " انتهى.
" العراق في أحاديث وآثار الفتن "
رابعا:
يتبع الدجال طوائف كثيرة من الناس يومئذ، وهم على أصناف:
1- الكفار عموما، فهم أكثر الناس فتنة به وبما يظهره الله على يديه من الخوارق.
2- اليهود خاصة، حيث ورد أنه يتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان.
3- كثير من المسلمين الذين يفتنهم بالخوارق التي تظهر على يديه، وخاصة عوام المسلمين وجهلتهم من الأعراب والنساء والصغار.
يقول الدكتور يوسف الوابل:
" أكثر أتباع الدجال من اليهود والعجم والترك، وأخلاط من الناس، غالبهم الأعراب والنساء. روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة) وفي رواية للإمام أحمد: (سبعون ألفا عليهم التيجان) ، وجاء في حديث أبي بكر: (يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة) رواه الترمذي. قال ابن كثير: والظاهر والله أعلم أن المراد هؤلاء الترك أنصار الدجال. قلت – أي يوسف الوابل -: وكذلك بعض الأعاجم كما جاء وصفهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر) . وأما كون أكثر أتباعه من الأعراب، فلأن الجهل غالب عليهم، ولما جاء في حديث أبي أمامة الطويل قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن من فتنته – أي الدجال – أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني! اتبعه فإنه ربك)
وأما النساء فحالهن أشد من حال الأعراب، لسرعة تأثرهن، وغلبة الجهل عليهن، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ينزل الدجال في هذه السبخة بمرِّ قناة – واد في المدينة -، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطا مخافة أن تخرج إليه) مسند أحمد (7/190) " انتهى.
" أشراط الساعة " (311-312)
والذي يظهر من الأحاديث أن القلة هي التي تثبت على الإيمان، وأن أكثر أهل الأرض يومئذ هم من أتباع الدجال.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد ثقات التابعين من " الحلية " بسند حسن صحيح إليه قال: (لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل، وسبعة آلاف امرأة) وهذا لا يقال من قبل الرأي، فيحتمل أن يكون مرفوعا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب " انتهى.
" فتح الباري " (13/92)
خامسا:
وقد لخص الحافظ ابن كثير قصة المسيح الدجال بعبارات جامعة يقول فيها:
" بدء ظهوره من أصبهان، من حارة منها يقال لها اليهودية، وينصره من أهلها سبعون ألف يهودي، عليهم الأسلحة والتيجان، وهي الطيالسة الخضراء، وكذلك ينصره سبعون ألفاً من التتار، وخلق من أهل خراسان.
فيظهر أولاً في صورة ملك من الملوك الجبابرة، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية.
فيتبعه على ذلك الجهلة من بني آدم، والطغام من الرعاعٍ والعوام، ويخالفه ويَرُدُّ عليه مَن هَدَى الله مِن عباده الصالحين وحزب الله المتقين.
يأخذ البلاد بلداً بلداً، وحصناً حصناً، وإقليماً إقليماً، وكورة كورة، ولا يبقى بلد من البلاد إلا وطئه بخيله ورجله غير مكة والمدينة، ومدة مقامه في الأرض أربعون يوماً يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيام الناس هذه، ومعدل ذلك سنة وشهران ونصف شهر.
وقد خلق الله تعالى على يديه خوارق كثيرة يضل بها من يشاء من خلقه، ويثبت معها المؤمنون فيزدادون بها إيماناً مع إيمانهم، وهدى إلى هداهم.
ويكون نزول عيسى بن مريم مسيح الهدى في أيام المسيح الدجال مسيح الضلالة، على المنارة الشرقية بدمشق، فيجتمع عليه المؤمنون ويلتف به عباد الله المتقون، فيسير بهم المسيح عيسى بن مريم قاصداً نحو الدجال، وقد توجه نحو بيت المقدس، فيدركهم عند عقبة أفيق، فينهزم منه الدجال، فيلحقه عند مدينة باب لد، فيقتله بحربته وهو داخل إليها، ويقول إن لي فيك ضربة لن تفوتني، وإذا واجهه الدجال ينماع كما يذوب الملح في الماء، فيتداركه فيقتله بالحربة بباب لدّ، فتكون وفاته هناك لعنه الله، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح من غير وجه " انتهى.
" النهاية " (ص/59)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/263)
أين مكان روح الميّت بعد سؤال الملكين؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أين تكون روح الميت بعد سؤال الملكين له؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه المسألة من مسائل الغيب التي لا مجال للاجتهاد فيها، وإنّما يتّبع فيها الوحي، وقد صحّت عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أحاديث عدّة في بيان أماكن أرواح العباد؛ لذلك اختلف أهل العلم في تحديد أماكنها بناءً على اختلاف الأحاديث الواردة بذلك.
والذي يظهر -والله أعلم – أنّ الأرواح على أشكال عدّة، ولكلٍّ مكان خاصّ يختلف عن مكان الأخرى؛ فإنّ النّصوص قد جاءت بأنّ منها ما يكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة، وجاء في بعض النّصوص بأنّها تكون أسودة عن يمين آدم وعن يساره؛ فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة عن شماله أهل النار؛ فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.
وأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شخص بعد الموت محبوس على باب الجنّة، فقال: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنّة) ، وفي الحديث الصّحيح: (ومنهم من يُحبس في قبره بسبب الدَّين، ومنهم من حبس في قبره في غلّة غلّها) ، ومن الأرواح ما يكون مقرّه عند باب الجنّة، كما جاء في حديث ابن عبّاس: (الشّهداء على بارق) ، ما هو بارق؟ (قال: نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرةً وعشياً) . حديث صحيح.
فالأرواح منها ما هو في مراتب عليا، تسرح في الجنّة مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، ومنها ما يكون على بارق -نهر بباب الجنّة- يخرج رزقهم من الجنّة إليهم بكرة وعشياً، ومنها ما يكون في قناديل، ومنها ما يأوي تحت العرش، ومن الأرواح ما يكون محبوساً في الأرض لا يرفع إلى الملأ الأعلى، ومنها ما يكون محبوساً في تنور من نار يأتيهم النّار من أسفل فيضجّون ويصيحون، وهؤلاء هم الزناة والزواني، وقد أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن حالهم في الحديث الصّحيح: (أرواح الزناة والزواني تحبس في تنور من نار يعذّبون إلى أن تقوم السّاعة) . هذا عذابهم في البرزخ، وكذلك أكلة الربا الذين رآهم النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - يسبحون في نهر الدم ويلقمون الحجارة، ويسبحون والحجارة في بطونهم في نهرٍ من دم منتن، كما كانوا يأكلون الربا في الدنيا.
ومع أن الأرواح لها أحوال مختلفة، في أماكن مختلفة، فإنه يبقى لها اتّصال بالبدن في الأرض، ولو كانت تطير وتسرح في أنهار الجنة في أعلى علّيّين.
قال ابن قيّم الجوزيّة في كتابه "الرّوح" (1/90-92) : " هذه مسألة عظيمة تكلّم فيها النّاس واختلفوا فيها، وهى إنّما تتلقّّّى من السّمع فقط، واختلف في ذلك:
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله في الجنّة، شهداء كانوا أم غير شهداء؛ إذا لم يحبسهم عن الجنّة كبيرة ولا دين، وتلقّاهم ربّهم بالعفو عنهم والرّحمة لهم. وهذا مذهب أبى هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
وقالت طائفة: هم بفِناء الجنّة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.
وقال مالك: بلغني أنّ الرّوح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفّار في النّار، وأرواح المؤمنين في الجنّة.
وقال أبو عبد الله بن منده: وقال طائفة من الصّحابة والتّابعين: أرواح المؤمنين عند الله عزّ وجلّ ولم يزيدوا على ذلك.
قال: روي عن جماعة من الصّحابة والتّابعين: أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفّار ببَرَهوت بئر بحضرموت.
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفّار ببئر برهوت.
وقال سلمان الفارسيّ: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفّار في سجّين، وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت.
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفّار عن شماله.
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرّها حيث كانت قبل خلق جسادها ".
انتهى بتصرّف يسير.
وقال ابن أبي العزّ عقب ذكر الأقوال في المسألة في شرح "العقيدة الطّحاويّة" (1/396) : " ويتلخّص من أدلّتها: أنّ الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت فمنها: أرواح في أعلى علّيّين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشّهداء لا كلّهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، ... ومن الأرواح من يكون محبوسًا على باب الجنّة، ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح في تنور الزّناة والزّواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كلّ ذلك تشهد له السنة والله أعلم ". انتهى بتصرّف.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/264)
هل من الممكن أن يسمع الأحياء ما يدور للموتى في قبورهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن للأحياء سماع أصوات الموتى في قبورهم، سواء كانوا معذّبين، أو منعّمين؟ لأنّه سمع أنّ هذه القدرة هي المرحلة الأولى لكي يصبح الإنسان من الأولياء الصالحين.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ينتقل الميت بموته إلى عالم " البرزخ "، وهو عالَم آخر غير الذي قضى عمره فيه، وهذا العالَم الغيبي ليس لأحدٍ أن يثبت فيه شيئاً، أو ينفيه، إلا بدليل من الكتاب والسنَّة.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة تثبت تكلم " الميت " وهو محمول على الأكتاف لدفنه، وأيضاً وهو في قبره، وثبت في تلك الأحاديث وغيرها أن الأحياء لا يسعمون ذلك الكلام الذي قاله الميت، أما الموضع الأول فقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم " الإنس " من السماع، وأما الموضع الثاني: فقد استثنى " الإنس والجن ".
أ. الموضع الأول:
عَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ) .
رواه البخاري (1314) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
قوله في آخر الحديث (يسمع صوتها كل شيء) : دال على أن ذلك بلسان القال، لا بلسان الحال.
" فتح الباري " (3 / 185) .
وقال العيني – رحمه الله -:
واستدل بالحديث المذكور على أن كلام الميت يسمعه كل حيوان غير الإنسان.
" عمدة القاري " (8 / 114) .
وينظر: " شرح رياض الصالحين "، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (4 / 549، 550) .
ب. الموضع الثاني:
وهو حديث البراء بن عازب المشهور، وفيه:
فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ مَنْ رَبُّكَ مَا دِينُكَ مَنْ نَبِيُّكَ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي فَيَقُولُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَوْتَ وَيَأْتِيهِ آتٍ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِهَوَانٍ مِنْ اللَّهِ وَعَذَابٍ مُقِيمٍ فَيَقُولُ وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِالشَّرِّ مَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ شَرًّا ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَصِيرَ تُرَابًا ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ النَّارِ وَيُمَهَّدُ مِنْ فُرُشِ النَّارِ.
رواه أحمد (30 / 578) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (3 / 219) .
وفي الفرق بين الموضعين، وعدم سماع الإنس في الأول، وعدم سماع الإنس والجن في الموضع الثاني غيرهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله – تعليقاً على الحديث الأول -:
وقد استُشكل هذا مع ما ورد في حديث السؤال في القبر (فيضربه ضربة فيصعق صعقة يسمعه كل شيء إلا الثقلين) والجامع بينهما: الميت والصعق، والأول استثنى فيه الإنس فقط، والثاني استثنى فيه الجن والإنس؟! والجواب: أن كلام الميت بما ذُكر لا يقتضي وجود الصعق - وهو الفزع - إلا من الآدمي؛ لكونه لم يألف سماع كلام الميت، بخلاف الجن في ذلك، وأما الصيحة التي يصيحها المضروب: فإنها غير مألوفه للإنس والجن جميعاً؛ لكون سببها عذاب الله، ولا شيء أشد منه على كل مكلف، فاشترك فيه الجن، والإنس.
" فتح الباري " (3 / 185) .
ولا يستُثنى من الإنس في سماع عذاب القبر إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
أ. عن زَيْد بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ: (مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ) فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: (فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ) قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ) .
رواه مسلم (2868) .
ب. عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتْ الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: (يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا) .
رواه البخاري (1309) ومسلم (2769) .
وجبت الشمس: غربت.
والحديث رواه ابن حبان (7 / 394) وبوَّب عليه بقوله: " ذِكر الإخبار بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أسمع أصوات الكفرة حيث عذبت في قبورها ".
وفي عدم سماع الإنسان في كلا الموضعين حكَم جليلة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
قوله: (إلا الإنسان) : يعني: أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحِكَم عظيمة؛ منها:
أولاً: ما أشار إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر) .
ثانياً: أن في إخفاء ذلك ستراً للميت.
ثالثاً: أن فيه عدم إزعاج لأهله؛ لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذَّب ويصيح: لم يستقر لهم قرار.
رابعاً: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.
خامساً: أننا قد نهلك؛ لأنها صيحة ليست هينة، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
سادساً: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين: لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدوه قطعاً؛ لكن إذا كان غائباً عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر: صار من باب الإيمان بالغيب.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (8 / 482، 483) .
ثالثاً:
أما من يزعم أنه يستطيع سماع الأموات في قبورهم، وأنه يراهم، ويتحدث معهم: فهو يكذب في ذلك، أو مُلَبَّس عليه. وإنما يرى الشياطين تتمثل له بصورة الأموات، أو تخاطبه بأصواتها، وتلبس عليه، وهو يلبس على الناس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطابٍ يسمعه، وشخصٍ يراه، وتصرفٍ عجيب، ما يظن أنه من الميت، وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق، وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يُرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان؛ فإن الشيطان يتصور بصور الإنس، ويدَّعي أحدهم أنه النبي فلان، أو الشيخ فلان، ويكون كاذباً في ذلك، وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جدّاً، والجاهل يظن أن ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه هو المقبور، أو النبي أو الصالح وغيرهما، والمؤمن يعلم أنه شيطان، ويتبين ذلك بأمور:
أحدها: أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فإذا قرأها: تغيب ذلك الشخص، أو ساخ في الأرض، أو احتجب، ولو كان رجلاً صالحاً أو ملَكاً أو جنيّاً مؤمناً: لم تضرَّه آية الكرسي، وإنما تضر الشياطين، كما ثبت في الصحيح مِن حديث أبي هريرة لما قال له الجني: اقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ) .
ومنها: أن يستعيذ بالله من الشياطين.
ومنها: أن يستعيذ بالعوَذ الشرعية ...
والمقصود هنا: أنَّ مِن أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان كإخبار عن غائب، أو أمر يتضمن قضاء حاجة، ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق، وخرج منه شيخ بهيٌّ: عانقه، أو كلَّمه: ظنَّ أن ذلك هو النبي المقبور، أو الشيخ المقبور، والقبر لم ينشق؛ وإنما الشيطان مثَّل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق، وأنه خرج منه صورة إنسان، ويكون هو الشيطان تمثل له في صورة إنسان، وأراه أنه خرج من الحائط.
" مجموع الفتاوى " (1 / 168 – 178) باختصار.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/265)
شرح حديث يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى
[السُّؤَالُ]
ـ[قمت بإهداء بضعة كتب إسلامية باللغة الفرنسية لشخص غير مسلم , من بين تلك الكتب كتاب 110 أحاديث قدسية، نشر دار السلام , قال لي ذلك الشخص إنه مقتنع أن القرآن لا يمكن أن يكون إلا كلام الله , ولكن أبدى تحفظه، ولم يفهم حديثا قدسيا في ذلك الكتاب، والذي هو: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشر هذه الأمة على ثلاثة أصنافٍ، صنف يدخلون الجنة بغير حسابٍ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصنف يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات ذنوباً، فيسأل الله عنهم وهو أعلم بهم، فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك، فيقول: حطوها عنهم واجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي الجنة) قال لي: لماذا على اليهود والنصارى؟ قلت له: اليهود والنصارى الذين خالفوا شرع الله، وأضلوا الناس، وقاتلوا الأنبياء، وليس الذين اتبعوا شرع الله، واتبعوا الأنبياء! قال: لا لم يذكر هذا في الحديث، ولكن جاء كلمة (اليهود والنصارى) . قلت له: هناك شرح لكل حديث سأخبرك عنه لاحقاً لأسأل بعض أهل الحديث , وللأسف أن بعض الكتب المترجمة لا تشرح لغير المسلم وتوضح له. أريد شرحا مفصلا، أفيدوني بارك الله بكم (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الحديث المذكور أخرجه الطبرانى كما فى مجمع الزوائد (10/343) ، قال الهيثمى: فيه عثمان بن مطر وهو مجمع على ضعفه. والحاكم (1/126، رقم 193) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي.
وأصل الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ هَذَا فِكَاكُكَ مِنْ النَّارِ)
وكان سعيد بن أبي بردة قد حدَّث بهذا الحديث أمام عمر بن عبد العزيز، فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فحلف له.
وفي لفظ:
(لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا)
وكلها في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من طريق أبي بردة عن أبيه حديث رقم: (2767)
وقد أخذ هذا الحديث عن أبي بردة أكثر من ثمانية من الرواة، كما في " مسند أحمد " (4/391) ، ومسند عبد بن حميد (537،540) ، وسنن ابن ماجه (4291) ، وغيرها، اختلفت ألفاظ بعضهم عن بعض، إلا أنها متفقة في المعنى كلها، تتحدث عن فداء المسلم من النار بواحد من اليهود والنصارى.
غير أن واحدا من هذه الألفاظ فيه اختلاف عن الباقي، وهو ما يرويه غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، بلفظ: (يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)
ثانيا:
ولما كان ظاهر هذا الحديث مخالفا لقول الله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام/164، كان للعلماء مسلكان في التعامل مع هذا الحديث:
المسلك الأول:
عدم قبوله وتضعيفه لسببين:
1- اختلاف الرواة عن أبي بردة في إسناد الحديث.
فمرة يقول بعضهم: عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرى يقول آخر: عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد.
ويقول آخر: عن أبي بردة، عن رجل من أصحاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء مرة عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه.
ومرة عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن بعض أهله.
كل هذه الأوجه نجدها في " التاريخ الكبير " للإمام البخاري رحمه الله (1/39)
ثم قال الإمام البخاري رحمه الله:
" والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، وأن قوما يُعَذَّبُون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر ... - ثم قال -: ألفاظهم مختلفة الا أن المعنى قريب " انتهى.
" التاريخ الكبير " (1/39)
وقال الإمام البيهقي رحمه الله:
" وقد علل البخاري حديث أبي بردة باختلاف الرواة عليه في إسناده، ثم قال: الحديث في الشفاعة أصح " انتهى.
" البعث والنشور " (حديث رقم/ 86)
2- بسبب شك الراوي فيه، فقد جاءت في رواية الإمام مسلم الأخيرة قول أحد رواة الحديث: (ويضعها على اليهود والنصارى فيما أحسب أنا) قال أبو روح حرمي بن عمارة أحد رواة الحديث: لا أدري ممن الشك.
قال البيهقي رحمه الله:
" اللفظ الذي تفرد بها شداد أبو طلحة بروايته في هذا الحديث. وهو قوله: (ويضعها على اليهود النصارى) مع شك الراوي فيه: لا أراه محفوظا. والكافر لا يعاقب بذنب غيره. قال الله عز وجل: (لا تزر وازرة وزر أخرى)
وإنما لفظ الحديث على ما رواه سعيد بن أبي بردة، وغيره، عن أبي بردة " انتهى.
" البعث والنشور " (حديث رقم/86)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وفي حديث الباب وما بعده – وهي أحاديث تحت باب القصاص يوم القيامة - دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير ... - وذكر الحديث ونقل عن البيهقي تضعيفه - " انتهى باختصار.
" فتح الباري " (11/398)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
" رواه الجماعة عن أبي بردة دون تلك الزيادة – يعني لفظ (ويضعها على اليهود والنصارى) ، فهي عندي شاذة، بل منكرة، لوجوه:
أولا: أن الراوي شك فيها، وهو عندي شداد أبو طلحة الراسبي، أو الراوي عنه حرمي بن عمارة، ولكن هذا قد قال - وهو أبو روح -: (لا أدري ممن الشك) ، فتعين أنه الراسبي، لأنه متكلم فيه من قبل حفظه وإن كان ثقة في ذات نفسه، ولذلك أورده الذهبي في " الضعفاء " وقال: قال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا. وقال العقيلي: له أحاديث لا يتابع
عليها. وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق يخطئ. وليس له في مسلم إلا هذا الحديث. قال الحافظ في " التهذيب ": " لكنه في الشواهد ".
ثانيا: ولما كان قد تفرد بهذه الزيادة التي ليس لها شاهد في الطرق السابقة، وكان فيه ما ذكرنا من الضعف في الحفظ، فالقواعد الحديثية تعطينا أنها زيادة منكرة، كما لا يخفى على المهرة.
ثالثا: أن هذه الزيادة مخالفة للقرآن القائل في غير ما آية: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) " انتهى باختصار.
" السلسلة الضعيفة " (حديث رقم/1316، ورقم/5399) .
المسلك الثاني:
توجيه معنى الحديث بما يتوافق مع ظاهر القرآن الكريم:
قال الإمام البيهقي رحمه الله:
" ووجه هذا عندي - والله أعلم - أن الله تعالى قد أعد للمؤمن مقعدا في الجنة ومقعدا في النار كما روي في حديث أنس بن مالك، كذلك الكافر كما روي في حديث أبي هريرة، فالمؤمن يدخل الجنة بعدما يرى مقعده من النار ليزداد شكرا، والكافر يدخل النار بعد ما يرى مقعده من الجنة لتكون عليه حسرة، فكأن الكافر يورث على المؤمن مقعده من الجنة، والمؤمن يورث على الكافر مقعده من النار، فيصير في التقدير كأنه فدى المؤمن بالكافر " انتهى.
" البعث والنشور " (حديث رقم/85)
وذكر رحمه الله احتمالا آخر في شرح الحديث الذي بعده فقال:
" ويحتمل أن يكون حديث الفداء في قوم قد صارت ذنوبهم مكفرة في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تعد ذنوبهم مكفرة في حياتهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في حديث الفداء بعد الشفاعة، فلا يكون بينهما اختلاف، والله أعلم " انتهى.
وقال الإمام النووي رحمه الله:
" معنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبى هريرة: (لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار) فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره.
ومعنى: (فكاكك من النار) أنك كنت معرَّضا لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. وأما رواية: (يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب) : فمعناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم، لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التأويل، لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ، وقوله: (ويضعها) مَجاز، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه، لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم، وأبقى على الكفار سيئاتهم، صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها، بأن سنُّوها، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها " انتهى.
" شرح مسلم " (17/85)
وقال رحمه الله:
" معنى (فكاكك) : أنك كنت معرضا لدخول النار، هذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بذنوبهم وكفرهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين، والله أعلم " انتهى.
" رياض الصالحين " (ص/534) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) :
" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)) - رواه ابن ماجه في السنن برقم (4341) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " (11/451) : إسناده صحيح. وقال البوصيري في " الزوائد " (3/327) : " هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين "، وصححه السيوطي في " البدور السافرة " (ص/456) -
وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة، ويُهدّم بيته الذي في النار، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة، ويُبنى بيته الذي في النار.
وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار؛ لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب
أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... - ثم ذكر الأحاديث السابقة " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (5/465)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وقال غيره – يعني غير البيهقي - يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة بلفظ: (لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا..) الحديث، وفيه في مقابله: (ليكون عليه حسرة) فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له، وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا) ، وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره.
وأما رواية غيلان بن جرير فأولها النووي أيضا تبعا لغيره: بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم، فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين، ويكون قوله: (ويضعها) أي: يضع مثلها؛ لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم.
ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها، فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية، لكون الكافر لا يغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ، ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة، سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة. وهذا الثاني أقوى. والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (11/398)
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (3/468) :
" أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فيغفرها للمسلمين ويضعها على اليهود والنصارى) ، فهذا الحديث قد شك راويه فيه، ولا يحتج به مع الشك، ولكونه يخالف ظاهر القرآن الكريم، لكن إن صح عنه صلى الله عليه وسلم فهو لا يقول إلا الحق، ويجب حمله على ما يوافق الأدلة الأخرى، وذلك بحمله على اليهود والنصارى الذين كانوا سببا في وقوع المسلمين في الذنوب التي غفرت لهم، لقوله سبحانه: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل إثم من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) ولما جاء في معناه من الأحاديث " انتهى.
وانظر جواب السؤال رقم: (9488)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/266)
هل يعذَّب في قبره من تكون حسناته أكثر من سيئاته في الميزان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أفهم، وأدرك، أن المسلم يمكن أن يُعذَّب في القبر، لكن الذي أريد أن أعرفه هو التالي: نعلم أن الإنسان المسلم سوف توزن أعماله يوم القيامة، فإن رجحت الحسنات على السيئات: فإن الله عز وجل سيغفر لهذا المسلم، أو المسلمة، ويدخله الجنة، سؤالي هو: عندما يكون نفس هذا الإنسان المسلم في القبر , فهل سيعذَّب في قبره على الرغم من أن الله عز وجل سيغفر له يوم القيامة؟ وهل سنُعذب في الآخرة على الرغم من أننا سندخل الجنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ثبت عذاب القبر ونعيمه عند أهل السنَّة والجماعة، كما جاء ذلك دلت في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وعليه أجمع سلف الأمة.
وبيان ذلك في جواب السؤال رقم: (34648) .
وتجد في جواب السؤال رقم: (47055) أن الأصل في عذاب القبر ونعيمه أنه على الروح، وقد تتصل الروح بالبدن فيصيبه شيء من العذاب أو النعيم.
وفي جواب السؤالين (7862) و (21212) بيان أن عذاب القبر منه ما يستمر إلى قيام الساعة، ومنه ما ينقطع.
ثانياً:
ينبغي أن يُعْلم أن كثرة الحسنات على السيئات ليست بمنجية صاحبَها من عذاب القبر بذاتها؛ لأن الوعيد المترتب على العذاب في البرزخ، ليس هو الوعيد المترتب على العذاب في نار جهنم، وقد يأتي المسلم بسبب واحد من أسباب العذاب في قبره، فيعذَّب عليها، وله أمثال الجبال من الحسنات.
والميزان الذي توزن به أعمال الناس فيشقى بعده طوائف خفت موازينهم، ويسعد آخرون ثقلت موزاينهم: إنما يكون في آخر المطاف، بعد أن يقطع الناس أشواطاً في مراحل الدار الآخرة.
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله -:
والذي تدل عليه الآي، والأخبار: أن من ثقل ميزانه: فقد نجا وسلِم، وبالجنة أيقن، وعلِم أنه لا يدخل النار بعد ذلك، والله أعلم.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص 272) .
والمسلم الذي نفترض كثرة حسناته لو وضعت في الميزان بعد موته مباشرة: لا ينجو من عذاب القبر، إن شاء الله تعذيبه على بعض سيئاته تلك، وليتأمل الأخ السائل المسائل التالية فهي تحل الإشكال الوارد في ذهنه:
1. من كثرت حسناته على سيئاته وأجاب الملَكين في القبر عن أسئلتهم: لا يعني بالضرورة أنه ينجو من عذاب القبر إذا جاء بما يستحق عليه العذاب من سيئاته تلك، وشاء الله أن يعذبه عليها في قبره.
2. من كثرت حسناته على سيئاته ليس بالضرورة إذا رأى مقعده من الجنة في قبره، أنه لن يعذَّب على ما شاء الله من ذنوبه، وللعلماء في هذا قولان:
الأول: أن من ارتكب سيئات وشاء الله تعذيبه في القبر، وهو في الآخرة من أهل الجنة: أنه يرى مقعده من الجنة باعتبار مآله.
والثاني: أنه ير مقعده من النار باعتبار حاله.
وينظر جواب رقم: (121628) فهو مهم.
وعليه:
فإن زيادة حسنات العبد على سيئاته، ليس بمانع من أن يعذب في قبره على بعض ذنوبه التي ورد الوعيد لفاعلها بالعذاب في قبره. مثل عقوبة المرابي وأنه يسبح في نهر دم، وعقوبة الزناة والزانيات، والعقوبة على النميمة، والغلول من الغنائم، والكذب، وعدم الاستبراء من البول، وغير ذلك مما جاءت النصوص واضحة في التنصيص على معاصٍ بعينها.
وانظر تفصيل ذلك في جوابي السؤالين (46068) و (45325) .
ثالثاً:
ومن حكمة الله تعالى أنه لم يجعل الميزان أول موت العبد؛ ويبدو لنا بعض الحكَم من ذلك نرجو أن تكون موافقة للصواب:
1. أنه يُخفف حِمل السيئات على العاصي بما يصيبه من عذاب القبر؛ تخفيفاً عنه من عذاب جهنم، ولا شك أن ما يصيب العاصي من عذاب القبر أهون عليه مما يصيبه من نار جهنم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الآلام التي هي عذاب: فإن ذلك يُكفِّر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزَن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله به من خطاياه) .
" مجموع الفتاوى " (24 / 375) .
قال رحمه الله:
السبب الثامن: ما يحصل في القبر، من الفتنة، والضغطة، والروعة، فإن هذا مما يكفّر به الخطايا. " مجموع الفتاوى " (7 / 500) .
وانظر جواب السؤال رقم: (7861) .
2. أنه ليس كل مَن جاء بحسنات تبقى معه حتى يدخل بها الجنة، ولا من جاء بسيئات تبقى معه حتى يدخل بسببها النار، فثمة ما يُسمَّى " المقاصة "، وهو أخذ أصحاب الحقوق من حسنات من ظلمهم، أو إلقاء سيئاتهم عليه، كما في حديث " المفلس " الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهذا إنما يكون قبل الميزان.
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله -:
وأما المخلِّطون: فحسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل؛ فإن كانت الحسنات أثقل، ولو بصؤابة – وهي بيضة القَمْل -: دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل، ولو بصؤابة: دخل النار، إلا أن يغفر الله، وإن تساويا: كان من أصحاب الأعراف، هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كانت عليه تبعات، وكانت له حسنات كثيرة: فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات؛ لكثرة ما عليه من التبعات، فيحمل عليه مِن أوزار مَن ظلمه، ثم يعذب على الجميع، هذا ما تقتضيه الأخبار.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص 269، 270) .
3. أنه لم تنقطع الحسنات، ولا السيئات بالموت، بل ثمة " حسنات جارية "، و " سيئات جارية "، فالأول: كمن تصدَّق بصدقة جارية، أو علَّم علماً نافعاً، أو دلَّ غيره على عمل صالحٍ، أو كان له ذرية يعملون بعد موته بطاعات، وكل ذلك مما يجعل للميت مجالاً لزيادة الحسنات، وأما الثاني: فهو لمن دلَّ غيره على عمل فاسد، أو ابتدع بدعة، وغير ذلك مما تجري سيئات أعمالهم على فاعلها، وعلى الميت، الذي كان سبباً في فعل تلك السيئات والبدع.
وبه يُعلم أنه ليس بالموت يقف " عدَّاد " الحسنات، والسيئات، ولذا نرى عظيم الحكمة في عدم اعتبار الميزان أول موت المسلم، بل لا يكون ذلك إلا في آخر المطاف، وبعدها يكون دخول الجنة، أو النار، وعندها يمكن للمسلم أن يفهم معنى قوله تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف/ 8، وقوله (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) القارعة/ 6، 7.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/267)
متى يكون ذبح الموت؟ وما حال أصحاب الكبائر في البرزخ
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما يؤتى بالموت على شكل كبش ويذبح أمام أهل الجنة والنار، ويقال لكل منهم خلود فلا موت هل هذا يكون بعد خروج أصحاب الكبائر من أمة محمد من النار أم قبله؟ وأيضا نفس التساؤل: عندما يُسْألُ أصحاب الكبائر في القبور هل يجاوبون على أسئلة منكر ونكير أم يقولون لا أعلم؟ . وهل يرون مقعدهم من الجنة أو النار؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الذي ينبغي أن يقال هو أن الذبح للموت لا يكون إلا بعد استقرار أهل الجنة في الجنة، واستقرار أهل النار في جهنم، ويقتضي هذا أنه لا يكون الذبح قبل خروج الموحدين من نار جهنم؛ لأن الخطاب يكون لأهل الجنة وأهل النار، ولا ينسب الموحدون للنار وهم سيخروجون منها.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ، وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا (وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) .
رواه البخاري (4453) ومسلم (2849) .
وفي رواية ابن عمر في البخاري (6182) ومسلم (2850) : (إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ) .
وينظر كلام ابن القيم رحمه الله في الرد على من اعترض على هذا الحديث بعقله، وذلك في جواب السؤال رقم: (10087) .
ثانياً:
وبخصوص فتنة القبر لأصحاب الكبائر: فثمة مسائل ثلاثة:
الأولى: إجابة الملكين منكر ونكير على أسئلتهما في العقيدة: عن ربه عز وجل، وعن دينه، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم.
والثانية: تعذيبه على ذنوبه.
والثالثة: هل يرى الفاسق في قبره مقعده في الجنة؟ .
أما الأولى: فإن الظاهر أن الناس فيها قسمان: مسلم، ومنافق، أو كافر، فالمسلم يجيب عن أسئلة الملَكين، ولو كان فاسقاً، والكافر – أو المنافق – لا يجيب، ويعذَّب على ذلك.
قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله -:
ومقتضى أحاديث سؤال الملكين: أن المؤمن ولو فاسقاً يجيبهما، كالعدل، ولكن بشارته تحتمل أن تكون بحسب حاله.
" الفتاوى الحديثية " (ص 7) .
وفي جواب السؤال رقم: (21713) تجد حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في تفصيل هذين القسمين في القبر.
وأما الثانية: فإنه لا يلزم من إجابة المسلم الفاسق على أسئلة الملَكين أنه لا يعذَّب على اقترافه الذنوب والمعاصي، إن لم يتب منها، بل مِن عذاب هؤلاء ما يستمر إلى قيام الساعة، ومنه ما ينقطع.
قال الشيخ محمد السفاريني – رحمه الله -:
فمن أغضب الله، وأسخطه، في هذه الدار، بارتكاب مناهيه، ولم يتب، ومات على ذلك: كان له عذاب البرزخ بقدر غضب الله، وسخطه عليه، فمستقل، ومستكثر، ومصدق، ومكذب.
" لوامع الأنوار البهية " (2 / 18) .
وقال:
ومن الذين يعذبون في قبورهم، وأخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: الجبارون، والمتكبرون، والمراءون، والهمازون، واللمازون، والطعانون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، ونحو هؤلاء، ممن يشتغل بذنوب الناس عن ذنبه، وبعيوبهم عن عيبه، فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها، وقلتها، وصغرها، وكبرها، ولما كان أكثر الناس كذلك: كان أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، فنسأل الله تعالى العافية، والرحمة، والعفو، والغفران، وبالله الإعانة، والعون.
" لوامع الأنوار البهية " (2 / 19) .
وفي جوابي السؤالين (45325) و (46068) تجد ذِكر الأسباب المفصلة لعذاب القبر.
وأما المسألة الثالثة: ففيها احتمالان:
1. الأول: أن المسلم يرى مقعده في الجنة باعتباره ليس كافراً، وأن مصيره إليها، لكن هذا لا يعني أنه لن يعذَّب في قبر إن شاء الله تعذيبه.
فنحن نجزم بصحة ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم من وجود من يُعذَّب في قبره من المسلمين إلى يوم القيامة، كمثل آكل الربا الذي رآه صلى الله عليه وسلم يسبح في نهر من الدم، وكمثل الزناة والزواني الذين رآهم صلى الله عليه وسلم في تنور يصرخون، وغير هؤلاء، ونجزم أن مصير هؤلاء إن كانوا مسلمين هو الجنة في نهاية الأمر.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَى مَقْعَدِهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
رواه البخاري (1379) ومسلم (2866) .
قال ابن حجر – رحمه الله -:
قال القرطبي: وهذا في حق المؤمن والكافر واضح، فأما المؤمن المخلِّط: فمحتمل في حقه أيضاً؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة.
" فتح الباري " (3 / 243) .
وقال الشيخ أبو الحسن عبيد الله بن العلامة محمد عبد السلام المباركفوري:
ويكون عرض المقعدين على كل واحد من المؤمن المخلص والكافر والمؤمن المخلط؛ لأنه يدخل الجنة في الجملة، فيرى مقعده في الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وستصير إليه بعد مجازاتك بالعقوبة على ما تستحق.
" مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1 / 222) .
2. والثاني: أنه يمكن أن يقال: إن عرض مقعد الجنة على المؤمن المخلِّط، أو المسلم الفاسق هو لإخباره بأن هذا مقعدك في قبرك لولا أنك أذنبت، واستحققت العذاب، ويُعرض عليه مقعده من النار ويقال له: هذا بسبب ذنوبك.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
فعلى هذا: يحتمل في المذنب الذي قُدِّر عليه أن يعذب قبل أن يدخل الجنة أن يقال له – مثلاً - بعد عرض مقعده من الجنة: هذا مقعدك من أول وهلة لو لم تذنب، وهذا مقعدك من أول وهلة لعصيانك، نسأل الله العفو والعافية من كل بلية، في الحياة، وبعد الموت، إنه ذو الفضل العظيم.
" فتح الباري " (11 / 366) .
فالله أعلم بما يكون من ذلك، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل اليمين، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/268)
من يقبض أرواح الحيوانات وما مصيرها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ذوات الأرواح غير البشر من الحيوانات والطيور إذا ماتوا أين تذهب أرواحهم؟ وهل ملك الموت يقبضها أم ما الذي يحدث لها بالضبط؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أخبر سبحانه أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، فقال: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة/11.
وأما أرواح البهائم والطير، فلم يرد فيها نص من الكتاب أو السنة الصحيحة ـ فيما نعلم ـ، وإنما ورد في ذلك حديث لا يصح، وهو ما رواه العقيلي قي الضعفاء بلفظ: (آجال البهائم كلها من القمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال كلها والبقر وغير ذلك، آجالها في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، وليس إلى ملك الموت من ذلك شيء) . قال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (4/188) : موضوع.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إن ملك الموت هو الذي يقبض أرواح الجميع، وقال بعضهم: إن الله يتوفاها بنفسه، فيعدم حياتها. وينظر: "التذكرة" للقرطبي ص (75) ، "الفواكه الدواني" (1/100) .
وذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى أن البحث في ذلك من التكلف، فقد سئل رحمه الله:
" هل ملك الموت موكل بقبض أرواح الحيوانات؟
فأجاب: "ما رأيك إذا قلت: إن ملك الموت موكل بقبض أرواح الحيوانات أو غير موكل، ما الفائدة من هذا؟! هل سأل الصحابة عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، هم أحرص منا على العلم، والرسول أقدر منا على الإجابة، ومع ذلك ما سألوا، إنما قال الله عز وجل: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) السجدة/11، موكل بقبض أرواح بني آدم، أما غير أرواح بني آدم لم يثبت، الله أعلم.
ولكننا أهم شيء في جواب هذا السؤال أن الإنسان لا يتنطع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) فلا تسأل عن شيء ليس فيه فائدة، والله لو كانت فيه فائدة بعلمنا أن ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات الأخرى لبينها الله سبحانه وتعالى، إما في القرآن أو السنة، أو أن الله يقيض من يسأل الرسول عن هذا، ولهذا كان الصحابة يفرحون أن يأتي أعرابي من البادية يسأل عن شيء ربما يستحون أن يسألوا الرسول عنه.
الحاصل يا أخي أنت ومن يسمع أقول: إن التعمق في هذه الأمور خطأ؛ لأن الرسول قال: (هلك المتنطعون) ما قالها مرة: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) ثلاث مرات، في مثل هذه الأمور الغيبية خذ ما ثبت ودع ما لم يذكر ... فعلينا يا إخواني! أن نأخذ من مسائل الغيب ما ثبت عندنا، والباقي نسكت عنه، لو كلفنا به أو كان لنا مصلحة في معرفته لبينه الله، قال الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) النحل/44، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئاً نحتاجه إلا بينه " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (146/11) .
ثانيا:
أما مصير أرواح هذه الحيوانات، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه وابن جرير والبيهقي في "البعث" عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء [التي لا قرون لها] من القرناء. قال: ثم يقول: كوني ترابا. فلذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت ترابا) النبأ/ 40.
وينظر: "تفسير ابن كثير" (3/255) .
قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (4/466) : " أورده السيوطي في "الدر المنثور" (6/310) ولم يتكلم على إسناده كما هي عادته، وهو عند ابن جرير (30/17) قوي" انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/269)
حكم من أنكر حياة الآخرة وكيفية إقناعه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم من أنكر حياة الآخرة؟ وكيف يمكن إقناع هؤلاء المنكرين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"من أنكر حياة الآخرة فهو كافر، لقول الله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) الأنعام/29، 30، وقال تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) المطففين/10- 17، وقال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا) الفرقان/11، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) العنكبوت/23.
وأما إقناع هؤلاء المنكرين فبما يأتي:
أولاً: إن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول، فكيف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث لا في وسيلة النقل ولا في شهادة الواقع؟!
ثانياً: إن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه، وذلك من وجوه:
1- كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقاً بعد العدم، وأنه حادث بعد أن لم يكن، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأولى، كما قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الروم/27، وقال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء/104.
2- كل أحد لا ينكر عظمة خلق السموات والأرض لكبرهما وبديع صنعتهما، فالذي خلقهما قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى، قال الله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) غافر/57، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الأحقاف/33، وقال تعالى: (أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس/81، 82.
3- كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات، فإذا نزل المطر عليها أخصبت وحيي نباتها بعد الموت، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم، قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فصلت/39.
ثالثاً: إن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع إحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى في سورة البقرة خمس حوادث منها قوله: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة/259.
رابعاً: إن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً لا قيمة له، ولا حكمة منه، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة. قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون/115، 116. وقال الله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجَْى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) طه/15. وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل/38- 40. وقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) التغابن/7.
فإذا بُيِّنت هذه البراهين لمنكري البعث وأصروا على إنكارهم، فهم مكابرون معاندون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" انتهى.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (2/22- 25) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/270)
ما هي علامات الساعة الصغرى التي لم تقع إلى الآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أقرأ في بعض المنتديات أن جميع علامات الساعة الصغرى قد ظهرت، ويكتبون بأنه لم يبق شيء عن قيام الساعة، فما مدى صحة كلامهم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقسِّم بعض العلماء علامات الساعات إلى كبرى، وصغرى، ويقسمها آخرون إلى ثلاثة أقسام، ويجعلون بينهما " وسطى "، ويمثلون له بخروج " المهدي ".
وعلامات الساعة الصغرى يصلح تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: قسم منها انقضى، وقسم لا يزال يتكرر، وقسم لم يحدث بعدُ.
وفي ظننا أن هذا التقسيم هو الذي يكون فيه إجابة الأخ السائل عما يتكرر من الكلام في أن أشراط الساعة وعلامات الصغرى قد انقضت كلها.
وقد حصر هذه الأقسام بأحاديثها: الشيخ عمر سليمان الأشقر حفظه الله في كتابه القيِّم " القيامة الصغرى "، وسنحاول تلخيص المواضع التي خارج السؤال، ونبسط القول في مبحث موضوع السؤال.
قال الشيخ عمر سليمان الأشقر - حفظه الله -:
والعلامات الصغرى يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم وقع، وقسم لم يقع بعدُ، والذي وقع قد يكون مضى وانقضى، وقد يكون ظهوره ليس مرة واحدة، بل يبدو شيئاً فشيئاً، وقد يتكرر وقوعه وحصوله، وقد يقع منه في المستقبل أكثر مما وقع في الماضي.
ولذلك سنعقد لعلامات الساعة أربعة فصول:
الأول: العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت.
الثاني: العلامات الصغرى التي وقعت، ولا تزال مستمرة، وقد يتكرر وقوعها.
الثالث: العلامات الصغرى التي لم تقع بعد.
الرابع: العلامات الكبرى.
أ. علامات الساعة التي وقعت:
ونعني بها العلامات التي وقعت وانقضت، ولن يتكرر وقوعها، وهي كثيرة، وسنذكر بعضاً منها:
1. بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاته.
2. انشقاق القمر.
3. نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل ببُصرى – بلدة في الشام -.
4. توقف الجزيَة والخراج.
ب. العَلامَات التي وقعت، وهي مستمرة، أو وقعت مَرة وَيمكن أن يتكرّر وقوعُها:
1. الفتوحَات والحروب.
وقد فتحت فارس والروم وزال ملك كسرى وقيصر، وغزا المسلمون الهند، وفتحوا القسطنطينية، وسيكون للمسلمين في مقبل الزمان ملك عظيم ينتشر فيه الإسلام ويذل الشرك، وتفتح روما مصداقاً؛ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) – رواه أحمد (28 / 154) وصححه محققو المسند -.
2. قتال الترك والتتر.
3. إسناد الأمر إلى غيَر أهله.
4. فسَاد المسلمين.
5. ولادَة الأمّة ربتها، وَتطاول الحفَاة العراة رعَاة الشاة في البنيان.
6. تداعي الأمم عَلى الأمَّة الإسلاميَّة.
7. الخسف والقذف وَالمسخ الذي يعَاقب اللَّه به أقواماً من هَذه الأمّة.
8. استفاضة المَال.
9. تسليم الخاصَّة، وفشو التجَارة، وقطع الأرحََام.
10. اختلال المقاييس:
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن المقاييس التي يُقَوَّم بها الرجال تختل قبل قيام الساعة، فيقبل قول الكذبة ويصدق، ويرد على الصادق خبره، ويؤتمن الخونة على الأموال والأعراض، ويخون الأمناء ويتهمون، ويتكلم التافهون من الرجال في القضايا التي تهم عامة الناس، فلا يقدمون إلا الآراء الفجّة، ولا يهدون إلا للأمور المُعْوجة، فقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ) ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: (الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) – رواه ابن ماجه (4036) وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه " -.
11. شرطة آخر الزمَان الذين يجلدون الناس.
ج. العلامَات التي لم تقع بَعدُ:
1. عودَة جزيرة العَرب جنَّات وَأنهاراً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا) رواه مسلم (157) .
وعودتها جنات وأنهاراً إما بسبب ما يقوم أهلها به من حفر الآبار، وزراعة الأرض ونحو ذلك مما هو حاصل في زماننا، وإما بسبب تغير المناخ، فيتحول مناخها الحار إلى جو لطيف جميل، ويفجر خالقها فيها من الأنهار والعيون ما يحول جدبها خصباً، ويحيل سهولها الجرداء إلى سهول مخضرة فيحاء، وهذا هو الأظهر، فإنه يحكي حالة ترجع فيها الجزيرة إلى ما كانت عليه من قبل.
2. انتفَاخ الأهلّة:
من الأدلة على اقتراب الساعة أن يرى الهلال عند بدو ظهوره كبيراً حتى يقال ساعة خروجه إنه لليلتين أو ثلاثة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مِن اقْتِرابِ السَّاعَةِ انتِفَاخُ الأهِلَّةِ) – رواه الطبراني في " الكبير " (10 / 198) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (5898) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مِنَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ يُرَى الْهِلاَلُ قَبَلاً فَيُقَالُ: لِلَيْلَتَيْنِ، وَأَنْ تُتخذَ المَسَاجِدُ طُرُقاً) - رواه الطبراني في " الأوسط " (9 / 147) وحسَّنه الألباني في " صحيح الجامع " (5899) .
3. تكليم السّبَاع والجمَاد الإنسَ:
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: " عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، قَالَ:: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي: (أَخْبِرْهُمْ) ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ) رواه أحمد (18 / 315) وصححه محققو المسند.
4. انحسَار الفرات عَن جَبل من ذهَب:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا) ، وفي رواية: (يَحْسِرُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ) .
وفي رواية عند مسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو) .
ورواه مسلم عن أبي بن كعب بلفظ: (يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ فَإِذَا سَمِعَ بِهِ النَّاسُ سَارُوا إِلَيْهِ فَيَقُولُ مَنْ عِنْدَهُ لَئِنْ تَرَكْنَا النَّاسَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ لَيُذْهَبَنَّ بِهِ كُلِّهِ قَالَ فَيَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ) .
ومعنى انحساره: انكشافه لذهاب مائه، كما يقول النووي، وقد يكون ذلك بسبب تحول مجراه، فإن هذا الكنز أو هذا الجبل مطمور بالتراب وهو غير معروف، فإذا ما تحول مجرى النهر لسبب من الأسباب ومرّ قريباً من هذا الجبل كشفه، والله أعلم بالصواب.
والسبب في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم من حضره عن الأخذ منه لما ينشأ عن أخذه من الفتنة والاقتتال وسفك الدماء.
5. إخراجُ الأرضِ كنوزَهَا المخبوءة:
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قَتَلْتُ وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ، فَيَقُولُ فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ، فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا) .
وهذه آية من آيات الله، حيث يأمر الحقُّ الأرض أن تخرج كنوزها المخبوءة في جوفها، وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الكنوز (بأفلاذ الكبد) ، وأصل الفلذ: " القطعة من كبد البعير "، وقال غيره: هي القطعة من اللحم، ومعنى الحديث: التشبيه، أي: تخرج ما في جوفها من القطع المدفونة فيها، والأسطوان جمع أسطوانة، وهي السارية والعمود، وشبهه بالأسطوان لعظمته وكثرته ".
وعندما يرى الناس كثرة الذهب والفضة يزهدون فيه، ويألمون لأنهم ارتكبوا الذنوب والمعاصي في سبيل الحصول على هذا العرض التافه.
6. محاصَرة المسلمين إلى المدينَة:
من أشراط الساعة أن يهزم المسلمون، وينحسر ظلهم، ويحيط بهم أعداؤهم ويحاصروهم في المدينة المنورة.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُوشِكُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُحَاصَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبْعَدَ مَسَالِحِهِمْ سَلَاحِ) – رواه أبو داود (4250) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " -.
والمسالح، جمع مَسْلَحة، وهي الثغر، والمراد أبعد مواضع المخافة من العدو.
وسَلاَح، موضع قريبٌ من خيبر.
7. إحراز " الجهجَاه " الملك:
الجهاه رجل من قحطان سيصير إليه الملك، وهو شديد القوة والبطش، ففي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ) رواه البخاري (3329) ومسلم (2910) .
وفي رواية لمسلم (2911) : (لاَ تَذْهَبُ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِى حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ " الْجَهْجَاهُ ") .
ويحتمل أن يكون هذا الذي في الرواية الأخيرة غير الأول، فقد صَحَّ في سنن الترمذي عن أبي هريرة أن هذا الجهجاه من الموالي، ففي سنن الترمذي (2228) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ " جَهْجَاهُ ") .
والمراد بكونه يسوق الناس بعصاه أنه يغلب الناس فينقادون له ويطيعونه، والتعبير بالسوق بالعصا للدلالة على غلظته وشدته، وأصل الجهجاه الصيَّاح، وهي صفة تناسب العصا كما يقول ابن حجر، وهل يسوق هذا الرجل الناس إلى الخير أم الشر؟ ليس عندنا بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
8. فتنَة الأحلاس وَفتنَة الدَهماء، وفتنَة الدهيماء:
عن عبدِ الله بنِ عُمَر قالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُعُودًا فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ ذِكْرَهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: (هِيَ فِتْنَةُ هَرَبٍ وَحَرَبٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ، دَخَلُهَا - أَوْ: دَخَنُهَا - مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسَ مِنِّي إِنَّمَا وَلِيِّيَ الْمُتَّقُونَ ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً فَإِذَا قِيلَ انْقَطَعَتْ تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ فُسْطَاطُ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ وَفُسْطَاطُ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ إِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ) – رواه أبو داود (4242) وأحمد (10 / 309) – واللفظ له -، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " -.
والأحلاس: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب، شبهت به الفتنة لملازمتها للناس حين تنزل بهم كما يلازم الحلس ظهر البعير، وقد قال الخطابي: يحتمل أن تكون هذه الفتنة شبهت بالأحلاس لسواد لونها وظلمتها.
والحَرَب بفتح الراء: ذهاب المال والأهل، يقال: حَرِب الرجل فهو حريب فلان إذا سلب ماله وأهله.
والسراء النعمة التي تسر الناس من وفرة المال والعافية، وأضيفت الفتنة إليها لأن النعمة سببها، إذ إن الإنسان يرتكب الآثام والمعاصي بسبب ما يتوفر له من الخير.
وقوله: " كورك على ضلع " هذا مثل للأمر الذي لا يستقيم ولا يثبت، لأن الورك لا يتركب على الضلع ولا يستقيم معه.
والدهيماء: الداهية التي تدهم الناس بشرها.
9. خروُج المَهدي:
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله تبارك وتعالى يبعث في آخر الزمان خليفة يكون حكماً عدلاً، يلي أمر هذه الأمة من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من سلالة فاطمة، يوافق اسمه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه اسم أبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وصفته الأحاديث بأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلاً، بعد أن ملئت جوراً وظلماً، ومن الأحاديث التي وردت في هذا:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي) رواه الترمذي (2230) وأبو داود، وفي رواية لأبي داود (4282) قال: (لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنِّى - أَوْ: مِنْ أَهْلِ بَيْتِى - يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِى وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِى يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا) .
" القيامة الصغرى " (137 – 206) باختصار، وتهذيب.
وبه يتبين أنه ثمة تسع علامات للساعة الصغرى لم تظهر بعدُ، ويتبين أن ما يتكرر من كلام كثير من الناس أن علامات الساعة الصغرى قد ظهرت كلها ولم يبق إلا " المهدي " قول عارٍ عن الصحة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/271)
هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عذاب القبر يشمل المؤمن العاصي أو هو خاص بالكفار؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"عذاب القبر المستمر يكون للمنافق والكافر. وأما المؤمن العاصي فإنه قد يعذب في قبره، لأنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) . وهذا معروف أنهما كانا مسلمين" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (2/16) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/272)
رؤية المؤمنين جميعهم لله تعالى في الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل رؤية الله في الجنة خاصة بالمؤمنين الذين لا يعذبون في النار؟ أم هي عامة لكل أهل الجنة، وكذلك المسلمين العصاة؟ أرجو منكم التفصيل مع الأدلة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
النظر إلى وجه الله ثابت للمؤمنين كلهم من غير تفريق بين عاصيهم ومطيعهم ومن يعذب منهم ومن لا يعذب، وذلك لعموم الأدلة من الكتاب والسنة , فمن الكتاب قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) القيامة/22-25.
فالناضرة وجوه المؤمنين , والباسرة وجوه الكافرين , وقد قال الله تعالى عن الكافرين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) المطففين/15.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ ْ) رواه البخاري (521) ومسلم (1002) .
وهذا خطاب لجميع المؤمنين.
ونص العلماء على رؤية المؤمنين لربهم من غير تفريق بين مطيعهم وعاصيهم، ومعذبهم وناجيهم , ومن ذلك قول ابن بطة في "الإبانة" (2/1) : "باب الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصار رؤوسهم فيكلمهم ويكلمونه لا حائل بينه وبينهم ولا ترجمان.
اعلموا رحمكم الله أن أهل الجنة يرون ربهم يوم القيامة ... " انتهى.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في "لقاء الباب المفتوح": "الناس يوم القيامة على ثلاثة أقسام: كفار خُلَّص، ومؤمنون خُلَّص، ومنافقون.
أما الكفار الخلص فإنهم لا يرون الله أبداً، لقول الله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) المطففين/15.
وأما المؤمنون الخلص فيرون الله عز وجل يوم القيامة وفي الجنة؛ لقول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) القيامة/22-23.
وأما المنافقون فإنهم يرون الله في عرصات القيامة ولا يرونه بعد ذلك، وهذا أشد حسرةً عليهم.. أن يستمتعوا بالنظر إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك يحجبون عنه.
فهذه أقسام الناس يوم القيامة بالنسبة للنظر إلى الرب عز وجل، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يرون ربهم في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة" انتهى.
والخلاصة: أن هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله , وما نقل عن السلف والخلف من أهل السنة تفيد أن المؤمنين كلهم سيرون ربهم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال جواب
(1/273)
من مات شهيدا في سبيل الله يأمن سؤال القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض المؤمنين، من الذين قاموا بأعمال جليلة، أو أصيبوا بمصائب كبيرة، يأمنون فتنة القبر وعذابه، ومن هؤلاء الشهيد: فقد روى المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه) رواه الترمذي وابن ماجه. وروى النسائي في سننه عن راشد بن سعد، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رجلا قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) وسنده صحيح. سؤالي هو: ما مدى صحة هذه الأحاديث..؟؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المقرر في عقائد المسلمين أن الأموات يُفتَنون – أي يُسألون ويُمتحنون – في قبورهم، فقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أصحها وأظهرها قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلَاثًا. فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) رواه البخاري (86) ومسلم (905)
يقول الإمام السيوطي رحمه الله:
" أطبق العلماء على أن المراد بقوله: (يُفتنون) ، و (بفتنة القبر) سؤال الملكين: منكر ونكير، والأحاديث صريحة فيه، ولهذا سُمِّيَ ملكا السؤال " الفتَّانين " " انتهى.
"الحاوي للفتاوي" (2/175)
ولكن جاءت أحاديث أخرى تخصص هذا الحديث، وتستثني من عموم الفتنة أناسا صدقوا الله في الدنيا، فرفع الله عنهم فتنة القبر وسؤاله.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله:
" اعلم رحمك الله أن هذا الباب – يعني الذين يأمنون فتنة القبر - لا يعارض ما تقدم من الأبواب – يعني عموم فتنة القبر -، بل يخصها، ويبين مَن يُسأل في قبره ولا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس، ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل للعباد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه إلى يوم التناد " انتهى.
"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/423)
ومن هؤلاء الذين يأمنون فتنة القبر: الشهيد.
دليله: ما رواه رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟
قَالَ: (كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً)
رواه النسائي (رقم/2053) ، وحسنه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/743) ، وصححه الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (ص/50)
ويدل على ذلك أيضا: الحديث الأول المذكور في السؤال: (للشهيد عن الله ست خصال..)
والحديث رواه الإمام أحمد (16730) والترمذي (1663) وابن ماجة (2799) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله:
" قوله صلى الله عليه وسلم في الشهيد: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ، معناه: أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق، كان إذا التقى الزحفان وبرقت السيوف: فروا؛ لأن من شأن المنافق الفرار والروغان عند ذلك، ومن شأن المؤمن البذل والتسليم لله نفسا، وهيجان حمية الله، والتعصب له لإعلاء كلمته، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره، حيث برز للحرب والقتل، فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر؟ قاله الحكيم الترمذي " انتهى.
"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/424) .
ويقول المناوي رحمه الله:
" (ببارقة السيوف) أي: بلمعانها. قال الراغب: البارقة: لمعان السيف.
(على رأسه) يعني: الشهيد.
(فتنة) : فلا يفتن في قبره، ولا يسأل، إذ لو كان فيه نفاق لفر عند التقاء الجمعين، فلما ربط نفسه لله في سبيله ظهر صدق ما في ضميره. وظاهره اختصاص ذلك بشهيد المعركة، لكن أخبار الرباط تؤذن بالتعميم " انتهى.
"فيض القدير" (5/6)
وسئل الحافظ ابن حجر الهيتمي رحمه الله السؤال الآتي:
هل يسأل الشهيد؟
فأجاب:
" لا، كما صرح به جماعة، واستدل له القرطبي بخبر مسلم: (هل يفتن الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ، قال: ومعناه أن السؤال في القبر إنما جعل لامتان المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق، وثبوته تحت بارقة السيوف أدل دليل على صدقه في إيمانه، وإلا لفر للكفار. قال: وإذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أولى لأنه أجل قدرا.ووردت أحاديث أن المرابط لا يسأل أيضا، وكذا المطعون، والصابر في بلد الطعن محتسبا ومات بغير الطاعون، كما في بذل الماعون لشيخ الإسلام ابن حجر. والله تعالى أعلم " انتهى.
"الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/30) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) التوبة/111، وقال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران/169. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ، وإذا كان المرابط إذا مات أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرَّض رقبته لعدو الله؛ إعلاء لكلمة الله، وانتصارا لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه " انتهى.
"مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (8/477)
وقد جمع الإمام القرطبي في "التذكرة لأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/415-426) طبعة دار المنهاج، وكذلك العلامة ابن القيم في كتابه " الروح " (ص/79-82) الأسباب المنجية من عذاب القبر وفتنة القبر بالتفصيل، فمن أراد الاطلاع عليها والتوسع فيها فليرجع إلى هذين الكتابين، وإن كان في بعض ما ذكراه توقف ونظر.
وانظر جواب السؤال رقم: (10403) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/274)
من مات مرابطا في سبيل الله يأمن سؤال القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض المؤمنين من الذين قاموا بأعمال جليلة، أو أصيبوا بمصائب كبيرة، يأمنون فتنة القبر وعذابه، ومن هؤلاء، الذي مات مرابطا في سبيل الله: فقد روى فضالة بن عبيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر) رواه الترمذي وأبو داود. سؤالي هو: ما مدى صحة هذه الأحاديث؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد في فضل من مات مرابطا في سبيل الله أنه يأمن فتنة القبر، وذلك يعني أنه لا يُسأل في قبره الأسئلة المعروفة الواردة في أحاديث فتنة القبر: من ربك؟ وما هو دينك؟ ومن هو النبي الذي بعث فيكم؟
وإنما تشهد له مرابطته وجهاده في سبيل الله على صدقه ويقينه وإيمانه، والمرابط في سبيل الله هو من أقام في الثغور التي يخاف فيها من هجمات العدو، مأخوذ من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر مرابطا، فارسا كان أو راجلا. انظر "التذكرة" للقرطبي (ص/418) .
والدليل على فضل الرباط في سبيل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها:
الحديث الأول:
عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ) رواه مسلم (1913) .
قال النووي رحمه الله: " هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحا في غير مسلم: (كل ميت يختم على عمله الا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة) .
قوله صلى الله عليه وسلم: " وأجرى عليه رزقه " موافق لقول الله تعالى في الشهداء: (أحياء عند ربهم يرزقون) ، والأحاديث السابقة أن أرواح الشهداء تأكل من ثمار الجنة.
قوله صلى الله عليه وسلم: " أمن الفتان " ضبطوا (أمن) بوجهين: أحدهما أَمِن بفتح الهمزة وكسر الميم من غير واو، والثاني: (أُومِن) بضم الهمزة وبواو.
وقوله " الفتان " فقال القاضي: رواية الأكثرين بضم الفاء، جمع فاتن، قال: ورواية الطبري بالفتح، وفي رواية أبى داود في سننه (أومن من فتاني القبر) " انتهى.
"شرح مسلم" (13/61) .
وقال المناوي رحمه الله: " (من فتان القبر) أي: فتانَيْه: منكر ونكير، أي: لا يأتيانه، ولا يختبرانه، بل يكتفى بموته مرابطا شاهدا على صحة إيمانه " انتهى.
"فيض القدير" (5/44) .
الحديث الثاني:
عن فَضَالَةَ بْنُ عُبَيْدٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إِلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ) رواه الترمذي (1621) وغيره، وقال الترمذي رحمه الله: حسن صحيح، وصححه ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (4/113) ، وابن دقيق العيد في "الاقتراح" (ص/124) ، وابن حجر في "فتح الباري" (12/421) ، والشيخ الألباني في "صحيح الترمذي".
قال الإمام السرخسي رحمه الله: " ومعنى هذا الوعد في حق من مات مرابطا - والله أعلم - أنه في حياته كان يُؤمِّن المسلمين بعمله، فيجازَى في قبره بالأمن مما يخاف منه.
أو لَمَّا اختار في حياته المقام في أرض الخوف والوحشة لإعزاز الدين، يُجازَى بدفع الخوف والوحشة عنه في القبر " انتهى.
"شرح السير الكبير" (1/9) .
وقد جمع الإمام القرطبي في "التذكرة لأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/415-426) طبعة دار المنهاج، وكذلك العلامة ابن القيم في كتابه " الروح " (ص/79-82) جميع الأسباب المنجية من عذاب القبر وفتنة القبر بالتفصيل، فمن أراد الاطلاع عليها والتوسع فيها فليرجع إلى هذين الكتابين.
وانظر جواب السؤال رقم: (10403) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/275)
أي الملائكة تقبض روح المسلم: ملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟
[السُّؤَالُ]
ـ[المسلم العاصي إذا مات هل تقبض روحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، مع العلم بأنه مصلي، ولكنه يرتكب المعاصي: مثل النظر للحرام، أو سماع الأغاني؟ جزاك الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
عامة النصوص الواردة في هذا الموضوع تقسم الناس إلى قسمين:
1- مؤمنون: تتولى ملائكة الرحمة قبض أرواحهم، وترفعها إلى السماء، تحفها بعنايتها، وتتلقاها بالبشرى، وتناديها بأحب أسمائها، فترى من النعيم والسرور والحبور ما يسرها ويثبتها.
2- كافرون ومنافقون: تتولى ملائكة العذاب نزع أرواحهم، وتتلقاها بالشدة والوعيد، تغلق في وجهها أبواب السماء، فتلقى في الأرض لتنال من الويل والعذاب جزاء ما كسبت في الدنيا من ظلم وكفر وعدوان.
وقد ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن الكريم، فقال سبحانه وتعالى: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا. وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) النازعات/1-3
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" قال ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وأبو الضحى، والسُّدِّي: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعُنف فَتُغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط، وهو قوله: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس: (والنازعات) هي أنفس الكفار، تُنزع ثم تُنشَط، ثم تغرق في النار. رواه ابن أبي حاتم " انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (8/312)
ثانيا:
يبقى الخوف على المسلم العاصي، أو المسلم الفاسق - والمقصود هو المصر على كبائر الذنوب، أو الظالم المعتدي على الخلق ومات على ذلك -: بأي القسمين السابقين يلحق؟ هل تقبض روحه ملائكة الرحمة ويلقى ما يلقاه المؤمنون، أم تقبضها ملائكة العذاب ويلقى ما يلقاه الكافرون؟
هذا من عالم الغيب الذي لم نقف فيه على نصوص صريحة تجزم لنا بحقيقة الحال الذي سيؤول إليه أصحاب الكبائر.
ولكن ثمة بعض الإشارات التي يمكن أن تدل على أن ملائكة العذاب هي التي تتولى قبض أرواح أصحاب الكبائر، ومن ذلك:
1- حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم تاب إلى الله عز وجل، فلما قبضت روحه اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيهم يقبضها ويرفعها، فقد جاء في قصته التي يرويها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ) رواه البخاري (3740) ، ومسلم (2766)
فتأمل كيف أن ملائكة العذاب همت أن تقبض روح هذا العاصي الذي قتل مائة نفس، ولولا صدق توبته لكانت روحه من نصيب ملائكة العذاب، فالخوف على جميع أصحاب الكبائر بعد ذلك أن تتولى ملائكة العذاب قبض أرواحهم إن لم يتوبوا إلى الله عز وجل.
2- الأحاديث الكثيرة التي جاءت في وصف حضور الملائكة قبض روح الميت، وإصعادها بها إلى السماوات العلى، والمقابلة بين حال المؤمنين وحال الكافرين، جاء في بعض روايات هذه الأحاديث ذكر (الفاجر) بدلا من (الكافر) ، وفي بعضها تصفه بـ (الرجل السوء) وقد يكون في ذلك إشارة أيضا إلى أن أصحاب الكبائر على خطر عظيم في هذا الشأن.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في حديث طويل يبين فيه حال المؤمن والفاجر عند قبض الأرواح -:
(وأما الفاجر: فإذا كان في قبل من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، أتاه ملك الموت، فيقعد عند رأسه، وينزل الملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيقعدون منه مد البصر، فيقول ملك الموت: أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب ... إلى آخر الحديث)
هذه رواية الحاكم في "المستدرك" (1/93) ، وصححها الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (فقرة/108) ، والحديث أصله في السنن. وقد جمع ابن طولون في كتابه: "التحرير المرسخ في أحوال البرزخ" (ص/75-112) الأحاديث والآثار الواردة في هذا الشأن يمكن الاطلاع عليها هناك.
إلا إذا قلنا: إن المراد بالفاجر، أو الرجل السوء، في هذه الروايات، هو: الكافر، المذكور في الروايات الأخرى، لتتفق روايات الحديث، كما هو الأظهر، فيعود الأمر إلى السكوت عن أهل المعاصي والكبائر من المسلمين. والله أعلم.
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
" (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل/32
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كنوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه، تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم، في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي - على أصح التفسيرات - ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعنى أيضاً في غير هذا الموضع. كقوله: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] ، وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ، وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23-24] . والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد. لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة.
ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم سلام عليكم ادخلوا الجنة - أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السلم} [النحل: 28] الآية، وقوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ} [النساء: 97]- إلى قوله - {وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] ، وقوله: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50] الآية، إلى غير ذلك من الآيات " انتهى. أضواء البيان (3/3) .
ولعله أن يقال هنا ـ والله أعلم ـ أن حال أهل المعاصي والكبائر، عند الموت، يتفاوت بحسب معاصيهم وطاعاتهم؛ فمن كان من الموحدين، الطيبين المستقيمين، فله من البشارة وطيب الحال ما وعد الله به هنا، ومن خلط خُلط له، فيحرم من البشارة وطيب الحال، ورحمة الملائكة به، بحسب حاله وعمله.
وانظر جواب السؤال رقم: (52887)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/276)
هل صحيح أن القيامة ستقوم يوم الجمعة 10 محرم
[السُّؤَالُ]
ـ[أخبرت أن يوم القيامة سيأتي يوم الجمعة 10 محرم والسؤال هو ربما يكون يوم الجمعة في السعودية ويوم آخر في الولايات المتحدة فمن هنا يكون يوم 10 محرم مختلف. فما هو حل هذا الإشكال؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كُلُّ من أخبر عن موعدٍ لقيام القيامة محدد فهو مفترٍ كذّاب، فقيام القيامة هو الساعة التي قال الله فيها: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) .
وأمّا إذا جاء يوم القيامة في الميعاد الذي يعلمه الله وهو في يوم جمعة، فسيتغير نظام هذا العالم من الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم، ولا ندري هل تكون أمريكا موجودة في ذلك اليوم أو غير موجودة، فالله قادر على إهلاك من شاء من هذه الأمم قبل يوم القيامة، إنّ الله على كلِّ شيءٍ قدير.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/277)
حكم الرسم التوضيحي للميزان الأخروي
[السُّؤَالُ]
ـ[يقوم بعض المعلمين بنشاط دعوي داخل المدرسة، ولكن بعض وسائل الدعوة يقع في نفسي منها شيء، من ذلك: أنهم قاموا بإعداد لوحة كبيرة قد رسم فيها ميزان له كفتان في إحداهما مصحف ومسجد وأدوات تدل على الطاعة وفي الكفة الأخرى عود غناء وآلات لهو وأمور محرمة، ثم كتبوا تحت هذه الصورة قول الحق تبارك وتعالى: (والوزن يومئذ الحق ... ) الآية، فهل يجوز مثل هذا أم أنه تمثيل لأمور غيبية لا نعلم كيفيتها؟ وهل لي أن أنكر عليهم أم هي أمور اجتهادية؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا العمل لا ينبغي؛ لأن هذه الأمور الغيبية لا نعلم كيفيتها، ورسمها قد يهوّن من قدرها وعظمتها، فيُكتفى ببيان ما جاء في النصوص من وضع الموازين، وأن الأعمال توزن، كما يوزن أصحابها، وينظر: جواب السؤال رقم (31805) .
وأما المصحف والمسجد فلا نعلم في الأدلة ما يفيد أنهما يوضعان في الميزان، والظاهر أن المراد من الرسم وزن قراءة القرآن وعمارة المساجد.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم رسم بستان كأنه يمثل الجنة، ونار كأنها تمثل النار؟
فأجاب: " هذا لا يجوز؛ لأننا لا نعلم كيفية ذلك، كما قال عز وجل: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة/17، ولا يعلم كيفية النار، فهي فضلت على نار الدنيا بتسع وستين جزءاً بما فيها النار الغليظة كنار الغاز وغيرها وما هو أشد، فهل أحد يستطيع أن يمثل النار؟ لا أحد يستطيع، ولهذا بلِّغ من يفعل ذلك أن هذا حرام، ومع الأسف الشديد أن الناس الآن بدءوا يجعلون الأمور الأخروية كأنها أمور حسية مشاهدة، وقد رأيت ورقة مكتوب فيها مربعات كذا الموت وآخر القبر وآخر القيامة وهكذا، فهذا كأنه صور ما بعد الموت خطوط ومربعات هندسية، جرأة عظيمة والعياذ بالله، ثم يقال: ما الذي أدراك أن هذا بعد هذا؟ نحن نعرف أن القبر بعد الحياة الدنيا وأن البعث بعد القبر، ولكن تفاصيل ما يكون يوم القيامة من الحساب والموازين وغير ذلك مَنْ يعلم الترتيب؟ لكن هذه جرأة عظيمة، والغريب أن هذه الورقة توزع، فيجب الحذر والتحذير من هذه الأوراق " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (220/21) .
وينظر: جواب السؤال رقم (22723) .
وعليه فينبغي لك نصح هؤلاء المعلمين، وحثهم على الاكتفاء بالوارد، وعدم التكلف والتوسع.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/278)
حكم القول بتناسخ الأرواح
[السُّؤَالُ]
ـ[أحد أعضاء أسرتي يؤمن بتناسخ الأرواح وأنا أعارض هذا الأمر بقوة، ما هو التفسير الإسلامي (إذا وجد) لهذا الأمر؟ لأنني أتمنى أن أصحح أفكارهم (لأن إيمانهم قد قل) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
المقصود تناسخ الأرواح هو أن الجسد إذا مات، انتقلت الروح لتسكن جسدا آخر، تسعد فيه أو تشقى نتيجة ما قدمته من عمل، وهكذا تنتقل من جسد إلى جسد، والقول به من أبطل الباطل، وأعظم الكفر بالله تعالى وبكتبه ورسله، فإن الإيمان بالآخرة والحساب، والجنة والنار مما علم بالضرورة مجيء الرسل به، واشتمال الكتب المنزلة عليه. والقول بالتناسخ تكذيب لذلك كله.
والتفسير الإسلامي لأمر المعاد واضح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) العنكبوت/57، وقوله: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس/4، وقوله: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) مريم/ 85، 86 وقوله: (لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) مريم/94 – 95، وقوله: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) النساء/86، وقوله: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) التغابن/7 إلى غير ذلك من الآيات المحكمات.
وفي السنة من ذكر المعاد وتقريره وتفصيل أمره ما لا يحصى كثرة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم" الحديث، رواه البخاري (3100) ومسلم (5104) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة " قالوا أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجْب الذنَب " رواه مسلم (5255) .
وقوله: "تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال سليم بن عامر [أحد رواة الحديث] : فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين. قال صلى الله عليه وسلم: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه " رواه مسلم (5108) .
وقوله: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك " رواه مسلم (292) . إلى غير ذلك من الأحاديث.
فالقول بتناسخ الأرواح، تكذيب لهذه النصوص ورد لها، وإنكار للبعث.
وما جاء في الشريعة من إثبات عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين أدلة ظاهرة على أن روح الإنسان لا تنتقل إلى غيره، بل يقع عليها وعلى الجسد العذاب والنعيم، حتى يحشر الناس إلى ربهم.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: (فيكفي من الرد عليهم إجماع جميع أهل الإسلام على تكفيرهم، وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بغير هذا) الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/166
واعتقاد أن الجسد سيفنى، دون أن يكون له عودة أخرى يذوق فيها النعيم أو يتجرع فيها العذاب، سبيل إلى إغراق الإنسان في الشهوات والظلم والظلمات، وهذا ما يريده الشيطان من أصحاب هذه العقيدة الفاسدة، إضافة إلى غمسهم في الكفر بهذا المذهب الرديء.
والواجب عليك نصح هذا الإنسان، وتذكيره بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوته للتوبة من هذا الكفر، فإن تاب وأناب، وإلا وجب البعد عنه، والتحذير من مجالسته، وإعلان البراءة من معتقده، لئلا يغتر الناس به.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلم سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/279)
القصاص يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يقتص الكافر المظلوم يوم القيامة من المسلم الظالم له؟ وهل يقتص الكفار بعضهم من بعض؟ وهل تقتص البهيمة من الإنسان؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
العدل هو ميزان الحكم يوم القيامة، وقد حرَّم الله الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما، وهو يعلم سبحانه أن قيام المظالم كائنٌ ولا شك في الدنيا، بين الخلق كلهم: مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، عاقلهم وجاهلهم، ولذلك رصد لهم يوما يُقيم فيه الحقوق بموازين الحق والقسط، فينتصف فيه للمظلوم، ويعاقب الظالم.
يقول الله عز وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الأنبياء/47
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ) رواه أحمد (2/363) وصححه محققو المسند، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (1967)
فهو قصاص شامل وعام بين جميع الخلائق:
1- يقتص المؤمن المظلوم ممن ظلمه من الخلائق، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ) رواه البخاري (2440)
2- ويقتص الكافر المظلوم أيضا ممن ظلمه من الخلائق: فيقتص من الكافر الظالم، ويقتص من المسلم الظالم المعتدي، لعموم حديث أبي هريرة السابق: (يقتص الخلق بعضهم من بعض) .
غير أن المسلم لا يعد ظالما للكافر إذا كان الكافر محاربا معتديا، أما إذا كان ذميا أو معاهدا أو مؤتمنا، فلا يجوز للمسلم أن يظلمه ولا أن يعتدي عليه، بل جاء التشديد في أمره في كثير من الآيات والأحاديث، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة/8
يقول البيضاوي في "تفسيره" (303) :
" لا يحمِلَنَّكم شدة بُغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمُثلةٍ وقذفٍ وقتلِ نساءٍ وصِبيةٍ ونقضِ عهدٍ، تشفياً مما في قلوبكم " انتهى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود (3052) وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر" (2/184) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) رواه البخاري (3166)
وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ) رواه أبو داود (3050) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (882)
فهذه النصوص تدل على حرمة الاعتداء على الكافر، وأن ذلك من الظلم الذي حرمه الله تعالى، وللمظلوم حق عنده سبحانه.
ولذلك كان الصحابة والفقهاء يدركون أن حق الذمي محفوظ عند الله عز وجل، فلا يجترئ أحد عليه إلا أخذه الله به.
روى القاضي أبو يوسف في "الخراج" (ص/18) أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب إلى عُمَّالِه على الخراج:
" إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أَمَرَنا الله أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتُك " انتهى.
3- وتقتص الدواب بعضُها من بعض: وهي وإن كانت غير مكلفة، إلا أن قصاصها قصاص مقابلة واستحقاق، كي يقام العدل الذي به تقوم السماوات والأرض.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) رواه مسلم (2582) والجلحاء: التي لا قرن لها.
وروى أحمد في "المسند" (5/172) وحسنه المحققون، وكذا الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" تحت حديث رقم (1967) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا، وَشَاتَانِ تَقْتَرِنَانِ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فَأَجْهَضَتْهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أي لَيُقْتَصَّنَّ لها)
يقول النووي في "شرح مسلم" (16/137) :
" وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف، إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة " انتهى.
وجاء في "مرقاة المفاتيح" للشيخ علي القاري (4/761) :
" قال ابن الملك: ... فإن قيل: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟ قلنا: إن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل، والغرض منه إعلام العباد أن الحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم ". قال القاري: " وهو وجه حسن، وتوجيه مستحسن،.. وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف؟ " انتهى.
بل إن الدواب تقتص من بني آدم يوم القيامة:
يقول ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" (2/141) :
" فهذا من الدليل على القصاص بين البهائم، وبينها وبين بني آدم، حتى الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوَّعها، أو عطَّشها، أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بنظير ما ظلمها أو جوَّعها، ويدل لذلك حديث الهرة، وفي الصحيح: (أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى الْمَرْأَةَ مُعَلَّقَةً فِي النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا وَتُعَذِّبُهَا كَمَا عَذَّبَتْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْحَبْسِ وَالْجُوعِ) انظر: صحيح البخاري (745) ومسند أحمد (2/159) .
وهذا عام في سائر الحيوانات ... " انتهى.
وجاء في كتاب "بريقة محمودية" (4/126) لأبي سعيد محمد بن محمد الخادمي:
" ويجتنب كل الجهد من حق الحيوان؛ لانسداد طرق التحليل والإرضاء في الآخرة والأولى، فإن الفقهاء قالوا: العذاب فيه متعين، وأمكن عفوه تعالى في نفسه، لكن حكم شريعته يقتضي عدم العفو، ولذا حكموا بتعيُّنِ العذاب، وفي قاضي خان: ومن هذا قالوا: إن خصومة الدابة أشد من خصومة الآدمي على الآدمي " انتهى.
وانظر جواب السؤال رقم (21679)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/280)
أسئلة القبر الثلاثة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الأسئلة التي يواجهها الإنسان في القبر والتي نتعوذ منها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إذا مات ابن آدم وخرجت روحه ووضع في قبره فإنه عندئذٍ سيكون في أول مراحل الآخرة لأن القبر هو أول منزل من منازل الآخرة.
عن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فيقال له: قد تَذكر الجنَّةَ والنَّار فلا تبكي وتبكي مِن هذا؟ فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه "، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه ". رواه الترمذي (2308) وابن ماجه (4567) . وحسَّنه الألباني في " صحيح الجامع " (1684)
ثانياً:
يأتيه الملكان الموكلان به يسألانه عما كان يؤمن به في الدنيا عن ربه وعن دينه وعن نبيِّه، فإن أجابهم بخيرٍ فذلك خيرٌ، وإن لم يجبهم فإنهم يضربونه ضرباً شديداً أليماً.
وإن كان من أهل الصلاح جاءه ملائكة بيض الوجوه، وإن كان من أهل الفساد جاءه ملائكة سود الوجوه، وهذه هي فتنته التي يُفتن بها.
عن عائشة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم، اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار، وفتنة القبر وعذاب القبر وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ".
رواه البخاري (6014) .
قال ابن حجر:
قوله: " ومن فتنة القبر " هي سؤال الملكين.
" فتح الباري " (11 / 177) .
وقال المباركفوري:
" وفتنة القبر " أي: التحير في جواب الملكين.
" تحفة الأحوذي " (9 / 328) .
ثالثاً:
أمَّا ما هو السؤال الذي تسأله الملائكة في القبر فهو مبين في الحديث الآتي:
عن البراء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، ثلاث مرات، - أو مرتين - ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس حتى يجلسون منه مد البصر معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فيفتح لهم فيستقبله من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، قال: فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيُجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان: ما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت به فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من طيبها وروحها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح حتى يجلسون منه مد البصر ثم قال: ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه قال: فتفرق في جسده، قال: فتخرج فينقطع معها العروق والعصب كما تنزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المُسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى سماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف / 40) ، قال: فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتطرح روحه طرحا وقال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} (الحج / 31) ، قال: فيعاد روحه في جسده ويأتيه الملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: وما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، قال: فينادي مناد من السماء أفرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار. قال: فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة ".
رواه أبو داود (4753) وأحمد – واللفظ له – (18063) .
صححه الألباني في " صحيح الجامع " (1676) .
فالصحيح أن الملكين لا يسألان الميت في قبره إلا عن أمور التوحيد والعقيدة، وهو واضح بيِّن.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/281)
مصير الكفّار الذين لم يبلغهم الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو مصير الكفار الذين لم يبلغهم الإسلام؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من عدل الله عزّ وجلّ أنه لا يُعذّب قوما إلا بعد البلاغ وقيام الحجّة عليهم ولا يظلم ربّك أحدا، قال الله عزّ وجلّ: (وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولا) ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه كقوله تعالى "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير" وكذا قوله "وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين".. "
فالذي لم يسمع عن الإسلام ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تبلغه الدّعوة بشكل صحيح فإنّ الله لا يعذّبه على موته على الكفر، فإن قيل: فما مصيره فالجواب أنّ الله يمتحنه يوم القيامة فإن أطاع دخل الجنّة وإن عصى دخل النّار والدليل على ذلك حديث الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعَةٌ [يحتجون] يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَصَمُّ لا يَسْمَعُ شَيْئًا وَرَجُلٌ أَحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرَمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ فَأَمَّا الأَصَمُّ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا وَأَمَّا الأَحْمَقُ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلامًا
وفي رواية: فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلامًا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا الحديث رواه الإمام أحمد وابن حبان وصححه الألباني: صحيح الجامع 881
فكلّ من وصلته دعوة الإسلام بطريقة سليمة فقد أُقيمت عليه الحجّة ومن مات ولم تصل إليه أو وصلته غير صحيحة فأمره إلى الله، هو أعلم بخلقه ولا يظلم ربّك أحدا والله بصير بالعباد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/282)
ما هي الأسئلة التي سيسأل عنها العبد يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[كما نرجو أن تخبرنا عن الأمور المتعلقة "بيوم الحساب" بعذابها, والأسئلة التي ستطرح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ثبت في القرآن والسنة أن الإنسان إذا مات فإنه يحاسب عن كل صغيرة وكبيرة عملها في الدنيا من خير أو شر فالخير يجزى عليه والشر يعاقب عليه، وأول منازل الحساب القبر ففي القبر أول ما يسأل الإنسان عنه: مَن ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ، كما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه كما رواه أبو داود في " سننه " (4753) . صححه الألباني في صحيح أبي داود (2979)
ثم يوم القيامة يحاسب عن كل صغيرة وكبيرة وإن حوسب عليها في القبر وأول ما يحاسب عليه الصلاة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمَّها أم نقصها؟ فإن كانت تامة: كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً: قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع: قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم ".
رواه أبو داود (864) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (770) .
ويسأل العبد يوم القيامة عن أمور منها:
ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم ".
رواه الترمذي (2422) . وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1969)
وتسأل الأمم يوم القيامة: {ماذا أجبتم المرسلين} القصص / 65.
هذا بعض ما سيسأل عنه العبد يوم القيامة، فعلى العبد العاقل الحريص على نجاة نفسه أن يعد للسؤال جواباً، نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/283)
من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة وسلم من العذاب
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أعرف ماذا يحدث للمسلم بعد وزن جميع أعماله على الميزان؛ هل يذهب للجنة إذا زادت حسناته عن سيئاته؟ أم يذهب للنار أولا لكى يتطهر من السيئات التى اقترفها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
مما يجب الإيمان به من أمور الآخرة: الميزان الذي يوزن به أعمال العباد، كما قال سبحانه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الأنبياء/47
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَة الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ " انتهى.
والميزان يكون بعد الحساب، وقبل الصراط:
قال القرطبي رحمه الله: " قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، قال الله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} الآية. وقال (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه) إلى آخر السورة " انتهى من "التذكرة" ص (359) .
ومع أنه ـ في الواقع ـ ليس ثمة نص يبين تلك الأعمال مرتبة، وليس في ذلك إلا اجتهادات لبعض أهل العلم؛ فإن الترتيب الذي ذكره القرطبي عن العلماء مناسب من حيث الزمن، لأن الله يحاسب الشخص على أعماله ويقرره بها، ثم بعد ذلك ينصب له الميزان ليكون نتيجة لتلك المحاسبة؛ ليُطْلِع الله العبد على مصداق تلك المحاسبة ظاهراً في ميزانه.
(انظر: الحياة الآخرة للعواجي 3/1169)
ثانيا:
إذا وزنت الأعمال، كان الناس على ثلاثة أقسام:
الأول: من رجحت حسناته على سيئاته، وهذا سعيد مفلح، كما قال تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) المؤمنون/102، 103، وقال: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ) القارعة/6-11
الثاني: من رجحت سيئاته على حسناته، وهذا إن كان مسلما، دخل النار، فإذا هُذّب ونقي أخرج منها ودخل الجنة، وإن كان كافرا بقي فيها خالدا مخلدا، كما في آية سورة المؤمنون السابقة.
الثالث: من استوت حسناته وسيئاته، وهذا من أصحاب الأعراف، يكونون في مكان بين الجنة والنار، يطلعون على هؤلاء وهؤلاء، كما قال سبحانه: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأعراف/46، 47، ومصير أهل الأعراف دخول الجنة بعد ذلك.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/289) : " لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبّه أن بين الجنة والنار حجاباً وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة ... قال ابن جرير: والأعراف جمع عرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفاً، وإنما قيل لعرف الديك عرفاً لارتفاعه.
وفي رواية عن ابن عباس: الأعراف: تل بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار، وفي رواية عنه هو سور بين الجنة والنار. وكذا قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير. وقال السدي: إنما سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس.
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله ... وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلّفت بهم حسناتهم عن النار، قال فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم ... " انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وَقَدْ يَفْعَلُ مَعَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ تُوَازِيهَا وَتُقَابِلُهَا فَيَنْجُو بِذَلِكَ مِنْ النَّارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ. وَإِنْ كَانَ مَآلُهُمْ إلَى الْجَنَّةِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ أُزْلِفَتْ لَهُمْ الْجَنَّةُ أَيْ قُرِّبَتْ لَهُمْ إذْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ ".
انتهى من مجموع الفتاوى (16/177) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " سمعت من شخص يقول: إن الأعراف سور بين الجنة والنار يمكثون فيه عدداً من السنين؟
فأجاب: الناس إذا كان يوم القيامة انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
قسم ترجح حسناتهم على سيئاتهم، فهؤلاء لا يعذبون ويدخلون الجنة، وقسم آخر ترجح سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء مستحقون للعذاب بقدر سيئاتهم ثم ينجون إلى الجنة، وقسم ثالث سيئاتهم وحسناتهم سواء، فهؤلاء هم أهل الأعراف ليسوا من أهل الجنة، ولا من أهل النار، بل هم في مكان برزخ عالٍ مرتفع يرون النار ويرون الجنة، يبقون فيه ما شاء الله وفي النهاية يدخلون الجنة، وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى أن أعطى كل إنسان ما يستحق، فمن ترجّحت حسناته فهو من أهل الجنة، ومن ترجحت سيئاته عذّب في النار إلى ما شاء الله، ومن كانت حسناته وسيئاته متساوية فهو من أهل الأعراف، لكنها -أي الأعراف- ليست مستقراً دائماً، وإنما المستقر: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، جعلني الله وإياكم من أهل الجنة " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (14/16) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/284)
والدتها أمية وتشك في البعث
[السُّؤَالُ]
ـ[والدتي أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، والصلاة تصليها، ولكن لا تعرف ما تقوله في الصلاة، ولا تحفظ سوى سورة الفاتحة فقط، ماذا أفعل يا شيخ حاولت أن أعلمها أركان الصلاة وماذا تقول فيها، ولكنها لا تستطيع لكبر سنها، ثانيا: لا تستطيع نطق الكلام بشكل جيد، وأيضا لا تؤمن بالحساب بعد الموت لا كفرا منها، ولكنها لكبرها لا تصدق، تقول: هل إذا مت سأعيش مرة أخرى؟ أرجو الرد، والدعاء لي ولها]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الإنسان إذا كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فالواجب أن يتعلم ما يقوله في صلاته وكيفية الصلاة، وكونه لا يقرأ ولا يكتب لا يمنع من ذلك؛ لأن هذا أمر سهل والحمد لله، فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أكثرهم لم يكن يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك كانوا يحسنون كيف يصلون.
وقراءة الفاتحة في الصلاة ركن من أركانها، وأما قراءة السورة بعدها فسنة مستحبة، فإذا لم تأت بها والدتك فلا شيء عليها، لكن ينبغي أن تعينيها على حفظ قصار السور كالإخلاص والمعوذتين.
وأما السجود فالذكر الواجب فيه هو قول: سبحان ربي الأعلى، مرة واحدة، والمستحب ألا يقل عن ثلاث مرات. وهذه الجملة لا شك في يسرها وسهولتها، وإنما التقصير والتفريط يقع من الإنسان.
وعلى كل ينبغي أن تترفقي بها، وأن تكوني لها عونا على الاستمرار في الصلاة، وتعليمها ما تحتاج إليه من الأذكار الواردة فيها، فإذا عجزت عن تعلِّم ذلك، وكانت تحسن الفاتحة كما ذكرت فإنها تدعو تسبح بما تحسنه، وما تعجز عنه فإنه يسقط عنها، ويعفى لها عنه.
روى أبو داود (792) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِرَجُلٍ: كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ. أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
قال شيخ الإسلام: " ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضى إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه وان كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون فان فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين " انتهى من مجموع الفتاوى (23/247)
ثانيا:
إنكار البعث بعد الموت أو الشك في حصوله كفر مخرج عن ملة الإسلام بالإجماع، لقيام الأدلة الصحيحة الصريحة من القرآن والسنة على إثبات البعث، بل العقل والفطرة السليمة يدلان عليه.
قال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) التغابن /7، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون/12- 16، وقال سبحانه: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يس/51، 52، وقال سبحانه (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) سورة يس/78-79 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على البعث والجزاء وما بعده من الجنة والنار، وكذلك الأحاديث المتواترة التي تخبر عن قيام الناس من القبور، وجمعهم في أرض المحشر، ووقوفهم حفاة عراة غرلا، ودنو الشمس من الرؤوس، وما يتلو ذلك من الحساب والجزاء، ودخول الجنة والنار.
وهذا الأمور من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، بل يعلمها غير المسلمين كاليهود والنصارى، فمن أنكرها أو شك فيها فهو كافر.
فالواجب عليك أن تبيني لها ما يكون من إكرام الله تعالى لأهل طاعته، بتيسير الحساب عليهم، وإدخالهم جنته ودار كرامته، وما أعده لأهل معصيته ومخالفته، من العذاب والهوان والشقاء حال الموت وفي القبر ويوم القيامة.
واهتمي معها ببيان كمال الله وعدله وحكمته ورحمته، وأنه لا يليق به أن يترك الناس من غير بعث ولا حساب: (أفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) المؤمنون/115-118، وأنه لا يليق به التسوية في نهاية المطاف بين المؤمن والكافر، الصالح والطالح: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) سورة ص/28، (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) سورة الجاثية/21، وأخبريها أن هذا الظن شتم لله وعيب وتكذيب له: روى البخاري (3193) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي وَيُكَذِّبُنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي)
واستعيني في تعليمها وإرشادها بمن تثق فيه من أبنائها وأقاربها.
نسأل الله تعالى أن يهديها ويصلح حالها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/285)
هل يرى المسلمُ مَن يشاء مِن نساء الجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن للمرء المسلم إن كان من أهل الجنة أن يرى صحابيات النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة إذا بلغ منازلهم، وكذلك الصالحات من النساء كرابعة العدوية وغيرها من النساء المؤمنات؟ وجزاكم الله خيراً]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليس في الجنة نظر سوء، ولا مرض قلب حتى يبحث الرجال في الجنة عن نساء غيرهم، ولا النساء يبحثن عن رجال يعرفونهم في الدنيا، فالجنة دار كرامة الله تعالى، لا فيها خبث ولا شر ولا سوء، وليس فيها شهوة محرمة لا تمنيّاً ولا وجوداً.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
رواه البخاري (3073) ومسلم (2834) .
وفي البخاري (3081) : (وَلاَ تَحَاسُد) .
ثانياً:
ومن نعيم الجنة للرجل أن يرزقه الله زوجات تقصر حبها ونظرها عليه، ولا ترى أحسن منها، ولا تشتهي غيره.
قال تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) الصافات/48.
قال الإمام الطبري – رحمه الله -:
يقول تعالى ذِكْره: وعند هؤلاء المخلصين من عباد الله في الجنة: قاصرات الطرف، وهنَّ النساء اللواتي قصرن أطرافهن على بعولتهن، لا يُردن غيرهم، ولا يمددن أبصارهن إلى غيرهم.
" تفسير الطبري " (21 / 41) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) أي: وعند أهل دار النعيم في محلاتهم القريبة حور حسان، كاملات الأوصاف، قاصرات الطرف، إما أنها قصرت طرفها على زوجها، لعفتها وعدم مجاوزته لغيره، ولجمال زوجها وكماله، بحيث لا تطلب في الجنة سواه، ولا ترغب إلا به، وإما لأنها قصرت طرف زوجها عليها، وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق، الذي أوجب لزوجها أن يقصر طرفه عليها، وقصر الطرف أيضاً يدل على قصر النفس والمحبة عليها، وكلا المعنيين محتمل، وكلاهما صحيح، وكل هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة، ومحبة بعضهم بعضا، محبة لا يطمح إلى غيره، وشدة عفتهم كلهم، وأنه لا حسد فيها، ولا تباغض، ولا تشاحن، وذلك لانتفاء أسبابه.
" تفسير السعدي " (ص 702) .
والظاهر أن قوله تعالى (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) ، وقوله تعالى (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ) ص/52: أنها في الحور العين، وفي نساء الدنيا من أهل الجنة، ومعنى (عين) : أي: واسعة العين، ومعنى (أتراب) أي: في سنٍّ واحدة.
ثالثاً:
ولن تكون امرأة في الجنة من غير زواج، فلكل امرأة زوج، وليس في الجنة أعزب.
عَنْ أبي هرَيْرَة رضَيَ الله عنه قال: قَالَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( ... وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ) رواه مسلم (2834) .
رابعاً:
وأما بخصوص هذه المسألة تحديداً: فالظاهر من النصوص أن المرأة تعيش مع زوجها وذريتها في مملكتها في الجنة، وأنها تكتفي بزوجها عن الناس – كما سبق -، ولم يرد نصٌّ خاص في رؤيتها للأجانب عنها هناك، ولا رؤية الرجال للصالحات والعابدات من المؤمنات من أهل الجنة.
قال الشيخ عبد الرحمن البراك – حفظه الله -:
إن أمور الغيب لا سبيل إلى معرفتها إلا بالخبر عن المعصوم؛ لأن أمور الغيب لا تدرك بالعقول والتفكير، فأمور الجنة من الغيب المستور، والواجب الوقوف عند ما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، فيجب الإيمان بالجنة وما أخبر الله به من أصناف النعيم فيها، مع العلم بأن حقائقها لا يعلمها إلا الله، ولم يأت في النصوص أن الرجل يلقى نساء الآخرة، فلم يرد نفي ولا إثبات للرؤية المسؤول عنها، وليس لنا أن نقول: إن الإنسان يمكن أن يرى أمهات المؤمنين، أو نقول: لا يمكن، بل يجب أن نمسك عن التفكير في هذا والخوض فيه، فإنه من الفضول، وليس مما يشرع الدعاء به، ولا مما يشرع تمنيه، لكن الذي دل عليه القرآن أن المؤمنين يلتقون ويجلسون على السرر متقابلين، كما قال تعالى: (ثلة من الأولين. وقليل من الآخرين. على سرر موضونة. متكئين عليها متقابلين) الواقعة/13 - 16، وفي الآية الأخرى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) الحِجر/47، فلا ينبغي الخوض في أمور الغيب بلا علم، بل إذا طرح مثل هذا السؤال فينبغي أن يجيب الإنسان بقوله: الله أعلم، ويوجه السائل إلى عدم الخوض في ذلك؛ لأنه لا فائدة فيه، (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) الإسراء/36، وقالت الملائكة: (سبحان لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) البقرة/32.
نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا جميعاً من أهل جنات النعيم، وصلى الله وسلم بارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
نقلاً عن " موقع الإسلام اليوم ".
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/286)
تمثل العمل الصالح رجلا في القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (عند موت الإنسان وأثناء انشغال أقربائه بمناسكِه الجنائزيةِ، يقفُ رجلٌ وسيمُ جداً بجوار رأس الميت. وعند تكفين الجثّة، يَدْخلُ ذلك الرجلِ بين الكفنِ وصدرِ الميّتِ. وبعد الدفنِ، يَعُودَ الناس إلى بيوتهم، ويأتي القبرِ ملكان مُنكرٌ ونكير، ويُحاولانَ أَنْ يَفْصلاَ هذا الرجلِ الوسيم عن الميتِ لكي يَكُونا قادرين على سؤال الرجلِ الميتِ في خصوصية حول إيمانِه. لكن يَقُولُ الرجل الوسيم: " هو رفيقُي، هو صديقُي. أنا لَنْ أَتْركَه بدون تدخّل في أيّ حالٍ منَ الأحوالِ. إذا كنتم معنينَّن لسؤالهِ، فاعمَلوا بما تؤمرونَ، أما أنا فلا أَستطيعُ تَرْكه حتى أدخلهْ إلى الجنة ِ". ويتحول الرجل الوسيم إلى رفيقه الميت ويَقُولُ له: " أَنا القرآن الذيّ كُنْتَ تَقْرؤُه بصوتٍ عالٍ أحياناً وبصوت خفيض أحياناً أخرى. لا تقلق. فبعد سؤال مُنكرٍ ونكير لا حزن بعد اليوم. وعندما ينتهى السؤال، يُرتّبُ الرجل الوسيم والملائكة فراش من الحرير مُلئ بالمسكِ للميت في الجنة) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي جاء في السنة النبوية الصحيحة من تمثل العمل الصالح، ومنه قيام العبد بالقرآن الكريم، بالرجل الحسن في القبر ما يلي:
1- عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ... إلى أن قال – في وصف حال المؤمن في القبر -:
فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ.
قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي)
رواه أحمد (4/362) وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (156)
2- عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول:
(َإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا. فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا)
رواه أحمد في "المسند" (394) وابن ماجه في "السنن" (3781) وحسنه البوصيري في الزوائد والألباني في "السلسلة الصحيحة" (2829)
يقول السيوطي في شرح الحديث (2/1242) :
" (كالرجل الشاحب) قال السيوطي: هو المتغير اللون، وكأنه يجيء على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا، أو للتنبيه له على أنه كما تغير لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيامة حتى ينال صاحبه الغاية القصوى في الآخرة." انتهى.
ولم أقف على شيء من السنة الصحيحة في تمثل العمل الصالح رجلا في القبر إلا هذين الحديثين.
أما الحديث الذي ذكرته – أخي السائل الكريم – فلم يرد في كتب السنة المعتمدة، ولم نقف له على إسناد صحيح ولا ضعيف، بل هو مما ينتشر في بعض المنتديات والمواقع من غير تحرٍّ ولا تثبت، ولعل بعض الجهلة من الناس كتبه من قبل نفسه ثم عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحث الناس على الاهتمام بالقرآن والعناية به، ولم يدر هؤلاء أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب التي توبق صاحبها في نار جهنم، وأن النية الحسنة لا ترفع الإثم عن هؤلاء الذين يكذبون ويضعون الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه البخاري (1291) ومسلم (4)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/287)
الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أنه قبل قيام الساعة لن يكون هناك مؤمنون ولن يذكر اسم الله، هل هذا قبل قيام الساعة مباشرة أم في الفترة قبل ظهور المسيح الدجال؟ أنا في حيرة من أمري بسبب هذه النقطة لأني أعلم أنه في آخر الزمان ستزيد نسبة المؤمنين ويرجع مرة أخرى تطبيق شرع الله، فكيف هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دلت السنة الصحيحة على أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، حين لا يقال في الأرض: الله. وذلك في آخر عمر الدنيا، بعد ظهور المسيح الدجال وقتله على يد عيسى بن مريم عليه السلام وظهور الإسلام وأهله، وتطبيق الشريعة في الأرض.
روى البخاري (2222) ومسلم (155) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) .
وفي رواية لمسلم: (وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ) .
والقلاص: الإبل الفتية.
قال النووي رحمه الله: " وَمَعْنَاهُ أَنْ يُزْهَد فِيهَا وَلَا يُرْغَب فِي اِقْتِنَائِهَا لِكَثْرَةِ الْأَمْوَال , وَقِلَّة الْآمَال , وَعَدَم الْحَاجَة , وَالْعِلْم بِقُرْبِ الْقِيَامَة. وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْقِلَاص لِكَوْنِهَا أَشْرَف الْإِبِل الَّتِي هِيَ أَنْفَس الْأَمْوَال عِنْد الْعَرَب. وَهُوَ شَبِيه بِمَعْنَى قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا الْعِشَار عُطِّلَتْ) وَمَعْنَى (لَا يُسْعَى عَلَيْهَا) : لَا يُعْتَنَى بِهَا أَيْ يَتَسَاهَل أَهْلهَا فِيهَا , وَلَا يَعْتَنُونَ بِهَا " انتهى.
فهذه مرحلة خير وإيمان وظهور لأهل الإسلام، ثم تأتي مرحلة أخرى فينقص عدد المؤمنين، حتى يرسل الله تعالى ريحا تقبض أرواحهم ولا يبقى إلا شرار الخلق، فعليهم تقوم الساعة.
روى مسلم (148) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ) .
وروى أحمد (3844) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ) حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
وجاء تفصيل هذه المراحل في الحديث الذي رواه مسلم (2940) عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، قَالَ: فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) .
قال النووي رحمه الله في شرحه: " قَوْله: (فِي كَبِد جَبَل) أَيْ وَسَطه وَدَاخِله. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَيَبْقَى شِرَار النَّاس فِي خِفَّة الطَّيْر وَأَحْلَام السِّبَاع) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ يَكُونُونَ فِي سُرْعَتهمْ إِلَى الشُّرُور وَقَضَاء الشَّهَوَات وَالْفَسَاد كَطَيَرَانِ الطَّيْر , وَفِي الْعُدْوَان وَظُلْم بَعْضهمْ بَعْضًا فِي أَخْلَاق السِّبَاع الْعَادِيَة.
وروى مسلم (2937) عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ. . . ثم ذكر نزول المسيح عيسى ابن مريم، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَاضًِا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، فَيَطْلُبُهُ (أي يطلب المسيح الدجال) حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ. . . ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ. . . فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ) .
(يَتَهَارَجُونَ تَهَارُج الْحُمُر) أَيْ: يُجَامِع الرِّجَال النِّسَاء بِحَضْرَةِ النَّاس كَمَا يَفْعَل الْحَمِير.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك لطاعته ومرضاته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/288)
يدعى الناس يوم القيامة بأسماء آبائهم لا أمهاتهم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الله يوم القيامة يدعو الناس بأسمائهم وأسماء أمهاتهم (فلان ابن فلانة) وما الرد على من يقول ذلك؟....وهل هناك دليل شرعي؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القول بأن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم، خطأ مخالف لما ثبت في السنة الصحيحة الدالة على أنهم ينسبون لآبائهم، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب ما يُدعى الناس بآبائهم، وساق تحته الحديث رقم (6177) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) .
والحديث رواه مسلم أيضا برقم (1735) .
وما ورد من أن الناس يدعون بأسماء أمهاتهم، ضعيف.
قال ابن القيم رحمه الله في "تحفة المودود بأحكام المولود" ص (147) : " الفصل العاشر في بيان أن الخلق يدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم. هذا الصواب الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة، ونص عليه الأئمة كالبخاري وغيره فقال في صحيحه: باب يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم، ثم ساق في الباب حديث ابن عمر قال قال رسول الله: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع الله لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) .
وفي سنن أبي داود [4948] بإسناد جيد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ) .
فزعم بعض الناس أنهم يدعون بأمهاتهم، واحتجوا في ذلك بحديث لا يصح، وهو في معجم الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان بن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيبه ثم يقول يا فلان بن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله) الحديث، وفيه: فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال فلينسبه إلى أمه حواء يا فلان ابن حواء)
[قال الهيثمي (3/163) : في إسناده جماعة لم أعرفهم. انتهى. وقال في كشف الخفاء (2/375) : وضعفه ابن الصلاح ثم النووي وابن القيم والعراقي والحافظ ابن حجر في بعض تصانيفه وآخرون]
قالوا: وأيضا فالرجل قد لا يكون نسبه ثابتا من أبيه كالمنفي باللعان وولد الزنى فكيف يدعى بأبيه؟
والجواب: أما الحديث فضعيف باتفاق أهل العلم بالحديث، وأما من انقطع نسبه من جهة أبيه فإنه يدعى بما يدعى به في الدنيا، فالعبد يُدعى في الآخرة بما يدعى به في الدنيا من أب أو أم والله أعلم " انتهى.
تنبيه: قد حمل بعضهم قول الله عز وجل: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) الإسراء/ 71 على هذا القول الضعيف [انظر القرطبي 10/257] .
قال الزمخشري: " ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء: رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا!! وليت شعري أيهما أبدع: أصحة لفظه، أم بهاء حكمته!!؟ " انتهى [الكشاف 2/682] .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/289)
الباعث الأول على الطاعة الحب والإجلال
[السُّؤَالُ]
ـ[أعبد الله ولا أرتكب المعاصي حبّاً فيه واستحياءً منه واحتراماً لجلاله، وليس طمعاً في الجنة أو خوفا من النار، هذا هو سؤالي، هل أنا على حق؟ إذا سألني أحد لماذا لا تزني، أرد عليه وأقول أستحيي من ربي، ولا أقول أخاف من النار؛ لأني أعتقد أن الاحترام أصدق من الخوف، أفيدوني لو سمحتم في أقرب وقت على عنواني الخاص.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ربنا تبارك وتعالى هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الذي له الألوهية المطلقة، يستحق العبادة والمحبة لكمال ذاته وعظيم صفاته، تألهه قلوب العابدين لجلاله وكماله، ويعبده كل ما دونه لاستحقاقه صفات الحمد والتأله، هذا هو معنى ألوهيته الذي علمه سبحانه لأنبيائه ورسله، وهذا ما ينبغي أن يعيه كل من شهد أنه لا إله إلا هو سبحانه.
يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء/25.
ويقول عز وجل: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْري) طه/13-14.
فقد رتب العبادة على تفرده سبحانه بالألوهية، واستحقاقه أن يحمد ويعبد لكمال ذاته وعظيم صفاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد، وأن يحب لأجله رسوله، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته، كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به.
" مجموع الفتاوى " (7 / 541) .
وقال - رحمه الله -:
فقوله: (لا إله إلا أنت) فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل.
" مجموع الفتاوى " (10 / 249) .
ومن هنا ندرك أنه ينبغي أن يكون الباعث الأول على العبادة هو ما لله سبحانه من الجلال والعظمة والكمال، وما تفرد به سبحانه من صفات الألوهية والربوبية، ثم الباعث الثاني إنعام الله على عباده، وإحسانه إليهم، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
أصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى، ولها أصلان:
أحدهما: وهو الذي يقال له (محبة العامة) لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، والله سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم وإن جرت بواسطة، إذ هو مُيَسِّرُ الوسائط، ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة فى الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الله نفسه فما أحبَّ العبدُ في الحقيقة إلا نفسَه، وكذلك كل من أحب شيئا لأجل إحسانه إليه، فما أحب فى الحقيقة إلا نفسه، وهذا ليس بمذموم بل محمود، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه.
الأصل الثانى فيه: هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التى يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه، حتى جميع مفعولاته، إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ولهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة، وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون، وهم السابقون.
كما فى صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) .
وفى رواية أخرى: (قَالُوا وَمَا الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا) رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ".
" مجموع الفتاوى " (10 / 84) .
ثانياً:
ومن أحب الله لكماله وجلاله واستحقاقه المحبة والتأله والتعبد لا شك أنه يحب قربَه سبحانه، ويتشوف إلى النظر إليه، ويتشوق إلى لقائه، يسعى للحصول على رضاه، ويرجو أن ينال محبته وكرمه ويكون عنده من المقربين.
وذلك كله لا يكون إلا بدخول الجنة التي هي محل رضوان الله، وفيها ينظر أهلها إلى وجه الله، وتمتلئ قلوبهم بمحبة معبودهم وإلههم الذي تنفطر القلوب شوقا إليه وإجلالا له، كما يكون فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
هذه هي الجنة التي طمَّعنا الله فيها، وطَمِعَ بها الأنبياء والصالحون والأولياء، كي يكونوا فيها بجوار الكريم سبحانه، ويتنعمون فيها برضوانه والقرب منه، فذلك أكبر لذات الجنة.
يقول سبحانه وتعالى: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/72.
وبهذا نعلم أن ليس ثمة تعارض بين عبادة الله محبة له وإجلالا، وبين سؤال الجنة وطلبها والشوق إليها والحرص على المسابقة إليها، وكذا الاستعاذة من النار والخوف منها، فإن العبد الذي يحب الله لذاته إذا استحضر أن الجنة دار رضوان الله ودار كرامته، وأنه سيجد فيها من قرب الله ما يزيد محبته وأنسه وشوقه: فلا شك أنه سيعمل لدخولها، ويسعى للدرجات العلى منها، ويحتسب طاعاته في الدنيا وسائلَ تقربه إليها وتبعده عن النار التي هي دار المهانة والبعد والغضب والعذاب.
ثالثا:
وأنتِ - أختنا الفاضلة - إذا تصورتِ معي ما سبق علمت خطأك حين ظننت أن الطمع في الجنة والخوف من النار يتعارض مع محبة الله إجلالا وتعظيما؛ لأن محبة الله تعني الشوق إليه، والرغبة في القرب منه، والسعي إلى رضوانه وتجنب سخطه؛ ولأن المحب يشتاق إلى محبوبه، وعذابه في البعد عنه، فكيف بسخطه عليه.
ولكن لما توهم كثير من الناس أن نعيم الجنة إنما هو طعام وشراب وحور عين ونحوها من اللذات الحسية قامت في أذهانهم تلك المعارضة بين محبة الله وعبادته وبين سؤال الجنة والاستعاذة من النار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه فى قول من قال: ما عبدتك شوقاً إلى جنَّتك ولا خوفاً من نارك، وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك.
فإن هذا القائل ظنَّ هو ومن تابعه أن الجنة لا يدخل فى مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله: (مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ) قال: فأين من يريد الله؟! وقال آخر فى قوله تعالى: (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنينَ أنْفُسَهُم وَأَمْوَالُهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ) قال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه؟! .
وكل هذا لظنِّهم أنَّ الجنَّة لا يدخل فيها النظر، والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الله، وهو من النعيم الذى ينالونه فى الجنة كما أخبرت به النصوص، وكذلك أهل النار، فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق ناراً، أو لو لم تخلق جنَّة لكان يجب أن تعبد، ويجب التقرب إليك، والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق.
" مجموع الفتاوى " (10 / 62، 63) .
ويقول ابن القيم - رحمه الله -:
والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسماً لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة، فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا، فأيسر يسير من رضوانه: أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر) التوبة/72، وأتى به مُنَكَّرًا في سياق الإثبات، أي أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبر من الجنة.
قليل منك يقنعني ... ولكن قليلك لا يقال له قليل
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية: (فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه) وفي حديث آخر: (أنه سبحانه إذا تجلى لهم ورأوا وجهه عيانا: نسوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه ولم يلتفوا إليه) .
ولا ريب أن الأمر هكذا، وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة، فإن المرء مع من أحب، ولا تخصيص في هذا الحكم بل هو ثابت شاهدا وغائبا، فأي نعيم وأي لذة وأي قرة عين وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه ولا أكمل ولا أجمل قرة عين ألبتة؟ .
وهذا - والله - هو العلَم الذي شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمه العارفون، وهو روح مسمى الجنة وحياتها، وبه طابت الجنة وعليه قامت.
فكيف يقال: " لا يعبد الله طلباً لجنته ولا خوفاً من ناره "؟! .
وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته وغضبه وسخطه والبعد عنه: أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم، بل التهاب هذه النار في قلوبهم: هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم، ومنها سرت إليها.
فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين: هو الجنة، ومهربهم: من النار. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.
" مدارج السالكين " (2 / 80، 81) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/290)
اعتقاد المسلمين في مصير الملاحدة يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أدرس الإسلام كجزء من دراستي وأتساءل عن موقف الإسلام من الملحدين. هل يعتقد المسلمون أن مصير الملحدين إلى الجحيم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اهتمامك أيتها السائلة الكريمة بدراسة الإسلام أمر عظيم تُشكرين عليه وعلى الإنسان أن يبحث عن الحقّ أينما كان ويتبّعه ولو خالف آباءه وأجداده ودين بلده ومجتمعه لأنّ نجاة نفسه يوم القيامة من عذاب جهنم مقدّمة على كلّ شيء.
ومن الأمور المهمة لمن أراد أن يدرس دين الإسلام أن يرجع إلى مراجع الإسلام الأصيلة لمعرفة حقيقة هذا الدين كترجمة معاني القرآن الكريم ومعاني أحاديث رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأن تكون الترجمة صحيحة سليمة. وأما دراسة الإسلام من مراجع وكتب كتبها غير المسلمين أو ممن لا يعلمون حقيقة الدين ولا مارسوه فهو أمر مناف لمنهج البحث العلمي والطريقة الصحيحة للتوصّل إلى الحقيقة.
وعودا إلى السؤال الذي أرسلت به وهو ما اعتقاد المسلمين في الموحدين من غير المسلمين؟ وهل سيكون مصيرهم النار يوم القيامة؟ فالجواب على ذلك بكلّ وضوح أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وأنعم عليهم بجميع النعم وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وأخبرهم أنّ من وحّده وعبده وحده لا شريك له دخل الجنة ومن جحده أو أشرك به وعبد معه غيره أو اتخذ آلهة أخرى من دونه أو جعل له زوجة أو ولدا أو جعل الملائكة بناته أو اتبع غير شرعه الذي أنزله ليحكم بين الناس بالحقّ أو ترك دينه وأعرض عنه أنّه سيكون يوم القيامة في عذاب جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، وهذا عين العدل وهو ما يستحقّه هذا الذي ظلم ربّه وخالقه وموجده من العدم وصاحب النّعم.
وعبادة البشر لله وطاعتهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه أمر أساس بل هو حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق كما قال الله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وكانت الرسل تبعث بأمر واحد يقولونه لأقوامهم وهو " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ".
وهنا يمكن معرفة النقص العظيم الذي يحصل لمن اعتقد أنّ الله واحد لا شريك له ثمّ لم يعبده ولم يطع له أمرا بل عصاه وخالفه ولم يتبّع دينه ولا شرعه ولا وحيه ولا رسله الذين أرسلهم له ولأمثاله. فهل يستحقّ هذا دخول الجنة أم النار؟
فهذا الذي يقول أنا أعتقد أنّ هناك إلها واحدا خلق الكون ولكنني سأقف عند هذا الحدّ فلن أصلي له ولن أصوم ولن أحجّ ولن أؤدي زكاة مالي كما أمر ولن أقوم تجاهه بأيّ واجب وسأتّبع هواي وأفعل ما أشاء سواء كان مما أحلّه أو مما حرّمه فهل يمكن أن ينجو مثل هذا يوم القيامة؟
وقد بعث الله في كلّ أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، وكانت آخر الأمم هذه الأمة وآخر رسول هو محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى هذه البشرية وإلى العالم كافة ونسخ الله به سائر الشرائع السابقة وجعل دينه أكمل الأديان وأتمها وأفضلها وأعلاها وأوجب على كلّ أحد أن يدخل في هذا الدين وأخبر سبحانه وتعالى أنه " من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " وبناء على هذا يتبين - من زاوية أخرى - مصير الذي يقول أنا أؤمن بفكرة الإله الواحد ولكنني لا أريد أن أكون مسلما ولا أن أعتنق آخر الأديان ولا أن أتبّع آخر الرسل وخاتمهم.
وختاما فإنني أرجو أن تكون القضية قد اتضحت لك أيتها السائلة الكريمة، أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى الحقّ ويرزقنا اتباعه إنه نعم المولى ونعم النصير.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/291)
هل المهدي موجود الآن؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الإمام المهدي المنتظر يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم. وما الأصوات المتعالية في هذه الأيام الأخيرة على وجوده وانه قد ولد أي أنه حي في وقتنا هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله:
خروج المهدي في آخر الزمان وأنه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً أمر وردت به السنة الصحيحة حتى إن بعض أهل العلم بالحديث قال: إن أحاديث المهدي متواترة من كثرتها ونزول عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة وسلام وصلاته خلفه أمر معلوم، واسم المهدي واسم أبيه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه وهو من ولد فاطمة رضي الله عنها، ويجب أن تعلم أن هذا المهدي الذي وردت به الأحاديث ليس المنتظر المزعوم الذي تذكره تلك الطائفة المنحرفة الاثنا عشرية التي تزعم أنه دخل السرداب وأنه ينتظر الأمر بالخروج ويقولون: اسمه محمد بن الحسن العسكري، فهذا وهم وخرافة، والرد على ذلك مبسوط في الكتب وليست هذا محل بسط ذلك، ولكن ننصح بقراءة منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ومختصراته كمنهج الاعتدال للذهبي، وكتاب التحفة الاثنى عشرية لمحب الدين الخطيب، ولا بد أن تعلم أن كل طائفة تنتظر مهدي فاليهود ينتظرون المهدي، وهو عندهم المسيح الدجال الذي سيتبعه يهود أصبهان، والنصارى ينتظرون مهدياً وهو نزول المسيح، ولا شك عندنا – نحن المسلمين – في نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ويحكم بشريعة الإسلام وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها.
وقد ظهر في التاريخ دجالون ادعوا المهدية وقد عدهم بعض الباحثين فأوصلهم أكثر من ثلاثين منهم ابن تومرت في المغرب ومهدي السودان وغيرهم.
وأما القول بأنه موجود الآن، وأنه قد وُلِد، فهذه مجرد دعوى يدعيها البعض، ولا دليل عليها، والأقرب أ، ها خرافة، والأحاديث التي وردت في شأن المهدي لم تذكر أين يولد، ولا متى يولد ن ولم تأمرنا بالبحث عنه ولا بالقيام بتربيته، بل بيّنت أن الله تعالى يصلحه في ليلة، وأن المسلمين يبايعونه على الخلافة ويجتمعون عليه.
ومتى يكون ذلك؟!
عِلمُه عند الله.
والله تعالى أعلم
وانظر كتاب المهدي وفقه أشراط الساعة للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/292)
حشر الناس والدواب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن تخبرنا عن هيئة الناس عند البعث؟ هل سيكونون بملابس أم لا؟ وهل الحيوانات ستقوم بعد الموت أم لا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سمى الله تعالى يوم القيامة بيوم الجمع لأن الله يجمع فيه العباد إنسهم وجنهم قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) هود / 103. وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الواقعة / 49-50. وقال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) مريم / 93-95. وقال تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) الكهف / 47.
ومما يدخل في هذا الحشر حشر البهائم، يقول شيخ الإسلام:
وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام / 38. وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) التكوير / 5. وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) الشورى / 29. وحرف (إذا) إنما يكون لما يأتي لا محالة والأحاديث في ذلك مشهورة، فإن الله عز وجل يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها: كوني ترابا فتصير ترابا، فيقول الكافر حينئذ: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً) النبأ / 40. ومن قال إنها لا تحيا فهو مخطئ في ذلك أقبح خطأ، بل هو ضال أو كافر والله أعلم. اهـ
مجموع الفتاوى 4/248.
روى أحمد (20534) عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا، وَشَاتَانِ تَقْتَرِنَانِ، فَنَطَحَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى فَأَجْهَضَتْهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَجِبْتُ لَهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُقَادَنَّ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أي لَيُقْتَصَّنَّ لها.
قال أحمد شاكر: إسناده حسن متصل اهـ.
وروى مسلم (2582) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) .
والجلحاء هي التي لا قرن لها.
قال النووي:
هَذَا تَصْرِيح بِحَشْرِ الْبَهَائِم يَوْم الْقِيَامَة، وَإِعَادَتهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا يُعَاد أَهْل التَّكْلِيف مِنْ الآدَمِيِّينَ، وَكَمَا يُعَاد الأَطْفَال وَالْمَجَانِين وَمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ دَعْوَة، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِل الْقُرْآن وَالسُّنَّة. قَالَ اللَّه تَعَالَى: (وَإِذَا الْوُحُوش حُشِرَتْ) وَإِذَا وَرَدَ لَفْظ الشَّرْع، وَلَمْ يَمْنَع مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِره عَقْل وَلا شَرْع وَجَبَ حَمْله عَلَى ظَاهِره. قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَ مِنْ شَرْط الْحَشْر وَالإِعَادَة فِي الْقِيَامَة الْمُجَازَاة وَالْعِقَاب وَالثَّوَاب، وَأَمَّا الْقِصَاص مِنْ الْقَرْنَاء لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِصَاص التَّكْلِيف إِذْ لا تَكْلِيف عَلَيْهَا , بَلْ هُوَ قِصَاص مُقَابَلَة. وَاَللَّه أَعْلَم اهـ.
ويحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا –أي غير مختونين- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عنْهمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا) ثُمَّ قَرَأَ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ َصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) رواه البخاري 3349.
وعن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ! فَقَالَ: (الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ) رواه البخاري 6527.
وجاء في الحديث أن الإنسان يبعث في الثياب التي مات فيها عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا) رواه أبو داود (3114) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة 1671.
ولعل هذا الحديث يشكل مع ما قبله من أن العباد يبعثون عراة، فأجاب العلماء بأجوبة للتوفيق بين الأحاديث فمن أوجه الجمع:
1- أنهم يبعثون فيها ثم تبلى بعد القيام فإذا وافوا الموقف كانوا عراة.
2- أنهم يبعثون عراة ثم إذا كسي الأنبياء والصديقون ومن بعدهم كُسِيَ كلٌّ من جنس ما مات فيه من الثياب.
3- وحمل بعض العلماء هذا الحديث على الشهداء فإنهم هم الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا في ثيابهم التي ماتوا فيها. فيبعثون في ثيابهم تمييزاً لهم عن غيرهم.
4- أن المراد بالثياب الأعمال الصالحة كما قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) وقوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) والمعنى يبعث المرء على ما مات عليه من عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، يدل عليه حديث جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَقُولُ يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ) رواه مسلم 2878 وحديث ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ) رواه البخاري 7108، ومما يدل عليه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلا تُحَنِّطُوهُ وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) رواه البخاري 1265، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ) رواه البخاري 237، ومن هنا استحب تلقين الميت لا إله إلا الله وذلك لتكون هذه الكلمة الطيبة آخر كلامه من الدنيا وعليها يبعث يوم القيامة.
انظر فتح الباري (11/383) .
ويحشر الناس في ذلك اليوم على أرض أخرى غير هذه الأرض، ولها خصائص معينة بينتها السنة فعن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ) قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَد. رواه البخاري 6521.
والعفراء أي بيضاء تضرب إلى الحمرة قليلا وقيل بيضاء بياضا غير ناصع وقيل خالصة البيضاء.
وقرصة النقي هي القرصة من الدقيق النقي من الغش والنخال.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/293)
الذين لم تصلهم أي معلومات عن الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا سيحدث لهؤلاء الذين لم تصل إليهم أية معلومات عن الإسلام؟ وما هو حكمهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أجاب الشيخ عبد الرحمن البراك عن هذا السؤال بما يلي:
الذين لم تصلهم دعوة الإسلام أو وصلت إليهم على وجه غير صحيح فهولاء يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) . انتهى والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/294)
البعث بعد الموت
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يتم إعادة خلق الإنسان على أي شكل آخر بعد موته وحتى يوم القيامة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا مات ابن آدم تحلَّل جسده وفني إلا عجْب الذنب وهي عظم في أسفل الظهر، فإذا قامت القيامة أنبت الله تعالى الأجساد بمطر على الأرض يُنبت الأجساد من هذا العظم فيعود خلق الإنسان كما كان قبل موته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون. قال: أربعون يوما؟ قال: أبيتُ، قال: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت.
قال: ثم يُنزل اللهُ من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجْب الذنَب ومنه يركب الخلق يوم القيامة. رواه البخاري (4651) ومسلم (2955) .
قال النووي:
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة أربعين يوما قال: أبيت. . . إلى آخره) معناه: أبيتُ أن أجزم أن المراد أربعون يوماً، أو سنةً، أو شهراً، بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة، وقد جاءت مفسرة من رواية غيره في غير مسلم أربعون سنة.
قوله: (عجَب الذنَب) هو بفتح العين وإسكان الجيم أي العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص، ويقال له (عجم) بالميم، وهو أول ما يخلق من الآدمي، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه. " شرح مسلم " (18 / 92) .
وإذا خرج من قبره وحشر وحوسب يبقى جسده كما كان قبل موته، فإذا دخل أهل الجنة الجنَّةَ، ودخل أهل النار النارَ غيَّر الله صُوَرهم وأشكالهم.
صفة أهل النار:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ". رواه البخاري (6186) ومسلم (2852) .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضرس الكافر - أو: ناب الكافر - مثل أُحُد، وغِلَظ جلده مسيرة ثلاث ". رواه مسلم (2851) .
صفة أهل الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورَشَحهم المسك، ومجامرهم الأَلُوَّة الألنجوج عود الطيب، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء ". رواه البخاري (3149) ومسلم (2834) .
رشحهم: عرقهم.
مجامرهم: مباخرهم.
الأَلُوَّة الألَنجوج: عود يُتَبخر به، والألنجوج تفسير لـ: الألوة، و "عود الطيب ": تفسير التفسير، كذا في " فتح الباري " (6 / 367) .
عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يَدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة ". رواه الترمذي (2545) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (8072) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/295)
القصاص بين البهائم يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن هناك قصاصاً بين الحيوانات يوم القيامة، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحاً فكيف يحصل لها ذلك وهي غير مكلفة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي له شواهد وطرق كثيرة - قوله: (يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: " يا ليتني كنت تراباً ".
صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1966
ومن الطرق التي ذكرها للحديث:
- (يقتص الخلق بعضهم من بعض، حتى الجماء من القرناء، وحتى الذّرة من الذرة)
- عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً، وشاتان تقترنان، فنطحت إحداهما الأخرى فأجهضتها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يضحكك يا رسول الله! قال: " عجبت لها، والذي نفسي بيده، ليقادنّ لها يوم القيامة "
- (يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا، قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما)
قال النووي في شرح مسلم تحت حديث الترجمة:
(هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال والمجانين، ومن لم تبلغه الدعوة، وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة، قال الله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) ، وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع، وجب حمله على ظاهره، قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب، وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف، إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة، و (الجلحاء) بالمد هي الجماء التي لا قرن لها، والله أعلم. انتهى.
ونقل عنه العلامة الشيخ علي القاري في المرقاة (4/761) أنه قال:
(فإن قيل: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟ قلنا: إن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل، والغرض منه إعلام العباد أن الحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم) .
قال القاري: (وهو وجه حسن وتوجيه مستحسن ... ، وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف؟)
انظر السلسلة الصحيحة ص 612.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/296)
هل يدعو الشيطان المحتضر لليهودية والنصرانية؟ ما معنى " فتنة الممات "؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن من فتن القبر تشكل شيطانين في صورة الوالدين وقولهما إنا اتبعنا اليهودية والنصرانية فأدخلَنا الله الجنة؟ وهل هو قبل نزول منكر ونكير؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس على هذا القول دليل من الكتاب والسنة، بل هو من أقوال بعض أهل العلم، وليس هو في القبر، بل عند الاحتضار قبل قبض الروح، وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا داخل في "فتنة المحيا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وعرض الأديان على العبد عند الموت ليس عاما لكل أحد , ولا هو أيضاً منفي عن كل أحد، بل من الناس من لا تعرض عليه الأديان , ومنهم من تعرض عليه، وذلك كله من فتنة المحيا التي أمرنا الرسول أن نستعيذ في صلاتنا منها، ووقت الموت يكون الشيطان أحرص ما يكون على إغواء بني آدم " انتهى من "الاختيارات" (ص 85) .
ولا يزال الشيطان حريصاً على إغواء الإنسان ما دامت روحه في جسده، فيأتيه ويوسوس له ويزين له الباطل.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
رواه أحمد (10974) ، وحسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب " (1617) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من " فتنة المحيا والممات "، وندب المصلين إلى الاستعاذة منها قبل السلام من الصلاة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال) رواه البخاري (1311) ومسلم (588) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" قوله: " ومن فتنة المحيا والممات " معطوفة على " من عذاب جهنم "، والمراد بالفتنة: اختبار المرء في دينه؛ في حياته وبعد مماته، وفتنة الحياة عظيمة وشديدة، وقلَّ من يتخلَّص منها إلا مَنْ شاء الله، وهي تدور على شيئين:
1 – شُبُهات.
2 – شهوات.
أما الشُّبُهات: فتعرض للإنسان في عِلْمِه ِ، فيلتبس عليه الحقُّ بالباطل، فيرى الباطل حقًّا، والحقَّ باطلاً، وإذا رأى الحقَّ باطلاً تجنَّبه، وإذا رأى الباطلَ حقّاً فَعَلَهُ.
وأمَّا الشَّهوات فتعرض للإنسان في إرادته، فيريد بشهواته ما كان محرَّماً عليه، وهذه فتنة عظيمة، فما أكثر الذين يرون الرِّبا غنيمة فينتهكونه! وما أكثر الذين يرون غِشَّ النَّاسِ شطارةً وجَودةً في البيع والشِّراء فيغشُّون! وما أكثر الذين يرون النَّظَرَ إلى النساء تلذُّذاً وتمتُّعاً وحرية، فيطلق لنفسه النظر للنساء! بل ما أكثر الذين يشربون الخمر ويرونه لذَّة وطرباً! وما أكثر الذين يرون آلاتِ اللهو والمعازف فنًّا يُدرَّسُ ويُعطى عليه شهادات ومراتب!
وأما فتنة الممات: فاختلف فيها العلماءُ على قولين:
القول الأول: إن " فتنة الممات ": سؤال الملَكَين للميِّت في قَبْرِه عن ربِّه، ودينه ونبيِّه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه أُوحِيَ إليَّ أنكم تُفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدَّجَّال) ، فأمَّا مَنْ كان إيمانُه خالصاً فهذا يسهل عليه الجواب.
فإذا سُئل: مَنْ ربُّك؟ قال: ربِّي الله.
مَنْ نبيُّك؟ قال: نبيِّي محمَّد.
ما دينك؟ قال: ديني الإسلام، بكلِّ سُهولة.
وأما غيره - والعياذ بالله - فإذا سُئل قال: هاه ... هاه ... لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
وتأمل قوله: " هاه ... هاه ... " كأنه كان يعلم شيئاً فنسيه، وما أشدَّ الحسرة في شيء علمتَه ثم نسيتَه؛ لأن الجاهل لم يكسب شيئاً، لكن النَّاسي كسب الشيء فخسره، والنتيجة يقول: لا أدري مَنْ ربِّي، ما ديني، مَنْ نبيي، فهذه فتنة عظيمة؛ أسألُ الله أن ينجِّيني وإيَّاكم منها، وهي في الحقيقة تدور على ما في القلب، فإذا كان القلب مؤمناً حقيقة: يرى أمور الغيب كرأي العين، فهذا يجيب بكلِّ سُهولة، وإن كان الأمر بالعكس: فالأمر بالعكس.
القول الثاني: المراد بـ " فتنة الممات ": ما يكون عند الموت في آخر الحياة، ونصَّ عليها - وإنْ كانت مِن فتنة الحياة - لعظمها وأهميتها، كما نصَّ على فِتنة الدَّجَّال مع أنها مِن فتنة المحيا، فهي فِتنة ممات؛ لأنها قُرب الممات، وخصَّها بالذِّكر لأنها أشدُّ ما يكون؛ وذلك لأن الإنسان عند موته ووداع العمل صائر إما إلى سعادة، وإما إلى شقاوة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتابُ؛ فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ) فالفتنة عظيمة.
وأشدُّ ما يكون الشيطانُ حرصاً على إغواء بني آدم في تلك اللحظة، والمعصومُ مَنْ عَصَمَه الله، يأتي إليه في هذه الحال الحرجةِ التي لا يتصوَّرها إلا من وقع فيها، قال تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) القيامة/26– 30، حال حرجة عظيمة، الإنسانُ فيها ضعيفُ النَّفْسِ، ضعيفُ الإِرادة، ضعيفُ القوَّة، ضيقُ الصَّدر، فيأتيه الشيطانُ ليغويه؛ لأن هذا وقت المغنم للشيطان، حتى إنه كما قال أهل العلم: قد يعرضُ للإِنسان الأديان اليهودية، والنصرانية، والإسلامية بصورة أبويه، فيعرضان عليه اليهودية والنصرانية والإسلامية، ويُشيران عليه باليهودية أو بالنصرانية، والشيطان يتمثَّلُ كُلَّ واحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أعظم الفِتَن ِ.
ولكن هذا - والحمد لله - لا يكون لكلِّ أحدٍ، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وحتى لو كان الإنسان لا يتمكَّن الشيطان من أن يَصِلَ إلى هذه الدرجة معه، لكن مع ذلك يُخشى عليه منه.
يقال: إنَّ الإمام أحمد وهو في سكرات الموت كان يُسمَعُ وهو يقول: بعدُ، بعدُ، فلما أفاق قيل له في ذلك؟ قال: إنَّ الشيطان كان يعضُّ أنامله يقول: فُتَّني يا أحمد، يعضُّ أنامله ندماً وحسرة كيف لم يُغوِ الإمام أحمد! فيقول له أحمد: بعدُ، بعدُ، أي: إلى الآن ما خرجت الرُّوح، فما دامت الرُّوح في البدن فكلُّ شيء وارد ومحتمل، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) آل عمران/8، في هذه الحال فتنة عظيمة جدّاً، ولهذا نصَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها قال: " مِن فِتنة المحيا والممات ".
فالحاصل: أنَّ فتنة الممات فيها تفسيران:
التفسير الأول: الفتنة التي تكون عند الموت.
والثاني: التي تكون بعد الموت، وهي سؤال الملكين الإنسان عن رَبِّه ودينه ونبيِّه.
ولا مانع بأن نقول: إنَّها تشمَلُ الأمرين جميعاً، ويكون قد نصَّ على الفتنة التي قبل الموت وعند الموت؛ لأنَّها أعظم فتنة تَرِدُ على الإنسان، وذكر ما يُخشى منها من سوء الخاتمة إذا لم يُجِرِ اللَّهُ العبد من هذه الفتنة.
وعلى هذا ينبغي للمتعوِّذ مِن فِتنة الممات أن يستحضر كلتا الحالتين.
" الشرح الممتع " (3 / 185 – 188) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/297)
هل يزور أو يشعر أو يرى الأموات بعضهم بعضا في القبور؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يزور أو يشعر أو يرى الأموات بعضهم في القبور؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نعم، ثبت لقاء أرواح المؤمنين وتزاورهم، وهذه بعض الأحاديث الدالة على ذلك مع بعض فتاوى أهل العلم في هذه المسألة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنْ الأَرْضِ فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ مَاذَا فَعَلَ فُلانٌ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا. فَإِذَا قَالَ: أَمَا أَتَاكُمْ؟ قَالُوا: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ ـ كساء من شعر ـ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ فَيَقُولُونَ مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ) رواه النسائي (1833) وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (2758) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما قوله " هل تجتمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه؟ ": ففي الحديث عن أبى أيوب الأنصارى وغيره من السلف ورواه أبو حاتم فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم: " أن الميت إذا عرج بروحه تلقته الأرواح يسألونه عن الأحياء فيقول بعضهم لبعض: دعوه حتى يستريح، فيقولون له: ما فعل فلان؟ فيقول: عمِل عمَل صلاح، فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقول: ألم يقدم عليكم؟ فيقولون: لا، فيقولون: ذُهب به إلى الهاوية ".
ولما كانت أعمال الأحياء تُعرض على الموتى: كان أبو الدرداء يقول: " اللهم إنى أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة "، فهذا اجتماعهم عند قدومه يسألونه فيجيبهم.
وأما استقرارهم فبحسب منازلهم عند الله، فمَن كان من المقرَّبين: كانت منزلته أعلى مِن منزلة مَن كان مِن أصحاب اليمين، لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل والأسفل لا يصعد إلى الاعلى، فيجتمعون إذا شاء الله كما يجتمعون فى الدنيا، مع تفاوت منازلهم ويتزاورون.
وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة، قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن، وقد تفترق مع تقارب المدافن، يدفن المؤمن عند الكافر، وروح هذا في الجنة، وروح هذا في النار، والرجلان يكونان جالسيْن أو نائميْن في موضعٍ واحدٍ وقلبُ هذا ينعَّم، وقلب هذا يعذَّب، وليس بين الروحيْن اتصال، فالأرواح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " رواه مسلم (2638) .) " مجموع الفتاوى " (24 / 368) .
قال ابن القيم:
المسألة الثانية وهى أن ارواح الموتى هل تتلاقي وتتزاور وتتذاكر أم لا؟
وهي أيضاً مسألة شريفة كبيرة القدر وجوابُها: أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعَّمة؛ فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) النساء/69 وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، و " المرء مع من أحب " في هذه الدور الثلاثة، ... وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر/27-30 أي: ادخلي جملتهم وكوني معهم، وهذا يقال للروح عند الموت ... وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وأنهم (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) وأنهم (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) وهذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم عند ربهم يرزقون، وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون، الثاني: أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم ولقائهم لهم، الثالث: أن لفظ " يستبشرون " يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضاً مثل يتباشرون. " الروح " (ص 17، 18) .
وقد وردت أحاديث تنص على تزاور الموتى والأمر بتحسين الكفن لأجل هذا، ولكن لم يصح منها حديث، ومنها حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولى أخاه فليحسن كفنه فإنهم يتزاورون فيها." شعب الإيمان " (7 / 10) .
وفيه " سلم بن إبراهيم الورَّاق " كذَّبه ابن معين والذهبي، وضعفه آخرون.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/298)
حساب الكافر في الآخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[الإنسان المؤمن محل الحساب يوم القيامة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فكيف يكون الكافر محلاً للحساب كذلك وهو غير مطالب بالتكليفات المطالب بها المؤمن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا السؤال مبني على فهم ليس بصحيح، فإن الكافر مطالب بما يُطالب به المؤمن لكنه غير ملزم به في الدنيا، ويدل على أنه مطالب قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين) فلولا أنهم تأثروا بترك الصلاة وترك الطعام وإطعام المساكين لولا أنهم تأثروا بترك بذلك ما ذكروه، وهذا دليل على أنهم يعاقبون على فروع الإسلام وكما أن هذا هو مقتضى الأثر فهو أيضاً مقتضى النظر، فإذا كان الله تعالى يعاقب عبده المؤمن على ما أخل به من واجب في دينه فكيف لا يعاقب عبده الكافر؟ بل إني أزيدك أن الكافر يعاقب على كل ما أنعم الله به عليه من طعام وشراب وغيره قال تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) .
فمنطوق الآية رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموه، ومفهومها وقوع الجناح على الكافرين فيما طعموه، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فإن قوله: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) دليل على أن غير المؤمن ليس له حق في أن يستمتع بها، أقول ليس له حق شرعي، أما الحق بالنظر إلى الأمر الكوني وهو أن الله سبحانه وتعالى خلقها وانتفع بها هذا الكافر فهذا أمر لا يمكن إنكاره، فهذا دليل على أن الكافر يحاسب حتى على ما أكل من المباحات وما لبس، وكما أن هذا مقتضى الأثر فإنه مقتضى النظر، إذ كيف يتمتع هذا الكافر العاصي لله الذي لا يؤمن به كيف يحق له عقلاً أن يستمتع بما خلقه الله عز وجل وما أنعم الله به على عباده؟ إذا تبين لك هذا فإن الكافر يحاسب يوم القيامة على عمله، ولكن حساب الكافر على عمله يوم القيامة ليس كحساب المؤمن لأن المؤمن يحاسب حساباً يسيراً، يخلو به الرب عز وجل ويقرره بذنوبه حتى يعترف ثم يقول له سبحانه وتعالى: (قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) أما الكافر – والعياذ بالله – فإن حسابه أن يٌقرر بذنوبه ويُخزى بها على رؤوس الأشهاد، (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)
[الْمَصْدَرُ]
من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين في كتاب فتاوى إسلامية 1/82.
(1/299)
حقيقة الإيمان باليوم الآخر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما المراد بالإيمان باليوم الآخر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: اعلم وفقك الله لطاعته أن المراد بـ (الإيمان باليوم الآخر) هو:
التصديق الجازم بإتيان ووقوع كل ما أخبر الله عنه في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، ويدخل في ذلك الإيمان بعلامات الساعة التي تكون قبلها، وبالموت وما يصاحبه من أحوال الاحتضار وما بعده من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبالنفخ في الصور والبعث، وما في موقف القيامة من الأهوال، وتفاصيل الحشر والحساب، وبالجنة ونعيمها الذي أعلاه النظر إلى وجه الله عز وجل، وبالنار وعذابها الذي أشده حجبهم عن ربهم عز وجل. والعمل بمقتضى هذا الاعتقاد.
وإذا تحقق هذا الإيمان في قلب العبد أثمر له ثمرات عظيمة جليلة منها:
الأولى: الرغبة في فعل الطاعات والحرص عليها رجاء ثواب ذلك اليوم.
الثانية: الرهبة من فعل المعصية والرضى بها خوفا من عقاب ذلك اليوم.
الثالثة: تسلية المؤمن عما يفوته من النعيم في الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
نسأل الله العظيم أن يمن علينا بالإيمان الصادق واليقين الراسخ..آمين.
انظر أعلام السنة المنشورة (110) وشرح الأصول الثلاثة للشيخ ابن عثيمين (98 – 103) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/300)
حوض الكوثر ونهر الكوثر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو الكوثر؟ وهل هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الكوثر في لغة العرب وصف يدل على المبالغة في الكثرة
أما في الشرع فله معنيان:
المعنى الأول:
أنه نهر في الجنة أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) الكوثر/1، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما روى مسلم في صحيحه (607) عن أنس رضي الله عنه قال: " بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفا إغفاءة , ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت علي سورة. فقرأ. بسم الله الرحمن الرحيم. (إنا أعطيناك الكوثر إلى آخرها) , ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير , وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة " الحديث.
وعند الترمذي (3284) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت.. الحديث " وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. وصححه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي (3 / 135) .
المعنى الثاني:
أنه حوض عظيم ـ والحوض هو: مجمع الماء ـ يوضع في أرض المحشر يوم القيامة ترد عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الحوض يأتيه ماؤه من نهر الكوثر الذي في الجنة، ولذا يسمى حوض الكوثر والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (4255) من حديث أبي ذر " أن الحوض يشخب (يصب) فيه ميزابان من الجنة " وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها " كما قال ذلك ابن حجر رحمه الله في الفتح (11 / 466) . والله أعلم.
وأما هل هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء أم لا؟
فأما نهر الكوثر الذي يُصب من مائه في الحوض فإنه لم يُنقل نظيره لغير النبي صلى الله عليه وسلم وامتن الله عليه به في السورة فلا يبعد أنه خاص بنبينا صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء.
وأما حوض الكوثر فقد اشتهر عند العلماء اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم به وممن صرح بذلك القرطبي في المفهم. لكن أخرج الترمذي (2367) من حديث سمرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لكل نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ " وهذا الحديث جميع أسانيده ضعيفة، لكن بعض العلماء حكم له بالقبول لكثرة أسانيده كما فعل الألباني في الصحيحة (1589) ، ومنهم من حكم عليه بالضعف. فإذا ثبت الحديث كان المختص بنبينا صلى الله عليه وسلم النهر دون الحوض، وإن لم يثبت فلا يبعد أن يكون الحوض أيضا خاصاً به دون غيره. والله أعلم.
وقد ورد في السنة الصحيحة ذكر صفات النهر الذي في الجنة والحوض الذي في أرض المحشر فمن صفات نهر الكوثر الذي في الجنة:
ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا أسير في الجنة، إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك قال: فضرب الملك بيده، فإذا طينه أو طيبه مسك أزفر "
وفي المسند (12084) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطيت الكوثر، فإذا هو نهر يجري على ظهر الأرض، حافتاه قباب اللؤلؤ، ليس مسقوفاً فضربت بيدي إلى تربته، فإذا تربته مسك أذفر، وحصباؤه اللؤلؤ " وصححه الألباني في الصحيحة (2513)
وفي رواية عنه في المسند أيضا (12828) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْكَوْثَرِ فقَالَ: " ذاك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزر (الإبل) قال عمر إِنَّ تِلْكَ لَطَيْرٌ نَاعِمَةٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا يَا عُمَر " وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3740)
وأما صفات الحوض الذي في أرض المحشر فمنها:
ما رواه البخاري (6093) ومسلم (4244) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبدا "
وفي صحيح مسلم (4261) عن أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السماء " َو في رواية: " أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ "
وفيه أيضا (4256) عَنْ ثَوْبَاَن رضي الله عنه أن النبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ؛ فَقَالَ: " أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ يَغُتُّ (يصب) فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنْ الْجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالآخَرُ مِنْ وَرِق (فضة) "
وأحاديث الحوض لا شك في تواترها عند أهل العلم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين صحابيا، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أسماء رواة أحاديثه من الصحابة في الفتح (11/468) حتى قال القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم: " مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي.. "
وأما عن موقع الحوض في أرض المحشر:
فقد اختلف العلماء في هذا: فمنهم من قال:إنه يكون بعد الصراط.
ومنهم من قال: إنه يكون قبل الصراط وهو قول الأكثر وهو الأرجح والله أعلم لأنه يؤخذ بعض من يرد عليه إلى النار، فلو كان موقعه بعد الصراط لما استطاعوا الوصول إليه لأنهم يكونون قد سقطوا في النار والعياذ بالله.
وفي ختام هذا المبحث لابد من التنبيه على أمر في غاية الأهمية والخطورة وهو:
أنه ليس كل من انتمى للأمة المحمدية سينال نعمة وشرف الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويده الشريفة، بل قد صرحت الأحاديث أن هناك من رجال هذه الأمة من يذاد ويدفع عن الحوض دفعا شديدا، نسأل الله العافية. فَمَن هؤلاء الذين سيشربون ومن أولئك الذين سيدفعون؟
لقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا السؤال إجابة واضحة شافية حتى لا يبقى لمعتذر عذر، ولا لمتقاعس حجة فقد روى مسلم في صحيحه (367) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا" قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال:َ" أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ " فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلا هَلُمَّ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا "
والغرّة: بيانض في وجه الفرس
والتحجيل: بياض في قوائمه
و (دهم بهم) أي: أسود شديد خالص لا يخالطه لون آخر.
وفي البخاري (6528) ومسلم (4243) عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَنَا فَرَطُكُمْ (أي: سابقكم) عَلَى الْحَوْضِ مَنْ وَرَدَ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ " قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلا يَقُولُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فَيَقُول [أي النبي صلى الله عليه وسلم ُ] : " إِنَّهُمْ مِنِّي" فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: "سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي "
وعند البخاري في صحيحه (2194) ومسلم (4257) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَذُودَنَّ رِجَالا عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنْ الإِبِلِ عَنْ الْحَوْضِ "
قال القرطبي رحمه الله: " قال علماؤنا رحمهم الله أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها [ومن نحا نحوهم أو سلك طريقهم] وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع.. " التذكرة للقرطبي (306)
فعلى العبد أن يجتهد في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته في أي شيء من هديه رجاء أن يمن الله عليه بالشرب من هذا الحوض المبارك، وإلا فأي خزي وندامة أشد من خزي وندامة من يدفع من بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ به العطش مبلغا لا يطاق ولا يحتمل فيمنع من الشرب من ذاك الماء البارد الطيب، ثم يزاد عليه العذاب والخزي والحسرة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالسحق والبعد والعياذ بالله، فتصَوُّر هذا عذاب، فكيف بمعاينته والتعرض له؟!.
نسأل الله أن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين بالتوفيق لمتابعة السنة ومجانبة البدعة والمعصية ... آمين. والحمد لله رب العالمين.
يراجع (القيامة الكبرى 257 – 262) و (الجنة والنار 166، 167) للشيخ / عمر الأشقر و (فتح الباري للحافظ ابن حجر 11 / 466) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/301)
كيف يأخذ المسلم العاصي كتابه يوم القيامة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عند تطاير الصحف هل مَنْ سيأخذ الكتاب بيمينه لن يدخل النار مطلقا؟ والعكس، وكيف سيأخذ أهل الجنة اللذين سيعذبون في النار أولاً كتابهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دل الكتاب والسنة على أن الناس يأخذون كتبهم التي هي صحائف أعمالهم يوم القيامة، فآخذ كتابه باليمين، وآخذ كتابه بالشمال من وراء ظهره.
قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَالَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ. . . إلى قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) الحاقة/19- 33.
وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) الانشقاق/7- 14.
دلت الآيات على أن المؤمن السعيد يأخذ كتابه بيمينه، وأن الكافر الشقي يأخذ كتابه بشماله، من وراء ظهره.
والدليل على أن أهل الشمال هم الكفار قوله تعالى في سياق الآيات: (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) . وقوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي ظن أنه لن يرجع إلى الله. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) البلد/19.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (20/65) : (أي يأخذون كتبهم بشمائلهم) انتهى.
وهذا كالصريح في أن الأخذ بالشمال مقصور على الكفار.
ولا شك أن المؤمن المطيع الناجي من العذاب، يأخذ كتابه بيمينه، ويدل على ذلك سياق الآيات، فإن الحساب اليسير هو مجرد عرض الأعمال، دون مناقشة فيها، ومن نوقش الحساب عُذِّب أو هلك، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري (6172) ومسلم (2876) .
ويدل على ذلك أيضا: ما رواه البخاري (2441) ومسلم (2768) وابن ماجه (183) عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [زاد ابن ماجه: بِيَمِينِهِ] . وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ.
وأما عصاة الموحدين، ممن يدخل النار ثم يخرج منها، فقد اختُلف فيهم: فمن أهل العلم من قال: إنهم يأخذون كتبهم بأيمانهم. ومنهم من قال: يأخذونها بشمائلهم.
قال السفاريني رحمه الله: " يعطى الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره، ويعطى المؤمن العاصي كتابه بشماله من أمامه. ويعطى المؤمن الطائع كتابه بيمينه من أمامه. وقد جزم الماوردي بأن المشهور أن الفاسق الذي مات على فسقه دون توبة يأخذ كتابه بيمينه، ثم حكى قولا بالوقوف [أي التوقف في المسألة] قال: ولا قائل بأنه يأخذه بشماله.
وقال يوسف بن عمر من المالكية: اختلف في عصاة الموحدين فقيل: يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقيل: بشمائلهم.
وعلى القول بأنهم يأخذونها بأيمانهم قيل: يأخذونها قبل الدخول في النار، فيكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها. وقيل: يأخذونها بعد الخروج منها. والله أعلم " انتهى من لوامع الأنوار البهية 2 (/183) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بالنسبة للعاصي المؤمن هل يأخذ كتابه بيمينه أو بالشمال؟ فأجاب: " يأخذه بيمينه " انتهى من الأسئلة الملحقة بشرح السفارينية (ص 500) .
والذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يأخذ كتابه بشماله إلا الكافر، كما هو ظاهر الآيات المتقدمة.
والذي ينبغي للمسلم أن يجتهد في تحصيل الطاعات، وفعل الخيرات، ليكون من أهل اليمين، جعلنا الله تعالى منهم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/302)
حقيقة النفخ في الصور
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو (الصور) المذكور في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) الزمر/68، وكيف يكون النفخ فيه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الصور في لغة العرب هو: القرن (يشبه البوق) وقد سئل رسول الله عن الصور ففسره بما تعرفه العرب من كلامها كما في سنن الترمذي (3244) وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: " قرن ينفخ فيه " وصححه الألباني في الصحيحة (1080)
وأما الذي يَنفُخ فيه: فقد " اشتهر أنه إسرافيل عليه السلام، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، ووقع التصريح به في بعض الأحاديث " انظر (فتح الباري 11 / 368)
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن صاحب الصور مستعد للنفخ فيه منذ أن خلقه الله تعالى كما في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن طرف صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان " وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1078) .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن النفخ في الصور يكون مرتين: الأولى يحصل بها الصعق، والثانية يحصل بها البعث مستدلين بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر/68.
وبما ورد في الأحاديث الصحيحة التي ذكرت هاتين النفختين وما يترتب عليهما من آثار فقد روى البخاري (4651) ومسلم (2955) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال: أبيت قالوا أربعون شهرا؟ قال: أبيت قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل. قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة "
قال النووي: ومعنى قول أبي هريرة (أبيت) أي أبيت أن أجزم أن المراد أربعون يوماً أو سنة أو شهراً بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة. اهـ.
وفي صحيح مسلم (2940) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا قال:وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل (شك الراوي) فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " وقوله: (أصغى ليتا) : أصغى أي أمال، والليت هو جانب العنق والمعنى فلا يبقى أحد إلا أمال عنقه، ورفع عنقه، وقوله: (يلوط حوض إبله) : أي يطين ويصلح مجمع الماء الذي تشرب منه إبله. (شرح النووي على مسلم 18 /76)
ومن العلماء من قال: إنها ثلاث نفخات وزاد فيها نفخة الفزع وأنها تكون قبل نفخة الصعق ثم تليها نفخة الصعق مستندين على ما ورد في قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) النمل/87
ولكن لا يلزم من ذكر الصعق في آية والفزع في الأخرى أن لا يحصلا معا من النفخة الأولى بل هما متلازمان فإذا نفخ في الصور فزع الناس فزعاً صعقوا منه وماتوا.
واستدلوا أيضاً ببعض الأحاديث التي ورد فيها أن النفخات ثلاث.
لكن الحديث الذي استدلوا به هو حديث الصور الطويل؛ وهو حديث ضعيف مضطرب كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله. والله أعلم. انظر التذكرة للقرطبي (184) وفتح الباري (11 / 369) .
فيستفاد مما سبق أن الله تعالى إذا أذن بموت الأحياء أمر ملك الصور أن ينفخ فيه؛ فينفخ نفخة عظيمة تفزع جميع الخلائق فيصعقون منها ويهلكون، ثم يمكثون على ذلك مدة قدرها أربعين من غير تحديد بسنة أو شهر أو يوم ـ الله أعلم بمقدارها ـ فتتحلل أجسادهم في هذه المدة ولا يبقى منها إلا عجب الذنب وهو العظم المستدير الذي في أصل الظهر، ثم يرسل الله سحابا فتمطر مطرا فإذا أصاب الماء هذا العظم نبت منه الجسم كما ينبت النبات ويتركب الخلق من هذا العظم كما بدأ الله الخلق أول مرة يعيده وهو على كل شيء قدير، ثم ينفخ في الصور نفخة البعث فتعود الأرواح إلى الأجساد فيخرجون من القبور سراعا إلى أرض المحشر نسأل الله رحمته ولطفه.
وبعد فالواجب على المسلم أن يستعد لهذه اللحظات الحاسمة بالمبادرة للأعمال الصالحة، والمسارعة في الخيرات، والبعد عن الأمور المنكرة، ومجانبة السيئات.
وإذا كان أخشى الخلق لله وأتقاهم له يقول: " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ.. "أخرجه الترمذي في السنن (2431) وغيره وصححه الألباني في السلسة (1079)
فكيف بحالنا نحن المقصرين الضعفاء؟! نسأل الله أن يجعلنا ممن لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. آمين. والله أعلم.
ياجع (القيامة الكبرى للشيخ عمر الأشقر 33- 42) و (أعلام السنة المنشورة 122) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/303)
يسأل عن الموت في شهر رمضان
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن كل من يموت في شهر رمضان يدخل الجنة دون أن يحاسب على أعماله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قد تفضل الله تعالى على نفر من خاصة عباده فوعدهم بدخول الجنة من غير حساب ولا عذاب؛ فعن عبد الله بْنُ عَبَّاس، رضي الله عنهما،ٍ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ (جماعة قليلة من الناس) وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَد.ٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي. فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْمُهُ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّه،ِ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيه؟ ِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ َلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ " البخاري 5705، مسلم 220.
[الرهط: هم الجماعة دون العشرة، والرهيط تصغير له. رفع لي: ظهر لي، سواد عظيم: السواد الشخص يرى من بعيد لا يدرى من هو، الأفق: منتهى البصر.]
ولم يذكر في هؤلاء السبعين ألفا من مات في شهر رمضان، وإنما المذكورون هم خاصة المؤمنين الذين حققوا مقام التوحيد لرب العالمين، قال في فتح المجيد: (قوله وعلى ربهم يتوكلون، ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال، وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف: من المحبة والرجاء والخوف، والرضا بالله ربا وإلها، الرضا بقضائه.) [ص 74] .
وإنما ورد في فضل من مات صائما قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (َ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه الإمام أحمد 22813 , من حديث حذيفة، رضي الله عنه، وقال الألباني في أحكام الجنائز: إسناده صحيح.
ومما ينبغي الاهتمام به، أن الحديث السابق، قد دل على أن علو مقام هؤلاء السبعين ألفا، جعلنا الله وإياكم منهم، في العمل الصالح، هو الذي أنزلهم تلك المنزلة عند الله تعالى؛ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، بعد ما ذكر هذا الحديث في كتاب التوحيد: (فيه.. عمق علم السلف، لمعرفتهم أنهم لن ينالوا ذلك إلا بعمل) ، وليس يخفى على السائل أنه لو كان هناك فضل لمن يموت في رمضان فإن هذا خاص بمن مات من المؤمنين؛ ولا يشمل كل من مات في رمضان.
وكذلك الحديث الذي سبق ذكره، في فضل من مات صائما، دل على أن دخول الجنة إنما كان موعودا على عمل صالح، ختم له به، وليس على مجرد الموت في شهر رمضان، مع أنه ليس فيه تلك الفضيلة الخاصة؛ دخول الجنة بغير حساب.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/304)
تفسير الآية 33 من سورة الرحمن
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أن تساعدني في تفسير آية رقم 33 من سورة الرحمن لأني لا أتكلم العربية.
وجزاك الله خيرا]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى:
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ (33) سورة الرحمن
وهذا التحدّي من الله للعباد يكون في أرض المحشر حينما يجمع الخلائق كلهم جنّهم وإنسهم وتنشق السماوات وتهبط الملائكة من كلّ سماء فتحيط بأهل المحشر فيتحدّاهم الله بالهروب فلا يستطيعون، وكيف سيستطيعون وهم لا حول لهم ولا قوّة والملائكة تحاصرهم وتحيط بهم من كلّ جانب.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم أينما ذهبتم أحيط بكم وهذا في مقام الحشر الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب "إلا بسلطان" أي إلا بأمر الله "يقول الإنسان يومئذ أين المفر. كلا لا وزر. إلى ربك يومئذ المستقر"
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/305)
أعمار أهل الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[كم سيكون عمر الرجل والمرأة الدائم في الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يدخل أهل الجنة الجنة على أكمل صورة وأجملها، على صورة أبيهم آدم عليه السلام وقد خلقه الله تعالى بيده فأتم خلقه وأحسن تصويره وكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم وخلقته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا ... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا ... ) رواه البخاري (5873) ومسلم (7092)
أما أعمارهم فكلهم يدخل الجنة في عمر القوة والفتوة والشباب أبناء ثلاث وثلاثين، فعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة) رواه الترمذي (2545) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7928) .
ورواه أحمد (8505) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ (أبناء ثلاث وثلاثين) من غير شك.
قال أحمد شاكر: إسناده حسن.
(جرداً) الأجرد هو الذي لا شعر على جسده.
(مرداً) الأمرد هو الشاب الذي لا لحية له.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/306)
إجابة عن إشكالات في آيات حياة المسيح عليه السلام وموته
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا من متابعي موقعكم ولا أشك أبداً في أن حرفا واحدا من القرآن قد تم تحريفه وأرجو أن تشرح لي اللبس في هاتين الآيتين الأولى في سورة مريم (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) فما معني يوم أموت؟
وفي آية ") وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء/159، فما معنى هذا؟) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) النساء/157
أدرس في الصين ولدي الكثير من الأصدقاء من أديان مختلفة ويسألوني عن القرآن وموقف الإسلام من عيسى عليه السلام، أحاول أن أجيب على أسئلتهم وأرجو أن تجيبني في أسرع وقت.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بدايةً نشكر لك حرصك على السؤال عن أمر دينك، وسعيك للتبصر في تفسير كتاب الله جل وعلا، ونسأل الله أن يرزقنا وإياك العلم النافع،
أما فيما يتعلق بقوله تعالى: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) مريم/33، فقد قال الطبري في تفسيره:" وقوله {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} يقول: والأمن من الله عليَّ من الشيطان وجنده يوم ولدت أن ينالوا مني ما ينالون ممن يولد عند الولادة، من الطعن فيه، ويوم أموت، من هول المطلع، ويوم أبعث حياً يوم القيامة أن ينالني الفزع الذي ينال الناس بمعاينتهم أهوال ذلك اليوم " [تفسير الطبري 8 / 340]
وقال القرطبي:" {والسلام علي} أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام. وقوله: يوم ولدت يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في ((آل عمران)) . ويوم أموت يعني في القبر. ويوم أبعث حيا يعني في الآخرة، لأن له أحوالاً ثلاثة: في الدنيا حياً، وفي القبر ميتاً، وفي الآخرة مبعوثاً، فسلم في أحواله كلها " [تفسير القرطبي 11 / 98]
ومما سبق من أقوال المفسرين تعلم أن قوله {ويوم أموت} ليس معناه أنه قد مات، وإنما معناه أنه عند موته – وذلك بعد نزوله وقتله للدجال كما ثبت في الأحاديث – فإنه يسلم من الموت على غير الإيمان بالله تعالى، وهذا كما أنه قال {ويوم أبعث حيا} وليس معناه أنه قد بعث يوم القيامة!! ، فكلامه صلى الله عليه وسلم إنما هو عن أحواله في ولادته، وفي موته، وفي بعثه، ولا شك أنه سيموت، لكن كما دلت الآيات الأخرى التي سقتها، فإنه لم يمت بالقتل أو الصلب، وإنما رفعه الله إليه، وسيموت بعد نزوله من السماء، وقتله للدجال.
أما قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء/ 159، فقد اختلف أهل العلم في مرجع الضمير في قوله {موته} على قولين:
القول الأول: أن مرجع الضمير إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، وعلى هذا يكون معنى الآية، أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بعيسى عليه السلام، وذلك قبل موته – أي عيسى -، فإنه إذا نزل من السماء، وقتل الدجال، فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام، وحينها يؤمن أهل الكتاب به، قبل موته صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنه حق، وأنه لم يمت من قبل، فالكلام في الآية عن علامة من علامات الساعة، وشرط من أشراط يوم القيامة، سيكون بعد نزول عيسى، وأنه قبل أن يموت في ذلك الزمان سيؤمن به أهل الكتاب. وقد ورد ما يؤيد هذا القول من قول أبي هريرة رضي الله عنه بعد روايته للحديث الدال على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) النساء/159) . البخاري 3192 مسلم 220.
القول الثاني: أن مرجع الضمير إلى الكتابي نفسه، وعلى هذا يكون معنى الآية، أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بعيسى عليه السلام، وأنه حق، وأنه لم يمت، وذلك عندما يعاين سكرات الموت، ويرى الحقائق والبراهين، فعند موت ذلك الكتابي سيعلم أن ما كان عليه هو الباطل، لكن لا ينفعه ذلك الإيمان حينئذ.
وعلى كلا القولين السابقين فليس في الآية دليل أو إشارة إلى موته صلى الله عليه وسلم، وإنما الكلام – في القول الأول – على أمر غيبي سيحصل في المستقبل، وهو بلا شك سيموت عليه السلام، لكن بعد نزوله كما سبق، وعلى القول الثاني: فالمراد بقوله (قبل موته) أي موت الكتابي نفسه.
وقد رجح الطبري وابن كثير وغيرهما من أئمة التفسير القول الأول، قال ابن كثير:" وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء/159 "، قال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} يعني قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم عليه السلام..... عن ابن عباس قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، قال: قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام. ... وعن الحسن {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون..... قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني بذلك قبل موت صاحب الكتاب، ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه علم الحق من الباطل لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى..... وقال ابن عباس: لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى.... وعن ابن عباس، قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الاي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة ... فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقههم من النصارى أنه قتل وصلب، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض " [تفسير ابن كثير 1 / 762]
ولا بد من التنبيه – أيها الأخ الكريم – على أن مناقشة النصارى لا بد أن تكون عن علم وبينة، حتى لا يكون الإنسان سببا في عدم قبول الناس للحق بسبب ضعف حجته، وإلا فليس عند النصارى حجة صحيحة أصلا، إلا إنهم يلقون بالشبهات ليزيفوا الحقائق، وليلبسوا الحق بالباطل، أعاذنا الله من طرق الزائغين.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/307)
كيف يحتمل الناس دنو الشمس يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق مقدار ميل ولا تحرقهم وهي لو دنت عما هي عليه الآن في الدنيا لاحترقت الأرض؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" إن وظيفة المؤمن فيما ورد من أخبار الغيب القبول والتسليم وأن لا يسأل عنها بكيف؟ ولم؟ – وهذه قاعدة يجب أن تبنى عليها عقيدتنا – لأن هذا أمر فوق ما تتصوره أنت، فالواجب عليك أن تقبل وتسلم وتقول: آمنا وصدقنا، آمنا بأن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل، وما زاد على ذلك من الإيرادات فهو من البدع، ولهذا لما سئل الإمام مالك- رحمه الله – عن استواء الله على العرش كيف استوى؟ قال: " السؤال عنه بدعة " هكذا أيضاً كل أمور الغيب السؤال عنها بدعة وموقف الإنسان منها القبول والتسليم.
جواب الشق الثاني بالنسبة لدنو الشمس من الخلائق يوم القيامة فإننا نقول:
إن الأجسام تبعث يوم القيامة لا على الصفة التي عليها في الدنيا من النقص وعدم التحمل بل هي تبعث بعثاً كاملاً تاماً، ولهذا يقف الناس يوم القيامة يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، وهذا أمر لا يحتمل في الدنيا، فتدنو الشمس منهم وأجسامهم قد أعطيت من القوة ما يتحمل دنوها، ومن ذلك ما ذكرناه من الوقوف خمسين ألف سنة لا يحتاجون إلى طعام ولا شراب، فالأجسام يوم القيامة لها شأن آخر غير شأنها في هذه الدنيا "
[الْمَصْدَرُ]
انتهى من مجموع فتاوى بن عثيمين 2/35.
(1/308)
الدجال يخرج في آخر الزمان فلماذا حذر الأنبياء أقوامهم منه ومتى وأين سيخرج؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا حذر الأنبياء أقوامهم من الدجال مع أنه لا يخرج إلا في آخر الزمان؟ ومتى يخرج الدجال؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أعظم فتنة على وجه الأرض منذ خلق آدم إلى قيام الساعة هي فتنة الدجال كما قال ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولهذا ما من نبي من نوح إلى محمد، صلوات الله عليهم وسلامه، إلا أنذر قومه به تنويهاً بشأنه، وتعظيماً له، وتحذيراً منه، وإلا فإن الله يعلم أنه لن يخرج إلا في آخر الزمان، ولكن أمر الرسل أن ينذروا قومهم إياه من أجل أن تتبين عظمته وفداحته، وقد صح ذلك عن النبي، عليه الصلاة والسلام، وقال: " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم – صلوات الله وسلامه عليه يعني أكفيكم إياه - وإلا فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم " مسلم 5228
نِعْمَ الخليفة ربنا – جل وعلا -.
فهذا الدجال شأنه عظيم بل هو أعظم فتنة كما جاء في الحديث منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، فكان حريّاً بأن يُخَصّ من بين فتن المحيا بالتعوذ من فتنته في الصلاة " أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ".
وأما الدجال فهو مأخوذ من الدجل وهو التمويه؛ لأن هذا مموه بل أعظم مموه وأشد الناس دجلاً.
ثانياً:
خروج المسيح الدجال من علامات الساعة ولكنه غير محدد، لأنه لا يعلم متى تكون الساعة إلا الله فكذلك أشراطها ما نعلم منها إلا ما ظهر، فوقت خروجه غير معلوم لنا لكننا نعلم أنه من أشراط الساعة.
ثالثاً:
وأما جهة خروجه فإنه يخرج من المشرق من جهة الفتن والشر كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم: " الفتنة هاهنا " وأشار إلى المشرق (البخاري 3279، ومسلم 5167) ، فالمشرق منبع الشر والفتن، يخرج من المشرق من خراسان مارّاً بأصفهان داخلاً الجزيرة من بين الشام والعراق ليس له هم إلا المدينة، لأن فيها البشير النذير، عليه الصلاة والسلام، فيحب أن يقضي على أهل المدينة، ولكنها محرمة عليه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " على كل باب منها ملائكة يحفظونها " رواه البخاري 1880 ومسلم 2449، هذا الرجل يخرج بين الشام والعراق، ويتبعه من يهود أصفهان سبعون ألفاً لأنهم جنوده (رواه مسلم 5237) ، فاليهود من أخبث عباد الله وهو أضل عباد الله فيتبعونه ويؤوونه وينصرونه، ويكونون مسالح له- أي جنوداً مجندين- هم وغيرهم ممن يتبعهم، قال النبي، عليه الصلاة والسلام: " يا عباد الله فاثبتوا يا عباد الله فاثبتوا " رواه مسلم 5228، يثبتنا عليه الصلاة والسلام، لأن الأمر خطير وقال عليه الصلاة والسلام: "من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات " رواه أبو داود 3762 وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
يأتيه الإنسان ويقول: لن يضلني ولن أتأثر به، ولكن لا يزال يلقي عليه من الشبهات حتى يتبعه والعياذ بالله." نسأل الله أن يحفظنا بحفظه والحمد لله رب العالمين ...
[الْمَصْدَرُ]
انتهى من مجموع فتاوى ابن عثيمين رحمه الله.. 2/13.
(1/309)
كيفية سؤال الميت في القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل سؤال الميت في قبره حقيقي وأنه يجلس في قبره ويناقش؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" سؤال الميت في قبره حقيقي بلا شك والإنسان في قبره يجلس ويناقش ويسأل.
فإن قال قائل: إن القبر ضيق فكيف يجلس؟!
فالجواب:
أولاً:
أن الواجب على المؤمن في الأمور الغيبية أن يقبل ويصدّق، ولا يسأل كيف؟ ولم؟
لأنه لا يسأل عن كيف ولم إلا من شك، وأما من آمن وانشرح صدره لأخبار الله ورسوله، فيسلّم ويقول: الله أعلم بكيفية ذلك.
ثانياً:
أن تعلق الروح بالبدن في الموت ليس كتعلقها به في حال الحياة، فللروح مع البدن شؤون عظيمة لا يدركها الإنسان، وتعلقها بالبدن بعد الموت لا يمكن أن يقاس بتعلقها به في حال الحياة، وهاهو الإنسان في منامه يرى أنه ذهب، وجاء، وسافر، وكلم أناساً، والتقى بأناس أحياء وأموات، ويرى أن له بستاناً جميلاً، أو داراً موحشة مظلمة، ويرى أنه راكب على سيارة مريحة، ويرى مرة أنه راكب على سيارة مقلقة كل هذا يمكن مع أن الإنسان على فراشه لم يتغير، حتى الغطاء الذي عليه لم يتغير ومع ذلك فإننا نحس بهذا إحساساً ظاهراً، فتعلق الروح بالبدن بعد الموت يخالف تعلقها به في اليقظة أو في المنام ولها شأن آخر لا ندركه نحن، فالإنسان يمكن أن يجلس في قبره ويسأل ولو كان القبر محدوداً ضيقاً.
هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمنه البلاغ، وعلينا التصديق والإذعان قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء / 65 "
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ابن عثيمين 2/34.
(1/310)
من هم الولدان المخلدون؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الولدان المخلدون هم أطفال المسلمين الذين ماتوا صغارا؟؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الله تعالى في شأن أهل الجنة: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) الواقعة /17 وقال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الإنسان/19
قال ابن كثير رحمه الله: أي: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة، مخلدون: أي: على حالة واحدة، مخلدون عليها لا يتغيرون عنها؛ لا تزيد أعمارهم عن تلك السن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: غلمان لا يموتون.
قال ابن القيم رحمه الله: قال أبو عبيدة والفراء: مخلدون: لا يهرمون ولا يتغيرون؛ قال: والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد، وإذا لم تذهب أسنانه من الكبر قيل: هو مخلد.
وقوله تعالى في وصفهم، في سورة الإنسان: (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا، ولا يكون التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.
قال ابن القيم رحمه الله: وشبههم سبحانه باللؤلؤ المنثور لما فيه من البياض وحسن الخلقة. وفي كونه منثورا فائدتان:
إحداهما: الدلالة على أنهم غير معطلين، بل مبثوثون في خدمتهم وحوائجهم.
الثانية: أن اللؤلؤ إذا كان منثورا، ولاسيما على بساط من ذهب أو حرير، كان أحسن لمنظره وأبهى، من كونه مجموعا في مكان واحد.
وقد اختلف العلماء فيمن يكون هؤلاء الولدان:
فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن البصري أن المراد بالولدان هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة.
وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة.
قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا أصل لهذا القول. " مجموع الفتاوى " (4/279) .
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد روى في ذلك حديث لا يثبت.
وقيل: إن هؤلاء الولدان أنشأهم الله لأهل الجنة، يطوفون عليهم كما شاء، من غير ولادة.
وهذا القول الأخير هو الذي ارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. فقد سئل رحمه الله: عن الولدان: هل هم ولدان أهل الجنة؟
فأجاب: الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة خلق من خلق الجنة ; ليسوا بأبناء أهل الدنيا بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة يكمل خلقهم كأهل الجنة؛ على صورة آدم أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في طول ستين ذراعا. وقد روي أيضا أن العرض سبعة أذرع.
انظر: مجموع الفتاوى: 4/312
واستظهر ابن القيم رحمه الله هذا القول أيضا. قال: والأشبه أن هؤلاء الولدان مخلوقون من الجنة، كالحور العين، خدما لهم وغلمانا ... ، وهؤلاء غير أولادهم؛ فإن من تمام كرامة الله تعالى لهم أن يجعل أولادهم مخدومين معهم، ولا يجعلهم غلمانا لهم.
راجع أيضا: السؤال رقم [6496] .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/311)
هل في الجنة مطار وطائرات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ربما يبدو سؤالي طفوليّاً، إذا كان شخص يحب شيئاً في هذه الدنيا حبّاً عظيماً، فهل يحصل عليه في الجنة؟ كأن يحب الطائرات مثلاً، فهل يحصل عليها في الجنة؟ وهل يمكن أن يحصل على مطار أيضاً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس هذا السؤال طفوليّاً، بل هو شرعي من عاقل يحسن السؤال ويبحث عن الفائدة وعما يزيد شوقه للجنة وعمله للوصول لها، وقد سأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو من جنس هذا السؤال.
فعن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من خيل؟ قال: إنِ اللهُ أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت، قال: وسأله رجل فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه، قال: إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
رواه الترمذي (2543) ، والحديث حسَّنه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " (3 / 522) .
أما عن موضوع سؤالك المعين عمن يحب الطيران والطائرات فقد ورد في جنس هذا النعيم أحاديث صحيحة متنوعة.
فقد ثبت أن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة تسرح حيث شاءت رواه مسلم (2410) .
وثبت أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يطير في الجنة بجناحين إكراماً من الله عز وجل بدل يديه اللتين قطعتا في غزوة مؤتة.
فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيتُ جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة ".
رواه الترمذي (3763) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (3465) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
رواه البخاري (3506) .
والظاهر أن طيران الإنسان بنفسه أبلغ عند أكثر الناس من طيرانه بواسطة، وأن طيرانه بالخيل في الجنة كما في الحديث المذكور في أول السؤال أبلغ من الطيران بالطائرات، وقد جاءت آيات وأحاديث في أن للإنسان في الجنة من النعيم ما تشتهيه نفسه وأبلغ من ذلك.
كما في قوله الله تعالى: {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} الزخرف / 71.
قال السعدي في تفسير هذه الآية:
" ما تشتهيه الأنفس " هذا اللفظ جامع يأتي على كل نعيم وفرح وقرة عين وسرور قلب ... على أكمل الوجوه وأفضلها.
وقوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين} النحل / 31.
وقوله صلى الله عليه وسلم: قال الله: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} .
رواه البخاري (3072) ومسلم (2824) .
فينبغي أن يقرر الإنسان في نفسه كمال الجنة المطلق وكمال سعادة أهلها.
أما الجزم بأن في الجنة طائرات ومطارات ونحو ذلك مما لم يرد إثباته في النصوص فهذا من علم الغيب الذي يحتاج إلى دليل.
ونقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك)
نسأل الله أن يعيننا وإياك للعمل بما يقودنا إلى النعيم المقيم في الجنة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/312)
معنى حديث وضع ذنوب المسلمين على كفار أهل الكتاب
[السُّؤَالُ]
ـ[نرجو شرح الحديث القدسي الآتي الذي ورد ذكره في كتاب (110 حديث قدسي) ترجمة: سيد مسعود الحسن، راجعه وعلق عليه إبراهيم م قنا نشر دار السلام بالرياض 1996م/1417هـ. الحديث الثامن من ص 19 - 20 يقول: روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلمين ينقسمون يوم القيامة إلى 3 أقسام أحده يدخل الجنة بغير حساب والثانية يدخلون الجنة بعد حساب قليل أما الثالثة فيأتون يحملون أوزاراً كثيرة فيسأل الله عنهم الملائكة -وهو أعلم بهم- من هؤلاء؟ فيقولون هؤلاء عبادك المساكين. فيقول خذوا أوزارهم وضعوها على اليهود والنصارى وأبدلوهم حسنات وأدخلوهم الجنة. رواه الحاكم في المستدرك.
فما معنى هذا الحديث وما مدى صحته؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحديث أصله في صحيح مسلم (2767) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى ". هذا من حيث صحته.
وأما معناه، فقال النووي في شرحه: (ومعنى هذا الحديث، ما جاء في حديث أبي هريرة: " لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار "، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلَفَه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره. ومعنى " فكاكك من النار ": أنك كنت مُعَرَّضَا لدخول النار، وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدّر لها عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. وأما رواية: " يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب ": فمعناه: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويُسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم، لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التأويل، لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) . ويحتمل أن يكون المراد: آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنّوها، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنّوها، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ سعد الحميد.
(1/313)
منكر لعذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لم يلحظ تغير
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجيب من ينكر عذاب القبر ويحتج بأنه لو كشف القبر لوجد لم يتغير ولم يضق ولم يتسع؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" يجاب من أنكر عذاب القبر بحجة أنه لو كشف القبر لوجد أنه لم يتغير بعدة أجوبة منها:
أولاً:
أن عذاب القبر ثابت بالشرع قال الله تعالى في آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) غافر / 46.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر" رواه مسلم 2867. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن: " يفسح له في قبره مد بصره " رواه البخاري 1374 ومسلم 2870 إلى غير ذلك من النصوص.
فلا يجوز معارضة هذه النصوص بوهم من القول بل الواجب التصديق والإذعان.
ثانياً:
أن عذاب القبر على الروح في الأصل، وليس أمراً محسوساً على البدن فلو كان أمراً محسوساً على البدن لم يكن من الإيمان بالغيب ولم يكن للإيمان به فائدة لكنه من أمور الغيب، وأحوال البرزخ لا تقاس بأحوال الدنيا.
ثالثاً:
أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه، إنما يدركه الميت دون غيره والإنسان قد يرى في المنام وهو نائم على فراشه أنه قائم وذاهب وراجع، وضارب ومضروب، ويرى أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، والذي حوله لا يرى ذلك ولا يشعر به.
والواجب على الإنسان في مثل هذه الأمور أن يقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا. "
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ابن عثيمين رحمه الله (2/29) .
(1/314)
الحكمة من إخفاء عذاب القبر عن البشر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة؟ وما هي الحكمة من جعله من أمور الغيب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" عذاب القبر من أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به، وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور لا يعلمه إلا علام الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا الوحي الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، ما علمنا عنه شيئاً، ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة وأخبرتها أن الميت يعذب في قبره فزعت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرته وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يُطلِعُ الله تعالى عليه من شاء من عباده، مثل ما أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على الرجلين اللذين يعذبان، أحدهما يمشي بالنميمة، والآخر لا يستنزه من البول.
والحكمة من جعله من أمور الغيب هي:
أولاً: أن الله – سبحانه وتعالى – أرحم الراحمين فلو كنا نطلع على عذاب القبور لتنكد عيشنا، لأن الإنسان إذا اطّلِع على أن أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يعذب في القبر ولا يستطيع فكاكه، فإنه يقلق ولا يستريح. وهذه من نعمة الله سبحانه.
ثانياً: أنه فضيحة للميت فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه ولم نعلم عن ذنوبه بينه وبين ربه عز وجل ثم مات وأطلعنا الله على عذابه، صار في ذلك فضيحة عظيمة له ففي ستره رحمة من الله بالميت.
ثالثاً: أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: " لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" رواه مسلم 2868.
ففيه أن الدفن ربما يصعب ويشق ولا ينقاد الناس لذلك، وإن كان من يستحق عذاب القبر عذب ولو على سطح الأرض، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضاً.
رابعاً: أنه لو كان ظاهراً لم يكن للإيمان به مزية لأنه يكون مشاهداً لا يمكن إنكاره، ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم لقوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده) غافر / 84، فإذا رأى الناس هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون آمنوا وما كفر أحد لأنه أيقن بالعذاب، ورآه رأي العين فكأنه نزل به.
وحِكَم الله سبحانه وتعالى عظيمة، والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزم بخبر الله أكثر مما يجزم بما شاهده بعينه؛ لأن خبر الله عز وجل لا يتطرق إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينيك يمكن أن تتوهم فيه، فكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال، وإذا هي نجمة، وكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه وهذا وهم، وكم من إنسان يرى شبحاً ويقول: هذا إنسان مقبل، وإذا هو جذع نخلة، وكم من إنسان يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً، لكن خبر الله لا يتطرق إليه الاحتمال أبداً.
نسأل الله لنا ولكم الثبات، فخبر الله بهذه الأمور أقوى من المشاهدة، مع ما في الستر من المصالح العظيمة للخلق. والله أعلم."
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى الشيخ بن عثيمين رحمه الله 2/32.
(1/315)
كيف يحاسب الكافر في الآخرة مع أنه غير مطالب بالتكاليف الشرعية
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يحاسب الكافر يوم القيامة وهو غير مطالب بالتكاليف الشرعية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
" هذا السؤال مبني على فهم ليس بصحيح فإن الكافر مطالب بما يطالب به المؤمن لكنه غير ملزم به في الدنيا ويدل على أنه مطالب قوله – تعالى: (إلا أصحاب اليمين. في جنات يتساءلون.عن المجرمين. ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين. وكنا نخوض مع الخائضين. وكنا نكذب بيوم الدين) المعارج / 39
فلولا أنهم عوقبوا بترك الصلاة، وترك إطعام المساكين ما ذكروه، وذلك دليل على أنهم يعاقبون على فروع الإسلام، وكما أن هذا هو مقتضى الأثر فهو أيضاً مقتضى النظر فإذا كان الله تعالى يعاقب عبده المؤمن على ما أخل به من واجب في دينه فكيف لا يعاقب الكافر؟
بل إني أزيدك أن الكافر يعاقب على كل ما أنعم الله به عليه من طعام وشراب وغيره قال تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) المائدة / 93، فمنطوق الآية رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموه ومفهومها وقوع الجناح على الكافرين فيما طعموه، وكذلك قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) الأعراف / 32، فإن قوله: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) دليل على أن غير المؤمن ليس له حق في أن يستمتع بها في الدنيا.
أي ليس له حق شرعي، أما الحق بالنظر إلى الأمر الكوني وهو أن الله – سبحانه وتعالى- خلقها وانتفع بها هذا الكافر فهذا أمر لا يمكن إنكاره، فهذا دليل على أن الكافر يحاسب حتى على ما أكل من المباحات وما لبس، وكما أن هذا مقتضى الأثر فإنه مقتضى النظر، إذ كيف يحق لهذا الكافر العاصي لله الذي لا يؤمن به كيف يحق له عقلاً أن يستمتع بما خلقه الله عز وجل وما أنعم الله به على عباده، وإذ تبين لك هذا فإن الكافر يحاسب يوم القيامة على عمله، ولكن حساب الكافر يوم القيامة ليس كحساب المؤمن لأن المؤمن يحاسب حساباً يسيراً يخلو به الرب عز وجل ويقرره بذنوبه حتى يعترف ثم يقول له سبحانه وتعالى-: " قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" أما الكافر والعياذ بالله فإن حسابه أن يقرر بذنوبه ويخزى بها على رؤوس الأشهاد: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) هود / 18 "
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ابن عثيمين 2/38
(1/316)
هل يوم الحساب واحد
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوم الحساب يوم واحد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " يوم الحساب يوم واحد ولكنه يوم مقداره خمسون ألف سنة كما قال الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع. للكافرين ليس له دافع. من الله ذي المعارج. تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج / 1-4 أي إن هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد " وهذا اليوم الطويل هو يوم عسير على الكافرين كما قال تعالى: (وكان يوماً على الكافرين عسيراً) الفرقان / 26 وقال تعالى: (فذلك يومئذ يوم عسير. على الكافرين غير يسير) المدثر / 9-10.
ومفهوم هاتين الآيتين أنه على المؤمن يسير وهو كذلك، فهذا اليوم الطويل بما فيه من الأهوال والأشياء العظيمة ييسره الله تعالى على المؤمن، ويكون عسيراً على الكافر. وأسأل الله – تعالى – أن يجعلني وإخواني المسلمين ممن يسره الله عليهم يوم القيامة.
والتفكير والتعمق في مثل هذه الأمور الغيبية هو من التنطع الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: " هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون ".
ووظيفة الإنسان في هذه الأمور الغيبية التسليم وأخذ الأمور على ظاهر معناها دون أن يتعمق أو يحاول القياس بينها وبين الأمور في الدنيا، فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا، وإن كانت تشبهها في أصل المعنى وتشاركها في ذلك، لكن بينهما فرق عظيم، وأضرب لك مثلاً بما ذكره الله – سبحانه وتعالى – في الجنة من النخل، والرمان، والفاكهة، ولحم الطير، والعسل والماء واللبن، والخمر وما أشبه ذلك مع قوله – عز وجل -: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) السجدة / 17
وقوله في الحديث القدسي: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
وهذه الأشياء المذكورة من نعيم الجنة يوجد في الدنيا ما يسمى بهذه الأسماء، ولكن الاشتراك في الاسم لا يعني أن خمر الجنة كخمر الدنيا ـ أو أي فاكهة الجنة كفاكهة الدنيا ... وهكذا.
وإن اشتركا في الاسم وفي أصل المعنى، فكل الأمور الغيبية التي تشارك ما يشاهد في الدنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلة له في الحقيقة، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة وأن يأخذ أمور الغيب بالتسليم على ما يقتضيه ظاهرها من المعنى وألا يحاول شيئاً وراء ذلك.
ولهذا لما سئل الإمام مالك - رحمه الله – عن قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) طه / 5 - كيف استوى؟ أطرق –رحمه الله- برأسه حتى علاه الرحضاء – أي العرق – وصار يتصبب عرقاً وذلك لعظم السؤال في نفسه ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي كانت ميزاناً لجميع ما وصف الله به نفسه – رحمه الله -: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ".
فالسؤال المتعمق في مثل هذه الأمور بدعة لأن الصحابة –رضي الله عنهم- وهم أشد منا حرصاً على العلم وعلى الخير لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأسئلة وكفى بهم قدوة، وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجرى بالنسبة لصفات الله –عز وجل – التي وصف بها نفسه من العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام وغير ذلك فإن مسميات هذه الألفاظ بالنسبة إلى الله – عز وجل – لا يماثلها شيء مما يشاركها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان، فكل صفة فإنها تابعة لموصوفها فكما أن الله - سبحانه وتعالى – لا مثيل له في ذاته فلا مثيل له في صفاته.
وخلاصة الجواب: أن اليوم الآخر يوم واحد وأنه عسير على الكافرين ويسير على المؤمنين، وأن ما ورد فيه من أنواع الثواب والعقاب أمر لا تدرك حقيقته في هذه الحياة الدنيا وإن كان أصل المعنى معلوماً لنا في هذه الحياة الدنيا ".
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ابن عثيمين 2/40.
(1/317)
القبر ليس هو المثوى الأخير
[السُّؤَالُ]
ـ[يكثر في الصحف والأخبار قول إذا مات شخص ودفن، يقولون: انتقل إلى مثواه الأخير. فهل القبر هو المثوى الأخير؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير جزء عم" (ص 117) :
القبور ليست آخر المنازل، بل هي مرحلة، سمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) التكاثر/1-2. فقال الأعرابي: والله ما الزائر بمقيم.
فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه، لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد "فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير" أن هذه الكلمة غلط كبير، ومدلولها كفر بالله عز وجل، وكفر باليوم الآخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "تفسير جزء عم" (ص 117)
(1/318)
بطلان ما ورد في تحديد عمر الدنيا
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن بعض العلماء ذكروا أن القيامة ستقوم قبل سنة 1500 هـ، واستدلوا على ذلك بأحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهل هذا الكلام صحيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الكلام الذي أشار إليه السائل قال به السيوطي رحمه الله، فإنه ذكر في كتابه "الحاوي" (2/249–256) أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في أواخر الألف السادسة.
وآخر الألف السادسة أي: في النصف الثاني منها. وعلى هذا، يكون عمر هذه الأمة أكثر من ألف سنة وأقل من ألف وخمسمائة.
قال رحمه الله: " لا يمكن أن تكون المدة ألفاً وخمسمائة أصلاً " اهـ.
يعني: أن المدة لا بد أن تكون أقل من ألف وخمسمائة سنة.
ثم ذكر الأحاديث والآثار التي استدل بها على ذلك، وبعضها من الإسرائيليات التي لا يجوز الاحتجاج بها، والبعض الآخر ضعيف، بل حكم عليه أهل العلم بأنه كذب وموضوع.
ومما يدل على بطلان هذا الكلام:
1- لو كان هذا الكلام صحيحاً لكان كل أحد يعلم متى تقوم الساعة. وهذا خلاف ما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية دلالة قطعية أن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله. قال الله تعالى: (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) . الأحزاب /63.
قال ابن كثير (3/527) :
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك، وأرشده أن يردّ علمها إلى الله عز وجل اهـ.
وقال الشنقيطي (6/604) :
ومعلوم أن (إنما) صيغة حصر، فمعنى الآية: أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده اهـ.
وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبّكَ مُنتَهَهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَهَا) النازعات /42-45.
قال ابن كثير (4/736) :
أي: ليس علمها إليك، ولا إلى أحد من الخلق، بل مردّها ومرجعها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين اهـ.
وقال السعدي: " ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية بل المصلحة في إخفائه عليهم طوى علم ذلك عن جميع الخلق واستأثر بعلمه فقال: (إِلَى رَبّكَ مُنتهاهَا) " اهـ.
ومن الأحاديث التي تدل على أن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله: حديث جبريل المشهور وفيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل لما سأله عن الساعة: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) . رواه مسلم (8) .
2- هذه الآثار التي استدل بها السيوطي رحمه الله قد ضعفها أهل العلم بل حكموا عليها بأنها كذب.
قال ابن القيم في "المنار المنيف" (1/80) وهو يذكر الطرق التي يعرف بها أن الحديث موضوع، قال:
"ومنها: مخالفة الحديث لصريح القرآن، كحديث مقدار الدنيا وأنها سبعة آلاف سنة ونحن الآن في الألف السابعة. وهذا من أبين الكذب، لأنه لو كان صحيحا لكان كل أحد علم أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة، والله تعالى يقول: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله) الأعراف /187" اهـ.
وقال ابن كثير في "النهاية في الفتن والملاحم" (1/25) :
لم يثبت في حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه حدد وقت الساعة بمدة محصورة، وإنما ذكر شيئاً من أشراطها وأماراتها وعلاماتها اهـ.
وقال أيضاً (2/28) :
والذي في كتب الإسرائيليين وأهل الكتاب من تحديد ما سلف بألوف ومائتين من السنين قد نص غير واحد من العلماء على تخطئتهم فيه وتغليطهم، وهم جديرون بذلك حقيقيون به، وقد ورد في حديث: "الدنيا جمعة من جمع الآخرة" ولا يصح إسناده أيضاً، وكذا كل حديث ورد فيه تحديد لوقت يوم القيامة على التعيين لا يثبت إسناده اهـ.
وقال السخاوي في " المقاصد الحسنة" (ص: 444) :
كل ما ورد مما فيه تحديدٌ لوقت يوم القيامة على التعيين، فإما أن يكون لا أصل له، أو لا يثبت إسناده اهـ.
3- ما ذكره السيوطي نفسه يدل على بطلان هذا القول.
فإنه ذكر أن المهدي يظهر بعد الألف بمائتي سنة، وقد انقضت ألف وأربعمائة سنة ولم يظهر المهدي.
وذكر أن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة ثم تقوم الساعة.
وهذا معناه أن الشمس قد طلعت من مغربها منذ أكثر من عشرين سنة!!
وذكر أن الدجال يظهر على رأس مائة سنة، وينزل المسيح عيسى ابن مريم فيقتله، ويبقى بعده أربعين سنة، وها نحن في المائة الأخيرة –على قوله- وقد انقضى رأسها ولم يخرج الدجال ولم ينزل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.
وذكر أن مجموع الآيات الكبرى كالدجال ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ستكون بداية وقوعها قبل الساعة بأكثر من مائتي سنة!!!
فكل هذا يدل على بطلان هذا التحديد، وأن الواجب رد علم الساعة إلى الله كما أمر الله بذلك في قوله: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الأحزاب /63.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/319)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعلم متى تقوم الساعة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم متى تقوم الساعة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
علم الساعة من الغيب الذي اختصّ الله تعالى به واستأثر بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه بما فيهم الأنبياء والمرسلون والملائكة المقربون. حتى أفضل الرسل وهو نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعلم متى تقوم الساعة.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة موضّحة أن علم الساعة غيب لا يعلمه أحد من المخلوقين.
فمن أدلة القرآن الكريم على ذلك ما يلي:
1- قال تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الأعراف /187.
2- وقال الله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الأحزاب /63.
فكان الناس يسألون الرسول صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم عن وقت قيام الساعة، فأمره الله تعالى أن يفوض علمها إليه (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) .
قال ابن كثير (3/527) :
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك، وأرشده أن يردّ علمها إلى الله عز وجل اهـ.
وقال الشنقيطي (6/604) :
ومعلوم أن (إنما) صيغة حصر، فمعنى الآية: أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده اهـ.
3- وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبّكَ مُنتَهاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشاهَا) النازعات / 42-45.
قال السعدي:
"ولهذا لما كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية بل المصلحة في إخفائه عليهم طوى علم ذلك عن جميع الخلق واستأثر بعلمه فقال: (إِلى رَبّكَ مُنتَهاهَا) اهـ.
4- وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ) لقمان /34.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ) . رواه البخاري (4627) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادّعى أنه يعلم شيئاً من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه. تفسير القرطبي (14/82) .
وقال ابن كثير (3/462) :
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب اهـ.
ومن الأحاديث التي تدل على أن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله:
1- حديث جبريل المشهور وفيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل لما سأله متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) . رواه مسلم (8) .
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: (تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة) رواه مسلم (2538) .
ومعنى الحديث: أن كل نفس مخلوقة كانت على ظهر الأرض عندما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الحديث لا تعيش أكثر من مائة سنة. وليس معنى الحديث أن القيامة تقوم قبل مائة سنة.
روى مسلم (2537) عن اِبْن عُمَر قال: يُرِيد بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِم ذَلِكَ الْقَرْن. أَيْ يَنْقَطِع وَيَنْقَضِي.
فهذا الحديث ينفي احتمال أن يكون علمها النبي صلى الله عليه وسلم بعد سؤال جبريل عنها. لأنه قبل أن يموت بشهر.
فمن زعم بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم متى تقوم الساعة فهو جاهل، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية السابقة ترد عليه.
قال ابن القيم في "المنار المنيف":
" وقد جاهر بالكذب بعض من يدعي في زماننا العلم فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم متى تقوم الساعة، قيل له: فقد قال في حديث جبريل: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) ، فحرفه عن موضعه وقال: معناه: أنا وأنت نعلمها، وهذا من أعظم الجهل وأقبح التحريف، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله من أن يقول لمن كان يظنّه أعرابياً: أنا وأنت نعلم الساعة، إلا أن يقول هذا الجاهل: إنه كان يعرف أنه جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصادق في قوله: (والذي نفسي بيده، ما جاءني في صورة إلا عرفته غير هذه الصورة) رواه أحمد (374) وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح". . . وإنما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبريل بعد مدة كما قال عمر فلبثت ملياً ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمر، أتدري من السائل؟) رواه مسلم (8) . والمحرِّف يقول: علم وقت السؤال أنه جبريل ولم يخبر الصحابة بذلك إلا بعد مدة. ثم قوله: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) يعمّ كلّ سائل ومسؤول، فكلّ سائل ومسؤول عن الساعة شأنهما كذلك" اهـ بتصرف واختصار.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/320)
وزن الأعمال وتوزيع الصحائف يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يتم توزيع صحائف الأعمال يوم القيامة على العباد؟ وكيف توزن أعمالهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
توزيع صحائف الأعمال:
إذا تمت محاسبة العباد على أعمالهم، أُعطى كل عبد كتابه المشتمل على أعماله كلها فأما المؤمن فيعطاه بيمينه تكرمة له، وهو الناجي المسرور يوم القيامة قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) القيامة /7-9. وقال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) الحاقة /19-24.
أما الكافر والمنافق وأهل الضلال فيعطون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا) القيامة/10-12. وقال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) الحاقة /25-32. فإذا أعطي العباد كتبهم قيل لهم: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية /29. (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الإسراء /14.
وأما الميزان:
فيوضع الميزان لوزن أعمال العباد قال القرطبي: (فإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها) اهـ.
وقد دلت النصوص الشرعية على أن الميزان ميزان حقيقي له كِفَّتان، توزن به أعمال العباد. وهو ميزان عظيم لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وقد اختلف أهل العلم هل هو ميزان واحد تورزن به أعمال العباد أم أن الموازين متعددة ولكل شخص ميزانه الخاص، فمن قال بالتعدد استدلوا بأن الميزان قد ورد في بعض الآيات بصيغة الجمع، مثل قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الأنبياء /47. ومن قال بأنه واحد استدلوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي ... ) السلسلة الصحيحة (941) . وحملوا الآية التي ورد فيها الميزان بصيغة الجمع على تعدد الموزونات من الأعمال والأقوال والصحف والأشخاص. فقالوا: إنه جُمِع الأشياء التي توزن فيه.
ومما يدل على وزن الأقوال عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) رواه البخاري 6406.
ويدل على وزن الأعمال ما صح عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ) صحيح سنن الترمذي 1629.
ومما يدل على وزن صحائف الأعمال حديث البطاقة عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ فَقَالَ إِنَّكَ لا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ فَلا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ) صحيح سنن الترمذي 2127.
ومما يدل على وزن الأشخاص عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) رواه البخاري 4729 وكذلك يدل عليه ما ثبت من أن ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِمَّ تَضْحَكُونَ) قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ) حسن إسناده الألباني في شرح الطحاوية برقم 571 ص 418.
نسأل الله تعالى أن يثقل موازيننا.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/321)
لا يمكن الحكم بالإسلام لمن لم يشهد بالشهادتين
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان الإنسان كافراً منذ أن وُلد، ولكنه مخلص ولم يقترف معاصٍ كبيرة ويعتقد بأن كل شخص على حقّ، ولم يخبره أحدٌ عن الإسلام، وتوفي في هذه الحالة، أين يذهب مثل هذا يوم القيامة؟ جزاك الله خيراً..]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الشخص الموصوف حاله في السؤال لا يمكن الحكم له بالإسلام حتى ولو كان حسن الأخلاق لأنّه لم يشهد بالشهادتين ولم يؤمن بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا، واعتقاد أنّ كلّ الأديان على وجه الأرض صحيحة وانّ أتباعها جميعا على حقّ هو أمر من أبطل الباطل ومن أعظم الكفر قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر 9
وقال سبحانه: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (58) سورة غافر
وقال: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) الرعد 16
وقال عزّ وجلّ: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) المائدة 100
وقال سبحانه: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) سورة فاطر
أما عن مصير هذا الشخص موضع السؤال، وهل هو معذور بجهله أم لا؟ وما حاله يوم القيامة؟ فإننا نؤمن أنّ أمره إلى الله عزّ وجلّ وقد تقدّمت إجابة عن سؤال مشابه برقم (2443) يُرجى الرجوع إليها. والله تعالى أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/322)
لقاء الله يوم القيامة
[السُّؤَالُ]
ـ[أين الله؟ أنستطيع أن نقابل الله يوم الحساب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد دلّت الأدلّة الشرعية من الكتاب العظيم والسنّة النبوية على أنّ الله سبحانه وتعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته كما قال سبحانه: (الرحمن على العرش استوى) ، ولمزيد من التفصيل يراجع سؤال 992.
أما عن ملاقاة الله تعالى ورؤيته فإنّ لقاء الله يكون بعد الموت ويكون يوم القيامة ورؤيته سبحانه لا تكون إلا يوم القيامة، فأمّا لقاء الله الذي بعد الموت فقد ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى: بَاب مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءه
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ. " صحيح البخاري 6026
قوله (فليس شيء أحب إليه مما أمامه) أي ما يستقبله بعد الموت وقد أخرج مسلم والنسائي من طريق شريح بن هانئ قال " فأتيت عائشة فقلت سمعت حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا " فذكره قال " وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت فقالت: ليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر - أي فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف - وحشرج الصدر أي ترددت الروح في الصدر - واقشعر الجلد وتشنجت " أي انقبضت وهذه الأمور هي حالة المحتضر قال الخطابي: اللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة ومنها البعث كقوله تعالى (الذين كذبوا بلقاء الله) ومنها الموت كقوله (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) وقوله (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) .
ولقاء الله (المذكور في الحديث السابق) غير الموت بدليل قوله في الرواية الأخرى " والموت دون لقاء الله " لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: ليس (أي المقصود بالحديث) كراهة الموت وشدته لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة. قال: ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) وقال النووي: معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث يكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه. وفي الحديث أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله تعالى. وفي الحديث المتقدّم أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذا من قوله " والموت دون لقاء الله " وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعا في حديث طويل وفيه " واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ".
وأمّا ملاقاة الله ورؤيته يوم القيامة فهي ثابتة في أدلّة كثيرة منها قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) .
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لا قَالَ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ. رواه البخاري 764 نسأل الله تعالى أن يلقانا وهو راض عنّا وصلى الله على نبينا محمد
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/323)
حساب المؤمن أقصر من حساب الكافر بكثير
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تختلف مدّة حساب المؤمن عن مدّة حساب الكافر يوم القيامة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بلا شكّ فإن الله تعالى قال عن يوم القيامة: (الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) {الفرقان: 26} فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك.
وقوله تعالى: (فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير) {المدثر: 9 , 10} يدل بمفهومه أيضا على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى: (مهطعين إلى الداع يقول الكافرين هذا يوم عسر) {القمر: 8} .ا. هـ. وهذا يعني أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه ما يُشير إلى مدّة ما يستغرقه الحساب من يوم القيامة وذلك في قوله عز وجل: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) {الفرقان: 24} : فهذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار لأن المقيل القيلولة أو مكانها، وهي الاستراحة نصف النهار في الحر.
وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير، لدلالة هذه الآية على ذلك، كما نقله ابن كثير وغيره. دفع إيهام الاضطراب للشنقيطي (ص172)
وممّا يدلّ دلالة صريحة على تخفيف حساب المؤمن يوم القيامة حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر " رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع 8193، والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/324)
هل ينجو أحد من ضمة القبر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أثناء اطلاعي على مواضيع دينية وجدت هذه الجملة: (للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ) ، وفي رواية: (هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهد له سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه) فهل هذا يعني أن سعد بن معاذ هو الوحيد من بين البشر الذي نجا من ضغطة القبر , أي هل ضغطة القبر واجبة على كل مسلم حتى لو عمل بأسباب تنجي من عذاب القبر ?]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ضمَّةُ القبرِ أوَّلُ ما يلاقيه الميتُ في عالم البرزخ، وقد جاءت بإثباتها نصوص صريحة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها:
1- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ)
رواه أحمد (6/55،98) ، قال العراقي في " تخريج الإحياء " (5/259) : إسناده جيد. وقال الذهبي في " السير " (1/291) : إسناده قوي. وقال الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1695) : " وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب " انتهى. وصححه محققو مسند أحمد في طبعة مؤسسة الرسالة (40/327) .
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن سعد بن معاذ رضي الله عنه حين توفي:
(هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ)
رواه النسائي في " السنن " (2055) (4/100) وسكت عنه، وبوب عليه بقوله: " ضمة القبر وضغطته "، وصححه الألباني في " صحيح النسائي ".
3- عن أبي أيوب رضي الله عنه: أن صبيًا دُفنَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم:
(لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لَأَفْلَتَ هَذَا الصَبِيُّ) .
رواه الطبراني " المعجم الكبير " (4/121) وصحح الحافظ ابن حجر نحوه في " المطالب العالية " (13/44) ، وصححه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3/47) ، والألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/2164) .
وذكر القرطبي في " التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص/323) تحت باب: " ما جاء في ضغطة القبر على صاحبه وإن كان صالحا " نصوصا أخرى في الموضوع، ولكن يغلب عليها الضعف والنكارة.
كما أورد ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/231) كثيرا منها تحت باب ضمة القبر، وفيما ذكرناه من الصحيح كفاية، إن شاء الله.
ثانيا:
اختلف أهل العلم في المؤمن، هل تصيبه ضمة القبر، وكيف يكون حاله فيها، على قولين:
القول الأول:
تصيب ضمة القبر كل مؤمن وتشتد عليه، غير أن المؤمن الصالح سرعان ما يفرج عنه ويفسح له في قبره، فلا يطول العذاب عليه، أما الفاسق فتشتد عليه الضمة ويطول عليه ضيق لحده بحسب ذنبه ومعصيته.
قال أبو القاسم السعدي رحمه الله:
" لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغط للكافر وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره ثم يعود إلى الانفساح له " انتهى.
وقال الحكيم الترمذي رحمه الله:
" سبب هذا الضغط أنه ما من أحد إلا وقد ألم بذنب ما فتدركه هذه الضغطة جزاء لها ثم تدركه الرحمة " انتهى.
نقلا عن حاشية السيوطي على " سنن النسائي " (3/292) ، ونقله الرملي في " فتاواه " (4/210)
القول الثاني:
تصيب ضمة القبر المؤمنين الصالحين ولكنها ضمة رفق وحنان، ليس فيها أذى ولا ألم، أما المسلمون العاصون فتشتد عليهم سخطا بحسب كثرة ذنوبهم وسوء أعمالهم.
عن محمد التيمي رحمه الله قال:
(كان يقال: إن ضمة القبر إنما أصلها أنها أُمُّهُم، ومنها خُلقوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضم الوالدة الشفيقة التي غاب عنها ولدها ثم قدم عليها، فمن كان لله مطيعاً ضمته برفق ورأفة، ومن كان لله عاصياً ضمته بعنف سخطاً منها عليه) .
ذكره السيوطي في حاشيته على " سنن النسائي " (3/292) من رواية ابن أبي الدنيا، وذكره في " بشرى الكئيب بلقاء الحبيب " (ص/5) تحت باب: " ذكر تخفيف ضمة القبر على المؤمن ".
وقد روي في هذا المعنى حديث مرفوع عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(يا رسول الله! إنك منذ يوم حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني شيء. قال: يا عائشة! إن أصوات منكر ونكير في أسماع المؤمنين كالإثمد في العين، وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز رأسه غمزا رفيقا، ولكن يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يُضغطون في قبورهم كضغطة البيضة على الصخرة)
رواه البيهقي في " إثبات عذاب القبر " (ص/85، رقم/116) ، والديلمي في " مسند الفردوس " (رقم/3776) ، وفي سنده الحسن بن أبي جعفر وعلي بن زيد بن جدعان ضعيفان. فهو حديث ضعيف. وقد عزاه بعضهم لابن منده وابن النجار ولم أقف عليه.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله:
" هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار، ونحو ذلك. فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد، وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه. قال الله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة) ، وقال: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر) فنسأل الله تعالى العفو واللطف الخفي. ومع هذه الهزات، فَسَعْدٌ – يعني ابن معاذ - ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء رضي الله عنه. كأنك يا هذا تظن أن الفائز لا يناله هول في الدارين، ولا روع ولا ألم ولا خوف؟! سل ربك العافية، وأن يحشرنا في زمرة سعد " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (1/290-292)
وقال الشيخ النفراوي المالكي:
" وأما ضمَّةُ القبر فلا بد منها، وإن كانت تختلف باختلاف الدرجات " انتهى.
" الفواكه الدواني " (2/688)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" هذا الحديث – يعني حديث (لقد ضم القبر سعدا ضمة..) - مشهور عند العلماء، وعلى تقدير صحته: فإن ضمة الأرض للمؤن ضمة رحمة وشفقة، كالأم تضم ولدها إلى صدرها، أما ضمتها للكافر فهي ضمة عذاب والعياذ بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإنسان إذا دفن أتاه ملكان يسألانه عن ثلاثة أصول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، أسأل الله أن يجعل جوابي وجوابكم هذا، أما المنافق أو المرتد - أعاذنا الله وإياكم من هذا – فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، يدخل بعضه في بعض من شدة الضم، ففرق بين ضم الأرض للكافر أو المرتد وضمها للمؤمن." انتهى باختصار.
" لقاءات الباب المفتوح " (لقاء رقم/161، سؤال رقم/17) .
والذي يظهر والله أعلم أن القول الأول أرجح القولين في هذه المسألة، لدلالة ظاهر السنة عليه، وأن أحدا من المؤمنين، فضلا عن غيرهم، لا ينجو من ضمة القبر؛ وهذا يدل على شدة هذه الضمة، وأن لها ألما يصيب من ضمه قبره، وإن كان الناس يتفاوتون في ذلك، كل بحسب عمله وحاله. ولأجل ذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ضمة القبر في أسباب مغفرة الذنوب، قال: " السبب الثامن ما يحصل فى القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا". انتهى. مجموع الفتاوى (7/500) .
على أن الحديث الوارد في السؤال لا يدل على أن سعدا هو الوحيد الذي نجا من ضمة القبر، كما ظنه السائل، بل هو نص في أن سعدا رضي الله عنه لم ينج من ضمة القبر؛ وقد كان أولى الناس أن ينجو منها، لو كان أحد ناجيا.
وانظر جواب السؤال رقم: (71175)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/325)
كيف تعاد أرواح الكافرين بعد تحريق أجسادهم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف تعاد أرواح الكافرين بعد تحريق أجسادهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن الإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الله يبعث من في القبور، وأنه كما خلقهم من عدم قادر على أن يبعثهم كيف شاء ومتى شاء، على اختلاف صورهم، وتعدد مصارعهم، مما لا يتم الإيمان بالله إلا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا" انتهى.
"مجموع الفتاوى" (8 / 7) .
وقال أيضا:
"اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ" انتهى. "مجموع الفتاوى" (11 / 354) .
وقال الله عز وجل:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس/78، 79.
قال السعدي:
"هذا وجه الشبهة والمثل، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر، وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان غفلة منه، ونسيان لابتداء خلقه، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فَوُجِدَ عيانا، لم يضرب هذا المثل.
فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف، فقال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا بمجرد تصوره، يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه، أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور" انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 699- 700) .
وروى البخاري (3481) ومسلم (2756) – واللفظ له - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لِأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ. فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ) .
ولفظ البخاري: (إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ) .
قال شيخ الإسلام:
" فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ وَالْجَهْلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعَادَةِ ابْنِ آدَمَ؛ بَعْدَ مَا أُحْرِقَ وَذُرِيَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْمَيِّتَ وَيَحْشُرُهُ إذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَهَذَانِ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. والثَّانِي: مُتَعَلِّقٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا الْمَيِّتَ وَيَجْزِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (12 / 491) .
فمتى علم العبد أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وأنه سبحانه أوجد الخلائق من عدم لم يمتنع لديه الإيمان بالبعث والنشور على أي صورة كان، دون أن يرهق عقله وفكره بالبحث والتحري الذي لا يجدي شيئا، ويكفيه دلالة الشاهد الذي لا يغيب عن ناظره، وهو نفسه، قال الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات/20، 2.
وقال الله عز وجل لعبده زكريا عليه السلام: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) مريم/7-9.
فليس خلق هذا الغلام من أم عاقر، وأب كبير في السن بأعجب من خلق الأب وإيجاده من العدم.
انظر: تفسير الطبري (18/151) .
وقال تعالى عن مريم: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران/47.
وقال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران/59.
ثم هذه السماوات والأرض أمام عينيه، وما يشاهده بينهما من أفلاك ونجوم، لا يحصي عددها إلا الله، ولا يقادر قدرها أحد من خلقه، هي أكبر من خلق الناس، فالذي خلق السماوات والأرض مع عظمهما واتساعها قادر من باب أولى على إعادة خلق الإنسان مرة أخرى.
قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) غافر/57.
وقال تعالى: (أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس/81، 82.
وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الروم/27.
يعني: أيسر عليه. وقال مجاهد: الإعادة أهون عليه من البَدَاءة، والبداءة عليه هَيْنٌ. وكذا قال عكرمة وغيره.
"تفسير ابن كثير" (6/311) .
وروى البخاري (4974) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي. وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ) .
هذا.. وإن كان قصد السائل بسؤاله: كيف تعاد أرواح الكافرين بعد تحريق أجسادهم، يعني في النار يوم القيامة.
فيقال: إن أرواحهم باقية في أجسادهم، وإن حرقت بالنار، فيوم القيامة إذا عادت الروح إلى البدن لا تخرج منه أبدا، فتبقى روح الكافر في جسده معذبة، وتبقى روح المؤمن في جسده منعمة.
فإن أهل النار كلما احترقت جلودهم بالنار أبدلهم الله غيرها، حتى يستمر عذابهم ولا ينقضي، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء/56.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/326)
هل تلتقي أرواح الأحياء مع أرواح الأموات في المنام؟ وهل ما يرونه من حال يصدَّق؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام؟ لأن الإنسان يرى أمواتاً من أقاربه، ويتحدث إليهم في منامه، أو يطلبون صدقة، أو يرى الميتَ في نعيم، وبساتين، هل هذه منازله؟ وهل هذه روحه التقت مع روح الميت لأن النوم هو الموتة الصغرى؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في البرزخ. واستُدِل لذلك بقوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الزمر/42.
قال القرطبي – رحمه الله -:
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد: أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى) أي: يعيدها.
" تفسير القرطبي " (15 / 260) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وأنها مخلوقة مدبرة، يتصرف الله فيها في الوفاة، والإمساك، والإرسال، وأن أرواح الأحياء، والأموات، تتلاقى في البرزخ، فتجتمع، فتتحادث، فيرسل الله أرواح الأحياء، ويمسك أرواح الأموات.
" تفسير السعدي " (ص 725) .
لكن قال شيخ الإسلام عن هذا الاستدلال:
وما ذُكر من التقاء أرواح النيام والموتى: لا ينافي ما في الآية، وليس في لفظها دلالة عليه.
" مجموع الفتاوى " (5 / 453) .
وثمة قول آخر في الآية: وهو أن الروح الممسَكة، والمرسَلة: هي روح الميت، وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثانياً:
انتصر ابن القيم رحمه الله لهذا القول بشدة، وذكر أن الواقع يشهد له ويصدقه، ثم قال – رحمه الله -:
وقد دلَّ التقاء أرواح الأحياء والأموات: أن الحيَّ يرى الميت في منامه، فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحيُّ، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي، والمستقبل، وربما أخبره بمالٍ دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدَيْن عليه، وذَكَر له شواهده، وأدلته.
وأبلغ من هذا: أنه يخبر بما عملَه من عملٍ لم يطلع عليه أحد من العالمين، وأبلغ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا، فيكون كما أخبر، وربما أخبره عن أمورٍ يقطع الحى أنه لم يكن يعرفها غيره.
" الروح " (ص 21) ، ثم طول في الاستدلال له، وذكر الحكايات على إثباته.
ثالثاً:
وأما اللقاء في غير المنام، أو في وقت محدد، أو هيئة معينة، فهو مما لم يدل عليه دليل، والقول فيه، وفي غيره من أمور الغيب، بغير برهان من الوحي من رجم الظنون.
1. قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
قال ابن القيم رحمه الله: " وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحيَّ يرى الميت في منامه، فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحيَّ، فيصادف خبره كما أخبر "، فهذا هو الذي عليه السلف، من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله، وتسمع، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام، كما أنه لا صحة لما يدَّعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاءون من الأموات، ويكلمونها، ويسألونها، فهذه إدعاءات باطلة، ليس لها ما يؤيدها من النقل، ولا من العقل، بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح، والمتصرف فيها، وهو القادر على ردِّها إلى أجسامها متى شاء ذلك، فهو المتصرف وحده في ملكه، وخلافه لا ينازعه منازع، أما مَن يدعي غير ذلك: فهو يدعي ما ليس له به علم، ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح؛ إما لكسب مال، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة.
" فتاوى الشيخ ابن باز " (3 / 311، 312) :
2. قال علماء اللجنة الدائمة:
دنو أرواح الأموات من قبورهم يوم الجمعة، أو ليلتها، ومعرفتهم مَن زارهم، أو مرَّ بهم، وسلَّم عليهم، أكثر من معرفتهم بهم في غير يوم الجمعة، أو ليلتها، والتقاء الأحياء والأموات ذلك اليوم: كل هذا من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، فلا تُعلم إلا بوحي من الله لنبيٍّ من أنبيائه، ولم يثبت في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، ولا يكفي في معرفة ذلك الأحلام؛ فإنها تخطئ، وتصيب، فالقول بها، والاعتماد عليها: رجم بالغيب.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (1 / 646 فما بعدها) ، وقد نقدوا الروايات الواردة في لقاء الأحياء بالأموات في المقابر، وكذا ما جاء في ذلك من منامات، وهو أضعف من أن يُحتج به على أمر غيبي.
رابعاً:
وما يراه النائم من حال الميت، أو منزلته في الجنة: فإنه إن كانت رؤيا صحيحة: فما يراه هو الواقع، وقد ثبت عن كثير من السلف أنهم رأوا أمواتاً في المنام، فسألوهم عن أحوالهم، فأخبروهم بها، ثم نقلوا ذلك لنا، وهم أئمة أعلام، ولولا أن ذلك مما يؤخذ به: لما كان لهم ذِكر ذلك للناس، على أننا نقول: قد يكون ما رأوه هو حال ذلك الميت في تلك اللحظة، أما الخير والنعيم: فإما أن يثبت، أو يزيد، وأما حال الشر والسوء: فقد يتغير للأحسن بفضل الله ورحمته، ومما ورد في ذلك من نقل العلماء الثقات الأثبات، ونبدأ بما يقطع بصحة الأمر شرعاً، وذلك بالنقل عن صحابي رأى آخر في منامه، وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم:
1. عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ.
فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ. رواه ملم (116) .
قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله -:
والظاهرُ: أنَّ هذا الرجلَ أدركتْهُ بركةُ دعوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فغُفِرَ ليدَيْهِ، وكُمِّلَ له ما بقي من المغفرة عليه؛ وعلى هذا: فيكونُ قوله: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ ممتدًّا إلى غايةِ دعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم له؛ فكأنَّه قيل له: لن نصلحَ منك ما أفسدْتَ ما لم يَدْعُ لك النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
" المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " (1 / 324) .
2. قال أبو داود – صاحب " السنن " -: محمَّد بن محمد بن خلاَّد – وهو من شيوخه - قتله الزِّنج صبراً، فقال بيده هكذا - ومدَّ أبو داود يده، وجعل بطون كفيه إلى الأرض -، قال: ورأيتُه في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة.
أبو داود بعد الحديث رقم (3281) .
3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
رئي عمرو بن مرَّة الجملي - وهو من خيار أهل الكوفة، شيخ الثوري وغيره - بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بحبِّ علي بن أبي طالب، ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها.
" منهاج السنَّة النبوية " (6 / 201) .
4. وقال الذهبي – رحمه الله -:
قال حبيش بن مبشر - أحد الثقات -: رأيتُ " يحيى بن معين " في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أعطاني، وحبَاني، وزوَّجني ثلاث مائة حوراء، ومهَّد لي بين البابين.
" تذكرة الحفَّاظ " (2 / 15) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/327)
هل يعذَّب في قبره من تكون حسناته أكثر من سيئاته في الميزان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أفهم، وأدرك، أن المسلم يمكن أن يُعذَّب في القبر، لكن الذي أريد أن أعرفه هو التالي: نعلم أن الإنسان المسلم سوف توزن أعماله يوم القيامة، فإن رجحت الحسنات على السيئات: فإن الله عز وجل سيغفر لهذا المسلم، أو المسلمة، ويدخله الجنة، سؤالي هو: عندما يكون نفس هذا الإنسان المسلم في القبر , فهل سيعذَّب في قبره على الرغم من أن الله عز وجل سيغفر له يوم القيامة؟ وهل سنُعذب في الآخرة على الرغم من أننا سندخل الجنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ثبت عذاب القبر ونعيمه عند أهل السنَّة والجماعة، كما جاء ذلك دلت في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وعليه أجمع سلف الأمة.
وبيان ذلك في جواب السؤال رقم: (34648) .
وتجد في جواب السؤال رقم: (47055) أن الأصل في عذاب القبر ونعيمه أنه على الروح، وقد تتصل الروح بالبدن فيصيبه شيء من العذاب أو النعيم.
وفي جواب السؤالين (7862) و (21212) بيان أن عذاب القبر منه ما يستمر إلى قيام الساعة، ومنه ما ينقطع.
ثانياً:
ينبغي أن يُعْلم أن كثرة الحسنات على السيئات ليست بمنجية صاحبَها من عذاب القبر بذاتها؛ لأن الوعيد المترتب على العذاب في البرزخ، ليس هو الوعيد المترتب على العذاب في نار جهنم، وقد يأتي المسلم بسبب واحد من أسباب العذاب في قبره، فيعذَّب عليها، وله أمثال الجبال من الحسنات.
والميزان الذي توزن به أعمال الناس فيشقى بعده طوائف خفت موازينهم، ويسعد آخرون ثقلت موزاينهم: إنما يكون في آخر المطاف، بعد أن يقطع الناس أشواطاً في مراحل الدار الآخرة.
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله -:
والذي تدل عليه الآي، والأخبار: أن من ثقل ميزانه: فقد نجا وسلِم، وبالجنة أيقن، وعلِم أنه لا يدخل النار بعد ذلك، والله أعلم.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص 272) .
والمسلم الذي نفترض كثرة حسناته لو وضعت في الميزان بعد موته مباشرة: لا ينجو من عذاب القبر، إن شاء الله تعذيبه على بعض سيئاته تلك، وليتأمل الأخ السائل المسائل التالية فهي تحل الإشكال الوارد في ذهنه:
1. من كثرت حسناته على سيئاته وأجاب الملَكين في القبر عن أسئلتهم: لا يعني بالضرورة أنه ينجو من عذاب القبر إذا جاء بما يستحق عليه العذاب من سيئاته تلك، وشاء الله أن يعذبه عليها في قبره.
2. من كثرت حسناته على سيئاته ليس بالضرورة إذا رأى مقعده من الجنة في قبره، أنه لن يعذَّب على ما شاء الله من ذنوبه، وللعلماء في هذا قولان:
الأول: أن من ارتكب سيئات وشاء الله تعذيبه في القبر، وهو في الآخرة من أهل الجنة: أنه يرى مقعده من الجنة باعتبار مآله.
والثاني: أنه ير مقعده من النار باعتبار حاله.
وينظر جواب رقم: (121628) فهو مهم.
وعليه:
فإن زيادة حسنات العبد على سيئاته، ليس بمانع من أن يعذب في قبره على بعض ذنوبه التي ورد الوعيد لفاعلها بالعذاب في قبره. مثل عقوبة المرابي وأنه يسبح في نهر دم، وعقوبة الزناة والزانيات، والعقوبة على النميمة، والغلول من الغنائم، والكذب، وعدم الاستبراء من البول، وغير ذلك مما جاءت النصوص واضحة في التنصيص على معاصٍ بعينها.
وانظر تفصيل ذلك في جوابي السؤالين (46068) و (45325) .
ثالثاً:
ومن حكمة الله تعالى أنه لم يجعل الميزان أول موت العبد؛ ويبدو لنا بعض الحكَم من ذلك نرجو أن تكون موافقة للصواب:
1. أنه يُخفف حِمل السيئات على العاصي بما يصيبه من عذاب القبر؛ تخفيفاً عنه من عذاب جهنم، ولا شك أن ما يصيب العاصي من عذاب القبر أهون عليه مما يصيبه من نار جهنم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الآلام التي هي عذاب: فإن ذلك يُكفِّر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزَن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله به من خطاياه) .
" مجموع الفتاوى " (24 / 375) .
قال رحمه الله:
السبب الثامن: ما يحصل في القبر، من الفتنة، والضغطة، والروعة، فإن هذا مما يكفّر به الخطايا. " مجموع الفتاوى " (7 / 500) .
وانظر جواب السؤال رقم: (7861) .
2. أنه ليس كل مَن جاء بحسنات تبقى معه حتى يدخل بها الجنة، ولا من جاء بسيئات تبقى معه حتى يدخل بسببها النار، فثمة ما يُسمَّى " المقاصة "، وهو أخذ أصحاب الحقوق من حسنات من ظلمهم، أو إلقاء سيئاتهم عليه، كما في حديث " المفلس " الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهذا إنما يكون قبل الميزان.
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله -:
وأما المخلِّطون: فحسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل؛ فإن كانت الحسنات أثقل، ولو بصؤابة – وهي بيضة القَمْل -: دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل، ولو بصؤابة: دخل النار، إلا أن يغفر الله، وإن تساويا: كان من أصحاب الأعراف، هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كانت عليه تبعات، وكانت له حسنات كثيرة: فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات؛ لكثرة ما عليه من التبعات، فيحمل عليه مِن أوزار مَن ظلمه، ثم يعذب على الجميع، هذا ما تقتضيه الأخبار.
" التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " (ص 269، 270) .
3. أنه لم تنقطع الحسنات، ولا السيئات بالموت، بل ثمة " حسنات جارية "، و " سيئات جارية "، فالأول: كمن تصدَّق بصدقة جارية، أو علَّم علماً نافعاً، أو دلَّ غيره على عمل صالحٍ، أو كان له ذرية يعملون بعد موته بطاعات، وكل ذلك مما يجعل للميت مجالاً لزيادة الحسنات، وأما الثاني: فهو لمن دلَّ غيره على عمل فاسد، أو ابتدع بدعة، وغير ذلك مما تجري سيئات أعمالهم على فاعلها، وعلى الميت، الذي كان سبباً في فعل تلك السيئات والبدع.
وبه يُعلم أنه ليس بالموت يقف " عدَّاد " الحسنات، والسيئات، ولذا نرى عظيم الحكمة في عدم اعتبار الميزان أول موت المسلم، بل لا يكون ذلك إلا في آخر المطاف، وبعدها يكون دخول الجنة، أو النار، وعندها يمكن للمسلم أن يفهم معنى قوله تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف/ 8، وقوله (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) القارعة/ 6، 7.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/328)
ما هي اللغة التي سيخاطب الناس بها في عالم البرزخ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[العديد من اللغات لغات عالمية، فما هي اللغة التي ستسأل بها الملائكة في القبر، والتي يستطيع كل فرد أن يجيب عليها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وقفنا في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يُسأل باللغة السريانية.
قاله البلقيني – كما نقله عنه تلميذه السيوطي في رسالته "شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور" – ولم يذكر له أي دليل يمكن الاعتماد عليه.
القول الثاني: يُسأل باللغة العربية.
نص عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويمكن الاستدلال له بظواهر الأحاديث الواردة، فقد جاءت تصف ما يكون في البرزخ باللغة العربية، ولا مانع من كونها على الحقيقة، ويلهم الله جميع مَن يُفتن في قبره فهمَ هذه اللغة والجواب بها.
يقول ابن حجر رحمه الله:
" وأما سؤال الملكين فظاهر الحديث الصحيح أنه بالعربي؛ لأن فيه أنهما يقولان له: (ما علمك بهذا الرجل) إلى آخر الحديث، ويحتمل مع ذلك أن يكون خطاب كل أحد بلسانه " انتهى.
"الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع" (ص/122) .
القول الثالث: يسأل بلغة يفهمها.
ذكره ابن حجر احتمالا كما سبق في كلامه.
وبه تفتي اللجنة الدائمة، والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعا.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/450) : " إذا مات الإنسان ودفن جاءه ملكان وسألاه عن ربه ونبيه ودينه بلغة يفهمها " انتهى.
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" قال بعض العلماء: يُسأل بالسريانية، سبحان الله! السريانية لغة النصارى، والظاهر - والله أعلم - أن هذا القول مأخوذٌ من النصارى؛ لأجل أن يفتخروا ويقولوا لغتنا لغة السؤال في القبر لكل ميت.
والذي يظهر أنه يُسأل بما يفهم: إن كان من العرب فباللغة العربية، إن كان من غير العرب فبلغته " انتهى.
"شرح العقيدة السفارينية" (ص/435) دار الوطن.
والأولى في نظرنا السكوت عن ذلك كله حيث لم يرد فيه نص صحيح، والاشتغال بمثل هذه التفاصيل مما لا منفعة فيه للسائل في أمر دينه ودنياه، ويكفيه من ذلك أن يؤمن أنه يُسأل في قبره، وأن يسأل الله أن يوفقه للعمل بطاعته، وأن يلهمه الجواب، ويثبته عند السؤال.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله السؤال الآتي:
" بماذا يخاطب الناس يوم البعث؟ وهل يخاطبهم الله تعالى بلسان العرب؟ وهل صح أن لسان أهل النار الفارسية , وأن لسان أهل الجنة العربية؟
فأجاب رحمه الله:
لا يعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ , ولا بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعلا؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا بشيء من ذلك , ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، ولم يصح أن الفارسية لغة الجهَنَّمِيِّين، ولا أن العربية لغة أهل النعيم الأبدي , ولا نعلم نزاعًا في ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم، بل كلهم يكفون عن ذلك؛ لأن الكلام في مثل هذا من فضول القول ,.. ولكن حدث في ذلك خلاف بين المتأخرين.
فقال ناس: يتخاطبون بالعربية. وقال آخرون: إلا أهل النار , فإنهم يجيبون بالفارسية , وهي لغتهم في النار. وقال آخرون: يتخاطبون بالسريانية؛ لأنها لغة آدم , وعنها تفرعت اللغات. وقال آخرون: إلا أهل الجنة , فإنهم يتكلمون بالعربية.
وكل هذه الأقوال لا حجة لأربابها , لا من طريق عقل ولا نقل , بل هي دعاوى عارية عن الأدلة , والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (4/300) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/329)
صور من نعيم القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا يحدث للأتقياء في قبورهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قد دلت الأدلة على أن المؤمن ينعم في قبره، حتى تقوم الساعة فينتقل بفضل الله ورحمته إلى النعيم الذي لا ينفد ولا ينقطع وهو نعيم الجنة. جعلنا الله تعالى من أهلها.
وهذه بعض صور مما ينعم به المؤمن في قبره:
1- يفرش له من فراش الجنة.
2- ويُلبس من لباس الجنة.
3- ويفتح له باب إلي الجنة، لِيَأْتِيَهُ مِنْ نَسِيمِهَا وَيَشَمُّ مِنْ طِيبِهَا وَتَقَرُّ عَيْنُهُ بِمَا يَرَى فِيهَا مِنْ النعيم.
4- ويفسح له في قبره.
5- ويبشر برضوان الله وجنته. ولذلك يشتاق إلى قيام الساعة.
فعن البراء بن عازب: قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ فَيَقُولانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِيَ الإِسْلامُ فَيَقُولانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الآيَةُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ قَالَ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. . . الحديث
رواه أحمد (17803) وأبو داود (4753) وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (ص 156) .
6- سروره برؤيته مقعده من النار الذي أبدله الله عز وجل به مقعداً من الجنة
روى أحمد (10577) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأقْعَدَهُ قَالَ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ صَدَقْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ اسْكُنْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولَ لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَيَقُولُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا اهْتَدَيْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلا هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ [أي ذهل] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت.
صححه الألباني في تحقيق كتاب السنة لابن أبي عاصم (865) .
7- ينام نومة العروس.
8- وينور له قبره.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَقُولُ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولانِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاعُهُ فَلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ.
رواه الترمذي (1071) . والحديث: صححه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1391) .
وَإِنَّمَا شَبَّهَ نَوْمَهُ بِنَوْمَةِ الْعَرُوسِ لأَنَّهُ يَكُونُ فِي طَيِّبِ الْعَيْشِ. اهـ تحفة الأحوذي.
فهذا بعض النعيم الذي ينعم به المؤمن في قبره، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/330)
تمثل العمل الصالح رجلا في القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (عند موت الإنسان وأثناء انشغال أقربائه بمناسكِه الجنائزيةِ، يقفُ رجلٌ وسيمُ جداً بجوار رأس الميت. وعند تكفين الجثّة، يَدْخلُ ذلك الرجلِ بين الكفنِ وصدرِ الميّتِ. وبعد الدفنِ، يَعُودَ الناس إلى بيوتهم، ويأتي القبرِ ملكان مُنكرٌ ونكير، ويُحاولانَ أَنْ يَفْصلاَ هذا الرجلِ الوسيم عن الميتِ لكي يَكُونا قادرين على سؤال الرجلِ الميتِ في خصوصية حول إيمانِه. لكن يَقُولُ الرجل الوسيم: " هو رفيقُي، هو صديقُي. أنا لَنْ أَتْركَه بدون تدخّل في أيّ حالٍ منَ الأحوالِ. إذا كنتم معنينَّن لسؤالهِ، فاعمَلوا بما تؤمرونَ، أما أنا فلا أَستطيعُ تَرْكه حتى أدخلهْ إلى الجنة ِ". ويتحول الرجل الوسيم إلى رفيقه الميت ويَقُولُ له: " أَنا القرآن الذيّ كُنْتَ تَقْرؤُه بصوتٍ عالٍ أحياناً وبصوت خفيض أحياناً أخرى. لا تقلق. فبعد سؤال مُنكرٍ ونكير لا حزن بعد اليوم. وعندما ينتهى السؤال، يُرتّبُ الرجل الوسيم والملائكة فراش من الحرير مُلئ بالمسكِ للميت في الجنة) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي جاء في السنة النبوية الصحيحة من تمثل العمل الصالح، ومنه قيام العبد بالقرآن الكريم، بالرجل الحسن في القبر ما يلي:
1- عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ... إلى أن قال – في وصف حال المؤمن في القبر -:
فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ.
قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي)
رواه أحمد (4/362) وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (156)
2- عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول:
(َإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا. فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا)
رواه أحمد في "المسند" (394) وابن ماجه في "السنن" (3781) وحسنه البوصيري في الزوائد والألباني في "السلسلة الصحيحة" (2829)
يقول السيوطي في شرح الحديث (2/1242) :
" (كالرجل الشاحب) قال السيوطي: هو المتغير اللون، وكأنه يجيء على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا، أو للتنبيه له على أنه كما تغير لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيامة حتى ينال صاحبه الغاية القصوى في الآخرة." انتهى.
ولم أقف على شيء من السنة الصحيحة في تمثل العمل الصالح رجلا في القبر إلا هذين الحديثين.
أما الحديث الذي ذكرته – أخي السائل الكريم – فلم يرد في كتب السنة المعتمدة، ولم نقف له على إسناد صحيح ولا ضعيف، بل هو مما ينتشر في بعض المنتديات والمواقع من غير تحرٍّ ولا تثبت، ولعل بعض الجهلة من الناس كتبه من قبل نفسه ثم عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحث الناس على الاهتمام بالقرآن والعناية به، ولم يدر هؤلاء أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب التي توبق صاحبها في نار جهنم، وأن النية الحسنة لا ترفع الإثم عن هؤلاء الذين يكذبون ويضعون الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه البخاري (1291) ومسلم (4)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/331)
هل حوسب بعض الناس وأدخلوا الجنة أو النار؟
[السُّؤَالُ]
ـ[متى يبدأ الحساب، أهو عند نزول القبر أم يوم القيامة، وقد علمنا أن هناك بعض الأشخاص دخلوا الجنة أمثال ماشطة بنات فرعون وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وأن هناك بعض الأشخاص دخلوا النار، فكيف يكون ذلك ونحن نعلم أن أول من يدخل الجنة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
أولا:
يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الحساب بعد الموت حق، وأن الجزاء يكون بعد الحساب، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الحجر/92-93، وقال سبحانه: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الأعراف/6
ثم إن هذا الحساب يكون على مرحلتين:
المرحلة الأولى: فى القبر بعد الموت: وذلك حين يأتيه الملكان فيسألانه عن ربه ودينه ونبيه، كما جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، وهي فتنة القبر التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ منها.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُم تُفتَنُونَ فِي القُبُورِ) رواه البخاري (1049) ومسلم (584)
يقول ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (1/165) :
" أصل الفتنة الاختبار والامتحان " انتهى.
ونقل المناوي في "فيض القدير" (6/234) عن بعض أهل العلم قولهم:
" يحاسب المؤمن في القبر ليكون أهون عليه في الموقف، فيمحص في البرزخ، فيخرج وقد اقتص منه " انتهى.
ويكون بعد هذا الحساب جزاء أيضا، فمن فاز أتاه من النعيم والسرور في قبره، ومن خسر أصابه من العذاب والشقاء.
وكل ذلك في القبر أو في حياة البرزخ، أما الجنة والنار فلا يدخلها أحد دخولا تاما إلا بعد المرحلة الثانية من الحساب، وهي حساب الآخرة.
ولكن قد تدخل بعض الأرواح الجنة، فيصيبها بعض نعيمها، كرامة منه سبحانه وتعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ)
رواه مالك في الموطأ (1/240) وصححه ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/614)
نسمة المؤمن: روحه. يعلق: أي يأكل ويرعى.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه "حادي الأرواح" (48) :
" وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة " انتهى.
كما قد تُعرض بعض الأرواح على النار، فيصيبها من حرها وعذابها.
يقول سبحانه وتعالى:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر/46
ومن تجاوز حساب القبر هان عليه حساب الآخرة.
عن هَانِئ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ)
رواه الترمذي (2308) وحسنه، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
المرحلة الثانية من الحساب: بعد البعث في الآخرة، وهو الحساب العظيم الذي يميز فيه بين أهل الجنة وأهل النار، ويتقاص العباد فيه المظالم بينهم، وسمي ذلك اليوم بيوم الحساب.
يقول سبحانه وتعالى:
(هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ) ص/53
وقال سبحانه:
(وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) غافر/27
ولا يدخل أحد الجنة أو النار إلا بعد هذا الحساب، فمن الناس من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم من يحاسب حسابا عسيرا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة الدخول الحقيقي التام في الآخرة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ) رواه مسلم (197)
ثانيا:
أما ما جاء من الأحاديث التي يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى أحدا في الجنة أو في النار، فهي على أحد وجهين:
1- إما أنها في رؤيا المنام: كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: (يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ)
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/35) :
" قال الكرماني: ظاهر الحديث أن الماع المذكور وقع في النوم؛ لأن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد الموت. ويؤيد كونه وقع في المنام ما سيأتي في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعا: (رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل هذا بلال، ورأيت قصرا بفنائه جاريه فقيل هذا لعمر) الحديث وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعا: (بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقيل: هذا لعمر) الحديث فعرف أن ذلك وقع في المنام، وثبتت الفضيلة بذلك لبلال؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ولذلك جزم النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك " انتهى.
2- يكشف الله للنبي صلى الله عليه وسلم ما سيكون في الأخرة حتى يراه رأي عيان أو رأي قلب، ومنه ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من أمور في الجنة وفي النار.
يقول الحافظ النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (6/207) :
" قال القاضي عياض: قال العلماء: تحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف الله تعالى عنهما، وأزال الحجب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه.
قالوا: ويحتمل أن يكون رؤية علم وعرض وحي، باطلاعه وتعريفه من أمورها تفصيلا ما لم يعرفه قبل ذلك.
قال القاضي: والتأويل الأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين كتناوله صلى الله عليه وسلم العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار " انتهى.
انظر جواب السؤال رقم (4003) ، (5643) ، (12478) ، (14526)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/332)
طبيعة الحياة في القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا قيل إن الميت يحيا في القبر، فهل هي نفس حياته الأولى، وكم حاسة ترجع إليه، وإلى كم تبقى حياته في القبر، وإذا كان الميت تُسأل جثته، فما مصير الذين يحرقون مثل الهندوس واليابان وغيرهم، وأين يتم سؤالهم؟ إن الطبيب عندما يجري العملية يبعد الحواس لدى الإنسان عنه بمخدر.. أما هذا الموت فإني أتساءل كيف هو؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: ينبغي أن يعلم أن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة: التصديق بما أخبر الله به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأمور المتعلقة بالآخرة والحساب والجنة والنار، وفيما يتعلق بالموت والقبر وعذابه ونعيمه، وسائر أمور الغيب مما جاء في القرآن الكريم أو صحت به السنة المطهرة، فعلينا الإيمان والتسليم والتصديق بذلك، لأننا نعلم أن ربنا هو الصادق فيما يقوله سبحانه وفيما يخبر به جل وعلا، لقوله تعالى: (ومن أصدق من الله قيلاً) النساء/122، وقوله سبحانه: (ومن أصدق من الله حديثاً) النساء /78. ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، وجب التصديق به وإن لم نعرف حقيقته. فالواجب علينا أن نصدق بما جاء به من أمر الآخرة وأمر الجنة والنار، ومن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار وكون العبد في القبر يعذب أو ينعم، وترد إليه روحه , كل هذا حق جاءت به النصوص، فعلى العبد أن يسلم بذلك، ويصدق كل ما علمه من القرآن , أو صحت به السنة أو أجمع عليه علماء الإسلام.
ثم إذا من الله على المؤمن والمؤمنة بمعرفة الحكمة في ذلك والأسرار، فهذا خير إلى خير، ونور على نور وعلم على علم، فليحمد الله وليشكره على ما أعطاه من العلم والبصيرة في ذلك التي من الله بها عليه حتى زاد علمه , وزادت طمأنينته.
أما ما يتعلق بالسؤال في القبر، وحال الميت فإن السؤال حق، والميت ترد إليه روحه، وقد صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الميت في قبره غير حياته الدنيوية، بل هي حياة خاصة برزخية، ليست من جنس حياته في الدنيا التي يحتاج فيها إلى الطعام والشراب ونحو ذلك , بل هي حياة خاصة يعقل معها السؤال والجواب، فيسأله الملكان من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
فالمؤمن يقول: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي هكذا يجيب المؤمن والمؤمنة , ويقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ (محمد صلى الله عليه وسلم) فيقول: هو رسول الله، جاءنا بالهدى فآمنا به وصدقناه، واتبعناه، فيقال له: قد علمنا إن كنت لمؤمناً، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، ويقال: هذا مكانك حتى يبعثك الله إليه، ويرى مقعده من النار، ويقال له: هذا مكانك لو كفرت بالله، أما الآن فقد أعاذك الله منه وصرت إلى الجنة.
أما الكافر فإذا سئل عن ربه ودينه ونبيه، فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين: يعني الجن والإنس، وتسمعها البهائم، فيفتح له باب إلى النار، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويكون قبره عليه حفرة من حفر النار، ويفتح له باب إلى النار يأتيه من سمومها وعذابها: ويقال: هذا مكانك حتى يبعثك الله إليه، ويفتح له باب إلى الجنة فيرى مقعده في الجنة، ويقال له: هذا مكانك لو هداك الله.
وبذلك يعلم أن القبر إما روضة من رياض الجنة أوإما حفرة من حفر النار. والعذاب والنعيم للروح والجسد جميعاً في القبر، وهكذا في الآخرة في الجنة أو في النار.
أما من مات بالغرق أو بالحرق أو بأكل السباع: فإن روحه يأتيها نصيبها من العذاب والنعيم، ويأتي جسده من ذلك في البر أو البحر، أو في بطون السباع ما شاء الله من ذلك، لكن معظم النعيم والعذاب على الروح التي تبقى؛ إما منعمة وإما معذبة، فالمؤمن تذهب روحه إلى الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، يأكل من ثمارها، والكافر تذهب روحه إلى النار) .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الاطمئنان إلى ما أخبر به الله عز وجل، وأخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يصدق بذلك على الوجه الذي أراده الله عز وجل، وإن خفي على العبد بعض المعنى، فلله الحكمة البالغة سبحانه.
[الْمَصْدَرُ]
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. ص / 338
(1/333)
عذاب القبر ونعيمه حق يقع على الروح والجسد معاً
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي (سؤال) غريب. أعتقد بأن الإنسان إذا مات فإنه لا يسمع كما أن جسده تصبح عديمة النفع. ولكن طبقا للحديث، فإن هناك عذاب في القبر. فهل يعني ذلك بأن الجسد ما يزال حيا؟ وأيضا فقد ورد في القران أن الشهداء لا يموتون. وكذلك فقد جاء في أحد أحاديث مسلم أنه عندما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم أجساد أبي جهل وأمية والآخرين، وسأله عمر رضي الله عنه كيف يمكن للأموات سماع كلامك , فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون ولكنهم لا يمكنهم الرد. أرجو التكرم بالإجابة على سؤالي بالتفصيل.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. ما جاء في السؤال من أن الميت لا يسمع شيئا من كلام الأحياء: هو حق وصدق. قال تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) فاطر/22، وقال تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى) الروم/52.
2. من عقيدة أهل السنة والجماعة أن هناك فتنة وعذاباً في القبر وحياة في البرزخ، كما أن فيه نعيماً وراحة بحسب حال الميت ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى عن آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) غافر/46، فبيَّن الله تعالى أن آل فرعون يُعرضون على العذاب صباحا ومساء مع أنهم ماتوا، ومن هذه الآية أثبت العلماء عذاب القبر.
قال ابن كثير:
وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيّاً) .
" تفسير ابن كثير " (4 / 82) .
وفي حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ".
رواه البخاري (798) ومسلم (589) .
والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من عذاب القبر وهو من أدلة إثبات عذاب القبر ولم يخالف في إثبات عذاب القبر إلا المعتزلة وطوائف أخرى لا يعبأ بخلافهم.
3. وأما حديث مخاطبة النبي لأجساد المشركين يوم بدر فيحمل على حال مخصوصة وهي أن الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم ليخزيهم وليريهم الذلة والصغار:
أ. عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول.
رواه البخاري (3980) ومسلم (932) .
ب. عن أبي طلحة قال: قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما.
رواه البخاري (3976) ومسلم (2875) .
انظر فتح الباري (7 / 304) .
والشاهد أن أهل القليب اسمعهم الله كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لإذلالهم وتصغيرهم، ولا يصح الاستدلال بالحديث على أن الميت يسمع كل شيء لأنه خاص بأهل القليب، إلا أن بعض العلماء استثنى من ذلك سماع الميت للسلام، وهو قول يفتقر إلى الدليل الصحيح الواضح.
4. أن عذاب القبر على الصحيح من أقوال العلماء يقع على الروح والجسد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأيضا تتصل بابدن أحيانا فيحصل له معها النعيم أو العذاب ".
وعلينا الإيمان والتصديق بما أخبر الله.
"الاختيارات الفقهية" (ص 94) .
وقال ابن القيم:
وقد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه فقال:
بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تُنعَّم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليها في هذه الحال مجتمعين كما تكون على الروح منفردة عن البدن.
مذهب سلف الأمة وأئمتها:
أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحياناً ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
" الروح " (ص 51، 52) .
ويضرب العلماء مثالا لذلك الحلم في المنام فقد يرى الإنسان أنه ذهب وسافر وقد يشعر بسعادة وهو نائم وقد يشعر بحزن وأسى وهو في مكانه وهو في الدنيا فمن باب أولى أن تختلف في الحياة البرزخية وهي حياة تختلف كلية عن الحياة الدنيا أو الحياة في الآخرة.
قال النووي:
فان قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره فكيف يُسأل ويُقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر، فالجواب: أن ذلك غير ممتنع بل له نظر في العادة وهو النائم، فإنه يجد لذة وآلاما لا نحس نحن شيئا منها، وكذا يجد اليقظان لذة وآلما لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبرئيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جلى.
" شرح مسلم " (17 / 201) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والنائم يحصل له في منامه لذة وألم وذلك يحصل للروح والبدن حتى إنه يحصل له في منامه من يضربه فيصبح والوجع في بدنه، ويرى في منامه أَنّه أُطْعِم شيئاً طيباً فيصبح وطعمه في فمه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يحصل لروحه وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به والذي إلى جنبه لا يحس به حتى قد يصيح النائم من شدة الألم أو الفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه وقد يتكلم إما بقرآن وإما بذكر وإما بجواب واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينه مغمضة ولو خوطب لم يسمع: فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول أنه " يسمع قرع نعالهم "، وقال " ما أنتم أسمع لما أقول منهم "؟
والقلب يشبه القبر، ولهذا قال لما فاتته صلاة العصر يوم الخندق " ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً " وفى لفظ " قلوبهم وقبورهم ناراً " وَفرَّق بينهما في قوله: (بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور) وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك.
ولا يجوز أن يقال ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلما يجده النائم في منامه، بل ذلك النعيم والعذاب أكمل وأبلغ وأتم وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي، ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان ذلك، إذا قال السائل: الميت لا يتحرك في قبره والتراب لا يتغير ونحو ذلك مع أن هذه المسألة لها بسط يطول وشرح لا تحتمله هذه الورقة والله اعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
" مجموع الفتاوى " (4 / 275، 276) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/334)
الطريق إلى حسن الخاتمة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك علامات تدل على حسن الخاتمة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً: حسن الخاتمة …
حسن الخاتمة هو: أن يُوفق العبد قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله) قالوا: كيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الإمام أحمد (11625) والترمذي (2142) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1334.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قِيلَ وَمَا عَسَلُهُ قَالَ يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ " رواه أحمد 17330 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1114.
ولحسن الخاتمة علامات، منها ما يعرفه العبد المحتضر عند احتضاره، ومنها ما يظهر للناس.
ثانياً:
أما العلامة التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته فهي ما يبشر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاق كرامته تفضلا منه تعالى، كما قال جل وعلا: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} فصلت / 30، وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم. انظر تفسير ابن سعدي 1256
ومما يدل على هذا أيضا ما رواه البخاري (6507) ومسلم (2683) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت؟ فقال: " ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه "
وقال النووي رحمه الله: (معنى الحديث أن المحبة والكراهية التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمحتضر، ويظهر له ما هو صائر إليه)
أما عن علامات حسن الخاتمة فهي كثيرة، وقد تتبعها العلماء رحمهم الله باستقراء النصوص الواردة في ذلك فمن هذه العلامات:
1- النطق بالشهادة عند الموت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داوود 3116، وصححه الألباني في صحيح أبي داوود 2673.
2- الموت برشح الجبين، أي: أن يكون على جبينه عرق عند الموت، لما رواه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " موت المؤمن بعرق الجبين " رواه أحمد (22513) والترمذي (980) والنسائي (1828) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
3- الموت ليلة الجمعة أو نهارها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر) رواه أحمد (6546) والترمذي (1074) قال الألباني: الحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح.
4- الموت غازياً في سبيل الله؛ لقول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} . وقال صلى الله عليه وسلم: " من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد " رواه مسلم 1915.
5- الموت بالطاعون لقوله صلى الله عليه وسلم: " الطاعون شهادة كل مسلم " رواه البخاري (2830) ومسلم (1916) وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ " رواه البخاري 3474.
6- الموت بداء البطن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... ومن مات في البطن فهو شهيد " رواه مسلم 1915
7- الموت بسبب الهدم والغرق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله) أخرجه البخاري 2829 ومسلم 1915.
8- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو وهي حامل به، ومن أدلة ذلك ما رواه أبو داود (3111) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمرأة تموت بجُمع شهيد) قال الخطابي: معناه أن تموت وفي بطنها ولد اهـ عون المعبود
وروى الإمام أحمد (17341) عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبر عن الشداء، فذكر منهم: " والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة (يجرها ولدها بسُرَرِه إلى الجنة) " صححه الألباني في كتاب الجنائز ص 39
السرة: ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة، والسرر ما تقطعه.
9- الموت بالحرق وذات الجنب والسل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة، والغرق شهادة، والبطن شهادة والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة " (قال وزاد أبو العوام سادن بيت المقدس والحرق والسل) قال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب والترهيب (1396) .
10- الموت دفاعاً عن الدين أو المال أو النفس لقول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ما له فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) رواه الترمذي 1421.
وروى البخاري (2480) ومسلم (141) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".
11- الموت رباطاً في سبيل الله، لما رواه مسلم (1913) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأُمن الفتان ".
12- ومن علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة) رواه الإمام أحمد (22813) وصححه الألباني في كتاب الجنائز ص43. انظر كتاب الجنائز (ص34) للألباني رحمه الله.
وهذه العلامات هي من البشائر الحسنة التي تدل على حسن الخاتمة، ولكننا مع ذلك لا نجزم لشخص ما بعينه أنه من أهل الجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كالخلفاء الأربعة..
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الخاتمة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/335)
ما حالُ الطفلِ الذي لم يبلغْ في قبرِه إذا مات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا ماتَ صبيٌّ صغيرٌ لم يصِل إلى سِنِّ التكليفِ، أي أنَّ عمرَه حوالي ما بين 10 إلى 11 سنةً، ما هو مصيرُه في الحياةِ البرزخيةِ من النواحِي التاليةِ:
هل يتعرَّضُ لفتنةِ القبرِ (سؤالِ منكَر ونكير) ؟
هل يتعرَّض لعذابِ القبرِ؟
هل بالفعلِ أنَّ هذا الطفلَ يشفعُ لأهلِه في دخولِ الجنةِ؟
سمعتُ أنَّ نبيَّ اللهِ إبراهيمَ عليه السلام هو المسئولُ عن رعايةِ أطفالِ المسلمينَ الذين ماتوا في هذا السن، والذي أعرفُه أنَّ سيدَنا إبراهيمَ موجودٌ في السماءِ السابعةِ، فهل هذا يعني أنَّ الطفلَ الميِّتَ يعيشُ في السماءِ السابعةِ أم في القبرِ تحتَ الأرضِ؟
وهل ضغطة القبرِ لا ينجو منها حتى الأطفالُ؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ضمَّةُ القبرِ هي أوَّلُ ما يلاقيه الميتُ حين يوضعُ في قبرِه، وقد جاءَ في النصوصِ ما يدلُّ على أنَّها عامةٌ لكل من يوضعُ في القبرِ، ولا ينجو منها أحدٌ، واللهُ المستعان.
روى أحمد (6/55، 98) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، فَلَو نَجَا أَو سَلِمَ أَحَدٌ مِنهَا لَنَجَا سَعدُ بنُ مُعاذ) وقال الألباني في الصحيحة (1695) : وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح بلا ريب، فنسأل الله تعالى أن يهون علينا ضغطة القبر إنه نعم المجيب.
وعن أبي أيوب رضي الله عنه: أن صبيًا دُفنَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ القَبْرِ لأَفْلَتَ هَذَا الصَبِيُّ) رواه الطبراني المعجم الكبير (4/121) وصححه الهيثمي (3/47) ، والألباني في السلسلة الصحيحة (2164) .
ثانيًا:
اختلفَ العلماءُ في الأطفالِ، هل يسألون في قبورِهم؟ على قولَين:
القولُ الأولُ: أنَّهم يُسألون، وهو قول ُبعضِ المالكيةِ وبعض الحنابلة، واختاره القرطبيُّ، واختارَه أيضاً شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية كما نقلَه عنه في الفروع.
انظر: "الفروع" (2/216) ، "شرح الزرقاني" (2/85) .
قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله في "الروح" (87-88) :
" وحجةُ من قالَ إنَّهم يُسأَلون:
أنَّه يُشرَعُ الصلاةُ عليهم، والدعاءُ لهم، وسؤالُ اللهِ أن يقيَهم عذابَ القبرِ وفتنةَ القبرِ.
كما ذُكر عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّه صلَّى على جنازةِ صبِيٍّ، فسُمع مِن دُعائِه: اللهم قِهِ عذابَ القبرِ. رواه مالك (536) وابن أبي شيبة (6/105) .
واحتجُّوا بما رواه عليُّ بنُ معبد عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّه مُرَّ عليها بجنازة صبيٍّ صغيرٍ، فبكت، فقيلَ لها: ما يُبكيك يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبيُّ، بكيت له شفقةً عليه من ضمةِ القبرِ.
قالوا: واللهُ سبحانه يُكمِّل لهم عقولَهم ليعرِفوا بذلك منزلَهم، ويُلهمون الجوابَ عما يُسأَلون عنه " انتهى.
القولُ الثاني: أنَّهم لا يُمتحنون ولا يُسأَلون في قبورِهم. وهو قولُ الشافعيةِ، وبعضِ المالكية والحنابلة.
قالَ ابنُ مفلح في "الفروع" (2/216) :
" وهو قولُ القاضي، وابنُ عقيل " انتهى.
أما حجَّةُ هذا القول، فيوضِّحُها ابنُ القيم رحمه الله، ويبدو أنَّه يميلُ إليها، حيث يقولُ في "الروح" (87-88) :
" قالَ الآخرون:
السؤالُ إنَّما يكونُ لِمَن عَقَلَ الرسولَ والمرسِلَ، فيُسأَل هل آمن بالرسولِ وأطاعَه أم لا؟ فيُقال له: ما كنت تقولُ في هذا الرجلِ الذي بُعِثَ فيكم؟
فأمَّا الطفلُ الذي لا تمييزَ له بوجهٍ ما، فكيف يقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ الذي بُعِثَ فيكم؟ ولو رُدَّ إليه عقلُه في القبرِ , فإنَّه لا يُسأَل عمَّا لم يتمكن من معرفتِه والعلمِ به، ولا فائدةَ في هذا السؤالِ.
وأما حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، فليس المرادُ بعذابِ القبرِ فيه عقوبةَ الطفلِ على تركِ طاعةٍ أو فعلِ معصيةٍ قطعًا، فإنَّ اللهَ لا يعذِّبُ أحدًا بلا ذنبٍ عمله.
بل عذابُ القبرِ: قد يُرادُ به الألمُ الذي يحصل للميتِ بسببٍ غيرِه، وإن لم يكن عقوبةً على عَمَلٍ عَمِلَه، ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الميتَ ليعذبُ ببكاءِ أهلِه عليه) أي: يتألَّمُ بذلك ويتوجَّعُ منه، لا أنّه يعاقَبُ بذنبِ الحيِّ.
ولا ريبَ أن في القبرِ من الآلامِ والهمومِ والحسراتِ ما قد يسرى أثرُه إلى الطفل، فيتألَّمُ به، فيُشرَعُ للمصلي عليه أن يسألَ اللهَ تعالى له أن يقيَه ذلك العذابَ، والله أعلم " انتهى.
ثالثاً:
أما عن مكانِ من تُوُفِّيَ من الأطفالِ، هل هم في السماءِ السابعةِ مع إبراهيمَ عليه السلام، أم في قبورِهِم؟
فالذي ورد في ذلك حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكثِرُ أن يَقُولَ لأَصحَابِهِ: هَل رَأَى أَحَدٌ مِنكُم مِن رُؤيَا؟
قالَ: فَيَقُصُّ عَلَيه مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُصَّ.
وَإِنَّه قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّه أَتَانِي الليلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهما ابتَعَثَانِي، وَإِنَّهُما قَالا لِي: انطَلِق، وَإِنِّي انطَلَقتُ مَعَهُما. . . فذكر أشياء رآها ثم قال:
فانطَلَقنَا، فَأتَينَا عَلَى رَوضَةٍ مُعتَمَّةٍ، فِيهَا مِن كُلِّ لَونِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولًا فِي السَّماءِ، وإِذَا حَولَ الرَّجُلِ مِن أَكثَرِ وِلدَانٍ رَأيتُهم قَطُّ،. . . ثم كان مما عبره له الملكان:
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الذي فِي الرَّوضَةِ فَإِنَّه إبراهيمُ، وَأَمَّا الوِلدَانُ الذِينَ حَولَه فَكُلُّ مَولُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ، فَقَالَ بَعضُ المُسلِمِين: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَوْلادُ المُشْرِكِين؟ فَقَالَ: وَأَوْلادُ المُشرِكِين. رواه البخاري (7047) .
فهذا الحديث يدل على أن من مات وهو قبل البلوغ يكون في الجنة في كفالة إبراهيم عليه السلام، لا أنه يكون في السماء السابعة.
وانظر: "شرح مسلم للنووي" حديث رقم (2658) .
رابعاً:
جاءت الأحاديث المتكاثرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شفاعة الصبيان في آبائهم يوم القيامة، ومن ذلك:
عن أبي حسان قال: قلتُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّه قَدْ مَاتَ لِي ابنانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ بِحَدِيْثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟
قالَ: نَعَمْ، صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُم أَبَاهُ - أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ - فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ، - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ - كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنَفَةِ ثَوْبِكَ هذا، فَلا يَتَنَاهَى حتى يُدخِلَه اللهُ وَأَبَاهُ الجَنَّةَ. رواه مسلم (2635) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/336)
هل يستمر عذاب القبر إلى قيام الساعة
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أسال عن سؤال القبر: (بعد أن يفرغ الملكان من سؤال الإنسان في قبره.. هل يبقى الفاجر يُعَذَّبُ في قبره إلى قيام الساعة.. وأيضاً هل يبقى المؤمن في نعيم إلى قيام الساعة.. أم أنه مجرد يوم واحد وسينتهي ويصبح بعدها الإنسان جثة هامدة وأيضاً هل هناك دليل على أن الإنسان في قبره ينتقل إلى حياة أخرى تستمر إلى قيام الساعة.. أجيبوني يرحمكم الله) .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحياة التي يعيشها الإنسان تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- الحياة الدنيا، والتي تنتهي بالموت.
2- حياة البرزخ، وهي التي تكون بعد الموت إلى قيام الساعة.
3- حياة الآخرة، وهي التي تكون بعد قيام الناس من قبورهم إما إلى جنةٍ، نسأل الله من فضله، وإما إلى نار والعياذ بالله.
فالحياة البرزخية هي التي تكون بعد موت الإنسان إلى بعثه، وسواء قُبِر أو لم يُقبر أو احترق أو أكلته السباع، والذي يدل على هذه الحياة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت بعدما يوضع في قبره يسمع قرع نعال أهله، كما جاء في الحديث.
وهذه الحياة إما أن تكون نعيماً وإما أن تكون جحيماً، والقبر فيها إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
والذي يدل على النعيم والعذاب فيها، قول الله تعالى عن قوم فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) سورة غافر/46، قال ابن مسعود: إن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تحشر عن النار بالغداة والعشي فيقال هذه داركم.
قال ابن كثير: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور.
" تفسير ابن كثير " (4 / 82) .
قال القرطبي: واحتج بعض أهل العلم في إثبات عذاب القبر بقوله: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر , ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) . " تفسير القرطبي " (15 / 319) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ) رواه البخاري (بدء الخلق/3001) ومسلم (الجنة وصفة نعيمها / 2866) .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ: نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) رواه البخاري (الجنائز/1283) ومسلم (الكسوف / 903) .
فهذه الآيات والأحاديث تدل على إثبات عذاب القبر واستمراره في حق بعض الناس.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن عذاب القبر:
أما إن كان الإنسان كافراً والعياذ بالله فإنه لا طريق إلى وصول النعيم إليه أبداً، ويكون عذابه مستمراً، وأما إن كان عاصياً وهو مؤمن فإنه إذا عذِّب في قبره يعذَّب بقدر ذنوبه، وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذ يكون منقطعاً. أهـ " الشرح الممتع " ج/3 ص/253.
وانظر جواب سؤال رقم (7862) ففيه زيادة بيان
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/337)
شدائد القبر تكفّر عن المؤمن من سيئاته
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يستفيد المسلم من فتنة القبر بتخفيف سيئاته أو محوها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن جعل قبل الحساب مكفِّرات لذنوبها، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عشرة مكفِّرات، ومنها: عذاب القبر.
قال رحمه الله:
ما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب: فإن ذلك يُكفِّر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزَن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله به من خطاياه.
" مجموع الفتاوى " (24 / 375) .
قال رحمه الله:
السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما يكفّر به الخطايا. " مجموع الفتاوى " (7 / 500) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا في " منهاج السنَّة " (6 / 238) أن مما يكفِّر السيئات: ما يُبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة، وفتنة الملَكين. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/338)
هل عذاب القبر مستمر
[السُّؤَالُ]
ـ[لي أخ قد مات وهو مفرِّط يعمل المعاصي والكبائر ولكنني كنت أحبّه جدا، وقد قرأت عن عذاب القبر أشياء مخيفة جدا فهل يستمرّ عليه العذاب في القبر، وهل يخفّف عنه أن أعمل طاعات وأهب ثوابها لها مثل الصّدقة أو الحجّ، أرجو إفادتي فأنا حزينة عليه جدا.]ـ
[الْجَوَابُ]
أمّا مصير أخيك فأمره إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له ولا يُمكن أن نقطع فيه بشيء
ولكن نتكلّم عن المسألة مجرّدة:
فأما مسألة هل عذاب القبر دائم أم منقطع؟
فقد قال ابن القيم عن هذه المسألة:
جوابها أنه نوعان:
نوع دائم سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين فإذا قاموا من قبورهم قالوا {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} ويدل على دوامه قوله تعالى {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} .
ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة.
وفي حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا فجعل التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط.
وفي حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يُفتَّر عنهم من ذلك شيء، وقد تقدم.
وفي الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة رواه الإمام أحمد وفي بعض طرقه ثم يخرق له خرقا إلى النار فيأتيه من غمِّها ودخانها إلى القيامة.
النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع:
وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب.
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج.. تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم.. " الروح " (ص 89) .
وفي كلامه الأخير إجابة عن الشقّ الثاني من السؤال، نسأل الله أن يتولانا برحمته، وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/339)
ما هو البرزخ
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو البرزخ؟ أرجو أن توضح ذلك بالتفصيل. وأيضا، فأنا أريد أن أعرف ما هي أنواع العقوبات على الذنوب؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المراد بالبرزخ هو ما بين أن يموت الإنسان إلى أن يبعث يوم القيامة، فمن مات على الإسلام والطاعة نُعّم
ومن مات على الكفر أو المعصية عُذّب، قال تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب) . والعقوبات تتنوع بحسب الذنوب وقد ورد حديث في صحيح البخاري يبين عذاب البرزخ الذي يقع على بعض مرتكبي الكبائر فعن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا قَالَ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَالَ قُلْتُ لَهُمَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ فَيَشُقُّ قَالَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَالَ قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ قَالَ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَؤُلَاءِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَانِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيْ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ قَالَ قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا مَا هَؤُلَاءِ قَالَ قَالَا لِي انْطَلِقْ انْطَلِقْ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنَ قَالَ قَالَا لِي ارْقَ فِيهَا قَالَ فَارْتَقَيْنَا فِيهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالَ قَالَا لَهُم اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ قَالَ وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ قَالَ قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالَ فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ قَالَ قَالَا لِي هَذَاكَ مَنْزِلُكَ قَالَ قُلْتُ لَهُمَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ذَرَانِي فَأَدْخُلَهُ قَالَا أَمَّا الْآنَ فَلَا وَأَنْتَ دَاخِلَهُ قَالَ قُلْتُ لَهُمَا فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ قَالَ قَالَا لِي أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ أَمَّا الرَّجُلُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ قَالَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيحًا فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رواه البخاري برقم 6525
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ وليد الفريان
(1/340)
هل نعيم القبر وعذابه على الجسد والروح أم على أحدهما دون الآخر
[السُّؤَالُ]
ـ[كل إنسان مسئول عن أعماله يوم القيامة، وقبل هذا اليوم يبدأ العقاب في القبر. فما هي حال الروح أثناء هذه الفترة؟
وإذا كان عذاب القبر وارداً وصحيحاً، فهل يُعذب الإنسان بجسده وروحه على أعماله داخل قبره؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا شك في ثبوت عذاب القبر ونعيمه كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية واتفاق سلف الأمة. ويمكنك مراجعة سؤال رقم (34648) للاطلاع على تفصيل هذه المسألة.
وأما كون العذاب على الجسد والروح جميعا أو على أحدهما دون الآخر؟
فالأصل أن العذاب والنعيم في القبر يكون على الروح، وقد تتصل الروح بالبدن فيصيبه شيء من العذاب أو النعيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ " سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا " أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلِبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ. ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتْ الأَرْوَاحُ إلَى أَجْسَادِهَا وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ" إ. هـ.
وَالأَحَادِيثُ التي تدل على هذه الْمَسْأَلَةِ كَثِيرَةٌ منها ما رواه أبو داود (4127) وصححه الألباني في صحيح أبي داود عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ. فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ ; فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وَذَكَرَ صِفَةَ قَبْضِ الرُّوحَ وَعُرُوجِهَا إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ عَوْدَهَا إلَيْهِ. إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ حِينَ يُقَالُ لَهُ يَا هَذَا مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ . وَفِي لَفْظٍ: {فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ وَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ. فَيَقُولانِ لَهُ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ دِينِي الإِسْلامُ. فَيَقُولانِ. مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي أُرْسِلَ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ. هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَقُولانِ: وَمَا يُدْرِيك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللَّهِ وَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت بِهِ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَافْرِشُوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا قَالَ: وَيُفْسَحُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ فَذَكَرَ مَوْتَهُ. وَقَالَ: وَتُعَادُ رُوحُهُ إلَى جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ هاه هاه لا أَدْرِي. فَيَقُولانِ لَهُ: مَا دِينُك؟ فَيَقُولُ: هاه. هاه لا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عَبْدِي فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلَى النَّارِ قَالَ: وَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا قَالَ: وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ قَالَ: ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا قَالَ: فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلا الثَّقَلَيْنِ فَيَصِيرُ تُرَابًا. ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ} .
فَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَى الْجَسَدِ وَبِاخْتِلافِ أَضْلاعِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى الرُّوحِ وَالْبَدَنِ مُجْتَمِعَيْنِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إن المؤمن إذا قبض أتته ْمَلائِكَةُ الرحمة بِحَرِيرَةِ بَيْضَاءَ. فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي إلى رَوْح الله فتخرج كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكِ حَتَّى إنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يشمونه حَتَّى يَأْتُون بِهِ بَابَ السَّمَاءِ. فَيَقُولُونَ: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من َالأَرْضِ؟ ..حتى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أهل الغائب بِغَائِبِهِم؟ ..وَأَما الْكَافِرَ فيأتيه مَلائِكَةُ الْعَذَابِ بِمَسْح (قطعة من الصوف الغليظ) فَيَقُولُونَ: اُخْرُجِي مَسْخُوطًا عَلَيْك إلَى عَذَابِ اللَّهِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ جِيفَةٍ} رواه ابن حبان (7/ 284) وقال محققه إسناده صحيح.
(فَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ وَنَحْوِهَا اجْتِمَاعُ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ فِي نَعِيمِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وأَنَّ الرُّوحَ تُنَعَّمُ مَعَ الْبَدَنِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ - إذَا شَاءَ اللَّهُ -.
وَأَمَّا انْفِرَادُ الرُّوحِ وَحْدَهَا بالعذاب أو النعيم، فَقَدْ تَقَدَّمَ ما يدل على ذلك وفي سنن النسائي (2073) عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يبعثه الله إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ} وصححه الألباني في صحيح النسائي.
وَقَوْلُهُ " يَعْلُقُ " أَيْ يَأْكُلُ.
فقد دلت هذه الأَحَادِيثِ على أَنَّ الْأَبْدَانَ الَّتِي فِي الْقُبُورِ تُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ - إذَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كَمَا يَشَاءُ؛ وأن الروح تُنَعَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهَا وَكِلاهُمَا حَقٌّ. ودلت كذلك على أَنَّ الأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ َمُنَعَّمَةً أوَمُعَذَّبَةً.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل عذاب القبر على البدن أو على الروح
فأجاب:
الأصل أنه على الروح، لأن الحكم بعد الموت للروح، والبدن جثة هامدة، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه، فلا يأكل ولا يشرب، بل تأكله الهوام، فالأصل أنه على الروح، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية إن الروح قد تتصل بالبدن فيعذب أو ينعم معها.... فبناء على ذلك قال العلماء إن الروح قد تتصل في البدن فيكون العذاب على هذا وهذا، وربما يستأنس لذلك بالحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن القبر ليضيق على الكافر حتى تختلف أضلاعه) فهذا يدل على أن العذاب يكون على الجسم لأن الأضلاع في الجسم. مجموع فتاوى ابن عثيمين (1/25)
والله تعالى أعلم.
انظر (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 4/ 282 ـ 299) والقيامة الصغرى للشيخ عمر الأشقر (107) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/341)
الأسباب المفصلة لعذاب القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي المعاصي التي يعذب بها أصحابها في القبور؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
سبق في جواب السؤال رقم (45325) ذكر هذه الأسباب، ونذكر هنا مجموعة من هذه المعاصي، مقرونة بأدلتها من القرآن والسنة الصحيحة.
الشرك بالله والكفر به
قال الله تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر/46.
وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) الأنعام/93.
وذلك أن الكافر إذا احتُضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم وغضب الله عليه فتفرق روحه في جسده وتعصي وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ....) الأنعام/93.
ومما يدل على أن الشرك سبب من أسباب عذاب القبر حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ:
بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ فَقَالَ: مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا.
قَالَ: فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ.. فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ.. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.. (الحديث) . رواه مسلم (2867)
فقوله في الحديث: (ماتوا في الإشراك) دليل على أن الشرك سبب في عذاب القبر.
النفاق سبب من أسباب عذاب القبر
والمنافقون أولى الناس بعذاب القبر، كيف لا وهم أصحاب الدرك الأسفل من النار.
قال الله تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) التوبة/101.
قال قتادة والربيع بن أنس في قوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) : إحداهما في الدنيا، والأخرى هي عذاب القبر.
وفي أحاديث سؤال الملكين وفتنة القبر، ورد التصريح باسم المنافق، أو المرتاب في كثير من الروايات، كما في البخاري (1374) من حديث أنس رضي الله عنه: (.. وأما الكافر والمنافق فيُقال له..) ، وفي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها: (وأما المنافق أو المرتاب) .
تغيير شرع الله تعالى؛ بتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم
والدليل على أن ذلك الإلحاد في شرع الله تعالى سبب من أسباب العذاب في القبر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ؛ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ) . رواه البخاري (4623) .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار) وَهِيَ الأَمْعَاء.
والسائبة: هي ناقة أو بقرة أو شاة كانوا يسيبونها فلا تركب ولا تؤكل ولا يحمل عليها، وكان بعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " العرب من ولد إسماعيل وغيره، الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، كانوا حنفاء على ملة إبراهيم، إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة، وهو عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه " انتهى. "دقائق التفسير" (2/71) .
عدم الاستبراء من البول، والمشي بين الناس بالنميمة
فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ... الحديث. رواه البخاري (218) ومسلم (292) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا منه) أخرجه الدارقطني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/152) .
الغيبة
وعلى ذلك ترجم البخاري رحمه الله في كتاب الجنائز بقوله: " عذاب القبر من الغيبة والبول ".
ثم روى فيه حديث القبرين السابق مع أن لفظ البخاري ليس فيه ذكر الغيبة، وإنما فيه النميمة، لكنه جرى عَلَى عَادَته فِي الْإِشَارَة إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْض طُرُق الحديث: (وأما الآخر فيعذّب في الغيبة)
أخرجه أحمد (5/35) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/66) .
الكذب
ففي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا هَذَانِ؟
ثم قال عن هذا المعذب في آخر الحديث: (إنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق..) رواه البخاري (7074) .
فيشرشر: أي يقطعه.
والشدق: جانب الفم.
هجر القرآن بعد تعلُّمه، والنوم عن الصلاة المكتوبة
ففي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَه الْحَجَرُ هَا هُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا هَذَانِ؟
وفيه: (والذي رأيته يُشْدَخ رأسُه فرجل علمه الله القُرْآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار) .
(يثلغ رأسه) : أي يشدخه ويشقه.
(يتدهده) : أي يتدحرج.
وفي رواية: (أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ) رواه البخاري (7076) .
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن هذه الرواية أوضح من الأولى؛ فإن ظاهر الأولى أنه يعذب على ترك قراءة القُرْآن بالليل، وأما الأخرى فتدل على أنه يعذب على نومه عن الصلاة المكتوبة.
قال: ويحتمل أن يكون العذاب على مجموع الأمرين؛ ترك القراءة، وترك العمل.
قال ابن حجر: " قال ابن هبيرة: رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة؛ لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه، فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس " فتح الباري (3/251) .
أكل الربا
ففي حديث سمرة رضي الله عنه قَالَ: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا) إلى أن قال: (وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا) .
الزنا
ففي حديث سمرة رضي الله عنه: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ، فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا [أي: صاحوا] قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلَاءِ؟) وفي آخره: (وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي) .
أمر الناس بالبر ونسيان النفس
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟!) أخرجه أحمد (3/120) وصححه الألباني في الصحيحة (291) .
وعند البيهقي: (أتيت ليلة أُسري بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وحسنه الألباني في صحيح الجامع (128) .
الإفطار في رمضان من غير عذر
فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضَبُعَيَّ، وأتيا بي جباً فقالا لي: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: إنا سنسهله لك. قال: فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قال: هذا عواء أهل النار. ثم انْطُلِق بي، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هم الذين يفطرون قبل تحلة صومهم.
أخرجه ابن حبان والحاكم (1/290،210) ، وصححه الألباني في الصحيحة (3951) .
الغلول من الغنائم:
دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي غل الثوب في بعض مغازيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (والذي نفسي بيده إن الشملة [ثوب] التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً) أخرجه البخاري (4234) ومسلم (115) .
والغلول: هو أخذ الغازي شيئاً من الغنيمة دون عرضه على ولي الأمر لقسمته.
جرّ الثوب خيلاء
يدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجلٌ يجر إزاره إذ خُسف به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة) أخرجه البخاري (3485) ومسلم (2088) .
والتجلجل: أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق.
فالمعنى: يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطرباً متدافعاً.
السرقة من الحُجَّاج
دلَّ على ذلك حديث جابر رضي الله عنه في صلاة الكسوف.. وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ؛ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ) رواه مسلم (904) والمحجن: عصا معوجة الرأس.
حبس الحيوان وتعذيبه وعدم رحمته
ففي حديث جابر رضي الله عنه في صلاة الكسوف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ فِيهَا [أي النار] صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا) رواه مسلم (904) .
قال البيهقي في كتابه "إثبات عذاب القبر" (ص 97) : " ورأى حين صلى صلاة الخسوف من يجر قصبه في النار، ومن يعذب في السرقة، والمرأة التي كانت تعذب في الهرة وقد صاروا في قبورهم رميماً في أعين أهل زمانه، ولم ير من صلى معه من ذلك ما رأى " انتهى.
الدَّيْن
إن مما يضر الميت في قبره ما عليه من دين، فعَنْ سَعْدِ بْنِ الْأَطْوَلِ قَالَ: مَاتَ أَخِي وَتَرَكَ ثَلَاثَ مِائَةِ دِينَارٍ، وَتَرَكَ وَلَدًا صِغَارًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَخَاكَ مَحْبُوسٌ بِدَيْنِهِ، فَاذْهَبْ فَاقْضِ عَنْهُ) . قَالَ: فَذَهَبْتُ فَقَضَيْتُ عَنْهُ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قَضَيْتُ عَنْهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلا امْرَأَةً تَدَّعِي دِينَارَيْنِ، وَلَيْسَتْ لَهَا بَيِّنَةٌ. قَالَ: (أَعْطِهَا فَإِنَّهَا صَادِقَةٌ) رواه أحمد (16776) وابن ماجه (2/82) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1550) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/342)
صور من عذاب القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي أنواع العذاب في القبر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يتنوع العذاب في القبر بحسب الذنب الذي اقترفه صاحبه في الدنيا، سواء كان للكفار أو للعصاة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بوصف هذا العذاب في القبور لأهل هذه الذنوب، ومنها:
1- الضرب بمطرقة من حديد
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العبد إذا وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين.
رواه البخاري (1273) .
2-7- يفرش له قبره ناراً، ويلبس ناراً، ويفتح له باب إلى النار، ويضيَّق عليه قبره، ويضرب بمطرقة عظيمة لو ضرب بها جبل لصار ترابا، ويبشر بالعذاب في الآخرة، ولذلك يتمنى ألا تقوم الساعة.
روى أحمد (17803) وأبو داود (4753) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. . . - ثُمَّ ذكر صفة قبض روح المؤمن ونعيمه في القبر ثم قال -: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيَقُولانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا قَالَ فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلا الثَّقَلَيْنِ فَيَصِيرُ تُرَابًا قَالَ ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لا تُقِمْ السَّاعَةَ.
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " أحكام الجنائز " (ص 156) .
8- الخسف في الأرض
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ". رواه البخاري (5343) ومسلم (3894) .
يتجلجل: يغوص ويضطرب.
9- شق جانبي الفم إلى القفا
10- رضخ الرأس بالحجارة
11- الحرق في تنور من نار
12- السباحة في نهر من دم مع الضرب بالحجارة
روى البخاري (1386) (7047) عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ؟ قَالَ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيَشُقُّ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ. ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا هَذَانِ؟ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا [أي ارتفعت أصواتهم] . قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاءِ؟ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا. قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ. . . ثم ذكر الحديث
فقال: قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ قَالَا لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ. يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشّقُّ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ. فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي.
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا.
الكلُّوب: حديدة معوجة الرأس. الشدق: جانب الفم. يشدخ: يشج. تدهده: تدحرج.
قال الحافظ ابن حجر:
وفيه: أن بعض العصاة يعذَّبون في البرزخ اهـ. فتح الباري (12 / 445) .
12- اشتعال المال المسروق من الغنائم على صاحبه
روى البخاري (4234) ومسلم (115) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا وَرِقًا غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ لَهُ يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِي قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَقُلْنَا هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا أَخَذَهَا مِنْ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ. قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.
13- ومع هذا العذاب الحسي هناك أيضاً عذاب معنوي (نفسي) وهو أن الكافر يُرى في قبره مقعده من الجنة لو أطاع الله، فيزداد بذلك حسرة وألما لما يرى من عظم النعيم الذي فاته.
روى أحمد (10577) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا الإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ قَالَ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ صَدَقْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ اسْكُنْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولَ لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَيَقُولُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ وَلا اهْتَدَيْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلا هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ [أي ذهل] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِت. صححه الألباني في تحقيق كتاب السنة لابن أبي عاصم (865) .
فهذا بعض ما يحصل في القبر من أنواع العذاب لبعض العصاة.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من عذاب القبر.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/343)
أسباب عذاب القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أسأل عن الذنوب التي يعذب من فعلها عليها في القبر.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الأسباب التي يعذب بها أصحابها في القبور كثيرة، وقد جمعها ابن القيم رحمه الله فقال: " وقد يتساءل البعض عن " الأسباب التي يُعذب بها أصحاب القبور؟
وجوابها من وجهين:
مجمل ومفصل:
أما المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يُعذب الله روحاً عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدناً كانت فيه أبدا؛
فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثرُ غضبِ الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل:
فقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرجلين الذين رآهما يعذبان في قبورهما، يمشى أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا..
وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذابا..
كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهو أشد عذابا، وفي حديث شعبة: (أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس)
فهذا مغتاب، وذلك نمام.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الذي ضُرب سوطا امتلأ القبر عليه به ناراً، لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره.
وفي حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق..
وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار..
وتعذيب الزناة والزواني..
وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البرزخ.
وفي حديث أبى هريرة رضي الله عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة..
والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم..
والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم..
والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب..
وفي حديث أبى سعيد عقوبة أرباب تلك الجرائم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم أكلة الربا..
ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى..
ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزوانى.
ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون..
ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يقعون في أعراض الناس..
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل ناراً في قبره، هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه.
فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله:
فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به والمجازف في كلامه.
وآكل الربا وآكل أموال اليتامى وآكل السحت من الرشوة ونحوها.
وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد وشارب المسكر.
والزاني واللوطي والسارق والخائن والغادر والمخادع والماكر.
وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه.
ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم.
والحاكم بغير ما أنزل الله والمفتي بغير ما شرعه الله والمعين على الإثم والعدوان.
وقاتل النفس التي حرم الله، والملحد في حَرَم الله، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها..
والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول الله.
والنائحة والمستمع إليها، ونواحو جهنم وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله والمستمع إليهم.. والذين يبنون المساجد على القبور ويوقدون عليها القناديل والسرج، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بذلوه.
والجبارون والمتكبرون والمراءون والهمازون واللمازون والطاعنون على السلف.
والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم.
وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.
والذي إذا خوفته بالله وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر , فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه.
والذى يُهدَى بكلام الله ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا , فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه.
والذي يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استثقل به فإذا سمع قرآن الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب وود أن المغنى لا يسكت.
والذي يحلف بالله ويكذب فإذا حلف بشيخه أو قريبه أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب.
والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه وهو المجاهر.
والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك , والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الخلق اتقاء شره وفحشه.
والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلا , ولا يؤدى زكاة ماله طيبة بها نفسه , ولا يحج مع قدرته على الحج ولا يؤدى ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها.
والذي لا يتورع في نظره ولا لفظه ولا أكله ولا خطوه ولا يبالي بما حصل من المال من حلال أو حرام.
ولا يصل رحمه ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم , بل يَدُعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي للعالمين، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه , وبذنوبهم عن ذنبه.
فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها.
ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل.
فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب.
ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات.
وفي باطنها الدواهى والبليات، تغلى بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وَعَظَت فما تركت لواعظ مقالا.
ونادت: يا عمار الدنيا، لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا.
عمرتم بيوتا لغيركم منافعُها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها.
هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، رياض من رياض الجنة، أو حفر من حفر النار.." انتهى من كتاب الروح (95) بتصرف يسير.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/344)
هل الميت يرى الملائكة والجن
[السُّؤَالُ]
ـ[نحن نعلم أن الملائكة يستطيعون رؤية البشر من غير أن يستطيع البشر رؤيتهم والجن كذلك، فماذا عن الأموات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا مات الإنسان فقد قامت قيامته، والله أعلم بما يكون من تفاصيل هذه الحال، ولا سبيل لنا لمعرفة شيء من تفاصيل ذلك إلا من خلال الخبر الصادق عن الله تعالى أو رسوله، وقد جاءت الأدلة أن المحتضر يرى ملك الموت وأعوانه، وأنه إذا مات يرى منكرا ونكيرا، وأنهما يقعدانه ويسألانه في قبر.
انظر للاستزادة السؤال رقم (843) (14610) .
والواجب الوقوف فيما دل عليه النص والإيمان به، أما ما سوى ذلك فنكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
أما الجن فلم يرد ما يدل على أنه يراهم، والظاهر أنهم من جنس البشر لا يراهم الميت.
وعلى كل حال فينبغي على المسلم أن يحرص على ما ينفعه، ويترك التعمق في ما لا يعود عليه بالنفع في دينه وأن يعمر وقته بالتدبر والتأمل فيما يورثه قوة الإيمان والاستعداد الحق لما بعد الموت من أهوال.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/345)
هل ثبت شيء عن تخفيف العذاب في النار لأبي لهب؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ورد شيء صحيح أو ضعيف عن تخفيف العذاب في النار لأبى لهب؟ جزاكم الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دلت آيات القرآن الكريم أن الكافر لا يخفف عنه العذاب على كفره بحال من الأحوال، وذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) فاطر/36، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ. قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) غافر/49-50.
وأما أعمال الكفار الصالحة فيثاب عليها في الدنيا، بالرزق والولد والنعمة ونحو ذلك، فهم أقوام عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، وأما في الآخرة فلا يكتب له منها شيء من الحسنات، إذ الكفر محبط لجميع الحسنات، ولا ينفع معه عمل صالح. وإن كان الكفار يتفاوتون في عذاب جهنم، بحسب جرائمهم في الدنيا، مع خلودهم جيمعا في جهنم أبد الآبدين.
يقول الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) الفرقان/23.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)
رواه مسلم (رقم/214)
ثانيا:
أما ما يروى في تخفيف العذاب عن أبي لهب بسبب عتقه ثويبة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام الصحابة، وإنما رؤيا منام أريها بعض أهله، لا يجوز أن يعارض به ما سبق تقريره من بطلان حسنات الكافرين في الدنيا، وأنها لا تغني عنهم عند الله شيئا، فضلا عن أن الوارد في ذلك إنما هو بسند مرسل.
روى البخاري (5101) من قول عروة بن الزبير رحمه الله ما يلي:
" وثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ، كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، َلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ – أي بسوء حال -، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ "
قال ابن حجر رحمه الله:
قوله: (وثويبة مولاة لأبي لهب) ذكرها ابن منده في " الصحابة " وقال: اختلف في إسلامها. وقال أبو نعيم: لا نعلم أحدا ذكر إسلامها غيره , والذي في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرمها , وكانت تدخل عليه بعدما تزوج خديجة , وكان يرسل إليها الصلة من المدينة , إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت ومات ابنها مسروح.
قوله: (وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم) ظاهره أن عتقه لها كان قبل إرضاعها , والذي في السير يخالفه , وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل، وحكى السهيلي أيضا أن عتقها كان قبل الإرضاع , وسأذكر كلامه.
قوله: (بعض أهله) ذكر السهيلي أن العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال فقال: ما لقيت بعدكم راحة , إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين , قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين , وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها.
قوله (بشر حيبة) أي: سوء حال.
قوله (ماذا لقيت) أي: بعد الموت.
قوله (لم ألق بعدكم , غير أني) كذا في الأصول بحذف المفعول , وفي رواية الإسماعيلي: (لم ألق بعدكم رخاء) ، وعند عبد الرزاق ع معمر عن الزهري: (لم ألق بعدكم راحة) قال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري , ولا يستقيم الكلام إلا به.
قوله: (غير أني سقيت في هذه) كذا في الأصول بالحذف أيضا , ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة: (وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه) وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء.
وفي الحديث دلالة عل أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ; لكنه مخالف لظاهر القرآن , قال الله تعال (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ، وأجيب:
أولا: بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه , ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد، فلا يحتج به.
وثانياً: على تقدير القبول فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا من ذلك , بدليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفف عنه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح. وقال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة , ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات.
وأما عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ; وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض.
قلت – أي الحافظ ابن حجر -: وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي , فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر , وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه؟
وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه.
وقال ابن المنير في الحاشية: هنا قضيتان:
إحداهما محال: وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره , لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح , وهذا مفقود من الكافر.
الثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلا من الله تعالى , وهذا لا يحيله العقل , فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة , ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب , والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا.
قلت – أي الحافظ ابن حجر -: وتتمة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك. والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (9/145-146)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/346)
هل يحرم سماع الغناء في الجنة مَن سمعه في الدنيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من يسمع الأغاني في الدنيا لا يسمعها في الجنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ورد في السنة بعض ما يدل على أن من أنواع النعيم الذي يلقاه أهل الجنة الاستماع إلى أصوات جميلة تستفرغ لذاتهم، حتى عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه " حادي الأرواح " في الباب السابع والخمسين فصلا كاملا في " ذكر سماع الجنة وغناء الحور العين وما فيه من الطرب واللذة " (ص/358-365) جمع فيه كل ما ورد في هذا الباب من صحيح وضعيف.
ولعل من أصح ما ورد في ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ، إِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ: نَحْنُ الْخَيِّرَاتُ الْحِسَانُ أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ)
رواه الطبراني في " المعجم الأوسط " (5/149) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (3/269)
ثانيا:
من المعلوم أيضا أن استماع المعازف في الدنيا من المحرمات التي ثبت تحريمها في الكتاب والسنة الصحيحة، وقرر ذلك فقهاء المذاهب الأربعة، فمن تهاون في الوقوع في هذه المعصية استحق الإثم والعذاب على ارتكابه لذلك، كما هو الحال في سائر ما حرم الله على عباده في الدنيا.
ولم يرد دليل على أن من سمع المعازف في الدنيا حُرم من سماع الغناء والأصوات الجميلة في الجنة حين يدخلها، وإن كان بعض أهل العلم يذكر أن من عقوبة من تنعم بشيء على وجه محرم في الدنيا، أن يحرم من التنعم به في الجنة، أو ينقص حظه منه فيها، كما أن من لبس الذهب أو الحرير من الرجال في الدنيا، يحرم منه في الجنة.
قال ابن القيم رحمه الله:
" إذا كان – الله عز وجل - قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه لبسه يوم القيامة، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة، فكذلك مَن تمتع بالصور المحرمة في الدنيا، بل كل ما ناله العبد في الدنيا، فإن توسع في حلاله، ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما توسع فيه، وإن ناله من حرامٍ فاته نظيرُه يوم القيامة " انتهى.
" روضة المحبين " (ص/362) .
لكن الجزم بذلك، أو القول بأن هذا الحرمان على وجه التأبيد: مما يحتاج إلى دليل بخصوصه، فالله أعلم بحقيقة الحال.
ثالثا:
أما ما ورد من أحاديث يدل ظاهرها على أن من سمع الغناء في الدنيا لم يسمعه في الآخرة فهي أحاديث ضعيفة جدا، من أشهرها حديث:
(من لها بالغناء، لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة. قيل: وما الروحانيون؟ قال: قراء أهل الجنة)
قال الشيخ الألباني رحمه الله:
" موضوع، أخرجه الواحدي في تفسيره "الوسيط" (3/441 - 442 – طبع دار الكتب العلمية) من طريق حماد بن عمرو عن أبي موسى - من ولد أبي هريرة - عن أبيه عن جده مرفوعاً.
قلت – أي الشيخ الألباني رحمه الله -: وهذا موضوع، آفته (حماد بن عمرو) - وهو: النصيبي -، قال الذهبي في "المغني": روى عن الثقات موضوعات، قاله النقاش، وقال النسائي: متروك. وهو معدود فيمن يضع الحديث، كما قال ابن عدي وغيره - كما يأتي
في الحديث الذي بعده – " انتهى.
" السلسلة الضعيفة " (رقم/6516) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/347)
الحكمة في أن الطفل إذا مات يدخل الجنة مباشرة بينما بقية الناس يحاسبون
[السُّؤَالُ]
ـ[أين يكمن العدل في أن الطفل إذا مات يدخل الجنة مباشرة بينما بقية الناس يحاسبون؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا يشك مسلم أن الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأعدل العادلين , وأنه تعالى لكمال عدله حرم الظلم على نفسه فقال: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف/ من الآية 49، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) النساء/ من الآية 40.
ومن كمال عدله تعالى: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد البلاغ، وقيام الحجّة عليهم.
وانظر في ذلك جواب السؤال رقم: (1244) .
ثانياً:
اتفق أهل السنة والجماعة على أن أطفال المسلمين في الجنة، وتقدم الحديث عن ذلك، فانظره في جواب السؤال رقم: (117432) .
ثالثاً:
من أصول الإيمان التي لا خلاف فيها بين الأمة، ولا تردد أو تلجلج فيها: ألا يعترض العبد على أحكام ربه عز وجل، ولا يتوقف في الشهادة لها بأن فيها الحكمة البالغة، وحينذٍ فإنه لا يصير من المخاطبين بقوله تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/ 23.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى من الغيِّ، وبصَّر به من العمى، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلفاً، وأضلَّ به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون، لعِلمه، وحكمته، وعدله.
" تفسير ابن كثير " (4 / 271) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَلَهُ فِيمَا خَلَقَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ، وَرَحْمَةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَهُوَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ، بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (8/79) .
ثالثاً:
وأما الحكمة من عدم محاسبة الأطفال فيقال فيها:
1. إن مناط التكليف عند الله هو البلوغ , ولذلك جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَكْبَرَ) .
رواه أبو داود (4398) وابن ماجه (2041) والنسائي (3432) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وهذا الطفل اخترمته المنية قبل البلوغ , فمن تمام عدل الله أنه لا يحاسَب.
ويبين ما ذهب طائفة من العلماء والمحققين – كالبخاري، والنووي، وغيرهما – من أن هذا الحكم مشترك مع أطفال المشركين كذلك – ولتنظر المسألة في جوابي السؤالين: (6496) (118103) .
2. الأصل أن الأطفال تبع لوالديهم، كما جاء في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ما مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) . رواه البخاري (1293) .
ولما كان والداه على الإيمان – أو والده إن كانت أمُّه كتابية -: فهو تبع لهما , ولما مات قبل مناط التكليف ناسب أن يدخل الجنة بلا حساب، فدخوله الجنة باعتباره مسلماً، وعدم حسابه باعتبار أنه لم يكن مكلَّفاً في الدنيا.
3. أن فيه كرامة لوالدي الطفل الصغير، ورحمة بهم , وتطييباً لخاطرهم، على موت ولدهم وهو صغير.
هذه بعض الحِكَم , والأمر قد يحتمل وجود حكَم، وغايات، ومقاصد أخرى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/348)
الحكمة من عدم دخول المسترقي في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لا يدخل من يطلب الرقية من الآخرين ضمن أولئك السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟ أليس يجوز طلب الرقية من الغير؟ كما أن لدي مشكلة تؤرقني ولا أجد أن لدي الصبر أو مهارة عمل الرقية لنفسي وقد بدأتها عدة أيام ثم امتنعت.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
روى البخاري (6472) ومسلم (220) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ولَاَ يكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) .
وهؤلاء إنما يدخلون الجنة بغير حساب؛ لكمال توحيدهم، وكمال توكلهم على الله، واستغنائهم عن الناس.
ولا يدخل من يطلب الرقية من الآخرين ضمن أولئك السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب لنقصان توكله على الله؛ لأن طلب الرقية فيه نوع تذلل وحاجة إلى الراقي، ومن كمال التوكل والتوحيد أن لا يسأل المسلم الناس شيئا.
وقد روى مسلم (1043) عن عَوْف بْن مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا) .
فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.
قال ابن القيم رحمه الله:
"وذلك لأن هؤلاء دخلوا الجنة بغير حساب لكمال توحيدهم، ولهذا نفى عنهم الاسترقاء وهو سؤال الناس أن يرقوهم، ولهذا قال: (وعلى ربهم يتوكلون) فلكمال توكلهم على ربهم وسكونهم إليه وثقتهم به ورضاهم عنه وإنزال حوائجهم به لا يسألون الناس شيئا لا رقية ولا غيرها، ولا يحصل لهم طيرة [التشاؤم] تصدهم عما يقصدونه؛ فإن الطيرة تنقص التوحيد وتضعفه" انتهى. "زاد المعاد" (1/475) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
"المراد: أنهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، ولا أن يكويهم، بل يتوكلون على الله، ويعتمدون عليه في كشف ما بهم ودفع ما يضرهم، وإيصال ما به نفعهم" انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (24/397) .
ثانيا:
طلب الرقية من الغير ليس بمحرم، ولكنه خلاف الأفضل والأكمل.
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
"طلب الدعاء وطلب الرقية مباحان، وتركهما والاستغناء عن الناس وقيامه بهما لنفسه أحسن" انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (24/261) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله:
"هذا الحديث يدل على أن ترك الطلب أفضل، وهكذا ترك الكي أفضل، لكن عند الحاجة إليهما لا بأس بالاسترقاء والكي؛ لأن النبي عليه السلام أمر عائشة أن تسترقي من مرض أصابها، وأمر أم أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن تسترقي لهم، فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك عند الحاجة إلى الاسترقاء" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (25/118-119) .
ثالثا:
أما قولك: لا أجد لدي الصبر أو مهارة عمل الرقية لنفسي.
فطلب الرقية جائز كما سبق، مع أن الرقية لا تحتاج إلى مهارة، وإنما هي بمنزلة الدعاء، فكل إنسان يستطيع أن يدعو ربه بحصول الشفاء، ولا يصعب عليه ذلك، فيستطيع الإنسان أن يرقي نفسه بسورة الفاتحة، أو غير ذلك من القرآن الكريم، أو بالأدعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومنها:
(اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا) رواه البخاري (5750) ومسلم (2191) .
(أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ) رواه البخاري (3371) .
وروى مسلم (2202) والترمذي (2080) عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على المكان الذي تَأَلَّم من جسدك وقل: (بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) زاد الترمذي: "قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم".
نسأل الله تعالى أن يشفيك شفاء لا يغادر سقماً.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/349)
هل يكون مع المؤمن في الجنة أولاده وممتلكاته التي كانت له في الدنيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل كل ما يملكه الشخص من أشياء هنا في الدنيا، كأولاد وممتلكات، ستكون معه هناك في الجنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
أفادت النصوص الشرعية، من الكتاب والسنة، أن أهل الجنة لهم فيها ما يشاءون مما يشتهون، لا يطلبون شيئا إلا وجدوه، ولا يريدون حاجة إلا نالوها، وهم مع ذلك لا يكدر نعيمهم، ولا ينغص عليهم بانقطاع أو زوال أو نقصان أو عيب.
ومن ذلك أهله وذريته - إن كانوا صالحين – فإن الله يلحقهم به، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه، منة منه وفضلا – سبحانه -.
قال الله عز وجل: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) فصلت/31-32.
وقال سبحانه: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الزخرف/71.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" (لهم فيها ما يشاءون) أي: من الملاذ: من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن، ومراكب ومناظر، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد. وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ولا زوال، ولا انقضاء، لا يبغون عنها حولا. وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (6 / 98)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) رواه البخاري (3244) ومسلم (2824) .
وروى البخاري (7519) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ (أي سبق ذلك لمح البصر) فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر رحمه الله:
" وفي هذا الحديث من الفوائد أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا ممكن فيها. قاله المهلب " انتهى.
"فتح الباري" (5 / 27)
ثانيا:
ليس يعني ذلك أن هذه الأشياء الموجودة في الجنة هي نفس الأشياء الموجودة في الدنيا، بل ولا هي مماثلة لها من كل وجه، وإنما هي تفاح حقيقة ـ مثلا ـ كما نفهمه من اسم التفاح، وهي لحم طير حقيقة، كما نفهمه من لحم الطير، وبينهما من التفاوت العظيم، ما الله به عليم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يشبه شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء "، وفي رواية: " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ".
رواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم في تفسيره (1/66) ، وغيرهما. قال البوصيري: " رواه مُسَدَّد موقوفًا، ورواته ثقات". انتهى. "إتحاف الخيرة المهرة" (8/273) ، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (3769) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " يَعْنِي أَنَّ مَوْعُودَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ تُخَالِفُ حَقَائِقُهُ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا " انتهى.
"الفتاوى الكبرى" (6/468) .
وقال ابن كثير رحمه الله: " يعني: أن بين ذلك بَونًا عظيما، وفرقًا بينا في التفاضل ". انتهى.
"تفسير ابن كثير" (7/503) .
والخلاصة: أن الله تعالى يمن على عبده في الجنة بما يشتهيه، وتقر به عينه فيها، لكن حقائق هذا النعيم: ليست هي نفس الأشياء التي كانت معه في الدنيا، بل هي مشابهة لها.
والله أعلم.
يراجع للاستزادة إجابة السؤال رقم (126629) ، (20286) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/350)
من كان له زوجتان وكانت إحداهما في درجة أعلى منه فهل يُلحق هو والأخرى بها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في الحديث أنه إذا كان منزلة الوالدين أعلى من منزلة الأبناء في الجنة فإن الله برحمةٍ منه وفضل يرفع الأبناء إلى درجة الوالدين، والعكس، وأنه أيضاً إذا كانت منزلة الزوجة، أو الزوج أعلى أحدهما من الآخر بما قدم من أعمال أفضل: فإن الله بفضله يرفعه إلى منزلة الآخر، ولكن السؤال هنا: إذا كان الرجل له زوجتان، وكانت إحداهما في درجة أعلى من الأخرى: فهل تُرفع الزوجة الأقل درجة هي والزوج إلى منزلة الزوجة الأعلى درجة، مع أنها اجتهدت في الدنيا أكثر؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ما ذكره الأخ السائل في مقدمة سؤاله ليس عليه دليل صحيح من السنَّة، فيما نعلم، ولكن جاءت أثار بذلك عن الصحابة والتابعين في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الطور/21.
فعن عَمْرُو بنِ مُرَّةَ قال: سَأَلْت سَعِيدَ بن جُبَيْرٍ عن هذه الآيَةِ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال: قال ابن عَبَّاسٍ: الْمُؤْمِنُ تُرْفَعُ له ذُرِّيَّتُهُ لِيُقِرَّ اللَّهُ عز وجل عَيْنَهُ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ في الْعَمَلِ.
رواه االطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (3 / 105) ، وصححه المحققون.
وقد ذكر الطحاوي رحمه الله أنه في حكم المرفوع، وكذا قال الشيخ الألباني رحمه الله، ولذلك خرجه في " السلسلة الصحيحة " (2490) .
وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم (121192) أن الإلحاق في الجنة في الدرجات يكون لصغار الذرية، ولمن يكون مع الأسرة في ذات البيت، لا لمن استقل منهم بزواج.
ثانياً:
الزوجة إن كانت في الجنة في درجة أعلى من زوجها: فإن الله تعالى يجمع بينها وبين زوجها فيها، بأن يلحقه بها في درجتها، دون أن يُنقص من درجتها شيئاً.
وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم (5981) أن المرأة تجتمع بزوجها وذريتهما في الجنة.
وعليه: فإن زوجها، وأولادها منه يلتحقون بتلك المرأة الصالحة – الزوجة له، والأم لهم – في درجتها في الجنة؛ لتقر عينها، وتسعد تلك الأسرة.
وفي مثل هذه الحال فإنه يصير الزوج في درجة عالية في الجنة، ولنفرض أن له زوجة أخرى، وأولاداً منها، وهم دون تلك المنزلة التي صار فيها: فإنه يُرجى أن يقر الله عيونهم جميعاً بالالتقاء في تلك المنزلة العالية، اجتماعاً لتلك الأسرة، وتحقيقاً للسعادة التي وعدهم الله تعالى بها، ويدل عليه ما ذكرناه من الآية، وما أحلنا عليه من الأجوبة.
فتصير تلك الزوجة الصالحة سبباً في ارتفاع درجة زوجها، وأولادها منه، ثم يكون الزوج سبباً في ارتفاع درجة زوجته الأخرى، وأولادهما.
وفضل الله تعالى عظيم، ورحمته واسعة، وبما قلناه يتحقق دعاء الملائكة حملة العرش في قولهم (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) غافر/ 8.
ويتحقق وعد الله تعالى لهم في قوله: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) الرعد/ 22، 23.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح، أو خلَف صالح، أو زوج صالح، ممن تحققت فيهم هذه الصفات: أنه إذا صار إلى الجنَّة: لحِق بصالح أصوله، أو فروعه، أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ) الطور/ 21.
والآباء يشمل الأمهات، على طريقة التغليب، كما قالوا: الأبوين.
" التحرير والتنوير " (13 / 131، 132) .
واجتماع الرجل بزوجاته في الجنة يدل عليه عموم الآيات السابقة، كما تدل عليه آيات مخصوصة على أحد الأقوال فيها، ومنها:
1. قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) الزخرف/ 70.
ومعنى (تُحبرون) : أي: تُنعَّمون، وتُسرُّون.
2. وقوله تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) يس/ 55، 56.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير آية الزخرف -:
قوله تعالى في هذه الآية: (وأزواجكم) فيه لعلماء التفسير وجهان:
أحدهما: أن المراد بأزواجهم: نظراؤهم، وأشباههم، في الطاعة، وتقوى الله، واقتصر على هذا القول: ابن كثير.
والثاني: أن المراد بأزواجهم: نساؤهم في الجنة؛ لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم، والتلذذ، من الأول.
ولذا يكثر في القرآن، ذكر إكرام أهل الجنة، بكونهم مع نسائهم، دون الامتنان عليهم بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة.
قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) يس/ 55، 56.
" أضواء البيان " (7 / 142) .
ونسأل الله أن يدخلنا وإياكم الجنة، مع أهالينا، وذرارينا، من غير حساب، ولا عذاب.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/351)
الطريق إلى الفردوس الأعلى
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الوصول للفردوس الأعلى من الجنة طريق صعب، وقليل من يصله؟ رسولنا الكريم قال (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى.... الحديث) فهل لو أكثرت من الدعاء (اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى من الجنة) ، هل ممكن أن أبلغها بفضل الله تعالى، حتى ولو كان عملي لا يوصلني لتلك المنزلة؟ وما هي أقرب الأعمال التي توصلنا إلى هناك بإذن الله تعالى؟ أيضا هناك حديث لرسولنا صلى الله عليه وسلم (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة....الحديث) فهل يجوز لي أن أقول مباشرة (اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى من الجنة) بدلا من قول (اللهم إني أسألك الجنة) ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
روى الترمذي (2450) وحسنه عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ) . صححه الألباني في "صحيح الترمذي" وغيره.
فالجنة سلعة غالية، والفردوس الأعلى أعلى الجنان وأفضلها، ولا يصل إليها إلا من اختصهم الله بمزيد فضله.
وروى الترمذي (3174) وصححه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (َالْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا) وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) متفق عليه.
فإذا كانت الجنة محفوفة بالمكاره وأنواع المشاق، فكيف بأعلى درجاتها وأسمى منازلها؟
هذا يدل على أن الأمر ليس بالأمر الهين.
قال ابن القيم:
" أنزه الموجودات وأظهرها، وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتا وقدرا وأوسعها: عرش الرحمن جل جلاله، ولذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلي العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه؛ ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلها، لقربها من العرش، إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير " انتهى.
"الفوائد" (ص 27)
وأهل الفردوس الأعلى هم السابقون المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، قال الله تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الواقعة/10 – 12
قال السعدي:
" والمقربون هم خواص الخلق " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 833)
قال ابن كثير:
" من سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (7 / 517)
ثانيا:
ليعلم أن من أعظم أسباب حصول المطلوب، والنجاة من المرهوب: الدعاء، فإن الدعاء هو العبادة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أنه عبادة محبوبة لله، فهو سبب في حصول المطلوب، ومن أراده الله به خيرا، وفقه لأسبابه، ويسر له العمل الذي يؤهله لذلك؛ كما قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) سورة الليل /5-10.
روى البخاري (2790) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)
قال الحافظ:
" يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفِرْدَوْسَ فَوْقَ جَمِيعِ الْجِنَانِ , وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ وَتَعْظِيمًا لِلْهِمَّةِ -: (فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ) " انتهى.
ثالثا:
اعلم ـ يا عبد الله ـ أن نيل الدرجات في الدنيا والآخرة، ليس بالأماني ولا الأحلام، وإنما هو بسلوك أسباب ذلك، ولولا ذلك ما كان فرق بين الصادق والكاذب، وهذا من حكمة الله تعالى في تكليفه لعباده، وأمرهم بما أمرهم به.
قال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) سورة النساء /123-124.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:
أي: {لَيْسَ} الأمر والنجاة والتزكية {بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة، لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؛ ... فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ". "تفسير السعدي" (205) .
رابعا:
ومن أهم الأعمال التي تبلغ المسلم الدرجات العلى، ولعلها أن تبلغه الفردوس الأعلى برحمة الله:
- الجهاد في سبيل الله:
وقد تقدم في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى مسلم في صحيحه (1884) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ، وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ!! قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
- الإخلاص والصدق مع الله:
روى مسلم (1909) من حديث سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) .
قال النووي رحمه الله:
" َفِيهِ: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الشَّهَادَة , وَاسْتِحْبَاب نِيَّة الْخَيْر " انتهى.
- الإيمان بالله والتصديق بالمرسلين:
قال الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) الكهف / 107
قال السعدي:
" يحتمل أن المراد بجنات الفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح، والأنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها: جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه " انتهى. تفسير السعدي - (488) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) .
متفق عليه.
قال الحافظ:
" قَوْلُهُ: (وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) أَيْ حَقّ تَصْدِيقهمْ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رُسُله وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
- إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) . رواه مسلم (251) .
- الطاعات التي ورد في الأخبار الصحيحة أنها سبب في معية النبي صلى الله عليه وسلم ومصاحبته في الجنة:
روى مسلم (489) عن ربيعة بْن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ.
وروى مسلم (2983) أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ) وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
وروى أيضا (2631) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ) وَضَمَّ أَصَابِعَهُ.
وروى الإمام أحمد (12089) عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتٍ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ) وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
صححه الألباني في "الصحيحة" (296)
وبالجملة: فالاجتهاد في الأعمال الصالحة، والمسارعة في الخيرات، واستدامة العمل الصالح، وصنائع المعروف، ومسابقة أهل الخير والصلاح: أصل الوصول إلى غاية المأمول في الدنيا والآخرة، ولو كانت تلك الغاية هي الفردوس الأعلى.
وينظر جواب السؤال رقم: (27075) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/352)
لا يدخل أحد الجنة إلا في سن الشباب
[السُّؤَالُ]
ـ[لو افترضنا أن زوجاً مات في سن الواحدة والعشرين، ثم عُمّرت زوجته بعده فعاشت حتى الخمسين، فهل يجمع الله بينهما كلٌ بحسب عمره الذي مات فيه، أم أن الزوجة ستصغر في السن فتعود إلى السن الذي مات فيه زوجها؟ أرجو التوضيح.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن جواب هذا السؤال، وأن جميع أهل الجنة من الشباب والشيوخ والكهول إنما يدخلون الجنة في سن الشباب: أبناء ثلاثين سنة، أو ثلاث وثلاثين.
فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا، مُرْدًا، مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً) رواه الترمذي (2545) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
"جرداً" جمع "أجرد" وهو الذي لا شعر على جسده.
"مرداً" جمع "أمرد" وهو الغلام الذي لا شعر على ذقنه، أي: بلا لحية، وقد يراد به: الحُسْن، "مكحلين" أي في أجفان أعينهم سواد كالكحل.
"تحفة الأحوذي".
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم: (22802) ، (117432) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/353)
أهل الجنة منزهون عن اللواط والسحاق
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو الرد على سؤالي قرأت مسألة لأحد المشايخ يقول فيها " أن هناك من المحرمات التي لا يجازى على تركها في الدنيا بإعطاء نظيرها في الآخرة سواء من ذلك المطعومات أو المشروبات أو الأفعال والأقوال: فالسم مثلا لا يكون نعيما في الآخرة مع حرمته في الدنيا وكذا اللواط ونكاح المحارم وغير ذلك لا تباح في الآخرة مع حظرها في الدنيا" سؤالي هنا: كيف توصل هذا الشيخ إلى هذه النتيجة أعني هل هناك دليل على أن اللواط والسحاق محرمان في الجنة، أليس هذا يشكل إحباط لمن يحرُم نفسه اللواط في الدنيا ليباح له في الجنة أرجو إعطائي دليلاً أو حتى إقناعي فإني ضائع؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يغفر الله لك، أليس فيما أحل الله غنية عما حرم؟!
ألا يكفي الطيب المبارك، حتى تهفو النفس إلى المحرم الخبيث؟
ومتى احتاج أصحاب الفطر السليمة إلى التلهف على اللواط والسحاق ونكاح المحارم؟!
إن الله تعالى وصف الجنة بقوله: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) الطور/23.
فأهل الجنة مطهرون من الأخلاق السيئة، والرغبات الدنيئة، والمقاصد المشينة.
وقد وصف الله تعالى نساء أهل الجنة بقوله: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) الرحمن/56.
فهن قصرن أطرافهن عن الرجال، فلا ينظرن إلى غير أزواجهن.
وقال تعالى: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) الرحمن/72.
قال السعدي:
" أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهن، ولا ينفي ذلك خروجهن في البساتين ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك ونحوهن " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص/831) .
فهل يجوز أن يقال: وما يمنعهن من النظر إلى الرجال الأجانب، وقد منعن أنفسهن منه في الدنيا لله؟
وهل يجوز أن يقال: وما يمنعهن من الزنا والفحش وارتكاب الرذيلة، وقد كن بمنأى عن ذلك في الدنيا؟
لقد أغنى الله المؤمنين والمؤمنات في الجنة بفضله الدائم، ومننه المتكاثرة، بما أباح لهم فيها من النعيم الطيب عن طلب مثل تلك الخبائث، التي لو لم ينه عنها في الدنيا لكان حريا بالكريم أن لا يقربها.
قال تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) فصلت/31، 32
قال ابن كثير:
" في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) أي: مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم، كما اخترتم " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (7/ 177) .
فهل يطلب المؤمن من ربه في الجنة، تلك الفواحش المستقذرة، وقد مَنَّ الله عليه بالحور العين، اللاتي لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بينهما نورا، كما روى البخاري (2796) عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) .
وروى الطبراني في "الأوسط" (718) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، نفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: (إي والذي نفسي بيده، إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء) .
قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: "رجال إسناده عندي على شرط الصحيح".
"إعلام الموقعين" (4/ 274) .
ولا يعرف هذا الكلام فيما سأل عنه السائل إلا عن أهل البدع والضلال.
قال ابن مفلح في "الفروع" (6/71-72) ، نقلا عن ابن الجوزي:
"قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَزْوِينِيِّ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَمْتَنِعُ جِمَاعُ الْوِلْدَانِ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْشَاءُ الشَّهَوَاتِ لِذَلِكَ , فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ اللَّذَّاتِ ... فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْمَيْلُ إلَى الذُّكُورِ عَاهَةٌ , وَلَمْ يُخْلَقْ هَذَا الَْحَلُّ لِلْوَطْءِ" انتهى.
وأبو على هذا هو محمد بن أحمد بن عبد الله المعتزلي.
قال ابن الجوزي في ترجمته من "المنتظم" (9/20-21) :
" كان يدرس علم الاعتزال وعلم الفسلفة والمنطق فاضطره أهل السنة إلى أن لزم بيته خمسين سنة لا يتجاسر أن يظهر، ولم يكن عنده من الحديث سوى حديث واحد لم يرو غيره، سمعه من شيخه أبي الحسين بن البصري ولم يرو أبو الحسين غيره، وهو قوله عليه السلام: (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) فكأنهما خوطبا بهذا الحديث؛ لأنهما لم يستحييا من بدعتهما التي خالفا بها السنة وعارضاها بها، ومن فعل ذلك فما استحيا " انتهى.
وانظر: "الوافي في الوفيات" (ص/525) .
قال ابن عقيل:
"لا وجه لتصوير اللواط؛ لأنه ما يثبت أن يخلق لأهل الجنة مخرج غائط، إذ لا غائط"
انتهى.
"المنتظم" (9/22) .
وقد رأينا في هذا العصر من أهل الإلحاد من يدعي أن القرآن الكريم يغري العرب كي يعتنقوا الإسلام بأن الجنة التي تنتظرهم فيها غلمان سوف يطوفون عليهم ليمارسوا معهم الشذوذ الجنسي، ويحتجون لذلك بمثل قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) الطور/ 24.
والعرب أبعد الناس عن ممارسة الشذوذ الجنسي.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (9/185) :
"والمقصود أن مفسدة " اللواط " من أعظم المفاسد، وكانت لا تعرف بين العرب قديما، كما قد ذكر ذلك غير واحد منهم، فلهذا قال الوليد بن عبد الملك: لولا أن الله عز وجل قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا" انتهى.
وانظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (4994) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/354)
هل الزوجة في الجنة ملزمة بطاعة زوجها والعيش مع زوجاته!!
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ينطبق على المرأة في الجنة نفس أحكام الدنيا من وجوب طاعة زوجها والعيش مع بقية زوجاته؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا تقاس الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، لتمام المفارقة، وشدة تباين أحوال الدارين، وقد روى البخاري (3244) ومسلم (2824) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) .
ولا يدخل أهل الجنة الجنة حتى يهذبوا وينقوا، وينزع الله عن صدورهم الغل، كما قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحجر/47.
وروى البخاري (6535) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ) .
فإذا دخلوا الجنة فلا وجود لشيء من منغصات الحياة.
وإذا دخل المؤمن الجنة، وكان له فيها ما شاء الله من الحور العين، فلا معنى للتساؤل عن غيرة الزوجات، أو نشوز الزوجة، أو ظلم الزوج، وقد روى مسلم (2836) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ) .
وروى مسلم أيضا (2838) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا) .
فانظري إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا) مع أنهم في خيمة واحدة، وذلك زيادة في النعيم، وإبعادا عن أسباب الغيرة.
فلا مجال لكدر العيش ولا تنغيصه، ولا وجود لأسباب تقتضي ما كانت تقتضيه في الدنيا من الغيرة ونحوها.
والجنة دار نعيم وجزاء، ليست بدار تكليف وابتلاء، فليس في الجنة تكليف بطاعة أحد، أو إلزام بفعل ما، وإنما فيها النعيم الذي لا ينقطع، يتقلب فيه أهلها بكرة وعشيا.
وقد مَنَّ الله تعالى على أهل الجنة بغلمان مخلَّدين يخدمونهم، فلا يحتاج أحد من أهل الجنة إلى خدمة زوجته أو ابنه أو غيرهما، ولا وجود لتلك المهام المعيشية التي لا بد فيها من الخدمة، كالعجن والخبز ... الخ.
فإذا دخل أهل الجنة الجنة فلا تعب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، وإنما هو النعيم المقيم، نسأل الله تعالى أن نكون من أهلها.
ولمزيد الفائدة ينظر جواب السؤال رقم: (25843) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/355)
أعمال لا تمس النار أصحابها
[السُّؤَالُ]
ـ[أود أن أعلم أي الأعمال يكون جزاؤها أن النار لا تمس صانعها؟ جزاكم الله خيراً ونفع بكم أمة الإسلام..]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يمكن الإجابة على هذا السؤال بجواب مجمل وهو: أن طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، هي أصل الفوز بالجنة والنجاة من النار، وأن معصية الله ورسوله هما سبب دخول النار، كما قال الله عز وجل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) النساء/13، 14.
وكما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قَالَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) . رواه البخاري (7280) .
وأما الجواب المفصل فهناك من الأعمال ما نص الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريم صاحبها على النار، وذلك ترغيباً لنا في القيام بهذه الأعمال، وإتقانها على الوجه الذي يرضاه الله تعالى.
فمن ذلك:
1- قول لا إله إلا الله بإخلاص ويقين:
فعن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لمعاذ رضي الله عنه: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) رواه البخاري (128) ومسلم (32) .
وروى مسلم (29) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) .
وروى البخاري (425) ومسلم (33) عن عِتْبَانَ بْن مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ) .
2– حسن الخلق ولين الجانب:
روى الترمذي (2488) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ) . وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (938) .
" قَالَ الْقَارِي: أَيْ تُحَرَّمُ عَلَى كُلِّ سَهْلٍ طَلْقٍ حَلِيمٍ لَيِّنِ الْجَانِبِ " انتهى.
"تحفة الأحوذي" (7/160) .
3- تغبير القدم في سبيل الله:
روى البخاري (907) أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) .
وروى أحمد (21455) أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ) صححه الألباني في "الإرواء" (5/5) .
ورواه ابن حبان في "صحيحه" (4064) ولفظه: عن أبي المصبح المقرائي قال: بينما نحن نسير بأرض الروم في طائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعمي إذ مر مالك بجابر بن عبد الله وهو يمشي يقود بغلاً له، فقال له مالك: أي أبا عبد الله، اركب، فقد حملك الله، فقال جابر: أصلح دابتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) فأعجب مالكاً قولُه، فسار حتى إذا كان حيث يسمعه الصوت ناداه بأعلى صوته: يا أبا عبد الله، اركب، فقد حملك الله، فعرف جابر الذي أراد برفع صوته، وقال: أصلح دابتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) فوثب الناس عن دوابهم، فما رأينا يوما أكثر ماشيا منه. صححه الألباني في "الإرواء" (5/6) .
4- الصلاة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ) متفق عليه.
وروى أحمد (17882) عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيْدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، عَلَى وُضُوئِهَا، وَمَوَاقِيتِهَا، وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، يَرَاهَا حَقًّا لِلَّهِ عَلَيْهِ حُرِّمَ عَلَى النَّارِ) حسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (381) .
5- المحافظة على أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا:
روى أبو داود (1269) والترمذي (428) وصححه عن أُمّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
6- ذكر الله وتوحيده عند الموت:
روى ابن ماجة (3794) عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم أنه شهد على أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَأَنَا أَكْبَرُ.
وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي.
وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَلَا شَرِيكَ لِي.
وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِي الْمُلْكُ، وَلِيَ الْحَمْدُ.
وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي) .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رُزِقَهُنَّ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ) صححه الألباني في "صحيح الجامع" (713) .
7- البكاء من خشية الله، والحراسة في سبيل الله:
روى الترمذي (1639) وحسنه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
8- غض البصر:
روى الطبراني في "المعجم الكبير" (1003) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله) . وصححه الألباني في "الصحيحة" (2673) .
9- الصبر على فقد الولد:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) متفق عليه.
قال النووي في "شرح مسلم":
"قَالَ الْعُلَمَاء: (تَحِلَّة الْقَسَم) مَا يَنْحَلّ بِهِ الْقَسَم، وَهُوَ الْيَمِين، وَجَاءَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيث أَنَّ الْمُرَاد قَوْله تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا) وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْد وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَالْقَسَم مُقَدَّر، أَيْ: وَاَللَّه إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا، وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ تَقْلِيل مُدَّة وِرْدهَا. قَالَ: وَتَحِلَّة الْقَسَم تُسْتَعْمَل فِي هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب، وَقِيلَ: تَقْدِيره: وَلَا تَحِلَّة الْقَسَم، أَيْ: لَا تَمَسّهُ أَصْلًا، وَلَا قَدْرًا يَسِيرًا كَتَحِلَّةِ الْقَسَم، وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا) الْمُرُور عَلَى الصِّرَاط، وَهُوَ جِسْر مَنْصُوب عَلَيْهَا. وَقِيلَ: الْوُقُوف عِنْدهَا" انتهى باختصار.
وروى الطبراني في "الكبير" (231) عن واثلة رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دفن ثلاثة من الولد حرم الله عليه النار) صححه الألباني في "صحيح الجامع" (6238) .
هذه بعض الأعمال التي جاء النص عليها أن من فعلها حرمه الله على النار، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بها.
وجماع ذلك كما سبق هو: طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/356)
حديث (نَفَسيْ جهنم) ، والرد على من كذبه
[السُّؤَالُ]
ـ[دائماً ما كنت أستغرب الحديث بأن الطقس إذا كان حارّاً فإن هذا نفَس من أنفاس جهنم، فهل هذا الحديث ضعيف؟ لأنه وفقاً للحقائق التي سمعتها أننا نحصل على فصول السنة من خلال الشمس، وميل الأرض؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الحديث المشار إليه حديث صحيح في أعلى درجات الصحة، وقد اتفق على إخراجه الإمامان البخاري ومسلم، رحمهما الله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ) رواه البخاري (3087) ومسلم (617) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"والمراد بالزمهرير: شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال؛ لأن المراد بالنار: محلها، وفيها طبقة زمهريرية" انتهى.
" فتح الباري " (2 / 19) .
ثانياً:
هل كان كلام النار، وشكوتها، بلسان المقال أم بلسان الحال؟ أكثر العلماء -وهو الصواب بلا ريب- على أنه كان بلسان المقال.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
"وأما قوله في هذا الحديث: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً.... الحديث) : فإن قوماً حملوه على الحقيقة، وأنها أنطقها الذي أنطق كل شيء، واحتجوا بقول الله عز وجل: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) النور/24، وبقوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/44، وبقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) سبأ/10، أي: سبِّحي معه، وقال: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ) ص/18، وبقوله: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ 30، وما كان من مثل هذا، وهو في القرآن كثير، حملوا ذلك كله على الحقيقة، لا على المجاز، وكذلك قالوا في قوله عز وجل: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) الفرقان/ 12، و (تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/8، وما كان مثل هذا كله.
وقال آخرون في قوله عز وجل: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) و (تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) : هذا تعظيم لشأنها، ومثل ذلك قوله عز وجل: (جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) الكهف/77، فأضاف إليه الإرادة مجازاً، وجعلوا ذلك من باب المجاز، والتمثيل في كل ما تقدم ذكره، على معنى أن هذه الأشياء لو كانت مما تنطق، أو تعقل: لكان هذا نطقها وفعلها.
فمَن حمل قول النار وشكواها على هذا: احتج بما وصفنا، ومن حمل ذلك على الحقيقة: قال: جائز أن يُنطقها الله، كما تنطق الأيدي، والجلود، والأرجل يوم القيامة، وهو الظاهر من قول الله عز وجل: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ 30، ومن قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/44، و (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) النمل/18، وقال: قوله عز وجل: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/8: أي: تتقطع عليهم غيظاً، كما تقول: فلان يتقد عليك غيظاً، وقال عز وجل: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) الفرقان/ 12، فأضاف إليها الرؤية، والتغيظ، إضافة حقيقية، وكذلك كل ما في القرآن من مثل ذلك.
ومن هذا الباب عندهم قوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) الدخان/29، و (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً) مريم/ 90، و (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت/11، (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) البقرة/74، قالوا: وجائز أن تكون للجلود إرادة لا تشبه إرادتنا، كما للجمادات تسبيح وليس كتسبيحنا، وللجبال، والشجر سجود وليس كسجودنا.
والاحتجاج لكلا القولين يطول، وليس هذا موضع ذِكره، وحمْل كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة: أولى بذوي الدِّين، والحق؛ لأنه يقص الحق، وقوله الحق، تبارك وتعالى علوّاً كبيراً" انتهى.
" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " (5 / 11 – 16) .
ثم اختلف العلماء أيضا في نفسي جهنم، هل هما على الحقيقة، أم على المجاز؟ وأكثر العلماء على أن ذلك على الحقيقة أيضاً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"قال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته، قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز: لم يُحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته: أولى، وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال نحو ذلك التوربشتى.
ورجح البيضاوي حمله على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضاً: مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها: مجاز عن خروج ما يبرز منها، وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة؛ لصلاحية القدرة لذلك [يعني: أن الله تعالى يقدر على ذلك] ، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى، وتفسيرها، والتعليل له، والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط: بعيد من المجاز خارج عما أُلِف من استعماله" انتهى.
" فتح الباري " (2 / 19) .
وقال الزرقاني رحمه الله:
" (أن النار اشتكت إلى ربها) حقيقة، بلسان المقال، كما رجحه من فحول الرجال: ابن عبد البر، وعياض، والقرطبي، والنووي، وابن المنير، والتوربشتي، ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال" انتهى.
" شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك " (1 / 59) .
وقد رد بعض الجهلة هذا الحديث بزعم أنه مخالف للواقع، من أن اختلاف الفصول إنما يرجع للعلاقة بين الشمس والأرض.
والجواب على هؤلاء أسهل مما يتصورون؛ وذلك أن هذا الحديث ليس فيه أن اختلاف الفصول أو حصول الشتاء والصيف هو بسبب نفَسَيْ جهنم.
بل الحديث نفْسُه يدل على وجود الفصلين (الشتاء والصيف) ابتداءً، وأن "شدة الحر" و "شدة البرد" هما من أثر نفَسَي جهنم، لا أنهما يكوِّنان "الصيف" و "الشتاء"، وهذا واضح بأدنى تأمل في الحديث.
قال ابن عبد البر رحمه الله:
"وأما قوله: (فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء، ونفس في الصيف) : فيدل على أن نفَسها في الشتاء: غير الشتاء، ونفَسها في الصيف: غير الصيف" انتهى.
" التمهيد " (5 / 8) .
وقد رَدَّ آخرون الحديث لأن سبب شدة الحر أو شدة البرد معروف، وهو بعد الشمس أو قربها من الأرض.
وقد أجاب العلماء عن ذلك أيضاً، وبينوا أنه لا تعارض بين الحديث، وبين الواقع،
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
"وفي هذا الحديث: دليل على أن الجمادات لها إحساس لقوله: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً) ، من شدة الحر، وشدة البرد , فأذن الله لها أن تتنفس في الشتاء، وتتنفس في الصيف , تتنفس في الصيف ليخف عليها الحرَّ , وفي الشتاء ليخفَّ عليها البرد , وعلى هذا فأشد ما نجد من الحرِّ: يكون من فيح جهنم , وأشد ما يكون من الزمهرير: من زمهرير جهنم.
فإن قال قائل: هذا مشكل حسَب الواقع؛ لأن من المعروف أن سبب البرودة في الشتاء هو: بُعد الشمس عن مُسامتة الرؤوس , وأنها تتجه إلى الأرض على جانب، بخلاف الحر، فيقال: هذا سبب حسِّي، لكن هناك سبب وراء ذلك , وهو السبب الشرعي الذي لا يُدرك إلا بالوحي , ولا مناقضة أن يكون الحرُّ الشديد الذي سببه أن الشمس تكون على الرؤوس أيضا يُؤذن للنار أن تتنفس فيزدادُ حرُّ الشمس , وكذلك بالنسبة للبرد: الشمس تميل إلى الجنوب , ويكون الجوُّ بارداً بسبب بُعدها عن مُسامتة الرؤوس , ولا مانع من أنّ الله تعالى يأذن للنار بأن يَخرج منها شيءٌ من الزمهرير ليبرِّد الجو، فيجتمع في هذا: السبب الشرعي المُدرَك بالوحي , والسبب الحسِّي، المُدرَك بالحسِّ.
ونظير هذا: الكسوف، والخسوف , الكسوف معروف سببه , والخسوف معروف سببه.
سبب خسوف القمر: حيلولة الأرض بينه، وبين الشمس , ولهذا لا يكون إلا في المقابلة , يعني: لا يمكن يقع خسوف القمر إلا إذا قابل جُرمُه جرمَ الشمس , وذلك في ليالي الإبدار، حيث يكون هو في المشرق، وهي في المغرب أو هو في المغرب، وهي في المشرق.
أما الكسوف فسببه: حيلولة القمر بين الشمس، والأرض , ولهذا لا يكون إلا في الوقت الذي يمكن أن يتقارب جُرما النيّرين , وذلك في التاسع والعشرين أو الثلاثين، أو الثامن والعشرين , هذا أمر معروف , مُدرك بالحساب , لكن السبب الشرعي الذي أدركناه بالوحي هو: أن الله (يخوّف بهما العباد) , ولا مانع من أن يجتمع السببان الحسي والشرعي , لكن من ضاق ذرعاً بالشرع: قال: هذا مخالف للواقع ولا نصدق به , ومن غالى في الشرع: قال: لا عبرة بهذه الأسباب الطبيعية، ولهذا قالوا: يمكن أن يكسف القمر في ليلة العاشر من الشهر! .... لكن حسَب سنَّة الله عز وجل في هذا الكون: أنه لا يمكن أن يَنخسف القمر في الليلة العاشر أبداً" انتهى.
" شرح صحيح مسلم " (شرح كتاب الصلاة ومواقيتها، شريط رقم 10، وجه أ) .
ونرجو أن يكون ما ذكرناه كافياً لتوضيح معنى الحديث، وأنه لا يمكن للشرع أن يخالف شيئاً محسوساً في الواقع، وإنما أتي الناس من جهلهم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/357)
الفرق بين خمر الدنيا والآخرة
[السُّؤَالُ]
ـ[كلنا نعلم تحريم الخمر في الدنيا وأنه يسكر، وأنه يخامر العقل، ولهذا فهو رجس من عمل الشيطان، وأنه أم الخبائث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال: لماذا الخمر في الدنيا حرام وفي الآخرة حلال؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وصف الله تعالى خمر الآخرة بما يخالف خمر الدنيا، فقال: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) الصافات/45-47.
فوصف الله تعالى خمر الآخرة بأنها:
1- بيضاء.
2- لذة للشاربين، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب.
3- (لا فيها غول) وهو ما يصيب شاربها في الدنيا، من صداع، أو ألم في بطنه، أو ذهاب للعقل، وفي سورة الواقعة: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) أي: لا يصيبهم منها صداع.
4- (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) بخلاف خمر الدنيا التي تذهب عقولهم.
انظر: "تفسير سورة الصافات" للشيخ ابن عثيمين (ص 107-109) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
"خمر الآخرة طيب، ليس فيه إسكار ولا مضرة ولا أذى، أما خمر الدنيا ففيه المضرة والإسكار والأذى، أي: إن خمر الآخرة ليس فيه غَوْل ولا ينزف صاحبه، وليس فيه ما يغتال العقول، ولا ما يضر الأبدان، أما خمر الدنيا فيضر العقول والأبدان جميعا، فكل الأضرار التي في خمر الدنيا منتفية عن خمر الآخرة. وبالله التوفيق" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (23/62) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/358)
هل سيجد في نعيم الجنة ما يشبع هواياته في الدنيا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك نعيم في الجنة كالمجد أو النصر، أعني بذلك، إذا كان شخص يحب شيئاً ما مثل بطولة " سوكر " لكرة القدم، وهذا الشخص لطالما يحلم أن يكون هو من يسجل هدف الفوز لفريقه في كأس العالم، فكيف يمكن لكل من الهواية والمجد أو النصر أن يكون في الجنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاءت النصوص التي تصف نعيم الجنة بصيغة العموم الذي لا يكاد يخصه شيء:
يقول الله عز وجل: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) الزمر/34.
ويقول تعالى:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الشورى/22.
وقال سبحانه:
(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ق/35.
ويقول أيضا:
(نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) فصلت/31-32.
ويقول سبحانه: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الزخرف/71.
ويقول عز وجل:
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة/17
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))
رواه البخاري (3244) ومسلم (2824)
وكل ذلك يدل صراحة على أن المسلم المنعم في الجنة ينال في نعيمه كل ما يحبه ويهواه ويشتهيه من ملذات الدنيا والآخرة.
بل جاء النص صريحا بأن من طلب شيئا من شهوات الدنيا حققت له:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ. فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ. فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لاَ تَجِدُهُ إِلاَّ قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رواه البخاري (2348)
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" في هذا الحديث من الفوائد أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا ممكن فيها. قاله المهلب " انتهى.
" فتح الباري " (5/27)
وأما تفاصيل كيفية حدوثه والطريقة التي يعد بها في الجنة فذلك ما لا سبيل إلى العلم به، والأحرى في المسلم الحرص على كل عمل يقربه إلى الجنة، وترك تفاصيلها ليومها، لعل الله تعالى يكرمنا بأعلى الدرجات فيها، ونقول لك كما يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابي الذي سأل عن الخيل في الجنة: (إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ) رواه الترمذي (2543) وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/3001)
يقول المناوي رحمه الله:
" مقصود الحديث أن ما من شيء تشتهيه النفس في الجنة إلا تجده فيها كيف شاءت، حتى لو اشتهى أحد أن يركب فرسا لوجده بهذه الصفة " انتهى.
" فيض القدير " (3/35)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" قوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا) ؛ أي: في الجنة كل ما يشاءون، وقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله! أفي الجنة خيل؛ فإني أحب الخيل؟ فقال: (إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة شئت إلا فعلت. وقال الأعرابي: يا رسول الله: أفي الجنة إبل؛ فإني أحب الإبل؟ قال: يا أعرابي! إن يدخلك الله الجنة؛ أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك)
فإذا اشتهى أي شيء فإنه يكون ويتحقق، حتى إن بعض العلماء يقول: لو اشتهى الولد لكان له ولد؛ فكل شيء يشتهونه فهو لهم. قال تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الزخرف/71 " انتهى.
" مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين " (8/385)
انظر جواب السؤال رقم: (1141) ، (20286)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/359)
هل الجنة درجات؟ وهل يزور أهل الدرجات الدنيا أهل الدرجات العليا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[الناس في الجنة مراتب متفاوتة، فمنهم في مكانة عالية، وبعضهم في مكانة أقل، وبعضهم أقل، وهكذا، فهل يستطيع الذي في المكانة الأقل أن يحصل على نفس ما يحصل عليه الذي فوقه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
مما يعتقده المسلمون أن الجنة درجات، وأن الله قد وعد الطائعين بمنازل في الجنة إن هم قاموا بما حثَّهم عليه من تلك الطاعات، وما ذلك التفاضل بين أهل الجنة في المنازل والدرجات إلا بسبب تفاضلهم في أعمال الطاعات في الدنيا.
قال تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) الإسراء/ 21، وقال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) الأنعام/ من الآية132.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
والجنَّة درجات، متفاضلة تفاضلاً عظيماً، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات: بحسب إيمانهم، وتقواهم.
" مجموع الفتاوى " (11 / 188) ، وينظر: " تفسير السعدي " (ص 274) .
وقد فصلنا القول في جواب السؤال رقم (27075) في الأعمال التي يحصل بها المسلم الدرجات في الجنة، فلينظر.
ثانياً:
مما لا شك فيه أن أهل الجنة يتفاوتون في النعيم في الجنان، بحسب درجتهم فيها، فليس من يسكن " الفردوس " كمن يسكن في الجنان دونها.
وقد ذكر الله تعالى وصفاً لجنان من خاف مقامه سبحانه وتعالى، فقال: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) الرحمن/ 46 – 48، فوصفهما، ثم قال تعالى: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) الرحمن/ 62، فتبين به اختلاف الجنان بعضها عن بعض بحسب أعمال أهلها، ومنزلتهم عند ربهم.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ) .
رواه البخاري (3083) ومسلم (2831) .
وفي رواية: (إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا) .
رواه الترمذي (3658) ، وحسَّنه، وابن ماجه (96) ، من حديث أبي سعيد، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
قال القرطبي – رحمه الله -:
اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو، والصفة، بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال، فبعضها أعلى من بعض، وأرفع.
وقوله (الغائر من المشرق أو المغرب) يروى بالياء اسم فاعل، من غار، وروي " الغابر " بالباء بواحدة، ومعناه الذاهب، أو الباقي، ويعني به: أن الكوكب حالة طلوعه، وغروبه بعيد عن الأبصار، فيظهر صغيراً لبعده، وقد بيَّنه بقوله (من المشرق أو المغرب) وقد روي العازب بالعين المهملة والزاي، أي: البعيد، ومعانيها كلها متقاربة المعنى.
" التذكرة في أحوال الموتى والدار الآخرة " (ص 398) .
ثالثاً:
ما سبق ذكره يبين بوضوح أنه لا يستطيع أهل الدرجات الدنيا تحصيل ما في الدرجات العلى؛ لعدم قيامهم بما استحقوا من أجله تلك الدرجات، ولو اشترك أهل الجنان بالنعيم الذي أعده الله لمن هو فوقهم: لما كان للتفاوت في المنازل والدرجات حكمة! ومن عظيم عدل الله تعالى أن لا يساوي بين المستحقين للجنة في الدرجة والنعيم؛ فالتفاضل بين الناس في الدنيا في الإيمان والطاعات يؤدي إلى التفاضل في المنازل والدرجات عنده سبحانه وتعالى.
قال القرطبي – رحمه الله -:
وقوله: (والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) ولم يذكر عملاً، ولا شيئاً سوى الإيمان، والتصديق للمرسلين؛ وذلك ليُعلم أنه عنى الإيمان البالغ، وتصديق المرسلين من غير سؤال آية، ولا تلجلج، وإلا فكيف تُنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة؟! ولو كان كذلك: كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات، وأرفع الدرجات، وهذا محال.
" التذكرة " (ص 398) .
رابعا:
ليس ثمة حسد في الجنة ولا بغضاء، وفي ذلك قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحجر/ 47.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، مِنَ الْحُسْنِ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
رواه البخاري (3073) ومسلم (2834) .
بل تأمل هذا الحديث:
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) .
رواه مسلم (274) .
فهذا حال آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة خروجا من الجنة، يرى أن نال شيئا لم ينله أحد من الأولين والآخرين، وهو لم يدخل الجنة بعد؛ فكيف إذا دخلها؟!
قال ابن عطية الأندلسي – رحمه الله -:
وكلُّ مَن فيها قد رُزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنَّا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم، على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء.
" المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز " (2 / 91) .
وينظر: كتاب "الجنة والنار" للشيخ عمر سليمان الأشقر، حفظه الله (154-163) .
خامساً:
من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين أنه لا يحرم عبدا من درجته في الجنة فينزله منها إلى درجة دونها، لكن يمن على من يشاء من عباده، فيرفع درجته فيها، ومن أسباب هذه الرفعة:
1. شفاعة الشافعين.
وفي ذلك حديثان:
أ. عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ) - وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ - ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ) .
رواه البخاري (4067) ومسلم (2498) .
وأبو عامر هو الأشعري، وهو عم أبي موسى، رضي الله عنهما.
ب. عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ) فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: (لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ) ثُمَّ قَالَ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ) .
رواه مسلم (920) .
قال ابن القيم – رحمه الله -:
والنوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم من المؤمنين في زيادة الثواب، ورفعة الدرجات.
" حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود " (13 / 56) .
واستدل – رحمه الله – على كلامه بالحديثين السابقين.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في بيان أنواع الشفاعة -:
" النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أبي سلمة ... ".
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (9 / 326) .
2. دعاء واستغفار الولد لوالده.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَنَّى هَذَا فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ) .
رواه ابن ماجه (3660) ، وحسَّنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1598) .
3. إلحاق الآباء بدرجة الأبناء والعكس.
قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور/ 21.
وعن ابن عباس قال: " إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه "، وهو أثر صحيح، له حكم الرفع، وانظر " السلسلة الصحيحة " (2490) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
قال عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الطور/21، الذين آمنوا واتبعتهم الذرية بالإيمان، والذرية التي يكون إيمانها تبعاً: هي الذرية الصغار، فيقول الله عز وجل: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي: جعلنا ذريتهم تلحقهم في درجاتهم.
وأما الكبار الذين تزوجوا: فهم مستقلون بأنفسهم في درجاتهم في الجنة، لا يلحقون بآائهم؛ لأن لهم ذرية، فهم في مقرهم، أما الذرية الصغار التابعون لآبائهم: فإنهم يرقَّون إلى آبائهم، هذه الترقية لا تستلزم النقص من ثواب ودرجات الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، (ألتناهم) يعني: نقصناهم، يعني: أن ذريتهم تلحق بهم، ولا يقال أخصم من درجات الآباء بقدر ما رفعتم درجات الذرية، بل يقول: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) .
" تفسير القرآن من الحجرات إلى الحديد " (ص 187) .
سادساً:
وردت بعض الأحاديث التي تدل على أن أهل الدرجات العليا، إذا أرادوا أن يزوروا من هم دونهم: فإنهم يهبطون إليهم، ولا يصعد أهل الدرجات الدنيا إلى أعلى، لكنها لا تصح؛ فمن ذلك:
1. عن أبي سلام الأسود قال: سمعتُ أبا أمامة قال: سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتزاور أهل الجنة؟ قال: (نعم، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى، فيحيونهم، ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم) .
رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " (10 / 3371) .
وفيه ضعف، فيه سعيد بن يوسف.
قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، ليس بالقوي.
" الضعفاء والمتروكين " لابن الجوزي (1 / 327) .
2. عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتزاور أهل الجنة على نوق عليها الحشايا، فيزور أهل عليين من أسفل منهم، ولا يزور من أسفل منهم أهل عليين إلا المتحابين في الله فإنهم يتزاورون من الجنة حيث شاؤوا) .
رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (8 / 240) .
وفيه: بِشر بن نُمير، متروك، وقد اتهم بالوضع.
قال الهيثمى – رحمه الله -:
فيه بشر بن نمير وهو متروك.
" مجمع الزوائد " (10 / 496) .
"الحشايا": هى الفرش المحشوة.
3. ورواه أبو نعيم الأصبهاني في " صفة الجنة " برقم (421) من طريق جعفر بن الزبير، وبشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا بنحوه.
وجعفر بن الزبير: متروك، وقد اتهم بالوضع.
وبشر بن نمير: متروك، كما سبق.
4. (إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعا فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر الله لنا؟ فيقول صاحبه: نعم يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا) .
وهو حديث ضعيف، انظر " السلسلة الضعيفة " (5029) .
وأعلى ما تم الوقوف عليه من كلام أهل العلم في المسألة هو ما رواه أبو نعيم الأصبهاني في " صفة الجنة " (422) عن حميد بن هلال قال: بلغنا أن أهل الجنة يزور الأعلى الأسفل، ولا يزور الأسفل الأعلى.
وحميد من التابعين، وإسناده إليه صحيح، فالله أعلم بحقيقة الحال.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/360)
هل الرفع لدرجة الآباء في الجنة يكون للذرية جميعها صغارها وكبارها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤال: قرأتُ أنه من كرم الله سبحانه وتعالى أنه يرفع درجة الأبناء في الجنة إلى درجة آبائهم الأعلى منهم , وعلى هذا الأمر فإن أبناء الصحابة سترفع درجتهم لدرجة آبائهم، والأحفاد لدرجة الآباء، وهكذا كل جيل يرفع الجيل التالي حتى يصل الأمر لجيلنا فنرتفع لدرجة الصحابة إذا كنا أحفادهم، مما قد يسبب التهاون بالعمل ونعتمد على هذا الكرم الإلهي، فما رأيكم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الإشكال الوارد في السؤال يرد عند الحديث على قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور/21، وقد اختلف أهل التفسير في لفظ " الذرية " هل يراد به: الصغار، أو الكبار، فأما من قال إن المراد به الصغار، فلا إشكال عنده في معنى الآية، وإنما يرد الإشكال في حال كون معنى " الذرية ": الكبار، والراجح في تفسيرها أنهم الصغار، وعليه: فلا يرد ما استشكله الأخ السائل، فالرفع للذرية الصغار، وإلا للزم كون جميع أهل الجنة في درجة واحدة.
1. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:
" وقد اختلف المفسرون في " الذرية " في هذه الآية، هل المراد بها: الصغار، أو الكبار، أو النوعان، على ثلاثة أقوال. ....
ثم قال:
واختصاص " الذرية " ههنا بالصغار: أظهر؛ لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات، ولا يلزم مثل هذا في الصغار؛ فإن أطفال كل رجل وذريته معه في درجته، والله أعلم " انتهى.
"حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص 279-281) باختصار.
2. قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
" إذا كان الأولاد سعداء، والأب من السعداء: فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) يعني: أن الإنسان إذا كان له ذرية، وكانوا من أهل الجنة: فإنهم يَتبعون آباءهم، وإن نزلت درجتُهم عن الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) أي: ما نقصنا الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بل الآباء بقي ثوابهم موفَّراً، ورُفعت الذرية إلى مكان آبائها، هذا ما لم يَخرج الأبناء عن الذرية بحيث ينفردون بأزواجهم، وأهليهم، فيكون هؤلاء لهم فضلهم الخاص، ولا يلحقون بآبائهم؛ لأننا لو قلنا: كل واحد يلحق بأبيه ولو كان له أزواج، أو كان منفرداً بنفسه: لكان أهل الجنة كلهم في مرتبة واحدة؛ لأن كل واحد من ذرية من فوقه، لكن المراد بالذرية: الذين كانوا معه، ولم ينفردوا بأنفسهم، وأزواجهم، وأولادهم، فهؤلاء يرفعون إلى منزلة آبائهم، ولا يُنقص الآباء من عملهم من شيء " انتهى.
"فتاوى نور على الدرب" (شريط 324، وجه: أ) .
3. وقال رحمه الله - أيضاً -:
" ثم قال عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الطور/21، الذين آمنوا واتبعتهم الذرية بالإيمان، والذرية التي يكون إيمانها تبعاً: هي الذرية الصغار، فيقول الله عز وجل: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي: جعلنا ذريتهم تلحقهم في درجاتهم.
وأما الكبار الذين تزوجوا: فهم مستقلون بأنفسهم في درجاتهم في الجنة، لا يلحقون بآبائهم؛ لأن لهم ذرية، فهم في مقرهم، أما الذرية الصغار التابعون لآبائهم: فإنهم يرقَّون إلى آبائهم، هذه الترقية لا تستلزم النقص من ثواب ودرجات الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، (ألتناهم) يعني: نقصناهم، يعني: أن ذريتهم تلحق بهم، ولا يقال أخصم من درجات الآباء بقدر ما رفعتم درجات الذرية، بل يقول: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) " انتهى.
"تفسير القرآن من الحجرات إلى الحديد" (ص 187) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/361)
مصير أطفال المؤمنين وأطفال المشركين الذين ماتوا صغاراً
[السُّؤَالُ]
ـ[ما مصير أطفال المؤمنين، وأطفال المشركين الذين ماتوا صغاراً؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"مصير أطفال المؤمنين الجنة: أنهم تبع لآبائهم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور/21. وأما أطفال غير المؤمنين يعني الطفل الذي نشأ من أبوين غير مسلمين فأصح الأقوال فيهم أن نقول: الله أعلم بما كانوا عاملين، فهم في أحكام الدنيا بمنزلة آبائهم، أما في أحكام الآخرة فإن الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بمصيرهم، هذا ما نقوله، وهو في الحقيقة أمر لا يعنينا كثيراً إنما الذي يعنينا هو حكمهم في الدنيا، وأحكامهم في الدنيا - أعني أولاد المشركين - أحكامهم في الدنيا أنهم كالمشركين لا يغسلون، ولا يكفنون، ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين. والله أعلم" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (2/35) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/362)
أعمار الأطفال الذين ماتوا صغار، إذا دخلو الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[كانت زوجتي حاملا بتوأمين، ويوم المخاض أحست بماء يسيل فتوجهت إلى الطبيبة، فأخبرتها أن أحد الجنينين قد مات قبل قليل؛ لأنه شرب من الماء الذي يسبح فيه في الرحم، فتوجهت إلى المستشفى وأجريت لها عملية قيصرية لإنقاذ الجنين الثاني الذي ولد حيا والحمد لله. أريد أن أسأل عن الجنين الميت كيف يبعث يوم القيامة؟ هل يبعث مثلنا شابا أم كيف؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
اتفق أهل العلم على أن مصير أطفال المسلمين - إذا ماتوا بعد نفخ الروح وقبل البلوغ – هو الجنة، كرامةً من الله تعالى لهم ولآبائهم، ورحمةً منه سبحانه الذي وسعت رحمته كل شيء. وقد سبق نقل نصوص أهل العلم عن هذا في جواب السؤال رقم: (6496)
ثم بالتأمل في النصوص المخبرة عن حال أطفال المسلمين في البرزخ، وعند البعث والحساب يوم القيامة، ثم عند دخول الجنة، يمكننا تقسيم رحلتهم تلك إلى المراحل الآتية:
1- أما حالهم في البرزخ فالثابت أنهم بمجرد موتهم يُنقلون إلى الجنة، وأن أرواحهم تتنعم فيها في رعاية أبينا إبراهيم عليه السلام:
ورد ذلك في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال:
(كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكثِرُ أن يَقُولَ لِأَصحَابِهِ: هَل رَأَى أَحَدٌ مِنكُم مِن رُؤيَا؟ قالَ: فَيَقُصُّ عَلَيه مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُصَّ.
وَإِنَّه قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: إِنَّه أَتَانِي الليلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهما ابتَعَثَانِي، وَإِنَّهُما قَالَا لِي انطَلِق، وَإِنِّي انطَلَقتُ مَعَهُمَا. . . (فذكر أشياء رآها ثم قال) فانطَلَقنَا، فَأتَينَا عَلَى رَوضَةٍ مُعتَمَّةٍ، فِيهَا مِن كُلِّ لَونِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَي الرَّوضَةِ رَجُلٌ طَويلٌ لَا أَكادُ أَرَى رَأسَهُ طُولًا فِي السَّماءِ، وإِذَا حَولَ الرَّجُلِ مِن أَكثَرِ وِلدَانٍ رَأيتُهم قَطُّ،. . . (ثم كان مما عبره له الملكان) :
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الذي فِي الرَّوضَةِ فَإِنَّه إبراهيمُ، وَأَمَّا الوِلدَانُ الذِينَ حَولَه فَكُلُّ مَولُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ، فَقَالَ بَعضُ المُسلِمِين: يَا رَسُولَ اللهِ! وَأَوْلَادُ المُشْرِكِين؟ فَقَالَ: وَأَوْلَادُ المُشرِكِين) رواه البخاري (7047)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
" أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش " انتهى.
رواه ابن أبي حاتم بسنده، انظر "تفسير القرآن العظيم" (7/148)
وانظر شيئا من تفصيل ذلك في موقعنا، في جواب السؤال رقم: (71175)
2- فإذا قامت القيامة، وبُعث الخلق من قبورهم، بعث الأطفال أيضا على حال طفولتهم وصغرهم الذي ماتوا عليه، فيشفعون لآبائهم، ويدخلونهم الجنة برحمة الله لهم:
عن أبي حسان قال: قلتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّه قَدْ مَاتَ لِي ابنانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ بِحَدِيْثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟
قالَ: نَعَمْ، صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُم أَبَاهُ - أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ - فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ، - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ - كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنَفَةِ ثَوْبِكَ هذا، فَلَا يَتَنَاهَى حتى يُدخِلَه اللهُ وَأَبَاهُ الجَنَّةَ.
رواه مسلم (2635)
يقول ابن الأثير: " الدعاميص: جمع دعموص، وهي دويبة تكون في مستنقع الماء. والدعموص أيضا: الدخال في الأمور: أي أنهم سيَّاحون في الجنة، دخَّالون في منازلها، لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحُرَم، ولا يُحجب منهم أحد " انتهى. "النهاية" (2/279)
ففي هذا الحديث دليل ظاهر على أن الأطفال يبقون على حال طفولتهم عند البعث والجزاء والحساب، بل حتى السقط الذي نفخ فيه الروح يبقى على هيئته يوم سقط من رحم أمه.
3- فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأخذوا منازلهم فيها، فذهب بعض أهل العلم إلى أنهم يدخلونها جميعا – كبارهم وصغارهم – وهم أبناء ثلاث وثلاثين سنة، لا يهرمون ولا يشيخون، ويتنعمون في شبابهم أبد الآبدين، فيزيد الله في عمر الصغير، وينقص من عمر الشيخ الكبير، حتى يصير الجميع في سن واحد، سن ريعان الشباب: سن الثالثة والثلاثين.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً)
رواه الترمذي (2545) وقال حسن غريب. ورواه الإمام أحمد في "المسند" (2/315) من حديث أبي هريرة، وحسنه المحققون. والهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/402) ، وصححه أبو حاتم في "العلل" (3/272) ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (6/1224)
بل جاء ذلك صريحا في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – وفي إسنادها كلام - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ بَنِي ثَلاَثِينَ فِي الجَنَّةِ لاَ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ) رواه الترمذي (2562) وضعفه بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين – وهو ابن سعد -. قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك.
وذهب آخرون من أهل العلم، من الصحابة والتابعين، إلى أن من مات من أطفال المسلمين قبل بلوغ سن الحلم، يكونون خدم أهل الجنة، يطوفون عليهم بالشراب والطعام والنعيم، وأولئك هم المذكورون في قوله تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الواقعة/17-18، وقوله سبحانه: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) الطور/24، وقوله عز وجل: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) الإنسان/19
نقل ذلك العلامة ابن القيم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن الحسن البصري رحمه الله، ولكنه اختار رحمه الله ترجيح القول بأن هؤلاء الولدان الذي يخدمون أهل الجنة هم غلمان مخلوقون من الجنة كالحور العين، وأنهم غير من مات من أطفال المسلمين من أهل الدنيا، وقال: " وأما ولدان أهل الدنيا فيكونون يوم القيامة أبناء ثلاث وثلاثين " انتهى.
انظر: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" (ص/309-311) .
ولعل القول الثاني هو أظهر القولين في المسألة، لحديث أبي هريرة المذكور أولا، وفيه: (صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجَنَّةِ) ، وهو أصح وأظهر مما احتج به القائلون بالقول الأول.
قال المناوي رحمه الله:
" يعني هم سياحون في الجنة، دخالون في منازلها، لا يمنعون كما لا يمنع صبيان الدنيا الدخول على الحرم.
وقيل: الدعموص اسم للرجل الزوار للملوك الكثير الدخول عليهم والخروج، ولا يتوقف على إذن ولا يبالي أين يذهب من ديارهم؛ شبه طفل الجنة به لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء لا يمنع من أي مكان منها " انتهى. فيض القدير (4/194) ، ونحوه في مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (6/14) .
وانظر جواب السؤال رقم: (20469)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/363)
حديث إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت موضوعا نشر في المنتدى النسائي الذي أرتاده، وهو موضوع عن " أحوال النساء في الجنة " لأحد المشايخ، وبحثت في بعض الأحاديث الواردة في المقال فلم أعثر عليها، وحديث: قيل يا رسول الله! هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء. الراوي: أبو هريرة - خلاصة الدرجة: تفرد بن الجعفي - المحدث: الخطيب البغدادي - المصدر: تاريخ بغداد - الصفحة أو الرقم: 1/388 فما معنى تفرد به؟ وهل المقال المكتوب صحيح كل ما جاء فيه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد في عدد النساء اللاتي يفضي إليهن الرجل من أهل الجنة، حديثان:
الحديث الأول:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنُفْضِي إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ كَمَا نُفْضِيَ إِلَيْهِنَّ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْضِي بِالْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ) رواه هناد بن السري في "الزهد" (1/87) ، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم/261) ، وأبو يعلى في "المسند" (2/520) ، وإبراهيم الحربي في "غريب الحديث" (1/266) ، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (رقم/398) ، والبيهقي في "البعث والنشور" (رقم/355) من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، عن هشام بن حسان، عن زيد بن الحواري وهو زيد العمي، عن ابن عباس به.
وهذا إسناد ضعيف، بسبب زيد بن الحواري العمي:
قال أبو زرعة: ليس بقوي، واهي الحديث، ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو داود: حدث عنه شعبة وليس بذاك. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة لا أصول لها حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها، وكان يحيى يمرض القول فيه، وهو عندى لا يجوز الاحتجاج بخبره، ولا أكتبه إلا للاعتبار. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (3/408)
الحديث الثاني:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَصِلُ إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ فِي الْيَوْمِ إِلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ) رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (1/261) ، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1/219) ، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (رقم/397) والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/371) أيضا، جميعهم من طريق حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة به.
قال الطبراني: " لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا زائدة، تفرد به حسين بن علي " انتهى. "المعجم الأوسط" (5/263) وقال أبو نعيم أيضا: "تفرد به حسين عن زائدة" انتهى. ومعنى هذه العبارة أن حسين بن علي الجعفي هو الوحيد الذي روى الحديث عن زائدة بن قدامة بهذا السياق، يعني عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة.
وهذا إسناد ظاهره الصحة، لأن رواته ثقات، سمع بعضهم من بعض:
ولذلك صحح الحديث أبو عبد الله المقدسي وقال: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح " انتهى. نقلا عن تفسير ابن كثير (7/533) ، وابن القيم في "حادي الأرواح" (210) ، والسيوطي في "البدور السافرة" (451) ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (367) .
ويؤيد ذلك أيضا أن راوي هذه الطريق: حسين الجعفي، قد روجع في روايته له من طريق أبي هريرة وأصر على تأكيد سماعه لها هكذا من زائدة، وهما ثقتان من رواة الكتب الستة، فلعل هشام بن حسان سمعه من هذين الوجهين، فرواه بهما أيضا.
قال ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم/261) : " حدثنا هارون، قال: ثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه
قال أبو موسى – هو هارون بن عبد الله أبو موسى البزاز الحافظ المعروف بالحمال، شيخ ابن أبي الدنيا -: فقلت للحسين: إن أبا أسامة ثنا عن هشام، عن زيد بن الحواري، عن ابن عباس قال: هكذا ثنا زائدة ولم يرجع " انتهى.
لكن ذهب الإمام الدارقطني إلى إعلال هذا الإسناد، بأنه خطأ على هشام بن حسان، فالطريق المعروف لهذا الحديث عن هشام هو السابق في حديث ابن عباس، يعني عن هشام عن زيد الحواري عن ابن عباس به، أما طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة فهي خطأ من قبل بعض الرواة عن هشام أو من دونهم.
سئل الإمام الدارقطني رحمه الله عن هذين الحديثين فقال:
" يرويه هشام بن حسان، واختلف عنه:
فرواه حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.
وخالفه ابن أسامة، فرواه عن هشام، عن ابن سيرين، أنه قال ذلك عن ابن عباس. وهو أشبه بالصواب " انتهى. "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" (10/30) .
وقد سبق الإمام الدارقطني إلى إعلال هذه الرواية: الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان:
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: " وَسَأَلْتُ أَبِي، وَأَبَا زُرْعَةَ، عَنْ حَدِيثٍ؛ رَوَاهُ حُسَيْنٌ الْجَعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَاَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نُفْضِي إِلَى نِسَائِنَا فِي الْجَنَّةِ.
فَقَالا: هَذَا خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قُلْتُ لأَبِي: الْوَهْمُ مِمَّنْ هُوَ قَالَ: مِنْ حُسَيْنٍ " انتهى. علل الحديث لابن أبي حاتم (2/213) .
واجتماع هؤلاء الأئمة الثلاثة: وهم من نقاد الحديث، وأهل البصر بالعلل، على إعلال الرواية المرفوعة للحديث من طريق أبي هريرة، يجعل من الصعوبة الجزم بصحته، أو حتى ترجيح ذلك.
على أنه، إذا فرضنا صحة الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (إلى مائة عذراء) لا يلزم منه أن يكون في كل يوم مائة عذراء أخرى غير ما كان له في اليوم السابق، فالحديث يحتمل أن يكون المراد به بيان قدرة الرجل على الجماع، وليس خصوص العدد، ولا تعدد الزوجات إلى هذا الحد، خاصة وأنه قد ورد أن الشهيد يزوج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، وهذا أقصى ما صح في عدد الزوجات.
ثم إنه قد ورد في بعض الآثار – وإن كان فيها شيء من الضعف - أن الزوجة في الجنة ترجع عذراء بعد الجماع، كلما رجع إليها زوجها وجدها كما كانت.
فهذا كله يمنع الجزم بأن للرجل في الجنة مائة زوجة، أو أنه يجامع في كل يوم مائة زوجة جديدة غير زوجات الأمس.
وتفاوت القوة على الجماع في الجنة تكون بحسب تفاوت الأعمال، وحفظ الشهوات عن الحرام.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:
" فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها هنا حرمها هناك، أو نقص كمالها، فلا يجعل الله لذةَ مَن أوضَعَ – أي غرق - في معاصيه ومحارمه كلذةِ مَن ترك شهوته لله أبدا " انتهى "حادي الأرواح" (347) .
ولمزيد من التفاصيل المتعلقة بالموضوع، يرجى قراءة جواب السؤال رقم: (10053) ، (25843) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/364)
هل يحزن أهل الجنة على أقربائهم وأحبابهم وهم يُعذبون في النار؟
[السُّؤَالُ]
ـ[نعتقد أن ساكني الجنة لن يقلقوا على أي شيء، لكن لو أن شخصاً من عائلته، أو محبوبه دخل النار: كيف يمكنه أن يكون سعيداً مع علمه أنهم يعاقبون؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كتب الله لأهل الجنة السعادة، والفرح، والسرور، فهم يتقلبون في نعَم الله تعالى، ونعيمه، بفضلٍ منه ورحمة، وليس في الجنة حزن، ولا هم، ولا غم، لأهلها، بل هم في نعيم دائم، وفضل عميم، من ربهم الرحمن الرحيم.
قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/ 112.
وقال تعالى: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) التوبة/ 21.
ومما لا شك فيه أن بعض من يدخل الجنة سيكون له أصحاب، وأحباب، وأقرباء، وأهلون، من أهل النَّار، فهل سينغص ذلك عليه سعادته، ويكدِّر عليه صفو نعيمه؟ الجواب: كلا، لن يكون ذلك البتة، ولم نجد شيئاً في الشرع – على حد علمنا – منصوصاً عليه في ذات المسألة، لكننا يمكننا الجزم بما ذكرناه، وأن لذلك أسباباً كثيرة، منها:
1. علم أهل الجنة بالحكم الشرعي.
2. تسليمهم بالحكمة الربانية.
3. ونعيمهم وهناؤهم العظيم ينسيهم ما فيه غيرهم من المستحقين للعذاب.
ولنقف مع ما يؤيد ذلك مع موقفين اثنين:
الأول: لإبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر، يوم القيامة.
والثانية: لرجل من أهل الجنَّة له صديق رآه من الجنَّة وهو في وسط جهنَّم.
أما الموقف الأول: فإن إبراهيم عليه السلام كان قد دعا ربَّه تعالى أن لا يخزيه يوم البعث، وعندما يكون الحكم على أبيه الخلود في جهنَّم: يطلب إبراهيم عليه السلام من ربه تعالى أن يحقق له دعاءه في أبيه، فيُؤتى بأبيه أمامه، فيمسخه الله ضبعاً، فيؤخذ بقوائمه، فيُلقى في نار جهنَّم، ويُخبر إبراهيم عليه السلام بحكم الله تعالى في عدم دخول الكفار الجنَّة، فيسلِّم إبراهيم عليه السلام للحكم، والحكمة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَعَلَى وَجْه آزَرَ قَتَرَة وَغَبَرَة، فَيَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُول أَبُوهُ: فَالْيَوْم لَا أَعْصِيك، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: يَا رَبِّ إِنَّك وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزيَني يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيّ خِزْي أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَد، فَيَقُول اللَّه: إِنِّي حَرَّمْت الْجَنَّة عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَال: يَا إِبْرَاهِيم مَا تَحْتَ رِجْلَيْك؟ اُنْظُرْ، فَيَنْظُر، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخ، فَيُؤْخَذ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّار. رواه البخاري (3350) .
الذِّيخ: ذَكَر الضِّبَاع، وَقِيلَ: لَا يُقَال لَهُ ذِيخ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِير الشَّعْر.
وقيل في مسخ أبيه بضبع ملطّخ أمام إبراهيم: حتى لا يكون لإبراهيم عليه السلام تعلُّق بصورة أبيه الحقيقية وهو في نار جهنم، وقيل: هو استجابة لدعائه، وقيل غير ذلك، وبكل حال: فإن هذا يصلح دليلاً على تسليم أهل الجنَّة بما قدَّره الله تعالى على المستحقين للخلود في نار جهنَّم.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ - في الحكمةِ من مسخِ آزر على صفةِ الذيخِ -:
قيل: الحكمة في مسخه: لتنفر نفس إبراهيم منه؛ ولئلا يبقى في النار على صورته، فيكون فيه غضاضة على إبراهيم.
وقيل: الحكمة في مسخه ضبعاً أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر؛ لأنه بعد أن ظهر له من ولده من الآيات البينات أصرَّ على الكفر حتى مات، واقتصر في مسخه على هذا الحيوان: لأنه وسط في التشويه بالنسبة إلى ما دونه، كالكلب، والخنزير، وإلى ما فوقه، كالأسد مثلاً؛ ولأن إبراهيم بالغ في الخضوع له، وخفض الجناح، فأبى، واستكبر، وأصر على الكفر، فعومل بصفة الذل يوم القيامة؛ ولأن للضبع عوجا فأشير إلى أن آزر لم يستقم فيؤمن بل استمر على عوجه في الدين.
" فتح الباري " (8 / 500) .
وأما الموقف الثاني: فإن فيه صورة تكاد تكون أبلغ من الأولى، ومطابقة للسؤال، وهي إخبار من الله تعالى عن مؤمن من أهل الجنَّة يمكنه ربه من رؤية صديق له في وسط النَّار، فلا يصيبه الحزن، ولا الكدر، بل يشكر ربه المتفضل عليه بالهداية، والإنجاء من الكفر والنار، ويلتفت لنعيمه الذي هو، ويشتغل به.
قال تعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ. قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات/ 50 – 61.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
ثم يقول المؤمن لإخوانه في الجنة: هل أنتم مطلعون في النار لننظر منزلة قريني هذا، وما صار إليه، هذا أظهر الأقوال، وفيها قولان آخران: أحدهما: أن الملائكة تقول لهؤلاء المتذاكرين الذين يحدِّث بعضهم بعضاً: هل أنتم مطلعون، رواه عطاء عن ابن عباس، والثاني: أنه مِن قوله الله عز وجل لأهل الجنة، يقول لهم: هل أنتم مطلعون؟ .
والصحيح: القول الأول، وأن هذا قول المؤمن لأصحابه، ومحادثيه، والسياق كله، والإخبار عنه، وعن حال قرينه.
" حادي الأرواح " (ص 179) .
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -:
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) يقول المؤمن مخاطبا للكافر: والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك. (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي: ولولا فضل الله عليَّ: لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت، محضر معك في العذاب، ولكنه تفضل عليَّ، ورحمني، فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) الأعراف/ 43.
وقوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) هذا من كلام المؤمن مغبطاً نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة، لا موت فيها، ولا عذاب؛ ولهذا قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
" تفسير ابن كثير " (7 / 16) .
هذا الذي يمكننا قوله في هذه المسألة، وأن المؤمن يعلم حكم الله في الكفار، ويسلم لحكمة الله تعالى، وينسيه ما هو فيه من نعيم، ما يكون عليه غيره من أهله وأحبابه في النار؛ رحمة، وفضلاً من ربه عز وجل.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/365)
هل تلبس المرأة الحجاب في الجنة أيضا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت أن المرأة المسلمة ستكون بحجاب إسلامي في الجنة أيضاً، أم إنها لن تكون قادرة على رؤية الرجال غير المحارم، كنت أعرف أن النساء تلبس النقاب والحجاب الإسلامي في الدنيا فقط. من فضلكم أحتاج توضيحاً، لأن شخصاً أخبرني بحديث يتعلق بهذه المسألة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الجنة دار نعيم وليست دار تكليف، وقد خلق الله فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة/17
فلا ينبغي للمسلم أن يتكلف السؤال عن تفاصيل ما في الجنة، مما قد يراه في الدنيا قيدا أو مشقة، فالجنة عالم آخر، ليس في الدنيا منه إلا الأسماء فقط، وأما حقائق الأمور فتختلف تماما، فمن التكلف أن ندقق النظر في كل ما يذكر في الجنة على مثال ما هو في الدنيا.
ومن أخص ما ورد في العلاقة بين الرجال والنساء غير المحارم غض البصر وقصر النظر عن حظوظ الآخرين من نعيم الجنة، قول الله تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) الرحمن/56، ولكنه في وصف الحور العين، فهل فيه دلالة على لحوق الأمر باقي النساء، هذا محل تردد.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" (قاصرات الطرف) أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا في الجنة أحسن من أزواجهن: قاله ابن عباس، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن زيد، وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيئا أحب إلي منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك " انتهى.
"تفسير القرآن العظيم" (7/504)
وأما لبس الخمار أو غطاء الرأس فلم نقف فيه أيضا على خبر يبينه تفصيلا، وإنما وردت إشارة إليه في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) رواه البخاري (حديث رقم/2796) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله:
" النصيف: الخمار " انتهى.
"غريب الحديث" (2/166)
ولكن ذلك غيرُ كافٍ للجزم بأن نساء الجنة يغطين رؤوسهن لزاما، لأسباب ثلاثة:
1- تفسير بعض العلماء لكلمة " نصيف " بأنه العصابة التي تلفها المرأة على استدارة رأسها، وهذه لا تغطي الرأس، وإنما تلبسها المرأة للتجمل والتزين.
2- سياق الحديث لا يسعف في الدلالة على ذلك، إذ المقصود من الحديث بيان شدة جمال نساء أهل الجنة والحور العين، حتى إن أدنى شيء تلبسه خير من متاع الدنيا كله، وليس المقصود خصوص " النصيف " بعينه. وقد وردت رواية أخرى جاء فيها: (ولتاجها على رأسها) .
3- ثم إن هذا الذكر العرضي للنصيف لا يعني لبس جميع النساء له، وفي جميع الأوقات والأماكن، وأمام جميع الناس، وإطلاق ذلك يحتاج دليلا خاصا، ولا نجده.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قوله: " وَلَنَصِيفُها " فسر في الحديث بالخِمار، وهذا التفسير من قتيبة، فقد أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن إسماعيل بن جعفر بدونه.
وقد وقع في رواية الطبراني: (وَلَتاجُها على رأسها) .
وحكى أبو عبيد الهروي أن " النصيف ": المِعجَر، وهو ما تلويه المرأة على رأسها.
وقال الأزهري: هو كالعصابة تلفها المرأة على استدارة رأسها، واعتجر الرجل بعمامته لفها على رأسه، ورد طرفها على وجهه، وشيئا منها تحت ذقنه " انتهى.
"فتح الباري" (11/442)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/366)
هل في الجنة حمل وولادة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[السؤال: نعلم أن الجنة فيها زوجات، فهل يكون فيها حمل وولادة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ذهب بعض العلماء إلى أن العبد إذا تمنى في الجنة أن يكون له ولد، فإن الله يحقق أمنيته بذلك، واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي في سننه (2563) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ، كَمَا يَشْتَهِي) صححه الألباني في صحيح الجامع (6649) .
(كَانَ حَمْلُهُ) أَيْ: حَمْلُ الْوَلَدِ (وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ) أَيْ: كَمَالُ سِنِّهِ وَهُوَ الثَّلَاثُونَ سَنَةً، (كَمَا يَشْتَهِي) مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وعلى هذا القول كثير من أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: فِي الْجَنَّةِ جِمَاعٌ وَلَا يَكُونُ وَلَدٌ، وهذا القول رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
قَالَ الإمام البخاري رحمه الله: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا وَلَدٌ) .
والحديث الذي أشار إليه البخاري رواه الإمام أحمد (15773) عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رضي الله عنه في حديث طويل وفيه: (الصَّالِحَاتُ لِلصَّالِحَيْنِ تَلَذُّونَهُنَّ مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَلْذَذْنَ بِكُمْ، غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ) .
قال ابن القيم رحمه الله: " عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادى على صحته "، وضعفه الألباني في "ظلال الجنة"، وقال شعيب الأرناؤوط: " إسناده ضعيف مسلسل بالمجاهيل ".
والحديث صريح في انتفاء الولادة، غير أنه مختلف في صحته.
وقد أجيب عن حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي) بأن في ثبوته نظراً، ولذلك قال عنه ابن القيم: إسناده على شرط الصحيح، ولكنه غريب جداً. "حادي الأرواح" (ص 213) .
وقال: " وحديث أبي سعيد الخدري هذا أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم بغرابته، وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجي، وقد اضطرب لفظه " انتهى.
وقَالَ الإمام إِسْحَقُ اِبْنُ رَاهْوَيْهِ َرحمه الله فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا اشْتَهَى الْمُؤْمِنُ الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَشْتَهِي) قال: وَلَكِنْ لَا يَشْتَهِي.
ومعنى كلام إسحاق أَنَّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا اِشْتَهَى الْمُؤْمِن..) إنما هو عَلَى الْفَرْض وَالتَّقْدِير، فَكَلِمَة "إِذَا" وُضِعَتْ مَوْضِع "لَوْ" الْمُفِيدَة لِلْفَرْضِ.
وذكر ابن القيم عدة وجوه يترجح بها أن الجنة ليس فيها ولادة منها:
الأول: حديث ابن رزين.
الثاني: قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) وهن اللاتي طهرن من الحيض والنفاس والأذى.
وعن مجاهد قال: " مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبصاق والمني والولد ".
الثالث: أن الله سبحانه جعل الحمل والولادة مع الحيض والمني، فلو كانت النساء يحبلن في الجنة لم ينقطع عنهن الحيض والإنزال.
الرابع: أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ) رواه مسلم (5085) . ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم، وكانوا أحق به من غيرهم.
الخامس: أنه سبحانه وتعالى قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الطور/21، فأخبر سبحانه أنه يكرمهم بإلحاق ذرياتهم الذين كانوا لهم في الدنيا، ولو كان ينشأ لهم في الجنة ذرية أخرى لذكرهم كما ذكر ذرياتهم الذين كانوا في الدنيا، لأن قرة أعينهم تكون بهم كما هي بذرياتهم من أهل الدنيا.
السادس: أنه إما أن يقال باستمرار التناسل فيها لا إلى غاية، أو إلى غاية ثم تنقطع، وكلاهما مما لا سبيل إلى القول به، لاستلزام الأول اجتماع أشخاص لا تتناهى، واستلزام الثاني انقطاع نوع من لذة أهل الجنة وسرورهم وهو محال، ولا يمكن أن يقال بتناسل يموت معه نسل، ويخلفه نسل، إذ لا موت هناك.
السابع: أن الجنة لا ينمو فيها الإنسان كما ينمو في الدنيا، فلا ولدان أهلها ينمون ويكبرون، ولا الرجال ينمون، بل هؤلاء ولدان صغار لا يتغيرون، وهؤلاء أبناء ثلاث وثلاثين لا يتغيرون، فلو كان في الجنة ولادة لكان المولود ينمو ضرورة حتى يصير رجلا، ومعلوم أن من مات من الأطفال يردون أبناء ثلاث وثلاثين من غير نمو.
ثم قال رحمه الله: " والجنة ليست دار تناسل بل دار بقاء وخلد، لا يموت من فيها فيقوم نسله مقامه " انتهى.
"حادي الأرواح" (1/173) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/367)
إذا كرهت زوجها، فهل يكون زوجا لها في الجنة؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كنت أكره زوجي ولا أصبر على أذيته إياي إلا لله، ثم لأجل مصلحة أطفالي، فهل سوف يكون زوجي في الجنَّة؟ حيث إن مما يهون عليَّ أن الدنيا مهما حصل فهي أيام قليلة وزائلة، وأنا لا أريده زوجاً في الجنَّة مهما حصل فيه من تغيير أو صلاح حاله. أرجو أن لا تقولوا إنه لا بد أن يكون زوجي في الجنَّة! أرجو الرد، وجزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نسأل الله تعالى أن يكتب لك الأجر على صبرك على أذى زوجك، وهو إن دلَّ على شيء فإنما يدل على، أصل طيب، وخلقٍ عالٍ.
ونسأل الله أن يهدي زوجك، ويصلحه لك، ويعينه على إحسان عشرتك، ويأخذ بناصيته إليه.
ثانياً:
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد/ 22 – 24.
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -:
وقوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء، والأهلين، والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحساناً.
" تفسير ابن كثير " (4 / 451) .
وانظري جواب السؤال رقم: (5981) .
ثالثاً:
واعلمي أيتها الأخت الفاضلة أن دخول الناس الجنة لن يكون وهم على حالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وقد ثبت في النصوص الواضحة البيِّنة أنه لا يدخل الجنة أحد وفي صدره غلٌّ، ولا يدخل الجنة أحد إلا ويهذَّب وينقَّى من كل سوء وشرٍّ.
قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحِجر/ 47.
قال الإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله -:
وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد، وغِمْرٍ، وعَداوة كان من بعضهم في الدنيا على بعض، فجعلهم في الجنة إذا أدخلهموها على سُرُر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء خصَّ الله به بعضهم وفضّله من كرامته عليه، تجري من تحتهم أنهار الجنة.
" تفسير الطبري " (12 / 437، 438) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا) .
رواه البخاري (2308) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله -:
(بقنطرة) الذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي الجنة، ويحتمل أن تكون من غيره بين الصراط والجنة.
وقوله (فيتقاصُّون) بتشديد المهملة: يتفاعلون، من القِصاص، والمراد به: تتبع ما بينهم من المظالم، وإسقاط بعضها ببعض.
وقوله (حتى إذا نُقوا) بضم النون، بعدها قاف، من التنقية، ووقع للمستملي هنا " تَقَصُّوا بفتح المثناة والقاف وتشديد المهملة، أي: أكملوا التقاص.
قوله (وهذبوا) أي: خلصوا من الآثام بمقاصصة بعضها ببعض.
" فتح الباري " (5 / 96) .
فاطمئني أختنا الفاضلة، فلن تكون أخلاق زوجك ما كانت عليه في الدنيا، ولن تكون حالكِ أنتِ – كذلك – على ما هي عليه، فكما سينقَّى زوجك ويُهذَّب: فإن الأمر نفسه سيحصل معك، فإذا قضى الله وجمعكما في الجنة، فسوف يكون اجتماعك به في الجنة على غير اجتماع الدنيا، بل اجتماع تشتهيه نفسك، ويريح بالك، ويقر عينك. قال الله تعالى:
(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الزخرف:71، وقال تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) فصلت:31، وقال تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة:17.
فليكن همك يا أمة الله أن تعملي ما يوصلك إلى الجنة، ويرفع فيها منزلتك، وثقي أن الجنة لا تعب فيها ولا نصب، ولا هم فيها ولا حزن!!
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/368)
مهر الحور العين
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أن الحصى والفتات الموجود في المسجد هو عبارة عن مهر للحور العين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لم يرد تعيين مهر الحور العين في حديث صحيح، وكل ما ورد فيه فهو إما ضعيف جدا أو موضوع، ومجموع ما ورد في ذلك عن ستة من الصحابة:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا قال: (كم من حوراء عيناء ما كان مهرها إلا قبضة من حنطة أو تمر)
رواه العقيلي (1/42) وعنه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/253) وابن حبان في "المجروحين" (1/98)
قال ابن الجوزي: " المتهم به أبان. قال أبو حاتم بن حبان: أبان بن المحبر يأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم حتى لا يشك المتبحر في هذه الصناعة أنه كان يعملها، لا تجوز الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار، وهو الذى روى عن نافع هذا الحديث وهو باطل، وقال الدارقطني: أبان متروك " انتهى.
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (رقم/641) : " قال أبِي: هذا حدِيثٌ باطِلٌ، وأبانٌ هذا مجهُولٌ ضعِيفُ الحدِيثِ " انتهى. وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم/571) : موضوع.
2- ويروى عن أبي هريرة أيضا حديث: (مهر الحور قبضات التمر وفلق الخبز)
رواه ابن عدي في "الكامل" (5/25) وابن الجوزي في "الموضوعات" (3/253) وقال: " المتهم به عمر بن صبح. قال ابن حبان: كان يضع الحديث عن الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب " انتهى.
3- ومما اشتهر أيضا بين الناس مما لا يصح، حديث أنس: (كنس المساجد مهور الحور العين)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (برقم/4896) وابن الجوزي في "الموضوعات" (3/253) وقال:
" فيه مجاهيل. وعبد الواحد ليس بثقة. قاله يحيى. وقال البخاري والفلاس والنسائي: متروك الحديث " انتهى. وحكم عليه الشيخ الألباني بالوضع في "السلسلة الضعيفة" (برقم/4147)
4- ويحكى عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
(يا علي! أعط الحور العين مهورهن: إماطة الأذى عن الطريق، وإخراج القمامة من المسجد، فذلك مهر الحور العين)
أخرجه الديلمى في "مسند الفردوس" (رقم/8335) وابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال" (رقم/553) وعزاه في "كنز العمال" (16/229) لابن النجار. وفي إسناد ابن شاهين: المعافى بن مطهر، ومورع بن جبير لم أقف لهما على ترجمة، إلا شيئا يسيرا عند ابن ماكولا في "الإكمال" (7/263)
5- وجاء أيضا عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قبضات التمر للمساكين مهور الحين العين)
أخرجه الديلمى في "الفردوس" (برقم/4645) وابن الجوزي في "الموضوعات" (3/253) وعزاه السيوطي في "جامع الأحاديث" (برقم/15093) إلى الدارقطني في "الأفراد"
قال ابن الجوزي: " تفرد به طلحة عن الوضين. قال السعدي: الوضين واهى الحديث. قال النسائي: وطلحة متروك. وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه " انتهى.
وحكم عليه الشيخ الألباني بالوضع في "السلسلة الضعيفة" (رقم/6197)
6- ويروى عن أبي قرصافة واسمه " جندرة " حديث في مهر الحور العين: (إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين)
أخرجه الطبرانى (3/19) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5 /110) وأبو بكر الشافعى فى الفوائد (2/23/2) وابن منده فى "المعرفة" (2/259 برقم/6340) وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (4/144) لأبي بكر الشافعي في رباعياته. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/113) : " في إسناده مجاهيل " انتهى. وقال الشيخ الألباني "السلسلة الضعيفة" (رقم1675) : " وهذا إسناد مظلم، مَن دون أبي قرصافة ليس لهم ذكر في شيء من كتب الرجال، حاشا محمد بن الحسن بن قتيبة، فإنه حافظ ثقة ثبت " انتهى.
والحاصل أنه لم يصح حديث في تعيين مهر الحور العين، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله في "الموضوعات" (3/254) :
" هذا حديث لا يصح من جميع جهاته " انتهى.
ثانيا:
مهر الحور العين الحقيقي هو كل عمل صالح يقرب إلى الله تعالى، ويكون سببا في دخول الجنة.
يقول القرطبي رحمه الله في "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/556) :
" باب ما جاء أن الأعمال الصالحة مهور الحور العين.
أورد فيه بعض الأحاديث السابقة ثم قال:
وقال محمد بن النعمان المقري:
كنت قاعدا عند الجلا المقرى بمكة في المسجد الحرام، إذ مر بنا شيخ طويل نحيل الجسم عليه أطمار خلقة، فقام إليه الجلا ووقف معه ساعة ثم انصرف إلينا فقال: هل تعرفون من هذا الشيخ؟ فقلنا: لا. فقال: ابتاع من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلما أكملها رآها في المنام في حليها وحللها فقال: من أنت؟ فقالت: أنا الحور التي ابتعتني من الله تعالى بأربعة آلاف ختمة هذا الثمن فما نحلتي أنا منك؟ قال: ألف ختمة قال الجلا: فهو يعمل فيها بعد.
وروى عن سحنون أنه قال: كان بمصر رجل يقال له سعيد، وكانت له أم من المتعبدات، وكانت إذا قام من الليل يصلي تقوم والدته خلفه، فإذا غلب عليه النوم ونعس تناديه والدته:
" يا سعيد! إنه لا ينام من يخاف النار، ويخطب الحور الحسان " فيقوم مرعوبا.
ويروى عن ثابت أنه قال: كان أبي من القوامين لله في سواد الليل قال: رأيت ذات ليلة في منامي امرأة لا تشبه النساء فقلت لها: من أنت؟ فقالت حوراء أمة الله فقلت لها: زوجيني نفسك. فقالت: اخطبني من عند ربي وأمهرني. فقلت: وما مهرك؟ فقالت: طول التهجد. وأنشدوا:
يا خاطب الحور في خدرها وطالبا ذلك على قدرها
انهض بجد لا تكن وانيا وجاهد النفس على صبرها
وقم إذا الليل بدا وجهه ... وصم نهارا فهو من مهرها
وقال مالك بن دينار: كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة، فنمت ذات ليلة، فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال، وبيدها رقعة فقالت: أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات:
لهاك النوم عن طلب الأماني وعن تلك الأوانس في الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيها وتلهو في الخيام مع الحسان
تنبه من منامك إن خيرا ... من النوم التهجد بالقران " انتهى باختصار.
وبنحوه في كلام ابن رجب في رسالته "اختيار الأولى" (ص/12) وفي "لطائف المعارف" (ص/159)
وانظر سؤال رقم (10053) عن الحور العين.
وأما تنظيف المساجد فهو أمر مندوب إليه، وجاءت فيه أدلة كثيرة في الحث عليه وبيان فضله، وسبق في موقعنا ذكر شيء منها في جواب السؤال رقم: (20160)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/369)
هل القيامة والجنة والنار حقيقة أم رموز
[السُّؤَالُ]
ـ[هل تظن بأن الإيمان باليوم الآخر وبالجنة والنار يجب أن يؤخذ حرفيا أم رمزيا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من أركان الإيمان الإيمان بالبعث بعد الموت، والجنة والنار حقٌ يجب الإيمان بهما، فمن آمن بالله وعمل صالحاً فمآله إلى الجنة حقيقة، ومن كفر بالله فهو من أهل النار حقيقة، وكل منهما خالد مخلّد.
الشيخ عبد الكريم الخضير.
وقد أنكر أعداء الرسل من المشركين والفلاسفة وغيرهم حقيقة البعث بعد الموت والحساب والجنة والنار وجعلوا هذه الأشياء رموزاً يفهمون منها غير ما يفهمه المؤمنون منها وهذا تكذيب لله تعالى وأنبيائه ورسله.
فالجنة والنار والصراط والميزان والحوض والعرش والكرسي وغيرها هي أمور حقيقة ونؤمن بها على الحقيقة ولا نتلاعب بدلالة الألفاظ عليها بل نؤمن بها صريحة كما وردت.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/370)
هل يرى المؤمنون ربهم في الجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ثبت أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فإن نعم الله على عباده لا تحصى، وقد خص سبحانه المؤمنين بمزيد من الإنعام في الدنيا بأن مَنَّ عليهم بالإسلام، واصطفاهم بالقرآن، وسيخصهم في الجنة بأعظم نعمة أنعم عليهم بها؛ ألا وهي تشريفهم وإكرامهم بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، كما قال تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) القيامة/22-23
أي أن وجوه المؤمنين تكون حسنة بهية مشرقة مسرورة بسب نظرها إلى وجه ربها كما قال الحسن رحمه الله: " نظرت إلى ربها فنضرت بنوره ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " (وجوه يومئذ ناضرة) قال: من النعيم (إلى ربها ناظرة) قال تنظر إلى وجه ربها نظراً. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث.
وقال جل شأنه: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) ق/35
فالمزيد هنا هو:" النظر إلى وجه الله عز وجل. " كما فسره بذلك علي وأنس بن مالك رضي الله عنهما
وقال سبحانه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس/26
فالحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه (266) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ قَالَ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وهي الزيادة ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
فإذا علمت أن أهل الجنة لا يعطون شيئاً فيها أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم جل وعلا تبين لك مدى الحرمان، وعظيم الخسران، الذي ينتظر المجرمين الذين توعدهم الله بقوله: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين/15 نسأل الله السلامة والعافية.
ومن جميل ما يروى عن الشافعي ما ذكره عنه الربيع بن سليمان ـ وهو أحد تلاميذه ـ: قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) ؟ فقال الشافعي: " لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليلٌ على أن أولياءه يرونه في الرضى "
فهذه بعض الأدلة من القرآن على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة.
وأما أدلة السنة فهي كثيرة جداً، فمنها:
1- ما رواه البخاري (6088) ومسلم (267) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله: " هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: " فإنكم ترونه كذلك ... الحديث ".
وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ (لا تَضَامُّون أَوْ لا تُضَارُّونَ) عَلَى الشَّكّ وَمَعْنَاهُ: لَا يَشْتَبِه عَلَيْكُمْ وَتَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُعَارِض بَعْضكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَته. ولا يلحقكم في رؤيته مشقة أو تعب. وَاَللَّه أَعْلَم.ا. هـ مختصرا من شرح مسلم.
2- وفي الصحيحين أيضا (خ/ 6883. م / 1002) من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته ".
والتشبيه الذي في الأحاديث هو تشبيه للرؤية بالرؤية، أي أننا كما نرى الشمس في اليوم الصحو في غاية الوضوح، ولا يحجب أحد رؤيتها عن أحد رغم كثرة الناظرين إليها، وكما نرى القمر مكتملا ليلة البدر وهو في غاية الوضوح، لا يؤثر كثرة الناظرين إليه على وضوح رؤيته فكذلك يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة بهذا الوضوح والجلاء، وليس المقصود من الأحاديث تشبيه المرئي بالمرئي ـ تالى الله ـ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
3- وروى البخاري (4500) ومسلم (6890) عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ".
وقد روى أحاديث الرؤية نحوٌ من ثلاثين صحابيا، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها. فمن زعم بعد هذا أن الله تعالى لا يُرى في الآخرة فقد كذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، وعرَّض نفسه للوعيد الشديد الوارد في قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين/ 15 نسأل الله تعالى العفو والعافية، ونسأله أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.. آمين.
يراجع: (شرح العقيدة الطحاوية (1 / 209 وما بعدها) و (أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص 141) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/371)
منازل ودرجات الجنة والنار وأعمالهما
[السُّؤَالُ]
ـ[كم جنة ونار يوجد؟ وكيف تختلف مراتبها؟ وماذا يجب أن تفعل لتكون في كل مستوى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
من حيث العدد هي نارٌ واحدة وجنة واحدة، لكن كل منهما درجات ومنازل. وقد يأتي في السُنَّة ذكر الجنة بالجمع وليس المراد تعدد جنس الجنة وإنما الإشارة إلى عظمتها ودرجاتها وأنواعها أو إلى عظمة أجر من يدخلها كما في حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ ـ وفي رواية إنها جنان كثيرة ـ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى) رواه البخاري (2809)
ثانياً:
تختلف دركات النار باختلاف كفر أهلها في الدنيا، والمنافقون في الدرك الأسفل منها كما قال ربنا تبارك وتعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا) النساء/145 وأخف دركاتها - والعياذ بالله - ما أشار إليه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ـ وفي رواية توضع في أخمص قدميه جمرتان ـ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ ـ إي القِدْر ـ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا) رواه البخاري (6562) ومسلم (212) ، وجاء تعيينه في إحدى روايات مسلم بأنه أبو طالب عم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خفف الله تعالى عليه لما كان له من دور في حماية الإسلام في بداياته. ثالثاً:
لا يُعرف تحديداً عدد درجات الجنة، وقد قيل إنها بعدد آيات القرآن الكريم أخذا من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها ". رواه أبو داود (1464) والترمذي (2914) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
قال المنذري في الترغيب: قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة في الآخرة , فيقال للقارئ ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن , فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة , ومن قرأ جزءا منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك , فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. " الترغيب والترهيب " (2 / 228) .
لكن في كلامه هذا نظر؛ لأن الحديث في بيان " منازل " الحفظة وليس في درجاتهم، وتختلف الدرجات باختلاف العاملين في الدنيا، كما أن هناك أعمال أخرى يتفاضل الناس بها كالصِّدِّيقيَّة والجهاد وغيرها فعليه لا يلزم أن يكون صاحب القرآن الحافظ لأكمله في أعلى درجات الجنة على الإطلاق.
وأعلى درجات الجنة هي الفردوس كما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ". رواه البخاري (2637) ومسلم (2831) .
ومعنى " أوسط الجنة " أي: أفضلها وأعدلها، ومثله قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} .
وقد جاءت السنَّة ببيان بعض الأعمال وبيان درجات أهلها، ومنها:
1. الإيمان بالله والتصديق بالمرسلين
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر أي النجم في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". رواه البخاري (3083) ومسلم (2831) .
2. الجهاد في سبيل الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ". رواه البخاري (2637) .
3. وقد يحصِّلها الصادق في سؤاله للشهادة بصدق
عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ". رواه البخاري (1909) .
4. الإنفاق في سبيل الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون ... ) رواه البخاري (807) ومسلم (595) .
5. إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط. رواه مسلم (251) .
6. حافظ القرآن
لحديث عبد الله بن عمرو الذي سبق ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها ". رواه أبو داود (1464) والترمذي (2914) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
فعلى من سمت همته أن يتطلع للأعلى، ويعمل لينال رضي الله، ويدخل جنة الفردوس، وها هي الأعمال قد وعد الله أهلَها بتلك الدرجات، فكم بين زهد الناس عنها وتشميرهم لها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/372)
امتحان أهل الفترة في الآخرة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ي عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أخرج الإمام أحمد بن حنبل في " مسنده " والبيهقي في كتاب " الاعتقاد " ـ وصححه ـ عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرِم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يقذفوني بالبعر، وأما الهرِم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعونه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها يسحب إليها) . استفساري: هل يوجد يوم القيامة امتحان؟ وأنا الذي أعرفه أن يوم القيامة يوم الحساب فقط، دون امتحان وابتلاء؟ . والملاحظة الأخرى: امتحانهم يوم القيامة أن يدخلوا على النار هذا امتحان صعب جدًّا لا يخاطب العقل؛ لأن العقل يدرك أن النار فيها خطورة، وطبيعي الإنسان يخاف أن يدخلها بعكس امتحان في الدنيا الالتزام في تعاليم الدين الحنيفة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
اختلف العلماء رحمهم الله في أهل الفترة – وهم من عاش في زمن لم يأتهم فيه رسول، أو كانوا في مكان لم تصلهم فيه الدعوة – ومن في حكمهم – كأطفال المشركين - على أقوال، وأرجح هذه الأقوال: أنهم يُمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع أمر الله نجا، ومن عصاه هلك، وقد جاءت في السنة النبوية أحاديث كثيرة يترجح هذا القول بها، ومنها ما ذكره الأخ السائل في سؤاله، وقد استوفاها الإمام ابن كثير في تفسيره، عند قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء/من الآية 15، فلتنظر هناك لمن أراد الاستزادة والاستفادة، ومجموع هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، ويشهد أن لهذا القول ما يؤيده من السنَّة النبوية، وهذا هو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة.
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -:
أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوَى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط: أفادت الحجة عند الناظر فيها.
" تفسير ابن كثير " (5 / 58) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في سياق بيان الأقوال في المسألة -:
سابعها: أنهم يُمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها: كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أَبَى: عُذِّب، أخرجه البزار من حديث أنس، وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في " كتاب الاعتقاد " أنه المذهب الصحيح.
" فتح الباري " (3 / 246) .
ثانياً:
وقد ردَّ هذا القول بعض أهل العلم – كالإمام ابن عبد البر – وقالوا: إن الآخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، وليس ثمة أوامر ونواهي في الآخرة، وأُجيب عن هذا الاعتراض بردود مجملة، ومفصَّلة، وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن كثير – وغيرهما – ردوداً مجملة، وردَّ الإمام ابن القيم ردّاً مفصلاً أوصل وجوه الرد إلى تسعة عشر وجهاً.
أ. أما الردود المجملة: فملخصها: وجود امتحان في القبر، وفي عرصات القيامة، وأما كون الآخرة ليست دار تكليف فنعم، لكن بعد استقرار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار، وأما عَرَصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ، فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ ، وقال تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) الْآيَةَ، وقد ثبت في الصحاح من غير وجه حديث تجلي الله لعباده في الموقف إذا قيل: (لِيَتَّبِعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَيَتَّبِعُ الْمُشْرِكُونَ آلِهَتَهُمْ وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ الرَّبُّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيُنْكِرُونَهُ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَتَبْقَى ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ كَقُرُونِ الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، وذكر قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) الْآيَةَ.
" مجموع الفتاوى " (4 / 303، 304) .
2. وقال الإمام ابن كثير – رحمه الله -
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري بعض ما تقدم من أحاديث الامتحان، ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قوية، ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرونها؛ لأن الآخرة دار جزاء، وليست دار عمل، ولا ابتلاء، فكيف يكلَّفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟! .
وأجاب عن ذلك ببيان قة الأحاديث الواردة في الباب، كما نقلناه عنه سابقا، ثم قال: وأما قوله: " إن الآخرة دار جزاء ": فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة مِن امتحان الأطفال، وقد قال الله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ن/42، وقد ثبتت السنَّة في الصحاح وغيرها: أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأما المنافق: فلا يستطيع ذلك، ويعود ظهره طبقاً واحداً، كلما أراد السجود: خَرَّ لقفاه.
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها: أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول الله تعالى: (يا ابن آدم، ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة.
وأما قوله: " وكيف يكلفهم دخول النار وليس ذلك في وسعهم؟ ": فليس هذا بمانع من صحة الحديث؛ فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف، وأدق من الشعرة، ويمرُّ المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم، وأعظم.
وأيضاً: فقد ثبتت السنَّة بأن الدجال يكون معه جنَّة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه برداً وسلاماً، فهذا نظير ذلك.
وأيضاً: فإن الله تعالى قد أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً، حتى قتلوا ـ فيما قيل ـ في غداة واحدة: سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه، وأخاه، وهم في عمايةِ غمامةٍ أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضاً شاق على النفوس جدّاً، لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم. " تفسير ابن كثير " (5 / 58) .
ب. وقد فصل ابن القيم رحمه الله وجوه الجواب السابقة، كما أشرنا إليه، وزاد فيها وجوها أخرى، منها:
* أن موجب هذه الأحاديث هو الموافق للقرآن وقواعد الشرع؛ فهي تفصيل لمَا أخبر به القرآن أنه لا يعذَّب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تُقَم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بُدَّ أن يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أن تُقام فيه الحجة: يوم يقوم الأشهاد، وتُسمع الدعاوى، وتُقام البينات، ويَختصم الناس بين يدي الرب، وينطق كلُّ أحدٍ بحجته ومعذرته، فلا تنفع الظالمين معذرتهم، وتنفع غيرهم.
* أنه قد صحَّ بذلك القول بها عن جماعة من الصحابة، ولم يصح عنهم إلا هذا القول، والقول بأنهم خدَم أهل الجنة: صح عن سلمان، وفيه حديث مرفوع، وأحاديث الامتحان: أكثر، وأصح، وأشهر.
* أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ وإنما هو امتحان واختبار لهم، هل يطيعونه أو يعصونه، فلو أطاعوه ودخلوها: لم تضرهم، وكانت عليهم برداً وسلاماً، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها: استوجبوا عقوبةَ مخالفةِ أمرِه، والملوك قد تمتحن مَن يُظهر طاعتهم هل هو منطوٍ عليها بباطنه، فيأمرونه بأمرٍ شاقٍّ عليه في الظاهر، هل يوطِّن نفسه عليه أم لا، فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله: أعفوه منه، وإن امتنع وعصى: ألزموه به، أو عاقبوه بما هو أشد منه.
وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال والتسليم، وتقديم محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك: رَفع عنه الأمر بالذبح.
وأما أن ذلك "ليس ذلك في وسع المخلوقين " فقد أجاب عنه ابن القيم من وجهين:
أحدهما: أنه في وسعهم، وإن كان يشق عليهم، وهؤلاء عبَّاد النار، يتهافتون فيها، ويُلقون أنفسهم فيها؛ طاعةً للشيطان، ولم يقولوا " ليس في وسعنا "، مع تألمهم بها غاية الألم، فعبَاد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار: كيف لا يكون في وسعهم، وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم؟ .
الثاني: أنهم لو وطَّنوا أنفسهم على اتباع طاعته ومرضاته: لكانت عين نعيمهم، ولم تضرَّهم شيئاً.
قال رحمه الله:
" فالسنَّة، وأقوال الصحابة، وموجب قواعد الشرع وأصوله: لا تُردُّ بمثل ذلك، والله أعلم "
انظر: " أحكام أهل الذمة " (2 / 1148 – 1158) .
وهذا كلام متين، فيه بيان المسألة وتجليتها، ونسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يتوفانا على الإيمان.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/373)
هل النساء في الجنة يغطين وجوههن؟ وهل يرين الرسول صلى الله عليه وسلم ويسلمن عليه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل النساء في الجنة يغطين وجوههن؟ وهل يرين الرسول عليه الصلاة والسلام ويسلمن عليه؟]ـ
[الْجَوَابُ]
أولاً:
لا يظهر أن المرأة في الجنة تغطي وجهها؛ لأن الله تعالى يكسبها جمالاً فائقاً، ويكون هذا الجمال جزاءَ ما كانت عليه من طاعة في الدنيا، ويكون ذلك من أجل زوجها، حتى يهنأ ويتنعم، بل إن جمالها ليزداد المرة بعد المرة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدْ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا) .
رواه مسلم (2833) .
وليس في الجنة نظر سوء، ولا مرض قلب حتى تلزم المرأة بتغطية وجهها، ولا هي محل للعمل والأمر والنهي، كما قال علي رضي الله عنه: " فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ " رواه البيهقي في شعب الإيمان (10614) وعلقه البخاري في باب الأمل وطوله، من كتاب الرقاق.
ولعلَّ الأظهر أن تكون المرأة في الجنة في مملكتها تتنعم بكافة أنواع النعيم هناك، دون أن تكون مختلطة بالرجال؛ لأن الله تعالى وصف الحور العين بأنهن قاصرات الطرف أي: يقصرن نظرهن وحبهن على أزواجهن، ووصفهن بأنهن حور مقصورات في الخيام، وليس معنى هذا أنهنَّ لا يخرجن من مملكتهن، بل لهن كل ما يشتهينه مما أعده الله لأهل الجنة، ومثله يقال في نساء أهل الجنة من المؤمنات.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
(حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن، وأعددن أنفسهن لأزواجهن، ولا ينفي ذلك خروجهن في البساتين، ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك، ونحوهن، المخدرات، الخفرات.
" تفسير السعدي " (ص 831) والخفرات: أي: شديدات الحياء.
وقال أيضا – رحمه الله -:
وعموم ذلك يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف - وهو البكارة - ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن (عُرُباً أَتْرَاباً) ملازم لهن في كل حال.
والعروب هي: المرأة المتحببة إلى بعلها.
" تفسير السعدي " (ص 833) .
ثانياً:
الذي يظهر أن نساء الجنة لا يُمنعن من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي الأمة، وهن بمثابة بناته، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى على لسان لوط عليه السلام لقومه: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) هود/78 -:
النبي للأمة بمنزلة الوالد للرجال والنساء ... قال مجاهد: لم يكنَّ بناته، ولكن كنَّ من أمته، وكل نبي أبو أمته، وكذا روي عن قتادة، وغير واحد ... وقال سعيد بن جبير: يعني نساءهم هنَّ بناته، وهو أب لهم، ويقال في بعض القراءات: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ".
" تفسير ابن كثير " (4 / 337) .
وقد جاءت البشرى في السنَّة لكل من يراه في المنام أنه سيراه في الجنة، وكذا جاءت البشرى لمن خشي أن لا يراه في الجنة.
أ. قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) النساء/69.
ب. عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي) .
رواه البخاري (6592) وقال: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ، ومسلم (2266) .
ج. وعن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) .
قال ابن كثير – بعد أن ذكره مسنداً عند ابن مردويه في " التفسير " -:
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه " صفة الجنة "، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به، ثم قال: لا أرى بإسناده بأساً.
" تفسير ابن كثير " (2 / 354) .
والحديث حسن، وله طرق، وشواهد كثيرة، تٌنظر في " تفسير ابن كثير "، ويكفي أن الحافظ المقدسي حسَّنه.
د. ويستأنس بما رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " (8 / 415) عن أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهمَّ اجعلهم رفقائي في الجنة، فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
تنبيه:
ثبت في صحيح البخاري (2796) من حديث أنس بن مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (.. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)
والنصيف هو خمار الرأس، كما فسره به الرواي في موضع آخر (6568) .
لكن يظهر أن هذا النصيف من جملة زينتها التي تتجمل بها لزوجها، كما يشعر به سياق الحديث الذي يذكر حسن نساء الجنة وجمالهن. ويؤيده رواية الطبراني في الأوسط (3/281) : " ولتاجها على رأسها خير من الدنيا وما فيها "
قال الهيثمي في المجمع (10/774) " إسناده جيد "، وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
وانظر السؤال رقم (96598) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/374)
إذا اشتهى أن يصلي الصلوات الخمس في الجنة!!
[السُّؤَالُ]
ـ[هل إن شاء الله إذا دخلت الجنة برحمة الله يمكن أن أطلب أن أصلي الصلوات الخمس في الجنة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
لا خلاف بين العلماء في أن الجنة ليست دار تكليف، وإنما هي دار جزاء، فلا تكليف فيها بالصلاة قطعا.
ثانيا:
إذا اشتهى العبد أن يصلي الصلوات الخمس أو غيرها في الجنة، هل يكون له ذلك؟ جوابه: أن هذا من الغيب الذي يتوقف إثباته على الدليل، ولم نقف على ما يفيد ذلك، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن العبادات ترفع في الجنة ولا يبقى إلا عبادة التسبيح والذكر.
قال رحمه الله: " فصل في ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة: روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاء ورشحا كرشح المسك يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس) وفي رواية: (التسبيح والتكبير كما تلهمون) بالتاء، أي تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس كما تلهمون أنتم النفس " انتهى من "حادي الأرواح" ص 285
والمهم أن يحرص العبد على تحصيل الأسباب التي تقربه إلى الله تعالى، وتدخله جنته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/375)
أهل الجنة سالمون من التشوهات والعيوب الخلقية
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يدخل المؤمن الجنة بعيوبه الخلقية مثل التشوهات الخلقية والسمنة، أم إنه يكون كاملا جسديا؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي دلت عليه النصوص أن أهل الجنة يكونون على أجمل هيئة، وأحسن خلقة، جردا مردا، على صورة أبيهم آدم عليه السلام، كما روى الترمذي (2468) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلاثِينَ أَوْ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً) والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي.
والأجرد: الذي لا شعر له على جسده.
والأمرد: الذي لا لحية له.
وروى الترمذي أيضا (2462) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ لا يَفْنَى شَبَابُهُمْ وَلا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
وروى البخاري (3006) ومسلم (5063) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلا يَمْتَخِطُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ، لا اخْتِلافَ بَيْنَهُمْ وَلا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
والألوة: العود.
فهذا وغيره يدل على أن أهل الجنة تتبدل هيآتهم لتكون على أحسن الهيآت، فليس فيهم تشوهات ولا غيرها مما يعيب.
وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/376)
هل اللغة العربية هي لغة أهل الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[نريد أن نعرف ما هي لغة أهل الجنة وهل هي العربية؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يرد في القرآن أو في السنة الصحيحة – فيما نعلم - بيان اللغة التي يتكلم بها أهل الجنة، والوارد في ذلك حديث لا يصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وبعض الآثار.
فقد روى الطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحبوا العرب لثلاث لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي) .
وهذا الحديث حكم عليه ابن الجوزي بالوضع، وقال الذهبي: أظن الحديث موضوعا، وقال الألباني في السلسة الضعيفة (رقم 160) : موضوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وكذلك روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف بمطين حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي حدثنا يحيى بن زيد الأشعري حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب العرب لثلاث: لأنه عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي) قال الحافظ السلفي: هذا حديث حسن. فما أدري أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين، أو حسن متنه على الاصطلاح العام، وأبو الفرج بن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات، وقال: قال الثعلبي: لا أصل له، وقال ابن حبان: يحيى بن زيد يروي المقلوبات عن الأثبات، فبطل الاحتجاج به، والله أعلم " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/158) .
وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي) .
قال الألباني في السلسلة الضعيفة رقم 161: موضوع.
والحاصل أنه لم يرد دليل صحيح يبين اللغة التي يتكلم بها أهل الجنة، ولهذا يتعين السكوت عن هذه المسألة وعدم الخوض فيها وتفويض علمها إلى الله تعالى؛ والانشغال بما يترتب عليه عمل ينفع في تلك الدار.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بماذا يخاطب الناس يوم البعث؟ وهل يخاطبهم الله تعالى بلسان العرب؟ وهل صح أن لسان أهل النار الفارسية وأن لسان أهل الجنة العربية؟
فأجاب: " الحمد لله رب العالمين لا يُعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ، ولا بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعلا؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا بشيء من ذلك ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، ولم يصح أن الفارسية لغة الجهنميين، ولا أن العربية لغة أهل النعيم الأبدي، ولا نعلم نزاعا في ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم، بل كلهم يكفون عن ذلك لأن الكلام في مثل هذا من فضول القول ... ولكن حدث في ذلك خلاف بين المتأخرين، فقال ناس: يتخاطبون بالعربية، وقال آخرون: إلا أهل النار فإنهم يجيبون بالفارسية، وهى لغتهم في النار. وقال آخرون: يتخاطبون بالسريانية لأنها لغة آدم وعنها تفرعت اللغات. وقال آخرون: إلا أهل الجنة فإنهم يتكلمون بالعربية. وكل هذه الأقوال لا حجة لأربابها لا من طريق عقلٍ ولا نقل بل هي دعاوى عارية عن الأدلة والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/299) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/377)
مصير الأطفال الذين ماتوا صغارا في الجنة أم في النار
[السُّؤَالُ]
ـ[هل جميع الأطفال الذين ماتوا قبل البلوغ سيدخلون الجنة أم الأطفال الذين آباؤهم مسلمون فقط؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الكلام يكون إن شاء الله في مقامين:
الأول: مصير أطفال المسلمين.
والثاني: مصير أطفال الكفار.
= أما الأول: وهو مصير أطفال المسلمين:
فقد قال ابن كثير رحمه الله: فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة. وهذا هو المشهور بين الناس (أي عامة العلماء) وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل أ. هـ " تفسير القرآن العظيم " (3 / 33) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله: من يشك أن أولاد المسلمين في الجنة؟!
وقال أيضا: إنه لا اختلاف فيهم. أ. هـ " حاشية ابن القيم على سنن أبي داود " (7/ 83) .
وقال الإمام النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة؛ لأنه ليس مكلفا. أ. هـ " شرح مسلم " (16 / 207) .
وقال القرطبي: إن قول أنهم في الجنة هو قول الأكثر، وقال: وقد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم. " التذكرة " (2/328) .
= وأما الثاني: وهو مصير أطفال الكفار:
فقد اختلف العلماء فيه إلى أقوال:
1. أنَّهم في الجنَّة - وبعضهم يقول: إنَّهم على الأعراف، ومردُّ هذا القول أنَّهم في الجنَّة لأن هذا هو حال أهل الأعراف -. وهو قول الأكثر من أهل العلم كما نقله عنهم ابن عبد البر في " التمهيد " (18/96) .
ودليلهم:
أ. حديث سمرة رضي الله عنه: أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين. رواه البخاري (6640) .
ب. عن حسناء بنت معاوية من بني صريم قالت حدثني عمي قال قلت يا رسول الله من في الجنة قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة. رواه الإمام أحمد (5/409) . ضعفه الألباني في " ضعيف الجامع " (5997) .
2. أنَّهم مع آبائهم في النار. وقد نسب القاضي أبو يعلى هذا القول لأحمد! وغلَّطه شيخ الإسلام جدّاً. انظر " حاشية ابن القيم على سنن أبي داود " (7/ 87) .
ودليلهم:
أ. عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا إن أُمّنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وأنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال الوائدة والمؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم.
والحديث حسنه الحافظ ابن كثير في " التفسير " (3/ 33) ، ومن قبله ابن عبد البر في " التمهيد " (18/120) .
ب. ولهم أحاديث أخرى، لكنها ضعيفة.
3. التوقف فيهم. وهو قول حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه.
دليلهم:
أ. عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين.
رواه البخاري (1383) ومسلم (2660) .
ب. ومثله من حديث أبي هريرة.
رواه البخاري (1384) ومسلم (2659) .
4. ومنهم من قال: إنَّهم خدم أهل الجنَّة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا أصل لهذا القول. " مجموع الفتاوى " (4/279) .
قلت: وقد ورد ذلك في حديث عند الطبراني والبزار، لكن ضعفه الأئمة ومنهم الحافظ ابن حجر في " الفتح " (3/246) .
5. أنَّهم يُمتحنون في الآخرة، فمن أطاع الله دخل الجنة، ومن عصى دخل النار. وهو قول معظم أهل السنة والجماعة كما نقله عنهم أبو الحسن الأشعري، وهو قول البيهقي، وطائفة من المحققين، وهو الذي مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أنه مقتضى نصوص الإمام أحمد، وهو الذي رجحه الحافظ ابن كثير، وقال: وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. " التفسير " (3/31) .
دليلهم:
أ. عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، والمعتوه، ومن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعُنُق من النار: أُبْرزْ، ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، اُدخلوا هذه (أي النار) ، قال: فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفرّ، قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعاً، قال: فيقول الله تعالى أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار".
رواه أبو يعلى (4224) ، وله شواهد كثيرة ذكرها الحافظ ابن كثير في " التفسير (3 /29-31) .
وقال ابن القيم رحمه الله: وهذا أعدل الأقوال وبه يجتمع شمل الأدلة وتتفق الأحاديث في هذا الباب.
وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة كما في حديث سمرة، وبعضهم في النار كما دل عليه حديث عائشة، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم يدل على هذا؛ فإنه قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين إذْ خلقهم"، ومعلوم أن الله لا يعذبهم بعلمه فيهم ما لم يقع معلومه، فهو إنما يعذب من يستحق العذاب على معلومه وهو متعلق علمه السابق فيه لا على علمه المجدد وهذا العلم يظهر معلومه في الدار الآخرة.
وفي قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين": إشارة إلى أنه سبحانه كان يعلم ما كانوا عاملين لو عاشوا، وأن من يطيعه وقت الامتحان كان ممن يطيعه لو عاش في الدنيا، ومن يعصيه حينئذ كان ممن يعصيه لو عاش في الدنيا فهو دليل على تعلق علمه بما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
.. والله أعلم. أ. هـ " حاشية ابن القيم على سنن أبي داود " (7/87) .
= وما جاء في بعض الأحاديث السابقة أنهم في الجنة أو النار لا يشكل على ما رجحناه، قال ابن كثير رحمه الله: أحاديث الامتحان أخص منه فمن علم الله منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة ومن علم منه أنه لا يجيب فأمره إلى الله تعالى ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان ونقله الأشعري عن أهل السنة. أ. هـ " التفسير " (3 / 33) .
= وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم " الله أعلم بما كانوا عاملين ": لا يدل على التوقف فيهم.
قال ابن القيم رحمه الله: وفيما استدلت به هذه الطائفة نظر والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُجِب فيهم بالوقف وإنما وكل علم ما كانوا يعملونه لو عاشوا إلى الله وهذا جواب عن سؤالهم كيف يكونون مع آبائهم بغير عمل وهو طرف من الحديث …. والنبي صلى الله عليه وسلم وَكَل العلم بعملهم إلى الله، ولم يقل الله أعلم حيث يستقرون أو أين يكونون، فالدليل غير مطابق لمذهب هذه الطائفة. أ. هـ " حاشية ابن القيم على سنن أبي داود " (7/ 85) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/378)
لماذا النساء في النار أكثر من الرجال
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا عدد النساء أكبر من عدد الرجال في جهنم؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء هن أكثر أهل النار فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء) َ. رواه البخاري 3241 ومسلم 2737.
أما سبب ذلك فقد سُئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبَيَّن الجواب:
فعَنْ عَبْد ِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (َأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (بِكُفْرِهِنَّ) قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ، قَالَ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) رواه البخاري 1052.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِير مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ) قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ) قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: (فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ) قُلْن َ: بَلَى، قَالَ: (فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا) رواه البخاري 304.
وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ يَوْمَ الْعِيدِ فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ فَقَالَ: (تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ) فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ. رواه مسلم 885.
وينبغي على الأخوات المؤمنات اللاتي يعلمن بهذا الحديث أن يكون تصرفهن كتصرف هؤلاء الصحابيات اللاتي لما علمن بهذا عملن من الخير ما يكون بإذن الله سبباً في إبعادهن من أن يدخلن ضمن هؤلاء الأكثر.
فنصيحتنا للأخوات الحرص على التمسك بشعائر الإسلام وفرائضه لاسيما الصلاة والبعد عما حرمه الله سبحانه وتعالى وبخاصة الشرك بصوره المتعددة التي تنتشر في أوساط النساء مثل طلب الحاجات من غير الله وإتيان السحرة والعرافين ونحو ذلك.
نسأل الله أن يبعدنا وجميع إخواننا وأخواتنا عن النار وما قرّب إليها من قول أو عمل.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/379)
كيف يعذب إبليس بالنار وهو مخلوق منها؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل إبليس سوف يدخل النار؟ وكيف يدخل النار وهو مخلوق من نار؟ وهل هناك شيء يؤكد كيف سيعذب إبليس؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أمَّا أن إبليس سيدخل جهنم خالداً فيها: فهذا مما لا شك فيه، وقد ذكر الله تعالى مصيره في الآخرة في عدة آيات، ومنها:
1. قال تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ... قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) الأعراف/12– 18.
قال الطبري:
وهذا قسم من الله جلّ ثناؤه، أقسم أن من اتبع من بني آدم عدوَّ الله إبليس وأطاعه: أن يملأ جهنم من جميعهم يعني: من كفرة بني آدم أتباع إبليس، ومن إبليس وذرّيته " انتهى باختصار وتصرف يسير.
"تفسير الطبري" (8/139) .
2. وقال تعالى: (قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ... إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) الحجر/32– 44.
قال الشنقيطي رحمه الله:
وكل آية فيها ذِكر إضلال إبليس لبني آدم بيَّن فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار كما قال هنا: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) .
"أضواء البيان" (3/131) .
3. وقال تعالى: (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ص/84، 85.
4. وقال تعالى حاكياً قول الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) الجن/14، 15.
ثانياً:
أما كيف يعذَّب إبليس في النار وقد خُلق من النار: فالجواب عنه:
أنه لا يلزم من كون الجن خلقوا من نار أن يكونوا الآن ناراً، كما أن الإنس خلقوا من تراب وليسوا الآن تراباً.
قال أبو الوفاء بن عقيل:
" أضاف الشياطين والجان إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار، والمراد به في حق الإنسان أن أصله الطين، وليس الآدمي طيناً حقيقة، لكنه كان طيناً، كذلك الجان كان ناراً في الأصل " انتهى.
"لقط المرجان في أحكام الجان" (ص 33) بواسطة "عالم الجن والشياطين" (ص 58) .
وإذا كان الإنس خلقوا من تراب وقليل منه يؤذيهم، وإن دفنوا تحته ماتوا، وإن ضربوا به (الفخار مثلا) جرحوا أو ماتوا، فكذلك ليس غريباً أن يكون الجن قد خلقوا من النار، ويعذبون بنار جهنم.
والجن خلقهم الله تعالى من نار، ولكنهم ليسوا الآن ناراً، والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح موثقا حتى يراه الناس) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (6 / 442) ، وصححه ابن حبان (6 / 115) .
2. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك، قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر، ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة. رواه مسلم (542) .
فمن هذين الحديثين يتبين لنا أن الجن الآن ليسوا ناراً؛ ويدل على ذلك: ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم من برد لسان الشيطان، كما في الحديث الأول، وأن الشيطان لو كان باقيًا على ناريته ما احتاج أن يأتي بشهاب ليجعله في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما استطاع الولدان أن يلعبوا به.
3. ومن الأدلة – كذلك -: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) رواه البخاري (1933) ومسلم (2175) .
ولو كان الشيطان ناراً لاحترق الإنسان؛ لأن الشيطان داخله، فتبين الفرق بين كون الشيطان ناراً وكونه مخلوقاً من نار.
ولو كان الشيطان ناراً الآن –على سبيل الفرض- وأراد الله أن يعذبه بنار جهنم، فإن الله تعالى على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/380)
ما صحة حديث إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة الحديث القائل بإحياء أم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فآمنت به ثم ماتت؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يصح حديث في أن الله تعالى أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وأنهما آمنا به ثم ماتا، بل الأحاديث الصحيحة الثابتة تدل على أنهما ماتا على الكفر، وأنهما من أهل النار.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي) رواه مسلم (976) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ. رواه مسلم (203) .
ومما يدل على عدم صحة هذه الأحاديث: أن هذا الأمر لو وقع لاشتهر وانتشر، لأنه يكون آية عظيمة من آيات الله تعالى، فتتوفر الدواعي على نقلها.
وقد حكم أئمة العلم المحققون على هذه الأحاديث الواردة بأنها موضوعة مكذوبة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: حجَّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمرَّ بي على عقبة الحجون وهو باكٍ حزين مغتم، فبكيتُ لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه نزل فقال: يا حميراء استمسكي، فاستند إلى البعير فمكث عني طويلاً، ثم إنه عاد إليَّ وهو فرح مبتسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت حزين مغتم فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إليّ وأنت فرح مبتسم، فعَمَ ذا يا رسول الله؟ فقال: ذهبت لقبر أمي آمنة فسألت الله أن يحييها فأحياها، فآمنت بي وردها الله عز وجل.
رواه ابن شاهين في " الناسخ والمنسوخ " والخطيب البغدادي في " السابق اللاحق " – كما قال السيوطي في " الحاوي " (2 / 440) -.
قال ابن الجوزي:
" هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة، لا؛ بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفي رد هذا الحديث قوله تعالى: (فيمت وهو كافر) وقوله في الصحيح: (استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) وقد كان أقوام يضعون أحاديث ويدسونها في كتب المغفلين فيرويها أولئك، قال شيخنا أبو الفضل بن ناصر: هذا حديث موضوع وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ودفنت هناك وليست بالحجون " انتهى.
"الموضوعات" (1/283) .
الحجون: موضع بمكة.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" وأما الحديث الذي ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده مجهولين إلى أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه، فأحياهما وآمنا به: إنه حديث منكر جدّاً، وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه " انتهى.
"البداية " (2/261) .
وقال ملا علي القاري عن هذا الحديث:
" موضوع، كما قال ابن دحية، وقد وضعت في هذه المسألة رسالة مستقلة " انتهى.
"الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" (ص 83) .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك؟
فأجاب:
" لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث ; بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر - يعني الخطيب - في كتابه "السابق واللاحق" وذكره أبو القاسم السهيلي في "شرح السيرة" بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة" وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذباً، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث ; لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح، لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقا للعادة من وجهين: من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت. فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات عُلِم أنه كذب.
ثم هذا خلاف الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع. قال الله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) وقال: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار) . فبين الله تعالى: أنه لا توبة لمن مات كافراً. وقال تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس ; فكيف بعد الموت؟ ونحو ذلك من النصوص. . . " انتهى باختصار.
"مجموع الفتاوى" (4/325) .
وبعض أهل التصوف لم يستطع تصحيح هذه الأحاديث وفق القواعد الحديثية فصححها بالكشف!
يقول البيجوري:
" ولعل هذا الحديث - حديث إحياء والدي النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهما ثم موتهما- صح عند أهل الحقيقة بطريق الكشف " انتهى.
"جوهرة التوحيد" (ص 30) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رادّاً على مثل هذا:
" وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى: هذا أمر فوق العقل! ويقول بعضهم: يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل " انتهى باختصار.
"الجواب الصحيح" (2/92) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/381)
لا يلزم من دخول أحد الزوجين الجنة أن يدخلها الآخر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل صحيح أنه إذا دخل أحد الزوجين الجنة فإنه (أو إنها) سيدخل رفيقه الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس بالضرورة أنه إذا دخل أحد الزوجين الجنة أن يدخل الآخر، ويكفي لتخطئة هذا القول مصير زوجة نوح ولوط عليهما السلام، فهما في النار وزوجاهما من النبيين.
قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) التحريم/10.
قال ابن كثير:
قال تعالى: {ضرب الله مثلا للذين كفروا} أي: في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال {امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبديْن من عبادنا صالحين} أي: نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط، {فخانتاهما} أي: في الإيمان لم يوافقاهما على الإيمان ولا صدقاهما في الرسالة فلم يجد ذلك كله شيئاً ولا دفع عنهما محذوراً، ولهذا قال تعالى {فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً} أي: لكفرهما وقيل للمرأتين {ادخلا النار مع الداخلين} .
" تفسير ابن كثير " (4 / 394) .
لكن يرجى إن دخل واحد من الزوجين الجنة وكان في درجة أعلى من زوجه أو ذريته أن يلحقهم الله تعالى به.
والذرية يستفيدون من صلاح آبائهم في ارتفاعهم معهم في الجنة إذا دخلوها قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) الطور/21.
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/382)
صفات الحور العين في الكتاب والسنة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما وصف الحور العين مما ورد في الكتاب والسنة؟ والزوجة الصالحة في الدنيا ماذا يكون شكلها أو وصفها في الجنة إذا أراد الله لها الجنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن رضى الرحمن ودخول الجنان هو غاية ما يتمناه المؤمن والمؤمنة، فإذا خرج من الدنيا وقد فاز برضوان الله فليبشر بعد ذلك بالخير كله، فإذا دخل الجنة فلا يسأل بعد ذلك عن النعيم المقيم، الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، فيحصل له كل ما يتمناه بأحسن أحواله، وكل ما يطلبه مجاب، وكل ما يشتهيه في متناوله، ولا يمكن أبداً أن يجد ما يعكر صفوه لأنه في ضيافة الرحمن كما قال سبحانه: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) فصلت/31،32.
ومن أحسن ما تشتهيه الأنفس في الآخرة للرجال نساء الجنة، وهن الحور العين، وللنساء ما يقابله من النعيم، ومن حكمة الله العظيمة أن الله لم يذكر ما للنساء مقابل الحور العين للرجال، لأن ذلك من دواعي الخجل وشدة الحياء، فكيف يرغبهن في الجنة بما يثير حياءهن ويستحيين من ذكره والكلام فيه، فاكتفى سبحانه بالإشارة إليه كما في قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) فصلت/31.
وقد جاء في كتاب الله تعالى وصف للحور العين في أكثر من موضع، ومن ذلك:
1. قوله تعالى في ذكر جزاء أهل الجنة: (وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) الواقعة/22، 23.
قال السعدي رحمه الله:
" أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعِين: حسان الأعين وضخامها، وحسن العين في الأنثى من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها.
(كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن بوجه، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر " انتهى.
" تفسير السعدي " (ص 991) .
2. قوله تعالى: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) الرحمن/58.
قال الطبري رحمه الله:
" قال ابن زيد في قوله (كأنهن الياقوت والمرجان) : كأنهن الياقوت في الصفاء , والمرجان في البياض، الصفاء صفاء الياقوتة، والبياض بياض اللؤلؤ " انتهى.
" تفسير الطبري " (27 / 152) .
3. قوله تعالى في وصف نساء الجنة في سورة الواقعة: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا) الواقعة/35-37.
قال ابن كثير رحمه الله:
" قوله (عُرُباً) : قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني: متحببات إلى أزواجهن، وعن ابن عباس: العُرُب العواشق لأزواجهن , وأزواجهن لهن عاشقون.........
وقوله (أَتْرَابا) قال الضحاك عن ابن عباس يعني: في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة........
وقال السدي: (أترابا) أي: في الأخلاق المتواخيات بينهن ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني: لا كما كن ضرائر متعاديات " انتهى.
" تفسير ابن كثير " (4 / 294) .
وقال الحافظ ابن حجر:
عن مجاهد في قوله (عُرُباً أتراباً) قال: هي المحببة إلى زوجها.
" فتح الباري " (8 / 626) .
4. وقال تعالى في وصفهن: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) الرحمن/70.
قال ابن القيم:
ووصفهن بأنهن خيرات حسان وهو جمع خَيْرة وأصلها خَيّرة وهي التي قد جمعت المحاسن ظاهرا وباطنا , فكمل خلقها وخلقها فهن خيرات الأخلاق , حسان الوجوه.
" روضة المحبين " (ص 243) .
5. ووصفهن بالطهارة فقال: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/25.
قال ابن القيم:
ووصفهن بالطهارة فقال: (ولهم فيها أزواج مطهرة) طهرن من الحيض والبول والنجو (الغائط) وكل أذى يكون في نساء الدنيا، وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وتجنيهن عليهم وإرادة غيرهم.
" روضة المحبين " (ص 243، 244) .
6. ووصفهن تعالى بأنهن قاصرات أطرافهن عن غير أزواجهن فقال: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) الرحمن/56، وقال: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) الرحمن/72.
قال ابن القيم:
ووصفهن بأنهن (مقصورات في الخيام) أي: ممنوعات من التبرج والتبذل لغير أزواجهن، بل قد قُصِرْن على أزواجهن، لا يخرجن من منازلهم، وقَصَرْنَ عليهم فلا يردن سواهم، ووصفهن سبحانه بأنهن (قاصرات الطرف) وهذه الصفة أكمل من الأولى، فالمرأة منهن قد قصرت طرفها على زوجها من محبتها له ورضاها به فلا يتجاوز طرفها عنه إلى غيره.
" روضة المحبين " (ص 244) .
هذا طرف من ذكرهن في القرآن، وقد جاء في السنة ما تحار فيه العقول في وصف جمالهن وحسنهن، ومن ذلك:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر , ثم الذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة , قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض , لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين , يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم من الحسن) رواه البخاري (3081) ومسلم (2834) .
قال ابن حجر رحمه الله:
الحور التي يحار فيها الطرف يبان مخ سوقهن من وراء ثيابهن , ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون.
" فتح الباري " (8 / 570) .
2. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما , ولملأت ما بينهما ريحا , ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (2643) .
فلو أطلت بوجهها لأضاءت ما بين السماء والأرض، فأي نور وجمال في وجهها! وطيبُ ريحها يملأ ما بين السماء والأرض، فما أجمل ريحها!
وأما لباسها؛ فإن كان المنديل الذي تضعه على رأسها خير من جمال الدنيا وما فيها من متاع وروعة وطبيعة خلابة وقصور شاهقة وغير ذلك من أنواع النعيم، فسبحان خالقها ما أعظمه، وهنيئا لمن كانت له وكان لها.
ثانياً:
وحال المؤمنة في الجنة أفضل من حال الحور العين وأعلى درجة وأكثر جمالا، وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث والآثار ولكن لا يثبت منها شيء، ولكن المرأة الصالحة من أهل الدنيا إذا دخلت الجنة فإنما تدخلها جزاء على العمل الصالح وكرامة من الله لها لدينها وصلاحها، أما الحور التي هي من نعيم الجنة فإنما خلقت في الجنة من أجل غيرها وجعلت جزاء للمؤمن على العمل الصالح، وشتان بين من دخلت الجنة جزاء على عملها الصالح، وبين من خلقت ليُجَازَى بها صاحب العمل الصالح، فالأولى ملكة سيدة آمرة، والثانية على عظم قدرها وجمالها إلا أنها لا شك دون الملكة وهي مأمورة من سيدها المؤمن الذي خلقها الله تعالى جزاء له.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل الأوصاف التي ذكرت للحور العين تشمل نساء الدنيا؟
فأجاب:
الذي يظهر لي أن نساء الدنيا يكنَّ خيراً من الحور العين، حتى في الصفات الظاهرة، والله أعلم.
" فتاوى نور على الدرب ".
نسأل الله العظيم أن يؤتينا أفضل ما يؤتي عباده الصالحين.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/383)
ماذا يحصل للمرأة في الجنة إذا كان زوجها من أهل النار؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد ذكر في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة العديد من الأذكار التي تصف ما سوف يجده المسلم الداخل إلى الجنة بإذن الله من ثواب ونعم وأخص بالذكر هنا الحور العين إضافة إلى أن يجمعه الله تعالى بزوجته إذا كانت من المؤمنات الصالحات.
وسؤالي هو: ماذا ينتظر المرأة المؤمنة الصالحة الداخلة إلى الجنة خصوصا إذا كان الزوج غير صالح، ومن أصحاب جهنم والعياذ بالله؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله أن يجعلنا وإياك من أهل الجنة، مع سائر الأهل والأحبة.
إذا دخل زوج المرأة معها الجنة، كان زوجَها هناك أيضا، أما إذا كان من أهل النار، أو كانت الفتاة لم تتزوج في الدنيا، فإنها تزوج برجل من أهل الجنة.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ما نصه: إذا كانت المرأة من أهل الجنة ولم تتزوج في الدنيا، أو تزوجت ولم يدخل زوجها الجنة فمن يكون لها؟
فأجاب: " الجواب يؤخذ من عموم قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) فصلت/31، ومن قوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الزخرف/71، فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج، أو كان زوجها ليس من أهل الجنة فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال، وهم –أعني من لم يتزوجوا من الرجال- لهم زوجات من الحور، ولهم زوجات من أهل الدنيا إذا شاءوا واشتهت ذلك أنفسهم.
وكذلك نقول بالنسبة للمرأة إذا لم تكن ذات زوج، أو كانت ذات زوج في الدنيا ولكنه لم يدخل معها الجنة أنها إذا اشتهت أن تتزوج فلابد أن يكون لها ما تشتهيه لعموم هذه الآيات " اهـ من مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/52
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/384)
ما حكم رسم الفنان للجنة تخيلا
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم رسم الفنان للجنة تخيلا بما وصفها الرسول صلى الله على وسلم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يجوز، ولا يمكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه عز وجل في وصف الجنة: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) . رواه البخاري (3244) ومسلم (3824) .
وهذا الرسم يؤدي إلى التقليل والتهوين من نعيم الجنة فنكتفي بالوصف كما ورد في القرآن الكريم والسنة وكما عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/385)
حياة الآخرة لا فناء بعدها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل سيعيش البشر إلى الأبد في الآخرة أم إلى أن يشاء الله؟ ما المعتقد الإسلامي في ذلك؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كتب الله تعالى على هذه الدنيا الفناء، وكتب على أهلها الموت، قال تعالى {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن / 26، 27، وقال تعالى {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} العنكبوت / 75.
ثم يبعث الله تعالى العباد ويحييهم حياة أبدية لا نهاية لها، ويحاسبهم على أعمالهم فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء على إساءته، فينقسم الخلق قسمين فريق في الجنة، وفريق في السعير، فأهل الجنة خالدون فيها أبداً، وأهل النار من الكفار خالدون فيها كذلك أبداً.
وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرِّحة بهذا، ومنها:
1- قال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا} النساء / 57.
قال الطبري:
{خالدين فيها أبداً} : يقول: باقين فيها أبداً، بغير نهاية ولا انقطاع، دائم ذلك لهم فيها أبداً.
" تفسير الطبري " (5 / 144) .
2 - وقال: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} المائدة / 119.
3- وقال: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على الله يسيراً} النساء / 169.
4- وقال: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً. خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيراً} الأحزاب / 64، 65.
5 - وقال تعالى: (إِلا بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) الجن / 23
قال ابن كثير:
{خالدين فيها أبداً} : أي: ماكثين مستمرين، فلا خروج لهم منها، ولا زوال لهم عنها.
" تفسير ابن كثير " (3 / 520) .
6- وأخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لن يموتوا في النار ولن يحيون حياة طيبة، فقال: {إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا} طه / 74، وقال {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} الأعلى / 13.
قال القرطبي:
{ثم لا يموت فيها ولا يحيى} : أي: لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه.
" تفسير القرطبي " (20 / 21) .
7-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة} وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا {وهم لا يؤمنون} .
رواه البخاري (4453) ومسلم (2849) .
وفي رواية ابن عمر في البخاري (6182) ومسلم (2850) : " فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم ".
قال ابن القيم:
وهذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك: حقيقة، لا خيال ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطا قبيحا، وقال: الموت عرَض، والعرَض لا يتجسَّم فضلا عن أن يذبح.
وهذا لا يصح؛ فان الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجساماً تكون الأعراض مادة لها، وينشئ من الأجسام أعراضاً، كما ينشئ سبحانه وتعالى من الأعراض أعراضاً، ومن الأجسام أجساماً، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين، ولا شيئاً من المحال، ولا حاجة إلى تكلف من قال إن الذبح لملك الموت، فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل وسببه قله الفهم لمراد الرسول..
" حادي الأرواح " (ص 283، 284) .
8- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود ".
رواه البخاري (6178) ومسلم (2850) .
9- وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد (يعني في أهل الجنة) إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، فذلك قوله عز وجل {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} .
رواه مسلم (2827) .
فبادر أيها المسلم بالأعمال الصالحة في هذه الدنيا، فإنها أيام قلائل ثم تنتقل إلى حياة الأبد، فإما إلى جنة نعيمها لا ينفد، وإما إلى نار حرها إلى الأبد.. فالبدار البدار وإياك والتسويف فإن أكثر صياح أهل النار من سوف.
جعلنا الله وإياك من أهل الجنة آمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/386)
من هم اليهود والنصارى الذين يدخلون الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف نجمع بين قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (وبين أن من لم يؤمن من اليهود والنصارى بالإسلام فلن يدخل الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الآية التي أشرت إليها في سؤالك مذكورة في موضعين متشابهين من كتاب الله، فالأول هو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) سورة البقرة
والثاني هو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) سورة المائدة
وحتى نفهم المراد من الآيتين فهما صحيحا فلا بدّ أن نرجع إلى علماء التفسير، قال الإمام الكبير إسماعيل بن كثير رحمه الله في تفسير آية البقرة:
نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلّفونه كما قال تعالى "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون"..
فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا.
(وقوله تعالى) "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".. إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه به فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.. فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له فأصحابه وأهل دينه هم النصارى.. فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق وجب عليهم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية.
ثم قال رحمه الله في تفسير آية المائدة:
والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين وعملت عملا صالحا ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم يحزنون.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/387)
ما هو مصير أختها التي عانت من امراض خطيرة ومؤلمة قبل الموت
[السُّؤَالُ]
ـ[توفيت أختي البالغة من العمر 14 عاماً وأنا أريد أن أعرف أين ذهبت هل الى الجنة أم الى النار حيث أنها عانت الكثير من أمراض عديدة ومن هذه الأمراض أن جسمها كان هشاً أي ينجرح بسهولة ويخرج منه الدم الذي اثر على جسمها داخلياً وخارجياً ولقد سبب لها ألماً كثيراً والعديد من العمليات وتضخم الكبد وسرطان الجلد وعانت في آخر أيامها من فشل كلوي وكانت على أجهزة تنظيف الكلى لمدة 4 شهور وذلك تحت ألم شديد ومأساة موجعة. لقد كان موتها فجائياً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
من عقيدة أهل السنة والجماعة ألا يُقطع لأحدٍٍ من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له الله أو رسوله بذلك، لأن الشهادة بذلك لأحد من الناس لا تعلم إلا من جهة الوحي. والوحي قد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعلم حقيقة الخواتم وخبايا النفوس إلا الله الذي خلقها. إلا أن المسلم الموحد لابد له من دخول الجنة إذا شهد الشهادتين وقام بحقوقهما، وقد يعذبه الله على ما اقترف من الذنوب وقد يعفو عنه، ولكن آخر أمره سيكون إلى الجنة ولابد تصديقا لوعد الله المبشر بذلك.
وقد ثبت في النصوص أن من كان سنّه دون سن البلوغ من أطفال المسلمين أنه اذا مات يكون في رعاية نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم وزوجته سارة وأنه يكون شفيعاً لوالديه يوم القيامه.
وأما من عاش الى مابعد البلوغ فإنه يجازى بأعماله إن خيراً فخير وإلا فإنه يكون تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وماذكرته الأخت السائلة من تعرض أختها- رحمها الله- إلى البلاء المذكور في سؤالها فلعله إن شاء الله رفعة لها في درجتها عند الله فالمؤمن لا يصيبه هم ولا حزن إلا كّفر الله له به من خطاياه. وقد ثبت في الأحاديث أن من مات بمرض بطنه "المبطون" أنه شهيد، وسيتمنى أهل العافية يوم القيامة عندما يرون ما لأهل البلاء من الأجر أن جلودهم قرضت في الدنيا بالمقاريض.
ولذا فإننا نرجو لأختك إن ماتت وهي صابرة على ما أصابها مؤمنة بالله قائمة بما استطاعت من فرائضه أن لها عند الله أجراً عظيماً ومنزلة كريمة. نسأل الله أن يرحمنا وإياها إنه سميع مجيب. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/388)
ماذا للنساء في الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[امرأة تسأل وتقول: أنا مؤمنة بالله وبكتابه حق الإيمان والحمد لله إيماني بالله يقوى يوماً بعد يوم…
سؤالي هو: أنّ القرآن الكريم دائماً يذكر الجزاء في الآخرة تكراراً ومراراً للرجال والحور العين والناس يقولون أن الإسلام دين السيطرة فيه للرجل فلماذا لم يذكر الجزاء للمرأة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أيتها الأخت السائلة ما دمت تؤمنين بالله وبكتابه فلا بدّ أنّك تعلمين أنّ الله قال في كتابه الكريم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) النساء
لقد أنزل الله هذه الشريعة للرجال والنساء سواء وكلّ خطاب للرجال في القرآن فهو خطاب للنساء وكلّ حكم خوطب به الرّجال فالنساء مخاطبات به إلا ما دلّ الدليل على التفريق بينهما كأحكام الجهاد والحيض والمحرم والولاية وغير ذلك.
والدليل على أنّ خطاب الشارع وإن جاء بصيغة المذكّر فإنّ النساء داخلات فيه ما جاء عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلا يَذْكُرُ احْتِلامًا قَالَ يَغْتَسِلُ وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلا يَجِدُ الْبَلَلَ قَالَ لا غُسْلَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ أَعَلَيْهَا غُسْلٌ قَالَ نَعَمْ إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ": رواه أبو داود والترمذي 113وغيرهما والعبارة الأخيرة منه " إنما النساء.. في صحيح الجامع 2333
وأما بالنسبة للجزاء في الآخرة وماذا للمرأة في الجنّة فإليك هذه الطائفة من الآيات والأحاديث:
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) آل عمران والحديث رواه الترمذي رقم 3023
قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى "فاستجاب لهم ربهم" أي فأجابهم ربهم.. وقوله تعالى "أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى" هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبرا أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى وقوله "بعضكم من بعض" أي جميعكم في ثوابي سواء..)
وقال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) النساء
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: " بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة.. "
وقال عزّ وجلّ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) النحل
قال ابن كثير رحمه الله: " هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله رسوله وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة والحياة الطيبة تشتمل وجوه الراحة من أي جهة كانت "
وقال الله تعالى: (من عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) غافر
وأخيرا إليكِ أيتها الأخت السائلة هذا الحديث الذي سيقضي تماما بإذن الله على كلّ وسوسة في صدرك بشأن ذكر النساء:
عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلاّ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) الآيَةَ رواه الترمذي 3211 وهو في صحيح الترمذي 2565
وفي مسند الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا لا نُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ قَالَتْ فَلَمْ يَرُعْنِي مِنْهُ يَوْمًا إِلاّ وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَالَتْ وَأَنَا أُسَرِّحُ رَأْسِي فَلَفَفْتُ شَعْرِي ثُمَّ دَنَوْتُ مِنَ الْبَابِ فَجَعَلْتُ سَمْعِي عِنْدَ الْجَرِيدِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) الأحزاب
نسأل الله لنا ولك الإخلاص في القول، والعمل والثبات على هذا الدّين وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/389)
ماتت أختها المولودة بتلف في الدماغ فما هو مصيرها
[السُّؤَالُ]
ـ[ولدت أختي ومعها تلف في الدماغ، وعلى الرغم من أن عمرها 16 عاماً، إلا انها غير قادرة على الكتابة والقراءة. أختي توفيت منذ شهر، أريد أن أعرف هل ذهبت الى الجنة أم الى النار؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يرحمها، وأن يجمعك بها في جنات النعيم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " رواه البخاري (1296) ومسلم (4803) .
وقال: " رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني في الإرواء برقم 297
ومن ولد فاقد العقل أو تالف الدماغ، وكان أبواه مسلمين، فهو مسلم، تبعا لهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلما تبعا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد. وكذلك من جُنَّ بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعا لآبائهم. وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرا تبعا لأبويه أو لأهل الدار كما يحكم بذلك للأطفال. لا لأجل إيمان قام به فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم) . مجموع الفتاوى 10/437
وقال ابن حزم رحمه الله: (وأما المجانين الذين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حنفاء، مؤمنين، ولم يغيروا، ولا بدلوا، فماتوا مؤمنين فهم في الجنة) الفصل 4/135
فإن كانت أختك فاقدة للعقل والتمييز، ولا تدرك معنى العبادة وطريقة أدائها، فقد رفع عنها القلم، وهي على الفطرة، ونرجو لها الجنة، إلا أنا لا نشهد لمعين بالجنة، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
أما إن كانت تعقل وتدري، وتميز، فهذه مكلفة كسائر المكلفين، تجازى على ما عملته بعد بلوغها، وكذا لو كانت تفيق أحيانا، ويذهب عقلها أحيانا، فتجازى على أعمالها وقت الإفاقة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/390)
مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم للجنة.
[السُّؤَالُ]
ـ[هل شاهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
دلت النصوص الكثيرة أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، وقد شاهد النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار، ثبت هذا في وقائع متعددة , فمن ذلك:
حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... - الحديث وفيه - ... فَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا وَأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ " رواه البخاري (1052) واللفظ له ومسلم (901) .
ورآها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه- ورؤيا الأنبياء وحي وحق- فرأى فيها الرميصاء , ورأى فيها قصراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنها وعنه. ورآها في ليلة المعراج إذ يغشى السدرة ما يغشى. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/391)
الوعد بالجنة مشروط بتحقق الوعد وانتفاء الموانع
[السُّؤَالُ]
ـ[أظن أنه من غير العدل أن يدخل الجنة بعض المسلمين الذين يعيشون حياتهم عابثين إذا ما ماتوا بطريقة معينة. مثال ذلك، إذا مات أحدهم بالغرق أو انهار عليه بنيان، فإنه من المتوقع أن يذهب إلى الجنة. ولنقل أن هناك من حفظ أسماء الله الـ99 لكنه لم يكن يصلي (في اليوم والليلة) إلا مرة أو مرتين. فهل سيدخل مثل هذا الجنة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حفظ أسماء الله الـ 99 وُهبت له الجنة. أرجو أن تعلق على ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في الحديث الصحيح: " إن لله تسعة وتسعين إسما ً من أحصاها دخل الجنة ". وإحصاؤها حِفظها وفهم المراد منها، والعمل بمقتضاها ودعاء الله بها. فمن فعل ذلك ولم يأت كبيرة من الكبائر، وحافظ على الصلاة فيرجى له دخول الجنة. أما مرتكب الكبائر فلا بد له من التوبة وهو مع ذلك تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه. وأما من مات بالغرق أو بالهدم فهو شهيد إذا كان مسلما فيرجى له تكفير السيئات كلها إلا الدَّيْن.
الشيخ عبد الكريم الخضير.
وأما تارك الصلاة بالكلية متعمداً فإن الراجح من أقوال العلماء أنه كافر بالله العظيم ومأواه النار حتى لو غرق أو انهدم عليه البنيان.
والشاهد أن الأحاديث التي فيها وعد بأجر وثواب معين كدخول الجنة أو النجاة من النار مشروط حصوله بتحقق الشروط وانتفاء الموانع ومن موانع دخول الجنة مثلاً ترك الصلاة ومن شروط حصول أجر الشهيد في المعركة مثلاً أن تكون نيته القتل لإعلاء كلمة الله وهكذا.
ثم نريد أن ننبهك أيها الأخ السائل أن المسلم لا يعترض على أحكام الله إذا ثبتت وعرف معناها، وإذا أشكل عليه شيء منها فليتهم عقله وفهمه ولا يتهم نصوص الشريعة.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/392)
والدا النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة أو في النار؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أين والدا الرسول صلى الله عليه وسلم هل هما في الجنة أم في النار؟ نرجو الإفادة بالحديث الشريف الدال على ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على أن أبويه في النار.
روى مسلم (203) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّار.
(فَلَمَّا قَفَّى) أي انصرف.
قال النووي رحمه الله:
فِيهِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَهُوَ فِي النَّار , وَلا تَنْفَعهُ قَرَابَة الْمُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَة عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَب مِنْ عِبَادَة الأَوْثَان فَهُوَ مِنْ أَهْل النَّار , وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَة قَبْل بُلُوغ الدَّعْوَة , فَإِنَّ هَؤُلاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَة إِبْرَاهِيم وَغَيْره مِنْ الأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه تَعَالَى وَسَلامه عَلَيْهِمْ اهـ.
وروى مسلم (976) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي.
قال في "عون المعبود":
(فَلَمْ يَأْذَن لِي) : لأَنَّهَا كَافِرَة وَالاسْتِغْفَار لِلْكَافِرِينَ لا يَجُوز اهـ.
وقال النووي رحمه الله:
فِيهِ: النَّهْي عَنْ الاسْتِغْفَار لِلْكُفَّارِ اهـ.
وقال الشيخ بن باز رحمه الله:
" والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (إن أبي وأباك في النار) قاله عن علم، فهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) النجم/1-4. فلولا أن عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم قد قامت عليه الحجة؛ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه ما قاله، فلعله بلغه ما يوجب عليه الحجة من جهة دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنهم كانوا على ملة إبراهيم حتى أحدثوا ما أحدثه عمرو بن لحي الخزاعي، وسار في الناس ما أحدثه عمرو، من بث الأصنام ودعائها من دون الله، فلعل عبد الله كان قد بلغه ما يدل على أن ما عليه قريش من عبادة الأصنام باطل فتابعهم؛ فلهذا قامت عليه الحجة. وهكذا ما جاء في الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم استأذن أن يستغفر لأمه فلم يؤذن له، فاستأذن أن يزورها فأذن له، فهو لم يؤذن له أن يستغفر لأمه؛ فلعله لأنه بلغها ما يقيم عليها الحجة، أو لأن أهل الجاهلية يعاملون معاملة الكفرة في أحكام الدنيا، فلا يدعى لهم، ولا يستغفر لهم؛ لأنهم في ظاهرهم كفار، وظاهرهم مع الكفرة، فيعاملون معاملة الكفرة وأمرهم إلى الله في الآخرة " اهـ. فتاوى "نور على الدرب".
وقد ذهب السيوطي رحمه الله إلى نجاة أبوي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله تعالى أحياهما له بعد موتهما وآمنوا به.
وهذا القول أنكره عامة أهل العلم، وحكموا بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة أو ضعيفة جداً.
قال في "عون المعبود":
"وَكُلّ مَا وَرَدَ بِإِحْيَاءِ وَالِدَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانهمَا وَنَجَاتهمَا أَكْثَره مَوْضُوع مَكْذُوب مُفْتَرًى , وَبَعْضه ضَعِيف جِدًّا لا يَصِحّ بِحَالٍ لاتِّفَاقِ أَئِمَّة الْحَدِيث عَلَى وَضْعه كَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْجَوْزَقَانِيّ وَابْن شَاهِين وَالْخَطِيب وَابْن عَسَاكِر وَابْن نَاصِر وَابْن الْجَوْزِيّ وَالسُّهَيْلِيّ وَالْقُرْطُبِيّ وَالْمُحِبّ الطَّبَرِيّ وَفَتْح الدِّين بْن سَيِّد النَّاس وَإِبْرَاهِيم الْحَلَبِيّ وَجَمَاعَة. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَام فِي عَدَم نَجَاة الْوَالِدَيْنِ الْعَلامَة إِبْرَاهِيم الْحَلَبِيّ فِي رِسَالَة مُسْتَقِلَّة , وَالْعَلامَة عَلِيّ الْقَارِي فِي شَرْح الْفِقْه الأَكْبَر وَفِي رِسَالَة مُسْتَقِلَّة , وَيَشْهَد لِصِحَّةِ هَذَا الْمَسْلَك هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح (يعني حديث: إن أبي وأباك في النار) وَالشَّيْخ جَلال الدِّين السُّيُوطِيّ قَدْ خَالَفَ الْحَفاظ وَالْعُلَمَاء الْمُحَقِّقِينَ وَأَثْبَتَ لَهُمَا الإِيمَان وَالنَّجَاة فَصَنَّفَ الرَّسَائِل الْعَدِيدَة فِي ذَلِكَ , مِنْهَا رِسَالَة التَّعْظِيم وَالْمِنَّة فِي أَنَّ أَبَوَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّة" اهـ.
وسُئِلَ شَّيْخ الإسلام رحمه الله تعالى:
هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَبَوَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَا عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ; بَلْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ. .. وَلا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ مِنْ أَظْهَر الْمَوْضُوعَاتِ كَذِبًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْحَدِيثِ ; لا فِي الصَّحِيحِ وَلا فِي السُّنَنِ وَلا فِي الْمَسَانِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفَةِ وَلا ذَكَرَهُ أَهْلُ كُتُبِ الْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَرْوُونَ الضَّعِيفَ مَعَ الصَّحِيحِ. لأَنَّ ظُهُورَ كَذِبِ ذَلِكَ لا يَخْفَى عَلَى مُتَدَيِّنٍ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْ وَقَعَ لَكَانَ مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الأُمُورِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ إحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَمِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَكَانَ نَقْلُ مِثْلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ كَذِبٌ. . .
ثُمَّ هَذَا خِلافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالإِجْمَاعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) النساء/17، 18. فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لا تَوْبَةَ لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا. وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) فَأَخْبَرَ أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ الإِيمَانُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ ; فَكَيْفَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ. . . . ثم ذكر الحديثين الذين تقدما في أول الجواب اهـ. "مجموع الفتاوى" (4/325-327) . باختصار.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/393)
خلود أهل النار في النار
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عذاب أهل النار في النار إلى ما لا نهاية له؟ أم أنه سوف يأتي عليه وقت وينتهي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
بقاء أهل النار في النار معذبين لا نهاية له، فهو بقاء إلى الأبد. وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
سئل الشيخ ابن عثيمين: هل النار مؤبدة أو تفنى؟
فأجاب:
"المتعيّن قطعاً أنها مؤبدة ولا يكاد يعرف عند السلف سوى هذا القول، ولهذا جعله العلماء من عقائدهم، بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبدة أبد الآبدين، وهذا الأمر لا شك فيه، لأن الله تعالى ذكر تأبيد النار في ثلاثة مواضع في القرآن:
الأول: في سورة النساء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)
والثاني: في سورة الأحزاب: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) .
والثالث: في سورة الجن: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)
ولو ذكر الله عز وجل التأبيد في موضع واحد لكفى، فكيف وقد ذكره في ثلاثة مواضع؟! ومن العجب أن فئة من العلماء ذهبوا إلى أن النار تفنى بناء على علل عليلة لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسنة وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة فقالوا: إن "خالدين فيها أبداً" أي: ما دامت موجودة.
وكيف يصح هذا؟! إذا كانوا خالدين فيها أبداً، لزم أن تكون هي مؤبدة أنهم خالدون "فيها" فهم كائنون فيها، وإذا كان الإنسان خالداً مؤبداً تخليدُه، لزم أن يكون مكان الخلود مؤبداً، لأنه لو فني مكان الخلود ما صح تأبيد الخلود، والآية واضحة جداً. والتعليلات الباردة المخالفة للنص مردودة على صاحبها، وهذا الخلاف الذي ذكر عن فئة قليلة من أهل العلم خلاف مطرح لأنه مخالف للنص الصريح الذي يجب على كل مؤمن أن يعتقده، ومن خالفه لشبهة قامت عنده فيعذر عند الله، لكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف أن القول بتأبيدها هو الحق الذي لا يحق العدول عنه" اهـ.
مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/55-56) .
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة":
"قامت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على أن النار لا تفنى، وعلى تخليد الكافرين في النار، وأنهم لا يخرجون منها، قال الله تعالى:) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) وقال:) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) ، وقال: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) . وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) , وقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) وقال:) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ* وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُون) .
وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) إلى أن قال: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ* لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) . وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) وقال: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً) إلى أن قال: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً) .
إلى غير ذلك من الآيات التي يدل كل منها على تخليد الكفار في النار وعدم خروجهم منها وعدم فنائها، فإذا اجتمعت كانت دلالتها على ذلك أقوى وأبعد عن التأويل" اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/394)
نسبة أهل الجنة إلى أهل النار
[السُّؤَالُ]
ـ[يوجد في صحيح البخاري حديثان برقمي (6529 , 6530) بترقيم فتح الباري , في الحديث رقم (6529) ما يفيد أن:
" بعث جهنم من كل مائة تسعة وتسعين "، وفي الحديث رقم (6530) ما يفيد أن: " بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ". أرجو الشرح والتوضيح جزاكم الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحديث الأول رواه البخاري (6529) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ، فَتَرَاءَى ذُرِّيَّتُهُ، فَيُقَالُ: هَذَا أَبُوكُمْ آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، كَمْ أُخْرِجُ؟ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا؟ قَالَ: إِنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ.
الحديث الثاني رواه البخاري (3348) ومسلم (222) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلا، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ.
ومعنى "بَعْثَ النَّارِ" أي: الذين يبعثون إلى النار من ذرية آدم.
ومعنى "أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ" أي: مَيِّزْ أَهْلَ النَّارِ مِنْ غَيْرهمْ.
ففي الحديث الأول أن عدد الناجين يوم القيامة عشرة من الألف، وفي الحديث الثاني واحد من الألف.
وقد جمع العلماء بين الحديثين بعدة طرق، ومنها:
1- أن مفهوم العدد لا اعتبار له، فالتخصيص بعددٍ لا يدل على نفي الزائد، والمقصود من العددين واحدٌ وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين.
2- حمْل حديث أبي سعيد الخدري على جميع ذرية آدم، فيكون مِن كل ألف واحدٌ، وحمْل حديث أبي هريرة على مَن عدا يأجوج ومأجوج، فيكون من كل ألف عشرة، ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة.
3- ويحتمل أن تقع القسمة مرتين: مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة فيكون من كل ألف واحدٌ، ومرة من هذه الأمة فقط فيكون من كل ألف عشرة.
4- ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار: " الكفار ومن يدخلها من العصاة " فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافراً، ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصياً.
ذكر هذه الأجوبة الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (11 / 390) .
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/395)
تطهير العصاة
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت بأنه سيتم يوم القيامة تطهير جميع من سيدخل الجنة بأن يذهبوا للنار أولاً حتى يطهروا من سيئاتهم ثم يدخلون الجنة وسيُستثنى المسلم الذي ضمن الله له الجنة والشهيد، فهل هذا صحيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لعل السائل يشير إلى قول الله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا. ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} وهذا الخطاب لسائر الخلق، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، أنه ما منهم من أحد إلا سَيرِد النار، حكماً حتمه الله على نفسه، وأوعد به عباده، فلا بد من نفوذه، ولا محيد عن وقوعه.
واختُلِفَ في معنى الورود فقيل: ورودها، حضورها للخلائق كلهم، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد ثم بعدُ ينجي الله المتقين.
وقيل: ورودها، دخولها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً.
وقيل الورود هو المرور على الصراط الذي هو جسم على ظهر جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر، وكالريح، وكأجاويد الخيل، وكأجاويد الركاب.
ومنهم من يسعى، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يُخطف فيُلقى في النار، كلٌّ بحسب تقواه، ولهذا قال: {ثم ننجي الذين اتقوا} الله تعالى بفعل المأمور، واجتناب المحظور {ونذر الظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي {فيها جثيا} وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم، وجب لهم الخلود وحقَّ عليهم العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. انتهى من تفسير ابن سعدي ص 811
ثانياً:
لابد لمن سيدخل الجنة أن يتطهر من جميع ذنوبه قبل دخولها، وتطهير العصاة من ذنوبهم يحصل في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا جعل الله لعباده طرقاً يتخلصون بها من عقوبات معاصيهم وسيئاتهم بالاستغفار والتوبة النصوح والحسنات الماحية..
وقد تقدم الكلام على ذلك في السؤال رقم (13693) .
وأما تطهير العصاة في الآخرة فإنه يحصل بأمور:
1- دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته فعن عائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من ميت يصلي عليه أُمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شُفِّعوا فيه " رواه مسلم (947)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم (948)
... فعُلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.
2- ما عمله الإنسان من الصدقات الجارية في حياته فإنه ينتفع بها بعد موته.
3- ما يُعمل للميت من أعمال البر كالصدقة والحج ونحو ذلك فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم 1638
4- ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما يُكفر به الخطايا.
5- شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله في الحديث الصحيح شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقوله صلي الله عليه وسلم خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر أترونها للمتقين لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين. رواه ابن ماجه 4311 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة 3480
6- أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
7- رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ " رواه البخاري 6469
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ (أي ستره) وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " رواه البخاري 2441
8- ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة فعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا. رواه البخاري 6535
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
قَوْله (إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار) أَيْ نَجَوْا مِنْ السُّقُوطِ فِيهَا بَعْدَمَا جَازُوا عَلَى الصِّرَاط.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَؤُلاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمْ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاص لا يَسْتَنْفِدُ حَسَنَاتِهِمْ.
قُلْت (الحافظ) : وَلَعَلَّ أَصْحَاب الأَعْرَاف مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْل الْمُرَجَّحِ آنِفًا , وَخَرَجَ مِنْ هَذَا صِنْفَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ; وَمَنْ أَوْبَقَهُ عَمَلُهُ.
أَوْبَقَهُ: أي أهلكه
قَوْله (فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) ... الصِّرَاط جِسْرٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَتْنِ (أي: ظهر) جَهَنَّمَ والْجَنَّة وَرَاءَ ذَلِكَ فَيَمُرُّ عَلَيْهِ النَّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالهمْ , فَمِنْهُمْ النَّاجِي وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ أَوْ اِسْتَوَيَا أَوْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ , وَمِنْهُمْ السَّاقِطُ وَهُوَ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ إِلا مَنْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ , فَالسَّاقِط مِنْ الْمُوَحِّدِينَ يُعَذَّبُ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا , وَالنَّاجِي قَدْ يَكُون عَلَيْهِ تَبِعَاتٌ وَلَهُ حَسَنَات تُوَازِيهَا أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يَعْدِلُ تَبِعَاتِهِ فَيَخْلُصُ مِنْهَا.
قَوْله (حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا) َهُمَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالتَّخْلِيصِ مِنْ التَّبِعَاتِ. انتهى
فإن لم يتطهر المسلم الموحد العاصي من معاصيه بسبب من هذه الأسباب فإنه يدخل النار ليتم تطهيره فيها ولكنه لا يخلد في النار بل يخرج بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
" أما العصاة: كقاتل النفس بغير حق والزاني والعاق لوالديه وآكل الربا وشارب المسكر إذا ماتوا على هذه المعاصي وهم مسلمون، وهكذا أشباههم هم تحت مشيئة الله كما قال سبحانه: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فإن شاء جل وعلا عفا عنهم لأعمالهم الصالحة التي ماتوا عليها وهي توحيده وإخلاصهم لله وكونهم مسلمين أو بشفاعة الشفعاء فيهم مع توحيدهم وإخلاصهم.
وقد يعاقبهم سبحانه ولا يحصل لهم عفو فيعاقبون بإدخالهم النار وتعذيبهم فيها على قدر معاصيهم ثم يخرجون منها، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يشفع للعصاة من أمته، وأن الله يحد له حدا في ذلك عدة مرات، يشفع ويخرج جماعة بإذن الله ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع عليه الصلاة والسلام (أربع مرات) ، وهكذا الملائكة وهكذا المؤمنون وهكذا الأفراط (وهم الأولاد الذين ماتوا قبل البلوغ) كلهم يشفعون ويخرج الله سبحانه من النار بشفاعتهم من شاء سبحانه وتعالى ويبقى في النار بقية من العصاة من أهل التوحيد والإسلام فيخرجهم الرب سبحانه بفضله ورحمته بدون شفاعة أحد، ولا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار. انتهى مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (9/380)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ... رواه البخاري 6574 ومسلم 172
امْتُحِشُوا: أي احترقوا
حَمِيلِ السَّيْلِ: أي ما يحمله السيل من طين ونحوها
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ... رواه مسلم 185
ومعنى ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ (أي: جماعات متفرقة)
نسأل الله أن يرحمنا برحمته ... وأن يتجاوز عنا.. والحمد لله رب العالمين
والله أعلم
المراجع:
فتاوى ابن تيمية (7/498- 501) / منهاج السنة (6/238) / فتح الباري (11/406) البحار الزاخرة 242.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/396)
هل هناك حيوانات في الجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك حيوانات في الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحيوانات التي جاءت الأخبار أنها في الجنة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما جاء منها أنها حيوانات مخصوصة بعينها في الجنة مثل: كلب أهل الكهف، وناقة صالح عليه السلام، وهذه لم يصح منها شيء.
والقسم الثاني: ما جاء ذكره في القرآن والسنة مما أعدَّه الله للمؤمنين في الجنة، سواء نصَّ عليها كالطيور كما في قوله تعالى: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) الواقعة / 21، أو أطلق ذكرها كقوله تعالى: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) الطور/22.
ومثل ذلك – أيضاً – الثور الذي أعدَّه الله تعالى طعاماً لأهل الجنَّة، كما جاء عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها.... قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال – صلى الله عليه وسلم -: يُنحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ... رواه مسلم (315) .
والقسم الثالث: ما ورد في السنة الصحيحة من النص على بعض الحيوانات بعينها أنها في الجنة، ومنه: أ. عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مراح الغنم وامسحوا رغامها فإنها من دواب الجنة) . رواه البيهقي (2/449) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3789) .
والرغام (بالغين) هو التراب، وروي الرعام (بالعين) وهو ما سال من أنف الشاة. والمعنى: امسحوا عنها التراب، أو امسحوا ما سال من أنفها، إصلاحا لشأنها، ورعاية لها. قاله المناوي في "فيض القدير".
ب. عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلها مخطومة. رواه مسلم (1892) .
قال النووي:
قوله: معنى " مخطومة " أي: فيها خطام , وهو قريب من الزمام، قيل: يحتمل أن المراد له أجر سبعمائة ناقة , ويحتمل أن يكون على ظاهره , ويكون له في الجنة بها سبعمائة كل واحدة منهن مخطومة، يركبهن حيث شاء للتنزه , كما جاء في خيل الجنة ونجبها، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم.
" شرح النووي " (13 / 38) .
وحديثا النجائب – وهي الإبل – والخيل الذي أشار إليه النووي هما:
أ. عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة يتزاورون على النجائب بيض كأنهن الياقوت، وليس في الجنة شيء من البهائم إلا الإبل والطير ". رواه الطبراني في " الكبير " (4 / 179) .
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه جابر بن نوح وهو ضعيف. " مجمع الزوائد " (10 / 413) .
وضعفه الألباني في " ضعيف الجامع " (1833) .
ب. عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من خيل؟ قال: إنِ اللهُ أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت، قال: وسأله رجل فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه، قال: إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
رواه الترمذي (2543) . وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (3 / 522) .
ونحوه عن أبي أيوب عند الترمذي (2544) وصححه الألباني– أيضاً – (3 / 423) .
وقد ورد في أحاديث صحيحة أن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة تسرح حيث شاءت.
وينبغي أن يعلم أن الطيور والخيل والإبل التي في الجنة لا تتفق مع ما في الدنيا إلا في الأسماء فقط، أما حقيقة صفتها فلا يعلمها إلا الله تعالى، غير أننا نعلم أنها في غاية الجمال والبهاء لأنها من أنواع النعيم الذي أعده الله تعالى لأوليائه في الجنة، وإلى هذا أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتقدم بأن فرس الجنة من ياقوتة حمراء، ويطير بصاحبه حيث يشاء.
نسأل الله تعالى أن ينعم علينا ويدخلنا الجنة برحمته، إنه جواد كريم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/397)
معترضة على كون الرجل عنده حور عين يشاركونها في زوجها
[السُّؤَالُ]
ـ[ماذا سيحصل للزوجين في الجنة؟ سمعت بأن الزوجة ستكون مع زوجها بالإضافة لسبعين من الحور في خدمته. هذا بالنسبة لي ليس عدلاً بالنسبة للمرأة إذا شاركوها في زوجها بهذه الطريقة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
الواجب على المؤمن التسليم لأحكام الله تعالى الشرعية والقدرية، قال الله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور/51.
وإذا أشكل على المؤمن شيء من أحكام الله تعالى ولم يعرف معناه أو حكمته، فعليه أن يقول كما قال الراسخون في العلم: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) آل عمران / 7
ولا يجوز لمؤمن أن يقول على حكم من أحكام الله تعالى إنه ليس بعدل، تعالى الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) فصلت / 46
ولا حكم أفضل ولا أحسن من حكم الله تعالى: قال الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) التين / 8.
وقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة / 50.
ثانياً:
في هذا السؤال خطآن ومغالطة، أما الخطأ الأول: فهو قول السائلة بأن الرجل في الجنة سيكون له سبعون من الحور العين، والذي ثبت في السنَّة الصحيحة أن للشهيد ثنتين وسبعين من الحور العين. وأن أدنى أهل الجنة له زوجتان. ومنهم من له أكثر من ذلك.
عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه ".
رواه الترمذي (1663) وابن ماجه (2799) . صححه الألباني في صحيح الترمذي.
وقد ورد ما هو أكثر من ذلك، رواه أبو نعيم في "صفة الجنة" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء. يعني في الجنة) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (367) .
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثل له شجرة ذات ظل ... قال: ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك، قال: فيقول ما أعطي أحد مثل ما أعطيت.
رواه مسلم (188) .
قال الحافظ:
وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ أَقَلّ مَا لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اهـ.
ثالثاً:
وأما الخطأ الثاني فهو قول السائلة إن الحور العين تكون للخدمة، وهذا غير صحيح، بل الذي يخدم أهل الجنة إنما الغلمان المخلَّدون.
قال الله تعالى: {ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} الطور / 24، وقال: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} الإنسان / 19.
وأما الحور العين فهنَّ زوجات للرجل في الجنة عدا زوجاته من أهل الدنيا، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} الدخان / 54، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} الطور / 20.
رابعاً:
وأما المغالطة فهي قول السائلة " هذا بالنسبة لي ليس عدلاً بالنسبة للمرأة إذا شاركوها في زوجها بهذه الطريقة "، إذ العدل إنما هو في أحكام الشرع لا فيما يظنه من لم يعرف الشرع وأحكامه فضلاً عن حكَمه.
والأخت السائلة تظن أن ما في قلبها من الغيرة وما يعقب ذلك من الكمد والأسى سيبقى معها في الجنة، وهذا غير صحيح، ومن هنا جاءت المغالطة في سؤالها.
قال الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} الأعراف / 43.
فليس في الجنة إلا النعيم والسرور، ولا مكان للحقد والغل في قلوب أهل الجنة، والحور العين خلْق من الله تعالى إكراماً لأهل الجنة زيادة في نعيمهم، ثم إن الرجل يُعطى قوة مئة رجل في الجماع، فليس ثمة ما يؤثر كثرة العدد على المرأة، ولن يكون في قلبها ما يكون في الدنيا تجاه ضرائرها أو تجاه إماء زوجها.
عن زيد بن أرقم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل من أهل الجنة يعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والشهوة والجماع "، فقال رجل من اليهود: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر ". أي: انهضم ما في بطنه من الطعام. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة / 50.
رواه أحمد (18827) ، وصححه ابن حبان (16 / 443) ، والشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (1627) .
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يُعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع، قيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: يُعطى قوة مائة ".
رواه الترمذي (2536) ، وصححه ابن حبان (16 / 413) ، والشيخ الألباني في " صحيح الجامع " (8106) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/398)
الجنة والنار موجودتان، وهما باقيتان بإبقاء الله لهما
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الجنة والنار موجودتان الآن؟ أم انهما لم يخلقا بعد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
وبعد: فقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن لا يشك في ذلك أحد منهم لكثرة الأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة.
فمن نصوص الكتاب:
قوله تعالى عن الجنة: (أعدت للمتقين) آل عمران/133 وقوله: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) الحديد/21 وقال تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى.عندها جنة المأوى) النجم/13-15.
وقوله عن النار (أعدت للكافرين) البقر/24 ومعنى قوله تعالى: أعدت: أي هيئت. فهو دليل على أنهما موجودتان الآن.
وأما نصوص السنة:
فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في صحيح البخاري (336) ومسلم (237) واللفظ له من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره ثم " انطلق بي جبرائيل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: "ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ [أي قباب] اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ".
وفي البخاري (1290) ومسلم (5111) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ".
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل: " ينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها " وهو حديث صحيح صححه ابن القيم في تهذيب السن (4 / 337) والألباني في أحكام الجنائز (59) .
وفي صحيح البخاري (993) ومسلم (1512) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:" انخسفت الشمس على عهد رسول الله ـ فذكر الحديث ـ وفيه فقال: " إني رأيت الجنة وتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ... ".
وفي صحيح مسلم (646) من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا. قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار ".
وفي سنن الترمذي (2483) وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: " فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ؛ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ؛ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا. فَرَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا " وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.وقال الحافظ في الفتح (6 / 320) : " إسناده قوي ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. وقد عقد البخاري في صحيحه بابا قال فيه:" باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة " وذكر أحاديث منها ما تقدم من أن الله يُري الميت مقعده من الجنة والنار بعد أن يوضع في قبره.
فما بقي على العبد إلا أن يشمر ويجتهد في طاعة ربه والكف عن معصيته رجاء الفوز جنته والنجاة من أليم عقابه. والله تعالى أعلم.
يراجع: شرح العقيدة الطحاوية للإمام ابن أبي العز الحنفي (1 / 475 وما بعدها) ، وكتاب الجنة والنار للشيخ / عمر الأشقر (13 - 18) .
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/399)
هل في الجنة مطار وطائرات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ربما يبدو سؤالي طفوليّاً، إذا كان شخص يحب شيئاً في هذه الدنيا حبّاً عظيماً، فهل يحصل عليه في الجنة؟ كأن يحب الطائرات مثلاً، فهل يحصل عليها في الجنة؟ وهل يمكن أن يحصل على مطار أيضاً؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس هذا السؤال طفوليّاً، بل هو شرعي من عاقل يحسن السؤال ويبحث عن الفائدة وعما يزيد شوقه للجنة وعمله للوصول لها، وقد سأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو من جنس هذا السؤال.
فعن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من خيل؟ قال: إنِ اللهُ أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت، قال: وسأله رجل فقال يا رسول الله هل في الجنة من إبل؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه، قال: إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
رواه الترمذي (2543) ، والحديث حسَّنه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " (3 / 522) .
أما عن موضوع سؤالك المعين عمن يحب الطيران والطائرات فقد ورد في جنس هذا النعيم أحاديث صحيحة متنوعة.
فقد ثبت أن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة تسرح حيث شاءت رواه مسلم (2410) .
وثبت أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يطير في الجنة بجناحين إكراماً من الله عز وجل بدل يديه اللتين قطعتا في غزوة مؤتة.
فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيتُ جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة ".
رواه الترمذي (3763) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (3465) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سلم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
رواه البخاري (3506) .
والظاهر أن طيران الإنسان بنفسه أبلغ عند أكثر الناس من طيرانه بواسطة، وأن طيرانه بالخيل في الجنة كما في الحديث المذكور في أول السؤال أبلغ من الطيران بالطائرات، وقد جاءت آيات وأحاديث في أن للإنسان في الجنة من النعيم ما تشتهيه نفسه وأبلغ من ذلك.
كما في قوله الله تعالى: {يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} الزخرف / 71.
قال السعدي في تفسير هذه الآية:
" ما تشتهيه الأنفس " هذا اللفظ جامع يأتي على كل نعيم وفرح وقرة عين وسرور قلب ... على أكمل الوجوه وأفضلها.
وقوله تعالى: {جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين} النحل / 31.
وقوله صلى الله عليه وسلم: قال الله: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} .
رواه البخاري (3072) ومسلم (2824) .
فينبغي أن يقرر الإنسان في نفسه كمال الجنة المطلق وكمال سعادة أهلها.
أما الجزم بأن في الجنة طائرات ومطارات ونحو ذلك مما لم يرد إثباته في النصوص فهذا من علم الغيب الذي يحتاج إلى دليل.
ونقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك)
نسأل الله أن يعيننا وإياك للعمل بما يقودنا إلى النعيم المقيم في الجنة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/400)
هل يجامع الرجال في الجنة الحور العين
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجامع الرجال في الجنة الحور العين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فقد أعد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حتى إن أقل أهل الجنة نعيماً ليظن نفسه أنه أكثرهم نعيماً، كما جاء في حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ قِبَلَ الْجَنَّةِ وَمَثَّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلٍّ فَقَالَ أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلِّهَا.. ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَتَقُولانِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ قَالَ فَيَقُولُ مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ " رواه مسلم برقم 275.
وإن مما أعده الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين " الحور العين "، قال الله تعالى: (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) الدخان/54. وقال تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) الطور/20.
والحور العين في غاية الجمال حتى إن مخ ساقيها ليرى من تحت الثياب، وكل رجل يدخل الجنة له زوجتان من الحور العين، قال تعالى في وصفهن: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) الرحمن/70 - 76. وقال تعالى: (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) الواقعة/23.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لا تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلا تَحَاسُدَ، لِكُلِّ امْرِئٍ زَوْجَتَانِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ " رواه البخاري برقم 3014.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " رواه البخاري برقم 2587.
ويجامع الرجل في الجنة زوجاته من الحور وزوجاته من أهل الدنيا إذا دخلن معه الجنة، ويعطى الرجل قوة مائة رجل في المطعم والمشرب والشهوة والجماع، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْجِمَاعِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ " رواه الترمذي برقم 2459 وقال: صحيح غريب.
وعن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله قال: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ؟! قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جِلْدِهِ فَإِذَا بَطْنُهُ قَدْ ضَمُرَ " رواه أحمد برقم 18509، والدارمي برقم 2704.
وقال المفسرون في قوله تعالى: في شغل فاكهون:
قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) قالوا شغلهم افتضاض الأبكار وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه في شغل فاكهون أي بسماع الأوتار وقال أبو حاتم لعله غلط من المستمع وإنما هو افتضاض الأبكار (ابن كثير 3/ 564)
أما الولد، فقد اختلف أهل العلم هل يكون ولد من الجماع أم لا، فقال بعضهم إنه يكون الولد إذا اشتهاه الرجل، ويكون الحمل والوضع في ساعة، لما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ الُْؤْمِنَ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا اشْتَهَى " رواه الترمذي برقم 2487، والدارمي برقم 2712، وأحمد برقم 11339. وابن ماجه برقم 4329. والله تعالى أعلم.
نسأل الله أن يدخلنا الجنة ويباعد بيننا وبين النار، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/401)
حكم لعن المعين
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم لعن (وليس سب فقط) اليهود والنصارى أفرادا أو جماعات أحياءً كانوا أم أمواتا؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال صاحب لسان العرب: اللعن: الإبعاد والطرد من الخير، وقيل الطرد والإبعاد من الله، ومن الخَلْق السب والدعاء.
واللعن يقع على وجهين:
الأول: أن يلعن الكفار وأصحاب المعاصي على سبيل العموم، كما لو قال: لعن الله اليهود والنصارى. أو: لعنة الله على الكافرين والفاسقين والظالمين. أو: لعن الله شارب الخمر والسارق. فهذا اللعن جائز ولا بأس به. قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/203) : ويجوز لعن الكفار عامة اهـ.
الثاني: أن يكون اللعن على سبيل تعيين الشخص الملعون سواء كان كافراً أو فاسقاً، كما لو قال: لعنة الله على فلان ويذكره بعينه، فهذا على حالين:
1- أن يكون النص قد ورد بلعنه مثل إبليس، أو يكون النص قد ورد بموته على الكفر كفرعون وأبي لهب، وأبي جهل، فلعن هذا جائز.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/214) : ويجوز لعن من ورد النص بلعنه، ولا إثم عليه في تركه اهـ.
2- لعن الكافر أو الفاسق على سبيل التعيين ممن لم يرد النص بلعنه بعينه مثل: بائع الخمر – من ذبح لغير الله – من لعن والديه – من آوى محدثا - من غير منار الأرض – وغير ذلك.
" فهذا قد اختلف العلماء في جواز لعنه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز بحال.
الثاني: يجوز في الكافر دون الفاسق.
الثالث: يجوز مطلقا " اهـ
الآداب الشرعية لابن مفلح (1/303) .
واستدل من قال بعدم جواز لعنه بعدة أدلة، منها:
1- ما رواه البخاري (4070) عن عبد الله بن عمر أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا وَفُلانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) .
2- ما رواه البخاري (6780) عن عمر أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، قال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فو الله ما علمت، إلا أنه يحب الله ورسوله) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (6/511) :
" واللعنة تجوز مطلقا لمن لعنه الله ورسوله، وأما لعنة المعين فإن علم أنه مات كافرا جازت لعنته، وأما الفاسق المعين فلا تنبغي لعنته لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يلعن عبد الله بن حمار الذي كان يشرب الخمر، مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما، مع أن في لعنة المعين إذا كان فاسقا أو داعيا إلى بدعة نزاعاً " اهـ " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد" (1/226) :
" الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم؛ فالأول (لعن المعين) ممنوع، والثاني (لعن أهل المعاصي على سبيل العموم) جائز، فإذا رأيت محدثا، فلا تقل لعنك الله، بل قل: لعنة الله على من آوى محدثا، على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: (اللهم! العن فلانا وفلانا وفلانا) نهي عن ذلك بقوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) رواه البخاري" اهـ.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/402)
خلود أهل الجنة في الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا دخل أهل الجنة الجنة فإلى متى يكونون فيها؟ وهل سيأتي عليهم وقت يخرجون من الجنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إذا دخل أهل الجنة الجنة فهم فيها خالدون أبداً لا يخرجون منها، وكذلك أهل النار في النار خالدين فيها لا يخرجون منها.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة":
"أما الجنة فدار الجزاء يوم القيامة لمن آمن وعمل الصالحات، فيها من النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يتمتع بها من دخلها متاعاً حقيقياً حسياً وروحياً ويحيون فيها حياة أبدية، فلا فناء ولا خروج منها ولا انقطاع لنعيمها ولا نغص ولا كدر بالنصوص القطعية وإجماع أهل العلم والإيمان، قال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) . وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) . وقال تعالى: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) . وقال تعالى: (الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُون) . . .
وثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُنَادِي مُنَادٍ -يعني في أهل الجنة-: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأَسُوا أَبَدًا) رواه مسلم. وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ إلى أن قال: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ) رواه مسلم في صحيحه.
وأكد سبحانه خلود الجنة والنار وأبديتهما، وخلود المؤمنين في الجنة والكافرين في النار في آيات كثيرة من القرآن، وفصلت السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلاً لا يدع مجالاً للشك في حقيقته ولا لتأويل النصوص الصريحة فمن شكّ فيه أو تأوله فقد اتبع هواه وحرف الكلم عن مواضعه وكان من الكافرين" اهـ.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/403)
أسماء جهنم
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا أبحث عن أسماء لجهنم وقد وجدت بعضاً مثل: المحرقة والمحطمة والملتهبة ... هل هذه أسماء صحيحة؟ أرجو تزويدي بأسماء أخرى.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" نار جهنم لها أسماء متعددة، وهذا التعدد في الأسماء لاختلاف صفاتها. فتسمى الجحيم، وتسمى جهنم، ولظى، والسعير، وسقر، والحطمة، والهاوية بحسب اختلاف الصفات. والمسمى واحد، فكل ما صح في كتاب الله أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من أسمائها فإنه يجب على المؤمن أن يصدق به وأن يثبته "
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين للسلمان: 2/58
وقد سميت الجحيم لشدة تأجج نارها.
وسميت جهنم لبعد قعرها -كما في القاموس-
وسميت لظى لتلهبها.
وسميت السعير لأنها تُوقد وتهيج فهي فعيل بمعنى مفعول.
وسميت سقر وصقر لشدة حرها.
وسميت الحطمة لحطمها -أي كسرها وهشمها - كل ما يلقى فيها.
وسميت الهاوية لأنه يُهوى فيها من علو إلى سفل ... وهكذا
وذكر بعض أهل العلم من المفسرين وغيرهم أسماء أخرى غير هذه المذكورة
وذكر بعضهم أن هذه الأسماء المذكورة أسماء لدركات النار وطبقاتها، ثم قسم بعضهم الناس على هذه الطبقات، ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم - وإن كان انقسام الناس وتفاوتهم بحسب أعمالهم أمر ثابت بالنصوص الكثيرة -، كما لم يصح تسمية دركات النار على الوجه الذي ذكروه. والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها اسم على النار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء.
اليوم الآخر - الجنة والنار- للدكتور عمر الأشقر: 26.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/404)
معنى قول الله عز وجل: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك)
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو شرح معنى هذه الآية وبيان القول الراجح في تفسيرها، يقول الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله؟ وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
الآيتان ليستا منسوختين بل هما محكمتان، وقوله جل وعلا: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) اختلف أهل العلم في بيان معنى ذلك، مع إجماعهم بأن نعيم أهل الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها، ولهذا قال بعده سبحانه: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) لإزالة ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا، فهم خالدون فيها أبدا، وأن هذا العطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، ولهذا في الآيات الأخرى يبين هذا المعنى فيقول سبحانه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) فبين سبحانه أنهم آمنون - أي آمنون من الموت وآمنون من الخروج وآمنون من الأمراض والأحزان وكل كدر - ثم قال سبحانه وتعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) فبين سبحانه أنهم فيها دائمون لا يخرجون وقال عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعترضهم خوف ولا زوال نعمة وأنهم آمنون أيضا، فلا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج منها ولا حزن ولا غير ذلك من المكدرات، وأنهم لا يموتون أبدا، ومعنى ذلك أن أهل الجنة يخلدون فيها أبد الآباد.
وقوله: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) قال بعض أهل العلم معناه: مدة بقائهم بالقبور وإن كان المؤمن في روضة من رياضها ونعيم من نعيمها، لكن ذلك ليس هو الجنة، ولكن هو شيء من الجنة، فيفتح على المؤمن في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها، ثم يُنقل بعد ذلك إلى الجنة فوق السموات في أعلى شيء.
وقال بعضهم معنى: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) أي مدة مقامهم في موقف القيامة للحساب والجزاء بعد خروجهم من القبور ثم ينقلون بعد ذلك إلى الجنة. وقال بعضهم المراد جميع الأمرين مدة مقامهم في القبور ومدة مقامهم في الموقف ومرورهم على الصراط كل هذه الأوقات هم فيها ليسوا في الجنة لكن ينقلون منها إلى الجنة وقوله: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) يعني إلا وقت مقامهم في القبور، وإلا وقت مقامهم في الموقف وإلا وقت مرورهم على الصراط فهم في هذه الحالة ليسوا في الجنة ولكنهم منقولون إليها، وسائرون إليها، وبهذا يعلم أن الأمر واضح ليس فيه شبهة ولا شك ولا ريب فالحمد لله.
فأهل الجنة ينعمون فيها وهم خالدون أبد الآباد. لا موت ولا مرض، ولا خروج، ولا كدر، ولا حزن، ولا حيض، ولا نفاس، ولا شيء من الأذى أبدا، بل في نعيم دائم وخير دائم.
وهكذا أهل النار مخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها ولا تخرب أيضا هي بل تبقى وهم باقون فيها وقوله: (إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ) قيل مدة مقامهم في المقابر، أو مدة مقامهم في الموقف كما تقدم في أهل الجنة، وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد ونسأل الله العافية، وكما قال عز وجل في سورة البقرة: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِين مِنَ النَّارِ) وقال عز وجل في سورة المائدة في حق الكفرة: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) وقال بعض السلف إن النار لها أمد ولها نهاية بعد ما يمضي عليها آلاف السنين والأحقاب الكثيرة وأنهم يموتون أو يخرجون منها وهذا القول ليس بشيء عند جمهور أهل السنة والجماعة بل هو باطل ترده الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة كما تقدم وقد اتقر قول أهل السنة والجماعة إنها باقية أبد الآباد وأنهم لا يخرجون منها وأنها لا تخرب أيضا، بل هي باقية أبد الآباد في ظاهر القرآن الكريم وظاهر السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الأدلة على ذلك مع ما تقدم قوله سبحانه في شأن النار: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) وقوله سبحانه في سورة النبأ يخاطب أهل النار: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) نسأل الله السلامة والعافية منها ومن حال أهلها.
انظر مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز م/4 ص/361
ومن الآيات التي دلّت صراحة على خلود أهل النار خلوداً أبدياً:
1- قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) سورة النساء /169 2- قوله تعالى: (إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) سورة الجن / 23 3- إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) سورة الأحزاب. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/405)
النار لا تفنى ولا يفنى أهلها
[السُّؤَالُ]
ـ[توعد الله الكفار والملحدين بالنار (لابثين فيها أحقابا) فهل عذابهم في النار مستمر أبداً، إن كان كذلك فهل هذا يتعارض مع عدل الله ورحمته؟ أم أن عذابهم يستمر لإحقاب الله يعلمها، إن كان كذلك فما مصيرهم بعد ذلك؟ ولم يرد ذكرٌ لذلك في القرآن أو السنة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي عليه أهل السنة والجماعة أن النار لا تفنى ولا تبيد، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين، أما الكفرة والملحدون فهم فيها خالدون.
قال الإمام ابن حزم في كتابه " مراتب الإجماع ": (وأن النار حق، وأنها دار عذاب لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية) .
وقال في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل ": (اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوما من الروافض، فأما جهم فقال: إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما، وقال أبو الهذيل: إن الجنة والنار لا يفنيان، ولا يفنى أهلهما، إلا أن حركاتهم تفنى، ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون.
وقالت تلك الطائفة من الروافض: إن أهل الجنة يخرجون من الجنة، وكذلك أهل النار من النار إلى حيث شاء الله) [الفصل 4/145 ط. دار الجيل] .
وقال الطحاوي في عقيدته: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولاتبيدان) .
وقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة على تقرير هذا المعتقد، فمن ذلك قوله تعالى: (ولهم عذاب مقيم) المائدة/37، وقوله: (لا يُفَتَّر عنهم وهم فيه مبلسون) الزخرف/75، وقوله: (خالدين فيها أبدا) البينة/8، وقوله: (وما هم منها بمخرجين) الحجر/48، وقوله: (وما هم بخارجين من النار) البقرة/167، وقوله: (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) الأعراف/40، وقوله: (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور) فاطر/36.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت.
قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت.
فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) ". رواه مسلم (5087) من حديث أبي سعيد الخدري.
فهذا النص الصحيح الصريح لا يدع مجالا للشك في هذه الحقيقة، وهي أن أهل النار خالدون فيها لا يموتون ولا يخرجون، كما أن أهل الجنة في الجنة خالدون.
قال شارح الطحاوية: (وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان) انتهى من شرح الطحاوية ص 430 ط. المكتب الإسلامي.
وأما قوله تعالى عن أهل النار: (لابثين فيها أحقابا لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) النبأ/23-25، فالمراد كما قال القرطبي رحمه الله (أي ما كثين في النارما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكلما مضى حُقُب جاء حُقُب، والحقب بضمتين: الدهر، والأحقاب: الدهور، والحقبة، بالكسر: السنة، والجمع حِقب ... والحُقْب بالضم والسكون: ثمانون سنة، وقيل أكثر من ذلك على ما يأتي، والجمع: أحقاب. والمعنى في الآية: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها؛ فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه؛ إذ في الكلام ذكر الآخرة، وهو كما يقال: أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال: خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب ونحوه. وذكر الأحقاب لأن الحقُب كان أبعد شيء عندهم، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها، وهي كناية عن التأبيد، أي يمكثون فيها أبدا. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام لأن الأحقاب أهول في القلوب وأدل على الخلود، والمعنى متقارب.
وهذا الخلود في حق المشركين، ويمكن حمل الآية على العصاة الذي يخرجون من النار بعد أحقاب.
وقيل: الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب، ولهذا قال (لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) . انتهى من تفسير القرطبي رحمه الله.
وأما قوله تعالى: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) هود/106،107، فقد ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيرها أحد عشر قولا كلها تدل على خلود الكفار في النار وتأبيدهم فيها، ومن هذه الأقوال: (أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، وعلى هذا يكون قوله (فأما الذين شقوا) عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من (خالدين) ، وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحُممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون") . رواه البخاري (6896)
ومنها: (أن "إلا" بمعنى " سوى " كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلا زيد، ولي عليك ألا درهم إلا الألف التي لي عليك. فالمعنى: ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود) وقد تركنا ذكر بقية الأوجه اختصارا فراجعها فإنه نافعة جدا.
وبهذا يعلم أن ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع من خلود النار وأهلها، لم يعارضه نص صحيح صريح من كتاب الله ولا من سنة رسوله، ولا من آثار الصحابة والتابعين.
وبهذا يتم الجواب عن قولك: أم أن عذابهم يستمر لأحقاب الله يعلمها، إن كان كذلك فما مصيرهم بعد ذلك؟ ولم يرد ذكرٌ لذلك في القرآن أو السنة؟
فيقال: بل ورد ما ذكرنا لك من النصوص، وغيرها مما لم نذكره، ما يقرر معتقد أهل السنة في هذه المسألة، وكون النصوص لم تذكر شيئا عن مصيرهم بعد الأحقاب، يدل على ما ذكرنا من أنها أحقاب لا تتناهى، ولا تنقطع، أعاذنا الله وإياك من ذلك.
وليس فيما ذكر تعارض مع عدل الله ورحمته، بل هذا هو مقتضى عدله وحكمته، كما قال سبحانه: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالح غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) فاطر/36،37.
وقال جل وعلا: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن هم الظالمون. ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) الزخرف/74-78.
وقال سبحانه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. مالكم كيف تحكمون) القلم/34،35
وقال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون. وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) الجاثية/21،22
وقال: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس/4.
ومن تدبر هذه الآيات المباركات أيقن أن الله حكيم عليم رحيم لا يظلم الناس مثقال ذرة، وما ربك بظلام للعبيد.
وهو سبحانه (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) الأنبياء/23
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/406)
هل إذا مات الشخص قبل الأربعين يدخل الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد اكتشفت شيئا عن الإسلام لم أكن أعرفه من قبل. إذا مات شخص قبل أن يبلغ سن 40 عاما، وكان شخصا مستقيما في حياته (أو صاحب خلق) ويؤمن بعدة آلهة، فهل يمكن أن يدخل الجنة؟ لقد سمعت أنه يُغفَر لمن يُؤمن بغير الإسلام إذا مات قبل بلوغه سن تحمل المسؤولية (40 عاما) . فعلى سبيل المثال (JFK الإبن) مات وهو في 38 من عمره، فإذا كان شخصا متواضعا فهل يمكن أن يدخل الجنة؟ سأقدر إجابتك على هذا السؤال.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الكلام غير صحيح البتة، إذ أنَّ الإسلام منذ أن انبثق فجره ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي رسولاً إلى كافة الإنس والجن، قد أغلق جميع الطرق الموصلة إلى الجنة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم، فمن مات وهو يدعو مع الله إلهاً آخر سواء كان وثناً أو ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو حجراً أو شجراً أو قبراً أو جنياً أو ضريحَ ولي أو أحداً من آل بيت النبوة أو غيرهم كائناًً من كان بعدما أُقيمت عليه الحجة وأصر فإنه من أهل النار خالداً مخلداً فيها أبداً، لا يدخل الجنة أبداً، وإليك نصوص الكتاب والسنة المتواترة في بيان هذا الأمر: قال تعالى مبيناً أنه لن يقبل من أحد ديناً يدين به غير دين الإسلام الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال تعالى: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً) وقال جل شأنه (إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً) وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما أرسلتُ به إلا كان من أهل النار) وقد توعد الله تعالى الكفار في النار بالخلود الأبدي فيها في آيات من كتابه الكريم فقال تعالى في سورة النساء (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على الله يسيراً) وقال تعالى في سورة الأحزاب (إنَّ الله لعن الكافرين وأعدَّ لهم سعيراً خالدين فيها أبداً) وقال تعالى في سورة الجن (ومن يعص الله ورسوله فإنَّ له نار جهنم خالدين فيها أبداً) وقال تعالى في بيان حال المشركين به (ومن يشرك به فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) . وما أرسل الله الرسلَ وما أنزل الكتبَ إلا لتوحيده وإخلاص العبادة له وحده سبحانه لا شريك الله، وهذا الواجب على المرء الإيمان به قولاً وعملاً واعتقاداً إذ أنه هو وحده سبحانه المستحق للعبادة وعلى هذا يشير قوله تعالى (ذلك بأنَّ الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) ولقد تضافرت الآيات الكريمة على هذا المعنى كقوله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) وقوله تعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) ، ولقد اتفقت كلمة الرسل في الدعوة إلى هذا الأمر وتقريره، قال سبحانه وتعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) ، ولهذا فقد اشتد كفر العرب لما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وترك ونبذ كل الأنداد والوسطاء والشركاء والكفر بهم جميعاً، قال تعالى مخبراً عن حالهم (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا ألهتنا لشاعر مجنون، بل جاء بالحق وصدق المرسلين) ، وأخبر سبحانه وتعالى أن كل من عبد أو دعا مع الله إلهاً آخر فإنه سيحشره معه في نار جهنم، قال تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء ألةً ما وردوها وكل فيها خالدين، لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) . والخلاصة من هذا كله أن العبد إذا مات بعد البلوغ وهو مشرك كافر بالله يدعو مع الله إلهاً آخر ويؤمن بآلهة أخرى تنفع وتضر أو أن لها من الأمر شيئاً فإنه كافر من أهل النار خالداً مخلداً فيها أبداًً ولو كان دون سن 40 أو اكثر منها، إذا أن العبرة في الإسلام بالبلوغ فقط، ويحصل البلوغ بأحد ثلاثة أمور للذكر وتزيد عليه المرأة أمراً رابعاً، وهذا العلامات الثلاثة هي كما يلي:
1 - بلوغ سن خمسة عشر عاماً.
2 - إنبات شعر العانة (القبل) للرجل أو المرأة.
3 - نزول المني وخروجه بشهوة، سواء كان باحتلام أو جماع أو بأي وسيلة أخرى.
وتزيد المرأة بعلامة رابعة وهي: نزول دم الحيض منها.
فإذا وجدت أحد هذه العلامات حكم ببلوغ العبد، فيكون مكلفاً مأموراً بكل أمر، منهياً عن كل نهي، وليس معنى هذا أنه يجوز للطفل أو من لم يبلغ أن يشرك بالله أو أن يدعو غيره أو أن يدعو أحداً معه، إذ أنه لو فعل ذلك عُدَّ كفراً، لكنه إن مات على الكفر قبل البلوغ فهذا أمره إلى الله تعالى في الآخرة. وأما كونه كان طيباً أو متواضعاً أو كريماً أو باراً بوالديه أو نحو ذلك من صفات الخير فإن هذا لا ينفعه أبداً عند الله، وسيأخذ حقه معجلاً في الدنيا، لحديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنَّ عبد الله بن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويفك العاني ويكرم الضيف (وعددت بعض صفات الخير فيه لكنه كان مشركاً ومات على الشرك) فهل ينفعه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) يعني أنه كان كافراً لا يؤمن بالبعث والنشور والحساب فلم تنفعه أعماله التي كان يقوم بها، ومثله حاتم الطائي فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابنته سفانة: لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/407)
كم تكون أعمار أهل الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[كم تكون أعمار الناس في الجنة؟ وهل سيكبرون؟ أم سيبقون كما دخلوها أول مرة؟ ولماذا؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أعدَّ الله الجنة كرامة لأوليائه الذين أطاعوه في الدنيا، وصبروا على امتثال أمره واجتناب نهيه، وجعل فيها كل محبوب لهم كما قال سبحانه: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) الزخرف/71، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) البخاري 3244 مسلم 2824. وتبعا لهذا فنحن نؤمن أن حال من يدخل الجنة هو أكمل الحالات وأفضلها وأعلاها من كل الوجوه، سواء علمنا تفاصيل ذلك أم لم نعلم، وإن كان العلم بالتفاصيل في بعض الأحوال مما يزيد من همة المسلم ورغبته في فعل الخير.
ومن هذه الأحوال التي هي أكمل الأحوال أعمارُ أهل الجنة، وقد ورد فيها الحديث بأنهم يدخلونها "أبناء ثلاث وثلاثين" رواه الترمذي 2545 وحسنه الألباني في تخريج المشكاة 5634. قال ابن القيم رحمه الله عن هذا السن إن فيه من الحكمة ما لا يخفى فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذات، لأنه أكمل سن القوة. (حادي الأرواح ص 111) .
أما زيادة أعمارهم من عدمها فقد وردت أحاديث لا تَثْبُت فيها أنهم لا تزيد أعمارهم، والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم (لا يفنى شبابهم) رواه الترمذي 2539 وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2062، وأيّاً كان الحال فإن من المتقرر من القاعدة السابقة أنهم يكونون في أكمل حال، فهم باقون في سن الشباب دائماً وأبداً، نعيمهم يزيد ولا ينقص، وعيشهم يطيب ولا يُنَغًّص.
نسأل الله بمنِّه وكرمه ورحمته أن يجعلنا وإيَّاك وجميع المسلمين من أهل تلك الدار، وأن يعيننا على العمل بدينه ولدينه حتى نلقاه وهو راضٍ عنَّا، إنه أرحم الراحمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/408)
لماذا حرمت أشياء في الدنيا وهي في الجنة حلال
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسلمة أعيش في السويد ولدي سؤال من أحد النصارى وقد سألت الكثير وحاولت أن أجد الجواب في الكتب ولم أجد حلاً، والسؤال كان عن الحوريات، سمعت أن الرجل يجازى بعدة نساء في الجنة. لا أدري هل هذه المعلومات صحيحة ولكن إذا استطعت أن تعطيني بعض المعلومات عن هذا الموضوع فسأكون شاكرة.
السؤال المهم هو:لماذا الإسلام يشجع ويبشِّر بشيء في الجنة وهو محرّم في الدنيا؟
مثال: العلاقة بين الرجل مع النساء خارج إطار الزواج تعتبر حراما وإذا تجنب ذلك المسلم في هذه الدنيا فسوف يجازى بالحوريات في الجنة. أليس هذا عجيبا؟
مع الأسف فأنا أعرف القليل عن هذا الأمر ولا أدري من أين جاء هذا السؤال ولكنني متأكدة بأنه يوجد جواب منطقي لهذا السؤال وأرجو أن تساعدني في هذا الموضوع وشكرا لك.]ـ
[الْجَوَابُ]
لقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم الجنة وما أعد فيها وذكر صفتها وصفة أهلها في عدة مواضع من القرآن، منها:
قوله تعالى {فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة) الغاشية 12- 16
وقال {ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذوات أفنان فبأيّ آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان} الرحمن 46-52.
والآيات غيرها كثيرة في وصف الجنة، وقد وردت عدة آيات في وصف نساء الجنة فقال تعالى {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما كأنهن الياقوت والمرجان} الرحمن 56-58.
وقال {حور مقصورات في الخيام} الرحمن 72
وقال {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون} الواقعة - 22.
وقد صحت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة نساء الجنة وأنهن معدات يوم القيامة للمتقين فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء أضاءه لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء) صحيح الجامع - 2015.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون) صحيح الجامع - 3357 فهذه الأحاديث ذكرت فيها نساء الجنة اللواتي أعددن للرجال وقد سماهن الله عز وجل في كتابه بالحور، والحور جمع حوراء، قال القرطبي في الأحكام (17/122) ." هي شديدة البياض العين الشديدة سوادها) ، فنحن نؤمن بذلك إيمانا مطلقا لا يعتريه الشك والريب وهو من صلب عقيدتنا وللمزيد يُراجع صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة الجنة وصحيح مسلم أبواب صفة الجنة وكذلك كتاب صفة الجنة لأبي نعيم الاصفهاني في صفة نساء أهل الجنة وحسنهن.
أما السؤال عن أن الإسلام يشجع ويبشر بشيء في الجنة وهو محرم في الدنيا مثل علاقة الرجل مع النساء خارج إطار الزواج، فقبل الإجابة عليه يحسن أن ننبه على قضية خطيرة وهي أن الله عز وجل يحرّم ما يشاء في هذه الدنيا على أهلها فهو خالق هذه الأشياء ومليكها فلا يجوز لأحد أن يعترض على حكم الله عز وجل برأيه المنكوس وبفهمه المعكوس فلله الحكم والأمر من قبل ومن بعد لا معقب لحكمه جل وعلا.
أما مسألة تحريم الله عز وجل لأمور في الدنيا ثم يكافئ بها تاركها في الآخرة (مثل الخمر والزنا ولبس الحرير للرجال وهكذا) فإنّ هذا ما شاءه الله من ثواب من أطاعه وصَبَر وجاهد نفسه في الدّنيا وقد قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) .
وأمّا عن علل التحريم ففيما يلي بعض الوقفات المهمّة:
أولا: ليس بالضّرورة أن نعرف جميع علل التحريم فهناك علل قد لا نعرفها، والأصل الوقوف عند النصوص بالتسليم حتى ولو لم نعلم العلّة لأنّ التسليم هو مقتضى الإسلام المبني على الطّاعة التامّة لله تعالى.
ثانيا: قد تظهر لنا بعض علل التحريم مثل المفاسد المترتبة على الزنا كاختلاط الأنساب وشيوع الأمراض الفتّاكة وغير ذلك، فعندما منع الشرع العلاقات غير الشرعية أراد بذلك حفظ الأنساب والأعراض، والتي قد لا تعني شيئا عند الكفرة والفجرة، فهم يتسافدون تسافد الحمير؛ فالصديق يطأ صديقته والقريب يطأ قريبته وهكذا وكأنهم في غابة للحيوان بل إن بعض الحيوانات تأبى ذلك وهم لا يأبون ولا يكترثون فأصبح المجتمع جرّاء ذلك منحلا مفكك الروابط والأواصر، مليئا بالأمراض الجنسية الفتاكة والتي تدل على غضب الله على من ينتهك حرماته ويستبيح المحرمات.
وهذا كله خلاف العلاقة بين الرجل والحورية في الجنة - وهذا ما سألت عنه - فمن الملاحظ أن المرأة البغيّ في الدنيا تكون مشاعة العرض قليلة الدين والحياء، ولا تكون رتبطة بعلاقة شرعية ثابتة بشخص واحد بعقد صحيح، فيصبح الرجل يطأ من يشاء والمرأة يطؤها من يشاء دون وازع من دين أو أخلاق، أما الحوريات في الجنة فإنهن مقصورات على أزواجهنّ الذين جازاهم الله بهن لقاء صبرهم عن الحرام في الدنيا كما قال تعالى: " حور مقصورات في الخيام "، وقال عنهنّ: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) فهي زوجة له في الحقيقة كما قال تعالى: (وزوّجناهم بحور عين) ومقصورات عليه لا يُشاركه فيهن غيره.
ثالثا: أن الله عزّ وجلّ - الذي شرع للرجل في الدنيا أن لا يجتمع عنده في وقت واحد أكثر من أربعة نسوة - هو الذي ينعم على أهل الجنّة بما يشاء من الحور العين فلا تعارض بين التحريم في الدنيا والآخرة لأن أحكامهما تختلف على حسب ما يشاء الربّ سبحانه ولا شكّ أنّ الآخرة خير من الدنيا وأفضل وأبقى، قال تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) " آل عمران
رابعا: أن هذا التحريم قد يكون من باب الابتلاء من الله عز وجل للعباد هل يأتمرون بهذه الأوامر وينتهون عما نهى عنه، ولا يكون الابتلاء بشي لا تميل إليه النفس ولا تحبه، وإنما بما تميل إليه النّفوس وتتعلّق به وتنجذب إليه ومن ذلك الابتلاء بالمال: هل يأخذه العبد من حلّه ويضعه في حلّه ويؤدّي حقّ الله فيه، والابتلاء بالنساء هل يقتصر على ما أحلّه الله منهنّ ويغضّ طرْفه ويجتنب الاستمتاع بما حرّمه الله منهنّ، ومن رحمته عزّ وجلّ أنّه لم يحرّم شيئا تميل إليه النّفوس إلا وأحلّ من نوعه وجنسه أمورا كثيرة من الحلال.
خامسا: أنّ أحكام الدنيا ليست مثل أحكام الآخرة، فخمرة الدنيا تذهب العقل بخلاف خمرة الآخرة الطّيبة التي لا تُذْهب العقل ولا تسبّب صداعا في الرأس ولا مغصا في البطن، وما أعده للمؤمنين من نساء يوم القيامة جزاءا على طاعتهم ليس كالزنا والذي به تتهتك الأعراض وتختلط الأنساب وتنتشر الأمراض ويُعقب النّدم، ونساء الجنّة طاهرات طيّبات لا يمتن ولا يهرمن بخلاف نساء الدّنيا، قال الله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءا فجعلناهن أبكارا عربا أترابا) .
فنسأل الله أن يرزقنا من خيري الدنيا والآخرة وأن يرزقنا الطاعة لأوامره واليقين بثوابه ونيل أجره والأمن من عقابه، والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/409)
من الذي سيدخل الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[من يدخل الجنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد أخبرنا الذي خلق الجنة عن صفات الذين سيدخلون الجنة فقال الله عز وجلّ:
(ومَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) سورة غافر
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) الأحقاف
وقال: (إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) مريم
فمن أسلم لله وعمل بما أمر الله واجتنب ما حرّم الله دخل الجنّة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/410)
هل يوجد أحد بالجنة الآن
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك أحد في الجنة الآن (غير الأنبياء والملائكة) ؟ أم أننا جميعا ننتظر يوم القيامة قبل أن ندخل الجنة أو النار؟
سمعت أن بعض الناس رأوا الجنة أو أنهم في الجنة الآن أو أنهم ذهبوا للجنة ورأوا ما فيها وهم ليسوا أنبياء أو ملائكة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الجنة قد خلقها الله سبحانه وفرغ من خلقها لقوله سبحانه في الحديث القدسي: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت.. " الحديث. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم رآها في ليلة الإسراء والمعراج، ولغير ذلك من الأدلة.
وهل يدخلها أحد من البشر قبل يوم القيامة؟
الظاهر أن ذلك على نوعين:
1- دخوله بروحه كما هو حال الأموات، فهذا ثابت للأنبياء، والشهداء الذين تكون أرواحهم في حاصل طير خضر تسرح في الجنة. وكما هو الحال في الأحاديث التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أنه دخل الجنة في المنام (رؤيا النوم) ، فإنها في حالات الأرواح.
2- أما دخول الجنة بالجسد والروح فإنها تكون يوم القيامة للبشر وللجن. ويستثنى من هذا ما ذكر أن آدم عليه السلام كان في الجنة قبل أن ينزل إلى الارض، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله وغيره. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/411)
حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب
[السُّؤَالُ]
ـ[في صحيح البخاري ذكر الحديث أن 70,000 من الناس سيدخلون الجنة،
الثلاثة أجيال الأولى قد يصل عددهم إلى 70,000 فهل هناك تفسير آخر للحديث]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لعلّك أيها الأخ السائل تُشير إلى حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنّة بغير حساب والذي رواه الشيخان وأحمد وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو تأملت هذا الحديث سيزول - إن شاء الله - الإشكال الذي أوردته في سؤالك، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمْ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلامِ فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.. ". رواه البخاري 5270
فمقصود الحديث بيان أن هنالك فئة من هذه الأمة يدخلون الجنة من غير حساب لا أن عدد أهل الجنة من هذه الأمة سبعون ألفا، فهؤلاء السبعون ألفا المشار إليهم في الحديث هم في منزلة عالية من هذه الأمة لمزايا خاصة اختصوا بها ذكرت في الحديث: " هُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون "، وجاء ذكر السبب في دخولهم الجنّة بلا حساب ولا عذاب مصرّحا به في رواية أخرى للبخاري رحمه الله عن عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ أُمَّتِي قَالَ لا وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ قَالَ هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ وَهَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ قُلْتُ وَلِمَ قَالَ كَانُوا لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ. صحيح البخاري 6059، وجاء في وصفهم أيضا حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيَدْخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ (شكّ أحد رواة الحديث) لا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر" رواه البخاري وعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ" رواه البخاريُ، وفي وصفهم أيضا روى مسلم في صحيحه من حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وفيه: "ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لا يُحَاسَبُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ ".
ولنا جميعا معشر المسلمين بشارات نبوية في هذا الحديث وغيره فأمّا هذا الحديث فإنّ له رواية عظيمة وزيادة كريمة جاءت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة من حديث أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَعَدَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَثَلاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ" نسأل الله سبحانه ن يجعلنا منهم. فإذا حسبت سبعين ألفا مع كلّ ألف من السبعين ألفا فكم يكون العدد الإجمالي لمن يدخل الجنّة دون حساب؟؟ وكم عدد كلّ حثية من حثيات الرّب العظيم الكريم الرؤوف الرحيم؟؟ نسأل الله أن يجعلنا في تلك الأعداد.
وأما البشارة الثانية فهي أنّ عدد أهل الجنة من هذه الأمّة هو ثلثا العدد الإجمالي لأهل الجنة، فيدخل الجنة من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر ممن يدخلها من كلّ الأمم السابقة مجتمعين، وقد جاءت هذه البشارة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي قال فيه لأصحابه يوما: " أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ. " رواه البخاري 6047، ثم أكمل لنا صلى الله عليه وسلم البشارة في الحديث الصحيح الآخر الذي قال فيه: " أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ. " رواه الترمذي 3469 وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. فنحمد الله على نعمته ونسأله من فضله ورحمته، وأن يُسكننا الجنّة بحوله ومنّته، وصلى الله على نبينا محمد.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/412)
معنى الخلود في النار
[السُّؤَالُ]
ـ[قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية
أرجو من فضيلة الشيخ أن يذكر الجمع بين الآيتين الكريمتين؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -: " ليس هناك بحمد الله بينهما اختلاف، فالآية الأولى فيها بيانه سبحانه لعباده أن ما دون الشرك تحت مشيئته قد يغفره فضلا منه سبحانه، وقد يعاقب من مات على معصية بقدر معصيته لانتهاكه حرمات الله ولتعاطيه ما يوجب غضب الله، أما المشرك فإنه لا يغفر له بل له النار مخلدا فيها أبد الآباد إذا مات على ذلك - نعوذ بالله من ذلك - وأما الآية الثانية، ففيها الوعيد لمن قتل نفسا بغير حق وأنه يعذب وأن الله يغضب عليه بذلك، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
معنى ذلك: أن هذا هو جزاؤه إن جازاه سبحانه وهو مستحق لذلك وإن عفا سبحانه فهو أهل العفو وأهل المغفرة جل وعلا، وقد يعذب بما ذكر الله مدة من الزمن في النار ثم يخرجه الله من النار، وهذا الخلود خلود مؤقت، ليس كخلود الكفار، فإن الخلود خلودان: خلود دائم أبدا لا ينتهي، وهذا هو خلود الكفار في النار، كما قال الله سبحانه في شأنهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}
هكذا في سورة البقرة. وقال في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
أما العصاة: كقاتل النفس بغير حق والزاني والعاق لوالديه وآكل الربا وشارب المسكر وأشباههم إذا ماتوا على هذه المعاصي وهم مسلمون، هم تحت مشيئة الله كما قال سبحانه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فإن شاء جل وعلا عفا عنهم لأعمالهم الصالحة التي ماتوا عليها وهي توحيده وإخلاصهم لله وكونهم مسلمين أو بشفاعة الشفعاء فيهم مع توحيدهم وإخلاصهم.
وقد يعاقبهم سبحانه ولا يحصل لهم عفو فيعاقبون بإدخالهم النار وتعذيبهم فيها على قدر معاصيهم ثم يخرجون منها، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يشفع للعصاة من أمته، وأن الله يحد له حدا في ذلك عدة مرات، يشفع ويخرج جماعة بإذن الله ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع، ثم يعود فيشفع عليه الصلاة والسلام (أربع مرات) ، وهكذا الملائكة وهكذا المؤمنون وهكذا الأفراط كلهم يشفعون ويخرج الله سبحانه من النار بشفاعتهم من شاء سبحانه وتعالى ويبقي في النار بقية من العصاة من أهل التوحيد والإسلام فيخرجهم الرب سبحانه بفضله ورحمته بدون شفاعة أحد، ولا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار.
(والأفراط هم الأولاد الذي لم يبلغوا الحلم وماتوا قبل أبويهم)
وبهذا يعلم السائل الجمع بين الآيتين وما جاء في معناهما من النصوص وأن أحاديث الوعد بالجنة لمن مات على الإسلام على عمومها إلا من أراد الله تعذيبه بمعصيته فهو سبحانه الحكيم العدل في ذلك يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد جل وعلا.
ومنهم من لا يعذب فضلا من الله لأسباب كثيرة من أعمال صالحة ومن شفاعة الشفعاء، وفوق ذلك رحمته وفضله سبحانه وتعالى.
[الْمَصْدَرُ]
مجموع فتاوى ومقالات (9/380)
(1/413)
تريد أن تدعو بالزواج من رجل معين في الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[مجموعة من النساء في مجلس قالت إحداهن: أسأل الله أن يرزقني بأبي بكر في الجنة، وقالت الثانية: أسأل الله أن يرزقني بعمر وهكذا، فقالت إحداهن: هذا اعتداء في الدعاء، فأنكرن عليها وقلن أن الداخل يشتهي ما يشاء، فما التوضيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
عرضنا هذا السؤال على فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فأجاب حفظه الله:
هذا الدعاء فيه نوع من الاعتداء، وأبو بكر له زوجات وعمر له زوجات وعلي له زوجات، لكن تدعو الله فتقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
(1/414)
هل يتذكّر أهل الجنّة ما كان في الدّنيا
[السُّؤَالُ]
ـ[هل أهل الجنة سيتذكرون ما كانوا عليه في الدنيا؟ وهل يشتهون أشياء مثل التي يشتهونها في الدنيا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أهل الجنة يتذكرون ما كانوا عليه في الدنيا وقد وردت أدلة في القرآن تدل على ذلك منها ما جاء في سورة الطور: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبلُ في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) .
وكذلك تذكّرهم لأهل الشر الذي كانوا يشككون أهل الإيمان، ويدعونهم إلى الكفر، قال تعالى في سورة الصافات: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قال قائل منهم إني كان لي قرين، يقول أئنك لمن المصدقين، أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون) الآيات
ويتذكرون أيام الدنيا، وما لاقوا فيها من ابتلاء ومحن في أنفسهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم، فيقولون مسرورين: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إنا ربنا لغفور شكور) .
ثم تثور ذكريات الماضي " في الدنيا " عندما يرون فاكهة تشابه الفاكهة التي كانوا يأكلونها في الدنيا، ولكن تختلف عنها في الحجم والطعم، (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً) .
ويتذكرون دعاءهم في أوقات الضيق، وأكفهم المرفوعة إلى السماء طالبة القبول لأعمالهم، والتوفيق للعمل الصالح، وأن يكونوا من ورثة النعيم كما قال عزّ وجلّ: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) .
أما مسألة أن يشتهوا مثل نعيم الأرض فإنّه سيشتهون فوق ذلك بكثير لأنّ أدنى أهل الجنة منزلة له أكثر من عشرة أمثال نعيم الدنيا كما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ حَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلاَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا أَوْ إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَقُولُ أَتَسْخَرُ بِي أَوْ أَتَضْحَكُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَكَانَ يُقَالُ ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً. " متفق عليه وهذه رواية مسلم رقم 272
وكلّ ما يشتهيه أهل الجنّة يحصلون عليه كما قال عزّ وجلّ: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) سورة الزخرف
وقد وردت أحاديث في تلبية رغبة بعض أهل الجنّة في الولد والزرع وأنّ ذلك لا يحتاج إلى انتظار.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ (وهذا إخبار عن المستقبل بصيغة الماضي لبيان أنّ الوقوع متحقّق) فَقَالَ لَهُ أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ (أي سبق لمح البصر) نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ فَقَالَ الاَعْرَابِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تَجِدُ هَذَا إِلا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري 6965
قال ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفوائد أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا ممكن فيها. فتح الباري
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي. " رواه الترمذي 2487 قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وهو في صحيح الجامع 6649
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة بكرمه ورحمته والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/415)
هل تجتمع المرأة بزوجها في الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ستكون المرأة مع زوجها في الجنة؟ هل سيكون لهما الخيار بأن يبقيا سوياً؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. نعم، تكون المرأة مع زوجها في الجنة، بل ومع ذريتها من البنين والبنات إذا كانوا من أهل الإسلام، ويدل على هذا قول الله تعالى {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ... } [الطور21] ، ومن دعاء الملائكة حملة العرش { ... ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومَن صلح مِن آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم} [غافر 8] .
قال ابن كثير رحمه الله: أي: اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة كما قال تبارك وتعالى {والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} ، أي: ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني بل رفعنا ناقص العمل، فساويناه بكثير العمل تفضلا منا ومنة، وقال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم فيقال إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة. أ. هـ
" تفسير ابن كثير " (4 / 73) .
2. ولا نظن بمن كتب الله لهم دخول الجنة ونزع منهم الغل أن يختارا الفراق على اللقاء.
3. وإذا لم تتزوج في الدنيا فإن الله تعالى يزوجها ما تقر به عينها في الجنَّة، فالنعيم ليس مقصوراً على الذكور، وإنما هو للذكور والإناث، ومن جملة النعيم: الزواج. أ. هـ " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (2 / 53) . وليس في الجنة أعزب
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/416)
هل سيدخل إبليس النار ولماذا
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يعاقب الكافر الذي لا يؤمن بوجود الله أشد عقوبة من الشيطان نفسه؟
إبليس يؤمن بالله فهل هناك آية في القرآن تدل على أن إبليس سيدخل النار؟ لماذا عصى الله الشيطان مادام يعلم بأن الله هو القوي العظيم؟
إذا شاء الله أن يعصيه إبليس فهل سيبقى في النار للأبد؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما موضوع العقوبات فمرجعها إلى الله سبحانه ولا نعلم عنها إلا ما علّمنا، والكفار والمشركون مجرمون كِبار جزاؤهم جهنم خالدين فيها هم وإبليس لعنه الله وسنذكر لك أيها السائل آيات من كتاب الله تدلّ على ذلك وتبيّن لماذا كفر إبليس ومصيره هو ومن اتّبعه قال الله تعالى:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
أما إبليس فقد عصى ربه وكَفَر كفْر الإباء والاستكبار واستكبر أن يسجد لآدم وهذا يدل على عظم خطر العجب بالنفس والكبر فنسأل الله العفو والعافية.
ولا ينفع إبليس إيمانه بوجود الله وإثباته صفة العزّة لله وحَلِفه بذلك لأنّه نقض إيمانه بكفر الإباء والاستكبار وتعالى على الله واستكبر أن ينفّذ أمره.
وقد خلق الله إبليس لحِكَم يريدها عزّ وجلّ وليكون امتحانا وابتلاء للعباد فمن أطاع الله وعصى إبليس دخل الجنة ومن عصى الله واتّبع إبليس دخل النار، وليس خلق الله لإبليس دالا على رضى الربّ عزّ وجلّ عما يفعله إبليس، معاذ الله، ولكنّها حكم ربّ العالمين والله لا يرضى الكفر ولا المعصية قال عزّ وجلّ {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى …الآية (الزمر:7)
والشاهد من الآية قوله (ولا يرضى لعباده الكفر) ومشيئة الله نوعان: شرعية وهي التي شاءها وأحبّها ومن ذلك ما شرعه لعباده، ومشيئة كونية: وهي التي شاء أن تقع - لحِكَم يريدها عزّ وجلّ - ولا يشترط أنه يحبّ ما يقع.
والحمد لله على هدايته وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/417)
المرأة التي تزوجت بأكثر من زوج لأيهم تكون في الجنة
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا ماتت المرأة، وقد تزوجت في حياتها بأكثر من زوج، فمع مَن تكون في الجنَّة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:
الأول: أنها تكون مع أحسنهم خلقاً كان معها في الدنيا.
والثاني: أنها تُخيَّر بينهم.
والثالث: أنها لآخر أزواجها.
وأقرب هذه الأقوال وأصحّها هو القول الثالث وفيه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة تُوفي عنها زوجها، فتزوجت بعده، فهي لآخر أزواجها " صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع 2704 وفي السلسلة الصحيحة 1281.
هذا على وجه الإجمال، أما على وجه التفصيل فأدلّة الأقوال كما يلي:
دليل القول الأول:
قال القرطبي:
وذكر أبو بكر بن النجاد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا عبيد بن إسحاق العطار حدثنا سنان بن هارون عن حميد عن أنس: أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، المرأة يكون لها الزوجان في الدنيا، ثم يموتون ويجتمعون في الجنة، لأيهما تكون؟ للأول أو للآخر؟
قال: لأحسنهما خلقا كان معها يا أم حبيبة، ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة ".
" التذكرة في أحوال الموتى والآخرة " (2 / 278) .
قلت: والحديث ضعيف جدّاً، وفيه علتان: عبيد بن إسحاق العطار، وسنان بن هارون.
أما الأول: فضعيف جدّاً، وأمَّا الثاني: فضعيف.
= أقوال الأئمة:
عن يحيى بن معين أنه قال: عبيد بن إسحاق العطار: لا شيء.
وقال أبو حاتم الرازي: ما رأينا إلا خيراً! وما كان بذاك الثبت، في حديثه بعض الإنكار.
" الجرح والتعديل " (5 / 401) .
وفي " الضعفاء والمتروكين " للنسائي (ص 72) : متروك الحديث.
وقال الذهبي: ضعفه يحيى، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال الأزدي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف، وأما أبو حاتم فرضيَه! وقال ابن عدي: عامَّة حديثه منكر.
" ميزان الاعتدال " (5 / 24) .
وذكر ابن عدي في " الكامل " (5 / 347) هذا الحديث من جملة منكراته، وقال:
وعامة ما يرويه إما أن يكون منكر الإسناد أو منكر المتن.
= وأما سنان بن هارون:
قال ابن حبان:
منكر الحديث جدّاً، يروي المناكير عن المشاهير ...
عن يحيى بن معين: قال سنان بن هارون البرجمي ليس حديثه بشيء.
" المجروحين " (1 / 354) .
وذكره العقيلي في " الضعفاء " (2 / 171) ، وذكر له هذا الحديث.
= وعليه: فالحديث لا يصح الاستدلال به، وهو ضعيف جدّاً، فسقط هذا القول.
= = القول الثاني:
وهو أنها تُخيَّر بين أزواجها.
ولم أر لمن قال هذا القول أيَّ دليل.
وفي " التذكرة في أحوال الموتى والآخرة " (2 / 278) : ذكر المسألة، وقال بعدها: وقيل: إنها تخير إذا كانت ذات زوج.أ. هـ
وقال العجلوني:........ وقيل لأحسنهم خلقاً! وقيل: تخير.
" كشف الخفاء " 2 / 392.
وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين حفظه الله كما في فتاواه (2 / 53) .
= = = وأما القول الثالث:
فلهم عليه عدة أدلة:
أ. قال الإمام الطبراني:
3130 حدثنا بكر قال نا محمد بن أبي السري العسقلاني قال نا الوليد بن مسلم قال نا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن عطية بن قيس الكلاعي قال خطب معاوية بن أبى سفيان أم الدرداء بعد وفاة أبي الدرداء فقالت أم الدرداء إني سمعت أبا الدرداء يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما امرأة توفي عنها زوجها فتزوجت بعده فهي لآخر أزواجها وما كنت لأختارك على أبي الدرداء فكتب إليها معاوية فعليك بالصوم فإنه محسمة.
" المعجم الأوسط " (3 / 275) .
قلت: والحديث فيه علتان: ضعف أبي بكر بن أبي مريم، وعدم تصريح الوليد بن مسلم بالتحديث في باقي السند.
أقوال العلماء:
قال ابن حبان:
ولقد كان أبو بكر بن أبي مريم من خير أهل الشام ولكنه كان رديء الحفظ يحدث بالشيء ويهم فيه لم يفحش ذلك منه حتى استحق الترك ولا سلك سنن الثقات حتى صار يحتج به فهو عندي ساقط الاحتجاج به إذا انفرد.
" المجروحين " (3 / 146) .
وأما تدليس الوليد بن مسلم فمشهور، وهو يدلس تدليس التسوية، وهو إسقاط ضعيف بين ثقتين، لذا اشترط العلماء على أهل هذا الصنف التصريح بالتحديث في كل طبقات السند بعد رويته.
وانظر: " التبيين لأسماء المدلسين " لسبط ابن العجمي (ص 235) ، و " طبقات المدلسين " للحافظ ابن حجر (ص 51) .
ب. قال الإمام أبو الشيخ الأصبهاني:
حدثنا أحمد بن إسحاق الجوهري قال ثنا إسماعيل بن زرارة قال ثنا أبو المليح الرقي عن ميمون بن مهران عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن المرأة لآخر أزواجها.
" طبقات المحدثين بأصبهان " (4 / 36) .
قلت: ورجال الحديث ثقات مشهورون، إلا أحمد بن إسحق الجوهري لم أجد له ترجمة إلا أن أبا الشيخ نفسه جعل هذا الحديث من (حسان حديثه) .
فإن كان كذلك فهو أنظف إسناد في المسألة، والله أعلم.
ج. قال الخطيب البغدادي:
4803 سمرة بن حجر أبو حجر الخراساني نزل الأنبار وحدث بها عن حمزة بن أبي حمزة النصيبي وعمار بن عطاء الخراساني والربيع بن بدر روى عنه إسحاق بن بهلول التنوخي أخبرنا علي بن أبي علي حدثنا أبو غانم محمد بن يوسف الأزرق حدثنا أبي قال حدثنا جدي حدثنا سمرة بن حجر أبو حجر الخراساني عن حمزة النصيبي عن بن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرأة لآخر أزواجها ".
" تاريخ بغداد " (9 / 228) .
قلت: والحديث ضعيف جدّاً، فيه: حمزة النصيبي وهو ضعيف جدّاً.
أقوال العلماء:
- قال الإمام النسائي:
متروك الحديث.
" الضعفاء والمتروكين " (ص 39) .
- وقال ابن الجوزي:
قال أحمد: مطروح الحديث، وقال يحيى: ليس بشيء ليس يساوي فلساً، وقال البخاري والرازي: منكر الحديث، وقال النسائي والدارقطني متروك الحديث، وقال ابن عدي: يضع الحديث، وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات حتى كأنه المتعمد لها، لا تحل الرواية عنه.
" الضعفاء والمتروكين " لابن الجوزي (1 / 237) .
د. قال البيهقي:
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا يحيى بن أبي طالب أنبأ إسحاق بن أبي طالب أنبأ إسحاق بن منصور ثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن أبي إسحاق عن صلة عن حذيفة رضي الله عنه ثم أنه قال لامرأته إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم الله على أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة.
" السنن " (7 / 69) .
قلت: فيه: أبو إسحاق السبيعي: وهو مدلس وقد اختلط، فالأثر ضعيف.
أقوال العلماء:
انظر: " من رمي بالاختلاط " للطرابلسي (ص 64) و " طبقات المدلسين " لابن حجر (ص 42) .
وقد ضعفه به العلامة الشيخ الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " (1281) .
هـ. أثر يرويه ابن عساكر (19 / 193 / 1) عن عكرمة:
أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديداً عليها، فأتت أباها فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تَزوَّج بعده: جُمع بينهما في الجنة.
قال الشيخ الألباني رحمه الله:
ورجاله ثقات إلا أن فيه إرسالا لأن عكرمة لم يدرك أبا بكر، إلا أن يكون تلقاه عن أسماء بنت أبي بكر، والله أعلم. " السلسلة الصحيحة " (3 / 276) .
= والخلاصة:
- أن القول بأن المرأة مع أحسنهم أخلاقاً كان معها في الدنيا: مما لم يصح فيه دليل.
- وأن القول بأنها تختار من تشاء منهم: لا دليل عليه البتة.
- وأن القول بأنها مع آخر أزواجها هو القول الأقرب للصواب، وذلك لاحتمال حُسن حديث أم الدرداء مرفوعاً، وهو مؤيد بأثري حذيفة وأسماء الموقوفيْن، واللذان يصلحان لتقوية المرفوع، ولبيان أن للقول أصلاً معتبراً.
والحديث صححه العلامة الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1281) .
- وهو على كل حال أحبُّ إلينا من الرأي.
والله أعلم.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/418)
ينزل عيسى عليه السلام آخر الزمان حاكما بالشريعة المحمدية
[السُّؤَالُ]
ـ[ي هو ناتج عن مناظرة لي مع قادياني قال فيها أن النبي محمدا (صلى الله عليه وسلم) كان خاتم النبيين فبأي معنى يأتي عيسى عليه السلام بعد ذلك وهل سيأتي كنبي أم خليفة؟ أرجو الجواب من فضلك]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
قد تواترت الأدلة الشرعية، من نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة في كل عصر ومصر، على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين، ومن ادعى النبوة بعده فهو كذاب دجال.
قال الله عز وجل: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب / 40
قال ابن كثير رحمه الله:
" أخبر تعالى في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه: أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل مَنِ ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك، دجال ضال مضل، ولو تخرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى الله، سبحانه وتعالى على يد الأسود العَنْسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما علم كل ذي لب وفهم وحِجى أنهما كاذبان ضالان، لعنهما الله.
وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال.
" انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/430-431)
وروى البخاري (3455) ومسلم (1842) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) .
وروى مسلم (523) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ) .
وروى الترمذي (2272) وصححه عن أنس بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدْ انْقَطَعَتْ، فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ) .
صححه الألباني في "صحيح الترمذي"، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
ثانيا:
دلت الأدلة الصحيحة أيضا على نزول عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان، وأنه ينزل حاكما بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، متبعا له، لا ينزل برسالة مستقلة، وشريعة جديدة.
روى البخاري (2222) ومسلم (155) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) .
قال العراقي رحمه الله:
" الْمُرَادُ أَنَّهُ يَنْزِلُ حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ لَا نَبِيًّا بِرِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَشَرِيعَةٍ نَاسِخَةٍ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُنْسَخُ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بَلْ هُوَ حَاكِمٌ مِنْ حُكَّامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ " انتهى.
"طرح التثريب" (8/ 117)
وروى مسلم (156) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لَا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ) .
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ) متفق عليه.
قال الحافظ رحمه الله:
" قَالَ أَبُو الْحَسَن الْآبِريّ فِي مَنَاقِب الشَّافِعِيّ: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بِأَنَّ الْمَهْدِيّ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَأَنَّ عِيسَى يُصَلِّي خَلْفه. وَقَالَ أَبُو ذَرّ الْهَرَوِيُّ: حَدَّثَنَا الْجَوْزَقِيّ عَنْ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: مَعْنَى قَوْله: " وَإِمَامكُمْ مِنْكُمْ " يَعْنِي أَنَّهُ يَحْكُم بِالْقُرْآنِ لَا بِالْإِنْجِيلِ. وَقَالَ اِبْن التِّين: مَعْنَى قَوْله: " وَإِمَامكُمْ مِنْكُمْ " أَنَّ الشَّرِيعَة الْمُحَمَّدِيَّة مُتَّصِلَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَأَنَّ فِي كُلّ قَرْن طَائِفَة مِنْ أَهْل الْعِلْم.
وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ: لَوْ تَقَدَّمَ عِيسَى إِمَامًا لَوَقَعَ فِي النَّفْس إِشْكَال، وَلَقِيلَ: أَتُرَاهُ تَقَدَّمَ نَائِبًا أَوْ مُبْتَدِئًا شَرْعًا , فَصَلَّى مَأْمُومًا لِئَلَّا يَتَدَنَّس بِغُبَارِ الشُّبْهَة وَجْه قَوْله: " لَا نَبِيّ بَعْدِي "
انتهى مختصرا.
وقال علماء اللجنة الدائمة:
" دلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان، وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن إمام هذه الأمة ـ في الصلاة وغيرها، أيام نزول عيسى ـ من هذه الأمة، وعلى ذلك لا تكون هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
؛ حيث لم يأت عيسى برسالة جديدة، ولله الحكم أولا وآخرا، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقب لحكمه، وهو العزيز الحكيم " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (3 / 301-302)
وقال علماء اللجنة أيضا:
" ورد في القرآن نصوص في رفع عيسى ابن مريم حيا إلى السماء، ونزوله نبيا رسولا؛ وذلك امتدادا لنبوته ورسالته قبل رفعه، لكن لا يدعو إلى شريعته، بل يدعو إلى أصول الإسلام التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون جميعا، وإلى الفروع التي جاء بها خاتم
الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، فليست نبوة ورسالة جديدة حتى تتنافى مع ختم النبوات برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (3 / 328-329)
ثالثا:
ينبغي أن يعلم أن هذه الفرقة – القاديانية – فرقة ضالة خبيثة، قد جرت خطوط العلماء بتكفير من ينتسب إليها؛ لما هم عليه من الكفر والضلال المبين، حيث يؤمنون بنبوة إمامهم الضال غلام أحمد القادياني، الذي ادعى النبوة، وادعى نسخ الجهاد في سبيل الله خدمة للاستعمار، وألغى الحج إلى مكة، وحوله إلى قاديان، التي عندهم أفضل من مكة والمدينة.
كما يدعون في إمامهم الدجال الضال أنه ابن الله، ويؤمنون بعقيدة التناسخ والحلول، ويشبهون الله تعالى بالبشر.. إلى آخر ما يدينون به من الكفر، ويؤمنون به من الضلال.
راجع لمعرفة حقيقة أمرهم وما هم عليه من الكفر إجابة السؤال رقم: (4060) .
والذي ننصح به: ألا يشتغل بالمناظرة معهم، أو مع غيرهم من أهل البدع والضلال، إلا من كانت عنده الأهلية لذلك، من تمكنه في العلم الشرعي، ومعرفته بحقيقة مذهب القوم وضلالهم، وما قاله أهل العلم فيهم وفي ضلالاتهم.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/419)
تفسير حديث يقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ابن خليفة
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو فهمكم وتفسيركم للحديث التالي حول المهدي، والوارد في موقع الدرر السنية - الموسوعة الحديثية: (يقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة، كلهم ابن خليفة، ثم لا يصل إلى واحد منهم، ثم تقبل الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم - ثم ذكر شيئا - فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي) الراوي: ثوبان مولى رسول الله المحدث: البزار - المصدر: البحر الزخار - الصفحة أو الرقم: 10/100. خلاصة الدرجة: إسناده صحيح. أرجو توضيح: ما هو الكنز؟ من هم الثلاثة؟ من هو الخليفة؟ هل زمن حدوث ذلك قريب أم بعيد؟ من هم أصحاب الرايات السود؟ هل هم مجوس الفرس في إيران؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الإيمان بخروج المهديّ من عقيدة أهل السنّة والجماعة، وقد تواترت الأحاديث تواترا معنويّاً بذلك؛ ولذلك أورد العلامة الكتاني رحمه في ضمن ما جمعه من الأحاديث المتواترة، ونقل الحكم بتواتره عن غير واحد من أهل العلم، كأبي الحسين الآبري، صاحب كتاب مناقب الشافعي، والحافظ السخاوي، وغيرهما. ينظر: "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" (236-240) .
وفي فتاوى اللجنة الدائمة (3 / 141) : (الأحاديث التي دلّت على خروج المهدي كثيرة، وردت من طرق متعدّدة، ورواها عدد من أئمّة الحديث، وذكر جماعة من أهل العلم أنّها متواترة معنويًّا منهم: أبو الحسين الآبريّ من علماء المائة الرّابعة، والعلامة السّفارينيّ في كتابه [لوامع الأنوار البهية] ، والعلامة الشّوكانيّ في رسالة سمّاها [التوضيح في تواتر أحاديث المهديّ والدّجّال والمسيح] ) .
وليس المقصود من هذا المهديّ ما يزعمه الرافضة: أنّه موجود الآن، وينتظرون خروجه من سرداب سامراء؛ إذ ذاك نوع من الهذيان، وهوس شديد من الشّيطان؛ حيث لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة ولا معقول صحيح.
ثانيا:
جاء هذا الحديث من رواية الصحابي الجليل ثوبان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ ثَلَاثَةٌ، كُلُّهُمْ ابْنُ خَلِيفَةٍ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَيَقْتُلُونَكُمْ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْهُ قَوْمٌ - ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا لَا أَحْفَظُهُ - فَقَالَ: فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ، فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ)
رواه ابن ماجه في " السنن " (رقم/4084) ، والبزار في " المسند " (2/120) ، والروياني (رقم/619) ، والحاكم في " المستدرك " (4/510) ، ومن طريقه البيهقي في " دلائل النبوة " (6/515)
رووه من طريق سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان به مرفوعا.
ورواه الحاكم والبيهقي أيضا – بعد الرواية السابقة - من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، به موقوفا من كلام ثوبان.
وقد اختلف أهل العلم في الحكم على هذا الحديث، على قولين:
القول الأول: تصحيح الحديث.
قال البزار رحمه الله:
" وهذا الحديث قد روى نحو كلامه من غير هذا الوجه بهذا اللفظ، وهذا اللفظ لا نعلمه إلا في هذا الحديث، وإن كان قد روي أكثر معنى هذا الحديث، فإنا اخترنا هذا الحديث لصحته، وجلالة ثوبان، وإسناده إسناد صحيح " انتهى.
وقال الحاكم رحمه الله:
" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين " انتهى. ولم يتعقبه الذهبي في تلخيصه.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" وهذا إسناد قوي صحيح " انتهى.
" النهاية في الفتن والملاحم " (ص/17) ، وقد اختلف حكم ابن كثير على الحديث، فرجح في " البداية والنهاية " وقفه كما سيأتي.
وصححه القرطبي في " التذكرة " (ص/1201) ، والبوصيري في " مصباح الزجاجة " (3/263) ، وصححه الشيخ حمود التويجري رحمه الله في كتابه " إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة " (2/187)
القول الثاني: تضعيف الحديث.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
" حدثني أبي قال: قيل لابن علية في هذا الحديث؟ فقال: كان خالد يرويه فلم يُلتَفَت إليه، ضعَّفَ ابنُ علية أمره، يعني: حديث خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرايات " انتهى.
" العلل " (2/325)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" رواه بعضهم عن ثوبان فوقفه، وهو أشبه، والله أعلم. " انتهى.
" البداية والنهاية " (10/55)
وقال الذهبي رحمه الله:
" أحمد في مسنده، حدثنا وكيع، عن شريك، عن علي بن زيد، عن أبي قلابة، عن ثوبان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج، فإن فيها خليفة المهدي)
قلت – أي: الذهبي -: أراه منكرا، وقد رواه الثوري، وعبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، فقال: عن أسماء، عن ثوبان " انتهى.
" ميزان الاعتدال " (3/128) .
كما أعله الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في " تفسير المنار " (9/419-421) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
" منكر ... وقد ذهل من صححه عن علته، وهي عنعنة أبي قلابة، فإنه من المدلسين كما تقدم نقْلُه عن الذهبي وغيره، ولعله لذلك ضعف الحديث ابنُ علية من طريق خالد، كما حكاه عنه أحمد في " العلل " (1 / 356) وأقره، لكن الحديث صحيح المعنى، دون قوله: فإن فيها خليفة الله المهدي " انتهى باختصار.
" السلسلة الضعيفة " (رقم/85)
ثالثا:
وقع الخلاف أيضا في تفسير المراد بالكنز في هذا الحديث، فمِن قائل إنه كنز الكعبة، ومِن قائل إنه الكنز الذي يحسر نهر الفرات عنه كما أخبرت عنه الأحاديث الصحيحة.
قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله:
" قال ابن كثير في " النهاية ": " والظاهر أن المراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة "
قلت – أي الشيخ التويجري -: وفي هذا نظر؛ لما تقدم في باب النهي عن تهييج الترك والحبشة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتركوا الحبشة ما تركوكم؛ فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة) رواه أبو داود، والحاكم، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي في " تلخيصه. وقد رواه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف. وإسناده جيد.
والأقرب في الكنز المذكور في حديث ثوبان رضي الله عنه: أنه الكنز الذي يحسر عنه الفرات، وقد يكون غيره. والله أعلم " انتهى.
" إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة " (2/187) .
وهذا القول الثاني في تفسير الكنز، قد ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله احتمالا، فقال:
" فهذا إن كان المراد بالكنز فيه الكنز الذي في حديث الباب ـ يعني الحديث الذي ذكر انحسار الفرات عن جبل من ذهب ـ، دل على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي، وذلك قبل نزول عيسى وقبل خروج النار جزما ". فتح الباري (13/81) .
رابعا:
لم نقف على من نصّ على المقصود من الثلاثة والخليفة في الحديث كما أنه لم يرد في شيء من الأحاديث الصحيحة النص على زمان خروج المهدي. لكنّ النّصوص تدلّ على عودة الخلافة الإسلاميّة قبل قيام الساعة، كقوله – صلّى الله عليه وسلّم -: " يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ ".
أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن حوالة الأزديّ - رضي الله عنه - برقم (2535) ، وأحمد في المسند (5/288) ، والحاكم في المستدرك (4/471) ، وصحّحه، ووافقه الذّهبيّ، وصحّحه الألبانيّ في صحيح سنن أبي داود برقم (2535 (
ولعلّه أن يكون أحد هؤلاء الخلفاء الذين يظهرون في وقتهم المهديّ.
ينظر: المهديّ وفقه أشراط السّاعة للدكتور محمّد إسماعيل المقدّم (ص728) وما بعدها.
وينظر أيضا: فتاوى اللجنة الدائمة (3/140) في الفتوى رقم (1615) . وجواب السؤال رقم (3259 (.
خامسا:
أصحاب الرايات السود ليسوا هم مجوس الفرس في إيران، بل الذي يدل عليه ظاهر الحديث أنهم أناس من أهل المشرق ينصرون المهديّ، ويقيمون سلطانه، ويشدّون أركانه، وتكون راياتهم سوداء. وهذا كله إذا قدر أن الحديث في ذكرهم ثابت محفوظ.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" وهذه الرايات السود ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، بل رايات سود أخر تأتي بصحبة المهدي، وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه، يصلحه الله في ليلة؛ أي: يتوب عليه ويوفقه ويفهمه ويرشده، بعد أن لم يكن كذلك، ويؤيده بناس من أهل المشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه ويشدون أركانه، وتكون راياتهم سوداء أيضاً ". انتهى.
النّهاية في الفتن والملاحم (1/49) ، وكتاب الفتن للمروزيّ (1/310) ، إتحاف الجماعة، للشيخ حمود التويجري (1/286) وما بعدها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/420)
هل هناك حديث يخبر عن حظر تجاري يقع على بلاد العراق والشام ومصر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك حديث عن حظر تجاري على العراق والشام ومصر؛ فهل حدث هذا بالفعل، أم أنه الوضع الظاهر أمام أعيننا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يبدو أن الحديث المشار إليه في السؤال هو ما رواه مسلم في صحيحه (2896) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا وَمَنَعَتْ الشَّأْمُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ) شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ.
وروى البخاري (3180) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؟ فَقِيلَ لَهُ وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ إِي وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. قَالُوا عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشُدُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ) .
قال النووي رحمه الله:
" وَفِي مَعْنَى مَنَعَتْ الْعِرَاق وَغَيْرهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدهمَا لِإِسْلَامِهِمْ , فَتَسْقُط عَنْهُمْ الْجِزْيَة , وَهَذَا قَدْ وُجِدَ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَشْهَر أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَجَم وَالرُّوم يَسْتَوْلُونَ عَلَى الْبِلَاد فِي آخِر الزَّمَان , فَيَمْنَعُونَ حُصُول ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِم هَذَا بَعْد هَذَا بِوَرَقَاتٍ عَنْ جَابِر قَالَ: يُوشِك أَلَّا يَجِيء إِلَيْهِمْ قَفِيز وَلَا دِرْهَم قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ مِنْ قِبَل الْعَجَم , يَمْنَعُونَ ذَاكَ. وَذَكَرَ فِي مَنْع الرُّوم ذَلِكَ بِالشَّامِ مِثْله , وَهَذَا قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا فِي الْعِرَاق , وَهُوَ الْآن مَوْجُود.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ فِي آخِر الزَّمَان , فَيَمْنَعُونَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ الزَّكَاة وَغَيْرهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْكُفَّار الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَة تَقْوَى شَوْكَتهمْ فِي آخِر الزَّمَان فَيَمْتَنِعُونَ مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ مِنْ الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَغَيْر ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ " فَهُوَ بِمَعْنَى الْحَدِيث الْآخَر " بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا , وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ " انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" قَوْله: (فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أَيْدِيهمْ) أَيْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ أَدَاء الْجِزْيَة , قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: أَخْرَجَ مُسْلِم مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث مِنْ وَجْه آخَر عَنْ سُهَيْل عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَفْعه " مَنَعَتْ الْعِرَاق دِرْهَمًا وَقَفِيزهَا " وَسَاقَ الْحَدِيث بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي , وَالْمُرَاد بِهِ مَا يُسْتَقْبَل مُبَالَغَة فِي الْإِشَارَة إِلَى تَحَقُّق وُقُوعه , وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِر أَيْضًا مَرْفُوعًا " يُوشِك أَهْل الْعِرَاق أَنْ لَا يُجْتَبَى إِلَيْهِمْ بَعِير وَلَا دِرْهَم , قَالُوا: مِمَّ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَل الْعَجَم يَمْنَعُونَ ذَلِكَ " وَفِيهِ عِلْم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة , وَالتَّوْصِيَة بِالْوَفَاءِ لِأَهْلِ الذِّمَّة لِمَا فِي الْجِزْيَة الَّتِي تُؤْخَذ مِنْهُمْ مِنْ نَفْع الْمُسْلِمِينَ , وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ ظُلْمهمْ وَأَنَّهُ مَتَى وَقَعَ ذَلِكَ نَقَضُوا الْعَهْد فَلَمْ يَجْتَبِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَْئًا فَتَضِيق أَحْوَالهمْ. وَذَكَرَ اِبْن حَزْم أَنَّ بَعْض الْمَالِكِيَّة اِحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " مَنَعَتْ الْعِرَاق دِرْهَمًا " الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْأَرْض الْمَغْنُومَة لَا تُقَسَّم وَلَا تُبَاع وَأَنَّ الْمُرَاد بِالْمَنْعِ مَنْع الْخَرَاج , وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْحَدِيث وَرَدَ فِي الْإِنْذَار بِمَا يَكُون مِنْ سُوء الْعَاقِبَة وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُمْنَعُونَ حُقُوقهمْ فِي آخِر الْأَمْر , وَكَذَلِكَ وَقَعَ " انتهى.
وينظر: "نيل الأوطار"، للشوكاني (8/ 118) ، "النهاية"، لابن الأثير (1/262) .
والحاصل مما سبق أن الراجح في تفسير الحديث أن الكفار من الروم والعجم سوف يستولون على ملك المسلمين في هذه البلاد، بعدما كانت خاضعة لسلطانهم، فيمنعوا خيرها وخراجها عن المسلمين، وقد تكرر وقوع هذا الأمر مرات ومرات في التاريخ، ومن آخر ذلك استيلاء الاستعمار على هذه البلاد، والقضاء على سلطان الخلافة العثمانية فيها، وتسلط الكفار على أهلها وثرواتها.
وأما الواقع اليوم من تسلط الكفار في العراق، وتحكمهم في ثرواتها وخيراتها، فلا نجزم أن يكون هو المراد بالحديث تحديدا، فالجزم بمثل ذلك مخاطرة تسرع فيها كثير من الناس في مثل هذا الباب، ثم لم يلبث أن تبين خطؤهم وجرأتهم على هذا الباب من العلم.
وإن كان لا يمنع أن يتكرر ذلك مرات، وأن يكون ذلك واحدا منها. بل قد صنعوا فيها ما هو شر من ذلك، إذ منعوا خير العراق عن بلاد المسلمين، ثم حاصروا العراق وأهله، ومنعوا الخير عنهم، ومنعوهم الانتفاع بخيرهم، حتى هلك من هلك من الأطفال، فضلا عن النساء والرجال.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/421)
وقفات مع كتاب " هرمجدون " وبيان حقيقة الملحمة في آخر الزمان
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت وأنا أتصفح أحد المواقع الإسلامية ما يسمَّى بـ " هارمجدون " - " الحرب العالمية الثالثة " - ومختصر المعلومات عنها أنها: ملحمة كبرى تكون بعد " أرمجدون "، وفي أعقابها، ويمكن أن نميز " أرمجدون " بالآتي: 1. هي حرب تحالفية عالمية يشترك فيها معظم أهل الأرض. 2. الأرض الرئيسة للمعركة " وادي مجيدو " بفلسطين. 3. هي حرب مدمرة تقضي على معظم أسلحة الدمار الشامل. 4. وهي تمهيد للملحمة الكبرى، إذ يستعين الروم - أمريكا وأوربا - بالمسلمين للقضاء على الشر - الصين وروسيا وإيران ومن معهم -، ويتم لهم ما أرادوا , ثم يشحذوا سيوفهم للقضاء على المسلمين في الملحمة الكبرى، والتي تتميز بالآتي: 1. تكون بعد " أرمجدون " العالمية، وفي أعقابها. 2. هي لقاء مباشر بين الغرب الصليبي، والمسلمين. 3. تكون في " سوريا " , وتحديداً في مكان بالقرب من دمشق. 4. يكون قائد المسلمين فيها المهدي عليه السلام. 5. هي حرب بالخيل، والسيوف. 6. مدتها أربعة أيام. 7. النصر في النهاية فيها للمسلمين. ومن خلال قراءتي للموضوع لم أجد آية قرآنية مذكورة، أو حديث نبوى، يدل على تلك المعلومة.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. " هَرْمَجِدُّون "، أو: " آرمجدون " كلمة عبرية، مكونة من كلمتين: " هار " بمعنى " تل "، و " مجدُّو " اسم مدينة في شمال فلسطين – ويطلق عليها " مجيدو " -.
2. ليس لهذه الكلمة وجود في ديننا، لا اسماً، ولا وقوعاً، لا في أحاديث صحيحة، ولا ضعيفة، فتسمية هذه المعركة: " هرمجدون "، وتحديد مكانها في فلسطين: ليس مأخوذاً إلا من التوراة والإنجيل.
أ. ففي " التلمود " – وهو عند اليهود أقدس من التوراة نفسها -: " قبل أن يحكم اليهود نهائيّاً: لا بد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم، ويبقون سبع سنين، يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر ".
ب. وجاء في " الإنجيل " – سِفر رؤيا يوحنا 16: 15، 16 - على لسان عيسى عليه السلام – على زعمهم - واصفاً مجيئه المفاجئ في آخر الزمان: " ها أنا آتي كلص! طوبى لمن يسهر، ويحفظ ثيابه؛ لئلاَّ يمشي عرياناً، فيروا عريته، يجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية " هرمجدُّون ".
3. المعلومات التي في السؤال مصدرها: كتاب " هرمجدون، آخر بيان يا أمة الإسلام "، للمدعو: أمين محمد جمال الدين، وهو كتاب سيئ، قد ردَّ عليه كثير من أهل العلم، وبينوا تخبطه، وجهله، ويكفي أنْ يُعلم أنَّ من مراجعه المعتمدة كتاب لكاهنٍ شهير، ولم يكتف بهذا، بل زعم أن هذا الكاهن قد أخذ كهانته عن الإسلام! .
وقد بان زيف ادعاءاته الممجوجة بمرور التواريخ التي ادَّعى فيها وقوع أحداث معينة، فقد ادَّعى صاحب الكتاب – مثلاً -: أن " المهدي " سيظهر بعد حكم " طالبان " لأفغانستان بست سنوات، أي: عام 2002 م، وقد بان كذب هذا، فقد سقط حكم " طالبان "، واحتُلت دولتها، ولم يظهر " المهدي "، ونحن في أوائل العام 2009 م! – 1430 هـ -.
وملخص الكلام حول الكتاب في ما قاله ونقله الأستاذ حمدي شفيق:
قال – حفظه الله -:
إن الكتاب المذكور كتاب خطير، مليء بالجهل، والافتراءات على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهجه مبني على تحريف كل شيء، وعلى لي أعناق النصوص لتوافق الواقع، إلى غير ذلك من أنواع الخطأ الكبير، والضلال المبين.
ويجب الحذر من هذا الكتاب، والتحذير من كاتبه، ومقاطعة كل ما يكتبه ويؤلفه بعدم الشراء؛ لأن ذلك يردعه، هو وأمثاله عن أن يتاجر بدين الأمة، ومن أن يستخف بعقول المسلمين.
" العلماء يردون على أسطورة هرمجدون " (ص 24) .
وقال – حفظه الله – بعدها:
من أفضل وأشمل الردود على كتاب " آخر بيان يا أمة الإسلام ": ذلك الرد العلمي الرصين، الذي كتبه الدكتور " عبد العزيز دخان " في مجلة " الفقه السياسي "، ولأهمية هذا الرد الثري الرائع: نورده فيما يلي:
إن أخطر ما يمكن ملاحظته من سلبيات مثل هذا الكتاب هي:
1. المبالغة، والتهويل، والإثارة، واستغلال العواطف في قضايا تحتاج إلى دراسة علمية هادئة، وليس المناداة بالويل، والثبور، وعظائم الأمور، فهذا منهج لم يخدم قضايانا بالأمس، ولن يخدمها فى الحاضر، أو المستقبل.
2. الاعتداء على قواعد المحدثين، في توثيق النصوص، ونقد الأقوال، وتصحيح الأحاديث، وتوثيقها، والتلبيس على المسلمين فى بعض هذه القواعد، وتقريرها بشكل غير صحيح.
3. الاعتماد على مراجع نبَّه العلماء المعتمدون على ضعف ما فيها من الأحاديث والأخبار.
4. الخطأ فى الاستدلال ببعض مواقف الصحابة فى هذه المسائل والقضايا.
5. نشر روح التواكل بين أبناء المسلمين، انتظاراً للقادم الذي يخلصهم مما هم فيه.
6. الدعوة إلى العزلة، المذمومة، السلبية، التي لا تعني فى النهاية سوى الهروب من الواقع، وإفساح المجال لأهل الفساد ليعيثوا فى الأرض فساداً.
انتهى
وينظر في الرد على الكتاب: 1. " الحقائق المطموسة في كتاب هرمجدون " لمجدي سعد أحمد.
2. " الرد الأمين على كُتب " عُمر أُمّة الإسلام " و " ردّ السهام " و " القول المبين
" لحمدي شفيق.
ومن الردود الصوتية: 1. " التحذير من كتاب هرمجدون "، للشيخ محمد عبد المقصود.
2: " الرد العلمي على كتاب هرمجدون "، للشيخ عادل يوسف العزازي.
وكلها متوفرة في موقع " طريق الإسلام ".
4. ثبت في صحيح السنَّة أنه سيقع في آخر الزمان " صلح " بين المسلمين والنصارى، ثم نقاتل نحن وهم عدوّاً، ثم نقاتلهم في " ملاحم كبرى ".
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ ذِي مِخْمَرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ فَتَسْلَمُونَ وَتَغْنَمُونَ ثُمَّ تَنْزِلُونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ وَيَقُولُ أَلَا غَلَبَ الصَّلِيبُ فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَكُونُ الْمَلَاحِمُ فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْكُمْ فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً مَعَ كُلِّ غَايَةٍ عَشْرَةُ) .
رواه أبو داود (4292) وابن ماجه (4089) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
والحديث – كما نرى – فيه قتالان، قتال مع النصارى ضد عدو غيره، وقتالنا ضد النصارى بعد ذلك، و " هرمَجدون " عند الكاتب هي المعركة الأولى، وهي الثانية عند أهل الكتاب! والحديث ليس فيه تعرض للعدو الذي نقاتله مع الروم، ولا فيه تعرض للمكان الذي ستقع فيه المقتلة، و " هرمجدون " عند أهل الكتاب هي قتالهم لنا نحن المسلمين، ومعنا الوثنيين! ، وأرض المعركة عندهم هي: " فلسطين "، وعليه: فمن زعم أن " هرمجدون " هي " الملحمة " الوارد ذِكرها في صحيح السنَّة ": فقد أخطأ، وثمة فروقات بين المقتلتين.
قال الشيح محمد بن إسماعيل المقدَّم – حفظه الله -:
وهاك حاصلَ الفروقِ الأساسية بين " الملحمة "، وبين " هرمجدون ":
الأول: أن خبر الملحمة ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، كما تقدم، أما " هرمجدون ": فاصطلاح نصراني، إسرائيلي لا يُدرى مدى مصداقيته، ولا ثبوته، وهو مجرد اسم للموضع الذي يدَّعى أن المعركة ستقع فيه، في حين ثبت عنه صلى الله عليه وسل تسمية موضع الملحمة بأنه " الأعماق "، أو " دابق " - موضعان بالشام، قرب حلب.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا فَيُقَاتِلُونَهُمْ) .
رواه مسلم (2897) .
الثاني: ستقع الملحمة بين أهل الإسلام أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وبين الروم النصارى الضالين، في حين يدَّعي أهل الكتاب أن معركة " هرمجدون " طرفاها: قوى الشر، ممثلة - في زعمهم - في المسلمين، ومن حالفهم - من الوثنيين، ويدخل في هذا اللفظ عندهم: الصينيون، والكوريون، والفيتناميون، واليابانيون، والذين تسميهم التوراة: " يأجوج ومأجوج " -، وقوى الخير، وهم النصارى - في زعمهم -.
الثالث: ثبت أن الله عز وجلَّ ينصر المسلمين على أعدائهم في " الملحمة "، في حين يدَّعي أصحاب " هرمجدون " أن الغلبة ستكون لهم على " قوى الشر "، وهم المسلمون - في زعمهم -.
الرابع: يحدد أهل الكتاب موعد " هرمجدون "، وينتظرون فيه مسيحهم على رأس الألف، سواءً الأولى، أو الثانية، فإن طال الزمان فسينتظرون في الألف الثالثة، أما الأحاديث النبوية الشريفة: فلم تحدد موعداً للملحمة سوى أنها من أشراط الساعة.
إن " هرمجدون " ضد السنن الكونية، والشرعية، و " الملحمة " متوافقة معها.
" هرمجدون ": يأس، وقنوط، والملحمة: بشرى، وأمل.
إن " هرمجدون ": تحبِط، وتخذِّل، و " الملحمة ": تنعش الرجاء، وتبعث الأمل.
" هرمجدون ": تدعو إلى استحضار هزيمتنا كأمر واقع، و " الملحمة " تجعل انتصار المسلمين هو الأمر الواقع.
" خدعة هرمجدون " (ص 31 – 33) باختصار وتصرف يسير.
ولا يجوز الجزم بتنزيل الأحاديث الصحيحة على واقع يراه الباحث مناسباً للحديث دون ضوابط، وهذا ليس صنيع المحققين من أهل العلم؛ إذ هو غيب لا يَدري عن حقيقته أحد، وما يراه الباحث من الوقائع مناسباً في زمانه قد يأتي ما هو أنسب منه في زمانٍ بعده، فقول الكاتب إن العدو الذي يقاتله المسلمون والنصارى هم الصين وروسيا وإيران: هو من علم الغيب، ولا يحل لأحدٍ أن يجزم به، وهو ما وقع به مؤلف كتاب " هرمجدون، آخر بيان يا أمة الإسلام "، المدعو: أمين محمد جمال الدين، حيث قال في (ص 7، 48) منه.
وللوقوف على ضوابط تنزيل الأحاديث على الوقائع: ينظر:
أ. " فقه أشراط الساعة " (من ص 253 – 293) للشيخ محمد إسماعيل المقدَّم.
ب. " معالم ومنارات في تنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الوقائع والحوادث " للأستاذ عبد الله بن صالح العجيري.
وكلاهما متوفر على الشبكة العنكبوتية.
6. وأخيراً: إن التنصيص على معركة باسم " هرمجدون " هو اعتقاد للنصارى، وأما اليهود فلايوافقونهم في هذا، بل هم يستثمرون بلههم، وجهلهم؛ ليمكنوهم من الاستقرار في فلسطين، ومن هدم " المسجد الأقصى "، وإلا فإنهم ينتظرون " الدجال "، فهو ملكه، لا عيسى بن مريم الذي يكفرونه، ويزعمون أنه ابن زنا – قاتلهم الله -.
قال ابن القيم – رحمه الله – في بيان تلاعب الشيطان باليهود -:
ومن تلاعبه بهم: أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي، إذا حرك شفتيه بالدعاء: مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وُعدوا به! وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة " الدجَّال "، فهم أكثر أتباعه، وإلا فمسيح الهدى عيسى بن مريم عليه السلام يقتلهم، ولا يُبقي منهم أحداً.
والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وُعدوا به في كل ملة، والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، لكسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعبَّاده من النصارى، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
" إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " (2 / 338) .
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل المقدَّم – حفظه الله -:
إن اليهود لا يوافقون النصارى بالطبع في مفهومهم عن الألفية، فالمعركة العظمى عندهم هي " يوم غضب الرب "، وليس " هرمجدون "، كما أن الذي سيظهر – طبقاً لعقيدتهم – هو " المسيح المنتظر " الآتي للمرة الأولى، وليس المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وبالرغم من ذلك فإن اليهود يروِّجون لعقيدة " هرمجدون " في الفكر النصراني الغربي، بل ينفقون الأموال الطائلة لترسيخها في عقل الغرب الخاوي دينيّاً، لأنها تخدِم أهدافهم السياسية، في تكوين وطن قومي لهم في " فلسطين " من جانب، كما تساعدهم على تحقيق حلْمهم في السيطرة على العالم من جانب آخر، وهو ما يعني تسييس الدين في خدمة الأهداف القومية اليهودية، بل تنظم الدولة اللقيطة رحلات سياحية دورية لجذب المؤمنين بـ " الهرمجدون " من كل دول العالم وفي مقدمتها " أمريكا "، لزيارة وادي " هرمجدون " مسرح العمليات المرتقبة، ومكان معركة نهاية البشر، التي يدَّعون أن من يدركها، أو يدرك العودة الثانية للمسيح: فإن شبابه سوف يتجدد، ليبدأ حياة سعيدة، لمدة ألف سنة من السلام التام.
" خدعة هرمجدون " (ص 37) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/422)
التعليق على صورة لشاب يُزعم أنه الدجال! وذِكر بعض صفات الدجال من السنَّة
[السُّؤَالُ]
ـ[طالعتنا بعض المواقع على الإنترنت بموضوع لا نعرف له أصلاً عن ظهور المسيح الدجال فى باكستان , ويظهر في هذه الصورة أن الرجل الموجود عنده عين واحدة! ولكن من وصف المسيح الدجال كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعور العين اليمنى - كما في الصحيحين - وليس له عين واحدة في وسط رأسه! فما رأيكم في هذا الموضوع؟ . ونرجو الاهتمام بهذا السؤال نظرا لأنه انتشر في بعض وسائل الإعلام، واغتر به كثير من العامة]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الجاهل عدو نفسه، ولا يزال الجاهلون بشرع الله تتقاذفهم أمواج الحكايات، والأخبار، والقصص، المخترعة، والمؤلَّفة، أو المفتراة على الشرع، وهم يصدِّقون، ويتأثرون، وينشرونها في الآفاق، ثم يجادلون عنها، ويتهمون غيرهم ممن ينفيها أو يردها بالجهل! ومحاربة الدين! .
وهذه الصورة المنشورة، والمنسوبة في الخبر أنها للدجال: أنموذج لما ذكرناه، فمن صدَّق أن صاحبها هو الدجَّال فمِن جهله أتي، وقد لبَّس عليه شياطين الإنس والجن، حتى أثبت ما ليس من الشرع، ونفى ما هو منه، أضف إلى أن الخبر – أصلاً – قد يكون مفبركاً، فما اسم صاحب الصورة؟ وما هو عنوانه؟ ومن هم العلماء الذين قالوا إنه الدجال؟ وكل ما في الأمر صورة منشورة في جريدة.
وهذه الصورة – إن كانت حقيقية - لا يمكن أن يكون صاحبها هو الدجَّال؛ وذلك لأسباب، منها:
1. أن الدجَّال مربوط في جزيرة، كما صحَّ ذلك في الحديث الذي رواه مسلم رحمه الله، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
2. وفي الحديث أنه عظيم الخلقة.
راجع نص الحديث الوارد في ذلك في جواب السؤال رقم (82643) .
وراجع ما ذكرناه في جواب السؤال رقم (8806) ، حول صفات الدجال، وحال فتنته.
ومن الصفات الواردة في شأن للدجال، ما ثبت من حديث " ابن عمر " رضي الله عنهما، وفيه: (أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) .
وفي سنن أبي داود من حديث عبادة: (مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ، وَلَا حَجْرَاءَ) .
وفي بعض الروايات أن العين الأخرى معيبة أيضاً.
قال النووي – رحمه الله -:
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية) فروي بالهمز، وبغير همز، فمن همز: معناه: ذهب ضوؤها، ومن لم يهمز: معناه: ناتئة، بارزة، ثم إنه جاء هنا (أعور العين اليمنى) وجاء فى رواية أخرى (أعور العين اليسرى) وقد ذكرهما جميعاً مسلم فى آخر الكتاب، وكلاهما صحيح، قال القاضي عياض رحمه الله: روينا هذا الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز، وهو الذى صححه أكثرهم، قال: وهو الذى ذهب إليه الأخفش، ومعناه ناتئة كنتوء حبة العنب من بين صواحبها، قال: وضبطه بعض شيوخنا بالهمز، وأنكره بعضهم، ولا وجه لإنكاره، وقد وصف فى الحديث بأنه (ممسوح العين) وأنها (ليست جحراء، ولا ناتئة) بل مطموسة، وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها، وهذا يصحح رواية الهمز، وأما ما جاء فى الأحاديث الأُخر (جاحظ العين) و (كأنها كوكب) وفي رواية (لها حدقة جاحظة كأنها نخاعة فى حائط) فتصحح رواية ترك الهمزة، ولكن يُجمع بين الأحاديث، وتصحح الروايات جميعاً، بأن تكون المطموسة والممسوحة والتي ليست بجحراء ولا ناتئة: هي العوراء الطافئة بالهمز، وهي العين اليمنى، كما جاء هنا، وتكون الجاحظة، والتي كأنها كوكب، وكأنها نخاعة: هي الطافية بغير همز، وهي العين اليسرى، كما جاء فى الرواية الأخرى، وهذا جمع بين الأحاديث والروايات في الطافية بالهمز، وبتركه، وأعور العين اليمنى، واليسرى؛ لأن كل واحدة منهما عوراء؛ فإن الأعور من كل شيء: المعيب، لا سيما ما يختص بالعين، وكلا عيني الدجال معيبة، عوراء، إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها.
هذا آخر كلام القاضي، وهو فى نهاية من الحسن، والله أعلم.
" شرح مسلم " (2 / 235) .
وبما ذكرناه هنا، وأحلنا عليه في أجوبة سابقة، يتبين أن صاحب الصورة المذكورة في السؤال – إن كانت حقيقية -: ليس هو الدجَّال، ولم نتعرض لما يكذب ذلك مما أعطاه الله تعالى للدجال من فتن، يفتن بها الناس، ومن ذلك: نهران يجريان، استجابة الجماد والحيوان له، وغير ذلك مما لم نقرأ أن ذلك الشاب قد ادعى شيئاً منه.
وقد جاء في المقال ذِكر صفات وأحوال لذلك الشاب لا يُعرف في الشرع أنها صفات وأحوال للمسيح الدجال، كعدم احتراق يده إذا وضعها في النار! وكأكله الزجاج والحصى! وكشربه من ماء البحر! وكون حارسه الشخصي قط أسود! فها هم – كما قلنا – يثبتون للدجال صفات ليست من الشرع، وما نصَّ الشرع على أنها صفات له لم نجدها فيه.
وبكل حال:
فإننا نحذر المسلمين عموماً من الاغترار بكل ما يُنشر في وسائل الإعلام مما يتعلق بدينهم، واعتقادهم، دون الرجوع إلى أهل العلم في ذلك ليحكموا عليه بما يعلمونه من الأدلة الشرعية التي تعصمهم من الفتن، ونحذرهم من الاغترار بتصديق ما يُنشر في الإنترنت من صور لأناسٍ يُزعم أنهم مُسخوا، أو صورة فرعون، أو صورة جني على هيئته الحقيقية! أو أصوات أناس يزعم أنهم يعذبون في قبورهم، وغير ذلك كثير، مما اغتر به كثير من العامَّة، وأعانهم عليه – للأسف – بعض الخاصَّة.
وليعلم المسلمون أنه لا يستبعد وجود جهات خبيثة تريد إشغال المسلمين بمثل هذه الترهات، وتريد العبث بعقولهم؛ لتجعل منهم مادة دسمة في السخرية في مواقعهم ومنتدياتهم، ونوصي الجميع بطلب العلم، والحرص على البرهان الثابت في الأخبار، وعدم التسليم لكل ما يقال وينشر، وليرجعوا في أمورهم وشئون دينهم إلى أهل العلم الثقات، ليرفعوا عنهم الجهل، ويبينوا لهم حقيقة الأمر.
ونسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/423)
الجمع بين حديث الجساسة وحديث: (أرأيتكم ليلتكم هذه ... )
[السُّؤَالُ]
ـ[سمعت في أشراط الساعة أن المسيح الدجال حي إلى خروجه من حديث تميم الداري، وأيضا حديث النبي رضي الله عنهما (أن كل من الأرض في عهده سيموتون خلال مائة سنة) ، واستدلوا بذلك أنه لا يوجد صحابي بعد سنة 110، سؤالي كيف يتم التوفيق بين الحديثين؟ ولماذا لم يمت المسيح الدجال؟ أعاذنا الله وإياكم من فتنته جميعا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
حديث تميم الداري رواه مسلم في صحيحه، وقد سبق إيراده بنصه في جواب السؤال رقم (82643)
وهو يدل على أن الدجال حي موجود الآن، وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سيظل محبوسا حتى يؤذن له في الخروج، ولا يعارض هذا ما جاء في الصحيحين عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ) رواه البخاري (116) ومسلم (2537) .
فهذا الحديث عام، وحديث تميم خاص، فيكون مستثنى من العموم، أو أن الدجال كان يومئذ في البحر، لا على الأرض، فلا يشمله حديث ابن عمر.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (3/397) في الجواب على من قال بحياة الخضر محتجا بأن العموم ليس نصا في الاستغراق، يعني العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ) قال: " لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول إنه حدثه به تميم الداري، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور، لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال " ثم ذكر حديث تميم، ثم قال:
" فهذا نص صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور، وأنه باق وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان، وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول: أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نص مخصِّص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدلّ على إخراجها دليل، كما قدمناه مراراً وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصِّص، ويبقي العام حجة في الباقي" انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/424)
لم يثبت أن المسيح سيدفن في آخر الزمان في الحجرة النبوية
[السُّؤَالُ]
ـ[يروى أن هناك مساحة فارغة بجانب قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكي يستخدمها نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهل هذا صحيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لم يَرِد في السنة النبوية ما يدلُّ على مكان دفن المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وأما الحديث الذي يُروى في ذلك فضعيف جدا لا يثبت، وهذا بيانه:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض، فيتزوج، ويولد له، ويمكث خمسا وأربعين سنة، ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر) .
رواه ابن أبي الدنيا – كما عزاه إليه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/562) - وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/915) وفي "المنتظم" (1/126) ، وفي "الوفا" (2/714) أيضا: من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي.
قال ابن الجوزي: " هذا حديث لا يصح، والإفريقي ضعيف بمرة " انتهى.
وأورده الذهبي في "ميزان الاعتدال" في سياق المناكير التي رواها هذا الراوي، وقال: " فهذه مناكير غير محتملة " انتهى.
وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" برقم (6562) : " منكر " انتهى.
ووردت بعض الآثار في هذا الشأن عن علماء الصحابة ممن قرؤوا التوراة وعرفوا ما فيها:
1- قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (مكتوب في التوراة صفة محمد، وصفة عيسى بن مريم، يدفن معه) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/229) ، والترمذي في "السنن" (رقم/3617) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (القطعة المفقودة ص/111) ، والآجري في كتاب "الشريعة" (3/1324) بألفاظ متقاربة، ولكني اخترت اللفظ الذي عند الترمذي لتصريحه بنقل الكلام عن التوراة.
كلهم رووه من طريق عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده.
وهذا إسناد ضعيف، فيه عثمان بن الضحاك: قال أبو داود: ضعيف. انظر "تهذيب التهذيب" (7/124) . وفيه: محمد بن يوسف لم يوثقه أحد، وإنما ذكره ابن حبان في "الثقات" انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (9/534) لذلك قال البخاري رحمه الله بعد إخراجه الحديث في التاريخ الكبير في ترجمته: " هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه " انتهى.
وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" برقم (6962) : " موقوف ضعيف " انتهى.
2- عن سعيد بن المسيب قال: (إن قبور الثلاثة في صُفَّة بيت عائشة، وهناك موضع قبر يدفن فيه عيسى عليه السلام) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " من وجه ضعيف " انتهى.
"فتح الباري" (7/66) .
كما ذكر ذلك بعض العلماء والمؤرخين:
قال الإمام القرطبي رحمه الله: " ثم يقبض الله روح عيسى عليه السلام ويذوق الموت، ويدفن إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة ... ، وقد قيل إنه يدفن بالأرض المقدسة مدفن الأنبياء " انتهى.
"التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/1301) وذكر نحوه ابن عساكر وغيره.
والذي يتحصل مما سبق أنه لم يثبت في حوادث آخر الزمان دفن عيسى عليه السلام في الحجرة النبوية، وما ورد في ذلك إنما هي آثار ضعيفة السند، ومأخوذة عن غير الكتاب والسنة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
(1/425)
هل فتنة المسيح الدجال تلحق الأموات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الإنسان الذي توفي قبل فتنة المسيح الدجال (اللهم أعذنا منها) هل يحيى أو يظل في القبر حتى يوم البعث؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فتنة المسيح الدجال أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنْ الدَّجَّالِ) رواه مسلم (5239) . وفي رواية أحمد (15831) عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) .
وروى البخاري (3057) عن ابْن عُمَرَ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: (إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ وَلَكِنْ سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) .
وروى مسلم (2937) عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ فَقَالَ غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ... ) .
إلى غير ذلك من النصوص، وينظر: سؤال رقم: (8806)
وهذه الفتنة إنما تكون للأحياء وقت خروج الدجال، أما الأموات، فلا خوف عليهم من هذه الفتنة.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من أدرك الدجال أن ينأى عنه، كما في قوله: (مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ) رواه أبو داود (4319) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وهذا يدل على أن النائي البعيد عن الدجال يسلم من فتنته، فالميت أولى.
بل أظهر من ذلك أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى لما خسفت الشمس، فلما انصرف حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
(مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، مِثْلَ، أَوْ قَرِيبَ مِنْ، فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ـ[قال الراوي:] لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ ـ؛ يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ ـ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ ـ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُ، أَوْ الْمُرْتَابُ ـ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ ـ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ!!) رواه البخاري (184) ومسلم (903) .
فهذا يدل على أن للقبر فتنة أخرى، سوى فتنة الدجال، أعاذنا الله بمنه وكرمه منهما، وأن فتنة القبر، ليست بأقل شأنا ولا خطرا من فتنة الدجال؛ ولأجل ذلك كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)
رواه البخاري (1377) ومسلم (589) ، واللفظ للبخاري.
وانظر: " التمهيد " شرح الموطأ، لابن عبد البر، رحمه الله (22/245) وما بعدها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/426)
تمثل العمل الصالح رجلا في القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الحديث: (عند موت الإنسان وأثناء انشغال أقربائه بمناسكِه الجنائزيةِ، يقفُ رجلٌ وسيمُ جداً بجوار رأس الميت. وعند تكفين الجثّة، يَدْخلُ ذلك الرجلِ بين الكفنِ وصدرِ الميّتِ. وبعد الدفنِ، يَعُودَ الناس إلى بيوتهم، ويأتي القبرِ ملكان مُنكرٌ ونكير، ويُحاولانَ أَنْ يَفْصلاَ هذا الرجلِ الوسيم عن الميتِ لكي يَكُونا قادرين على سؤال الرجلِ الميتِ في خصوصية حول إيمانِه. لكن يَقُولُ الرجل الوسيم: " هو رفيقُي، هو صديقُي. أنا لَنْ أَتْركَه بدون تدخّل في أيّ حالٍ منَ الأحوالِ. إذا كنتم معنينَّن لسؤالهِ، فاعمَلوا بما تؤمرونَ، أما أنا فلا أَستطيعُ تَرْكه حتى أدخلهْ إلى الجنة ِ". ويتحول الرجل الوسيم إلى رفيقه الميت ويَقُولُ له: " أَنا القرآن الذيّ كُنْتَ تَقْرؤُه بصوتٍ عالٍ أحياناً وبصوت خفيض أحياناً أخرى. لا تقلق. فبعد سؤال مُنكرٍ ونكير لا حزن بعد اليوم. وعندما ينتهى السؤال، يُرتّبُ الرجل الوسيم والملائكة فراش من الحرير مُلئ بالمسكِ للميت في الجنة) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي جاء في السنة النبوية الصحيحة من تمثل العمل الصالح، ومنه قيام العبد بالقرآن الكريم، بالرجل الحسن في القبر ما يلي:
1- عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ... إلى أن قال – في وصف حال المؤمن في القبر -:
فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ.
قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي)
رواه أحمد (4/362) وصححه الألباني في "أحكام الجنائز" (156)
2- عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول:
(َإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ. فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا. فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا)
رواه أحمد في "المسند" (394) وابن ماجه في "السنن" (3781) وحسنه البوصيري في الزوائد والألباني في "السلسلة الصحيحة" (2829)
يقول السيوطي في شرح الحديث (2/1242) :
" (كالرجل الشاحب) قال السيوطي: هو المتغير اللون، وكأنه يجيء على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا، أو للتنبيه له على أنه كما تغير لونه في الدنيا لأجل القيام بالقرآن كذلك القرآن لأجله في السعي يوم القيامة حتى ينال صاحبه الغاية القصوى في الآخرة." انتهى.
ولم أقف على شيء من السنة الصحيحة في تمثل العمل الصالح رجلا في القبر إلا هذين الحديثين.
أما الحديث الذي ذكرته – أخي السائل الكريم – فلم يرد في كتب السنة المعتمدة، ولم نقف له على إسناد صحيح ولا ضعيف، بل هو مما ينتشر في بعض المنتديات والمواقع من غير تحرٍّ ولا تثبت، ولعل بعض الجهلة من الناس كتبه من قبل نفسه ثم عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحث الناس على الاهتمام بالقرآن والعناية به، ولم يدر هؤلاء أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب التي توبق صاحبها في نار جهنم، وأن النية الحسنة لا ترفع الإثم عن هؤلاء الذين يكذبون ويضعون الحديث على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) رواه البخاري (1291) ومسلم (4)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/427)
حديث تميم الداري عن المسيح الدجال
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حقيقة أن جماعة من المسلمين كانوا على سفر، فالتقوا برجل سألهم عن الزمان وعن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فرجع وقال إن هذا ليس زمن خروجه، فقيل إنه الدجال؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
القصة التي ذكرتها جاءت في حديث مشهور، يعرف بـ (حديث الجسّاسة) ، وهو حديث عظيم، فيه علم من أعلام النبوة، فأترك لك فرصة الاستفادة والاستمتاع بقراءته.
عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت:
(سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي، مُنَادِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُنَادِي (الصَّلاَةَ جَامِعَةً) . فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ فِى صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِى تَلِى ظُهُورَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ «لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلاَّهُ» . ثُمَّ قَالَ «أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ» ؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
«إِنِّى وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلاَ لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَمِيماً الدَّارِىَّ كَانَ رَجُلاً نَصْرَانِيًّا فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِى حَدِيثاً وَافَقَ الَّذِى كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِى أَنَّهُ رَكِبَ فِى سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْراً فِى الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَئُوا (أي: التجؤوا) إِلَى جَزِيرَةٍ فِى الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِى أَقْرُبِ السَّفِينَةِ (وهي سفينة صغيرة تكون مع الكبيرة كالجنيبة يتصرف فيها ركاب السفينة لقضاء حوائجهم، الجمع قوارب والواحد قارب) فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ (أي: غليظ الشعر) كَثِيرُ الشَّعَرِ، لاَ يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ (قيل سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال) . قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ! انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِى الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ. قَالَ لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلاً فَرِقْنَا (أي خفنا) مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ فَانْطَلَقْنَا سِرَاعاً حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقاً، وَأَشَدُّهُ وِثَاقاً، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِى سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ (أي هاج) ، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْراً، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِى أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لاَ يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ. قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتِ: اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِى الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِاْلأَشْوَاقِ. فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعاً، وَفَزِعْنَا مِنْهَا وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ. قُلْنَا: عَنْ أَىِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لاَ تُثْمِرَ. قَالَ: أَخْبِرُونِى عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ؟ قُلْنَا: عَنْ أَىِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِىَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ. قَالَ: أَخْبِرُونِى عَنْ عَيْنِ زُغَرَ؟ (وهي بلدة تقع في الجانب القبلي من الشام) قَالُوا: عَنْ أَىِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِى الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِىَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا. قَالَ: أَخْبِرُونِى عَنْ نَبِىِّ الأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّى مُخْبِرُكُمْ عَنِّي، إِنِّى أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّى أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِى فِى الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِى الأَرْضِ فَلاَ أَدَعَ قَرْيَةً إِلاَّ هَبَطْتُهَا فِى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِداً مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِى مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتاً يَصُدُّنِى عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلاَئِكَةً يَحْرُسُونَهَا. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِى الْمِنْبَرِ -: «هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ» . يَعْنِى الْمَدِينَةَ «أَلاَ هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟» . فَقَالَ النَّاسُ:نَعَمْ.
«فَإِنَّهُ أَعْجَبنِى حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِى كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلاَ إِنَّهُ فِى بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لاَ بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ» (قال القاضي: لفظة (ما هو) زائدة، صلة للكلام، ليست بنافية، والمراد إثبات أنه فى جهات المشرق) وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ. قَالَتْ فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)
رواه مسلم في صحيحه برقم (2942) ، فهو حديث صحيح، رواه أهل العلم في كتبهم، من طريقين عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وقال الترمذي رحمه الله "الجامع الصحيح" (2253) : " هذا حديث صحيح غريب " انتهى. وقال ابن عبد البر "الاستذكار" (7/338) : " ثابت صحيح من جهة الإسناد والنقل " انتهى.
وللاستزادة انظر الأرقام التالية (8301) (8806) (32665)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/428)
علامات يوم القيامة الصغرى والكبرى
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي علامات يوم القيامة الصغرى والكبرى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
علامات يوم القيامة وأشراطها هي التي تسبق وقوع القيامة وتدل على قرب حصولها، وقد اصطُلح على تقسيمها إلى صغرى وكبرى، والصغرى – في الغالب - تتقدم حصول القيامة بمدة طويلة، ومنها ما وقع وانقضى - وقد يتكرر وقوعه - ومنها ما ظهر ولا يزال يظهر ويتتابع، ومنها ما لم يقع إلى الآن، ولكنه سيقع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وأما الكبرى: فهي أمور عظيمة يدل ظهورها على قرب القيامة وبقاء زمن قصير لوقوع ذلك اليوم العظيم.
وعلامات الساعة الصغرى كثيرة، وقد جاءت في أحاديث صحيحة كثيرة، وسنذكرها في سياق واحد دون ذِكر أحاديثها؛ لأن المقام لا يتسع، ونحيل من أراد التوسع في هذا الموضوع مع معرفة أدلة هذه العلامات لكتب موثوقة متخصصة، ومنها " القيامة الصغرى " للشيخ عمر سليمان الأشقر، وكتاب " أشراط الساعة " للشيخ يوسف الوابل.
فمن أشراط الساعة الصغرى:
1. بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
2. موته صلى الله عليه وسلم.
3. فتح بيت المقدس.
4. طاعون " عمواس " وهي بلدة في فلسطين.
5. استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة.
6. ظهور الفتن، ومن الفتن التي حدثت في أوائل عهد الإسلام: مقتل عثمان رضي الله عنه، وموقعة الجمل وصفين، وظهور الخوارج، وموقعة الحرة، وفتنة القول بخلق القرآن.
7. ظهور مدَّعي النبوة، ومنهم " مسيلمة الكذاب " و " الأسود العنسي ".
8. ظهور نار الحجاز، وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع الهجري في عام 654 هـ، وكانت ناراً عظيمة، وقد توسع العلماء الذين عاصروا ظهورها ومن بعدهم في وصفها، قال النووي: " خرجت في زماننا نار في المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت ناراً عظيمة جداً من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة، وتواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة ".
9. ضياع الأمانة، ومن مظاهر تضييع الأمانة إسناد أمور الناس إلى غير أهلها القادرين على تسييرها.
10. قبض العلم وظهور الجهل، ويكون قبض العلم بقبض العلماء، كما جاء في الصحيحين.
11. انتشار الزنا.
12. انتشار الربا.
13. ظهور المعازف.
14. كثرة شرب الخمر.
15. تطاول رعاء الشاة في البنيان.
16. ولادة الأمة لربتها، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وفي معنى هذا الحديث أقوال لأهل العلم، واختار ابن حجر: أنه يكثر العقوق في الأولاد فيعامِل الولدُ أمَّه معاملة السيد أمَته من الإهانة والسب.
17. كثرة القتل.
18. كثرة الزلازل.
19. ظهور الخسف والمسخ والقذف.
20. ظهور الكاسيات العاريات.
21. صدق رؤيا المؤمن.
22. كثرة شهادة الزور وكتمان شهادة الحق.
23. كثرة النساء.
24. رجوع أرض العرب مروجاً وأنهاراً.
25. انكشاف الفرات عن جبل من ذهب.
26. كلام السباع والجمادات الإنس.
27. كثرة الروم وقتالهم للمسلمين.
28. فتح القسطنطينية.
وأما أشراط القيامة الكبرى: فهي التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن أسيد وهي عشر علامات: الدجال، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوفات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، والدابة، والنار التي تسوق الناس إلى محشرهم، وهذه العلامات يكون خروجها متتابعا، فإذا ظهرت أولى هذه العلامات فإن الأخرى على إثرها.
روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ.
وليس هناك نص صحيح صريح في ترتيب هذه العلامات، وإنما يستفاد ترتيب بعضها من جملة نصوص.
وقد سئل الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله:
هل أشراط الساعة الكبرى تأتي بالترتيب؟
فأجاب:
" أشراط الساعة الكبرى بعضها مرتب ومعلوم، وبعضها غير مرتب ولا يعلم ترتيبه، فمما جاء مرتباً نزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال فإن الدجال يبعث ثم ينزل عيسى بن مريم فيقتله ثم يخرج مأجوج ومأجوج.
وقد رتب السفاريني رحمه الله في عقيدته هذه الأشراط، لكن بعض هذا الترتيب تطمئن إليه النفس، وبعضها ليس كذلك، والترتيب لا يهمنا، وإنما يهمنا أن للساعة علامات عظيمة إذا وقعت فإن الساعة تكون قد قربت، وقد جعل الله للساعة أشراطاً؛ لأنها حدث هام يحتاج الناس إلى تنبيههم لقرب حدوثه " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (2 / السؤال رقم 137) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/429)
هل يرفع القرآن في آخر الزمان؟
[السُّؤَالُ]
ـ[جاء في افتتاحية مجلة المستقبل الإسلامي الصادرة في السعودية أن إحدى علامات آخر الزمان أن القرآن يختفي، ولم أسمع بذلك من قبل، وكيف يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحا ونحن نعلم أن هناك الكثير الكثير من الحفاظ للقرآن، أرجو أن توضحوا لي المسألة، جزاكم الله خيرا على ما تبذلونه من وقت. أخوكم في الإسلام.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جاءت عدة أحاديث تدل على رفع القرآن الكريم في آخر الزمان، ومن هذه الأحاديث:
عَنْ عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: " لَيُسْرَيَنَّ عَلَى الْقُرْآنِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلا يُتْرَكُ آيَةٌ فِي مُصْحَفٍ وَلا فِي قَلْبِ أَحَدٍ إِلا رُفِعَتْ " أخرجه الدارمي بسند صحيح برقم 3209.
وأخرج الدارمي برقم 3207 بإسناد حسن لغيره: عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: " أَكْثِرُوا تِلاوَةَ الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ " قَالُوا: هَذِهِ الْمَصَاحِفُ تُرْفَعُ! فَكَيْفَ بِمَا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ؟ قَالَ: " يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلا فَيُصْبِحُونَ مِنْهُ فُقَرَاءَ، وَيَنْسَوْنَ قَوْلَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيَقَعُونَ فِي قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَشْعَارِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ " والمراد بالقول: ماجاء في الآية الكريمة: (وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجَنا لَهُمْ دَابَةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوْقِنُون) النمل / 82. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق يخرج الله لهم دابة من الأرض، قيل من مكة وقيل من غيرها.. فتكلم الناس على ذلك؛ قال ابن عباس والحسن وقتادة - ويروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم: " تكلمهم كلاماً " أي تخاطبهم مخاطبة، وقال عطاء الخراساني - ويروى عن علي واختاره ابن جرير -: " تكلمهم فتقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " وفي هذا القول نظر لا يخفى والله أعلم، وقال ابن عباس في رواية: " تجرحهم " وعنه رواية قال: " كُلاً تفعل " يعنى هذا وهذا، وهو قول حسن ولا منافاة والله أعلم) تفسير القرآن العظيم (3 / 375 - 378) .
وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة؛ منها:
ما روي عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: " أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة؛ فقال: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف خسف بالمغرب وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " رواه الإمام أحمد برقم 46 واللفظ له، ورواه مسلم برقم2901، وأبوداود برقم 4311، والترمذي برقم 2183 وقال: حسن صحيح، والنسائي برقم 11380، وابن ماجه برقم 4055.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من المغرب - أو من مغربها - " رواه الترمذي برقم 3072 وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة " رواه مسلم برقم 2947 وابن ماجه برقم 4056 وغيرهما. وهناك أحاديث كثيرة يطول ذكرها تدل على أن الدابة ستخرج في آخر الزمان، والله المستعان.
ومما جاء أيضاً في رفع القرآن آخر الزمان ما رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم 8698 عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
" لَيُنْتَزَعَنَّ هذا القرآن من بين أظهركم، قيل له: يا أبا عبد الرحمن: كيف يُنتزع وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يُسْرَى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد ولا مصحف منه شيء، ويصبح الناس كالبهائم " ثم قرأ قول الله تعالى: (ولئن شئنا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً) الإسراء / 86. قال ابن حجر في فتح الباري (13 /16) : سنده صحيح ولكنه موقوف. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 329) : رجاله رجال الصحيح، غير شداد بن معقل وهو ثقة. وصححه الألباني.
وهذا الحديث حكمه حكم المرفوع، لأنه لا يُقال بالرأي.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (3 / 198) : " فإنه يسرى به فى آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى فى الصدور منه كلمة، ولا فى المصاحف منه حرف ".
وقد أنزل الله القرآن هدى للناس وتكفّل بحفظه وهو المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم وسيبقى يتعلّم منه ويهتدي عليه الأولون والآخرون ولكن في آخر الزمان قبل قيام الساعة مباشرة يقبض الله أرواح المؤمنين ولا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق ولا تكون صلاة ولا صيام ولا حجّ ولا صدقة، ولا تكون هناك فائدة من وجود الكعبة ولا بقاء القرآن فيقدِّر الله عزّ وجلّ خراب الكعبة على يد كافر من الحبشة (روى البخاري في صحيحه برقم 1519 أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ") ، ويرفع الله عزّ وجلّ القرآن من الأرض فلا تبقى منه آية في المصاحف والصدور، والله يغار أن يبقى كتابه في الأرض بلا فائدة لا يُعمل به فيحدث هذا الأمر.
وهذا الحدث المُخيف والخطير يدفع المسلم الصادق إلى المسارعة بالاهتمام بكتاب الله تعلما وحفظا وتلاوة وتدبّرا قبل أن يُرفع الكتاب.
وهذا من فتن آخر الزمان التي قال عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) رواه مسلم برقم 169. نسأل الله أن يثبتنا على دينه، ويرد عنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/430)
من علامات الساعة الكبرى: طلوع الشمس من مغربها
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يمكن فهم الحديث " أن من علامات القيامة الكبرى ظهور الشمس من المغرب "؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الشمس آية من آيات الله تعالى، جعل لها مدارا تجري فيه، ونظاما لا تخرج عنه، فهي تطلع من جهة المشرق كل يوم، فإذا أذن الله تعالى بنهاية العالم، وقيام الساعة أمرها أن تطلع من جهة المغرب، وحينئذ يؤمن الناس ويوقنون بأمر القيامة، لكن لا ينفعهم الإيمان في تلك اللحظة إلا من كان آمن من قبل.
قال الله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) الأنعام/158.
روى البخاري (4635) ومسلم (157) عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) .
وقال تعالى في بيان سير الشمس وانضباطها بأمر الله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يّس/38.
وجاء في السنة تفسير ذلك، فروى البخاري (3199) أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ: أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فقال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ، فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: " ونؤمن بأشراط الساعة، من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وهكذا تسير الشمس والقمر في فلكيهما في انتظام باهر وسير محكم، كل يجري إلى أجل مسمى، إلى أن يأذن الله بخراب هذا العالم، فتخرج الشمس من مغربها كما في صحيح البخاري عن أبي ذر، ثم ذكر الحديث المتقدِّم.
وفي هذا الحديث دليل ظاهر على أن الشمس تسير بنفسها، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) وقوله: (كل يجري إلى أجل مسمى) وقوله: (وكل في فلك يسبحون) فهذه الأدلة تكذب ما يقال من أن الشمس ثابتة لا تدور، وتدل على أنه قول باطل يجب رده وتكذيبه " انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (6/195) .
والحاصل أن من علامات قيام الساعة: أن تطلع الشمس من جهة المغرب، بدلا من طلوعها من جهة المشرق، فإذا حدث ذلك دل على قرب قيام الساعة جدا، وحينئذ لا ينفع الكافر إيمانه.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/431)
هل يأجوج ومأجوج موجودون الآن وهل السدّ حقيقي
[السُّؤَالُ]
ـ[ي عن يأجوج ومأجوج: أعرف أنهم ذوو عدد كبير وأنهم ينهبون وأنهم في النار. وسؤالي هل هم ما يزالون أحياء؟ وهل هم محبوسون في السور الذي بناه ذو القرنين؟ وهل هذا السور واقعي (مصنوع من الحديد) أم تخيلي؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا شك أن يأجوج ومأجوج أمتان عظيمتان من بني آدم، والناظر في قصة ذي القرنين مع هذه الأمة في سورة الكهف يعلم قطعا أنهما موجودتان وأن السد الذي بني ليس سدّا معنويا أو خياليا بل هو سد حسي مبني من الحديد والنحاس المذاب والأصل أن تؤخذ هذه النصوص القرآنية على ظواهرها دون أن يتعرض لها بأيّ نوع من أنواع التحريف يخرجها عن معناها المقصود وقد فصّل لنا القرآن طريقة البناء بل ومادته فلا يصح بعد ذلك إنه يقال أنه سد معنوي أو وهمي قال الله تعالى في سورة الكهف في قصة الملك المسلم والقائد العظيم ذي القرنين رحمه الله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) .
ومما يدل على أن هذه الأمة موجودة الآن بل وتحاول يوميا الخروج على الناس ما جاء عند ابن ماجة بسند صحيح عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَسَنَحْفِرُهُ غَدًا فَيُعِيدُهُ اللَّهُ أَشَدَّ مَا كَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَثْنَوْا فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنْشِفُونَ الْمَاءَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهَا الدَّمُ الَّذِي اجْفَظَّ (أي ترجع سهامهم وقد امتلأت دما فتنة لهم) فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الأرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ نَغَفًا (أي دودا) فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَشْكَرُ شَكَرًا (أي تمتلىء شحما) مِنْ لُحُومِهِمْ. صحيح ابن ماجه 3298.
وكذلك حديث أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ. رواه البخاري 3097
والله اعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/432)
هل الزلازل الأخير سببه اختلال دوران الأرض وأنها في طريقها إلى الدوران العكسي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[انتشرت في الآونة الأخيرة رسالة على الهاتف المحمول (الجوال) تتحدث عن أسباب الزلزال الذي حدث في قارة آسيا، ونسب هذا القول إلى الدكتور زغلول النجار وكان نص الرسالة: د. زغلول النجار: سبب زلزال آسيا هو اختلال لدوران الأرض بسبب تباطئها مما يدل على أن الأرض في طريقها إلى الدوران العكسي والدخول في العلامات الكبرى وبداية لكوارث طبيعية إلى أن تشرق الشمس من مغربها. انشر واستغفر. ما رأيكم في هذه الرسالة وهل هي صحيحة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ما نسب في هذه الرسالة إلى الدكتور زغلول النجار، غير صحيح، وقد أنكره الدكتور نفسه، حين سئل عنه في برنامج "منبر الجزيرة: التجهيزات العربية لمواجهة الكوارث" على قناة الجزيرة الفضائية.
فأجاب: " والله أخي الكريم هذا الموضوع عارٍ عن الصحة تماما، جملة وتفصيلا ويبدو أن هناك شياطين من شياطين الإنس يريدون أن يروجوا بعض هذه الخرافات على لساني، لإدراكهم لمدى حب الناس لي من فضل الله وكرمه، فيصدقون هذا الكلام.
أولا: أنا أكرر كثيرا أن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغير سنن الدنيا تماما.
ثانيا: أن الآخرة كما وصفها القرآن الكريم لا تأتي إلا بغتة، يصفها ربنا تبارك وتعالى بقوله عز من قائل: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إلاّ بَغْتَةً) .
ثالثا: أن كتلة الأرض تقدر بحوالي ستة آلاف بليون مليون مليون طن، هذا الزلزال على قوته لا يمكن أن يغير من سرعة دوران الأرض أو يبطئ منها.
بعض الناس قالوا - وهذا موجود على الإنترنت - صحيح لو كان الانفجار هذا في عكس اتجاه دوران الأرض فهو يبطئ من سرعة الدوران وإذا كان في اتجاه دوران الأرض فهو يسرع من سرعة دوران الأرض حول محورها وفي الحالين التباطؤ أو التسارع لا يتجاوز واحد على المليون من الثانية فكيف يمكن أن يقال إن هذا من العلامات الكبرى للساعة، وأن العلامات الكبرى قد حددها رسولنا صلى الله عليه وسلم بدقة شديدة ولا مجال للاجتهاد بجوار أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. " انتهى.
وقد بين الدكتور في حوارات أخرى سبب الزلزال من الناحية العلمية، مع بيان أنه عقوبة على المعاصي والآثام.
قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/30.
وقال: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم/41.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/433)
المسيح ابن مريم والمهدي
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو الفرق بين المهدي والمسيح؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المهدي المُنتظر جاءت النصوص بأنَّه سيُوجد في آخر الزمان، وهو إمامٌ عادل من ذريَّة النبي عليه الصلاة والسلام، وليس بمعصوم، بخلاف عيسى عليه السلام الذي تواترت النصوص بنزوله في آخر الزمان، وحكمه بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فالفرق بينهما أنَّ المسيح عيسى نبي والمهدي إمامٌ عادل.
ولمزيد من التفصيل حول المسيح الدجال يراجع السؤال رقم 8806
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/434)
خروج المهدي
[السُّؤَالُ]
ـ[هل ورد في القرآن متى يخرج المهدي لإنقاذ المسلمين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يجب أن يعلم المسلم أن الكتاب والسنة في منزلة واحدة من حيث الاحتجاج ووجوب الإتباع، فكل من الكتاب والسنة وحي من الله يجب اتباعه، قال الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) النجم / 443.
وعن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ".
رواه أبو داود (4604) . وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3848)
ثانياً:
أمر الله بطاعة الرسول طاعة مستقلة فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} النساء / 59، وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر / 7.
ثالثاً:
لم يرد في القرآن ولا في السنة متى سيخرج المهدي على سبيل التحديد، غير أنه سيخرج في آخر الزمان ولكن لا بد من التنبيه على أمور:
1. خروج المهدي هو من أواخر العلامات الصغرى لقيام الساعة.
2. أدعى كثير من الناس أن المهدي خرج أو سيخرج لنصر أغراضهم الشخصية وعقائدهم الضالة كالقاديانية والبهائية والشيعة وغيرها من الطوائف المنحرفة فأدى ذلك ببعض المتأخرين أن يردوا أحاديث المهدي أو يؤولوها بأن المقصود بالمهدي نزول عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان، واستدل بعضهم بحديث ورد مرفوعا وهو: " لا مهدي إلا عيسى بن مريم ".
وهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
انظر " السلسلة الضعيفة " (1 / 175) للعلامة الألباني رحمه الله.
3. قد ألف كثير من العلماء كتباً في إثبات خروجه وجعلوا ذلك من عقيدة المسلم منهم: الحافظ أبو نعيم، وأبو داود وأبي كثير والسخاوي والشوكاني وغيرهم.
4. ثبت في السنة أنه سيجتمع بعيسى ابن مريم عليه السلام وأن عيسى سوف يصلي خلفه.
روى مسلم (156) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ".
وهذا الأمير المذكور في الحديث هو المهدي جاء ذلك في رواية أبي نعيم والحارث بن أسامة بلفظ: (فيقول أميرهم المهدي ... ) قال ابن القيم: إسناده جيد.
5. على المسلم أن لا ينتظر خروج المهدي بل عليه أن يسارع ويجتهد ويعمل بجد ونشاط لنصر الدين، وأن يقدم ما يستطيعه للدين، وأن لا يعتمد على خروج المهدي أو غيره، بل يُصلح نفسه وأسرته ومن حوله، وبالتالي إن لقي الله لقيه وقد أعذر من نفسه.
انظر كتاب المهدي حقيقة لا خرافة للشيخ محمد بن إسماعيل
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/435)
من هو ابن صياد؟ وهل هو المسيح الدجال؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت في بعض الأحاديث كلاما عن شخصية عجيبة ظهرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واسمه ابن صياد أو ابن صائد فمن هو هذا الرجل وما حقيقته؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ابن صياد اسمه: صافي، وقيل عبد الله بن صياد أو صائد.
كان من يهود المدينة، وقيل من الأنصار، وكان صغيراً عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وقيل إنه أسلم.
وكان ابن صياد دجّالاً، وكان يتكهن أحياناً فيصدق ويكذب، فانتشر خبره بين الناس، وشاع أنه الدجال. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطّلع على أمره ويتبين حاله، فكان يذهب إليه مختفياً حتى لا يشعر به رجاء أن يسمع منه شيئاً، وكان يوجه إليه بعض الأسئلة التي تكشف عن حقيقته. وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ فُقِدَ ابن صياد يوم الحرّة.
قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن صياد
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَقَالَ لَهُ مَاذَا تَرَى قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ. رواه البخاري 1355
قَوْله: " أُطُم " بِضَمَّتَيْنِ بِنَاء كَالْحِصْنِ.
وَ " مَغَالَة " بَطْن مِنْ الأَنْصَار ,
وَقَوْله " فَرَفَضَهُ " أَيْ تَرَكَهُ ,
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُرِيد أَنْ يَسْتَغْفِلهُ لِيَسْمَع كَلامه وَهُوَ لا يَشْعُر.
قَوْله: (لَهُ فِيهَا رُمْزَة أَوْ زُمْرَة) وفي رواية زَمْزَمَة
بِمَعْنَى الصَّوْت الْخَفِيّ , أو تَحْرِيك الشَّفَتَيْنِ بِالْكَلامِ، أو الكلام الغامض.
يُنظر فتح الباري شرح الحديث المتقدّم في كتاب الجنائز من صحيح البخاري
*هل ابن صياد هو الدجال الأكبر؟
في الحديث السابق - الذي فيه بعض أحوال ابن صياد وامتحان النبي صلى الله عليه وسلم له - ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفاً في أمر ابن صياد، لأنه لم يُوحَ إليه أنه الدجّال ولا غيره. وكان كثير من الصحابة يظنون أن ابن صياد هو الدجال. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يحلف أنه الدجال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وحضرة الصحابة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ففي الحديث عن محمد بن المنكدر قال: " رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ. قُلْتُ: تَْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رواه البخاري برقم 6808.
وقد حصلت لابن عمر قصّة عجيبة مع ابن صائد وردت في صحيح الإمام مسلم عن نَافِعٍ قَالَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ قَوْلا أَغْضَبَهُ فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلأَ السِّكَّةَ فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا فَقَالَتْ لَهُ رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَرَدْتَ مِنْ ابْنِ صَائِدٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا. صحيح مسلم 2932
وبالرغم من ذلك فقد كان ابن صياد لما كبر يحاول الدّفاع عن نفسه ويُنكر أنه الدّجال ويُظهر تضايقه من هذه التهمة، ويحتج على ذلك بأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الدجال لا تنطبق عليه.
ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي. فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ؛ فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَفَعَلَ. قَالَ: فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ - قدح كبير - فَقَالَ: اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ وَاللَّبَنُ حَارٌّ - مَا بِي إِلا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ أَوْ قَالَ آخُذَ عَنْ يَدِهِ - فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أَخْتَنِقَ مِمَّا يَقُولُ لِي النَّاسُ، يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمٌ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَقِيمٌ لا يُولَدُ لَهُ وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بِالْمَدِينَةِ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلا مَكَّةَ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ وَأَيْنَ هُوَ الآنَ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ " رواه مسلم برقم 5211. وقال ابن صياد في رواية: " أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الآنَ حَيْثُ هُوَ وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ " رواه مسلم برقم 5210.
وقد التبس على العلماء ما جاء في ابن صياد، وأشكل عليهم أمره، فمن قائل أنه الدجال، ومنهم من يقول أنه ليس الدجال. ومع كل فريق دليله، فتضاربت أقوالهم كثيراً، وقد اجتهد ابن حجر في التوفيق بين هذه الأقوال، فقال: " أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال: أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثوقاً، وأن ابن صياد هو شيطان تبدّى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه، إلى أن تجيء المدة التي قدّر الله تعالى خروجه فيها، فتح الباري (13 / 328) .
وقيل إنّ ابن صياد هو دجّال من الدّجاجلة وليس هو الدّجال الأكبر. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/436)
كيفية التصرف عند وقوع الفتن والافتراق
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هذا الزمان هو المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأله صحابي: ماذا أفعل عندما تكثر الفتن والفرقة فقال له ردا على سؤاله: اعتزل الناس، اجلس في بيتك، وفي الصحيح في كتاب الفتن باب كيف الحال إذا لم يكن خليفة الحديث فيما معناه أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم عند نزول النوازل بالاعتزال وقال: " ولو أن تعض على أصل شجرة " نرجو توضيح هذا الحديث وأقوال العلماء فيه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
في الصحيحين وغيرهما واللفظ للبخاري عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ ………..قال: " نعم وفيه دخن " قلت: وما دخنه؟ قال: " قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر " قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " قلت: يا رسول الله؛ صفهم لنا، قال: " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " والزمن ليس خاصاً بهذا الزمان وإنما هو عام في كل زمان ومكان من عهد الصحابة رضي الله عنهم زمن الفتنة والخروج على عثمان رضي الله عنه.
والمراد من اعتزال الناس زمن الفرقة ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح عن الطبري أنه قال: متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، ومتى وجد جماعة مستقيمة على الحق لزمه الانضمام إليها وتكثير سوادها والتعاون معها على الحق لأنها والحال ما ذكر هي جماعة المسلمين بالنسبة إلى ذلك الرجل وذلك المكان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
فتاوى اللجنة الدائمة 3/95
(1/437)
اقتربت السّاعة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يوم القيامة قريب، لأنه يبدو أن كل الناس يقترفون الذنوب الكثيرة في هذا الوقت؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} الأنبياء 1
قال ابن كثير في التفسير 3/172 " هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها وأن الناس في غفلة عنها أي: لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها ".
وقال تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون) النحل 1
قال ابن كثير في التفسير 2/560 " يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبراً بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة "
وقال تعالى {اقتربت الساعة وانشق القمر} . القمر 1
قال ابن كثير أيضا في التفسير 4/360 " يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها ".
وقال تعالى {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب} الشورى 17.
وروى الترمذي في السنن (1980-مع الصحيح) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟! فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا.
وروى أحمد ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " رواه مسلم برقم 5243 وأحمد برقم 3548.
وروى أحمد والبخاري عن مرداس الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
" يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة " انظر الجامع الصحيح 7934
وروى أحمد والشيخان والترمذي عن أنس قال: لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحد بعدي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا وتكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " رواه البخاري برقم 79 واللفظ له ومسلم برقم 4825 وأحمد برقم 12735 والترمذي برقم 2131
روى الطبراني عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر ". صحيح الجامع 3665
كل هذه النصوص تدل بمنطوقها الصريح على قرب قيام الساعة وعلى أن كثرة الذنوب والمعاصي من أشراطها، والكفار يستبعدون قيام السّاعة ويستبطئون مجيئها ولكن الأمر كما قال الله تعالى: (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) ، نسأل الله النجاة والسلامة والعافية في الدنيا والآخرة والحمد لله رب العالمين.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/438)
يسأل عن المخلص للإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو مسيح (المخلص المنتظر) الإسلام؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لا يعلِّق المسلمون آمالهم على من يخلصهم كما هو الأمر عند اليهود والنصارى والرافضة – الشيعة -، فأمر الإسلام تمَّ وأحكامه كملت، ولعل المقصود من السؤال هو " المهدي "، وهو لا يعدو كونه رجلاً من مصلحي هذه الأمة يملأ الله الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، وهو مثل غيره من المصلحين يسير على الكتاب والسنَّة ويحكم بهما.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
أمر المهدي أمر معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم: تواترها، وهي متواترة تواترا معنويا لكثرة طرقها واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق وهو (محمد بن عبد الله العلوي الحسني) من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل للأمة في آخر الزمان يخرج فيقيم العدل والحق ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلا وهداية وتوفيقا وإرشادا للناس.
وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره، وكما قال ابن القيم وغير: فيها الصحيح وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده، سواء كان صحيحا لذاته أو لغيره، وسواء كان حسنا لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشد بعضها بعضا فإنها حجة عند أهل العلم. فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره.
هذا ما عدا المتواتر، أما المتواتر فكله مقبول سواء كان تواتره لفظيا أو معنويا، فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة تواترا معنويا، فتقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها وكثرة طرقها وتعدد مخارجها، ونص أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها.
وقد رأينا أهل العلم أثبتوا أشياء كثيرة بأقل من ذلك، والحق أن جمهور أهل العلم- بل هو اتفاق منهم- على ثبوت أمر المهدي، وأنه حق، وأنه سيخرج في آخر الزمان.
أما من شذ عن أهل العلم في هذا الباب فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك.
" الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي " للشيخ عبد المحسن العبَّاد (ص 157) وكان كلام الشيخ ابن باز تعليقاً على محاضرة الشيخ العباد.
وهذه بعض المعلومات عن المهدي:
اسمه: محمد بن عبد الله.
صفته: أجلى الجبهة أقنى الأنف.
ومعنى أجلى الجبهة: أي: انحسر الشعر عن مقدمة الرأس، و " أقنى الأنف ": قَالَ فِي النِّهَايَة: اِلْقَنَا فِي الْأَنْف طُوله وَدِقَّة أَرْنَبَته مَعَ ارتفاع فِي وَسَطه اهـ بتصرف يسير. والمراد من ارتفاع أنفه أن قصبة أنفه ليست منخفضة ولا منفرشة فإنها هيئة مكروهة. قاله القاري في شرح مشكاة المصابيح (10/175) .
وقت ظهوره: في آخر الزمان، قريب من قيام الساعة، ويكون بعده نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
وهذه بعض الأحاديث الواردة فيه:
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يملك سبع سنين ". رواه أبو داود (4285) . وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي ". رواه الترمذي (2235) . قال الشيخ الألباني: حسن صحيح
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة ".
رواه مسلم (156) .
والأمير المذكور في الحديث هو المهدي.
وللاستزادة من أخبار المهدي فليراجع السؤال رقم (1252) .
تنبيه:
يخطئ بعض الناس في فهم أحاديث المهدي أو نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فيترك العمل للإسلام والدعوة إلى الله انتظاراً منه لنزول المسيح أو خروج المهدي، هذا الفهم خاطئ بلا شك، فالواجب على المسلمين السعي لإعلاء كلمة الله تعالى، وإظهار دينه وإيصال دعوة الحق إلى جميع الناس، ولنا أن نتصور ما كان سيصل إليه حال المسلمين من الانحطاط والضعف لو أن المسلمين السابقين فهموا هذا الفهم الخاطئ وعملوا به، هل كانوا سيهزمون التتار أو الصليبين، وهل كانوا سيفتحون البلاد، وللمزيد يراجع السؤال رقم (21221)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/439)
للمدينة سبعة أبواب عند دخول الدجال
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت حديثاً في صحيح البخاري يذكر أن الدجال يأتي وللمدينة ثمانية أبواب وعلى كل باب ملكان يحرسانها ويمنعان الدجال من الدخول للمدينة.
حسب علمي فالمدينة في هذا الوقت ليس لها أبواب وإنما طرق فقط. وسؤالي هو:
هل كلمة البوابة في الحديث ترمز للطريق؟ إذا كان الجواب نعم فكم عدد الطرق المؤدية إلى المدينة؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أما الحديث الذي ذكره السائل ففيه خطأ في النقل والحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب فضائل المدينة (1879) وكذلك في كتاب الفتن وبرقم (7125) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال ولها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الفتح في الكلام على الحديث تعليقاً على قوله صلى الله عليه وسلم " لها يومئذ سبعة أبواب " قال عياض: هذا يؤيد أن المراد بها الأنقاب كما في حديث أبي هريرة.
فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.
قال الحافظ في الفتح 4/96 الأنقاب جمع نقب …قال ابن وهب المراد بها المداخل، وقيل الأبواب، وأصل النقب الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب الطرق التي يسلكها الناس ومنه قوله تعالى {فنقبوا في البلاد}
هذا كل ما ذكره الحافظ في التعليق على الأبواب ويبقى الأمر فيه اجتهاد فيحتمل مثلاً
1- أن يكون للمدينة أبواب في المستقبل عند قدوم الدجال، وإن كانت لا توجد في يومنا هذا. 2- أن يكون المقصود بالأبواب المداخل الرئيسية وإن لم تكن على هيئة باب.
3- أن يكون الملائكة الموكلين بحراسها يغطون سبع جهات كل جهة ملكان فعبّر عن الجهة بالباب وهو جائز في لغة العرب. والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/440)
لماذا لم يخبرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوقت قيام الساعة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا لم يخبرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوقت قيام الساعة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لم يخبرنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوقت قيام الساعة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعلم وقت قيام الساعة. وقد سبق في السؤال رقم (32627) الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك.
ثانياً:
فإن قيل: لماذا لم يخبرنا الله تعالى بوقت قيام الساعة؟
فالجواب: أن الحكمة تقتضي إخفاء وقتها عن الخلق.
وبيان ذلك: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مبشراً لمن أطاعة بالجنة، ومنذراً لمن عصاه بالنار. والإنذار بالساعة والنار وأهوالها، لا تتم الفائدة منه إلا بإبهام وقتها؛ ليخشى أهلُّ كلِّ زمان إتيانَها فيه، فالإعلام بوقت إتيانها، وتحديد تاريخها، ينافي هذه الفائدة، بل فيه مفاسد أخرى؛ فلو قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس: إن الساعة تأتي بعد ألف سنة من يومنا هذا مثلا، لرأيت المكذبين يستهزئون بهذا الخبر، ويلحون في تكذيبه، والمرتابين يزدادون ارتيابا.
فالحكمة البالغة إذن في إبهام أمر الساعة للعالم، كما أخفى الله تعالى وقت الساعة الخاصة بكل إنسان وهي الموت.
قال الآلوسي رحمه الله:
"وإنما أخفي سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك؛ فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك. . . وتدل الآيات على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم وقت قيامها، نعم علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قربها على الإجمال، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به" اهـ.
"فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم، وأن يحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى في أعمالهم؛ فيلتزموا فيها الحق ويتحروا الخير، ويتقوا الشرور والمعاصي، ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة الجدال، والقيل والقال" اهـ من تفسير المنار.
ومن رحمة الله تعالى بخلقه أنه جعل لهم علامات دالة على قرب قيام الساعة، حتى يكون ذلك باعثاً لهم على العمل الصالح، وتقوى الله، واجتناب محارمه، فكلما رأوا علامة من علاماتها قد تحققت ازداد خوفهم من الساعة وأهوالها، وازداد يقينهم بقربها، فيزداد استعدادهم لذلك بالعمل الصالح.
قال الله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) محمد /18. أي علاماتها.
ويدل على ذلك ما رواه مسلم (2947) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوْ الدُّخَانَ، أَوْ الدَّجَّالَ، أَوْ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ) . رواه مسلم (2947) .
أي: سابقوا ست آيات دالة على وجود القيامة، وسارعوا بالأعمال الصالحة قبل وقوعها وحلولها؛ فإن العمل بعد وقوعها وحلولها لا يقبل، ولا يعتبر.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ) وفي رواية بالتصغير (خُوَيْصة أحدكم)
وهو ما يخص الإنسان دون غيره، وأراد به الموت، الذي يخصه، ويمنعه من العمل، إن لم يبادر به قبله. و "أَمْرَ الْعَامَّةِ" المراد به القيامة.
قال القاضي: "أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات؛ فإنها إذا نزلت أدهشت، وأشغلت عن الأعمال، أو سد عليهم باب التوبة، وقبول العمل".
قال العلائي: "مقصود هذه الأخبار الحث على البداءة بالأعمال قبل حلول الآجال واغتنام الأوقات قبل هجوم الآفات".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاغتنام الأوقات في طاعته.
والله تعالى أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/441)
حشر الناس سيكون في الشام وليس في عرفات
[السُّؤَالُ]
ـ[هل حشر الناس يوم القيامة سيكون في عرفات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ليس هناك دليل صحيح يدل على ذلك.
الشيخ سعد الحميد.
بل قد ثبت في الحديث الصحيح أن الحشر سيكون إلى الشام فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشام أرض المحشر والمنشر) رواه أحمد.
قال المناوي في فتح القدير: " أي البقعة التي يجمع الناس فيها إلى الحساب وينشرون من قبورهم ثم يساقون إليها، وخصت بذلك لأنها الأرض التي قال الله فيها: (باركنا فيها للعالمين) وأكثر الأنبياء بعثوا منها فانتشرت في العالمين شرائعهم فناسب كونها أرض المحشر والمنشر " انتهى. فيض القدير للمناوي - م / 4، ص / 171.
ولكن اجتماع الناس في الحج في عرفات يذكّر المسلم بالمحشر واجتماع العباد كلهم للحساب والجزاء.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/442)
لا يمكن أن يرى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير صفته
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا في عدة صفات أي أن يراه شخص في صفة معينة وآخر في صفة أخرى؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أخي السائل: اعلم أن العلماء في شرحهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ بِي) رواه البخاري (6994) رواه مسلم (2266) واللفظ لمسلم.
قالوا: إن هذا محمول على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته الخَلقية الواردة في الأحاديث الصحيحة، فإن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أن يأتي الشيطان في صورة أخرى سواء في اليقظة أو في المنام ثم يكذب ويقول: إني رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من الكذب، وليس هي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فيجب عليك أن تعرف السمات الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم. راجع السؤال رقم (1512) ، وقد وردت تلك الصفات في أحاديث كثيرة من حيث صفة خلقه وصفة كفه وصفة ذراعيه وصفة فمه وأسنانه، وصفة عينيه وصفة شعره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد كان هناك أشخاص يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم أكثرهم شبهاً به الحسن بن علي رضي الله عنهما. وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. فإذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في صفته الواردة في السنة فإنك رأيته حقاً، أما إن رأيته على غير صفته التي وردت في السنة المطهرة والسيرة النبوية، كأن رأيته حليق اللحية، أو اقطع اليد أو أقطع الرجل فللعلماء في هذه المسألة قولان:
الأول: أن ذلك يدل على نقص دين الرجل.
الثاني: الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه الصورة كذب، وهي من الشيطان، خاصة إذا رأيته في اليقظة، فإن ذلك كذب قطعاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم حي حياة برزخيه ولا يراه أحد في اليقظة ولا يزور أحداً ولا يكلم أحداً.
وما يدعيه البعض من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى إليه في اليقظة وحدثه وأخبره فإن هذا بلا شك من الشياطين والجن، خاصة أن ذلك لم يحدث لأكابر الصحابة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد وأبو عبيدة وسعد، وأهل بدر وأهل الشجرة وغيرهم من الصحابة سادة أولياء وأكابر المتقين، فإن ادعى أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة فلا شك أن المتمثل به شيطان أو جن ولا يثبت بذلك حكم، وقد وقع أعظم من ذلك للشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله حيث رأى جالساً على عرش بين السماء والأرض يقول له: أنا ربك؟ فقال: اخسأ عدو الله إنك إبليس. فقال: كيف عرفت أني إبليس قال: لأن الله عز وجل لا نراه في الدنيا حتى نموت، ولأنك قلت: أنا ربك، ولم تجرؤ أن تقول: أنا الله. وبالتالي فرؤية مثل هذه الأمور تكون من الشيطان ولا يغتر بذكر بعض من يظن الناس فيهم الصلاح ويذكرون حكايات عن رؤيتهم للأنبياء ومجالستهم معهم فهم صادقون في المجالسة، ولكن من جالسوا؟ فقد جالسوا الجن والشياطين حتى يكون ذلك فتنة ولكن من عصمه الله بالكتاب والسنة وقرأ الأذكار وآية الكرسي والمعوذات واستعان بالله انصرف ذلك كما حدث مع الأولياء المتقين كما يحكي ذلك شيخ الإسلام في كتابه عظيم القدر جليل النفع الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
تبقى مسألة لا بد من الإشارة إليها وهي إذا رأى الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته المذكورة في السنة الصحيحة فهي بشرى وأنه سيراه في اليقظة، فإذا أخبره بأمر شرعي يخالف ظاهر الكتاب والسنة فهل يعمل بما أخبره به أم يعمل بظاهر الكتاب والسنة؟ أو أخبره بمسألة لا بد فيها من بينة كأن تراءى الناس الهلال ولم يروه فأخبره أن غداً رمضان فهل يعمل بذلك أم لا أو أخبره أن فلاناً سرق من فلان أو في خصومة أن فلاناً معه الحق فهل يشهد بذلك؟
نص العلماء على أنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأمر يخالف ظاهر الكتاب والسنة أو بأمر لا بد فيه من البينة أنه لا يعمل بذلك؛ لأن الرؤية ليست تكليفاً وهو مكلف بالعمل بما في اليقظة، ويجب أن تعلم أن الرؤيا للأنبياء وحي، وأما رؤية الأنبياء في الرؤيا فليست وحياً بالاتفاق، ولكنها بشرى، وقد بين ذلك النووي رحمه الله تعالى.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/443)
حديث كسوف الشمس والقمر عند خروج المهدي لا يصح
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت من الطائفة الأحمدية والحمد لله، فقد هداني الله إلى السنة أنا ووالدتي وشقيقاي، وأسأل الله أن يهدي والدي وسائر إخواني.
وقد قرأت حديثاً: أن من علامات المهدي أن سيحدث كسوف الشمس والقمر في شهر رمضان عند أول ظهوره، فهل هذا الحديث صحيح أم ضعيف؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نحمد الله أن هداك ووفقك، وأنقذك من خطر هذه الفرقة المنحرفة، ونسأله سبحانه أن يمن على والدك وسائر أهلك بالهداية والصلاح.
وأما الأثر الذي أشرت إليه فليس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما رواه الدارقطني في سننه (2/65) من قول محمد بن الحنيفية (ابن علي بن أبي طالب) قال الدارقطني: حدثنا أبو سعيد الاصطخري ثنا محمد بن عبد الله بن نوفل ثنا عبيد بن يعيش ثنا يونس بن بكير عن عمرو بن شمر عن جابر عن محمد بن علي قال:
" إن لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق السماوات والأرض تنكسف القمر لأول ليلة من رمضان وتنكسف الشمس في النصف منه ولم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض".
وهذا الأثر موضوع مكذوب على محمد بن علي (ابن الحنفية) رحمه الله.
قال الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي في كتابه الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة ص 169
(وفيه: يونس بن بكير بن واصل الشيباني، أبو بكر الجمَّال الكوفي. يخطئ. من التاسعة. مات 199 هـ.
وعمرو بن شَمِر الجعفي الكوفي الشيعي أبوعبد الله: وضاع.
قال السليماني: كان عمرو يضع للروافض.
وقال الجوزجاني: كذاب زائغ.
قال الحاكم: كان كثير الموضوعات عن جابر الجعفي، وليس يروي تلك الموضوعات الفاحشة عن جابر غيره.
قال ابن حبان: رافض يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات.
قال أبوحاتم: منكر الحديث جدا ضعيف الحديث لا يشتغل به، تركوه.
وكذلك وهّاه غير واحد، منهم البخاري والنسائي وابن سعد والدارقطني وآخرون.
وجابر: هو الجعفي، متروك الحديث. وثقه شعبة ووكيع والثوري، ولكن كذبه ابن معين وأبو حنيفة وليث بن أبي سليم والجوزجاني وابن عيينة وابن خراش وسعيد بن جبير وغيرهم، وضعفه كثيرون.
قال الذهبي: وثقه شعبة فشذ، وتركه الحفاظ.
قال ابن حجر: ضعيف رافضي.
والخلاصة: أن هذا الخبر موضوع، وآفته عمرو الجعفي.
قال العظيم آبادي: عمرو بن شمر عن جابر: كلاهما ضعيفان لا يحتج بهما) انتهى.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/444)
حوادث تحصل قبل يوم القيامة تفرق بين المؤمنين والكافرين
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الاختبارات أو المحن التي قد تظهر قبل يوم القيامة، والتي تساعد في التفريق بين المسلمين والكافرين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علامات وأمارات قبل قيام الساعة، منها ما اصطلح العلماء على تسميته " علامات صغرى "، ومنه " علامات كبرى "، وبعضهم يجعل لها قسماً ثالثاً وهو " علامات وسطى " وهي " خروج المهدي "، فهو من العلامات الصغرى ويحدث في زومه بعض العلامات الكبرى.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأشياء التي تميز المؤمن من الكافر قبل يوم القيامة، فمن ذلك:
أ. خروج الدابة.
قال الله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} النمل / 82.
قال ابن كثير:
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، يُخرج الله لهم دابةً من الأرض. " تفسير ابن كثير " (3 / 375) .
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تخرج الدابَّة فتسِم الناس على خراطيمهم، ثم يغمرون فيكم، حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: اشتريته من أحد المخطَّمين ". رواه أحمد (21805) .
والحديث: صححه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (322) .
تسِم الناس على خراطيمهم: تعلِّمهم على أنوفهم، فيصبح للمؤمن سمة وللكافر سمة.
يغمرون: يكثرون.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثٌ إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها والدجال، ودابَّة الأرض ".
رواه مسلم (158) .
ب. أتباع الدجَّال عند خروجه.
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة ". رواه مسلم (2944) .
والطيالسة نوع من الثياب.
ت. نفي المدينة النبويةَّ للكفار والمنافقين زمن الدجال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقْب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيُخرج الله كلَّ كافرٍ ومنافقٍ ".
رواه البخاري (1782) ومسلم (2943) .
النقاب: الطرق.
ث. هبوب الريح من اليمن.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة – أو: مثقال ذرة - من إيمان إلا قبضتْه ".
رواه مسلم (117) .
قال النووي:
وأما معنى الحديث فقد جاءت في هذا النوع أحاديث منها: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "، ومنها " لا تقوم على أحد يقول الله الله " ومنها " لا تقوم إلا على شرار الخلق "، وهذه كلها وما في معناها على ظاهرها، وأما الحديث الآخر " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة ": فليس مخالفا لهذه الأحاديث؛ لأن معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب.
" شرح مسلم " (2 / 132) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/445)
الساعة الوسطى
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت أقرأ في موقع عن علامات الساعة وقرأت هذا الحديث (" سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فنظر لشاب صغير وقال إذا عاش فلن يعمر طويلا حتى يرى آخر ساعة تأتيكم " ويقصد بهذا موتهم ويوم القيامة، لأن جميع الناس سيموتون ويحضرون يوم القيامة، بعض الناس يقولون بأن الرجل إذا مات بدأ حسابه، هذا الحديث بهذا المعنى صحيح) ، هل معنى هذا الحديث أن القيامة ستبدأ قبل أن يكبر هذا الصغير؟
أرجو توضيح المعنى الصحيح للحديث.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث مروي في الصحيحين بألفاظ متعددة، منها: ما رواه البخاري (6146) ومسلم (2952) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم قال هشام [أحد رواة الحديث] : يعني موتهم.
والحديث واضح المعنى، والمراد منه أن ساعة هؤلاء، أي موتهم أمر قريب، يقع عند هرم هذا الفتى الصغير. وليس المراد من هذا الحديث الساعة الكبرى وهي يوم القيامة.
قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد (بِسَاعَتِكُمْ) مَوْتهمْ , وَمَعْنَاهُ يَمُوت ذَلِكَ الْقَرْن , أَوْ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبُونَ اهـ. نقلاً من شرح مسلم للنووي.
وقال الكرماني: (هذا الجواب من الأسلوب الحكيم أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم به تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر) انتهى
قال الراغب الأصفهاني: (الساعة جزء من الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب قال الله تعالى "وهو أسرع الحاسبين " أو لما نبه عليه بقوله "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار" وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء: الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة. والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد ... والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته اهـ من فتح الباري.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/446)
كيف يجمع بين قوة إسرائيل وقرب قيام الساعة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قال النبي صلى الله عليه وسلم إن العلامات (أشراط الساعة) سوف تقع بسرعة، وأنه عليه السلام هو أول تلك العلامات … لكن ما الذي يحدث الآن؟ كيف يمكن أن تكون إسرائيل قوية إلى هذا الحد في الأرض؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أشراط الساعة ليست كلها على درجة واحدة، بل منها الصغرى ومنها الكبرى، والكبرى هي التي إذا ظهرت الأولى منها تتابع ما بعدها كحبات العقد إذا انقطع، أما الصغرى فإن ما بين ظهور أولها وآخرها زمان كبير، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي من علامات الساعة الصغرى لا الكبرى.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، قال: وضم السبابة والوسطى.
رواه البخاري (6139) ومسلم (2951) .
قال القرطبي:
أول أشراط الساعة: النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي آخر الزمان، وقد بُعث وليس بينه وبين القيامة نبي.
" التذكرة " (ص 111) .
وأما قوة إسرائيل (دولة اليهود) فهو أمر حصل لهم بقدر الله تعالى.
قال تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} آل عمران / 112.
وإمداد الله لهم وإمهالهم ليأخذهم بقوة وشدة.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال: ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} .
رواه البخاري (4409) ومسلم (2583) .
وفي زمان المهدي ونزول المسيح عيسى عليه السلام يتم انتصار المسلمين على اليهود.
فقد ثبت أنه بينما إمام المسلمين " المهدي " قد تقدم ليصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم، فرجع الإمام يمشي القَهقَرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف، ثم يقصد عيسى الدجال ومع الدجال سبعون ألف يهودي، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيدركه المسيح عيسى عليه السلام عند باب لُدّ (وهي بلدة قربية من بيت المقدس) فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به يهودي، إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا قال: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي فتعال اقتله، إلا شجر الغرقد فإنها من شجرهم لا تنطق.
فإذا أراد المسلمون القضاء على اليهود وعموم الكفرة فلا بدَّ لهم من الرجوع إلى الله تعالى ونصرة دينه حتى ينصرهم الله عز وجل، فاليهود أذل وأرذل مما يُتصور لكنه استقووا في غياب تمسك المسلمين بدينهم.
نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/447)
حقيقة المهدي وترتيب أشراط الساعة
[السُّؤَالُ]
ـ[من هو الإمام المهدي أو من سيكون؟ وهل هناك أي دليل على خروجه من القرآن والسنة؟ ما هو ترتيب ظهور علامات القيامة بما فيها خروج المهدي وفتنة الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام؟ أرجو الإجابة بالتفصيل.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الإمام المهدي هو رجل صالح من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم، يكون في آخر الزمان، يصلح الله به أمر الناس، ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، واسمه على اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه على اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، فهو محمد بن عبد الله المهدي، أو أحمد بن عبد الله المهدي، وينتهي نسبه إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنهم، وعلامة ظهوره فساد الزمان، وامتلاء الأرض بالظلم والعدوان.
وقد دل على ظهوره وأوصافه التي ذكرنا أهمها عدة أحاديث، بلغت في مجموعها التواتر المعنوي، وهي مبينة ومفصلة في السؤال رقم (1252)
أما ترتيب أشراط الساعة فقد اختلف العلماء فيه، وسبب اختلافهم أنه لم يرد ترتيب لها في السنة، لكن استنبط العلماء ترتيب بعض الأحداث على ما يلي:
1- ظهور أشراط الساعة الصغرى، وهي كثيرة جدا، وليس بينها ترتيب معين، فمنها: بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وموته، وطاعون عمواس، وظهور الفتن، وضياع الأمانة، وقبض العلم، وظهور الجهل، وانتشار الربا والزنا والمعازف والخمور، واستحلالها، والتطاول في النبيان، وكثرة القتل، وتقارب الزمان، وزخرفة المساجد، وظهور الشرك، وانتشار الفحشاء، وكثرة الشح، وكثرة الزلازل، وظهور الخسف والمسخ والقذف، وذهاب الصالحين، وصدق رؤيا المؤمن، والتهاون بالسنن، وكثرة الكذب، وكثرة شهادة الزور، وكثرة موت الفجأة، وكثرة المطر وقلة النبات، وتمني الموت، وكثرة الروم وقتالهم، وغير ذلك مما وردت به جملة الأحاديث الثابتة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- خروج المهدي، ويكون ظهوره قبل خروج الدجال وقبل نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا، فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة " أخرجه الحارث بن أبي أٍسامة في مسنده، وقال ابن القيم في المنار المنيف (1/147) إسناده جيّد. والحديث أصله في صحيح مسلم بدون تسميه الأمير بلفظ: ".. فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ. " رواه مسلم برقم 225، فيأتم عيسى عليه السلام بالمهدي مما يدل على أنه قبل عيسى، وعيسى يقتل الدجال، مما يدل على أن الدجال يخرج في زمن المهدي. (انظر السؤال رقم 10301)
3- خروج الدجال. (انظر تفاصيل خروجه في السؤال رقم 8806، 171، 8301)
4- نزول عيسى ابن مريم وقتله للدجال. (انظر السؤال رقم 10302)
5- خروج يأجوج ومأجوج، ومما يدل على أن خروج يأجوج ومأجوج يكون في زمن عيسى عليه السلام حديث النواس بن سمعان أن النبيى صلى الله عليه وسلم حدثهم حديثا عن الدجال وقال فيه:" فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء " [رواه مسلم برقم 2937] (انظر السؤال رقم 171، 3437)
ثم تتوالى أشراط الساعة بسرعة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خروج الآيات بعضها على أثر بعض يتتابعن كما تتابع الخرز في النظام) [رواه الطبراني في معجمه الأوسط وصححه الألباني في صحيح الجامع] ، فتطلع الشمس من مغربها، وتخرج الدابة، ويظهر الخسف وغير ذلك من العلامات الكبرى، نسأل الله الثبات حتى الممات، والله أعلم.
للمزيد انظر (المهدي المنتظر للدكتور عبد العليم البستوي 1 / 356، أشراط الساعة ليوسف الوابل ص 249، السؤال رقم (3259)) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/448)
التعوذات والأذكار النبوية في الفتن والكروب
[السُّؤَالُ]
ـ[هل هناك أدعية نقولها عند المصائب والفتن: كالحروب واعتداء الكفار على بلاد المسلمين؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله كثيراً من الفتن كما في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن " رواه مسلم (2867) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فذكر الحديث وفيه قوله تعالى " يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون " رواه الترمذي 3233 وقال عنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (408) : صحيح لغيره.
وكان النبي يتعوذ من الفتن لأنها إذا أتت لا تصيب الظالم وحده وإنما تصيب الجميع..
ويحسن بنا التعرف على أحاديث الأذكار المتعلقة بالفتن والكروب للدعاء بها ونشرها وحفظ ما تيسر حفظه منها.. وإدراك معاينها للتعبد لله بذلك إذ هي أعظم ما يقال في هذه الأحوال:
1- حديث أَبِي بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ " رواه أبو داود 1537 وصححه الألباني في صحيح أبي داوود 1360.
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " رواه البخاري 6345 ومسلم 2730.
3- قال صلى الله عليه وسلم: " كلمات الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم " صحيح الجامع الصغير وزيادته (4571) .
4- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: " اللهم أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل " رواه الترمذي 3584 وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2836
5- وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا ففرج عنه ... دعاء ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وفي رواية " لم يدع بها رجل مسلم في شيءٍ قط إلا استجاب الله له " صحيح الجامع الصغير وزيادته (2065) .
6- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم صحابته من الفزع كلمات: " أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون " رواه أبو داود 3893 وحسنه الألباني في صحيح أبي داوود (3294) .
7- قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ " رواه أبو داود 5090. وحسنه الألباني في صحيح أبي داوود 4246.
8- وكان إذا كربه أمر قال: " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث " وفي رواية: " إذا نزل به همٌّ أو غمٌّ " صحيح الجامع الصغير 4791
9- وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسماء بنت عميس أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ (أي المحنة والمشقة) اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " رواه أبو داود (1525) وصححه الألباني في صحيح أبي داوود (1349) وفي رواية في صحيح الجامع: " من أصابه همٌّ أو غمٌّ أو سقمٌّ أو شدَّة فقال: الله ربي لا شريك له كُشف ذلك عنه ".
وغيرها من الأحاديث التي لها أثرها الإيجابي الكبير في أوقات الفتن والخوف ... من تهدئة للنفس وسلامة في البدن وقرب من الله عز وجل.. مع الاكتفاء بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه غنية عما لا يصح.. وفيه الخير.. والله أعلم
أنظر السؤال 12715.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/449)
أحاديث المهدي ونزول المسيح عليه السلام ليست مدعاة لترك العمل
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض الناس يفهم من أحاديث المهدي أو نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، أنها مدعاة لترك العمل للإسلام، فيجلس منتظراً خروج المهدي، أو نزول المسيح حتى تعود العزة للإسلام والمسلمين، فما رأيكم في هذا الفهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن هذه الحال المزرية التي وصلت إليها الأمة الإسلامية اليوم، حال يندى لها الجبين، وكل المسلمين مسئول عن إصلاح هذا الوضع، غير أن بعض المسلمين يعطل العمل، اكتفاءً بالأمل، ويهرب من إصلاح الواقع المرير للأمة بحجة أنه تسبب فيه من قبلنا، وسيصلحه من بعدنا!! ويتوقف عن السعي للتمكين لدين الله، بحجة أن المهدي هو الذي سيفعل.
إنه هروب إلى الأماني مع تعطيل الأسباب الشرعية، والله تعالى يقول: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) النساء/123.
إن هذه السلبية التي يعاني منها بعض المسلمين اليوم، لا يمكن للنصوص الشرعية أن تكون دالة عليها، وإنما هو سوء الفهم، والعجز والكسل، والهروب من تحمل المسئولية.
فإن الله تعالى أمر المسلمين بالعمل لهذا الدين، والدعوة إلى الله، ومجادلة الكفار ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقتالهم حتى لا يكون شرك على الأرض، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الأنفال-39.
قال ابن كثير رحمه الله:
" أمر تعالى بقتال الكفار (حتى لا تكون فتنة) أي شرك (ويكون الدين لله) أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان " انتهى.
وهذا الأمر ليس خاصاًًّ بزمان دون زمان، بل المسلمون في كل زمان ومكان مأمورون بهذا.
ولا شك أن العمل للإسلام وتمكينه في الأرض يستلزم من المسلمين الاجتهاد والبذل والأخذ بالأسباب المؤدية إلى هذا.
وبعض الناس يسيء فهم هذه الأحاديث الواردة في خروج المهدي أو نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فيتواكل ويترك العمل ويجلس منتظراً لخروج المهدي أو نزول المسيح فيترك الدعوة إلى الله ... والعمل لإعلاء كلمة الله. وقد أمر الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأخذ بالأسباب والسعي في الأرض والعمل.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) النساء/71.
وقال سبحانه وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال/60. وقال عز وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك/15. وقال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) المطففين/26. وقال سبحانه: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات/61. وقال جل وعلا: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الإسراء/19. وقال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) البقرة/197.
وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم يعُدّ لكل أمر عدّته، ويرسم له خطّته، كما حدث في رحلة الهجرة فقد أعدّ الرواحل والدليل واختار الرّفيق، وحدد مكان الاختفاء إلى أن يهدأ الطلب، وأحاط ذلك كله بسياج من الكتمان، وكذلك كانت سيرته في غزواته كلّها، وعليه ربّى أصحابه الكرام، فكانوا يلقون عدوّهم متحصنين بأنواع السلاح، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة والبيضة (الخوذة) على رأسه مع أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المائدة/67. وكان إذا سافر في جهاد أو حجّ أو عمرة حمل الزاد والمزاد.
وقال صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ) رواه مسلم (2664) .
ولنا أن نتخيّل الحال التي كان يمكن أن يؤول إليها مصير الدعوة والأمة لو أن الأجيال السابقة أصغوا إلى نداءات الاستسلام حتى يخرج المهدي، هل كانوا سيهزمون التتار والصليبين ويفتحون القسطنطينية؟!
وهذا الفهم الخاطئ للنصوص الشرعية الواردة في شأن المهدي والمسيح عليه السلام قد تصدى له كثير من العلماء والدعاة والكتاب.
قال الشيخ الألباني رحمه الله:
" لا يجوز للمسلمين أن يتركوا العمل للإسلام، وإقامة دولته على وجه الأرض انتظاراً منهم لخروج المهدي، ونزول عيسى ـ عليهما السلام، يأساً منهم أو توهماً أن ذلك غير ممكن قبلهما، فإن هذا توهّم باطل، ويأس عاطل، فإن الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام ولا سلطان له على وجه الأرض إلا في زمانهما، فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك، لقوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد/7. وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) الحج/40. . . . إن أحاديث نزول عيسى عليه السلام وغيرها، الواجب فيها الإيمان بها، وردّ ما توهّمه المتوهّمون منها من ترك العمل، والاستعداد الذي يجب القيام به في كل زمان ومكان.." انتهى.
وقال الأستاذ عبد العزيز مصطفى:
" جهاد الكفار أياً كانوا وأينما كانوا وفي أي زمان كانوا واجب بالشرع المحكم غير المنسوخ، وهذه حقيقة إسلامية ثابتة، وهذا الجهاد واجب بشروطه، وضوابطه وأحكامه، وليس من هذه الشروط أو الضوابط أو الأحكام أن يؤخر الجهاد انتظاراً لتحول الغيب إلى شهادة، ما هكذا فهم المسلمون الأوائل، وما هكذا فعلوا، بل إنهم لما أُخبروا بأن الله تعالى سيكسر مُلك كسرى بسيوفهم ما قبعوا في البيوت ينتظرون تحقق الخبر، ووقوع الأمر بلا مقدمات يبذلونها، وجهود يقدمونها، لا، بل أعدوا للأمر عُدّته وأخذوا للشأن أهبته، حتى وقع النصر، وتطابق أمر الشرع مع أمر القدر ... أما بعض مسلمي اليوم فيقولون: لا.. إن جهاد اليهود لن يكون حتى يخرج الدجال. . ولعل هذا من جملة فِتن الدجال في هذه الدنيا.
وانطلى هذا الكلام السخيف على قطاعات من الشباب المسلم، فألقوا عن كواهلهم تحمل أية مسؤولية تجاه المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، تماماً كما انطلى على كثير منهم من قبل كلام أسخف منه، مؤداه أن الدولة الإسلامية والخلافة لن تقوم حتى يخرج المهدي!!
وعجباً لمروجي هذا الكلام ومردديه، كأنهم يقولون بلسان حالهم لليهود: اشتدوا في عدائكم.. وللنصارى استمروا في طغيانكم.. وللمسلمين استمروا في تشتتكم وتفرقكم وتنازعكم وغثائكم، حتى يخرج المهدي إليكم، ولا أدري: بأية حجج وأدلة يقعون في هذه الزلّة، متوهمين أن المهدي سيخرج إلى قوم قاعدين أو سينصره أناس خاملون" انتهى.
نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداًّ جميلاً.
والله تعالى أعلم.
انظر: "المهدي وفقه أشراط الساعة" للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/450)
حديث (لا مهدي إلا عيسى) لا يصح
[السُّؤَالُ]
ـ[هل حديث: (لا مهدي إلا عيسى) صحيح؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث رواه ابن ماجه في سننه (4039) .
وتكاد تتفق كلمة المحدثين على تضعيف هذا الحديث.
فقد ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/256) وابن القيم في المنار المنيف (ص 148) .
وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/535) : هو خبر منكر اهـ.
وقال القاري في "مرقاة المفاتيح" (10/183) : ضعيف باتفاق المحدثين اهـ.
وذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (127) وقال: قال الصغاني: موضوع اهـ.
وقال الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (77) : منكر اهـ.
وإن صح هذا الحديث –وهو لا يصح- فمعناه لا مهدي كامل أو معصوم إلا عيسى ابن مريم. ذكره القرطبي وابن القيم وابن كثير.
فلا ينافي ذلك خروج المهدي في آخر الزمان، والذي سيجتمع بعيسى ابن مريم عليه السلام، ويصلي عيسى خلفه مأموماً.
وقد سبق في إجابة السؤال رقم (1252) الأدلة من السنة على خروج المهدي في آخر الزمان بالصفات التي ذكرها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة بمثل هذا الحديث الضعيف.
انظر: الأحاديث الضعيفة (1/89) للألباني، و"الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة" للبستوي (ص 94-104) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/451)
من علامات الساعة تقارب الزمان
[السُّؤَالُ]
ـ[هل من علامات الساعة أن الأيام ستمر بسرعة وتكون قصيرة؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لعل السائل يشير إلى ما رواه البخاري (1036) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، وحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ) .
وروى أحمد (10560) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ) والسعفة هي الْخُوصَةُ.
قال ابن كثير: إسناده على شرط مسلم اهـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7422) .
فهذان الحديثان يدلان على أن من علامات الساعة تقارب الزمان.
وقد اختلف العلماء في معنى تقارب الزمان على أقوال كثيرة، وأقوى هذه الأقوال:
أن تقارب الزمان يحتمل أن يكون المراد به التقارب الحسي أو التقارب المعنوي.
أما التقارب المعنوي؛ فمعناه ذهاب البركة من الوقت، وهذا قد وقع منذ عصر بعيد.
وهذا القول قد اختاره القاضي عياض والنووي والحافظ ابن حجر رحمهم الله.
قال النووي: الْمُرَاد بِقِصَرِهِ عَدَم الْبَرَكَة فِيهِ، وَأَنَّ الْيَوْم مَثَلا يَصِير الانْتِفَاع بِهِ بِقَدْرِ الانْتِفَاع بِالسَّاعَةِ الْوَاحِدَة اهـ.
وقال الحافظ: وَالْحَقّ أَنَّ الْمُرَاد نَزْع الْبَرَكَة مِنْ كُلّ شَيْء حَتَّى مِنْ الزَّمَان، وَذَلِكَ مِنْ عَلامَات قُرْب السَّاعَة اهـ.
ومن التقارب المعنوي أيضاً: سهولة الاتصال بين الأماكن البعيدة وسرعته مما يعتبر قد قارب الزمان، فالمسافات التي كانت تقطع قديماً في عدة شهور صارت لا تستغرق الآن أكثر من عدة ساعات.
قال الشيخ ابن باز: في تعليقه على فتح الباري (2/522) : التقارب المذكور في الحديث يُفسّر بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقِصر المسافة بينها بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعة وما إلى ذلك، والله أعلم اهـ.
وأما التقارب الحسي؛ فمعناه: أن يقصر اليوم قصراً حسياً، فتمر ساعات الليل والنهار مروراً سريعاً، وهذا لم يقع بعد، ووقوعُهُ ليس بالأمر المستحيل، ويؤيده أن أيام الدجال ستطول حتى يكون اليوم كالسنة وكالشهر وكالجمعة في الطول، فكما أن الأيام تطول فكذلك تقصر. وذلك لاختلال نظام العالم وقرب زوال الدنيا.
ونقل الحافظ في "الفتح" عن اِبْنِ أَبِي جَمْرَة أنه قال:
"يَحْتَمِل أَنْ يَكُونُ الْمُرَاد بِتَقَارُبِ الزَّمَان قِصَره عَلَى مَا وَقَعَ فِي حَدِيث " لا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَكُونَ السَّنَة كَالشَّهْرِ "، وَعَلَى هَذَا فَالْقِصَر يَحْتَمِل أَنْ يَكُونُ حِسِّيًّا، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا , أَمَّا الْحِسِّيّ فَلَمْ يَظْهَر بَعْد، وَلَعَلَّهُ مِنْ الْأُمُور الَّتِي تَكُونُ قُرْب قِيَام السَّاعَة , وَأَمَّا الْمَعْنَوِيّ فَلَهُ مُدَّة مُنْذُ ظَهَرَ يَعْرِف ذَلِكَ أَهْل الْعِلْم الدِّينِيّ، وَمَنْ لَهُ فِطْنَة مِنْ أَهْل السَّبَب الدُّنْيَوِيّ، فَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ أَنْفُسهمْ لَا يَقْدِر أَحَدهمْ أَنْ يَبْلُغ مِنْ الْعَمَل قَدْر مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَشْكُونَ ذَلِكَ وَلا يَدْرُونَ الْعِلَّة فِيهِ , وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ ضَعْف الإِيمَان لِظُهُورِ الأُمُور الْمُخَالِفَة لِلشَّرْعِ مِنْ عِدَّة أَوْجُهُ , وَأَشَدّ ذَلِكَ الأَقْوَات فَفِيهَا مِنْ الْحَرَام الْمَحْض وَمِنْ الشُّبَه مَا لا يَخْفَى، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاس لا يَتَوَقَّف فِي شَيْء، وَمَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيل شَيْء هَجَمَ عَلَيْهِ وَلا يُبَالِي , وَالْوَاقِع أَنَّ الْبَرَكَة فِي الزَّمَان وَفِي الرِّزْق وَفِي النَّبْت إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ طَرِيق قُوَّة الإِيمَان وَاتِّبَاع الأَمْر وَاجْتِنَاب النَّهْي , وَالشَّاهِد لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْل الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنْ السَّمَاء وَالأَرْض) اِنْتَهَى مُلَخَّصًا.
ونحوه قاله السيوطي في " الحاوي للفتاوي" (1/44) ، فإنه قال في معنى الحديث:
"قيل هو على حقيقته نقص حسي، وأن ساعات النهار والليل تنقص قرب قيام الساعة. وقيل: هو معنوي وأن المراد سرعة مر الأيام ونزع البركة من كل شيء حتى من الزمان. . . وفيه أقوال غير ذلك. والله أعلم اهـ.
وهذه الأقوال الثلاثة: "نزع البركة" و "سهولة الاتصال" و "التقارب الحسي" لا تعارض بينها، ولا مانع من حمل الحديث عليها جميعها. والله تعالى أعلم.
وقد قيلت أقوال أخرى في معنى "تقارب الزمان" غير أنها لم تبلغ من القوة درجة الأقوال السابقة.
منها: ما قَالَه الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مِنْ اِسْتِلْذَاذ الْعَيْش , قال الحافظ: يُرِيد -وَاَللَّه أَعْلَم- أَنَّهُ يَقَع عِنْد خُرُوج الْمَهْدِيّ، وَوُقُوع الْأَمَنَة فِي الْأَرْض، وَغَلَبَة الْعَدْل فِيهَا، فَيَسْتَلِذّ الْعَيْش عِنْد ذَلِكَ، وَتُسْتَقْصَر مُدَّته , وَمَا زَالَ النَّاس يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّة أَيَّام الرَّخَاء وَإِنْ طَالَتْ، وَيَسْتَطِيلُونَ مُدَّة الْمَكْرُوه وَإِنْ قَصُرَتْ. ثم قال الحافظ: وَأَقُول: إِنَّمَا اِحْتَاجَ الْخَطَّابِيُّ إِلَى تَأْوِيله بِمَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَع النَّقْص فِي زَمَانه , وَإِلا فَاَلَّذِي تَضَمَّنَهُ الْحَدِيث قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا هَذَا، فَإِنَّا نَجِد مِنْ سُرْعَة مَرِّ الْأَيَّام مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدهُ فِي الْعَصْر الَّذِي قَبْلَ عَصْرنَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْش مُسْتَلَذّ , وَالْحَقّ أَنَّ الْمُرَاد نَزْع الْبَرَكَة. . . اهـ.
ومنها: ما قَالَه اِبْن بَطَّال أن المراد "تَقَارُب أَحْوَال أَهْله" فِي قِلَّة الدِّين، حَتَّى لا يَكُون فِيهِمْ مَنْ يَأْمُر بِمَعْرُوفٍ، وَلا يَنْهَى عَنْ مُنْكَر، لِغَلَبَةِ الْفِسْق وَظُهُور أَهْله اهـ.
وهذا التأويل خلاف ظاهر الحديث، ويرده قوله صلي الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ. . . الحديث) . فإنه ظاهر أن المراد تقارب الزمان نفسه، لا تقارب أحوال أهله.
والله تعالى أعلم.
انظر فتح الباري (13/21) شرح حديث رقم (7061) ، "إتحاف الجماعة للتويجري" (1/497) ، "السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها" لأبي عمرو عثمان الداني، تحقيق د/ رضاء الله المباركفوري. "أشراط الساعة" للوابل (ص 120) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/452)
فتنة المسيح الدجال
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو أعطائي معلومات كافية عن الدجال؟ وما هي فتنته؟ وكيفية النجاة منها؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
*معنى المسيح:
ذكر العلماء ما يزيد عن خمسين قولاً في معنى " المسيح ". وقالوا أن هذا اللفظ يطلق على الصدّيق وعلى الضلّيل الكذاب، فالمسيح عسى ابن مريم الصدّيق، مسيح الهدى، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحي الموتى بإذن الله.
والمسيح الدجال هو الضلّيل الكذاب، مسيح الضلالة يفتن الناس بما يعطاه من الآيات كإنزال المطر وإحياء الأرض بالنبات وغيرهما من الخوارق.
فخلق الله المسيحين أحدهما ضد الآخر.
وقال العلماء في سبب تسمية الدجال بالمسيح: أن إحدى عينيه ممسوحة، وقيل: لأنه يمسح الأرض في أربعين يوماً.. والقول الأول هو الراجح، لما جاء في الحديث الذي رواه مسلم برقم 5221 عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ.. ".
*معنى الدجال:
الدَّجل: هو الخلط والتلبيس، يقال دَجَلَ إذا لبّس ومَوَّهَ، والدجال: المُمَوِّه الكذاب، الذي يُكثِر من الكذب والتلبيس.
ولفظة " الدجال " أصبحت عَلَمَاً على المسيح الأعور الكذاب، وسمي الدجال دجالاً: لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيسه عليهم.
*صفة الدجال والأحاديث الواردة في ذلك:
الدجال رجل من بني آدم، له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث لتعريف الناس به، وتحذيرهم من شره، حتى إذا خرج عرفه المؤمنون فلا يفتنون به، بل يكونون على علم بصفاته التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم وهذه الصفات تميزه عن غيره من الناس، فلا يغتر به إلا الجاهل الذي سبقت عليه الشقوة. نسأل الله العافية.
ومن هذه الصفات:
أنه رجل شاب أحمر، قصير، أفحج جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وهذه العين ليست بناتئة - منتفخة وبارزة - ولا جحراء - غائرة - كأنها عنبة طافئة.
وعينه اليسرى عليها ظفرة - لحمة تنبت عند المآقي - غليظة. ومكتوب بين عينيه " ك ف ر " بالحروف المقطعة، أو " كافر " بدون تقطيع، يقرؤها كل مسلم، كاتب وغير كاتب.
ومن صفاته أنه عقيم لا يولد له.
وهذه بعض الأحاديث الصحيحة التي جاء فيها ذكر صفاته السابقة وهي من الأدلة على ظهور الدجال:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ. فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ " رواه البخاري برقم 6508، وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ.
2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: " إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ.. " رواه البخاري برقم 3184.
3- وفي الحديث الطويل الذي رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ.. " فقال في وصف الدجال: " إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ - شديد جعودة الشعر- عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ " رواه مسلم برقم 5228.
4- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ " رواه أبو داود برقم 3763، والحديث صحيح (صحيح الجامع الصغير / حديث رقم 2455) .
5- وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وَأَمَّا مَسِيحُ الضَّلالَةِ فَإِنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ أَجْلَى الْجَبْهَةِ عَرِيضُ النَّحْرِ فِيهِ دَفَأٌ - إنحناء -.. " رواه أحمد برقم 7564.
6- وفي حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: " الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ - كَثِيرُهُ - مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ " رواه مسلم برقم 5222.
7- وفي حديث أنس رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ " رواه البخاري برقم 6598، وفي رواية: " وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر " مسلم برقم 5219، وفي رواية عن حذيفة: " يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ " مسلم برقم 5223.
وهذه الكتابة حقيقية على ظاهرها، ولا يشكل رؤية بعض الناس لهذه الكتابة دون بعض، وقراءة الأمي لها " وذلك أن الإدراك في البصر يخلقه الله للعبد كيف شاء ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بعين بصره، وإن كان لا يعرف الكتابة / ولا يراه الكافر ولو كان يعرف الكتابة، كما يرى المؤمن الأدلة بعين بصيرته ولا يراه الكافر فيخلق الله للمؤمن الإدراك دون تعلّم، لأن ذلك الزمن تنخرق فيه العادات " فتح الباري لابن حجر العسقلاني (13 / 100) .
ومختصر الجواب عن الإشكال أنّ الله على كلّ شيء قدير فهو قادر على أن يري هذه الكتابة بعض الناس دون بعض وقادر على أن يجعل الأمّي يقرؤها.
قال النووي: " الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله يظهرها الله لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك " شرح النووي لصحيح مسلم (18 / 60) .
8- ومن صفاته أيضاً ما جاء في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في قصة الجسّاسة، وفيه قال تميم الداري رضي الله عنه: " فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا " رواه مسلم برقم 5235.
9- وفتنته عظيمة جدا لدرجة أنه ليس بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أكبر من فتنة المسيح الدجال كما جاء وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنْ الدَّجَّالِ " رواه مسلم برقم 5239. وفي رواية أحمد عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. مسند الإمام أحمد 15831
10- وأمّا أن الدجال لا يُولَدُ له فلما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصته مع ابن صياد، فقد قال لأبي سعيد: " أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ لا يُولَدُ لَهُ؟ قَالَ قُلْتُ: بَلَى.. " رواه مسلم برقم 5209.
والملاحظ في الروايات السابقة أن في بعضها وصف عينه اليمنى بالعور وفي بعضها وصف عينه اليسرى بالعور، وكل الروايات صحيحة، وقد جمع بعض أهل العلم بين هذه الروايات، فقال القاضي عياض: " أن عيني الدجال كلتيهما معيبة، لأن الروايات كلها صحيحة، وتكون العين اليمنى هي العين المطموسة والممسوحة، العوراء الطافئة - بالهمز- التي ذهب نورها كما في حديث ابن عمر. وتكون العين اليسرى: التي عليها ظفرة غليظة وطافية - بلا همز - معيبة أيضاً ". فهو أعور العين اليمنى واليسرى معاً، فكل واحدة منها عوراء أي معيبة، فإن الأعور من كل شيء المعيب، لا سيما ما يختص بالعين، فكلتا عيني الدجال معيبة عوراء، إحداهما بذهابهما والأخرى بعيبها.
ووافق القاضي عياض على هذا الجمع النووي، ورجحه القرطبي.
*مكان خروج الدجال:
يخرج الدجال من جهة المشرق من خراسان، من يهودية أصبهان، ثم يسير في الأرض فلا يترك بلداً إلا دخله، إلا مكة والمدينة، فلا يستطيع دخولهما لأن الملائكة تحرسهما.
ففي حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: " أَلا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ لا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ " رواه مسلم برقم 5228.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ " رواه الترمذي برقم 2163. صححه الألباني (صحيح الجامع الصغير / حديث رقم 3398) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ التِّيجَانُ " رواه أحمد برقم 12865.
الأماكن التي لا يدخلها الدجال:
حرم على الدجال دخول مكة والمدينة حين يخرج في آخر الزمان، لورود الأحاديث الصحيحة بذلك، وأما ما سوى ذلك من البلدان فإن الدجال سيدخلها واحداً بعد الآخر.
جاء في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن الدجّال قال: " وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الأَرْضِ فَلا أَدَعَ قَرْيَةً إِلا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلائِكَةً يَحْرُسُونَهَا " رواه مسلم برقم 5228.
وثبت أيضاً أن الدجال لا يدخل مسجد الطور، والمسجد الأقصى. روى الإمام أحمد برقم 22572 من حديث جنادة بن أبي أمية الأزدي قال: أتيت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: حَدِّثْنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّجَّالِ، فذكر الحديث وقال: " وَإِنَّهُ يَلْبَثُ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا يَرِدُ فِيهَا كُلَّ مَنْهَلٍ إِلا أَرْبَعَ مَسَاجِدَ مَسْجِدَ الْحَرَامِ وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَالطُّورِ وَمَسْجِدَ الأَقْصَى ".
أتْباع الدجال:
أكثر أتباع الدجال من اليهود والعجم والترك، وأخلاط من الناس غالبهم الأعراب والنساء.
روى الإمام مسلم في صحيحه برقم 5237 عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ " والطيالسة: كساء غليظ مخطط. وفي رواية للإمام أحمد: " سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ التِّيجَانُ " حديث رقم 12865.
وجاء في حديث أبي بكر السابق: " يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ " رواه الترمذي برقم 2136.
وأما كون الأعراب يتبعون الدجال، فلأن الجهل غالب عليهم، أما النساء لسرعة تأثرهن وغلبة الجهل عليهن. جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّقَنَاةَ - وادٍ بالمدينة - فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ " رواه أحمد برقم 5099.
فتنة الدجال:
فتنة الدجال أعظم الفتن منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، وذلك بسبب ما يخلق الله معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب.
فقد ورد أن معه جنة وناراً، جنته ناره وناره جنته، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث استدبرته الريح، إلى غير ذلك من الخوارق. وكل ذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة. روى الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ - كَثِيرُهُ - مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ " رواه مسلم برقم 5222.
ولمسلم أيضاً عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ: مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ " رواه مسلم برقم 5223.
وجاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في ذكر الدجال: أن الصحابة قالوا: " يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ " ".. قالوا: وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ. فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ - الماشية - أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا - الأعالي والأسنمة - وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ - كناية عن الامتلاء وكثرة الأكل -. ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ. ثُمَّ يَدْعُو رَجُلا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ " رواه مسلم برقم 5228.
وجاء في رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن هذا الرجل الذي يقتله الدجال من خيار الناس أو خير الناس، يخرج إلى الدجال من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للدجال: " أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ. فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ لا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ " البخاري برقم 6599.
وفي حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال: " وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لأَعْرَابِيٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأُمَّكَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَقُولانِ يَا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ " رواه ابن ماجه برقم 4067. وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير / حديث رقم 7752) .
نسأل الله العافية ونعوذ به من الفتن..
الوقاية من فتنة الدجال:
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فلم يدع خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه، ومن جملة ما حذّر منه: فتنة المسيح الدجال لأنها أعظم فتنة تواجهها الأمة إلى قيام الساعة، وكان كل نبي ينذر أمته الأعور الدجال، واختص محمد صلى الله عليه وسلم بزيادة التحذير والإنذار، وقد بين الله له كثيراً من صفات الدجال ليُحذِّرَ أمته فإنه خارج في هذه الأمة لا محالة، لأنها آخر الأمم ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. وهذه بعض الإرشادات النبوية التي أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته لتنجو من هذه الفتنة العظيمة التي نسأل الله العظيم أن يعافينا ويعيذنا منها:
التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان ومعرفة أسماء الله وصفاته الحسنى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأن الله تعالى منزه عن ذلك، وأن الدجال أعور والله ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت والدجال يراه الناس عند خروجه مؤمنهم وكافرهم.
التعوذ من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، منها ما روي عن أم المؤمنين عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ " رواه البخاري برقم 789.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ " رواه مسلم برقم 924.
حفظ آيات من سورة الكهف، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة فواتح سورة الكهف على الدجال، وفي بعض الروايات خواتيمها، وذلك بقراءة عشر آيات من أولها أو آخرها. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان الطويل، وفيه قوله: " فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ " حديث رقم 5228.
وروى مسلم برقم 1342 عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ " أي: من فتنته، قال مسلم: قال شعبة: " مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ وقَالَ هَمَّامٌ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْف ".
قال النووي: " سَبَب ذَلِكَ مَا فِي أَوَّلهَا مِنْ الْعَجَائِب وَالآيَات , فَمَنْ تَدَبَّرَهَا لَمْ يُفْتَتَن بِالدَّجَّالِ , وَكَذَا فِي آخِرهَا قَوْله تَعَالَى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا..) " شرح صحيح مسلم 6 / 93.
وهذا من خصوصيات سورة الكهف فقد جاءت الأحاديث بالحث على قراءتها وخاصة في يوم الجمعة، روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُوْرَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ الْنُّوْرِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ " المستدرك (2 / 368) ، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير / حديث رقم 6346) .
ولا شك أن سورة الكهف لها شأن عظيم، ففيها من الآيات الباهرات كقصة أصحاب الكهف وقصة موسى مع الخضر وقصة ذي القرنين وبناءه للسد العظيم حائلاً دون يأجوج ومأجوج، وإثبات البعث والنشور والنفخ في الصور، وبيان الأخسرين أعمالاً وهم الذين يحسبون أنهم على الهدى وهم على الضلالة والعمى.
فينبغي لكل مسلم أن يحرص على قراءة هذه السورة وحفظها وترديدها وخاصة في خير يوم طلعت عليه الشمس، وهو يوم الجمعة.
الفرار من الدجال والابتعاد منه، والأفضل سكنى مكة والمدينة، والأماكن التي لا يدخلها الدجال، فينبغي للمسلم إذا خرج الدجال أن يبتعد منه وذلك لما معه من الشبهات والخوارق العظيمة التي يجريها الله على يديه فتنة للناس، فإنه يأتيه الرجل وهو يظن في نفسه الإيمان والثبات فيتبع الدجال، نسأل الله أن يعيذنا من فتنته وجميع المسلمين.
روى الإمام أحمد (19118) وأبو داود (3762) والحاكم (4/531) عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ - يبتعد - مِنْهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ يَتَّبِعُهُ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ بِمَا يُبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ ".
* هلاك الدجال:
يكون هلاك الدجال على يدي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وذلك الدجال يظهر على الأرض ويكثر أتباعه وتعم فتنته، ولا ينجو منها إلا قلة من المؤمنين. وعند ذلك ينزل عيسى بن مريم عليه السلام على المنارة الشرقية بدمشق، ويلتف حوله عباد الله المؤمنين، فيسير بهم قاصداً المسيح الدجال، ويكون الدجال عند نزول عيسى عليه السلام متوجهاً نحو بيت المقدس، فيلحق به عيسى عند باب " لُد " - بلدة في فلسطين قرب بيت المقدس -، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له عيسى عليه السلام: " إن لي فيك ربة لن تفوتني " فيتداركه عيسى فيقتله بحربته، وينهزم اتباعه فيتبعهم المؤمنون فيقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.
وإليك بعض الأحاديث الواردة في هلاك الدجال وأتباعه:
روى مسلم برقم 5233 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ.. " فذكر الحديث، وفيه: " فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ ".
وروى الإمام أحمد برقم 14920 والترمذي برقم 2170 عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ ".
وروى مسلم برقم 5228 عن النواس بن سمعان رضي الله عنه حديثاً طويلاً عن الدجال، وفيه قصة نزول عيسى وقتله للدجال، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " فَلا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلا مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ "
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنْ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنْ الْعِلْمِ " فذكر الحديث وفيه: " ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُنَادِي مِنْ السَّحَرِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ فَيَقُولُونَ هَذَا رَجُلٌ جِنِّيٌّ فَيَنْطَلِقُونَ فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُقَامُ الصَّلاةُ فَيُقَالُ لَهُ تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَيَقُولُ لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ فَإِذَا صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ قَالَ فَحِينَ يَرَى الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي يَا رُوحَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ فَلا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلا قَتَلَهُ " حديث رقم 14426.
وبقتله - لعنه الله - تنتهي فتنته العظيمة، وينجي الله الذين آمنوا من شره وشر أتباعه على يدي روح الله وكلمته عيسى بن مريم عليه السلام وأتباعه المؤمنين ولله الحمد والمنة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/453)
دخول المسيح الدجال جميع البلاد إلا مكة والمدينة
[السُّؤَالُ]
ـ[هل سيطوف المسيح الدجال في كل أرجاء الكرة الأرضية أم أن الناس سيأتون إليه. وهل سيلاقيه كل البشر الأحياء عندما يخرج , وهل بإمكان البعض الفرار منه وعدم رؤيته , فأنا قرأت في بعض أحاديث النبي صلى لله عليه وسلم أن الناس سيفرون منه في الجبال.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يخرج المسيح الدجال من جهة المشرق، ثم يسير في الأرض فلا يدع بلدا إلا دخله، غير مكة والمدينة والمسجد الأقصى ومسجد الطور. وبذلك صحت الأحاديث.
روى الترمذي (2237) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان ". والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي.
وروى البخاري (1881) ومسلم (2943) عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق ".
وروى مسلم (2942) من حديث فاطمة بنت قيس، في قصة تميم الداري والجساسة، أن الدجال قال لهم: (وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك فقال الناس نعم فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ".
وروى أحمد (23139) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنذرتكم المسيح وهو ممسوح العين قال أحسبه قال اليسرى يسير معه جبال الخبز وأنهار الماء علامته يمكث في الأرض أربعين صباحا يبلغ سلطانه كل منهل لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول والمسجد الأقصى والطور " والحديث صححه شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند.
وقد جاء الأمر بالنأي عن الدجال عند خروجه خشية الافتتان بما معه من الشبهات والخوارق، فإن الرجل يأتيه وهو يظن في نفسه الإيمان والثبات فيتبعه.
روى أبو داود (4319) وأحمد (19888) عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع بالدجال فلينأ عنه فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات " والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
وهذا الحديث دليل على أنه يمكن الفرار منه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أدركه أن يقرأ عليه فواتح سورة الكهف. رواه مسلم (2937) .
قال الطيب: معناه أن قراءته أمان له من فتنته.
زاد أبو داود (4331) : (فإنها جِوارُكم من فتنته) صحيح أبي داود (3631)
نسأل الله أن يقينا شره، وأن يعيذنا من فتنته.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/454)
الدجال والدابة ويأجوج ومأجوج
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن إعطاؤنا نبذة عن الدجال والدابة ويأجوج ومأجوج؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فيما يلي وصف مختصر من الكتاب والسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن هذه العلامات الثلاث من أشراط الساعة الكبرى التي تكون في آخر الزمان قبيل قيام الساعة.
الدجال: إنسان خلقه الله، يخرج في آخر الزمان من غضبة يغضبها، يعيث في الأرض فسادا ويدّعي الألوهية، ويدعو الناس لعبادته، يفتن الناس بما أعطاه الله من الخوارق كإنزال المطر وإحياء الأرض بالنبات وإخراج كنوزها، وهو شاب أحمر قصير جعد الرأس أعور ممسوح العين اليمنى والأخرى عليها قطعة لحم غليظة مكتوب بين عينيه كافر، عامة من يتبعه من اليهود تكون نهايته على يد عيسى بن مريم بن مريم الذي يقتله بحربة في بلدة اللدّ بأرض فلسطين.
يأجوج ومأجوج: قبيلتان كافرتان من ذرية آدم عراض الوجوه صغار العيون كانوا يفسدون في الأرض فسخّر الله ذا القرنين فبنى سدا حبسهم فلا يزالون يحفرونه حتى يأذن الله بخروجهم في آخر الزمان بعدما يقتل عيسى عليه السلام الدجال، فيخرجون بأعدادهم الهائلة فيشربون بحيرة طبرية ويُفسدون في الأرض ولا طاقة لأحد بمواجهتهم فينحاز عيسى عليه السلام والمؤمنون معه إلى جبل الطّور حتى يُهلك الله يأجوج ومأجوج بدود يأكل أعناقهم ويرسل الله طيرا ترمي بجثثهم في البحر ومطرا يغسل الأرض من نتنهم.
الدابة: مخلوقة عظيمة يخرجها الله عند فساد الناس تكلمهم وتعظهم تعقل وتنطق وتسم الناس على أنوفهم وسما وعلامة تميز المؤمن منهم من الكافر. لمزيد من التفاصيل والأدلة يراجع كتاب أشراط الساعة ليوسف الوابل أو كتاب القيامة الكبرى لعمر الأشقر
ووظيفة المسلم الإيمان والتصديق بما ورد عن الله ورسوله، وكم خلق الله ويخلق في هذا العالم من العجائب والغرائب الدالة على قوته وقدرته جلّ وعلا.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/455)
هل المهدي حقيقة أم لا؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الحديث الذي يخبر عن قدوم المهدي صحيح أم لا؟ وذلك لأن أحد أصدقائي أخبرني أنه ليس بصحيح وأنه ضعيف.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لقد جاءت الأحاديث الصحيحة الدالة على ظهور المهدي عليه السلام، وأنّه سيكون في آخر الزمان وهو علامة من علامات الساعة وشرط من أشراطها ومن هذه الأحاديث:
1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً يعني حجاجاً (أي سنين) ". مستدرك الحاكم 4/557-558 وقال: {هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه} ، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: {هذا سند صحيح رجاله ثقات} ، سلسة الأحاديث الصحيحة مجلد 2 ص336ح771.
2) وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ". مسند أحمد 2/58 ح 645 تحقيق أحمد شاكر وقال: {إسناده صحيح} وسنن ابن ماجه 2/1367. والحديث صححه أيضاً الألباني في صحيح الجامع الصغير 6735
قال ابن كثير: {أي يتوب عليه ويوفقه، ويلهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك} . النهاية في الفتن والملاحم 1/29 تحقيق: طه زيني.
3) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمَهْدِيُّ مِنِّي أَجْلَى الْجَبْهَةِ (انحسار الشَّعر عن مقدّمة الجبهة) أَقْنَى الأَنْفِ (أي أنفه طويل رقيق في وسطه حدب) يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ ". سنن أبي داود - كتاب المهدي 11/375 ح 4265. ومستدرك الحاكم 4/557 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وهو في صحيح الجامع 6736
4) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي (أي من نسبي وأهل بيتي) مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ ". سنن أبي داود 11/373. وسنن ابن ماجه 2/1368، وقال الألباني في صحيح الجامع: {صحيح} 6734
5) وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا، فيقول: لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة ". والحديث في صحيح مسلم بلفظ: ".. فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا فَيَقُولُ لا إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ. " رواه مسلم 225
6) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه ". رواه أبو نعيم في أخبار المهدي وقال الألباني: " صحيح " انظر الجامع الصغير 5/219 ح5796.
7) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لا تَذْهَبُ أَوْ لا تَنْقَضِي الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي " مسند أحمد 5/199 ح 3573. وفي رواية: " يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ". سنن أبي داود 11/370.
وقد تواترت الأحاديث بظهور المهدي تواتراً معنوياً، كما نصَّ على ذلك بعض الأئمة والعلماء وفيما يلي ذكر طائفة من أقوالهم:
1. قال الحافظ أبو الحسن الآبري: {قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه} .
2. وقال محمد البرزنجي في كتابه الإشاعة لأشراط الساعة: {الباب الثالث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة وهي كثيرة منها المهدي وهو أولها، وأعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر} .
وقال أيضاً: {قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة عليها السلام بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها} .
3. وقال العلامة محمد السفاريني: {وقد كثرت بخروجه - أي المهدي - الروايات حتى بلغت التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم} . ثم ذكر طائفة من الأحاديث والآثار في خروج المهدي وأسماء بعض الصحابة ممن رواها ثم قال: {وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومُدوَّن في عقائد أهل السنة والجماعة} .
4. وقال العلامة المجتهد الشوكاني: {الأحاديث في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يَصْدُق وصف التواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك} .
5. وقال العلامة الشيخ صدبق حسن خان: {الأحاديث الواردة فيه - أي المهدي - على اختلاف رواياتها كثيرة جداً تبلغ حد التواتر المعنوي، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد} .
6. وقال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني: {والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة وكذا الواردة في الدجال وفي نزول سيدنا عيسى بن مريم عليهما السلام} أنظر كتاب أشراط الساعة لـ/ يوسف بن عبد الله الوابل، ص 195 -203.
هذا وينبغي العلم بأنّ عددا من الكذّابين قد وضعوا أحاديث في المهدي عليه السلام أو في تعيين أشخاص من الكذّابين على أنّهم المهدي أو أنّه على غير ملّة أهل السنّة والجماعة، كما حاول ادّعاء المهدوية عدد من الدّجالين مخادعة لعباد الله ولنيل شيء من حُطام الدّنيا ولتشويه صورة الإسلام وقام بعضهم بحركات وثوْرات وجمعوا من استغفلوهم من النّاس أو ساروا معهم منتفعين ثمّ هلك أولئك وتبيّن كذبهم وانكشف زيفهم ونفاقهم، وكلّ ذلك لا يضرّ بمعتقد أهل السنّة والجماعة في المهديّ عليه السّلام وأنّه خارج لا محالة ليحكم الأرض بشريعة الإسلام. والله تعالى أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/456)
هل يمكن خروج الدجال أو عيسى أو المهدي في زمننا
[السُّؤَالُ]
ـ[قرأت الكثير من العلامات عن ظهور المهدي والدجال والمسيح عيسى، وعلامات كثيرة من التي تنبأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أذهلتني هذه العلامات حيث أنها أتت حقيقة أو أنها تتحقق الآن. وبالذات علامات مثل تقارب الزمان، وكثرة شرب الخمر، وازدياد الزنا وانتشار الغناء ... وغيرها الكثير
سؤالي هو: هل تظن أن ظهور أحد الثلاثة المذكورين " المهدي، الدجال، عيسى " قريب جدا، وأنه سيحدث في فترة حياتنا؟ وجزاك الله خيرا]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ظهور العلامات الثلاث " المهدي، الدجال، نزول عيسى عليه السلام " متحقق وواقع كما دلت على ذلك الأدلة الصحيحة، وهذه العلامات الثلاث ظهورها متقارب فيما بينها فإن عيسى عليه السلام يصلي خلف المهدي، كما أن عيسى يقتل الدجال كما جاء في الأحاديث الصحيحة، أما عن وقت وقوعها فالله سبحانه هو أعلم بذلك، وأمّا كون ذلك سيقع قريبا فإنّ النصوص الشرعية تدل على ذلك لكن هل هو في حياتنا أم بعد ذلك فهذا غيب لا يعلمه إلا الله، وعلى المسلم أن يستعيذ بالله من الفتن عموما وفتنة الدجال خصوصا وأن يدعو الله في السر والعلن أن يثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
(1/457)
ما الحكمة من كتابة الله تعالى لمقادير الخلق في اللوح المحفوظ وهو لا يضل ولا ينسى؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كنت في السابق ملحدة، وكانت تأتيني بعض الشبَه، ولم أكن أجد لها جواباً، ومنها: لماذا كَتب الله كل شيء في اللوح المحفوظ مع أن الله لا يضل ولا ينسى، فكيف هذا؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
يعتقد المسلم الذي آمن بالله تعالى ربّاً أنه تبارك وتعالى الحكيم في فعله، وشرعه، وحُكمه , ويعتقد المسلم أنه ثمة حكَماً جليلة في أفعاله، وتشريعاته، منها ما يُعرف , ومنها ما استأثر الله بعلمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
الحمد لله رب العالمين، قد أحاط ربنا سبحانه وتعالى بكل شيء علماً، وقدرةً، وحُكماً , ووسع كل شيء رحمةً، وعلماً، فما من ذرة في السموات والأرض، ولا معنى من المعاني، إلا وهو شاهد لله تعالى بتمام العلم والرحمة، وكمال القدرة والحكمة , وما خلق الخلق باطلاً , ولا فعل شيئاً عبثاً، بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله، سبحانه وتعالى، ثم من حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه.
" الفتاوى الكبرى " (8/197) . وينظر: " شفاء العليل " لابن القيم (ص 190) .
وكثير من الحكَم والمقاصد استأثر الله بعلمها وحكمتها، وانظر جواب السؤال رقم: (9603) ففيه زيادة بيان مهمة.
ثانياً:
مما لا شك فيه: أن الله سبحانه وتعالى علِم ما يكون من الخلق، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ , فعلمه تعالى سابق على كتابته، وقد ذكر العلماء أن القدر له أربع مراتب: العلم، ثم الكتابة، ثم المشيئة، ثم الخلق – وانظر جواب السؤال رقم: (49004) -.
فالمرتبة الثانية من مراتب القدَر: كتابة مقادير كل شيء، فالمخلوقات مهما عظم شأنها، أو دق: قد كتب الله ما يخصها في اللوح المحفوظ، من خلق وإيجاد ونشأة وإعداد وإمداد، إلى غير ذلك، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحج/ 70، وقال: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) النمل/ 75، وقال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فاطر/ 11، والآيات في ذلك كثيرة.
وقد يقال في حكمة ذلك أمور، منها:
1. إثبات علم الله السابق على تلك الكتابة، وأنه علم لا يتبدل، ولا يتغير، وهو جواب موسى عليه السلام في حواره مع فرعون حيث سأل فرعون عن القرون السابقة ما حالهم هل هم في النار أم لا، فأجابه موسى أن علم حالهم عند الله، وهو في اللوح المحفوظ، وأعلمه أن وجود ذلك العلم في اللوح هو مع اتصاف ربه تعالى بالاستغناء عنه، وأنه سبحانه لا يتصف بالنسيان، ولا بالخطأ، كما هو حال البشر، قال تعالى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى. قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) طه/ 51، 52.
2. تطمين العبد المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ففيه التسليم لقضاء الله، والرضى بقدره. قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد/22.
قال أبو حيان رحمه الله:
" ثم بين تعالى الحكمة في إعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير ذلك، وسبق قضائه به فقال: {لكيلا تأسوا} : أي تحزنوا، {على ما فاتكم} ، لأن العبد إن أعلم ذلك سلم، وعلم أن ما اته لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فلذلك لا يحزن على فائت، لأنه ليس بصدد ألا يفوته، فهون عليه أمر حوادث الدنيا بذلك، إذ قد وطن نفسه على هذه العقيدة " انتهى من "البحر المحيط" (10/238) .
وقد أشار صحابي جليل إلى هذه الحكمة، فعَنْ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي) .
رواه أبو داود (4700) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
3. وفيه بيان لمشيئة الله النافذة التي لا راد لها، ولا معقب لحكمه. وإليه الإشارة في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) .
رواه الترمذي (2516) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
4. إثبات عظيم قدرة الله، وكماله، وإقامة الحجة على الخلق.
ومما لا شك فيه أن كتابة مقادير الخلائق، وصفاتها، وأحوالها، صغيرها وكبيرها، رطبها ويابسها: أمر عظيم، وقد بيَّن الله تعالى أنه عليه يسير؛ إثباتاً لعظيم صفاته، وكمال جلاله، قال تعالى: (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) الحج/ 70، وقال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الأنعام/59.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
" هذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها ما شاء من خلقه، وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، فضلا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار، والرمال والحصى والتراب، وما في البحار من حيواناتها ومعادنها وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة {إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ} من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات.
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} هذا عموم بعد خصوص.
{إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، قد حواها واشتمل عليها، وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته في أوصافه كلها، وأن الخلق -من أولهم إلى آخرهم- لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك، فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد المحيط، وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه، بل كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده. فهذه الآية دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الحوادث ". انتهى. "تفسير السعدي" (259) .
5. ومن حكَم الكتابة في اللوح المحفوظ: تعليم الخلق الكتابة، والتدوين، وأنه إذا كان الخالق المتصف بصفات الجلال، والكمال، والمنزه عن الخطأ والنسيان قد كتب علمه ودوَّنه: فالإنسان صاحب النسيان والخطأ أولى بالكتابة.
قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير آية سورة " طه " (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) -:
هذه الآية ونظائرها - مما تقم، ويأتي - تدل على تدوين العلوم، وكتْبها؛ لئلا تُنسى، فإنَّ الحفظ قد تعتريه الآفات، من الغلط، والنسيان، وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع، فيقيده؛ لئلا يذهب عنه، وروِّينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب، وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب، فقال: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) ... .
" تفسير القرطبي " (11 / 205، 206) .
وبعد، فلتعلمي – أيتها الأخت السائلة – أنه لا ينبغي لك أن تشتغلي بالشبهات، والانسياق وراءها، ودين الله تعالى فيه من الآيات البينات ما لا يخفى على عاقل، فانشغلي بطلب العلم، وقراءة القرآن، وتدبر آياته، واقرئي كتب أهل العلم الراسخين، ولا تنشغلي بالوساوس، والشبهات؛ فإنها مهلكات، فإذا قوي إيمانكِ، ورسخ علمكِ: صار قلبك أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ!!
واحمدي الله تعالى أن نجاك من الإلحاد، واستعيني بالله ربك على ثبات دينكِ، والفوز بمرضاته تعالى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/458)
تفسير حديث (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين)
[السُّؤَالُ]
ـ[أولا أود أن أشكرك على ما تقدمه من عمل وجهد على هذا الموقع، فلقد استفدت منه كثيرا، والحمد لله، وجزاك الله خيرا. سؤالي يتعلق بحديث قرأته في تفسير ابن كثير، في تفسيره للآية الواحدة والخمسين من سورة القلم، والحديث يقول: (نَعَمْ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْن) وسؤالي هو: إذا كان الله عز وجل قد قدر لكل مخلوق ما سيكون، وحفظ ذلك في اللوح المحفوظ، وأن ما قدره سيحدث بكل تأكيد، فكيف تتفوق العين الشريرة على القدر؟ هل المقصود من هذا هو التأكيد على قوة العين الشريرة؟ أرجو أن يكون السؤال واضحا. وجزاك الله خيرا.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذا الحديث رواه الإمام مسلم (2188) في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) .
وروى الترمذي (2059) عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) وصححه ابن عبد البر في "الاستذكار" (7/409) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1252) .
وليس في هذا الحديث ما يدل على معارضة العين لقدر الله عز وجل، بل هي من القدر، وكل ما يصيب الناس من مصائب وابتلاءات إنما هي من أقدار الله، ولكن الحديث جرى مجرى المبالغة في إثبات أثر العين، كي يندفع ما في قلوب بعض الناس من الشك في تأثير العين على الإنسان، ففي هذا الحديث إثبات أثر العين، وتأكيد ذلك بأسلوب المبالغة في سرعة التأثير وقوته، وفيه أيضا إثبات أن العين من قدر الله.
قال القرطبي رحمه الله:
" (ولو كان شيء سبق القدر لسبقته العين) : هذا تحقيق لإصابة العين، ومبالغة فيه تجري مجرى التمثيل، لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء، فإن القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى ونفوذ مشيئته، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وإنما هذا خرج مخرج قولهم: لأطلبنك ولو تحت الثرى. أو: لو صعدت إلى السماء، ونحوه مما يجري هذا المجرى، وهو كثير" انتهى بتصرف يسير.
"المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم" (5/566) .
وقال ابن عبد البر رحمه الله:
"وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) دليل على أن المرء لا يصيبه إلا ما قدر له، وأن العين لا تسبق القدر، ولكنها من القدر" انتهى.
"التمهيد" (6/240) .
وقال أيضا رحمه الله:
"وفي قوله: (لو سبق شيء القدر لسبقته العين) دليل على أن الصحة والسقم قد علمهما الله تعالى، وما علم فلا بد من كونه على ما علمه، لا يتجاوز وقته، ولكن النفس تسكن إلى العلاج والطب والرقى وكل سبب من أسباب قدر الله وعلمه" انتهى.
"الاستذكار" (8/403) .
وقال القاضي عياض رحمه الله:
" (لو سبق شيء القدر سبقته العين) : بيان أن لا شيء إلا ما قدره الله، وأن كل شيء من عين وغيره إنما هو بقدر الله ومشيئته، لكن فيه صحة أمر العين وقوة دائه" انتهى.
"إكمال المعلم" (7/85) .
قال النووي رحمه الله:
" (ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين) فيه إثبات القدر، وهو حق بالنصوص وإجماع أهل السنة، ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى، ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى، وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى" انتهى.
"شرح مسلم" (14/174) .
وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله:
" (لو سبق القدر شيء لسبقته العين) يقتضي أنه لا يسبق اقدر شيء ... لكن لما كان تأثير العين تأثيرا متواليا بينا قال فيه صلى الله عليه وسلم هذا القول على معنى المبالغة فيه" انتهى.
"المنتقى شرح الموطأ" (7/258) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين، لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء، إذ القدر عبارة عن سابق علم الله، وهو لا راد لأمره، أشار إلى ذلك القرطبي، وحاصله: لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين، لكنها لا تسبق، فكيف غيرها؟! " انتهى.
"فتح الباري" (10/203-204) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/459)
يحتج بالقدر عند المعصية ويقول: " الله غالب "
[السُّؤَالُ]
ـ[في بلدنا كثيرا ما نقول كلمة "الله غالب"، وقد يكون ذلك في سياق الاحتجاج على عدم فعل أمر ما، فمثلا تقول لشخص لماذا لم تفعل كذا وكذا؟ فيجيب الله غالب، تقول لماذا لم توف بعهدك؟ فيجيب الله غالب، فما حكم هذه الكلمة؟ خاصة في ذلك السياق؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يقول الله عز وجل: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يوسف / 21
قال ابن كثير:
" أي إذا أراد شيئا فلا يُرَد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه.
قال سعيد بن جبير: أي: فعال لما يشاء " انتهى.
"تفسير ابن كثير" (4 / 378) .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله:
" أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك يجري منهم، ويصدر ما يصدر، في مغالبة أحكام الله القدرية، وهم أعجز وأضعف من ذلك " انتهى.
"تفسير السعدي" (ص 395) .
وهذا كقوله تعالى: (وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ) الأنعام/ 18، ونحو ذلك.
فقول القائل: " الله غالب " متى قصد به وصف الله بالغلبة والقدرة، والعزة والقهر، فقد وصف الله بما هو أهله.
أما إن قصد به الاحتجاج لنفسه عند التقصير أو العصيان فهو من الاحتجاج بالقدر، والقدر إنما يحتج به على المصائب لا المعائب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
" الْقَدَرَ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (1 /155) .
وقال أيضا:
" وَلَمَا كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ بَاطِلًا فِي فِطَرِ الْخَلْقِ وَعُقُولِهِمْ: لَمْ تَذْهَبْ إلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ، وَلَا هُوَ مَذْهَبُ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَطْرُدُونَ قَوْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ أَحَدٍ لَا فِي دُنْيَاهُ وَلَا آخِرَتِهِ " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (1 / 167) .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله:
" كل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر، ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.
وأما شرعا، فإن الله تعالى أبطل الاحتجاج به، ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله " انتهى.
"تفسير السعدي" (1 / 763) .
وقد روى مسلم (2664) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
" فأمره إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر ولا يتحسر على الماضي، بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب والاستغفار عند المعائب " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (8/ 77) .
وقال أيضا:
" فإن الإنسان ليس مأمورا أن ينظر إلى القدر عند ما يؤمر به من الأفعال، ولكن عند ما يجرى عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم اصبر عليه، وارض وسلم " انتهى.
"مجموع الفتاوى" (8/ 178) .
ويقال لهذا القائل: كما أن الله " غالب على أمره "، فالله تعالى حكم قسط، له الخلق والأمر، وقد أمرنا بالطاعة، ونهانا عن المعصية؛ فالنظر إلى قدره، والاحتجاج به لإبطال شرعه، إنما هو من فعل المشركين، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك، فقال الله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الأعراف/28-29.
وينظر: إجابة السؤال رقم: (20806) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/460)
هل يجوز أن يسأل الله أن تكون الفتاة التي توفيت وكان يريد خطبتها عروسا له في الجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[توفيت ابنة خالي في حادث، والتي كنت أنوي خطبتها، فهل يجوز أن أدعو الله أن يجعلها عروسا لي في الجنة، أم أن هذا من التعدي في الدعاء؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد للَّه
بداية نسأل الله تعالى أن يتغمد تلك الفتاة برحمته، وأن يدخلها جنته، وأن يرزق أهلها وجميع ذويها الصبر والسلوان.
ونوصيك أخانا السائل بالإحسان إلى والديها، ومساعدتهم على تجاوز محنتهم، ونوصيك في نفسك بالرضا بقضاء الله وقدره، والإيمان بأن لله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد، وهو عز وجل مقدر كل شيء في هذا العالم، له الحكمة البالغة، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وأما سؤالك عن الدعاء بأن تكون هذه الفتاة زوجك في الجنة: فليس هناك ما يمنع منه، إن شاء الله، ولك أن تدعو به.
وإن كان الذي نختاره لك أن تدعو الله عز وجل بالرحمة والمغفرة، ورفعة درجتها في الجنة؛ فهذا هو الذي ينفعها منك، وتؤجر ـ أنت ـ عليه، إن شاء الله.
ونخشى عليك من المبالغة في هذا الأمر، أو اللهج بمثل هذا الدعاء، أن يزداد تعلقك بها، فينغص عليك عيشك، أو يشغلك عن طلب ما يعفك في الدنيا من الزواج الحلال. وننبهك ـ حتى لا تسترسل في تعلقك ـ إلى أنها ماتت وهي أجنبية عنك، فاحذر من الاستغراق في مشهد الحزن، والأسف على ما فاتك منها؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
ونذكرك بأدب الله لنا في مثل ذلك: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة /155-157.
قال الشيخ السعدي، رحمه الله:
" أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} من الأعداء {وَالْجُوعِ} أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.
{وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ} وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال: من الملوك الظلمة، وقطاع الطريق وغير ذلك.
{وَالأنْفُسِ} أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، {وَالثَّمَرَاتِ} أي: الحبوب، وثمار النخيل، والأشجار كلها، والخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد ونحوه.
فهذه الأمور، لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير، أخبر بها، فوقعت كما أخبر. فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع، حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولا وفعلا واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
{قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجعا إليه، من أقوى أسباب الصبر.
{أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي: ثناء وتنويه بحالهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين.
فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويُعْلَم حالُ غير الصابر، بضد حال الصابر. وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلا وبيان أنواع المصائب. ". انتهى.
" تفسير السعدي" (ص/75) .
وتأمل معنا ـ أخانا الكريم ـ هذا الأدب النبوي، والهدي السلفي:
عَنْ أم المؤمنين: أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا؛ إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا) .
قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؛ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!!
ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا؛ فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ.
فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا، وَأَنَا غَيُورٌ؟
فَقَالَ: أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ.
رواه مسلم في صحيحه (918) .
فادع الله أن يأجرك في مصيبتك، وأن يخلف لك خيرا منها، وادع الله ـ أيضا ـ لهذه الفتاة، ولكل موتى المسلمين، بالرحمة والمغفرة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/461)
كلمات وأمثال فيها اعتراض على أفعال الله وطعن في حكمته وعدله
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا ربنا يعطي الذي ليس محتاجاً، والمحتاج لحاجه لا تأتي له؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أمر الله تعالى بحفظ اللسان، وأن لا يتكلم العبد بالكلمة إلا وهو يعلم أنه ليس فيها إثم، وأخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه الناس يُكبون في جهنم بحصائد ألسنتهم، وما أكثر ما يخترع الناس أمثالاً، أو تجري ألسنتهم بكلمات تكون فيها مهلكتهم، إن لم يتداركهم ربهم تعالى برحمته.
وإن العبد الموفَّق ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يثيبه الله عليها أعظم الثواب، وإن العبد المخذول ليتكلم بالكلمة لا يظن أنها تبلغ به شيئاً تهوي به في نار جهنم.
قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق/ 18.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) .
رواه البخاري (6113) .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) .
رواه البخاري (6109) .
وقال بعض السلف: " ما على وجه الأرض شيء أَحوج إلى طول حَبْس من اللسان "! .
ثانياً:
مثل هذا الكلام القبيح يدرج في أمثال بعض البلاد، وتتناقله الألسن، دون أن يعي أحدهم أنه وقع بقوله في مخالفات شرعية، تتعلق بصفات الله تعالى، وأسمائه، وأفعاله، ففي هذا القول الوارد في السؤال اعتراض على أفعال الله تعالى، وتقديراته، وعلمه، وحكمته، وعدله.
ومن تلك الأمثال الدارجة " يعطي الحلَق للذي ليس له أُذُن! " و " يعطي اللحم للذي ليس له أسنان "، ويعنون به: الله تعالى.
وفي هذا الكلام ما لا يخفى من سوء الأدب مع الله تعالى، وسوء الظن به، فيقال فيه:
1. في كلام السوء هذا يعني أن الله تعالى أعطى النعمة من لا يستحقها، وأن هناك مَن هو أولى بهذه النعمة مِن هذا المُعطَى! وهذا من أعظم الطعن في حكمة الله، وعدله.
وليس أحدٌ في غنى عن فضل الله وعطائه، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر/ 15.
والله تعالى يقدِّر ما يشاء لحكَم جليلة، فمن أغناه الله فلحكمة، ومن أفقره الله فلحكمة، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لحكَمة، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة/من الآية 28، وقال تعالى: (فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الحجرات/ 8.
ولله خزائن السموات والأرض، وما يهبه تعالى لخلقه: فهو بقدَرٍ معلومٍ، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحِجر/ 21.
2. وما يظنه الإنسان القاصر في فهمه وإدراكه أن الخير له هو في غناه، وسلطانه، وجاهه: خطأ، وقصور، يتناسب مع طبيعة الإنسان القاصرة، فقد يكون الخير في نزع تلك الأشياء منه، كما قد يكون الذل خيراً له! نعم، فلربما ذلُّه قاده إلى إسلام بعد كفر، أو طاعة بعد معصية، كما أن المال، والملك، والجاه، والعز قد يكون شرّاً له، فيكون هذا المسكين يعترض على قدر الله وحكمته، ويسعى لما فيه تلفه، وهلاكه.
قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران/ 26.
ومن تأمل حديث الأقرع والأبرص والأعمى: علم أن القَرَعَ والبَرَصَ كانا خيراً لصاحبيهما من المال الذي طلباه، فلما طلب الأول شعراً حسناً فأُعطيه، وطلب الثاني جلداً حسناً فأُعطيه، بل وأُعطي كل واحد منهما مالاً وفيراً: كان ذلك سبباً في فتنتهما، وسخط الله عليهما، حيث أنكرا نعمة الله عليهما، وبخلا بما أعُطيا من مال.
والحديث رواه البخاري (3277) ومسلم (2964) .
3. ثم إن الله تعالى هو المتفرد بالملك، والخلق، والرزق، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولم يحصل الاعتراض على هبة النعمة من الله إلا من المشركين وإخوانهم.
قال ابن كثير – رحمه الله – تعليقاً على آية (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) -:
أي: أنت المتصرف في خلقك، الفعَّال لما تريد، كما ردَّ تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره، حيث قال: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف / 31، قال الله تعالى ردّاً عليهم: (أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) الآية، الزخرف/ 32، أي: نحن نتصرف في خلقنا كما نريد، بلا ممانع، ولا مدافع، ولنا الحكمة، والحجة في ذلك، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد، كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام/ 124، وقال تعالى: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) .
" تفسير ابن كثير " (2 / 29) .
ولما ذكر الله تعالى اعتراض بعض الناس على مُلكٍ آتاه الله بعض خلقه: أرجع الله تعالى الأمر إلى علمه، وحكمته، وفضله، وأن الأمر لا يرجع إلا إليه عز وجل، وذلك في قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة/ 247.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
قوله تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء) أي: يُعطي ملكَه من يشاء، على حسب ما تقتضيه حكمته، كما قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) آل عمران/ 26.
قوله تعالى: (والله واسع) أي: ذو سعة في جميع صفاته: واسع في علمه، وفضله، وكرمه، وقدرته، وقوته، وإحاطته بكل شيء، وجميع صفاته وأفعاله.
و (عليم) أي: ذو علم بكل شيء، ومنه: العلم بمن يستحق أن يكون ملِكاً، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء.
" تفسير سورة البقرة " (3 / 213، 214) .
4. أن قائل مثل هذه العبارات وقع في الفتنة من حيث يشعر أو لا يشعر، فالله تعالى جعل الناس بعضهم لبعض فتنة، منهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم الشريف، ومنهم الوضيع، فمن رضي بما قسم الله، ولم يسخطه: نجا من الفتنة، ومن اعترض وسخط: فله السخط، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) الفرقان/ من الآية 20، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الأنعام/ 53.
قال القرطبي – رحمه الله -:
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أي: إن الدنيا دار بلاء، وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس، مؤمن، وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه؛ فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق، كما قال الضحاك في معنى (أَتَصْبِرُونَ) : أي: على الحق.
وأصحاب البلايا يقولون: ِلمَ لمْ نُعَافَ؟ والأعمى يقول: لمَ لمْ أُجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره، وكذلك العلماء، وحكام العدل، ألا ترى إلى قولهم (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الزخرف/ 31، فالفتنة: أن يَحسد المبتلى المعافى، ويَحقر المعافى المبتلى، والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر، وذاك عن الضجر. (أَتَصْبِرُونَ) محذوف الجواب، يعني: أم لا تصبرون؟ .
" تفسير القرطبي " (13 / 18) .
5. أن مثل هذه الكلمات الدارجة على الألسنة فيها سوء ظن بالله تعالى، وهي فتنة لم يَنج منها كثير من الناس، فيظن الواحد منهم أنه يستحق أكثر مما قدِّر له، وأنه أولى بكثرة الخير والصرف عن السوء والشر من غيره، وفي ذلك من الاعتراض على قدر الله تعالى ما يخلخل به المرء ركناً من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر شرِّه وخيره، وأنه كله من عند الله، قدَّره، وكتبه، وشاءه، ثم خلقه، بحكمته تعالى، وعدله.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
فأكثر الخلق، بل كلهم، إلا مَن شاء الله: يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ، وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّي، ومنعني ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره، ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها، وطواياها: رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت: يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته: لرأيت عنده تعتُّباً على القدر، وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌّ، ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك؟ .
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِى عَظِيمَةٍ ... وَإلاَّ فَإنِّى لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً
فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى، وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شرٍّ، المركَّبة على الجهل، والظلم، فهي أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، الراحمين، الغنيِّ الحميد، الذي له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ في ذاته، وصفاتِهِ، وأفعالِه، وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة، ومصلحة، ورحمة، وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى.
فَلا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سَؤْءِ ... فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَمِيلِ
وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِكَ قَطُّ خَيْراً ... وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ
وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءِ ... أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ
وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوآى تَجِدْهَا ... كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ
وَمَا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ ... فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ
وَلَيْسَ بِهَا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ ... مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (3 / 235، 236) .
وبنصيحة ابن القيم الرائعة نختم كلامنا، فلعلَّ كلَّ واحدٍ منَّا أن يفتِّش نفسه، ويتأمل في حالها، ونرجو الله تعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يسدد أقولنا، وأعمالنا.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب
(1/462)
سائل يقول: لماذا خلق الله الخلق وهو يعلم مصيرهم في الجنة أو النار؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[لدي سؤال أتمنى منكم الإجابة عليه، وجزاكم الله خيراً، إذا كان الله سبحانه يعلم الغيب، ويعلم ماذا سيفعل الناس، ويعلم من سيذهب إلى النار، أو إلى الجنة - حيث إن علم الله سبق كل شيء - فلماذا خلَقَنَا إذن؟ ولماذا أنزل الله إبليس إلى الأرض مع آدم وحواء، مع العلم أن التوبة لن تنفعه وأنه حكم عليه بجهنم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن معرفة الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق فيها الجواب عن كثير من الإشكالات والشبهات التي يرددها كثير من الملحدين، وقد يتأثر بها بعض المسلمين، ومن تلك الشبهات الظن بأن الله تعالى خلق الناس من أجل أن يضع بعضهم في الجنة، وآخرين في النار! وهذا ظن خاطئ، وما من أجل ذلك خلق الله الخلق، وأوجدهم.
وليعلم الأخ السائل – ومن رام معرفة الحق – أن الغاية من خلق الإنسان، وخلق السموات، والأرض: ليُعرف سبحانه وتعالى، ويوحَّد، ويطاع.
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدون) الذاريات/ 56.
قال ابن كثير – رحمه الله -:
أي: إنما خلقتُهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إلا ليعبدون) أي: إلا ليقروا بعبادتي طوعاً، أو كرهاً.
وهذا اختيار ابن جرير.
" تفسير ابن كثير " (4 / 239) .
وثمة خلط عند كثيرين بين الغاية المرادة من العباد، وهي: شرعه الذي أحبه منهم، وأمرهم به، والغاية المرادة بالعباد، وهي إثابة المطيع، ومعاقبة العاصي، وهذا من قدره الكائن الذي لا يرد ولا يبدل.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وأما الحق الذي هو غاية خلقها – أي: السموات والأرض وما بينهما -: فهو غاية تُراد من العباد، وغاية تراد بهم.
فالتي تُراد منهم: أن يعرفوا الله تعالى، وصفات كماله عز وجل، وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً، فيكون هو وحده إلههم، ومعبودهم، ومطاعهم، ومحبوبهم، قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) .
فأخبر أنه خلق العالم ليَعرف عبادُه كمالَ قدرته، وإحاطة علمه، وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده.
وقال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، فهذه الغاية هي المرادة من العباد، وهي أن يعرفوا ربهم، ويعبدوه وحده.
وأما الغاية المرادة بهم: فهي الجزاء بالعدل، والفضل، والثواب، والعقاب، قال تعالى (ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) النجم/ 31، قال تعالى (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) طه/ 15، وقال تعالى (ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) النحل/ 39، قال تعالى (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس/ 3، 4.
" بدائع الفوائد " (4 / 971) .
وللمزيد من معرفة الحكمة مِن خَلْق البشر: نرجو النظر جواب السؤال رقم (45529) .
ثانياً:
إن الله تعالى لا يُدخل الناس الجنة أو النار، لمجرد أنه يعلم أنهم يستحقون ذلك؛ بل يُدخلهم الجنة والنار بأعمالهم التي قاموا بها ـ فعلا ـ في دنياهم، ولو أن الله تعالى خلق خلّقاً وأدخلهم ناره: لأوشك أن يحتجوا على الله بأنه لم يختبرهم، ولم يجعل لهم مجالاً للعمل، وهذه حجة أراد الله تعالى دحضها؛ فخلقهم في الدنيا، وركَّب لهم عقولاً، وأنزل كتبه، وأرسل رسله، وكل ذلك لئلا يكون لهؤلاء حجة على الله يوم القيامة.
قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء/ 165.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -:
فصرح في هذه الآية الكريمة: بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحدٍ بإرسال الرسل، مبشِّرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين مَن عصاهم النار.
وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعَها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين: بيَّنها في آخر سورة طه بقوله (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَذِلَّ وَنَخْزَى) ، وأشار لها في سورة القصص بقوله: (وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وقوله جلَّ وعلا: (ذلِكَ أَن لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) ، وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) ، وكقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) ، إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام: تصريحه جلَّ وعلا في آيات كثيرة: بأنه لم يُدخل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل، فمن ذلك قوله جلَّ وعلا: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ) .
ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ) يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه: و (كُلَّمَا) تدل على عموم أزمان الإلقاء، فتعم الملقَيْن.
ومن ذلك قوله جلَّ وعلا: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) ، وقوله في هذه الآية: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) عام لجميع الكفار ... .
فقوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى قوله (قالُوا بَلَى) : عام في جميع الكفار، وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا، فعصوا أمر ربهم، كما هو واضح.
" أضواء البيان " (3 / 66، 67) .
وفي اعتقادنا أن معرفة الغاية التي خلَق الله الخلق من أجلها، ومعرفة أن الله تعالى لا يعذِّب أحداً وفق ما يعلم منه سبحانه، بل جزاء أعماله في الدنيا، وأن في هذا قطعاً لحجته عند الله: يكون بذلك الجواب عن الإكال الوارد في السؤال.
ثالثاً:
وأما لماذا أنزل إبليس إلى الأرض، مع آدم وذريته، ففرق بين نزول آدم ونزول إبليس؛ آدم عليه السلام نزل إلى الأرض، وقد تاب إلى ربه جل جلاله، فتاب عليه وهداه، وأنزله إلى دار الدنيا، نبيا مكرما، مغفورا له، يبقى في دار الدنيا إلى أجله الذي أجله الله له.
وأما عدو الله إبليس، فإنه لم يتب أصلا، ولا ندم عن ذنبه، ولا رجع، ولا رجا التوبة، ولا سلك لها سبيلا، بل عاند واستكبر، وطغى وكفر، وطلب من الله جل جلاله، ألا يعجل بهلاكه وعذابه، بل يؤخر ذلك إلى يوم الوقت المعلوم، لا يأخذ فرصته في التوبة، ويتمكن من الإنابة، بل ليكمل طريق الشقاء، ويأخذ أهل الغواية معه إلى دار البوار؛ فنزل إماما لحزبه، حزب الشيطان الخاسرين، لتتم حكمة الله في خلقه، وابتلائه لهم: هل يطيعونه، أم يطيعون عدوه؛ ولتتم الشقوة على العدو اللعين: بعناده وفساده، ويستحق من ربه الخسران المبين.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/463)
التشاؤم من المنزل
[السُّؤَالُ]
ـ[شخص سكن في دار، فأصابته الأمراض، وكثير من المصائب مما جعله يتشاءم هو وأهله من هذه الدار، فهل يجوز له تركها لهذا السبب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"ربما يكون بعض المنازل، أو بعض المركوبات، أو بعض الزوجات مشؤوماً يجعل الله بحكمته مع مصاحبته إما ضرراً، أو فوات منفعة، أو نحو ذلك؛ وعلى هذا فلا بأس ببيع هذا البيت، والانتقال إلى بيت غيره؛ ولعل الله أن يجعل الخير فيما ينتقل إليه؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الشؤم في ثلاث: الدار، والمرأة، والفرس) فبعض المركوبات يكون فيها شؤم، وبعض الزوجات يكون فيهن شؤم، وبعض البيوت يكون فيها شؤم، فإذا رأى الإنسان ذلك فليعلم أنه بتقدير الله عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى بحكمته قدر ذلك لينتقل الإنسان إلى محل آخر، والله أعلم" انتهى.
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
"فتاوى العقيدة" (ص303) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/464)
كلمات في أسباب المصائب والصبر عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[من المعلوم أن الصبر على أقدار الله عز وجل واحتساب أجرها عند الله من عقيدة المسلم، وكذلك الرضا بالمقدور الذي قدَّره الله عز وجل منزلة من منازل المؤمنين الذين يتفاوتون فيها، فهل هناك فرق بين المصيبة الحاصلة على الإنسان بتفريطه وتهاونه، أم الكل سواء، بمعنى آخر: إنسان فاته التعليم، والجد، والاجتهاد في طلب العلم، وهو قادر عليه ثم بعد أن بلغ من العمر ما بلغ أخذ يتحسر، بل ويصل به الحزن إلى درجة كبيرة، ويقول: كيف فرطت أيام كانت الظروف مواتية ومتاحة لي، ويرى بعض الإخوان أن هذا الحزن والتأفف فيه اعتراض على القدر؛ لأنهم يقولون لو أراد الله لك ذلك لكان. أرجو التوضيح أكثر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
1. المؤمن الموحد يعلم أن كل شيء إنما هو بقدَر الله تعالى، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس ثمة شيء يمكن أن يحجز قدر الله أن ينفذ في خلقه سبحانه وتعالى، وبذا يطمئن قلب المؤمن الموحِّد، ويعلم أن لا مجال للأسى والحزن أن يكونا في حياته؛ لأن أمر الله سبق، ومشيئته نفذت.
قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) الحديد/ 22، 23.
وقال تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) التوبة/ 51.
2. وإذا كان هذا هو حال المؤمن الموحد لم يكن في حياته ندم على ما فاته، ولن يكون للتحسر و" لو " موضع في كلامه، وهذا الذي قدَّره الله تعالى على عبده لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون بسبب معصية وقع فيها العبد، فقدَّر الله عليه بسببها مصائب.
قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) الشورى/ 30.
والثاني: أن يكون ذلك ابتلاء من الله لرفع درجته، وتكفير سيئاته.
فماذا يصنع المؤمن الموحِّد بعد أن يعلم هذا ويعتقده اعتقاداً جازماً؟
الواجب عليه إن كانت المصيبة بسبب معصية فعلها، أو آثام ارتكبها، أو تفريط فيما ينبغي عليه، أن يبادر إلى التوبة والاستغفار، وأن يرجع إلى ربه ويئوب، ويندم على ما اكتسبه، ويُصلح ما بينه وبين خالقه ومولاه، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) طه/ 82.
وإن كانت المصيبة مجرد ابتلاء لرفع الدرجات وتكفير السيئات: فليس أمام المؤمن الموحِّد إلا الرضا بقدر الله، واحتساب ما أصابه لربه تعالى، راجياً الأجور، طامعاً في تكفير الذنوب.
وفي كلا الحالين لن يكون قلب المؤمن الموحد إلا قويّاً مطمئنّاً، ولن يصيبه الضعف والخور، بل يبادر إلى الطاعة والعمل، وإن كان عاصياً ترك معاصيه وعاد أفضل مما كان، وإن كان طائعاً ازداد في طاعة خالقه ومولاه.
3. والشيطان يحاول إضعاف قلب المؤمن، وإدخال الحزن والأسى على قلبه، ويبذل جهده لقذف العجز في جوارحه، وكل ذلك بقول " لو " على ما مضى مما فعله، أو مما لم يفعله، ومع هذا الشر والفساد كله: فهو يجعله يعيش في الأوهام والظنون الكاذبة، ويقول " لو كان كذا لكان كذا "! وما يدريه أن الأمر كذلك؟
فانظر – رعاك الله – إلى ما يحدثه الشيطان من التحسر والحزن والتخرص والظن على قدر الله تعالى، ومع ذلك كله فهو يضعفه عن العمل، ويُعجزه عن الطاعة، ويظل يندب حظه ويتحسر حتى يفوت عمره! وقد أخبرنا الله تعالى أن هذا من فعل المنافقين، وحذَّرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أن نسلك هذا الطريق.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) . رواه مسلم (2664) .
وانظر وتأمل هذا الحديث العظيم، وفيه بيان الفرق بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وفيه الحث على العمل وعدم العجز، وكل ذلك مناسب تماماً للنهي عن التحسر بقول " لو ".
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله -
عندما يقع الإنسان في مكروه أو تصيبه مصيبة فإنه لا يقول: " لو أني فعلت كذا ما حصل عليَّ هذا! ، أو: لو أني لم أفعل لم يحصل كذا! "؛ لما في ذلك من الإشعار بعدم الصبر على ما فات مما لا يمكن استدراكه؛ ولما يشعر به اللفظ من عدم الإيمان بالقضاء والقدر؛ ولما في ذلك من إيلام النفس، وتسليط الشيطان على الإنسان بالوساوس والهموم.
والواجب بعد نزول المصائب: التسليم للقدر، والصبر على ما أصاب الإنسان، مع عمل الأساب الجالبة للخير، والواقية من الشر والمكروه بدون تلوم.
وقد ذمَّ الله الذين قالوا هذه الكلمة عند المصيبة التي حلَّت بالمسلمين في وقعة أحد، فقال تعالى: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) ، هذه مقالة قالها بعض المنافقين يوم " أُحد " لمَّا حصل على المسلمين ما حصل من المصيبة، قالوها يعارضون القدَر، ويعتبون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين خروجهم إلى العدو، فردَّ الله عليهم بقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) ، أي: هذا قدَر مقدَّر من الله لابد أن يقع، ولا يمنع منه التحرز في البيوت والتلهف.
وقول " لو " بعد نزول المصيبة لا يفيد إلا التحسر، والحزن، وإيلام النفس، والضعف، مع تأثيره على العقيدة، من حيث إنه يوحي بعدم التسليم للقدر.
ثم ذكر سبحانه عن هؤلاء المنافقين مقالة أخرى، وذلك في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) ، وهذه من مقالات المنافقين يوم " أحُد " أيضاً، ويروى أن عبد الله بن أبي كان يعارض القدر ويقول: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج: ما قُتلوا مع من قتل، فردَّ الله عليهم بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) ؛ أي: إذا كان القعود وعدم الخروج يسلَم به الشخص من القتل أو الموت: فينبغي أن لا تموتوا، والموت لا بدَّ أن يأتي إليكم في أي مكان؛ فادفعوه عن أنفسكم إن كنتم صادقين في دعواكم أن من أطاعكم سلِم من القتل ...
فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وآخرته مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة، والمستحبة، والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعيناً بالله، ليتم له سببه وينفعه؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، والجمع بين فعل السبب والتوكل على الله توحيد، ثم نهى عن العجز، وهو ترك فعل الأسباب النافعة، وهو ضد الحرص على ما ينفع، فإذا حرص على ما ينفعه، وبذل السبب، ثم وقع خلاف ما أراد أو أصابه ما يكره: فلا يقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ لأن هذه الكلمة لا تجدي شيئاً، وإنما تفتح عمل الشيطان، وتبعث على التأسف ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى، والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، ثم أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللفظ النافع المتضمن للإيمان بالقدر، وهو أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل) ؛ لأن ما قدره الله لا بدَّ أن يكون، والواجب التسليم للمقدور، وما شاء الله فعل؛ لأن أفعاله لا تصدر إلا عن حكمة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " والعبد إذا فاته المقدور له حالتان: حالة عجز: وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى " لو "، ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم.
والحالة الثانية: النظر إلى المقدور وملاحظته، وأنه لو قدر لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول " لو "، وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان؛ لما فيها من التأسف على ما فات، والتحسر والحزن، ولوم القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان، وليس هذا لمجرد لفظ " لو "؛ بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان ...
فهذا الحديث الذي رواه أبو هريرة لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر، وإثبات الكسب، والقيام بالعبودية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث: " لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع من مقدور ".
" الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد " (ص 130 – 133) .
4. ومن فاته التعليم في الصغر: فليكن ندمه على تفريطه دافعاً له لاستثمار ما بقي من عمره، لا أنه يضعف ويعجز ويترك التعلم، ومن فاته الحج في شبابه: فليبادر في أول فرصة لكي يحج ولا ينبغي له أن يتوانى ويكس أكثر وأكثر، وهكذا في طاعة وخير فاته، فإنما عليه أن يؤمن بأنه قدر الله، ولا ينبغي له أن يعجز، وعليه أن يكون قويّاً، ويحرص على ما ينفعه، وإن كان ما فات بسبب معاصيه: فليفعل كل ما سبق ذكره، ويضيف إليه: التوبة الصادقة من الذنوب والآثام، وليسأل ربه تعالى أن يرزقه اعتقادا حسناً، وأن يوفقه لما يحب ويرضى من القول والعمل.
على أننا ننبهك ـ أخي الكريم ـ إلى أن الخير والصلاح، والهدى والفلاح، في الجنة والآخرة، ليس له باب واحد، بل له أبواب كثيرة؛ فمن عجز عن باب العلم، فعنده من العلم أبواب، يعوض بها ما فاته من العلم وفضله، فإن كنت ذا مال، فأنفق في سبيل الله، وجاهد بمالك، وإن ذا قوة، فعندك الصوم فإنه لا عدل له، وعندك الصلاة فإنها خير موضوع، وعندك الحج والعمرة، وعندك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندك الذكر والتسبيح وتلاوة القرآن ... ، وعندك من الخير أبواب وأبواب، وكل ميسر لما خلق له، ولا يهلك على الله إلا هالك.
نسأل الله أن يوفقك، ويهديك، ويثبتك على الخير.
وينظر – للاستزادة -: أجوبة الأسئلة: (49039) و (49004) و (43021) و (34732) و (11010) و (85362) .
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/465)
كيف يعرف المصاب إن كانت مصيبته عقوبة أو ابتلاء لرفع درجاته؟
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا وقعت للمسلم مصيبة، فكيف نعرف هل هي عقوبة على معاصيه، أم ابتلاء لرفع درجاته؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
للمصائب والابتلاءات في الكتاب والسنة سببان اثنان مباشران – إلى جانب حكمة الله تعالى في قضائه وقدره -:
السبب الأول: الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان، سواء كانت كفرا أو معصية مجردة أو كبيرة من الكبائر، فيبتلي الله عز وجل بسببها صاحبها بالمصيبة على وجه المجازاة والعقوبة العاجلة.
يقول الله عز وجل: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء/79، قال المفسرون: أي بذنبك. ويقول سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى/30، انظر "تفسير القرآن العظيم" (2/363) .
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
رواه الترمذي (2396) وحسنه، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي ".
السبب الثاني: إرادة الله تعالى رفعة درجات المؤمن الصابر، فيبتليه بالمصيبة ليرضى ويصبر فيُوفَّى أجر الصابرين في الآخرة، ويكتب عند الله من الفائزين، وقد رافق البلاء الأنبياء والصالحين فلم يغادرهم، جعله الله تعالى مكرمة لهم ينالون به الدرجة العالية في الجنة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ)
رواه أبو داود (3090) ، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/2599)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(قَالَ: إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) .
رواه الترمذي (2396) وحسنه، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/146)
وقد جُمع السببان في حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً)
رواه البخاري (5641) ، ومسلم (2573) .
ثم إن التداخل والاشتراك بين هذين السببين أعظم من الصور التي ينفرد كل منهما به:
ألا ترى أن من ابتلاه الله بمصيبة بسبب ذنبه فصبر وشكر غفر الله تعالى له ذنبه، ورفع درجته في الجنة، ووفاه أجر الصابرين المحتسبين.
كما أن من بتلاه الله بالمصيبة ليبلغ المنزلة الرفيعة التي كتبها له في الجنة، تكفر عنه ذنوبه السالفة، وتعتبر جزاء له عليها في الدنيا، فلا تكرر عليه في الآخرة، كما وقع لبعض الرسل والأنبياء: كآدم عليه السلام، ويونس عليه السلام، حين ابتلى الله سبحانه وتعالى آدم بالإخراج من الجنة، وابتلى يونس بن متى بالغرق في بطن الحوت، فرفعهما الله بهذا البلاء لصبرهما واحتسابهما الثواب عنده سبحانه، وكانت كفارة للمخالفة التي وقعت من كل منهما عليهما الصلاة والسلام.
ويدلك على ذلك أن الجزاء الدنيوي لا ينفصل عن الجزاء الأخروي، وأن اقتران ذكر هذين السببين جاء في كثير من الأحاديث النبوية الصحيحة، منها ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) .
رواه الترمذي (2398) وقال: حسن صحيح.
ومع ذلك فقد يكون أحد هذين السببين أظهر في بعض صور البلاء من السبب الآخر، ويمكن فهم ذلك من خلال قرائن الحال التي تتعلق بتلك المصيبة:
فإذا كان المبتلى كافرا: فلا يمكن أن يكون بلاؤه لرفعة درجته، فالكافر ليس له عند الله وزن يوم القيامة، لكن قد يكون في ذلك عبرة وعظة لغيره، ألا يفعل مثل فعله، وقد يكون من ذلك من عاجل عقاب الله له في الدنيا، زيادة على ما ادخره له في الآخرة. قال الله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَهمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) الرعد /33-34
وأما إذا كان المبتلى مسلما عاصيا مجاهرا، أو فاسقا ظاهر الفسق: فقد يغلب على الظن وجه المجازاة والعقوبة بهذا الابتلاء، لأن تكفير السيئات أسبق من رفع الدرجات، والعاصي أحوج إلى تكفير سيئاته من رفع درجاته.
وفي المقابل إذا كان المسلم عابدا طائعا صالحا، ليس بينه وبين الله إلا العبودية الحقة، والشكر والحمد والإنابة والإخبات إليه سبحانه: فهذا يغلب على الظن في ابتلائه وجه المكرمة ورفع الدرجات، والعباد شهداء الله في الأرض، فإذا عرفوا فيه الصلاح كان لهم أن يبشروه برفعة الدرجات عند الله تعالى إن هو صبر على بلائه.
وأما إذا أبدى المبتلى السخط والجزع، فلا يظن أن يكون ابتلاؤه مكرمة من الله له لرفع درجاته، وقد علم سبحانه منه عدم الصبر والرضا، فالأقرب في هذه القرينة وجه المجازاة والعقوبة، وقد قال بعض الصالحين: " علامة الابتلاء على وجه العقوبة والمقابلة: عدم الصبر عند وجود البلاء، والجزع والشكوى إلى الخلق.
وعلامة الابتلاء تكفيراً وتمحيصاً للخطيئات: وجود الصبر الجميل من غير شكوى، ولا جزع ولا ضجر، ولا ثقل في أداء الأوامر والطاعات.
وعلامة الابتلاء لارتفاع الدرجات: وجود الرضا والموافقة، وطمأنينة النفس، والسكون للأقدار حتى تنكشف " انتهى.
وهكذا، ما هي إلا قرائن ظنية يمكن للعبد أن يتأمل فيها ليعرف شيئا من حكمة الله تعالى في المصائب والمحن، لا ليجزم في الحكم بها على نفسه، أو على عباد الله المبتلين.
ولعل الأهم من هذا التفصيل كله أن يقال:
إن الفائدة العملية التي ينبغي للعبد التأمل فيها هي أن كل مصيبة وابتلاء هي له خير وأجر إن هو صبر واحتسب، وأن كل ابتلاء ومصيبة هي له سوء وشر إن جزع وتسخط، فإن وطَّن نفسه على تحمل المصائب، والرضى عن الله بقضائه، فلا يضره بعد ذلك إن علم سبب البلاء أو لم يعلمه، بل الأَوْلى به دائما أن يتَّهِم نفسه بالذنب والتقصير، ويفتش فيها عن خلل أو زلل، فكلنا ذوو خطأ، وأينا لم يفرط في جنب الله تعالى، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أصاب المسلمين يوم أحد بمقتلة عظيمة، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخير البشر بعد الرسل والأنبياء، بسبب مخالفةِ أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يظن المرء بعد ذلك في نفسه استحقاق رفعة الدرجات في كل ما يصيبه، وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله – إذا رأى اشتداد الريح وتقلب السماء – يقول: هذا بسبب ذنوبي، لو خرجت من بينكم ما أصابكم.
فكيف بحالنا نحن المقصرين المذنبين.
ثم أولى من ذلك كله وأهم، أن يحسن العبد الظن بربه دائما، وعلى كل حال؛ فالله سبحانه وتعالى هو أولى بالجميل، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
نسأل الله تعالى أن يرحمنا ويغفر لنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، ويأجرنا في مصائبنا، إنه سميع مجيب الدعوات.
وانظر جواب السؤال رقم: (13205)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/466)
ما الفائدة من صلاة الاستخارة بما أن الأمور مقدرة من قبل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[بالنسبة لصلاة الاستخارة: يجول في خاطر الإنسان أحياناً: ما الفائدة من السؤال والدعاء والسعي، ما دام أن قضاء الله هو الذي سيحدث؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
جعل الله تعالى الدعاء سبباً لحصول المطلوب، ونيل المرغوب، وقد أمر به الرب جل وعلا، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) غافر/60.
إذا فهم هذا لم يبق هناك إشكال؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقدر الأمور بأسبابها، فحصول الولد - مثلا – حين يكتب لابن آدم لا بد أن يسبقه الزواج والجماع كي يأتي بعده الولد، فلا يمكن أن تقع النتائج دون أسبابها، والكون كله مفطور على هذا النسق من ارتباط الأسباب والمسببات.
وهكذا الدعاء أو (الاستخارة) أيضا:
فقد كتب الله تعالى كثيرا من الأقدار معلقة بدعائه وسؤاله عز وجل، فلا يقع المراد من غير سببه، وهو الدعاء، إلى جانب الأسباب الحسية، وقد دلت الأحاديث النبوية على هذا التقرير بكل وضوح.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللهِ بِالدُّعَاءِ) . رواه الترمذي (3548) وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3409)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (8/69) -:
" ومن قال: أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالاً على القدر، كان مخطئًا أيضًا؛ لأن الله جعل الدعاء
والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه، وإذا قدر للعبد خيرًا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب، يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.
فمحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل " انتهى.
وقال أيضا (8/287) : " قول بعضهم: إن الدعاء ليس هو إلا عبادة محضة؛ لأن المقدور كائن، دعا أو لم يدع.
فيقال له: إذا كان الله قد جعل الدعاء سببًا لنيل المطلوب المقدر، فكيف يقع بدون الدعاء! " انتهى.
وقال ابن القيم في "الجواب الكافي" (ص/4) :
" الدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه " انتهى باختصار.
وقال الشيخ ابن عثيمين – كما في "المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين" (1/157) -:
" الدعاء من الأسباب التي يحصل بها المدعو، وهو في الواقع يرد القضاء، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، يعني له جهتان، فمثلاً: هذا المريض قد يدعو الله تعالى بالشفاء فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضاً، لكن بالدعاء شُفي، إلا أنا نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد قضى بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء، فهذا هو المكتوب. يظن أنه لولا الدعاء لبقي المرض، ولكنه في الحقيقة لا يرد القضاء؛ لأن الأصل أن الدعاء مكتوب، وأن الشفاء سيكون بهذا الدعاء، هذا هو القدر الأصلي الذي كتب في الأزل، وهكذا كل شيء مقرون بسبب، فإن هذا السبب جعله تعالى سبباً يحصل به الشيء، وقد كتب ذلك في الأزل قبل أن يحدث " انتهى.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل الدعاء يرد القضاء؟
فأجابوا: "شرع الله سبحانه الدعاء وأمر به، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ، فإذا فعل العبد السبب المشروع ودعا فإن ذلك من القضاء، فهو رد القضاء بقضاء إذا أراد الله ذلك، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) " انتهى. "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/195) .
وسئلوا أيضا (24/243) :
هل يخفف الدعاء من المصائب، وهل يلطف الله بنا نتيجة الدعاء؟ كيف يكون ذلك والله سبحانه وتعالى ينزل المصائب على الناس على الرغم من أنهم يدعونه؟
فأجابوا:
"الدعاء عبادة لله عز وجل، وقد أمر الله بدعائه، فقال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
والدعاء يخفف المصائب أو يدفعها أو يدفع ما هو أعظم منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ل يرد القدر إلا الدعاء) ، والمصائب إذا وقعت تكفر الذنوب، وترفع الدرجات، وعلى المسلم إذا وقع في مصيبة أن يصبر عليها ويحتسب الأجر من الله عز وجل، ولا يتضجر من القضاء والقدر " انتهى.
فيتحصل من هذه النقول فهم المسألة إن شاء الله تعالى، فالمسلم حين يأخذ أمر الاستخارة والدعاء على أنه سبب من أسباب حصول المطلوب، فلن يفرط فيه، ولن يحاول بلوغ مراده من غير طريقه، فيكون الدعاء مصدر قوة وباب خير للعبد المسلم كما أراده الله تعالى.
وانظر لمزيد فائدة جواب السؤال رقم (11749) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/467)
هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"كل شيء منذ خلق الله القلم إلى يوم القيامة فإنه مكتوب في اللوح المحفوظ، لأن الله سبحانه وتعالي أول ما خلق القلم قال له: (اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنين في بطن أمه إذا مضى عليه أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكاً ينفح فيه الروح ويكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد.
والرزق أيضاً مكتوب مقدر بأسبابه لا يزيد ولا ينقص، فمن الأسباب: أن يعمل الإنسان لطلب الرزق كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك/15.
ومن الأسباب أيضاً: صلة الرحم، من بر الوالدين، وصلة القرابات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) .
ومن الأسباب: تقوى الله عز وجل، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) الطلاق/2، 3. ولا تقل: إن الرزق مكتوب ومحدد ولن أفعل الأسباب التي توصل إليه فإن هذا من العجز، والكياسة والحزم أن تسعى لرزقك، ولما ينفعك في دينك ودنياك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) .
وكما أن الرزق مكتوب مقدر بأسبابه فكذلك الزواج مكتوب مقدر، وقد كتب لكل من الزوجين أن يكون زوج الآخر بعينه، والله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء" انتهى.
والله أعلم
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.
"فتاوى نور على الدرب" (ص36) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/468)
حكم التشاؤم بالمسكن
[السُّؤَالُ]
ـ[امرأة لها سبعة أولاد وبنات وعندما سكنت في منزل جديد لها، توفي أحد أولادها وتبعته إحدى البنات، وقد رأت في المنام بعد وفاتهم أنها إذا بقيت في هذا المنزل فسيموت كل أطفالها. أرجو إفادة فضيلتكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
"إذا كان الواقع هو ما ذكرتم فهي مخيرة، إن شاءت سكنت في هذا البيت، وإن شاءت انتقلت عنه إلى بيت آخر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاثة: في البيت، والمرأة، والدابة) وفق الله الجميع" انتهى.
"مجموع فتاوى ابن باز" (28/257) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/469)
فوائد الشدائد
[السُّؤَالُ]
ـ[لقد شاهدت على شاشات التلفاز الكثير من المصائب والمآسي التي تمر بها الأمة الإسلامية، في فلسطين جراحنا تنزف، وفي الشيشان أجسادنا تقطع، وفي أفغانستان بيوتنا تهدم، وفي الفلبين وكشمير.. واليوم في العراق..
وغداً الله أعلم بمن سيلاقي هذا المصير..
فهل هذه المصائب والمآسي التي نراها خيرٌ أم شر؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
خلق المصائب والآلام فيه من الحكم ما لا يحيط بعلمه إلا الله، ومما أطلعنا الله عليه مما هو دال على ذلك:
1- أن في الآلام والمصائب امتحاناً لصبر المؤمن قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة / 214.
2- أن فيها دليلاً على ضعف الإنسان، وافتقاره الذاتي إلى ربه، ولا فلاح له إلا بافتقاره إلى ربه، وانطراحه بين يديه.
3- المصائب سبب لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات قال صلى الله عليه وسلم: " ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطّت عنه بها خطيئة " رواه مسلم (2572)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي (2399) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280) .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ. رواه الترمذي (2402) انظر: السلسلة الصحيحة برقم (2206) .
4- ومن حكم المصائب عدم الركون إلى الدنيا، فلو خلت الدنيا من المصائب لأحبها الإنسان أكثر ولركن إليها وغفل عن الآخرة، ولكن المصائب توقظه من غفلته وتجعله يعمل لدار لا مصائب فيها ولا ابتلاءات.
5- ومن أعظم حكم المصائب والإبتلاءات: التنبيه والتحذير عن التقصير في بعض الأمور ليتدارك الإنسان ما قصر فيه، وهذا كالإنذار الذي يصدر إلى الموظف أو الطالب المقصر، والهدف منه تدارك التقصير، فإن فعل فبها ونعمت، وإلا فإنه يستحق العقاب، ولعل من الأدلة على ذلك قوله تعالى: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) .
ومن الحكم المترتبة على سابقتها الإهلاك عقاباً لمن جاءته النذر، ولكنه لم يستفد منها ولم يغير من سلوكه، واستمر على ذنوبه قال تعالى: {فأهلكناهم بذنوبهم} .
وقال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) ، وقال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)
قال ابن تيمية رحمة الله: " قد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموماً، فهذا يثاب على ما في قلبه، من حب الخير وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة، نهي عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه "
فافهم هذا يا من تتمنى أن يغير الله الأحوال بلا عمل منك ومن أمثالك.
6- قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الأنعام / 42
قال السعدي رحمه الله: لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك من الأمم السالفين والقرون المتقدمين فكذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا. فأخذناهم بالبأساء والضراء أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب رحمة منا بهم. لعلهم يتضرعون إلينا ويلجأون عند الشدة إلينا.
وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم / 41.
أي استعلن الفساد في البر والبحر، أي فساد معايشهم ونقصانها وحلول الآفات بها.
وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك. وذلك بسبب ما قدمت أيديهم، من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها.
هذه المذكورة (ليذيقهم بعض الذي عملوا) أي ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجاً من جزاء أعمالهم في الدنيا (لعلهم يرجعون) عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت. فتصلح أحوالهم، ويستقيم أمرهم.
فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته، وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.
7- والعبادة في الشدائد والفتن لها طعم خاص وأجر خاص:
عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) . رواه مسلم (2948) .
قال النووي: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةِ إِلَيَّ) الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس. وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا , وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا , وَلا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلا أَفْرَاد.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَنَّ الْفِتَن وَالْمَشَقَّة الْبَالِغَة سَتَقَعُ حَتَّى يَخِفّ أَمْر الدِّين وَيَقِلّ الاعْتِنَاء بِأَمْرِهِ وَلَا يَبْقَى لأَحَدٍ اِعْتِنَاء إِلا بِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاش نَفْسه وَمَا يَتَعَلَّق بِهِ , وَمِنْ ثَمَّ عَظُمَ قَدْر الْعِبَادَة أَيَّام الْفِتْنَة كَمَا أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث مَعْقِل بْن يَسَار رَفَعَهُ " الْعِبَادَة فِي الْهَرْج كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "
8- أن حصول النعمة بعد ألم ومشقة ومصيبة أعظم قدراً عند الإنسان.
فيعرف الإنسان قدر نعمة الله عليه في الصحة والعافية، ويقدرها حق قدرها.
فمن فوائد المصائب: التذكير بنعم الله تعالى على الإنسان، لأن الإنسان الذي خلق مبصراً – مثلاً – ينسى نعمة البصر ولا يقدرها حق قدرها، فإن ابتلاه الله بعمى مؤقت ثم عاد إليه بصره أحس بكل مشاعره بقيمة هذه النعمة، فدوام النعم قد ينسي الإنسان هذه النعم فلا يشكرها، فيقبضها الله ثم يعيدها إليه تذكيراً له بها ليشكرها.
بل إن في المصائب تذكيراً للإنسان المصاب ولغيره بنعم الله، فإذا رأى الإنسان مجنوناً أحس بنعمة العقل، وإن رأى مريضاً أحس بالصحة، وإن رأى كافراً يعيش كالأنعام أحس بنعمة الإيمان، وإن رأى جاهلاً أحس بنعمة العلم، هكذا يشعر من كان له قلب متفتح يقظ، أما الذين لا قلوب لهم فلا يشكرون نعم الله بل يبطرون، ويتكبرون على خلق الله.
9- فوائد المصيبة أنها تنقذ الإنسان من الغفلة، وتنبه العبد على تقصيره في حق الله تعالى، حتى لا يظن في نفسه الكمال فيكون سبباً لقسوة القلب والغفلة قال تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام / 43.
10- ومن حكم الابتلاءات والشدائد: التمحيص
فالشدائد تكشف حقائق الناس وتميز الطيب من الخبيث، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، يقول الله الباري جلا شانه عن غزوة أحد وما نال المسلمين فيها، مبيناً جانباً من الحكمة في هذا الابتلاء: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)
فينكشف كلٌ على حقيقته:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
11- وليقوم المسلمون بإغاثة من تصيبهم المصائب من المسلمين فيؤجرون على ذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) . رواه البخاري (6011) ومسلم (2586) وقال: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري (13) ومسلم (45) .
12- وفي الشدائد والحروب يظهر الأثر الحقيقي لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)
فمن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين: جهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله عز وجل، ومشاركة أهل الدعوة الإسلامية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله.
ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: التعاون على قتل مدعي النبوة، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/470)
هل هذه العبارة صحيحة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل في هذه العبارة محظور: " لو يعرف الشخص منا وش مع الغيب بيجي له كان جنبنا المشاكل قبل ما يوقع ضررها "؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
هذه العبارة معناها: أن الإنسان لو يعلم ما يكون له في الغيب، لكان تجنب ما يقابله من المشاكل والشرور؛ وهي متفقة مع عقيدة المسلم، وليس فيها أي خطأ أو محذور؛ لأن الغيب مما استأثر الله به، ولو فُرض أن الناس يطلعون على الغيب ويعلمون بالحوادث قبل وقوعها لاستكثروا من كل خير، واجتنبوا كل شر، فنظروا أسباب الصحة والغنى والسعادة فسلكوها، ورأوا أسباب الفقر والمرض والهلاك فاجتنبوها، وهو فرض عقلي لأمر مستحيل، الغاية منه بيان عجز الإنسان وضعفه واستسلامه للقدر الذي قضاه الله عز وجل.
وفي القرآن الكريم ما يدل على صحة معنى هذه العبارة.
يقول الله تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف/188
جاء في تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" (3/524) قوله:
" والأحسن في هذا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي: من المال. وفي رواية: لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه، وما مسني السوء، قال: ولا يصيبني الفقر.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: معنى ذلك: لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولعرفت الغَلاء من الرخص، فاستعددت له من الرخص.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته " انتهى.
ويقول الشيخ السعدي في "تيسير الكريم الرحمن" (ص/311) :
" (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه، لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه.
ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما ينالني من السوء، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها، فهذا أدل دليل على أني لا علم لي بالغيب " انتهى.
وانظر جواب السؤال رقم (49004)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/471)
حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الواجبات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يصح للمذنب أن يحتج على وقوعه في المعصية بأن هذا ما قدره الله عليه؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قد يتعلل بعض المذنبين المقصرين على تقصيرهم وخطئهم بأن الله هو الذي قدر هذا عليهم؛ وعليه فلا ينبغي أن يلاموا على ذلك.
وهذا لا يصح منهم بحال؛ فلا شك أن الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات، أو فَعَلَ من المعاصي. باتفاق المسلمين والعقلاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بدائه العقول " مجموع الفتاوى (8/179)
وقد دل على فساد الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات؛ الشرع والعقل، فمن الأدلة الشرعية:
1ـ قول الله- تعالى -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاءَابَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) الأنعام/39، فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه. فمن احتج بالقدر على الذنوب والمعائب فيلزمه أن يصحح مذهب الكفار، وينسب إلى الله الظلم تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.
2ـ قال تعالى: (رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء/165، فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لما انقطعت الحجة بإرسال الرسل، بل كان إرسال الرسل لا فائدة له في الواقع.
3ـ أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن/16، وقال سبحانه: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) البقرة/286
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور. ولو صح هذا الاحتجاج لم يكن هناك فرق بين المكره والجاهل، وبين العامد المتعمد، ومعلوم في الواقع، وبدائه العقول أن هناك فرقا جليا بينهما.
4ـ أن القدر سر مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علم بقدر الله، فادعاؤه أن الله قدر عليه كذا وكذا ادعاء باطل؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، فحجته إذاً داحضة؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
5ـ أنه يترتب على الاحتجاج بالقدر على الذنوب تعطيل الشرائع والحساب والمعاد والثواب والعقاب.
6- لو كان القدر حجة لأهل المعاصي لاحتج به أهل النار، إذا عاينوها، وظنوا أنهم مواقعوها، كذلك إذا دخلوها، وبدأ توبيخهم وتقريعهم، لكن الواقع أنهم لم يحتجوا به، بل إنهم يقولون كما قال الله عز وجل عنهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل) إبراهيم/44. ويقولون: (ربنا غلبت علينا شقوتنا) المؤمنون/106
وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك/10. و (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) المدثر/44، إلى غير ذلك مما يقولون.
ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لاحتجوا به؛ فهم في بأمس الحاجة إلى ما ينقذهم من نار جهنم.
7- لو كان الاحتجاج بالقدر صحيحا لكان حجة لإبليس الذي قال: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الأعراف/16، ولتساوى فرعون عدو الله، مع موسى كليم الله عليه السلام.
8- ومما يرد هذا القول، ويبين فساده: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا تجد شخصا يترك ما يصلح أمور دنياه ويعمل بما يضره فيها بحجة القدر فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أن إنساناً أراد السفر إلى بلد، وهذا البلد له طريقان، أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب، فأيهما سيسلك؟
لاشك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟
9 ـ ومما يمكن أن يُرد به على هذا المحتج ـ بناء على مذهبه ـ أن يقال له: لا تتزوج، فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك، وإلا فلن يأتيك. ولا تأكل ولا تشرب، فإن قدر الله لك شبعاً ورياً فسيكون، وإلا فلن يكون. وإذا هاجمك سبع ضار فلا تفر منه، فإن قدر الله لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار. وإذا مرضت فلا تتداو، فإن قدر الله لك شفاءً شفيت، وإلا فلن ينفعك الدواء.
فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا؟ فإن وافقنا علمنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
10- المحتج بالقدر على المعاصي شبه نفسه بالمجانين، والصبيان، فهم غير مكلفين، ولا مؤاخذين، ولو عومل معاملتهم في أمور الدنيا لما رضي.
11- لو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للاستغفار، والتوبة، والدعاء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
12- لو كان القدر حجة على المعائب والذنوب لتعطلت مصالح الناس، ولعمت الفوضى، ولما كان هناك داع للحدود، والتعزيرات، والجزاءات، لأن المسيىء سيحتج بالقدر، ولما احتجنا لوضع عقوبات للظلمة، وقطاع الطريق، ولا إلى فتح المحاكم، ونصب القضاء، بحجة أن كل ما وقع إنما وقع بقدر الله، وهذا لا يقول به عاقل.
13- أن هذا المحتج بالقدر الذي يقول: لا نؤاخذ، لأن الله كتب ذلك علينا، فكيف نؤاخذ بما كتب علينا؟
فيقال له: إننا لا نؤاخذ على الكتابة السابقة، إنما نؤاخذ بما فعلناه، وكسبناه، فلسنا مأمورين بما قدره الله لنا، أو كتبه علينا، وإنما نحن مأمورين بالقيام بما يأمرنا به، فهناك فرق بين ما أريد بنا، وما أريد منا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به.
وكون الله علم وقوع ذلك الفعل من القدم ثم كتبه لا حجة فيه لأن مقتضى علمه الشامل المحيط أن يعلم ما خلقه صانعون، وليس في ذلك أي نوع من أنواع الجبر، ومثال ذلك من الواقع ـ ولله المثل الأعلى ـ: لو أن مدرسا علم من حال بعض تلاميذه أنه لا ينجح هذا العام لشدة تفريطه وكسله، ثم إن هذا الطالب لم ينجح كما علم بذلك الأستاذ فهل يقول عاقل بأن المدرس أجبره على هذا الفشل، أو يصح للطالب أن يقال أنا لم أنجح لأن هذا المدرس قد علم أني لن أنجح؟ !
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع.
ومما تجدر الإشارة إليه أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وإيمان، وإنما هو ناتج عن نوع هوى ومعاندة، ولهذا قال بعض العلماء فيمن هذا شأنه: " أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به " (مجموع الفتاوى 8/107) يعني أنه إذا فعل الطاعة نسب ذلك نفسه، وأنكر أن يكون الله قدر ذلك له، وإذا فعل المعصية احتج بالقدر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن المحتجين بالقدر: " هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى " (مجموع الفتاوى 8 / 262)
وعليه فلا يسوغ للعبد أن يحتج على معايبه ومعاصيه بالقدر.
وإنما يسوغ الاحتجاج بالقدر:عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر، والمرض، وفقد القريب، وتلف الزرع، وخسارة المال، وقتل الخطأ، ونحو ذلك؛ فهذا من تمام الرضا بالله رباً، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب، لا المعائب، " فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب "
ويوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً أسرع بسيارته وفرَّط في أسباب القيادة السليمة فتسبب في وقوع حادث، فوبِّخ على ذلك، وحوسب عليه فاحتج بالقدر، لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً، بينما لو أن شخصا صُدِمت سيارته وهي في مكانها لم يتحرك بها، فلامه شخص فاحتج بالقدر لكان احتجاجه مقبولا، إلا أن يكون قد أخطأ في طريقة إيقافها.
فالمقصود أن ما كان من فعل العبد واختياره فإنه لا يصح له أن يحتج بالقدر، وما كان خارجا عن اختياره وإرادته فيصح له أن يحتج عليه بالقدر.
ولهذا حَجَّ آدم موسى عليهما السلام كما في قوله صلى الله عليه وسلم في محاجتهما: " احتج آدم وموسى فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدّر علي قبل أن أخلق؟ فحج آدمُ موسى" (أي: غلبه في الحجة) رواه مسلم (2652) .
فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر على الذنب كما يظن ذلك من لم يتأمل في الحديث، وموسى عليه السلام لم يلم آدم على الذنب؛ لأنه يعلم أن آدم استغفر ربه وتاب، فاجتباه ربه، وتاب عليه، وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ولو أن موسى لام آدم على الذنب لأجابه: إنني أذنبت فتبت، فتاب الله علي، ولقال له: أنت يا موسى أيضاً قتلت نفساً، وألقيت الألواح إلى غير ذلك، إنما احتج موسى بالمصيبة فحجه آدم بالقدر. انظر الاحتجاج بالقدر لشيخ الإسلام ابن تيمية (18 – 22)
" فما قُدِّر من المصائب يجب الاستسلام له؛ فإنه من تمام الرضا بالله رباً، أما الذنوب فليس لأحد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب " شرح الطحاوية (147) .
تنبيه:
ذكر بعض العلماء أن ممن يسوغ له الاحتجاج بالقدر التائبُ من الذنب، فلو لامه أحد على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر.
فلو قيل لأحد التائبين: لم فعلت كذا وكذا؟ ثم قال: هذا بقضاء الله وقدره، وأنا تبت واستغفرت، لقُبل منه ذلك الاحتجاج، لأن الذنب في حقه صار مصيبة وهو لم يحتج على تفريطه بالقدر بل يحتج على المصيبة التي ألمت به وهي معصية الله ولا شك أن المعصية من المصائب، كما أن الاحتجاج هنا بعد أن وقع الفعل وانتهى، واعترف فاعله بعهدته وأقر بذنبه، فلا يسوغ لأحد أن يلوم التائب من الذنب، فالعبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية. والله أعلم.
يراجع (أعلام السنة المنشورة 147) (القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة للشيخ الدكتور / عبد الرحمن المحمود) و (الإيمان بالقضاء والقدر للشيخ / محمد الحمد) وتلخيص الشيخ سليمان الخراشي لعقيدة أهل السنة في القدر من هذين الكتابين في كتابه: (تركي الحمد في ميزان أهل السنة) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/472)
مجمل اعتقاد أهل السنة في القضاء والقدر
[السُّؤَالُ]
ـ[هل توضح لي نظرة الإسلام للقضاء والقدر، وماذا يجب علي اعتقاده في هذا الشأن؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فالكلام على نظرة الإسلام للقضاء والقدر قد يطول قليلاً وحرصاً على الفائدة فسنبدأ بمختصر مهم في هذا الباب ثم نتبعه ببعض الشرح الذي يسمح به المقام سائلين الله النفع والقبول:
اعلم وفقك الله أن حقيقة الإيمان بالقضاء هي: التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الكون فهو بتقدير الله تعالى.
وأن الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان وأنه لا يتم إيمان أحد إلا به ففي صحيح مسلم (8) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه بلغه أن بعض الناس ينكر القدر فقال: " إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني براء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر (أي: يحلف بالله) لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر"
ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا يصح حتى تؤمن بمراتب القدر الأربع وهي:
1) الإيمان بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلا من الأزل والقدم فلا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
2) الإيمان بأن الله كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
3) الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة فلا يكون في هذا الكون شيء من الخير والشر إلا بمشيئته سبحانه.
4) الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله فهو خالق الخلق وخالق صفاتهم وأفعالهم كما قال سبحانه: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء) الأنعام/102
ومن لوازم صحة الإيمان بالقدر أن تؤمن:
- بأن للعبد مشيئة واختياراً بها تتحقق أفعاله كما قال تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم) التكوير/28 وقال: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) البقرة/286
- وأن مشيئة العبد وقدرته غير خارجة عن قدرة الله ومشيئته فهو الذي منح العبد ذلك وجعله قادراً على التمييز والاختيار كما قال تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير/29
- وأن القدر سر الله في خلقه فما بينه لنا علمناه وآمنا به وما غاب عنا سلمنا به وآمنا، وألا ننازع الله في أفعاله وأحكامه بعقولنا القاصرة وأفهامنا الضعيفة بل نؤمن بعدل الله التام وحكمته البالغة وأنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وبحمده.
وبعد فهذا مجمل اعتقاد السلف الصالح في هذا الباب العظيم وسنذكر فيما يلي تفصيلاً لبعض ما تقدم من القضايا فنقول سائلين الله العون والتسديد:
أولاً: معنى القضاء والقدر في اللغة:
القضاء لغة: هو إحكام الشيء وإتمام الأمر، وأما القدر فهو في اللغة: بمعنى التقدير.
ثانيا: تعريف القضاء والقدر في الشرع:
القدَر: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القِدَم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخَلْقُه لها.
ثالثاً: هل هناك فرق بين القضاء والقدر؟ :
من العلماء من فرق بينهما، ولعل الأقرب أنه لا فرق بين (القضاء) و (القدر) في المعنى فكلٌ منهما يدل على معنى الآخر، ولا يوجد دليل واضح في الكتاب والسنة يدل على التفريق بينهما، وقد وقع الاتفاق على أن أحدهما يصح أن يطلق على الآخر، مع ملاحظة أن لفظ القدر أكثر وروداً في نصوص الكتاب والسنة التي تدل على وجوب الإيمان بهذا الركن. والله أعلم.
رابعاً: منزلة الإيمان بالقدر من الدين:
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي وردت في قوله صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " رواه مسلم (8) وقد ورد ذكر القدر في القرآن في قوله تعالى: (إنا كل شئ خلقناه بقدر) القمر/49. وقوله تعالى: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) الأحزاب/38.
خامساً: مراتب الإيمان بالقدر:
اعلم وفقك الله لرضاه أن الإيمان بالقدر لا يتم حتى تؤمن بهذه المراتب الأربع وهي:
أـ مرتبة العلم: وهي الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأن الله قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون بعلمه القديم وأدلة هذا كثيرة منها قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الحشر/22، وقوله تعالى: (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) الطلاق/12.
ب ـ مرتبة الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب مقادير جميع الخلائق في اللوح المحفوظ. ودليل هذا قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحج/16.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " رواه مسلم (2653) .
ج ـ مرتبة الإرادة والمشيئة: وهي الإيمان بأن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن رادته شيء.
والدليل قوله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ُ) الكهف/23،24 وقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) التكوير/29.
د ـ مرتبة الخلق: وهي الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه، لقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الزمر/62. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون) الصافات/96.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (25) وابن أبي عاصم في السنة (257و 358) وصححه الألباني في الصحيحة (1637) .
قال الشيح ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: " إن الله كما أنه الذي خلقهم ـ أي الناس ـ، فإنه خلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم؛ ثم هم فعلوا الأفعال المتنوعة: من طاعة ومعصية، بقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقها الله) (الدرة البهية شرح القصيدة التائية ص 18)
التحذير من الخوض بالعقل في مسائل القدر:
الإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لمدى الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختبار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه تعالى، وما يترتب على هذه المعرفة من يقين صادق بالله، وبما يجب له من صفات الجلال والكمال، وذلك لأن القدر فيه من التساؤلات والاستفهامات الكثيرة لمن أطلق لعقله المحدود العنان فيها، وقد كثر الاختلاف حول القدر، وتوسع الناس في الجدل والتأويل لآيات القرآن الواردة بذكره، بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمن يثيرون البلبلة في عقيدة المسلمين عن طريق الكلام في القدر، ودس الشبهات حوله، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح واليقين القاطع إلا من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، مسلِّماً الأمر لله، مطمئن النفس، واثقاً بربه تعالى، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلاً، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به من بين بقية الأركان. وأن العقل لا يمكنه الاستقلال بمعرفة القدر فالقدر سر الله في خلقه فما كشفه الله لنا في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم علمناه وصدقناه وآمنا به، وما سكت عنه ربنا آمنا به وبعدله التام وحكمته البالغة، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه.
يراجع (أعلام السنة المنشورة 147) (القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة للشيخ الدكتور / عبد الرحمن المحمود) و (الإيمان بالقضاء والقدر للشيخ / محمد الحمد)
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/473)
هل فعل أحد أفراد الأسرة لذنب اقترفه والدهم في الماضي من تعجيل العقوبة؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[هل عندما يعمل شخص ذنب، وبعد ذلك يكتشف أن ابنه أو أي شخص من عائلته عمل ذات الذنب، هل ذلك: كما تدين تدان، أم إنه تعجيل للعقوبة؟ وهل يجب أن يعاقب هذا الشخص الذي تحت مسئوليته وعمل الذنب؟ أم إنه يقول: إن هذا عقاب من الله لظلمه لنفسه، وبما كسبت يداه وإنه خارج إرادة الشخص الذي تحت مسئوليته؟ أرجو إفتاءنا، وجزاكم الله خير]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
فإن الإنسان لا يؤاخذ بذنب غيره، كما قال الله سبحانه: (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام:164، قال العلامة الشوكاني رحمه الله في فتح القدير عند تفسير الآية: " أي لا يؤاخذ مما أتت من الذنب، وارتكبت من المعصية سواها؛ فكل كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها " انتهى.
ثم قال رحمه الله: " وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة، والأولى حمل الآية على ظاهرها، أعني العموم. " انتهى.
وإذا كان كذلك فإن الله تعالى لا يقدر الذنب على إنسان مؤاخذة له بذنب غيره، ولكنه سبحانه وتعالى حكيم فيما يفعل، وهو أعلم أين يضع فضله. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في شفاء العليل (1/71) : (فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته.) فهو سبحانه يهدي ويوفق من يشاء فضلا، ويخذل من يشاء عدلاً.
ولكن شؤم المعصية قد يسري من شخص لآخر، لمجالسته له وإلفه لعمله؛ إذ ربما جره ذلك إلى موافقته في فعله، والاقتداء به، وربما كان في تقدير الله المعصية على قريب العاصي إساءة له، وتنغيص عليه؛ فكان في ذلك نوع من المجازاة له، ولكن مع اعتقاد أن الله قدر ذلك بتمام عدله وحكمته.
ومن الكلام المأثور عن علي رضي الله عنه، في كتب الأدب: " من هَتك حجاب أخيه، هُتِك حجاب بنيه!! ".
وفي قول الله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) مريم: 28
قال قتادة رحمه الله: " كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح، ولا يُعرفون بالفساد؛ ومن الناس من يُعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يُعرفون بالفساد ويتوالدون به "
تفسير الطبري (18/186) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟! " تفسير ابن كثير (5/226)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: " وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض، في الصلاح وضده " اهـ تفسير السعدي (492) .
وفي سنن أبي داود (3963) وغيره، وصححه الألباني، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ) ؛ أَيْ الزَّانِيَانِ وَوَلَدهمَا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ولد الزنا إن آمن وعمل صالحا دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يجازى غيره، والجزاء على الأعمال لا على النسب، وإنما يذم ولد الزنا لأنه مظنة أن يعمل عملا خبيثا، كما يقع كثيرا؛ كما تحمد الأنساب الفاضلة لأنها مظنة عمل الخير؛ فأما اذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم " اهـ مجموع الفتاوى (4/312) .
قال الشاعر:
وَأَوَّلُ خبثِ الماءِ خَبثُ تُرابِهِ وَأَوَّلُ لُؤمِ القَومِ لُؤمُ الحَلائِلِ
وليس ذلك كما قلنا من مؤاخذة الإنسان بذنب غيره في شيء؛ وإنما الطبع لص، والأيام دُول، والمعاصي ديون!!
وكما أن الله تعالى يمن على عبده الصالح، ويُقر عينه بصلاح زوجه وذريته، فقد يكون من عقاب العاصي أن يرى شؤم معصيته فسادا في ذريته، أو معصية في أهله، نعوذ بالله من غضبه وشر عقابه.
وأما تأديبه، بل وعقابه لشخص تحت رعايته، وقد وقع في نفس الذنب الذي وقع فيه هو من قبل، فنعم هذا واجب عليه أيضا: أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في بيته فيلزمه أن ينكر على من ولاه الله عليه إذا وقع في المعصية التي هو واقع فيها.
قال العلامة السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب (1/219) : يجب على كل مؤمن مع الشروط المتقدمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو فاسقاً، حتى على جلسائه وشركائه في المصعية. انتهى.
وقال العلامة زكريا الأنصاري رحمه الله في أسنى المطالب (4/180) : " لا يشترط في الآمر والناهي كونه متمثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه أن يأمر وينهى نفسه وغيره، فإن اختل أحدهما لم يسقط الآخر." انتهى.
على أنه سوف يكون عيبا عليه، أي عيب، وشينا في حقه أي شين: أن يأمر الناس بالمعروف وينسى، وينهاهم عن المنكر الذي يأتيه:
قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) البقرة:44،وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) الصف: 2-3.
فليس له من مخرج من تلك الورطة، ولا علاج لذلك الفصام، إلا بالتوبة النصوح، والأخذ بعمل الخير، قبل أن يذوق وبال أمره: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) .
قال الشاعر:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ
تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ
فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/474)
خرافات من العوام فيها تشاؤم بحصول مكروه
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد أن أسأل عن حكم الإيمان بالمعتقدات التي يؤمن بها بعض الناس، كأن يلعبوا بالماء، أو أن يرشوا بعضهم بالماء، فيعتقدون أنه يسبب بذلك الفراق لهم، أو أن يعتقدوا عند العبث بالمقص كفتحه وإغلاقه بدون سبب، أنه يسبب حدوث مشاكل في البيت لدى العائلة، أو الإيمان عندما تعبر فوق طفل صغير بأنه لن يطول ويؤثر عليه. فما حكم هذه المعتقدات؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
هذه الخرافات – وأمثالها كثير – هي من باب الشؤم المنهي عنه في الشرع المطهَّر، وخرافات الناس في هذا الباب لا حصر لها، فمنهم من يتشاءم بمرئي – كرؤية البومة والقط الأسود -، ومنهم من يتشاءم بمسموع – كسماع صوت البومة والغراب -، وحتى لو كان المرئي أو المسموع آية من كتاب الله تُرى في المصحف، أو تُسمع من قارئ! كآية وعيد أو عقاب، ومنهم من يتشاءم بعدد – كالتشاؤم من رقم 13 -، أو زمان – كالتشاؤم من يوم الأربعاء، أو من شهر شوال إذا أراد الزواج فيه -، أو مكان – كالتشاؤم من مكان حصل فيه جريمة -، أو صفة شخص – كالتشاؤم من الأعرج والأعمى -، أو حال إنسان – كالتشاؤم من رؤية فقير أو محتاج -.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ، قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ) . رواه البخاري (5776) ومسلم (2224) .
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطيَرَةُ شِرْك) .
رواه الترمذي (1614) وأبو داود (3910) وابن ماجه (3538) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
وقوله: (الطِّيَرَة) على وزن فِعَلَة، وهي اسم مصدر تطيَّر، والمصدر منه: تطيُّر، وهي التشاؤم بمرئي، أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئيّاً كان، أو مسموعاً، زماناً كان أو مكاناً، وهذا أشمل؛ فيشمل ما لا يُرى، ولا يُسمع؛ كالتطير بالزمان.
وأصل التطيُّر: التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير؛ لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
وكان العرب يتشاءمون بالطير، وبالزمان، وبالأشخاص، وهذا من الشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والإنسان إذا فَتَحَ على نفسه باب التشاؤم: ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة: تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع، ولم يشتر - والعياذ بالله -، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: إنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال؛ فكانت تقول: " أيكن كان أحظى عنده مني؟ " – رواه مسلم -، والجواب: لا أحد.
فالمهم: أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال؛ لأنه ينكد عليه عيشه؛ فالواجب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يعجبه الفأل – رواه البخاري ومسلم -، فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير، ولا يتشاءم، كذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ؛ فكل شيء ترى فيه المصلحة: فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى، حتى يفتح الله عليك.
" القول المفيد شرح كتاب التوحيد " (2 / 39 – 41) ، و " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (9 / 515، 516) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
وذكر البيهقي في " الشعب " عن الحليمي ما ملخصه:
كان التطير في الجاهلية في العرب: إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة ... .
وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء، فسموا الكل تطيُّراً؛ لأن أصله الأول.
قال:
وكان التشاؤم في العجم: إذا رأى الصبي ذاهباً إلى المعلم: تشاءم، أو راجعاً: تيمَّن، وكذا إذا رأى الجمل موقراً حملاً: تشاءم، فإن رآه واضعاً حمله: تيمَّن، ونحو ذلك.
فجاء الشرع برفع ذلك كله.
" فتح الباري " (10 / 215) .
ولم يُذكر التطير في القرآن الكريم إلا عن أعداء الرسل، وهو يدل على أن فاعله ومعتقده فيه من جاهلية هؤلاء، بقدر ما عنده في هذا الباب.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
ولم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل، كما قالوا لرسلهم (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) يس/18،19، وكذلك حكى الله سبحانه عن قوم فرعون (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) الأعراف/131.
" مفتاح دار السعادة " (3 / 231، 232) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – عن أهل الجاهلية -:
وكان أكثرهم يتطيرون، ويعتمدون على ذلك، ويصح معهم غالباً، لتزيين الشيان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين.
" فتح الباري " (10 / 213) .
وقد نبَّه العلماء – أيضاً – على بعض الخرافات المنتشرة بين الناس مما يتشاءمون به في حدوث قطيعة أو فساد أو طلاق.
سئل علماء اللجنة الدائمة:
قد حصل مني عند عقد الزواج فرقعة إصبع، وأنا جاهل في أن فرقعة الأصابع وتشبيك الأصابع يضعن تعقيداً للزواج، وبعد أن علمتُ خجلتُ أن أسأل، وأنا لي ثلاثة أطفال، ومدة زواجي سبع سنوات، فماذا أفعل؟ هل أعقد عقداً جديداً أو ماذا أفعل؟ .
فأجابوا:
إذا كان الواقع كما ذكرتَ: فلا تأثير لما ذكرتَ من تشبيك الأصابع، وفرقعتها حين إجراء عقد النكاح، فلا أثر لذلك على العقد، بل هو صحيح، ولا تحتاج إلى إعادته، واترك التشاؤم مما ذكرتَ ومن غيره؛ لأنه مناف للإسلام.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (18 / 114) .
وكل ما جاء في السؤال فهو من الباب نفسه الذي أدخل الشيطان منه كثيراً من الناس، فجعلهم يتشاءمون من أشياء لا تأثير لها على واقعهم، فلا يزال المسلمون يسبحون ويرشون بعضهم بعضاً بالماء، ويلعب الأطفال في برك السباحة، ولا يُعلم تأثير ذلك عليهم سلباً، ومثله يقال في خرافة فتح وإغلاق المقص، والعبور فوق الطفل، وقص الأظافر ليلاً، وكنس البيت بالليل، والامتناع عن الغسيل يوم الاثنين، وغير ذلك مما لا حصر له من خرافاتهم وأوهامهم التي تخوفهم مما لا يُخاف منه، وتُبعدهم عن العمل والتفاؤل، وتنقض توكلهم على ربهم تعالى.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
التطير هو التشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفره، وامتنع بها مما عزم عليه: فقد قرع باب الشرك، بل ولجه، وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف، والتعلق بغير الله، والتطير مما يراه، أو يسمعه، وذلك قاطع له عن مقام (إياك نعبد وإياك نستعين) و (فاعبده وتوكل عليه) و (عليه توكلت وإليه أنيب) ، فيصير قلبه متعلقا بغير الله، عبادة، وتوكلا، فيفسد عليه قلبه، وإيمانه، وحاله، ويبقى هدفاً لسهام الطيرة، ويساق إليه من كل أوب، ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه، ودنياه، وكم هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة، فأين هذا من الفأل الصالح، السار للقلوب، المؤيد للآمال، الفاتح باب الرجاء، المسكن للخوف، الرابط للجأش، الباعث على الاستعانة بالله، والتوكل عليه، والاستبشار، المقوي لأمله، السار لنفسه؟ ، فهذا ضد الطيرة، فالفأل: يفضي بصاحبه إلى الطاعة، والتوحيد، والطيرة تفضي بصاحبها إلى المعصية، والشرك، فلهذا استحب صلى الله عليه وسلم الفأل، وأبطل الطيرة.
" مفتاح دار السعادة " (2 / 246، 247) .
ثانياً:
ولعلاج هذا التشاؤم الذي يوسوس به الشيطان ويزينه لأصحابه:
1. التوكل على الله حق التوكل.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) وما مِنَّا إلا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ.
رواه الترمذي (1614) وأبو داود (3910) وابن ماجه (3538) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
قال ابن عبد البر - رحمه الله -:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى عن التطير) ، وقال (لا طِيَرة) ؛ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يتطيرون، فنهاهم عن ذلك، وأمرهم بالتوكل على الله؛ لأنه لا شيء في حكمه إلا ما شاء، ولا يعلم الغيب غيره.
" التمهيد " (24 / 195) .
2. أن يمضي في حاجته، ولا يتأخر، ولا يرجع.
3. أن يدعو الله تعالى بأن يخلِّصه من كيد الشيطان بها، ويسأله تعالى الخير، ويستعيذ به من الشر.
عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَن رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ من حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ) قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ما كَفَّارَةُ ذلك؟ قال (أن يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللهم لاَ خَيْرَ إلا خَيْرُكَ وَلاَ طَيْرَ إلا طَيْرُكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ) .
رواه أحمد (7045) وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (3 / 53 تحت الحديث 1056) .
قال المنَّاوي – رحمه الله -:
فينبغي لمن طرقته الطيرة أن يسأل الله تعالى الخير، ويستعيذ به من الشر، ويمضي في حاجته متوكلا عليه.
" فيض القدير " (6 / 136) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
وقوله: (فلا خير إلا خيرك) : هذا الحصر حقيقي، فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم، أو بغيره.
وقوله: (لا طير إلا طيرك) : أي: الطيور كلها ملكك؛ فهي لا تفعل شيئاً، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) الملك/19، وقال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) النحل/79، فالمهم: أن الطير مسخرة بإذن الله؛ فالله تعالى هو الذي يدبرها، ويصرفها، ويسخرها، تذهب يميناً وشمالاً، ولا علاقة لها بالحوادث.
ويحتمل أن المراد بالطير هنا: ما يتشاءم به الإنسان، فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة: فإنه مِن الله، كما أن الخير من الله؛ كما قال تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله) الأعراف/131.
لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول، لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير، إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة، التي تجعله خيراً.
فيكون قوله: (لا طير إلا طيرك) مقابلا لقوله: (ولا خير إلا خيرك) .
" القول المفيد شرح كتاب التوحيد " (2 / 117، 118) ، و " مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (9 / 578) .
قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله -:
فالحاصل؛ أن الطيرة تعالج بهذه الأمور الثلاثة:
أولا: التوكل على الله.
ثانيا: المضي وعدم التأثر بها، ولا تظهر على تصرفاتك، وما كأنها وجدت.
والثالثة: أن تدعو بهذه الدعوات الواردة في الأحاديث، فإذا دعوت الله بهذه الدعوات: فإن الله يعافيك من الطيرة، ويمدك بإعانته، ونصره، وتوفيقه.
" إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد " (2 / 14) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
اإسلام سؤال وجواب
(1/475)
إذا كانت الأمور مقدرة فكيف يحاسب العبد عليها
[السُّؤَالُ]
ـ[هل اكتساب المعصية، أو الإقدام عليها، أمر مكتوب ومقدر عند الله؟ إذا كانت الإجابة نعم؛ فلماذا يقدر الخالق على بشر اكتساب الذنب، وآخرون يكتسبون الأجر وجميعنا بشر من نفس الجنس؟ ولكم جزيل الشكر والتقدير]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
يجب على العبد أن يؤمن بأمرين:
الأول: أن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بإرادته ومشيئته، وأنه علم ما سيكون، وكتب ذلك كله في كتاب، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه سبحانه وتعالى عدل لا يظلم أحدا مثقال ذرة، لأنه غني عن خلقه، لا يحتاج إليهم، وهو المتفضل عليهم في جميع الأحوال، فكيف يظلمهم!
وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49، وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد/22، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) رواه مسلم (2653) .
والأمر الثاني: أن العبد له مشيئة واختيار، بها يفعل ويترك، ويؤمن ويكفر، ويطيع ويفجر، وعليها يحاسب ويجازى، مع أن الله سبحانه يعلم ما يكون عليه، وما سيختاره، وكيف سيكون مصيره، لكن الله لم يجبره على فعل الشر، ولا اختيار الكفر، بل وضح له الطريق، وأرسل له الرسل وأنزل له الكتب، ودله على الصواب، فمن ضل فإنما يضل على نفسه، ومن هلك فإنما يهلك عليها.
قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف/29، وقال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان/3، وقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة/7، 8، وقال: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الأعراف/43، وقال: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) السجدة/14. فبين سبحانه أن الإنسان يؤمن ويعمل والصالحات، باختياره ومشيئته، فيدخل الجنة، أو يكفر ويعمل السيئات باختياره ومشيئته، فيدخل النار.
وكل إنسان يعلم من نفسه ومن النظر إلى من حوله، أن أعمالنا - من خير وشر، وطاعة ومعصية – نفعلها باختيارنا، ولا نشعر بسلطة تجبرنا على فعلها، فأنت تستطيع أن تسب وتشتم وتكذب وتغتاب، كما تستطيع أن تحمد وتسبح وتستغفر وتصدق وتنصح، وتستطيع أن تمشي إلى أماكن اللهو والباطل والمنكر، كما تستطيع أن تمشي إلى المساجد وأماكن الخير والطاعة، وهكذا يستطيع الإنسان أن يضرب بيده، ويسرق ويزوّر ويخون، ويستطيع أن يساعد المحتاج، ويبذل الخير، ويقدم المعروف بيده. وكل إنسان يؤدي شيئا من هذه الأعمال، لا يشعر بالجبر ولا بالقهر، بل يفعلها باختياره وإرادته، ومن ثم فإنه سيحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وما كتبه الله تعالى وقدره، أمر لا يعلم به العبد، ولا يصح له أن يعتمد عليه، أو يحتج به، كما لا يصح أن يعترض على ربه، لم جعلت هذا في الأشقياء، وذاك في السعداء، فإن الله لم يظلم هذا الشقي، بل أعطاه المهلة والقدرة والاختيار، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب، وذكّره وأنذره بأنواع من المذكّرات، كالمصائب والابتلاءات، ليتوب إليه، ويقبل عليه، فإذا اختار طريق الغواية، وسلك سبيل المجرمين، فلن يضر إلا نفسه، وهو من أهلك نفسه، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس/9، 10
وقال: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) آل عمران/117
وقال: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) التوبة/70
والحاصل أن الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق، الذي قدر الأشياء وكتبها، وميز السعداء من الأشقياء، لا يعني أن الله جبر عباده على الطاعة أو المعصية، بل أعطاهم القدرة والإرادة والاختيار، فبها يفعلون، وعليها يحاسبون، وما ربك بظلام للعبيد.
وانظر إجابة السؤال رقم (96989) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/476)
معنى حديث " فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار "
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد شرح هذا الحديث: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفه ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغه مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وٍأجله وعمله وشقي أم سعيد فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري بصراحة أجد نوعا من التحبيط أني قد أعمل بعمل أهل الجنة ومكتوب أني من أهل النار، وأرجو من فضيلتكم الإجابة مأجورين ومشكورين على جهودكم، والله يجعلها في ميزان حسناتكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
قال ابن القيم رحمه الله: " الجهال بالله وأسمائه وصفاته، المعطلون لحقائقها، يُبَغِّضون اللهَ إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون!!
ونحن نذكر من ذلك أمثلة يُحتذى عليها: فمنها أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة، وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره؛ بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار، ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر، ويروون في ذلك آثار صحيحة لم يفهموها، وباطلة لم يقلها المعصوم، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد.. " انتهى، الفوائد (159) .
ثم قال رحمه الله: " ... فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة؛ فلا بفعل الخير يستأنس، ولا بفعل الشر يستوحش، وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟!! ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.
وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر، ويرد على أهل البدع، وينصر الدين، ولعمر الله: العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل، وكتب الله المنزلة كلها ورسله كلهم شاهدة بضد ذلك، ولا سيما القرآن؛ فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه لصلح العالم صلاحا لا فساد معه.
فالله سبحانه أخبر، وهو الصادق الوفي، أنه إنما يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحِسن لديه ظلما ولا هضما، ولا يخاف بخسا ولا رهقا، ولا يضيع عمل محسن أبدا، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة، ولا يظلمها: (وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) ، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها، ولا يضيعها عليه، وأنه يجزي بالسيئة مثلها، ويحبطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة!!
وهو الذي أصلح الفاسدين، وأقبل بقلوب المعرضين، وتاب على المذنبين، وهدى الضالين، وأنقذ الهالكين، وعلَّم الجاهلين، وبصَّر المتحيرين، وذكَّر الغافلين، وآوى الشاردين، وإذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إلى إليه ... ) . انتهى
الفوائد (161) .
وهذا الحديث العظيم رواه البخاري (3208) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد أشكل على بعض الناس قوله صلى لله عليه وسلم فيه: (فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) .
وهو مثال لما أشار إليه ابن القيم رحمه الله من الآثار الصحيحة التي لم يفهموها.
والجواب عن ذلك أن هذا في حق من لا يعمل إخلاصا وإيمانا، بل يعمل بعمل أهل الجنة
(فيما يبدو للناس) فقط، كما جاء موضحا في الحديث الآخر الذي رواه البخاري (4207) ومسلم (112) عَنْ سَهْلٍ قَالَ الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَجَاءَ الرَّجلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) .
وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة، إخلاصا وإيمانا، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره.
بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت، كما قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم/27، وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يوسيف/90، وقال: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران/171
قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163: " وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه. وقوله: (لم يبق بينه وبينها إلا ذراع) يشكل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه ... والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض " انتهى.
وقال ابن رجب رحمه الله:
" وقوله: (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.
وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة.
قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلا عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك!!
قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر!!
وكان عبد العزيز يقول اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
وفي الجملة: فالخواتيم ميراث السوابق؛ وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق.
وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟!!
وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟!! ...
وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر!!
ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه؛ فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر؛ كما تقدم أن دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة " انتهى.
جامع العلوم والحكم (1/57-58) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إن حديث ابن مسعود: (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) أي: بين الجنة، ليس المراد أن عمله أوصله إلى هذا المكان حتى لم يبق إلا ذراع، لأنه لو كان عمله عمل أهل الجنة حقيقة من أول الأمر ما خذله الله عز وجل؛ لأن الله أكرم من عبده، عبد مقبل على الله، ما بقي عليه والجنة إلا ذراع، يصده الله؟! هذا مستحيل، لكن المعنى: يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق على أجله إلا القليل زاغ قلبه والعياذ بالله -نسأل الله العافية- هذا معنى حديث ابن مسعود. إذاً: لم يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع بالنسبة لأجله، وإلا فهو من الأصل ما عمل عمل أهل الجنة -نعوذ بالله من ذلك، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا- عامل وفي قلبه سريرة خبيثة أودت به إلى أنه لم يبق إلا ذراع ويموت " انتهى من "اللقاء الشهري" (13/14) .
وأشار بعض أهل العلم إلى أن المذكور في الحديث قد يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة، حتى إذا اقترب أجله ساءت خاتمته، فمات على كفر أو معصية، لكن هذا نادر، وهو راجع أيضا إلى خبيئة وبلية يقيم عليها هذا الشخص، من اعتقاد فاسد أو كبيرة موبقة، أوجبت سوء خاتمته، نسأل الله العافية. فيكون الحديث فيه تحذير من الاغترار بالأعمال، وتوجيه إلى سؤال الله الثبات حتى الممات، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم": " الْمُرَاد بِالذِّرَاعِ التَّمْثِيل لِلْقُرْبِ مِنْ مَوْته وَدُخُوله عَقِبه , وَأَنَّ تِلْكَ الدَّار مَا بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن أَنْ يَصِلهَا إِلَّا كَمَنْ بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن مَوْضِع مِنْ الْأَرْض ذِرَاع , وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع فِي نَادِر مِنْ النَّاس , لَا أَنَّهُ غَالِب فِيهِمْ , ثُمَّ أَنَّهُ مِنْ لُطْ اللَّه تَعَالَى وَسَعَة رَحْمَته اِنْقِلَاب النَّاس مِنْ الشَّرّ إِلَى الْخَيْر فِي كَثْرَة , وَأَمَّا اِنْقِلَابهمْ مِنْ الْخَيْر إِلَى الشَّرّ فَفِي غَايَة النُّدُور , وَنِهَايَة الْقِلَّة , وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَغَلَبَتْ غَضَبِي} وَيَدْخُل فِي هَذَا مَنْ اِنْقَلَبَ إِلَى عَمَل النَّار بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَة , لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّخْلِيد وَعَدَمه ; فَالْكَافِر يُخَلَّد فِي النَّار , وَالْعَاصِي الَّذِي مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُخَلَّد فِيهَا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره. وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِإِثْبَاتِ الْقَدَر , وَأَنَّ التَّوْبَة تَهْدِم الذُّنُوب قَبْلهَا , وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْء حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ , إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب الْمَعَاصِي غَيْر الْكُفْر فِي الْمَشِيئَة. وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى.
على أن الذي ينبغي أن ننتبه إليه في هذا السياق، أن في نفس الحديث الذي أشكل عليك حل هذا الإشكال؛ وذلك أنه لم يتضمن مجرد إثبات القدر، وعلم الله تعالى السابق في خلقه، وكتابته لأعمالهم، وإنما تضمن، هو وأمثاله من النصوص، إلى جانب ذلك كله، إثبات أمره ونهيه، وأن الله تعالى لا يعذب عباده، ولا ينعمهم، على مجرد علمه فيهم، بل على ما عملت أيديهم، وكسبت نفوسهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ فِيهِ فَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَدَرُ السَّابِقُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ; بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ: كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ ; بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ...
[والفصل الثاني] : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَدْ جَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا تَكُونُ بِهَا؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فَيُحْبِلَهَا؛ فَلَوْ قَالَ هَذَا: إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُولَدُ لِي فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ كَانَ أَحْمَقَ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يُنْبِتُ لَهُ الزَّرْعَ بِمَا يَسْقِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَيَبْذُرُهُ مِنْ الْحَبِّ؛ فَلَوْ قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَذْرِ كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِذَلِكَ ...
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ، قُلْنَا: ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَشْقِيَاءِ؛ فَاَللَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْقَى بِهَذَا الْعَمَلِ، فَلَوْ قِيلَ: هُوَ شَقِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ بَاطِلًا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} ؛ فَأَقْسَمَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنْ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ، وَمَنْ اتَّبَعَ إبْلِيسَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا يُعَاقِبُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ حَتَّى يَعْمَلَهُ ...
وَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَمَنْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ يَسَّرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ؛ فَمَنْ قَالَ: أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَوَاءٌ كُنْت مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، إذَا عَلِمَ أَنِّي مِنْ أَهْلِهَا كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا بِالْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بَلْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، بَلْ كَافِرًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَلِهَذَا أَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ. وَمَنْ قَالَ: أَنَا لَا أَدْعُو وَلَا أَسْأَلُ اتِّكَالًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مُخْطِئًا أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَهُدَاهُ وَنَصْرَهُ وَرِزْقَهُ. وَإِذَا قَدَّرَ لِلْعَبْدِ خَيْرًا يَنَالُهُ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ الدُّعَاءِ، وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَعَوَاقِبِهِمْ فَإِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ؛ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَبِ، وَاَللَّهُ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ...
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَلَّ طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ: " فَرِيقٌ " آمَنُوا بِالْقَدَرِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكْفُرُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ!!
وَفَرِيقٌ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ الْجَزَاءَ مِنْ اللَّهِ كَمَا يَطْلُبُهُ الْأَجِيرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مُتَّكِلِينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَكَمَا يَطْلُبُهُ الْمَمَالِيكُ، وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً إلَيْهِ، وَلَا نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا بِهِ؛ وَلَكِنْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: {يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي} ...
فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ طَلَبَ الْقِيَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعْرِضًا عَنْ الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ ; بَلْ الْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؛ فَنَعْبُدُهُ اتِّبَاعًا لِلْأَمْرِ وَنَسْتَعِينُهُ إيمَانًا بِالْقَدَرِ ... " انتهى.
مقتطفات من مجموع الفتاوى (8/66) وما بعدها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
(1/477)